المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه المستهدين به على المنهاج، المتلقين أنواع - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ٧

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه المستهدين به على المنهاج، المتلقين أنواع

‌الباب السابع

‌ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه المستهدين به على المنهاج، المتلقّين أنواع

العلوم منه والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهاج

اعلم أن تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى كثيرون، إلاّ أنه لم يرزق السعادة في كثير منهم، بل بارزوه بالعداوة واجتهدوا في إيصال المكروه إليه.

1 -

فمن أشهرهم الوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك (1) ، وارث مرتبته من بعده، ومقتعد أريكة سعده، وقد ألمع به في الإحاطة وكان إذ ذاك من جملة أتباعه، إذ قال ما محصله: محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد بن يوسف الصريحي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك.

أصله من شرقي الأندلس، وسكن سلفه ربض (2) البيازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره.

حاله - هذا الفاضل صدر من صدور طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، مختصر مقبول هش خلوب، عذب الفكاهة حلو المجالسة، حسن التوقيع خفيف الروح

(1) ترجمة ابن زمرك في الإحاطة 2: 221 - 240 والكتيبة: 282 ونيل الابتهاج: 282 ونثير فرائد الجمان: 327 والتعريف: 274 وجذوة الاقتباس: 184 والدرر الكامنة 4: 412 وأزهار الرياض 2: 7 - 206، وقد نقل بعض ما أورده ابن الخطيب في الإحاطة، وما جاء عنه في كتاب مستقل لابن الأحمر، وسيكرر في ترجمته هنا، ولهذا أجريت المقارنة بين ما ورد في النفح والأزهار دون أن أشير إلى كل موضع على حدة.

(2)

ق: روض.

ص: 145

عظيم الانطباع شره المذاكرة، فطن بالمعاريض حاضر الجواب، شعلة من شعل الذكاء تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة فكه غزل مع حياء وحشمة، جواد بما في يده مشارك لإخوانه، نشأ عفّاً طاهراً، كلفاً بالقراءة عظيم الدّؤوب، ثاقب الذهن، أصيل الحفظ ظاهر النّبل، بعيد مدى الإدراك جيد الفهم، فاشتهر فضله وذاع أرجه وفشا خبره، واضطلع بكثير من الأغراض وشارك في كثير من الفنون، وأصبح متلقف كرة البحث وصارخ الحلقة [وسابق الحلبة] ومظنة الكمال، ثم ترقى في درج المعرفة والاضطلاع وخاض لجة الحفظ، وركض قلم التقييد والتسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس متكلماً فوق الكرسي المنصوب، وفوق (1) المحفل المجموع، مستظهراً بالفنون التي بعد فيها شأوه من العربية والبيان [واللغة] وما يقذف به في لج النقل من الأخبار والتفسير، متشوفاً مع ذلك إلى السلوك مصاحباً للصوفية آخذاً نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب فكان أملك به، وأعمل الرحلة في طلب العلم والازدياد، فترقى إلى الكتابة عن ولد السلطان أمير المسلمين بالمغرب أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في بابه بالإجادة.

ولمّا جرت الحادثة على السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقر بالمغرب، أنس له وانقطع إليه، وكر في صحبة ركابه إلى استرجاع حقه، فلطف منه محله وخصه بكتابة سره، وثابت الحال ودالت الدولة وكانت له الطائلة، فأقره على رسمه معروف الانقطاع والصاغية كثير الدالّة، مضطلعاً بالخطة خطّاً وإنشاء ولسناً ونقداً، فحسن منابه واشتهر فضله وظهرت مشاركته وحسنت وساطته، ووسع الناس تخلقه، وأرضى للسلطان حمله، وامتد في ميدان النظم والنثر باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمداحه قصائد بعيدة الشأو في مدى الإجادة، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد، أعانه الله تعالى وسدده.

(1) الإحاطة: وبين.

ص: 146

شيوخه - قرأ العربية على الأستاذ رحلة المغرب في فنها أبي عبد الله ابن الفخار، ثمّ على القاضي الشريف إمام الفنون اللسانية أبي القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد ابن لب، واختص بالفقيه الخطيب الصدر المحدث أبي عبد الله ابن مرزوق فأخذ عنه كثيراً من الرواية، ولقي القاضي الحافظ (1) أبا عبد الله المقّري عندما قدم على الأندلس وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزواوي، ويروي عن جملة منهم القاضي أبو البركات ابن الحاج، والمحدث أبو الحسين ابن التلمساني، والخطيب أبو عبد الله ابن اللوشي، والمقرىء أبو عبد الله ابن بيبش، وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس على الشريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلّوني (2) التلمساني، واختص به اختصاصاً لم يخل فيه من استفادة مران وحنكة في الصنعة.

شعره - وشعره مترام إلى هدف الإجادة، خفاجي النزعة، كلف بالمعاني البديعة والألفاظ الصقيلة، غزير المادة، فمن ذلك ما خاطبني به، وهو من أول ما نظمه قصيدة مطلعها:

أما وانصداع النور من مطلع الفجر

وهي طويلة.

ومن بدائعه التي عقم عن مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزهد بأويس (3) ، ولم يحل مجاريه ومباريه إلاّ بويح وويس، قوله في إعذار الأمير ولد سلطانه المنوه بمكانه، وهي من الكلام الذي عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بين مديحه ونسيبه:

(1) ق: الحافظ القاضي.

(2)

سقطت هذه اللفظة من الإحاطة.

(3)

هو أويس القرني من أوائل الزهاد في العصر الأموي.

ص: 147

معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا

وأن يشغل اللوّام بالعذل باليا

دعاني أعط الحبّ فضل مقادتي

ويقضي عليّ الوجد ما كان قاضيا

ودون الذي رام العواذل صبوة

رمت بي في شعب الغرام المراميا

وقلب إذا ما البرق أومض موهناً

قدحت به زنداً من الشوق واريا

خليليّ إني يوم طارقة النّوى

شقيت بمن لو شاء أنعم باليا

والخيف يوم النفر يا أمّ مالك

تخلّفت قلبي في حبالك عانيا

وذي أشرٍ عذب الثنايا مخصّرٍ

يسقّي به ماء النّعيم الأقاحيا

أحوم عليه ما دجا الليل ساهراً

وأصبح دون (1) الورد ظمآن صاديا

يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي

إذا البارق النجديّ وهناً بدا ليا

أجيرتنا بالرمل والرمل منزل

مضى العيش فيه بالشبيبة حاليا

ولم أر ربعاً منه أقضى لبانة

وأشجى حمامات، وأحلى مجانيا

سقت ظلّه الغرّ الغوادي ونظّمت

من القطر في جيد الغصون لآليا

أبثّكم أني على النأي حافظ

ذمام الهوى لو تحفظون ذماميا

أناشدكم والحر أوفى بعهده

ولن يعدم الأحسان والخير جازيا

هل الود إلاّ ما تحاماه كاشحٌ

وأخفق في مسعاه من جاء واشيا

تأوّبني واللّيل يذكي عيونه

ويسحب من ذيل الدّجنّة ضافيا

وقد مثلت زهر النجوم بأفقه

حباباً على نهر المجرّة طافيا

خيال على بعد المزار ألمّ بي

فأذكرني من لم أكن عنه ساليا

عجبت له كيف اهتدى نحو مضجعي

ولم يبق مني السقم والشّوق باقيا

رفعت له نار الصبابة فاهتدى

وخاض لها عرض الدّجنّة ساريا

وممّا أجدّ الوجد سربٌ على النّقا

سوانح يصقلن الطّلى والتراقيا

(1) ق: يوم.

ص: 148

نزعن عن الألحاظ كلّ مسدّد

فغادرن أفلاذ القلوب دواميا

ولما تراءى السّرب قلت لصاحبي

وأيقنت أنّ الحبّ ما عشت دانيا

حذارك من سقم الجفون فإنّه

سيعدي بما يعيي الطلبيب المداويا

وإنّ أمير المسلمين محمداً

ليعدي نداه الساريات الهواميا

تضيء النجوم الزاهرات خلاله

وينفث في روع الزمان المعاليا

معال إذا ما النّجم صوّب طالباً

مبالغها في العزّ حلّق وانيا

يسابق علويّ الرياح إلى النّدى

ويفضح جدوى راحتيه الغواديا

ويغضي عن العوراء إغضاء قادر

ويرجح في الحلم الجبال الرواسيا

همام يروع الأسد في حومة الوغى

كما راعت الأسد الظباء الجوازيا

إذا استبق الأملاك يوماً لغاية

أبيت وذاك المجد إلا التناهيا

بهرت فأخفيت الملوك وذكرها

ولا عجب فالشمس تخفي الدراريا

جلوت ظلام الظلم من كلّ معتدٍ

ولا غرو أن تجلو البدور الدياجيا

هديت سبيل الله من ضلّ رشده

فلا زلت مهدياً إليه وهاديا

أفدت وحيّ الملك ممّا أفدته

وطوّقت أشراف الملوك الأياديا

وكان أبو زيّان جيداً معطّلاً

فزينته حتى اغتدى بك حاليا

لك الخير لم تقصد بما قد أفدته

جزاء ولكن همّة هي ما هيا

فما تكبر الأملاك غيرك آمراً

ولا ترهب الأشراف غيرك ناهيا

ولا تشتكي الأيام من داء فتنة

فقد عرفت منك الطبيب المداويا

وأندلساً أوليت ما أنت أهله

أوردتها ورداً من الأمن صافيا

تلافيت هذا الثغر وهو على شفاً

وأصبحت من داء الحوادث شافيا

ومن بعد ما ساءت ظنون بأهلها

وحاموا على ورد الأماني صواديا

ص: 149

فما يأملون العيش إلاّ تعلّلاً

ولا يعرفون الأمن إلاّ أمانيا

عطفت على الأيام عطفة راحمٍ

وألبستها ثوب امتنانك ضافيا

فآنس من تلقائك الملك رشده

ونال بك الإسلام ما كان راجيا

فرأيٌ كما اشنقّ الصباح، وعزمة

كما صقل القين الحسام اليماناي

وكانت رماح الخطّ خمصاً ذوابلاً

فأنهلت منها في الدماء صواديا

وأوردت صفح السيف أبيض ناصعاً

فأصدرته في الروع أحمر قانيا

لك العزم تستجلي الخطوب بهديه

ويلفى إذا تنبو الصوارم ماضيا

إذا أنت لم تفخر بما أنت أهله

فما الصبح وضّاح المشارق عاليا

ويهنيك دون العيد عيد شرعته

نبث به في الخافقين التهانيا

أقمت به من فطرة الدين سنّة

وجددت من رسم الهداية عافيا

صنيع تولّى الله تشييد فخره

وكان لما أوليت فيه مجازيا

تودّ النجوم الزهر لو مثلت به

وقضّت من الزلفى إليك الأمانيا

ومازال وجه اليوم بالشمس مشرقاً

سروراً به والليل بالشهب حاليا

على مثله فليعقد الفخر تاجه

ويسمو به فوق النجوم مراقيا

به تغمر الأنواء كلّ مفوّه

ويحدو به من كان بالقفر ساريا

ويوسف فيه بالجمال مقنّع

كأنّ له من كل قلب مناجيا

وأقبل ما شاب الحياء مهابةً

يقلّب وجه البدر أزهر باهيا

وأقدم لا هيّابة الحفل واجماً

ولا قاصراً فيه الخطا متوانيا

شمائل فيه من أبيه وجدّه

ترى العزّ فيها مستكنّاً وباديا

فيا علقاً أشجى القلوب لو أنّنا

فديناك بالأعلاق ما كنت غاليا

جريت فأجريت الدموع تعطّفاً

وأطلعت فيها للسرور نواشيا

وكم من وليٍّ دون بابك مخلصٍ

يفدّيه بالنّفس النفيسة واقيا

ص: 150

وصيدٍ من الحيّين أبناء قيلةٍ

تكفّ الأعادي أو تبيد الأعاديا

بها ليلُ غرٌّ إن أعدّوا لغارة

أعادوا صباح الحيّ أظلم داجيا

فوالله لولا أن توخيت سنّةً

رضيت بها أن كان ربّك راضيا

لكان بها للأعوجيّات جولة

تشيب من الغلب الشباب النواصيا

وتترك أوصال الوشيج مقصدّاً

وبيض الظّبي حمر المنون دواميا

ولمّا قضى من سنّة الله ما قضى

وقد حسدت منه النجوم المساعيا

أفضنا نهنّي منك أكرم منعم

أبى لعميم الجود إلاّ تواليا

فيهني صفاح الهند والبأس والندى

وسمر العوالي والعتاق المذاكيا

ويهني البنود الخافقات فإنّها

سيعقدها في ذمّة النصر غازيا

كأنّي به يشقي الصوارم والظّبي

ويحطم في اللأم الصلاب العواليا

كأني به قد توّج الملك يافعاً

وجمّع أشتات المكارم ناشيا

وقضّى حقوق الفخر في ميعة الصِّبا

وأحسن من دين الكمال التقاضيا

وما هو إلآّ السعد إن رمت مطلعاً

وسدّدت سهماً كان ربّك راميا

فلا زلت يا فخر الخلافة كافلاً

ولا زلت يا خير الأئمّة كافيا

ودمت قرير العين منه بغبطة

وكان له رب البريّة واقيا

نظمت له حرّ الكلام تمائماً

جعلت مكان الدرّ فيها القوافيا

لآلٍ بها تبأى (1) الملوك نفاسةً

وجلّت لعمري أن تكون لآليا

أرى المال يرميه الجديدان بالبلى

وما إن أرى إلاّ المحامد باقيا وورد على السلطان أبي سالم ملك المغرب رحمة الله تعالى عليه وفد الأحابيش بهدية من ملك السودان، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمّى بالزرافة، فأمر من يعاني الشعر من الكتّاب بالنظم في ذلك الغرض، فقال وهي من بدائعه:

(1) ق: تبدي.

ص: 151

لولا تألق بارق التذكار

ما صاب واكف دمعي المدرار

لكنّه مهما تعرّض خافقاً

قدحت يد الأشواق زند أواري

وعلى المشوق إذا تذكّر معهداً

أن يغري الجفان باستعبار

أمذكّري غرناطةً حلّت بها

أيدي السحاب أزرّة النوّار

كيف التخلّص للحديث وبيننا (1)

عرض الفلاة وطافح الزّخّار

هذا على أنّ التغرّب مركبي

وتولّج الفيح الفساح (2) شعاري

فلكم أقمت غداة زمّت عيسهم

أبغي القرار ولات حين قرار

وطفقت أستقري المنازل بعدهم

يمحو البكاء مواقع الآثار

إنّا بني الآمال تخدعنا المنى

فنخادع الآمال بالتسيار

نتجشم الأهوال في طلب العلا

ونروع سرب النوم بالأفكار

لا يحرز المجد الخطير سوى امرىءٍ

يمطي (3) العزائم صهوة الأخطار

إمّا يفاخر بالعتاد ففخره

بالمشرفيّة والقنا الخطّار

مستبصر مرمى العواقب واصل

في حمله (4) الإيراد بالإصدار

فأشدّ ما قاد الجهول إلى الردى

عمه البصائر لا عمى الأبصار

ولربّ مربدّ الجوانح مزبد

سبح الهلال بلجّه الزخّار

فتقت كمائم جنحه عن أنجمٍ

سفرت زواهرهنّ عن أزهار

مثلت على شاطي المجرّة نرجساً

تصطف منه على خليج جاري

وكأنّما بدر التمام بجنحه

وجه الإمام بجحفلٍ جرّار

وكأنّما خمس الثريّا راحة

ذرعت مسير الليل بالأشبار

أسرجت من عزمي مصابيحاً بها

تهدي السراة لها من الأقطار

(1) ق: ودوننا.

(2)

ق: انفساح.

(3)

ق والإحاطة: يعطي، والصواب ما في الأزهار.

(4)

ق: جملة.

ص: 152

وارتاع من بازي الصباح غرابه

لمّا أطلّ فطار كلّ مطار ومنها:

وغريبةٍ قطعت إليك على الونى

بيداً تبيد بها هموم الساري

تنسيه طيّته التي قد أمّها

والركب فيها ميّت الأخبار

يقتادها من كلّ مشتمل الدجى

وكأنّما عيناه جذوة نار

تشدو بحمد المستعين حداتها

يتعلّلون به على الأكوار

إن مسّهم لفح الهجير أبلّهم

منه نسيم ثنائك المعطار

خاضوا بها لجج الفلا فتخلّصت

منها خلوص البدر بعد سرار

سلمت بسعدك من غوائل مثلها

وكفى بسعدك حامياً لذمار

وأتتك يا ملك الزمان غريبة

قيد النواظر نزهة الأبصار

موشيّة الأعطاف رائقة الحلى

رقمت بدائعها يد الأقدار

راق العيون أديمها فكأنه

روض تفتّح عن شقيق بهار

ما بين مبيضٍّ وأصفر فاقعٍ

سال اللجين به خلال نضار

يحكي حدائق نرجس في شاهق

تنساب فيه أراقم الأنهار

تحدو (1) قوائم كالجذوع وفوقها

جبل أشم بنوره متوار

وسمت بجيدٍ مثل جذع مائل

سهل التعطف ليّن خوّار

تستشرف الجدران منه ترائباً

فكأنّما هو قائم بمنار

تاهت بكلكلها وأتلع جيدها

ومشى بها الإعجاب مشي وقار

خرجوا لها الجمّ الغفير، وكلهم

متعجب من لطف صنع الباري

كلٌّ يقول لصحبه قوموا انظروا

كيف الجبال تقاد بالأسيار

ألقت ببابك رحلها ولطالما

ألقى الغريب به عصا التسيار

علمت ملوك الأرض أنك فخرها

فتسابقت لرضاك في مضمار

(1) كذا في جميع الأصول، ولعلها " تجذو " يريد: تنصب.

ص: 153

يتبوأون به وإن بعد المدى

من جاهك الأعلى أعزّ جوار

فارفع لواء الفخر غير مدافعٍ

واسحب ذيول العسكر الجرّار

واهنأ بأعياد الفتوح مخوّلاً

ما شئت من نصر ومن أنصار

وإليكها من روض فكري نفحةً

شفّ الثناء بها على الأزهار

في فصل منطقها ورائق رسمها

مستمتع الأسماع والأبصار

وتميل من أصغى لها فكأنّني

عاطيته منها كؤوس عقار وأنشد السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه رحمه الله تعالى:

تأمّل أطلال الهوى فتألّما

وسيما الجوى والسقم منها تعلّما

أخو زفرة هاجت له نار ذكرة

فأنجد في شعب الغرام وأتهما وسرد لسان الدين هذه القصيدة بطولها، وهي تقارب التسعين بيتاً، ثم ق ما نصه: وأنشد السلطان في وجهه للصيد أعملها، وأطلق أعنّة الجياد في ميادين ذلك الطراد وأرسلها، قوله:

حيّاك يا دار الهوى من دار

نوء السّماك بديمةٍ مدرار

وأعاد وجه رباك طلقاً مشرقاً

متضاحكاً بمباسم النوّار

أمذكّري دار الصبابة والهوى

حيث الشباب يرفُّ غصن (1) نضار

عاطيتني عنها الحديث كأنّما

عاطيتني عنها كؤوس عقار

إيه وإن أذكيت نار صبابتي

وقدحت زند الشوق بالتذكار

يا زاجر الأظعان وهي مشوقة

أشبهتها في زفرة وأوار

حنّت إلى نجد وليست دارها

وصبت إلى هنديّه والغار

شاقت به برق الحمى واعتادها

طيف الكرى بمزارها المزوار (2)

(1) الأزهار: حسن.

(2)

كذا في الإحاطة؛ وفي الأزهار:

لكنها شامت بعد برق الحمى

واعتادها طيف الكرى بمزار

ص: 154

هل تبلغ الحاجات إن حمّلتها

إنّ الوفاء سجيّة الأحرار

عرّ بذكري في الخيام وقل

إذا جئت العقيق مبلّغ الأوطار

عار بقومك يا ابنة الحبين أن

تلوي الديون وأنت ذات يسار

أمنعت ميسور الكلام أخا الهوى

وبخلت حتى بالخيال الساري

وأبان جاري الدمع عذر هيامه

لكن أضعت له حقوق (1) الجار

هذا وقومك ما علمت خلالهم

أوفى الكرام بذمةٍ وجوار

الله في نفس شعاع كلّما

هبّ النسيم تطير كلّ مطار

بالله يا لمياء ما منع الصَّبا

أن لا تهبّ بعرفك المعطار

يا بنت من تشدو الحداة بذكره

متعلّلين به على الأكوار

ما ضرّ نسمة حاجرٍ لو أنها

أهدت لنا خبراً من الأخبار

هل بانُهُ من بعدنا متأوّد

متجاوبٌ مترنّمُ الأطيار

وهل الظباء الآنسات كعهدنا (2)

يصرعن أسد الغاب وهي ضوار

يفتكن من قاماتها ولحاظها

بالمشرفيّة والقنا الخطّار

أشعرت قلبي حبّهنّ صبابةً

فرمينني من لوعتي بجمار

وعلى الكثيب سوانح حمر الحلي

بيض الوجوه يصدن بالأفكار

أدنى الحجيج مزارهنّ ثلاثةً

بمنى لو أنّ منىً ديار (3) قرار

لكنّ يوم النّفر جدن لنا بما

عوّدننا من جفوةٍ ونفار

يا ابن الألى قد أحرزوا خصل (4) العلا

وسموا بطيب أرومةٍ ونجار

وتنوب عن صوب الغمام أكفهم

وتنوب أوجههم عن الأقمار

من آل سعد رافعي علم الهدى

والمصطفين لنصرة المختار

(1) الأزهار: أضعت حقوق ذاك.

(2)

الأزهار: كعهدها.

(3)

الإحاطة: بدار.

(4)

الأزهار: فضل.

ص: 155

أصبحت وارث مجدهم وفخارهم

ومشرّف الأعصار والأمصار

وجهٌ كما حسر الصباح نقابه

ويد تمدّ أناملاً ببحار

جدّدت دون الدين عزمة أروعٍ

جدّدت منها سنّة الأنصار

حطت البلاد ومن حوته ثغورها

وكفى بسعدك حامياً لذمار

لله رحلتك التي نلنا بها

أجر الجهاد ونزهة الأبصار

أوردتنا فيها لجودك مورداً

مستعذب الإيراد والإصدار

وأفضت فينا من نداك مواهباً

حسنت مواقعها على التكرار

أضحكت ثغر الثغر لمّا جئته

وخصصته بخصائص الإيثار

حتى الفلاة تقيم يوم وردتها

سنن القرى بثلاثة الأثوار (1)

وسرت عقاب الجوّ تهديك الذي

تصطاد من وحش ومن أطيار

والأرض تعلم أنك الغوث الذي

تضفي عليها واقي الأستار

همل المسارح لا يراع قيصه

إلاّ لنبأة فارس مغوار

سرحت عنان الريح فيه وربما

ألقت بساحته عصا التسيار

باكرته والأفق قد خلع الدجى

مسحاً ليلبس حلّة الإسفار

وجرى به نهر النهار كمثل ما

سكب النديم سلافةً من قار

عرضت به المستنفرات (2) كأنها

خيل عراب جلن في مضمار

أتبعتها غرر الجياد كواكباً

تنقض رجماً في سماء غبار

والهاديات يؤمّها عبل الشّوى (3)

متدفّق كتدفّق التيّار

(1) في الإحاطة والأزهار: بتلألؤ الأنوار؛ وأرى الأصل فيه ما أثبته لأنه يتحدث عن خروج السلطان للصيد، ورميه ثلاثة ثيران، فكأن فلاة الصيد راعت سنة القرى يتقديمها الثيران له.

(2)

المستنفرات: الحيوانات التي استنفرت لكي تعدو الجياد وراءها، ويحرز السلطان لذة مطاردتها وصيدها.

(3)

عبل الشوى: كناية عن الثور، والهاديات: المتقدمات سبقاً.

ص: 156

أزجيتها شقراء رائقة الحلى

فرميته منها بشعلة نار

أثبتّ فيه الرمح ثمّ تركته

خضب الجوانح بالدم الموّار

حامت عليه الذابلات كأنّها

طير أوت منه إلى أوكار

طفقت أرانبه غداة أثرتها

تبغي الفرار ولات حين فرار

هل ينفع الباع الطويل وقد غدت

يوم الطّراد قصيرة الأعمار

من كلّ منحفزٍ بلمحة بارق

فاتت خطاه مدارك الأبصار

وجوارحٍ سبقت إليه طلابها

فكأنّما طالبنه بالثّار

سود وبيض في الطّراد تتابعت

كالليل طارده بياض نهار

ترمي بها وهي الحنايا ضمّراً

مثل السهام نزعن عن أوتار

ظنّت بأن ينجو لها، كلاّ ولو

أغريته بأرانب الأقمار

وبكل فتخاء الجناح إذا ارتمت

فكأنها نجم السماء السّاري

زجل الجناح مصفق كمن الردى

في مخلبٍ منه وفي منقار

أجلى الطريد من الوحوش وإن رمى

طيراً أتاك به على مقدار

وأريتنا الكسب الذي أعداده

ملأت جمالاً أعين النّظّار

بيض وصفر خلت مطرح سرحها

روضاً تفتّح عن شقيق بهار

من كلّ موشيّ الأديم مفوّفٍ

رقمت بدائعه يد الأقدار

خلط البياض بصفرة في لونه

فترى اللّجين يشوب ذوب نضار

أو أشعلٍ راق العيون كأنّه

غلس يخالط سدفةً بنهار

سرحت بمخضرّ الجوانب يانعٍ

تنساب فيه أراقم الأنهار

قد أرضعته الساريات لبانها

وحللن فيه أزرّة النوّار

أخذت سعودك حذرها فلحكمةٍ

أغرت جفون المزن باستعبار

لما أرتك الشمس صفرة حاسدٍ

لجبينك المتألّق الأنوار

نفثت عليك السحب نفث معوّذ

من عينها المتوقّع الإضرار

فارفع لواء الفخر غير مدافع

واسحب ذيول العسكر الجرّار

ص: 157

واهنأ بمقدمك السعيد مخوّلاً

ما شئت من عزٍّ ومن أنصار

قد جئت دارك محسناً ومؤمّلاً

متّعت بالحسنى وعقبى الدار

وإليكها من روض فكري نفحةً

شفّ الثناء بها على الأزهار ومن شعره في غير المطولات قوله (1) :

لقد زادني وجداً وأغرى بي الجوى

ذبالٌ بأذيال الظلام قد التفتا

تشير وراء الليل منه بنانة

مخضّبة والليل قد حجب الكفّا

تلوح سناناً حين لا تنفح الصّبا

وتبدي (2) سواراً حين تثني له العطفاي

قطعت به ليلاً يطارحني الجوى

فآونةً يبدو وآونة يخفى

إذا قلت لا يبدو أشال لسانه

وإن قلت لا يخفى الضياء به كفّا

إلى أن أفاق الصبح من غمرة الدجى

وأهدى نسيم الروض من طيبه عرفا

لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي

وقد شفّها من لوعة الحبّ ما شفّا وممّا ثبت له صدر رسالة:

أزور بقلبي معهد الأنس والهوى

وأنهب من أيدي النسيم رسائلا

ومهما سألت البرق يهفو من الحمى

يبادره دمعي مجيباً وسائلا

فيا ليت شعري والأماني تعلّلٌ

أيرعى لي الحيّ الكرام الوسائلا

وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم

يوالون بالإحسان من جاء سائلا ومن أبياته الغراميات:

قيادي قد تملّكه الغرام

ووجدي لا يطاق ولا يرام

ودمعي دونه صوب الغوادي

وشجوي فوق ما يشكو الحمام

(1) يصف مصباحاً.

(2)

الأزهار: وتبدو.

ص: 158

إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي

على الدنيا وساكنها السلام وفي غرض يظهر من الأبيات:

ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف

قضى رجع طرفي من محاسنه الوطر

فأبصرت أشباه الرياض محاسناً

وفي خدّه جرح بدا منه لي أثر

فقلت لجلاّسي خذوا الحذر إنما

به وصبٌ من أسهم الغنج والحور

ويا وجنةً قد جاورت سيف لحظه

ومن شأنها تدمى من اللمح بالبصر

تخيّل للعينين جرحاً وإنما

بدا كلفٌ منه على صفحة القمر وممّا يرجع إلى باب الفخر، ولعمري لقد صدق:

ألائمةً في الجود والجود شيمة

جبلت على إيثارها يوم مولدي

ذريني فلو أنّي أُخلّد بالغنى

لكنتُ ضنيناً بالذي ملكت يدي وقال:

لقد علم الله أني امرؤ

أجرّر ذيل العفاف القشيب

فكم غمّض الدهر أجفانه

وفازت قداحي بوصل الحبيب

وقيل رقيبك في غفلةٍ

فقلت أخاف الإله الرقيب وفي مدح كتاب " الشفاء "[وقد] طلبه الفقيه أبو عبد الله ابن مرزوق عندما شرع في شرحه:

ومسرى ركاب للصّبا قد ونت به

نجائب سحب للتراب نزوعها

تسلُّ سيوف البرق أيدي حداتها

فتنهل خوفاً من سطاها دموعها

تعرّضن غرباً يبتغين معرّساً

فقلت لها: مرّاكشٌ وربوعها

لتسقي أجداثاً بها وضرائحاً

عياضٌ إلى يوم المعاد ضجيعها

ص: 159

وأجدر من تبكي عليه يراعةٌ

بصفحة طرس، والمداد نجيعها

فكم من يدٍ في الدين قد سلفت له

يرضّي رسول الله عنه صنيعها

ولا مثل تعريف الشفاء حقوقه

فقد بان فيه للعقول جميعها

بمرآة حسنٍ قد جلتها يدُ النّهى

فأوصافه يلتاح فيه بديعها

نجوم اهتداء، والمداد يجنّها

وأسرار غيبٍ، واليراع تذيعها

لقد حزت فضلاً يا أبا الفضل شاملاً

فيجزيك عن نصح البرايا شفيعها

ولله ممّن قد تصدّى لشرحه

فلبّاه من غرّ المعاني مطيعها

فكم مجملٍ فصّلتَ منه وحكمةٍ

إذا كتم الإدماج منه تشيعها

محاسن والإحسان يبدو خلالها

كما افترّ عن زهر البطاح ربيعها

إذا ما أجلت العين فيها تخالها

نجوماً بآفاق الطروس طلوعها

معانيه كالماء الزلال لذي صدىً

وألفاظه درٌّ يروّي نصيعها

رياضٌ سقاها الفكر صوب ذكائه

فأخصب للورّاد منها مريعها

تفجّر عن عين اليقين زلالها

فلذ لأرباب الخلوص شروعها

ألا يا ابن جار الله يا ابن وليّه

لأنت إذا عدّ الكرام رفيعها

إذا ما أصول المرء طابت أرومة

فلا عجب أن أشبهتها فروعها

بقيت لأعلام الزمان تنيلها

هدىً، ولأحداث الخطوب تروعها مولده رابع عشر شوال من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة؛ انتهى كلام لسان الدين في الإحاطة في تعليقات ابن لسان الدين على ترجمة ابن مزدك ترجمة تلميذه أبي عبد الله ابن زمرك.

قلت: ورأيت بخط أبي الحسن علي بن لسان الدين - رحمهما الله تعالى - على هامش هذه الترجمة من الإحاطة كلاماً في حق ابن زمرك رأيت أن أذكره بجملته الآن، وإن تقدم بعضه في هذا الكتاب:

فمن ذلك أنه كتب على حاشية أول الترجمة ما صورته: أتبعه الله تعالى خزياً، وعامله بما يستحقه، فبهذا ترجمه والدي مولاه الذي رفع من قدره فيه، ولم

ص: 160

يقتله أحد غيره، كفانا الله تعالى شر من أحسنّا إليه؛ انتهى.

وكتب على قوله نشأ عفّاً طاهراً - إلى آخره ما نصه: هذا الوغد ابن زمرك من شياطين الكتّاب، ابن حداد بالبيازين، قتل أباه بيده، أوجعه ضرباً فمات من ذلك، وهو أخس عباد الله تربية، وأحقرهم صورة وأخملهم شكلاً، استعمله أبي في الكتابة السلطانية، فجنينا أيام تحولنا عن الأندلس منه كل شر، وهو كان السبب في قتل أبي مصنف هذا الكتاب الذي رباه وأدبه واستخدمه، حسبما هو معروف، وكفانا الله تعالى شر من أحسنّا إليه وأساء إلينا؛ انتهى.

وكتل على قول والده فترقى إلى الكتابة - إلى آخره ما صورته: على يد سيدي أبي عبد الله ابن مرزوق، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله؛ انتهى.

وكتب على قول معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا - إلى آخره ما نصه: هذه القصيدة نظم له مولاي الوالد تغمّده الله تعالى برحمته منها النسيب كله، وهكذا جرت عادته معه في الأمداح السلطانية حضرة الملك (1) ، والله المطلع على ذلك، قاله ابن المصنف علي بن الخطيب؛ انتهى.

وكتب على قوله لولا تألّق بارق التذكار - إلى آخره ما صورته: هذا الرجس الشيطان كثيراً ما ينظم في هذا الوزن، ويتبع حمارة هذه الراء، حتى لا يتركها جملة، إذ الرجل ابن حمّار مكاري حداد، فالنفس تميل بالطبع؛ انتهى.

وكتب على قوله حيّاك يا دار الهوى من دار - إلى آخره ما صورته: انظر إلى كثرة تحريكه لحمارة هذه الراء، علقت له بها ما لخوليا؛ انتهى.

وكتب على قوله وجوارح سبقت إليه طلابها إلى آخره ما صورته: سرق طردية إبراهيم بن خفاجة، فانظرها تجده سرق المعاني والألفاظ، مع أن

(1) ق: حضرت لذلك، ولعلها:" حضرت ذلك ".

ص: 161

والدي نظم له أكثرها على حسب عادته معه، قاله علي بن الخطيب؛ انتهى.

وكتب على قوله يا مصباح ما نصه: كان يحب صبيّاً اسمه مصباح، وهو الآن مجنون العقل بتونس يحترف بالحياكة؛ انتهى.

وكتب على قوله ألائمتي في الجود - إلى آخره ما صورته: كذبت يا نجس، من أين الفخر لك أو لبيتك لست والله من الجود في شيء، نعم سخنة عين الجود؛ انتهى.

وكتب على قوله لقد علم الله أني امرؤ - إلى آخره ما معناه: لا والله، فأنت مشهور بكذا، يا قرد، فمن أين العفاف وأنت بالأندلس كذا وكذا إلى أن قال: وأنحسهم بيتاً؛ قاله مولاك الذي ربيت في نعمته ونعمة الله علي بن الخطيب بالقاهرة؛ انتهى.

وقد نسبه إلى ما لا يليق، فالله أعلم بحقيقة الأمر.

وكتب غيره على قول ابن زمرك أزور بقلبي - الأبيات المتقدمة عند قوله سائلاً في موضعين: هما من السؤال، فحصل على الإيطاء المذموم؛ انتهى.

قلت: أما ما ذكره ابن لسان الدين من أن أباه كان ينظم لابن زمرك فذلك والله أعلم كان في ابتداء أمره، وإلا فقد جاء ابن زمرك في آخر أيام لسان الدين وبعد موته بالبدائع التي لا تنكر، كما سنذكره، وأما كونه سعى في قتل لسان الدين مع إحسانه إليه فقد جوزي من جنس عمله، وقتل بمرأى من أهله ومسمع، وأزهقت معه روح ابنيه، حسبما نذكره، وهذا قصاص الدنيا، وعفو الله تعالى في الآخرة منتظر للجميع.

ولنذكر ترجمة ابن زمرك من كلام ابن السلطان ابن الأحمر في مجلد ضخم رأيته بالمغرب جمع فيه شعر ابن زمرك وموشحاته، وعرّف به في أوله، إذ ق ما نصه: أما بعد ما يجب من حمد الله تعالى في كل حال، وشكره على ما

ص: 162

أولى ويسر من صلاح الأحوال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صفوة الأنبياء وسيد الأرسال (1) ، والرضى عمّن له من صحبٍ وأنصار وآل، فإن من المعلوم أن الأدب له بالنفس علاقة تؤديه إلى الاستحسان، وتؤثر من اشتهر به بالملاحظة بلحظ الحظ مع تعاقب الأحيان، ولا خفاء أن أيام مولانا الجد المقدس الغني بالله - تولاّه الله تعالى برضوانه - كانت غرراً في وجوه الأيام، ومواسم تجمع الطّم والرّم من الرؤساء الأعلام، الآخذين بأعنّة الكلام، السابقين في حلبة النثار والنظام، وأن الفقيه الرئيس المدرك، الناظم الناثر أبا عبد الله محمد بن يوسف ابن زمرك، عفا الله تعالى عنه، وحسبك بمن ارتضاه مولانا الجد رحمه الله تعالى لكتابته، وصرّفه في الوجوه المتعددة من رسالته وحجابته، وكان بذلك خليقاً، لما جمع من أدوات الكمال علماً وتحقيقاً، وإدراكاً ونبلاً وفقهاً وأصولاً وفروعاً وأدباً وتحصيلاً، وبياناً وتفسيراً ونظماً وترسيلاً - لما كان قد أخفت الأيام سنا صبحه، وخابت وسائل نصحه، وعادت بعدوانها بعد فوز قدحه، وعثر بين أقدام أقوام لا يعرفون أيّ ذخر فقدوا، ولا أيّ مطلق من تصريفاته الجميلة قيدوا، مستبصرين بالجهل في دياجي غيّهم، معجبين بما ارتكبوه من جياد بغيهم جميعهم يلحظه بمقل دامية، وألفاظ حامية، يصابحونه بأوجهٍ خلت عن الوجاهة سيماها الحسد، وضميرها السخط بما قدره الواحد الصمد:

فخرّ على الألاءة لم يوسّد

كأنّ جبينه سيف صقيل (2) فيا لله من أشلاء هنالك ضائعة، وأعلاق غير مصونة، ووسائل مخفورة، وأذمّة قطعت أرحامها، ولم يرع ذمامها، وعاثت الأيدي الفاتكة حينئذ على بنيه، وارتكبوها شنعاء في أهله وذويه:

(1) الأرسال: جمع رسول، وهو غير مألوف.

(2)

البيت لابن عنمة الضبي في رثاء بسطام بن قيس (الحماسية رقم: 355 من شرح المرزوقي) ؛ والألاءة: الواحدة من شجر الألاء.

ص: 163

هل كان إلاّ حياً تحيا العباد به

هل كان إلاّ قذىً في عين ذي عور

إن قال قولاً ترى الأبصار خاشعةً

لما يخبّر من وحيٍ ومن أثر

يا لهف قلبي لو قد كنت حاضره

غداة جرّعه أدهى من الصبر

لما تركت له شلواً بمضيعة

ولا تولّى صريع الناب والظّفر

وكان ما كان ممّا لست أذكره

فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر وإن سأل سائلٌ عن الخبر الذي ألمعنا بذكره، وضمّنّا هذا البيت ذرواً (1) من فظيع أمره، فذلك عندما نسب صاحب الأمر إليه ما راب، وتلّه وابنيه للجبين معفّرين بالتراب، وصدمه في جنح الليل والمصحف بين يديه يتوسل بآياته، ويتشفّع بعظيم بركاته، فأخذته السيوف، وتعاورته الحتوف، وأذهبه سليباً قتيلاً، مصيّراً مصراع منزله كثيباً مهيلاً، وكنا على بعد من هذه الآزفة التي أورثت القلوب شجناً طويلاً، وذكّرتنا بعناية مولانا الجد الغني بالله لجانبه أعظم ذكرى، فأغرينا برثائة خلداً وفكرا، وارتجلنا عند ذكره الآن هذه الأبيات إشارةً مقنعة، وكناية في السلوان مطمعة، وأرضينا بالشفقة أو داءه، وأرغمنا بتأبينه أعداءه، ولما تبلج الصبح لذي عينين، وتلقينا راية الفرج بالراحتين، عطفتنا على أبنائه عواطف الشفقة، وأطلقنا لهم ما عاثت الأيدي عليه صلةً لرحمٍ طالما أضاعها من جهل الأذمّة، وأخفر عهود تخدّمه لمن سلف من الأئمة، وصرفنا للبحث والتفتيش وجوه آمالنا، وجعلنا ضمّ ما نثرته الحوادث من منظوماته من أكيد أعمالنا، وكان تعلّق بمحفوظنا جملة وافرة من كلامه، مشتملة على ما راق وحسن من نثاره ونظامه، فأضفنا ذلك إلى ما وقع عليه اجتهادنا من رقاعه الحائلة المنتهبة بأيدي النوائب، الدائرة المستلبة بتعدي النواصب، فخلص من الجملة قلائد عقيان، وعقود در ومرجان، ترتاح

(1) ذرواً طرفاً؛ وفي ق: دراً.

ص: 164

النفوس النفيسة لإنشادها، وتحضر الأبصار والأسماع (1) عند إيرادها، إلى ما يتخللها من تخليد مآثر سلفنا، والإشارة بعظيم ملكنا، فشرعنا في تقييد أوابدها الشاردة، وإحياء رسومها البائدة، كلفاً بالأدب لوضوح فضله، وتأدية لما يجب من رعاية أهله. ولنبدأ بالتعريف بحال هذا الرئيس المنبه عليه، ونظهر ما كنا نضمره من الميل إليه، في كل ما له أو عليه، فنقول:

هو الفقيه الكاتب الفذ الأوحد، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن يوسف الصريحي، ويعرف بابن زمرك.

أصله من شرق الأندلس، وسكن سلفه بالبيازين من غرناطة، وبها ولد، فنشأ ضئيلاً كالشهاب يتوقّد، مختصر الجرم والأعين بإطالة فواضله تشهد، ومكتب الفئة القرآنية يؤثره بالجناب الممهد، فاشتغل أول نشأته بطلب العلم والدؤوب على القراءة، وأخذ نفسه بملازمة حلقات التدريس، ولم يبلغ حد وجوب المفترضات إلاّ وهو متحمل الرواية، وملتمس لفوائد الدراية، ومصابح كل يوم أعلام العلوم، ومستمدّ بمصابيح الحدود العلمية والرسوم، فافتتح أبواب الكتب النحوية بالإمام أبي عبد الله ابن الفخار الآية الكبرى في فنّ العربية، وتردد الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف فأحسن الإصغاء، وبذ النحاة البلغاء، بما أوجب رثاءه (2) عند الوقوف على ضريحه بالقصيدة الفريدة التي أولها:

أغرى سراة الحيّ بالإطراق

واهتدى في طريق الخطبة ومناهج الصوفية بالخطيب المعظم أبي عبد الله ابن مرزوق الوافد على مولانا الجدّ أبي الحجاج، رضي الله تعالى عنه، في عام ثلاثة

(1) الأزهار: وتحسد الأبصار الأسماع؛ ق: وتحصر.

(2)

ق: أن رثاه.

ص: 165

وخمسين وسبعمائة، وإليه جنح، وإياه قصد عند تغربه إلى المغرب في دولة السلطان أبي سالم، فتوجه بالعمامة التي ارتجل بين يديه فيها:

توّجتني بعمامه

توّجت تاج الكرامه

فروض حمدك يزهى

مني بسجع الحمامه وأخذ علم الأصلين عن الحافظ الناقد أبي علي منصور الزواوي، وبرع في الأدب أثناء الانقطاع وأوّل الطلب لأبي عبد الله ابن الخطيب، ولكن لم يحمد بينهما المآل، واقتدى في العلوم العقلية بالشريف أبي عبد الله التلمساني قدوة الزمان، وحصلت له الإجازة والتحديث بقاضي الجماعة وشيخ الجملة أبي البركات ابن الحاج وبالخطيب البليغ أبي عبد الله اللوشي، وبالخطيب الورع أبي عبد الله ابن بيبش (1) العبدري، رضي الله تعالى عنه وعن جميعهم، وبواجب محافظتنا على عهدهم، إذ نحن وردنا بالإجازة التامة عذب وردهم، وصل سبينا بهم الكثير من شيوخنا مثل الإمام المعظم أبي محمد عبد الله بن جزي، ومعلمنا الثقة المجتهد أبي عبد الله الشريشي، والقاضي الإمام أبي عبد الله محمد بن علي بن علاق، وغيرهم، رحمة الله تعالى عليهم، لذلك صار صدراً في نوادي طلبة الأندلس وأفراد نجبائها، فما شاءه المحاضر يجده في خضله (2) ، ويتلقاه من باهر فضله، فكاهة ومجالسة أنيقة ممتعة ومحادثة أريضة مزهرة، وجواباً مطبقاً للمفصل (3) ، وذهناً سابقاً لإيضاح المشكل، مع انقياد الطبع، وإرسال الدمعة في سبيل الخشوع والرقة، ورشح الجبين عند تلقّي الموعظة، وصون الوجه بجلباب الحياء، ومقابلة الناظر إليه بالاحتشام والمبادرة للاستدعاء، على طهارة وبذل وسع وكرم نفس، لم يعهد أجمعل مشاركة منه لإخوانه، ولا أمتع منه بجاهه، إلى مبالغة في الهشّة

(1) ق: بيش.

(2)

الخضل: اللؤلؤ؛ وفي ق: خصله.

(3)

هذه رواية ق والأزهار؛ وفي التجارية: شافياً للمعضل.

ص: 166

والمبرّة والإيثار بما منح، وجنوحٍ إلى حبّ الصالحين، وذلك بالانضواء إلى شيخ الفرق الصوفية الولي أبي جعفر ابن الزيات، وأخيه الفاضل الناسك شيخنا أبي مهديّ، قدس الله تعالى مغناه، وسواهما من أهل الاندلس والعدوة، وحمله أشد الحمل على كل ملبّس (1) كأبي زكريا البرغواطي وسواه. ومن تنديراته - زعموا - على أبي الحسن المحروق لميله عنه:

ولد الفقر والرباط ولكن

نفسه للسلوك ذات افتقار وخطب الأدب يافعاً وكهلاً، وحاز علمه إدراكاً ونهلاً، ولما كانت الحادثة على مولانا الجد - رحمه الله تعالى - واجتاز إلى المغرب كما تقرر في غير هذا، كلف به وأنس إليه، لحلاوة منطق ورفع استيحاش ومراوضة خلق، ثمّ كرّ في صحبة ركابه فعلت منزلته ولطف محله.

وقفنا على رقعة من رقاعه وهو يبدىء فيها ويعيد، ويقول: خدمته سبعاً وثلاثين سنة: ثلاثاً بالمغرب، وباقيها بالأندلس، أنشدته فيها ستّاً وستين قصيدة في ستة وستين عيداً، وكلّ ما في منازله السعيدة من القصر والرياض والدشار (2) والسبيكة من نظم رائق، ومدح فائق، في القباب والطاقات والطرز وغير ذلك فهو لي، وكنت أواكله وأواكل ابنه مولاي أبا الحجاج، وهما كبيراً ملوك أهل الأرض، وهنأته بكذا وكذا قصيدة، وفوّض لي في عقد الصلح بين الملوك بالعدوتين، وصلح النصارى عقدته تسع مرات، ألخسّة فوّض إليّ ذلك

قلنا: صدق في جميع ما ذكره، والعقود بذلك شاهدة له. وخصّه عام ثلاثة وسبعين بكتابة سره، واستعمله بعد أعوام في السفارة بينه وبين ملوك عصره، فحمد منابه، ونمت أحواله ورغد جنابه، وكان هنالك بعض تقوّلات تشين

(1) ملبس: مخلط؛ وفي الأزهار وق: متلبس.

(2)

الدشار: القرية أو الكفر، والجمع دشر ودشائر.

ص: 167

وجه اجتهاده، وتومىء بما احتقبه من سوء مقاصده وماصرفه من قبيح أغراضه، وهاجت الفتنة، فكانت سفارته أعظم أسبابها.

وعند الأشدّ من عمره عرضت لأفكاره تقلبات، وأقعدته عن قداح السياسة آفات مختلفات، وأشعرته حدة ذهنه أن يتخبط (1) في أشراك وقعات، فقعد بجامع مالقة ثمّ بمسجد الحمراء ملقياً على الكرسي فنوناً جمة، وعلوماً لم يزل يتلقاها عن أولياء التعظيم والتجلة، فانحاز إلى مادة (2) أمم بمالقة طما منهم البحر، وتراءى لأبصارهم وبصائرهم الفخر، وكان التفسير أغلب عليه لفرط ذكائه، وما كان قيده وحصله أيام قراءته وإقرائه، فما شئت من بيان، وإعجاز قرآن، وآيات توحيد وإخلاص، ومناهج صوفية تؤذن بالخلاص، يوم الأخذ بالنواص، ومراراً عدة سمع ما يلقيه وليّ الأمر، ويا شدة البلوى التي أذاقه مرّها، وأمطاه إلى طيّة الهلاك ظهرها، ويا قرب ما كان الفوت، والحسام الصّلت، من متباعد هذه القرب التي ألغيت (3) .

قلنا: لقد جمح جواد القلم فأطلقنا (4) ونحن نشير إلى هذا الرئيس (5) وتبدل طباعه، بعد انقضاء أعوام شاهدة باضطلاعه، وإحراز شيم أدت إلى علوّ مقداره، واستقامة مداره، فآل عمر مولانا جدنا إلى النفاد، ورمت رئيس كتّابه هذا أسهم الحساد، فظهر الخفيّ، وسقط به الليل على سرحان، وقد طالما جرّب الوفيّ والصفيّ. وكان من شأنه الاستخفاف بأولياء الأمر من حجّاب الدولة، والاسترسال في الرد عليهم بالطبع والجبلّة، مع الاستغراق في غمار الفتن أندلساً وغرباً، ومراعاة حظوظ نفسه استيلاء وغصباً، أما الجراءة فانتضى سيوفها،

(1) الأزهار: أنه متخبط.

(2)

ق: مائدة.

(3)

الأزهار: من تباعد

ألقيت.

(4)

يعني أطلقنا له العنان.

(5)

ق: الرائس؛ حيثما وقعت.

ص: 168

وأما إكفاء السماء على الأرض فقواصم نوّع صنوفها، وأما المجاهرة فوقف بميدان الاعتراض صفوفها، وأما المجاملة فنكّر معروفها، أداه هذا النبأ العظيم إلى سكنى المعتقل بقصبة المرية، وعلى الأثر كان الفرج قريباً، وسطور المؤاخذة قد أوسعها العفو تضريباً، ونالته هذه المحنة عند وفاة مولانا الجد الغني بالله، وكانت وفاته غرة شهر صفر عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة، لأسباب يطول شرحها أظهرها شراسة في لسانه، واغترار بمكانه، وتضريب بين خدام السلطان وأعوانه، فكبا لليدين والفم، إلى أن منّ الله تعالى بسراحه، وأعاده إلى الحضرة في أول شهر رمضان المعظم من عام أربعة وتسعين وسبعمائة، فكان ما كان من وفاة مولانا الوالد رحمه الله تعالى، وقيام أخينا محمد مقامه بالأمر، فاستمر الحال أياماً قلائل، وقدم للكتابة الفقيه ابن عاصم لمدة من عام، ثمّ أعاد المذكور إلى خطته وقد دمثت بعض أخلاقه، وخمدت شراسته وحلا بعض مذاقه، فما كان إلاّ كلا وليت وإذا به قد ساء مشهداً وغيباً، وأوسع الضمائر شكاً وريباً، وغلبت الإحنُ عليه، وغلت مراجلها لديه، فصار يتقلب على جمر الغضا، ويتبرّم بالقضا، ويظهر النصح وفي طيّه التشفّي، ويسم نفسه بالصلاح، ويعلن بالخشوع، ويشير بأنّه الناصح الأمين، ويتلو قوله تعالى " ولكن لا تحبّون الناصحين " الأعراف: 79 ورتب على المشتغلين كبيرهم وصغيرهم ذنوباً لم يقترفوها، ونسب إليهم نسباً من التضييع لم يعرفوها، وأنهم احتجنوا الأموال، وأساءوا الأعمال والأقوال، فلم يظفر من ذلك بكبير طائل، ولا حصل على تفاوت أعداده على حاصل، هذا على قلة معرفته بتلك الطريقة الاشتغالية، وعدم اضطلاعه بالأمور الجبائية، فمن نفس يروّع سربها، ويكدر بالامتحان والامتهان شربها، ومن ضارعة خاشعة لله تعالى سلبت، وطولبت بغير ما اكتسبت، وتعدت الأيدي إلى أقوام جلّة سعدوا بشقائه، وامتخنوا وهم المبرّأون من تزويره واعتدائه، وسيسألون يوم لا يغني مال ولا بنون.

ص: 169

وصار يصرف أغراضه، ويظهر أحقاده، بين إفصاح بما كان الإعجام خيراً من إلقائه، وإن عمر المسكين المستضعف لا حاجة في طول بقائه، إلى مجاهرة عهد منه أيام شبيبته نقيضها، وانعكس في شاخته تصريحها المنغص وتعريضها، لا يريح نفسه من جهد، ولا يقف من اللجلجة عند حد، وقد كان ثقل سمعه فساءت إجابته، وطغت أخلاقه فسئم الناس وساطته، وربما استحلف فلم يكن بين اللازمة واللازمة إلاّ الحنث عن قصد وغير قصد، ودعا على نفسه وأبنائه بإنجاز وعد، وأن يقيض الله له ولهم قاتل عمد، فسبحان القاهر فوق عباده، الرحيم بهذا الشخص وبالأموات من شيعته وأولاده، فاستمرّ على ذلك إلى إحدى الليالي، فهلك في جنح الليل في جوف داره على يد مخدومه، تلقّاه - زعموا - عند الدخول عليه، وهو بالمصحف رافع يديه (1) ، فجدلته السيوف، وتناولته الحتوف، فقضي عليه، وعلى من وجد من خدامه وابنيه، كل ذلك بمرأى عين من أهله وبناته، ولم يتقوا الله فيه حقّ تقاته، فكانت أنكى الفجائع، وأفظع الوقائع، وساءت القالة، وعظم المصاب، وكل شيء إلى أجل نافذ وكتاب. انتهى كلام ابن الأحمر في مقدمة كتابه (2) .

وقد اطلعت منه على تصاريف أحوال ابن زمرك، وقتله على الوجه الذي يعلم منه أن ثأر لسان الدين ابن الخطيب لديه لا يترك، بل قتلته أفظع من قتلة لسان الدين، لأن هذا قتل بين عياله وأهله، وقتل معه ابناه ومن وجد من خدمه، ولسان الدين رحمه الله تعالى خنق بمفرده، وعند الله تجتمع الخصوم، وهو العفوّ الغفور.

وقد فهم من مضمون ما سبق أن قتل ابن زمرك بعد عام خمسة وتسعين وسبعمائة، ولم أقف من أمره على غير ما تقدم.

(1) ق: رافعاً به.

(2)

سمى هذا الكتاب " البقية والمدرك من شعر ابن زمرك ".

ص: 170

ولا بأس أن نلم بشيء من نظمه البارع ممّا كنت انتقيته بالمغرب من تأليف ابن الأحمر المذكور، وأوردت كثيراً منه في أزهار الرياض.

فمن ذلك قوله في ذكر غرناطة العلية، وتهنئة سلطانه الغني بالله ببعض المواسم العيدية، ووصف كرائم جياده، وآثار ملكه وجهاده:

يا من يحنّ إلى نجد وناديها

غرناطة قد ثوت نجد بواديها

قف بالسبيكة وانظر ما بساحتها

عقيلة والكثيب الفرد جاليها (1)

تقلّدت بوشاح النهر وابتسمت

أزهارها وهي حليٌ في تراقيها

وأعين النرجس المطلول يانعة

ترقرق الطلّ دمعاً في مآقيها

وافترّ ثغر أقاحٍ من أزاهرها

مقبّلاً خدّ ورد من نواحيها

كأنّما الزهر في حافاتها سحراً

دراهم والنسيم اللّدن يجبيها

وانظر إلى الدّوح والأنهار تكنفها

مثل الندامى سواقيها سواقيها

كم حولها من بدورٍ تجتني زهراً

فتحسب الزهر قد قبّلن أيديها

حصباؤها لؤلؤ قد شفّ جوهرها

والنهر قد سال ذوباً من لآليها

نهر المجرّة والزّهر المطيف به

زهر النجوم إذا ما شئت تشبيها

يزيد حسناً على نهر المجرّة قد

أغناه درّ حباب عن دراريها

يدعى المنجّم راثيه وناظره

مسميّات أبانتها أساميها

إن الحجاز مغانيه بأندلس

ألفاظها طابقت منها معانيها

فتلك نجد سقاها كلّ منسجمٍ

من الغمام يحيّيها فيحييها

وبارق وعذيب كل مبتسم

من الثغور يجلّيها مجلّيها

وإن أردت ترى وادي العقيق فرد

دموع عشاقها حمراً جواريها

وللسبيكة تاج فوق مفرقها

تودّ درّ الدراري لو تحلّيها

(1) حين عدد لسان الدين البساتين والمتنزهات في غرناطة قال: " ومدرج نجد السبيكة وجنة العريف " وتقع السبيكة إلى الجنوب الشرقي من الحمراء.

ص: 171

فإنّ حمراءها والله يكلؤها

ياقوتة فوق ذاك التاج يعليها

إنّ البدور لتيجان مكلّلة

جواهر الشهب في أبهى مجاليها

لكنّها حسدت تاج السبيكة إذ

رأت أزاهره زهراً يجلّيها

بروجها لبروج الأفق مخجلة

فشهبها في جمالٍ لا تضاهيها

تلك القصور التي راقت مظاهرها

تهوي النجوم قصوراً عن معاليها

لله لله عينا من رأى سحراً

تلك المنارة قد رقّت حواشيها

والصبح في الشرق قد لاحت بشائره

والشهب تستنّ سبقاً في مجاريها

تهوي إلى الغرب لمّا غالها سحر

وغمّض الفجر من أجفان واشيها وساجع العود في كف النديم إذا ما استوقفت ساجعات الطير يغريها (1)

يبدي أفانين سحرٍ في ترنّمه

يصبي العقول بها حسناً ويسبيها

يجسّه ناعم الأطراف تحسبها

لآلئاً وهي نورٌ في تلاليها

مقاتلٌ بلحاظ قوس حاجبها

ترمي القلوب بها عمداً فتصميها

فباكر الروض والأغصان ماثلة

يثني النفوس لها شوقاً تثنّيها

لم يرقص الدوح بالأكمام من طربٍ

حتى شدا من قيان الطير شاديها

وأسمعتها فنون السحر مبدعة

ورق الحمام وغنّاها مغنّيها

غرناطة آنس الرحمن ساكنها

باحت بسرّ معانيها أغانيها

أعدى نسيمهم لطفاً نفوسهم

فرقّة الطبع طبعٌ منه يعديها

فخلّدَ الله أيام السرور بها

صفراً عشيّاتها بيضاً لياليها

وروّض المحل منها كلّ منبجسٍ

إذا اشتكت بغليل الجدب يرويها

يحكي الخليفة كفّاً كلّما وكفت

بالجود فوق موات الأرض يحييها

تغنى العفاة وقد أمّت مكارمه

عن السؤال وبالإحسان يغنيها

(1) هذه رواية ق والأزهار؛ وفي التجارية: ما استوقف الطير يدنيها ويقريها.

ص: 172

لها بنانٌ فلا غيث يساجلها

جوداً ولا سحبه يوماً تدانيها

فإن تصب سحبه بالماء حين همت

بعسجد ولجين صاب هاميها

يا أيها الغيث أنت الغوث في زمنٍ

ملوكه تلفت لولا تلافيها

إنّ الرعايا جزاك الله صالحةً

ملكت شرقاً وغرباً من يراعيها

إن الخلائق في الأقطار أجمعها

سوائم أنت في التحقيق راعيها

فكل مصلحة للخلق تحكمها

وكل صالحةٍ في الدين تنويها

إذا تيممت أرضاً وهي مجدبة

فرحمة الله بالسقيا تحييّها

يا رحمةً بثّت الرحمى بأندلسٍ

لولاك زلزلت الدنيا بمن فيها

في فضل جودك قد عاشت مشيختها

في ظل أمنك قد نامت ذراريها

في طول عمرك يرجو الله آملها

بنصر ملكك يدعو الله داعيها

عوائد الله قد عوّدت أفضلها

لتبلغ الخلق ما شاءت أمانيها

سلّ السعود وخلّ البيض مغمدةً

واضرب بها فرية التثليث تفريها

لله أيّامك الغرّ التي اطردت

فيها السعود بما ترضى ويرضيها

لله دولتك الغراء إنّ لها

لكافلاً من إله العرش يكفيها

هيهات أن تبلغ الأعداء مأربةً

في جريها وجنود الله تحميها

هذي سيوفك في الأجفان نائمة

والمشركون سيوف الله تفنيها

سريرة لك في الإخلاص قد عرفت

حسنى عواقبها حتى أعاديها

لم يحجب الصبح شهب الأفق عن بصرٍ (1)

إلاّ وهديك للأبصار يبديها

يا ابن الملوك وأبناء الملوك إذا

تدعو الملوك إلى طوعٍ تلبّيها

أبناء نصرٍ ملوك عزّ نصرهم

وأوسعوا الخلق تنويهاً وترفيها

هم المصابيح نور الله موقدها

تضيء للدين والدنيا مشاكيها

هم النجوم وأفق الهدي مطلعها

فوزاً لمهديّها عزّاً لهاديها

(1) الأزهار: لم تحتجب شهب الآفاق عن بصر.

ص: 173

هم البدور، كمالٌ ما يفارقها

هم الشموس، ظلامٌ لا يواريها

قضت قواضبها أن لا انقضاء لها

وأمضت الحكم في الأعدا مواضيها

وخلّدت في صفاح الهند سيرتها

وأسندت عن عواليها معاليها

وأورثتك جهاداً أنت ناصره

والأجر منك يرضّيها ويحظيها

كم موقف ترهب الأعداء موقعه

والخيل تردي ووقع السّمر يرديها

ثارت عجاجته واليوم محتجب

والنقع يؤثر غيماً من دياجيها

وللأسنّة شهبٌ كلما غربت

في الدارعين تجلّت من عواليها

وللسيوف بروق كلما لمعت

تزجي الدماء وريح النصر يزجيها

أطلعت وجهاً تريك الشمس غرته

تبارك الله ما شمسٌ تساميها

من أين للشمس نطقٌ كله حكمٌ

يفيدها كلّ حين منك مبديها

لك الجياد إذا تجري سوابقها

فللرياح جيادٌ ما تجاريها

إذا انبرت يوم سبق في أعنّتها

ترى البروق طلاحاً لا تباريها

من أشهبٍ قد بدا صبحاً تراع له

شهب السماء فإنّ الصبح يخفيها

إلاّ التي في لجامٍ منه قيّدها

فإنّه سامها عزّاً وتنويها

أو أشقرٍ مرّ عن (1) شقر البروق وقد

أبقى لها شفقاً في الجوّ تنبيهاً

أو أحمرٍ جمره في الحرب متّقدٌ

يعلو لها شرر من بأس مذكيها

لون العقيق وقد سال العقيق دماً

بعطفه من كماةٍ كرّ يدميها

أو أدهم ملء (2) صدر الليل تنعله

أهلّة فوق وجه الأرض يبديها

إن حارت الشهب ليلاً في مقلّدة

فصبح غرّته بالنور يهديها

أو أصفر بالعشيّات ارتدى مرحاً

وعرفه بتمادي الليل ينبيها (3)

(1) هكذا في ق؛ وفي التجارية: مرعب، ولا معنى له؛ ق: تنسيها.

(2)

الأزهار: مثل.

(3)

ق: ينميها.

ص: 174

مموّه بنضارٍ تاه من عجبٍ

فليس يعدم تنويهاً ولا تيها

وربّ نهر حسام رقّ رائقه

متى ترده نفوس الكفر يرديها

تجري الرؤوس حباباً فوق صفحته

وما جرى غير أنّ البأس يجريها

وذابل من دم الكفّار مشربُهُ

يجني الفتوح وكفّ النصر تجنيها

وكم هلالٍ لقوس كلما نبضت

ترى النجوم رجوماً في مراميها

أئمّة الكفر ما يمّمت ساحتها

إلاّ وقد زلزلت قسراً صياصيها

يا دولة النصر هل من مبلغٍ دولاً

مضين أنّك تحييها وتنسيها

أو مبلغٍ سالف الأنصار مألُكةً

والله بالخلد في الفردوس يجزيها

أنّ الخلافة أعلى الله مظهرها

أبقت لنا شرفاً والله يبقيها

يا ابن الذين لهم في كلّ مكرمةٍ

مفاخرٌ ولسان الدهر يمليها

أنصار خير الورى، مختار هجرته

جيران روضته، أكرم بأهليها

سمّتهم الملّة السّمْحاء تكرمةً

أنصارها، وبهم عزّت أواليها

ففي حنين وفي بدر وفي أحدٍ

تلفي مفاخرهم مشهورة فيها

ولتسأل السّير المرفوع مسندها

فعن مواقفهم تروى مغازيها

مآثرٌ خلّد الرحمن أثرتها

ينصّها من كتاب الله قاريها

ماذا يجيد بليغ أو ينمّقه

من الكلام ووحي الله تاليها

له الجهاد به تسري الرياح إلى

ممالك الأرض من شتى أقاصيها

تحدى الركاب إلى البيت العتيق به

فمكّة عمرت منه نواديها

بشائر تسمع الدنيا وساكنها

إذا دعا باسمك الأعلى مناديها

كفى خلافتك الغراء منقبةً

أنّ الإله يوالي من يواليها

وقد أفاد بنيه الدهر تجربةً

أنّ السّعود تعادي من يعاديها

إذا رميت سهام العزم صائبةً

فما رميت، بل التوفيق راميها

شكراً لمن عظمت منّا مواهبه

وإن تعدّ فليس العد يحصيها

ص: 175

عمّا قريب ترى الأعياد مقبلة

من الفتوح ووفد النصر حاديها

وتبلغ الغاية القصوى بشائرها

فقد أظلّت بما ترضى مباديها

فاهنأ بما شئت من صنعٍ تسرّ به

وانو الأمانيّ فالأقدار تدنيها

مولاي خذها كما شاءت بلاغتها

ولو تباع لكان الحسن يشريها

أرسلتها حيثما الأرواح مرسلة

نوادراً تنشر البشرى أماليها

جاءت تهنّيك عيد الفطر معجبة

بحسنها ولسان الصدق يطريها

البشر في وجهها، واليمن في يدها

والسحر في لفظها، والدر في فيها

لو رصّع البدر منها تاج مفرقه

لم يرض درّ الدراري أن تحلّيها

فإن تكن بنت فكري وهو أوجدها

نعماك في حجره كانت تربيها

في روض جودك قد طوّقتني منناً

طوق الحمام فما سجعي موفّيها

ولو أعرت لسان الدهر يشكرها

لكان يقصر عن شكر يوفّيها

بقيت للدين والدّنيا إمام هدىً

مبلّغ النّفس ما ترجو أمانيها

والسعد يجري لغايات تؤمّلها

ما دامت الشّهب تجري في مجاريها وقال رحمه الله تعالى شاكراً لنعمٍ وصلته من المذكور في عاشوراء:

مولاي يا ابن السابقين إلى العلا

والرافعين لواءها المنشورا

إن لوحظوا في المعلوات فإنهم

طلعوا بآفاق العلاء بدورا

أو فوخروا في المكرمات فإنهم

نظموا بأسلاك الفخار شذورا

أبناء أنصار النّبيّ وصحبه

في الذكر أصبح فخرهم مذكورا

والمؤثرين، وربّنا أثنى بها

في الحشر خلّد وصفهم مسطورا (1)

فاضت علينا من نداك غمائم

وتفجّرت من راحتيك بحورا

من كفّ شفّاف الضياء تخاله

لصفاء جوهره تجسّد نورا

(1) يشير غلى الاية الكريمة في الأنصار " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ".

ص: 176

نعمٌ منوّعةٌ تعدّد وفرها

أعجزت عنها شكري الموفورا

في موسمٍ للدين قد جدّدته

وأقمت فينا عيده المشهورا

أضعاف ما أهديتنا من منّة

تُهدي إليك ثوابها عاشورا

وعلى الطريق بشائر محمودة

ألقاك جذلاناً بها مسرورا وقال يصف زهر القرنفل الصعب الاجتناء بجبل الفتح، وقد وقع له السلطان الغني بالله المذكور بذلك، فارتجل قطعاً منها:

أتوني بنوّارٍ يروق نضارة

كخدّ الذي أهوى وطيب تنفّسه

وجاءوا به من شاهقٍ متمنّعٍ

تمنع ذاك الظبي في ظلّ مكنسه

رعى الله مني عاشقاً متقنعاً

بزهرٍ حكى في الحسن خدّ مؤنسه

وإن هبّ خفّاق النسيم بنفحةٍ

حكت عرفه طيباً قضى بتأنسه ومنها:

رعى الله زهراً ينتمي لقرنفلٍ

حكى عرف من أهوى وإشراق خدّه

ومنبته في شاهقٍ متمنّعٍ

كما امتنع المحبوب في تيه صدّه

أميل إذا الأغصان مالت بروضةٍ

أعانق منها القضب شوقاً لقدّه

وأهفو لخفّاق النّسيم إذا سرى

وأهوى أريج الطيب من عرف ندّه ومنها:

يقرّ بعيني أن أرى الزهر يانعاً

وقد نازع المحبوب في الحسن وصفه

وما أبصرت عيني كزهر قرنفٍ

حكى خدّ من يسبي الفؤاد وعرفه

تمنّع في أعلى الهضاب لمجتنٍ

تمنّعه منّي إذا رمت إلفه

وفي جبل الفتح اجتنوه تفاؤلاً

بفتحٍ لباب الوصل يمنح عطفه

وما ضرّ ذاك الغصن وهو مرنّح

إذا ما ثنى نحو المتيّم عطفه

ص: 177

قال ابن الأحمر في الكتاب المذكور فيما مر: ومن القصائد التي يود الصبح سناها، والنسيم اللدن رقة معناها، يهنىء مولانا الجد رضي الله تعالى عنه عند وصول خالصة مقامه، وكبير خدامه، القائد خالد رحمه الله تعالى من تلمسان بالهدية، وتجديد المقاصد الودّيّة، ووافق استئناف (1) راحة من الذات العلية، ومن بعض فروع دوحتها (2) الزكية:

أدرها ثلاثاً من لحاظك واحبس

فقد غال منها السكر أبناء مجلس

إذا ما نهاني الشيب عن أكؤس الطلا

تدير عليّ الخمر منها بأكؤس

عذيري من لحظِ ضعيفٍ وقد غدا

يحكّم منّا في جسومٍ وأنفس

وروض شاب ماس غصن قوامه

وفتح فيه اللحظ أزهار نرجس

وما زال ورد الخدّ وهو مضعّف

يعير أقاح الثغر طيب تنفس

وكم جال طرف الطّرف في روض حسنه

يقيّده فيه العذار بسندس

أما وليالي الوصل في روضة الصّبا

ومألف أحبابي وعهد تأنّسي

لئن نسيت تلك العهود أحبتي

فقلبي عهد العامريّة ما نسي

وحاشا لنفسي بعدما افترّ فودها

من الشيب عن صبحٍ به متنفس

وألبسها ثوب الوقار خليفة

به لبس الإسلام أشرف ملبس

وجدّد للفتح المبين مواسماً

أقام بها الإيمان أفراح معرس

وأورثه العلياء كل خليفة

نماه إلى الأنصار كلّ مقدّس

فيا زاجر الأظعان وهي ضوامرٌ

بغير الفلا والوحش لم تتأنّس

إذا جئت من دار الغنيّ بربّه

مناخ العلا والعزّ فاعقل وعرّس

فإن شئت من بحر السماحة فاغترف

وإن شئت من نور الهداية فاقبس

(1) ق: استباق.

(2)

ق: دوحتنا.

ص: 178

أمولاي إنّ السعد منك لآيةٌ (1)

أنارت بها الأكوان جذوة مقبس

إذا شئت أن ترمي القصيّ من المنى

تدور لك الأفلاك مرفوعة القسي

فترمي بسهم من سعودك صائب

سديد لأغراض الأماني مقرطس

أهنيك بالإبلال ممّن شفاؤه

شفاؤك فاشكر من تلافى وقدّس

ودعني أرد يمناك فهي غمامة

تبخّل صوب العارض المتبجّس

أقبّل منها راحةً إثر راحةٍ

أتتك بها الركبان من بيت مقدس

ومن نسب الفتح المبين ولادة

إليه بغير الفخر لم يتأسّس

فيا أيها المولى الذي بكماله

خلائف هذا العصر في الفخر تأتسي

لآمنت موسى من عوادي سميّه

ولولاك لم يبرح بخيفة موجس

بعثت بميمون النقيبة في اسمه

خلود لعزّ ثابتٍ متأسّس

فجاءك بالمال العريض هديّةً

بها الدين أثواب المسرّة يكتسي

وشفّعها بالصافنات كأنّها

وقد راق مرآها جآذر مكنس

تنص من الإشراف جيد غزالةٍ

وترنو من الإيجاس عن لحظ أشوس

لك الخير موسى مثل موسى، كلاهما

بغير شعار الودّ لم يتلبّس

فلا زلت في ظلّ النّعيم وكلّ من

يعاديك لا ينفك يشقى بأبؤس

عليك سلام مثل حمدك عاطرٌ

تنفّس وجه الصبح عنه بمعطس وقال في مولد عام سبعة وستين وسبعمائة وألمّ في أخرياتها بوصف المشور الأسنى، الرفيع المبنى:

زار الخيال بأيمن الزوراء

فجلا سناه غياهب الظّلماء

وسرى مع النسمات يسحب ذيله

فأتت تنمّ بعنبر وكباء

هذا وما شيء ألذّ من المنى

إلاّ زيارته مع الإغفاء

(1) الأزهار: أمولاي وإلى السعد منك ولاية.

ص: 179

بتنا خيّالين التحفنا بالضنى

والسقم ما نخشى من الرقباء

حتى أفاق الصبح من غمراته

وتجاذبت أيدي النّسيم ردائي

يا سائلي عن سرّ من أحببته

السر عندي ميّت الأحياء

تالله لا أشكو الصبابة والهوى

لسوى الأحبة أو أموت بدائي

يا دين قلبي لست أبرح عانياً

أرضي بسقمي في الهوى وعنائي

أبكي وما غير النجيع مدامع

أذكي، ولا ضرم سوى أحشائي

أهفو إذا تهفو البروق، وأنثني

لسرى النواسم من رُبى تيماء

بالله يا نفس الحمى رفقاً بمن

أغريته بتنفّس الصّعداء

عجباً له يندى على كبدي وقد

أذكى بقلبي جمرة البرحاء

يا ساكني البطحاء أيّ إبانة

لي عندكم يا ساكني البطحاء

أترى النوى يوماً تخيب قداحها

ويفوز قدحي منكم بلقاء

في حيّكم قمرٌ فؤادي أفقه

تفديه نفسي من قريب نائي

لم تنسني الأيام يوم وداعه

والركب قد أوفى على الزّوراء

أبكي ويبسم والمحاسن تجتلي

فعلقت بين تبسمٍ وبكاء

يا نظرة جاذبته (1) أيدي النّوى

حتى استهلّت أدمعي بدماء

من لي بثانيةٍ تنادي بالأسى

" قدك اتّئد أسرفت في الغلواء "(2)

ولربّ ليل بالوصال قطعته

أجلو دجاه بأوجه الندماء

أنسيت فيه القلب عادة حلمه

وحثثت فيه أكؤس السرّاء

وجريت في طلق التصابي جامحاً

لا أنثني لمقادة النصحاء

أطوي شبابي للمشيب مراحلاً

برواحل الإصباح والإمساء

(1) الأزهار: جادت بها.

(2)

صدر بيت لأبي تمام؛ وتمامه: " كم تعذلون وأنتم سجرائي " ورواية الديوان: أربيت في الغلواء.

ص: 180

يا ليت شعري هل أرى أطوي إلى

قبر الرسول صحائف البيداء

فتطيب في تلك الربوع مدائحي

ويطول في ذاك المقام ثوائي

حيث النبوّة نورها متألّقٌ

كالشمس تزهي في سناً وسناء

حيث الرسالة في ثنيّة قدسها

رفعت لهدي الخلق خير لواء

حيث الضريح ضريح أكرم مرسلٍ

فخر الوجود وشافع الشفعاء

المصطفى والمرتضى والمجتبى

والمنتقى من عنصر العلياء

خير البريّة مجتباها ذخرها

ظلّ الإله الوارف الأفياء

تاج الرسالة ختمها وقوامها

وعمادها السامي على النّظراء

لولاه للأفلاك ما لاحت بها

شهب تنير دياجي الظّلماء

ذو المعجزات الغرّ والآي الألى

أكبرن عن عدّ وعن إحصاء

وكفاك ردّ الشمس بعد مغيبها

وكفاك ما قد جاء في الإسراء

والبدر شقّ له وكم من آيةٍ

كأنامل جاءت (1) بنبع الماء

وبليلة الميلاد كم من رحمةٍ

نشر الإله بها ومن نعماء

قد بشر الرسل الكرام ببعثه

وتقدّم الكهّان بالأنباء

أكرم بها بشرى على قدم سرت

في الكون كالأرواح في الأعضاء

أمسى بها الإسلام يشرق نوره

والكفر أصبح فاحم الأرجاء

هو آية الله التي أنوارها

تجلو ظلام الشّكّ أيّ جلاء

والشمس لا تخفى مزيّة فضلها

إلاّ على ذي المقلة العمياء

يا مصطفى والكون لم تعلق به

من بعد أيدي الخلق والإنشاء

يا مظهر الحقّ الجليّ ومطلع ال

نور السنيّ السّاطع الأضواء

يا ملجأ الخلق المشفّع فيهم

يا رحمة الأموات والأحياء

يا آسي المرضى ومنتجع الرضى

ومواسي الأيتام والضعفاء

(1) الأزهار: جادت.

ص: 181

أشكو إليك وأنت خير مؤمّل

داء الذنوب وفي يديك دوائي

إنّي مددت يدي إليك تضرّعاً

حاشا وكلاّ أن يخيب رجائي

إن كنت لم أخلص إليك فإنّما

خلصت إليك محبتي وندائي

وبسعد مولاي الإمام محمّدٍ

تعد الأماني أن يتاح لقائي

ظلّ الإله على البلاد وأهلها

فخر الملوك السادة الخلفاء

غوث العباد وليث مشتجر القنا

يوم الطعان وفارج الغمّاء

كالدّهر في سطواته وسماحه

تجري صباه بزعزعٍ ورخاء

رقّت شجاياه وراقت مجتلى

كالنّهر وسط الروضة الغنّاء (1)

كالزهر في إبراقه، والبدر في

إشراقه، والزّهر في لألاء

يا ابن الألى إجمالهم وجمالهم

فلق الصباح وواكف الأنواء

أنصار دين الله حزب رسوله

والسّابقون بحلبة العلياء

يا ابن الخلائف من بني نصرٍ ومن

حاطوا ذمار الملّة السّمحاء

من كلّ من تقف الملوك ببابه

يستمطرون سحائب النعماء

قوم إذا قادوا الجيوش إلى الوغى

فالرعب رائدهم إلى الأعداء

والعز مجلوب بكلّ كتيبةٍ

والنصر معقود بكلّ لواء

يا وارثاً عنها مناقبها التي

تسمو مراقيها على الجوزاء

يا فخر أندلس وعصمة أهلها

يجزيك عنها الله خير جزاء

كم خضت طوع صلاحها من مهمه

لا تهتدي فيه القطا للماء

تهدي بها حادي السرى بعزائمٍ

تهدي نجوم الأفق فضل ضياء

فارفع لواء الفخر غير مدافعٍ

واسحب ذيول العزة القعساء

واهنأ بمبناك السعيد فإنّه

كهف ليوم مشورة وعطاء

(1) الأزهار: الفيحاء.

ص: 182

لله منه هالة قد أصبحت

حرم العفاة ومصرع الأعداء

تنتابها طير الرجاء فتجتني

ثمر المنى من دوحة الآلاء

لله منه قبة مرفوعة

دون السماء تفوت لحظ الرائي

راقت بدائع وشيها فكأنها

وشيُ الربيع بمسقط الأنداء

عظّمت ميلاد النبيّ محمّد

وشفعته باللّيلة الغرّاء

أحييت ليلك ساهراً فأفدتنا

قوت القلوب بذلك الإحياء (1)

يا أيها الملك الهمام المجتبى

فاتت علاك مدارك العقلاء

من لي بأن أحصي مناقبك التي

ضاقت بهنّ مذاهب الفصحاء

وإليك مني (2) روضةً مطلولةً

أرجت أزاهرها بطيب ثناء

فافسح لها أكناف صفحك إنها

بكر أتت تمشي على استحياء قال ابن الأحمر: ومن إعذاريات ابن زمرك المحكمة نسقاً ورصفاً، المتناهية في كل فن حسن تحلية غريبة ووصفاً - حسبما اقتضته ملاحظة النسبة الرفيعة مولانا رحمة الله تعالى عليه واحتفاله المناسب لعز ملكه من تعميم الخلق بالجفلى في دعواهم، واستدعاء أشراف الأمم من أهل المغرب وسواهم، تفنناً في مكارم متعددة أيامها عن أصالة المجد معربة، وإغراء لهمم الملك بما لتتميم الأنس من أوضاع مغرية، ومباهاة بعرض الجيوش والكتائب للعدو الكافر، وتكاثراً من مماليك دولته بالعدد الوافر، ممّا ألجم اللسن الذكي عيّاً، وغادر الإعذار الذنّونّي منسيّاً، كافأ الله سبحانه أبوّته المولوية عنّا وعن آبائنا، وتلقى بالقبول الكفيل بتجديد الرضوان ما يصل له من خالص دعائنا، إنه منعم جواد - قوله في الصنيع المختص من ذلك بمولانا الوالد قدّس الله تعالى روحه، وذلك سنة أربع وستين وسبعمائة:

(1) ورى هنا بكتابي " قوت القلوب " و " إحياء علوم الدين ".

(2)

ق: منها؛ يعني القصيدة.

ص: 183

معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا

القصيدة، وقد تقدمت بتمامها فراجعها.

ثمّ قال: ومن ذلك ما أنشد في الصنيع الثاني المخصوص بعمينا السيدين الأميرين سعد ونصر، رحمة الله تعالى عليهما، وأجاد في وصف الجند والجرد والطلبة وغرائب الأوضاع:

أللمحةٍ من بارق متبسّم

أرسلته دمعاً تضرّج بالدم

وللمحةٍ تهفو ببانات اللوى

يهفو فؤادك عن جوانح مغرم

هي عادة عذرية من يوم أن

خلق الهوى تعتاد كلّ متيّم

قد كنت أعذل ذا الهوى من قبل أن

أدري الهوى، واليوم أعذل لوّمي

كم زفرة بين الجوانح ما ارتقت

حذر الرقيب ومدمع لم يسجم

إن كان واشي الدمع قد كتم الهوى

هيهات واشي السقم لمّا يكتم

ولقد أجدّ هواي رسم دارس

قد كاد يخفي عن خفيّ توهّم

وذكرت عهداً في حماه قد انقضى

فأطلت فيه تردّدي وتلوّمي

ولربما أشجى فؤادي عنده

ورقاء تنفث شجوها بترنّم

لا أجدب الله الطلول فطالما

أشجى الفصيح بها بكاء الأعجم

يا زاجر الأظعان يحفزها السرى

قف بي عليها وقفة المتلوّم

لترى دموع العاشقين برسمها

حمراً كحاشية الرداء المعلم

دمنٌ عهدت بها الشبيبة والهوى

سقياً لها ولعهدها المتقدّم

وكتيبة للشوق قد جهّزتها

أغزو بها السّلوان غزو مصمّم

ورفعت فيها القلب بنداً خافقاً

وأريت للعشاق فضل تهمّمي

فأنا الذي شاب الحماسة بالهوى

لكنّ من أهواه ضايق مقدمي

فطعنت من قدّ القوام بأسمر

ورميت من غنج اللحاظ بأسهم

ص: 184

يا قاتل الله الجفون فإنها

مهما رمت لم تخط شاكلة الرمي

ظلمت قتيل الحبّ ثمّ تبيّنت

للسّقم فيها فترة المتظلّم

يا ظبيةً سنحت بأكناف الحمى

سقي الحمى صوب الغمام المسجم

ما ضرّ إذ أرسلت نظرة فاتك

أن لو عطفت بنظرة المترحّم

فرأيت جسماً قد أصيب فؤاده

من مقلتيك وأنت لم تتأثّمي

ولقد خشيت بأن يقاد بجرحه

فوهبت لحظك ما أحلّك من دمي

كم خضت دونك من غمار مفازة

لا تهتدي فيها الليوث لمجثم

والنجم يسري من دجاه بأدهمٍ

رحب المقلّد بالثريّا ملجم

والبدر في صفح السماء كأنّه

مرآة هند وسط لجّ ترتمي

والزهر زهر والسماء حديقة

فتقت كمائم جنحها عن أنجم

والليل مربدّ الجوانح قد بدا

فيه الصباح كغرة في أدهم

فكأنما فلق الصباح وقد بدا

مرأى إبن نصر لاح للمتوسم

ملك أفاض على البسيطة عدله

فالشاة لا تخشى اعتداء الضيغم

هو منتهى آمال كلّ موفق

هو مورد الصادي وكنز المعدم

لاحت مناقبه كواكب أسعد

فرأت ملامح نوره عين العمي

ولقد تراءى بأسه وسماحه

فأتى الجلال من الجمال بتوأم

مثل الغمام وقد تضاحك برقه

فأفاد بين تجهّم وتبسّم

أنسى سماحة حاتمٍ، وكذاك في

يوم اللقاء ربيعة بن مكدّم

سير تسير النيّرات بهديها

وتعير عرف الروض طيب تنسم

فالبدر دونك في علاً وإنارة

والبحر دونك في ندى وتكرّم

ولك القباب الحمر ترفع للندى

فترى العمائم تحتها كالأنجم

يذكى الكباء بها كأنّ دخانه

قطع السحاب بجوّها المتغيّم

ولك العوالي السمر تشرع للعدى

فتخرّ صرعى لليدين وللفم

ص: 185

ولك الأيادي البيض قد طوقتها

صيد الملوك ذوي التلاد الأقدم

شيمٌ يقرّ الحاسون بفضلها

والصبح ليس ضياؤه بمكتّم

ورث السماحة عن أبيه وجدّه

فالأكرم ابن الأكرم ابن الأكرم

نقلوا المعالي كابراً عن كابرٍ

كالرمح مطّرد الكعوب مقوّم

وتسنّموا رتب العلاء بحقها

ما بين جد في الخلافة وابنم

يا آل نصر أنتم سرج الهدى

في كلّ خطبٍ قد تجهّم مظلم

الفاتحون لكلّ صعبٍ مقفل

والفارجون لكلّ خطب مبهم

والباسمون إذا الكماة عوابس

والمقدمون على السواد الأعظم

أبناء أنصار النبيّ وحزبه

وذوي السوابق والجوار الأعصم

سل عنهم أحداً وبدراً تلقهم

أهل الغناء بها وأهل المغنم

وبفتح مكة كم لهم في يومه

بلواء خير الخلق من متقدم

أقسمت بالحرم الأمين ومكة

والركن والبيت العتيق وزمزم

لولا مآثرهم وفضل علاهم

ما كان يعزى الفضل للمتقدم

ماذا عسى أثني وقد أثنت على

عليائهم آي الكتاب المحكم

يا وارثاً عنها مآثرها التي

قد شيّدت للفخر أشرف معلم

يا فخر أندلس لقد مدّت إلى

علياك كف اللائذ المستعصم

أمّا سعودك في الوغى فتكفّلت

بسلامة الإسلام فاخلد واسلم

وافيت هذا الثغر وهو على شفاً

فشفيت معضل دائه المستحكم

ورعيته بسياسة دارت على

مختطه دور السوار بمعصم

كم ليلة قد بتّ فيها ساهراً

تهدي الأمان إلى العيون النوّم

يا مظهر الألطاف وهي خفيّة

ومهبّ ريح النصر للمتنسم

لله دولتك التي آثارها

سير الركاب لمنجد أو متهم

ما بعد يومك في المواسم بعدما

أتبعت عيد الفطر أكرم موسم

ص: 186

وافتك أشراف البلاد ليومه

من كلّ ندب للعلا متسنم

صرفوا إليك ركابهم وتيمّموا

من بابك المنتاب خير ميمّم

وتبوّأوا منه بدار كرامة

فالكل بين مقرّب ومنعّم

ودّت نجوم الأفق لو مثلت به

لتفوز فيه برتبة المستخدم

والروض مختالٌ بحلية سندس

من كلّ موشيّ الرقوم منمنم

ورياحه نسمت بنشر لطيمة

وأقاحه بسمت بثغر ملثّم (1)

وأريتنا فيه عجائب جمّة

لم تجر في خلد ولم تتوهّم

أرسلت سرعان الجياد (2) كأنها

أسراب طير في التنوفة (3) حوّم

من كلّ منحفز بخطفة بارقٍ

قد كاد يسبق لمحة المتوهم

طرفٌ يشك الطّرف في استثباته

فكأنّه ظنّ بصدر مرجّم

ومسافر في الجوّ تحسب أنّه

يرقى إلى أوج السماء بسلّم

رام استراق السمع وهو ممنّع

فأصيب من قضب العصيّ بأسهم

رجمته من شهب النصال حواصب (4)

لولاى تعرّضه لها لم يرجم

ومدارة الأفلاك أعجز كنهها

إبداع كلّ مهندس ومهندم

يمشي الرجال بجوفها وجميعهم

عن مستوى قدميه لم يتقدّم

ومنوّع الحركات قد ركب الهوا

يمشي على خطّ به متوهّم

فإذا هوى من جوّه ثمّ استوى

أبصرت طيراً حول (5) صورة آدم

(1) في أصول أزهار الرياض وفي التجارية: مسلم؛ وصححه محققو الأزهار: " ملثم " وأثبتنا ما في ق، لكونه أقرب إلى الصواب.

(2)

سرعان الخيل: أوئلها.

(3)

التنوفة: المفازة.

(4)

ق: قواضب، ولها وجه، لأنه يتحدث عن الجواد، فالقواضب السيوف، وهي ترجمة أي تتعرض له.

(5)

الأزهار: حل.

ص: 187

يمشي على فنن الرشاء كأنّه

فيه مساور ذابل أو أرقم

وإليك من صون العقول عقيلة

وقفت ببابك وقفة المسترحم

ترجو قبولك وهو أكبر منحةٍ

فاسمح به خلّدت من متكرّم

طاردت فيها وصف كلّ غريبةً

فنظمت شارده الذي لم ينظم

ودعوت أرباب البيان أريهم

" كم غادر الشعراء من متردم "(1)

ما ذاك إلاّ بعض أنعمك التي

قد علّمتنا كيف شكر المنعم ثمّ قال: وأنشد من ذلك في الصنيع المخصوص بعمنا الأمير أبي عبد الله - رحمة الله تعالى عليه - وأطنب في وصف دار الملك وغير ذلك من ضخامة آثار مولانا رضي الله تعالى عنه:

سل الأفق بالزهر الكواكب حاليا

فإني قد أودعته شرح حاليا

وحمّلت معتلّ النّسيم أمانةً

قطعت بها عمر الزمان أمانيا

فيا من رأى الأرواح وهي ضعيفة

أحمّلها ما يستخف الرواسيا

وساوس كم جدّت وجد بي الهوى

فعدّ به القلب المقلّب هازيا

ومن يطع الألحاظ في شرعة الهوى

فلا بدّ أن يعصي نصيحاً ولاحيا

عدلت بقلبي عن ولاية حكمه

غداة ارتضى من جائر اللحظ واليا

وما الحب إلاّ نظرة تبعث الهوى

وتعقب ما يعيي الطبيب المداويا

فيا عجباً للعين تمشي طليقة

ويصبح من جرّائها القلب عانيا

ألا في سبيل الله نفس نفيسة

يرخّص منها الحبّ ما كان غاليا

ويا ربّ عهدٍ للشباب قضيته

وأحسنت من دين الوصال التقاضيا

خلوت بمن أهواه من غير رقبة

ولكن عفافي لم أكن عنه خاليا

(1) غير قول عنترة المفتتح ب " هل "؛ وعجز البيت: " أم هل عرفت الدار بعد توهم " وهو مطلع معلقته.

ص: 188

ويوم بمستنّ الظباء شهدته

أجدّ وصالاً بالياً فيه باليا

ولم أصح من خمر اللحاظ وقد غدا

به الجوّ وضّاح الأسرّة صاحيا

وجرّد من غمد الغمامة صارماً

من البرق مصقول الصفيح يمانيا

تبسّم فاستبكى جفوني غمرةً (1)

ملأت بدرّ الدمع منها ردائيا

وأذكرني ثغراً ظمئت لورده

ولا والهوى العذريّ ما كنت ناسيا

وراح خفوق القلب مثلي كأنما

ببرق الحمى من لوعة الحب ما بيا

وليلة بات البدر فيها مضاجعي

وباتت عيون الشهب نحوي روانيا

كرعت بها بين العذيب وبارق

بمورد ثغر بات بالدرّ حاليا

رشفت به شهد الرضاب سلافة

وقبّلت في ماء النعيم الأقاحيا

فيا برد ذاك الثغر روّيت غلّتي

ويا حرّ أنفاسي أذبت فؤاديا

وروضة حسن للشباب نضيرة

هصرت بغصن البان فيها المجانيا

وبت أسقّي (2) وردة الخدّ أدمعي

فأصبح فيها نرجس اللحظ ذاويا

ومالت بقلبي مائلات قدودها

فما للقدود المائلات وما ليا

جزى الله ذاك العهد عوداً فطالما

أعاد على ربعي الظباء الجوازيا

وقل لليالٍ في الشباب نعمتها

وقضّيتها أنساً: سقيت لياليا

ويا وادياً رفّت عليّ ظلاله

ونحن ندير الوصل قدّست (3) واديا

رمتني عيون السّرب فيه وإنما

رمين بقلبي في الغرام المراميا

فلولا اعتصامي بالأمير محمّدٍ

لما كنت من فتك اللواحظ ناجيا

فقل للذي يبني على الحسن شعره

عليه مع الإحسان لا زلت بانيا

فكم من شكاة في الهوى قد رفأتها

ورفّعتها بالمدح إذ جاء تاليا

(1) الأزهار: عبرة.

(2)

الأزهار: وقد بت أسقي.

(3)

الأزهار: فديت.

ص: 189

وكم ليلة في مدحه قد سهرتها

أباهي بدرّ النّظم فيه الدراريا

ولاح عمود الصبح مثل انتسابه

رفعت عليه للمديح المبانيا

إمام أفاد المكرمات زمانه

وشاد له فوق النجوم المعاليا

وجاوز قدر البدر نوراً ورفعةً

ولم يرض إلاّ بالكمال مواليا

هو الشمس بثت في البسيطة نفعها

وأنوارها أهدت (1) قريباً وقاصياً

هو البحر بالإحسان يزخر موجه

ولكنه عذبٌ لمن جاء عافيا

هو الغيث مهما (2) يمسك الغيث سحبه

يروّ بسحب الجود من كان صاديا

شمائل لو أنّ الرياض بحسنها

لما صار فيها زهرها الغضّ ذاويا

فيا ابن الملوك الصّيد من آل خزرج

وذا نسب كالصبح عزّ مساميا

ألست الذي ترجو العفاة نواله

فتخجل جدواه السحاب الغواديا

ألست الذي تخشى البغاة صياله

فتوجل (3) علياه الصعاب العواديا

وهديك مهما ضلت الشّهب قصدها

تولته في جنح الدجنّة هاديا

وعزمك أمضى من حسامك في الوغى

وإن كان مصقول الغرارين ماضيا

فكم قادح في الدين يكفر ربّه

قدحت له زند الحفيظة واريا

وما راعه إلاّ حسام وعزمة

يضيئان في ليل الخطوب الدواجيا

فلولاك يا شمس الخلافة لم يبن

سبيل جهاد كان من قبل خافيا

ولولاك لم ترفع سماء عجاجة

تلوح بها بيض النصول دراريا

ولولاك لم تنهل غصون من القنا

وكانت إلى ورد الدماء صواديا

فأثمر فيها النصل نصراً مؤزراً

وأجنى قطاف الفتح غضّاً ودانيا

ومهما غدا سفّاح سيفك عارياً

يغادر وجه الأرض بالدم كاسيا

(1) الأزهار: أبدت.

(2)

ق: يهمي، والتصحيح عن الأزهار.

(3)

الأزهار: فتنزل، وكلتا اللفظتين غير موضحتين للمعنى المقصود، وسقط البيت من ق.

ص: 190

قضى الله من فوق السموات أنه

على من أبى الإسلام في الأرض قاضيا

فكم معقلٍ للكفر صبّحت أهله

بجيش أعاد الصبح أظلم داجيا

رقيت إليه والسيوف مشيحة

وقد بلغت فيه النفوس التراقيا

ففتّحت مرقاه الممنّع عنوة

وبات به التوحيد يعلو مناديا

وناقوسه بالقسر أمسى معطّلاً

ومنبره بالذكر أصبح حاليا

عجائب لم تخطر ببال وإنّما

ظفرنا بها عن همّةٍ هي ما هيا

فمنك استفاد الدهر كلّ عجيبة

يباهي بها الأملاك أخرى لياليا

وعنك يروّي الناس كلّ غريبةً

تخطّ على صفح الزمان الأماليا

ولله مبناك الجميل فإنّه

يفوق على حكم السعود المبانيا

فكم فيه للأبصار من متنزّه

تجدّ به نفس الحليم الأمانيا

وتهوى النجوم الزّهر لو ثبتت به

ولم تك في أفق السّماء جواريا

ولو مثلت في سابقيه (1) لسابقت

إلى خدمة ترضيك منها الجواريا

به البهو قد حاز البهاء وقد غدا

به القصر آفاق السماء مباهيا

وكم حلّة جلّلته بحليّها

من الوشي تنسي السابريّ اليمانيا

وكم من قسيّ في ذراه ترفّعت

على عمد بالنور باتت حواليا

فتحسبها الأفلاك دارت قسيّها

تظل عمود الصبح إذ بات (2) باديا

سواري قد جاءت بكلّ غريبة

فطارت بها الأمثال تجري سواريا

به المرمر المجلو قد شف نوره

فيجلو من الظّلماء ما كان داجيا

إذا ما أضاءت بالشعاع تخالها

على عظم الأجرام منها لآليا

به البحر دفّاع العباب تخاله

إذا ما انبرى وفد النّسيم مباريا

إذا ما جلت أيدي الصّبا متن صفحه

أرتنا دروعاً أكسبتنا الأياديا

(1) الأزهار: ساحتيه.

(2)

الأزهار: لاح.

ص: 191

وراقصة في البحر طوع عنانها

تراجع ألحان القيان الأغانيا (1)

إذا ما علت في الجوّ ثمّ تحدرت

تحلّي بمرفضّ الجمان النواحيا

بذوب لجين سال بين جواهر

غدا مثلها في الحسن أبيض صافيا

تشابه جارٍ للعيون بجامد

فلم أدر أيّاً منهما كان جاريا

فإن شئت تشبيهاً له عن حقيقة

تصيب بها المرمى وبوركت راميا

فقل أرقصت منها البحيرة متنها (2)

كما يرقص المولود من كان لاهيا

أرتنا طباع الجود وهي وليدة

ولم ترض في الإحسان إلاّ تغاليا

سقت ثغر زهر الروض عذب برودها

وقامت لكي تهدي إلى الدهر (3) ساقيا

كأن قد رأت نهر المجرّة ناضباً

فرامت بأن تجري إليه السواقيا

وقامت بنات الدوح فيه مواثلاً

فرادى ويتلو بعضهنّ مثانيا

رواضع في حجر الغرام ترعرعت

وشبّت فشبّت حبّها في فؤاديا

بها كل ملتفّ الغدائر مسبل

تجيل به أيدي النسيم مداريا

وأشرف جيد الغصن فيها معطّلاً

فقلّدت النّوّار منه التراقيا

إذا ما تحلّت درّ زهر غروسه

يبيت لها النّمّام بالطيب واشيا

مصارفه النقدين فيها بمثلها

أجاز بها النقدين منها كما هيا (4)

فإن ملأت كفّ النّسيم بمثلها (5)

دراهم نور ظلّ عنها مكافيا

فيملأ حجر الروض حول غصونها

دنانير شمس تترك الروض حاليا

تغرّد في أفنانها الطير كلّما

تجسّ به أيدي القيان الملاهيا

تراجعها سجعاً فتحسب أنها

بأصواتها تملي عليها الأغانيا

(1) الأزهار: الغوانيا؛ ق: المعانيا.

(2)

الأزهار: نبتها.

(3)

الأزهار: الزهر.

(4)

الأزهار: أجاز بها قاضي الجمال التقاضيا.

(5)

الأزهار: مع الضحى.

ص: 192

فلم ندر روضاً منه أنعم نضرةً

وأعطر أرجاءً، وأحلى مجانيا

ولم نر قصراً منه أعلى مظاهراً

وأرفع آفاقاً، وأفسح ناديا

معاني من نفس الكمال انتقيتها

وزينت منها بالجمال المغانيا

وفاتحت مبناه بعيد شرعته

تبث به في الخافقين التهانيا

ولمّا دعوت الناس نحو صنيعه

أجابوا لهم من جانب الغور داعيا

وأمّوه من أقصى البلاد تقرّباً

وما زال منك السعد يدني الأقاصيا

وأذكرت يوم العرض جوداً ومنعةً

بموقف عرض كنت فيه المجازيا

جزيت به كلاّ على حال سعيه

فما غرست بمناه أصبح جانيا

وأطلعت من جزل الوقود هوادجاً

تذكّر يوم النفر من كان ساهيا

وحين غدا يذكى ببابك للقرى

فلا غرو أن أجريت فيه المذاكيا

وطامحة في الجوّ غير مطالة

يرد مداها الطرف أحسر عانيا

تمدّ لها الجوزاء كفّ مسارعٍ (1)

ويدنو لها بدر السماء مناجيا

ولا عجب أن فاتت الشهب بالعلا

وأن جاوزت منها المدى المتناهيا

فبين يدي مثواك قامت لخدمة

ومن خدم الأعلى استفاد المعاليا

وشاهد ذا أني ببابك واقف

وقد حسدت زهر النجوم مكانيا

وقد أرضعت ثدي الغمائم قبلها

بحجر رياض كنّ فيه نواشيا

فلمّا أبينت عن قرارة أصلها

أرادت إلى مرقى الغمام تعاليا

وعدّت لقاء السحب عيداً وموسماً

لذاك اغتدت بالزّمر تلهي الغواديا

فأضحكت البرق الطروب خلالها

وباتت لأكواس الدراري معاطيا

رأت نفسها طالت فظنّت بأنها

تفوت على رغم اللحاق المراميا

(1) الأزهار: مصافح.

ص: 193

فخفّت إليها الذابلات (1) كأنها

طيورٌ إلى وكر أطلن تهاويا

حكت شبهاً (2) للنحل والنحل حوله

عصيّ إلى مثواه تهوي عواليا

فمن مثبت منها الرميّة مدرك

ومن طائشٍ في الجوّ حلّق وانيا

وحصن منيع في ذراها قد ارتقى

فأبعد في الجوّ الفضاء المراقيا

كأن بروق الجوّ غارت وقد أرت

بروج قصور شدتهنّ سواميا

فأنشأت برجاً صاعداً متنزلاً

يكون رسولاً بينهنّ مداريا

تطوّر حالات أتى في ضروبها

بأنواع حليٍ تستفزّ الغوانيا

فحجل برجليها وشاح بخصرها

وتاجٌ إلى ما حلّ منها الأعاليا

وما هو إلاّ طير سعد بذروة

غدا زاجراً من أشهب الصبح بازيا

أمولاي يا فخر الملوك ومن به

سيبلغ دين الله ما كان راجيا

بنوك على حكم السعادة خمسة

وذا عددٌ للعين مازال واقيا

تبيت لهم كفّ الثريا معيذة

ويصبح معتلّ النواسم راقيا (3)

أسام عليها للسعادة ميسم

ترى العزّ فيها مستكنّاً وباديا

جعلت أبا الحجاج فاتح طرسهم

وقد عرفت منك الفتوح التواليا

وحسبك سعد ثمّ نصرٌ يليهم

محمد الأرضى، فلا زلت راضيا

أقمت به من فطرة الدين سنّةً

وجددت من رسم الهداية عافيا

وجاءوا به ملء العيون وسامةً

يقبّل وجه الأرض أزهر باهيا

فيا عاذراً (4) ما كان أجرأ مثله

فمثلك لا يدمي الأسود الضواريا

وجاءتك من مصر التحايا كرائماً

فما فتقت أيدي التّجار الغواليا

(1) ق: الزائلات.

(2)

ق: شبحاً.

(3)

سقط البيت من ق.

(4)

يريد الذي يقوم بالختان.

ص: 194

ووافتك من أرض الحجاز تميمة

تتمم صنع الله لا زال باديا

وناداك بالتمويل (1) سلطان طيبة

فيا طيب ما أهدى إليك مناديا

وقام وقد وافى ضريح محمد

لسلطانك الأعلى هنالك داعيا

سريرتك الرحمى جزاك بسعيها

إله يوفّي بالجزاء (2) المساعيا

فوالله لولا سنّة نبويّة

عهدناه مهديّاً إليها وهاديا

وعذر من الإعذار قرر حكمه

من الشرع أخبار رفعن عواليا

لراعت بها للحرب (3) أهوال موقف

تشيب بمبيض النصول العواليا

لك الحمد فيه من صنيع تعدّه

فثالثه في الفخر عزز ثانيا

تشدّ له الجوزاء عقد نطاقها

لتخدم فيه كي تنال المعاليا

وهنّيت بالأمداح فيه وقد غدا

وجودك فيه بالإجادة وافيا

ودونك من بحر البيان جواهراً

كرمن فما يشرين إلاّ غواليا

وطاردت فيها وصف كل غريبة

فأعجزت من يأتي ومن كان ماضيا

فيا وارث الأنصار لا عن كلالة

تراث جلال يستخف الرواسيا

بأمداحه جاء الكتاب مفصّلاً

يرتّله في الذكر من كان تاليا

لقد عرف الإسلام ممّا أفدته

مكارم أنصارية وأياديا

عليك سلام الله فاسلم مخلّداً

تجدّد أعياداً وتبلي أعاديا ثمّ قال: ومن ذلك في الصنيع المختص بالأمراء الجلّة: أخينا المعز لدولتنا أبي الحسن، وأخينا أبي العباس، وابن عمنا أبي عبد الله، وصل الله تعالى سعودهم. ولقد أبدع في تشييده وتأسيسه، وبسط يد الحسن من براعته وتخميسه (4) ، وذلك

(1) ق والأزهار: بالتهويل؛ والتمويل: قوله " يا مولاي ".

(2)

الأزهار: في الجزاء.

(3)

ق: للجزو.

(4)

الأزهار: من براعة تخميسه.

ص: 195

إلى (1) عودة مولانا رحمة الله تعالى عليه من سبتة لما عادت إلى ملكه:

أرقت لبرقٍ مثل جفني ساهرا

ينظّم من قطر الغمام جواهرا

فيبسم (2) ثغر الروض عنه أزاهرا

وصبحٍ حكى وجه الخليفة باهرا تجسّم من نور الهدى وتجسدا

شفاني معتل النّسيم إذا انبرى

وأسند عن دمعي الحديث الذي جرى

وقد فتق الأرجاء مسكاً وعنبرا

كأنّ الغني بالله في الروض قد سرى فهبّت به الأرواح عاطرة الرّدا

عذيري من قلب إلى الحسن قد صبا

تهيّجه الذكرى ويصبو إلى الصّبا

ويجري جياد اللهو في ملعب الصّبا

ولولا ابن نصر ما أفاق وأعتبا رأى وجهه صبح الهداية فاهتدى

إليك أمير المسلمين شكاية

جنى الحسن فيها للقلوب جناية

وأعظم فيها بالعيون نكاية

وأطلع في ليل من الشّعر آية محيّا جميلاً بالصباح قد ارتدى

بهديك تهدى اليّرات وتهتدي

وأنواؤها جدوى يمينك تجتدي

وعدلك للأملاك أوضح مرشد

بآثاره في مشكل الأمر تقتدي فما بال سلطان الجمال قد اعتدى

تحكّم منّا في نفوس ضعيفة

وسل سيوفاً من جفون نحيفة

ألم يدر أنّا في ظلال خليفة

ودولة أمن لا تراع منيفة بها قد رسا دين الهوى وتمهّدا

(1) الأزهار: وذلك عام.

(2)

الأزهار: فأضحك.

ص: 196

خذوا بدم المشتاق لحظاً أراقه

وبرقاً بأعلام الثنيّة شاقه

وإن كلفوه فوق ما قد أطاقه

يبث حديثاً ما ألذ مساقه خليفتنا المولى الإمام محمّدا

تقلّد حكم العدل ديناً ومذهبا

وجور الليالي قد أزاح وأذهبا

فيا عجباً للشوق أذكى وألهبا

وسلّ صباحاً صارم البرق مذهبا وقد بات في جفن الغمامة مغمدا

يذكّرني ثغراً لأسماء أشنبا

إذا ابتسمت تجلو من الليل غيهبا

كعزم أمير المسلمين إذا احتبى

وأجرى به طرفاً من الصبح أشهبا وأصدر في ذات الإله وأوردا

فسبحان من أجرى الرياح بنصره

وعطّر أنفاس الرياض بشكره

فبرد الصّبا يطوى على طيب نشره

ومهما تجلّى وجهه وسط قصره ترى هالةً بدر السماء بها بدا

إمامٌ أفاد المعلوات زمانه

فما لحقت زهر النجوم مكانه

ومدّ على شرق وغرب أمانه

ولا عيب فيه غير أنّ بنانه تغرّق مستجديه في أبحر الندى

هو البحر مدّ العارض المتهلّلا

هو البدر لكن لا يزال مكمّلا

هو الدهر لا يخشى الخطوب ولا ولا

هو العلم الخفّاق في هضبة العلا هو الصارم المشهور في نصرة الهدى

أما والذي أعطى الوجود وجوده

وأوسع من فوق البسيطة جوده

لقد أصحب النصر العزيز بنوده

ومدّ بأملاك السماء جنوده وأنجز للإسلام بالنصر موعدا

ص: 197

أمولاي قد أنجحت رأياً وراية

ولم تبق في سبق المكارم غاية

فتهدي سجايا كابن رشد نهاية

وإن كان هذا السعد منك بداية سيبقى على مرّ الزمان مخلّدا

سعودك تغني عن قراع الكتائب

وجودك يزري بالغمام السواكب

وإن زاحمتها شهبها بالمناكب

ووجهك بدر المنتدى والمواكب وقد فسحت في الفخر أبناؤك المدى

بنوك كأمثال الأنامل عدّة

أعدّت لما يخشى من الدهر عدّة

وزيد بهم برد الخلافة جدّة

أطال لهم في ظلّ ملكك مدّة إله يطيل العمر منك مؤبّدا

بدور بأوصاف الكمال استقلّت

غمام بفيّاض النّوال استهلّت

سيوف على الأعداء بالنصر سلّت

نجوم بآفاق العلاء تجلّت ولاحت كما شاءت سعودك أسعدا

وإنّ أبا الحجاج سيفك منتضى

وبدرٌ بآفاق الجمال تعرّضا

بنورك يا شمس الخلافة قد أضا

وراقت على أعطافه حلل الرضى فحلّ محلاًّ من علاك (1) ممهّدا

مليك له تعنو الملوك جلالة

يجرّر أذيال الفخار مطالةً

وترفق أسد الغاب منه بسالة

وترضاه أنصار الرسول سلالة فأبناؤه طابوا فروعاً ومحتدا

أزاهر في روض الخلافة أينعت

زواهر في أفق العلاء تطلّعت

(1) الأزهار: رضاك.

ص: 198

جواهر أغيت في الجمال وأبدعت

وعن قيمة الأعلاق قدراً ترفعت يسر بها الإسلام غيباً ومشهدا

بعهد وليّ العهد كرّم عهده

وأنجز في تخليد ملكك وعده

تنظّم منهم تحت شملك عقده

وأورثهم فخراً أبوه وجدّه فأعلى عليّاً حين أحمد أحمدا

تحوط بهم ملكاً عزيزاً وملّة

وتلحظ عين السّعد منهم أهلّة

ستبدو على أفق العلا مستقلّةً

وسحباً بفيّاض العلا مستهلّة تفجّر بحراً للسماحة مزبدا

ونجلك نصر يقتفي نجل رسمه

أمير يزين العقل راجح حلمه

أتاك بنجل يستضاء بنجمه

لحب رسول الله سمّاه باسمه وباسمك في هذي الموافقة اقتدى

أقمت بإعذار الإمارة سنّة

وطوقت من حلي بفخرك منّة

وأسكنتها في ظل برّك جنّة

وألحفتها برد امتنانك جنّةً وعمّرت منها بالتلاوة مسجدا

فلله عينا من رآهم تطلّعوا

غصوناً بروض الجود منك ترعرعوا

وفي دوحة العلياء منك تفرّعوا

ملوك بجلباب الحياء تقنّعوا أضاء بهم من أفق قصرك منتدى

وقد أشعروا الصبر الجميل نفوسهم

وأضفوا به (1) فوق الحليّ لبوسهم

قد زيّنوا بالبشر فيه شموسهم

وعاطوا كؤوس الأنس فيه جليسهم وأبدوا على هول المقام تجلّدا

(1) الأزهار: وقد أفرغوا.

ص: 199

شمائل فيهم من أبيهم وجدّهم

تفصّل آي الفخر فيها بحمدهم

وتنسبها الأنصار قدماً لسعدهم

تضيء بها نوراً مصابيح سعدهم ولم لا ومن صحب الرسول توقّدا

فوالله لولا سنّة قد أقمتها

وسيرة هدي للنّبيّ علمتها

وأحكام عدلٍ للجنود رسمتها

لجالت بها الأبطال تقصد سمتها وتترك أوصال الوشيج مقصّدا

ويا عاذراً أبدي لنا الشرع عذره

طرقت حمىً قد عظّم الله قدره

وأجريت طيباً يحسد الطيب نشره

لقد جئت ما تستعظم الصّيد أمره وتفديه إن يقبل خليفتها فدا

رعى الله منها دعوةً مستجابة

أفادت نفوس المخلصين إنابةً

ولم تلف من دون القبول حجابة

وعاذرها لم يبد عذراً مهابة فأوجب عن نقص كمالاً تزيّدا

فنقص كمال (1) المال وفر نصابه

وما السيف إلاّ بعد مشق ذبابه

وما الزّهر إلاّ بعد شقّ إهابه

بقطع يراع الخطّ حسن كتابه وبالقص يزداد الذبال توقدا

ولما قضوا عن سنة الشرع واجبا

ولم نلق من دون الخلافة حاجبا

أفضنا نهنّي منك جذلان واهبا

أفاض علينا أنعماً ومواهبا تعوّد بذل الجود فيما تعوّدا

هنيئاً هنيئاً قد بلغت مؤمّلا

وأطلعت نوراً يبهر المتأملا

(1) الأزهار: زكاة.

ص: 200

وأحرزت أجر المنعمين مكمّلا

تبارك من أعطى جزيلاً وأجملا وبلّغ فيك الدين والملك مقصدا

ألا في سبيل العزّ والفخر موسم

يظل به ثغر المسرّة يبسم

وعرف الرضى من جوّه يتنسّم

وأرزاق أرباب السعادة تقسم ففي وصفه ذهن الذكيّ تبلّدا

وجلّلت في هذا الصنيع مصانعا

تمنى بدور التمّ منها مطالعا

وأبديت فيها للجمال بدائعا

وأجريت للإحسان فيها مشارعا يود بها نهر المجرّة موردا

وأجريت فيها الخيل وهي سوابق

وإن طلبت في الروع فهي لواحق

نجومٌ وآفاق الطّراد مشارق

يفوت التماح الطّرف منها بوارق إذا ما تجاري الشهب تستبق المدى

وتطلع في ليل القتام كواكبا

وقد وردت نهر النهار مشاربا

تقود إلى الأعداء منها كواكبا

فترسم من فوق التراب محاربا تحور رؤوس الروم فيهنّ سجدّا

سوابح بالنصر العزيز سوانح

وهنّ لأبواب الفتوح فواتح

تقود إليك النصر والله مانح

فما زلت باب الخير والله فاتح وما تمّ شيء (1) قد عدا بعد ما بدا

رياح لها مثنى البروق أعنّة

ظباء فإن جنّ الظلام فجنّة

تقيها من البدر المتمّم جنّة

وتشرع من زهر النجوم أسنّة فتقذف شهب الرّجم في أثغر العدا

(1) ق: حق.

ص: 201

فأشهب من نسل الوجيه إذا انتمى

جرى فشأى شهب الكواكب في السما

وخلف منها في المقلّد أنجما

تردّى جمالاً بالصباح وربما يقول له الإصباح: نفسي لك الفدا

وأحمر قد أذكى به البأس جمرة

وقد سلب الياقوت والورد حمرة

أدار به ساق من الحرب خمرة

وأبدى حباباً فوقها الحسن غرّة يزين بها خدّاً أسيلاً مورّدا

وأشقر مهما شعشع الركض برقه

أعار جواد البرق في الأفق سبقه

بدا شفقاً قد جلّل الحسن أفقه

ألم تر أنّ الله أبدع خلقه فسال على أعطافه الحسن عسجدا

وأصفر قد ودّ الأصيل جماله

وقد قدّ من برد العشيّ جلاله

إذا أسرجوا جنح الظلام ذباله

فغرّته شمس (1) تضيء مجاله وفي ذيله ذيل الظلام قد ارتدى

وأدهم في مسح الدجى متجرد

يجيش بها بحر من اللّيل مزبد

وغرّته نجم به تتوقّد

له البدر سرج والنجوم مقلّد وفي فلق الصبح المبين تقيّدا

وأبيض (2) كالقرطاس لاح صباحه

على الحسن مغداه وفيه مراحه

وللظّبيات الآنسات مراحه

تراه كنشوانٍ أمالته راحه وتحسبه وسط الجمال معربدا

(1) ق: نجم.

(2)

ق: وأشهب.

ص: 202

وذاهبة في الجوّ ملء عنانها

وقد لفعتها السحب برد عنانها

يفوت ارتداد الطّرف لمح عيانها

وختّمت الجوزاء سبط بنانها وصاغت لها حلي النجوم مقيّدا

أراها عمود الصبح علو المصاعد

وأوهمها قرب المدى المتباعد

ففاتته سبقاً في مجال الرواعد

وأتحفت الكفّ الخضيب بساعد فطوقت الزّهر النجوم بها يدا

وقد قذفتها للعصيّ حواصب

قد انتشرت في الجوّ منها ذوائب

تزاور منها في الفضاء حبائب

فبينهما من قبل ذاك مناسب لأنهما في الروض قببل تولّتدا

بنات لأمّ قد حبين لروحها

دعاها الهوى من بعد كتم لبوحها

فأقلامها تهوي لخطّ بلوحها

فبالأمس كانت بعض أغصان دوحها فعادت إليها اليوم من بعد عوّدا

ويا ربّ حصن في ذراها قد اعتلى

أنارت بروج الأفق في مظهر العلا

بروج قصور شدتها متطولا

فأنشأت برجاً صاعداً متنزلا يكون رسولاً بينها مترددا

وهل هي إلاّ هالةٌ حول بدرها

يصوغ لها حلياً يليق بنحرها

تطوّر أنواعاً تشيد بفخرها

فحجلٌ برجليها وشاح بخصرها وتاج بأعلى رأسها قد تنضدا (1)

(1) شبيه بقوله في القصيدة السابقة:

فحجل برجليها وشاح بخصرها

وتاج إلى ما حل منها الأعاليا

ص: 203

أراد استراق السمع وهو ممنّع

فقام بأذيال الدجى يتلفّع

وأصغى لأخبار السما يتسمّع

فأتبعه منها ذوابل شرّع لتقذفه بالرّعب مثنى وموحدا

وما هو إلاّ قائمٌ مدّ كفّه

ليسأل من ربّ السموات لطفه

لمولىً تولاه وأحكم رصفه

وكلّف أرباب البلاغة وصفه وأكرم منه القانت المتهجدا

ملاقي ركبٍ من وفود النواسم

مقبّل ثغر للبروق البواسم

مختّم كفّ بالنّجوم العواتم

مبلّغ قصد من حضور المواسم تجدده مهما صنيع تجدّدا

ومضطرب في الجوّ أثبت قامةً

تقدم يمشي في الهواء كرامةً

تطلّع في غصن الرشاء كمامةً

وتحسبه تحت الغمام غمامةً يسيل على أعطافها عرق النّدى

هوى واستوى في حالة وتقلّبا

كخاطف برق قد تألّق خلّبا

وتحسبه قد دار في الأفق كوكبا

ومهما مشى واستوقف العقل معجبا تقلّب فيه العين لحظاً مرددا

لقد رام يرقى للسماء بسلّم

فيمشي على خطّ به متوهم

أجل في الذي يبديه فكر توسّم

ترى طائراً قد حلّ صورة آدمي وجنّاً بمهواة الفضاء تمرّدا

ومنتسب للخال سمّوه ملجما

له حكمات حكمها فاه ألجما

تخالف جنساً والداه إذا انتمى

كما جنسه أيضاً تخالف عنهما عجبت له إذ لم يلد وتولّدا

ص: 204

ثلاثتها في الذكر جاءت مبينّة

من اللاء سمّاها لنا الله زينة

وأنزل فيها آيةً مستبينة

وأودع فيها للجهول سكينة وآلاءه فيها على الخلق بدّدا

كسوه من الوشي اليمانيّ هودجا

يمدّ على ما فوقه الظلّ سجسجا

وكم صورة تجلى به تبهر الحجى

وجزل وقود ناره تصدع الدجى وقلب حسود غاظ مذكيه موقدا

وما هي إلاّ مظهر لجهاده

أرتنا بها الأفراح فضل اجتهاده

ملاعبها هزّت قدود صعاده

وأذكرت الأبطال يوم طراده فما ارتبت فيه اليوم صدّقته غدا

ألا جدّد الرحمن صنعاً حضرته

ودوح الأماني في ذراه هصرته

بقصر طويل الوصف فيه اختصرته

يقيّد طرف الطرف مهما نظرته " ومن وجد الإحسان قيداً تقيّدا "(1)

دعوت له الأشراف من كلّ بلدة

فجاءوا بآمال لهم مستجدّة

وخصّوا بألطاف لديه معدّة

أيادٍ بفيّاض الندى مستمدّة فكلّهم من فضله قد تزوّدا

وجاءتك من آل النبيّ عصابةٌ

لها في مرامي المكرمات إصابة

أحبّتك حبّاً ليس فيه استرابة

ولبّت دواعي الفوز منها إجابة وناداهم التخصيص فابتدروا الندا

أجازوا إليك البحر والبحر يزخر

لبحر سماحٍ مدّه ليس يجزر

(1) عجز بيت للمتنبي، وصدره

" وقيدت نفسي في ذراك محبة "

ص: 205

فروّاهم من عذب جودك كوثر

وواليت من نعماك ما ليس يحصر وعظمتهم ترجو النبيّ محمّدا

عليه صلاة الله ثمّ سلامه

به طاب من هذا النظام اختتامه

وجاء بحمد الله حلواً كلامه

يعزّ على أهل البيان رمامه وتمسي له زهر الكواكب حسّدا

أبثّ به حادي الركاب مشرّقا

حديث جهاد للنفوس مشوّقا

رميت به من بالعراق مفوّقا

وأرسلت منه بالبديع مطوّقا حماماً على دوح الثناء مغرّدا

ركضت به خيل البيان إلى مدى

فأحرزت خصل السبق في حلبة الهدى (1)

ونظمت من نظم الدراري مقلّدا

وطوقت جيد الفخر عقداً منضّدا وقمت به بين السماطين منشدا

نسقت من الإحسان فيه فرائدا

وأرسلت في روض المحاسن رائدا

وقلدت عطف الملك منه قلائدا

تعوّدت فيه للقبول عوائدا فلا زلت للفعل الجميل (2) معوّدا

ولا زلت للصنع الجميل مجدّدا

ولا زلت للفخر العظيم مخلّدا

وعمّرت عمراً لا يزال مجدّدا

وعمّرت بالأبناء أوحد أوحدا وقرّت بهم عيناك ما سائق حدا

وقال في عيد:

بشرى كما وضح الزمان وأجمل

يغشى سناها كلّ من يتهلّل

(1) ق: المدى.

(2)

الأزهار: للفضل الجزيل.

ص: 206

أبدى لها وجه النهار طلاقةً

وافترّ من ثغر الأقاح مقبّل

ومنابر الإسلام يا ملك الورى (1)

بحلاك أو بحليّها تتكلّل

تجلو لنا الأكوان منك محاسناً

تُروى على مرّ الزمان وتنقل

فالشمس تأخذ من جبينك نورها

والبشر منك بوجهها يتهلّل

والروض ينفح من ثنائك طيبه

والورق فيه بالممادح تهدل

والبرق سيف من سيوفك منتضى

والسّحب تهمي من يديك وتهمل

يا أيها الملك الذي أوصافه

درّ على جيد الزمان يفصّل

" الله أعطاك التي لا فوقها "(2)

وحباك بالفضل الذي لا يجهل

وجه كما حسر الصباح نقابه

لضيائه تعشو البدور الكمّل

تلقاه في يوم السماحة والوغى

والبشر في جنباته يتهلّل

كفّ أبت أن لا تكفّ عن النّدى

أبداً فإن ضنّ الحيا تسترسل

وشمائل كالروض باكره الحيا

وسرت بريّاه الصّبا والشّمأل

خلق ابن نصر في الجمال كخلقه

ما بعدها من غاية تستكمل

نور على نور بأبهى منظر

في حسنه لمؤمّل ما يأمل

فاق الملوك بسيفه وبسيبه (3)

فبعدله وبفضله يتمثّل

وإذا تطاول للعميد عميدهم

فله عليه تطاول وتطوّل

يا آية الله التي أنوارها

يهدى بها قصد الرشاد الضّلّل

قل للذي التبست معالم رشده

هيهات قد وضح الطريق الأمثل

قد ناصح الإسلام خير خليفة

وحمى عزيز الملك أغلب مشبل (4)

فلقد ظهرت من الكمال بمستوى

ما بعده لذوي الخلافة مأمل

(1) هذه رواية الأزهار؛ وفي ق: بالملك العلي.

(2)

من رجز وتمامه:

وقد أراد المشركون عوقها

عنك ويأبى الله إلا سوقها (3) ق: بسبقه وبسيفه.

(4)

ق: مشمل.

ص: 207

وعناية الله اشتملت رداءها

وعلقت منها عروة لا تفصّل

فالجود إلاّ من يديك مقتّرٌ

والغيث إلاّ من نداك مبخّل

والعمر إلاّ تحت ظلك ضائع

والعيش إلاّ في جنابك ممحل

حيث الجهاد قد اعتلت راياته

حيث المغانم للعفاة تنفّل

حيث القباب الحمر ترفع للقرى

قد عام (1) في أرجائهنّ المندل

يا حجّة الله التي برهانها

عزّ المحقّ به وذلّ المبطل

قل للذي ناواك يرقب (2) يومه

فوراءه ملك يقول ويفعل

والله جل جلاله إن أمهلت

أحكامه مستدرجاً لا تهمل

يا ناصر الإسلام وهو فريسة

أسد الفلا (3) من حولها تتسلّل

يا فخر أندلس وعصمة أهلها

لك فيهم النعمى التي لا تجهل

لا يهمل الله الذين رعيتهم

فلأنت أكفى والعناية أكفل

لا يبعد النصر العزيز فإنّه

آوى إليك وأنت نعم الموئل

لولا نداك لها لما نفع الندى

ولجفّ من ورد الصنائع منهل

لولاك كان الدين يغمط حقّه

ولكان دين النصر فيه يمطل

لكن جنيت الفتح من شجر القنا

وجنى الفتوح لمن عداك مؤمّل (4)

ولقبل ما استفتحت كلّ ممنّعٍ

من دونه باب المطامع مقفل

ومتى نزلت بمعقل متأشّب

فالعصم من شعفاته تستنزل

وإذا غزوت فإنّ سعدك ضامن

أن لا تخيب وأنّ قصدك يكمل

فمن السعود أمام جيشك موكب

ومن الملائك دون جندك جحفل

(1) الأزهار: قام.

(2)

ق: يرفع.

(3)

الأزهار: العدا. ق: العلى.

(4)

الأزهار: معلل.

ص: 208

وكتيبة أردفتها بكتيبة

والخيل تمرح في الحديد وترفل

من كلّ منحفز كلمعة بارق

بالبدر يسرج والأهلّة ينعل

أوفى بهاد كالظليم وخلفه

كفلٌ كما ماج الكثيب الأهيل

حيّ إذا ملك الكميّ عنانة

يهوي كما يهوي بجوّ أجدل

حملت أسود كريهة يوم الوغى

ما غابها إلاّ الوشيج الذّبّل

لبسوا الدروع غدائراً مصقولة

والسّمر قضب فوقها تتهدّل

من كلّ معتدل القوام مثقّف

لكنه دون الضريبة يعسل

أذكيت فيه شعلة من نصله

يهدى بها إن ضلّ عنه المقتل

ولربّ لمّاع الصقال مشهّر

ماض، ولكن فعله مستقبل

رقّق مضاربه وراق فرنده

فالحسن فيه مجمل ومفصّل

فإذا الحروب تسعرت أجزالها

ينساب في يمناك منها جدول

وإذا دجا ليل القتام رأيته

وكأنّه فيه ذبالٌ مشعل

فاعجب لها من جذوة لا تنطفي

في أبحر زخرت وهنّ الأنمل

هي سنّة أحييتها وفريضة

أدّيتها قرباتها تتقبّل

فإذا الملوك تفاخرت بجدودها (1)

فلأنت أحفى بالجهاد وأحفل

يا ابن الإمام ابن الإما

م ابن الإمام وقدرها لا يجهل

يا ابن الذين جمالهم ونوالهم

شمس الضحى والعارض المتهلّل

آباؤك الأنصار تلك شعارهم

فلحيّهم آوى النبيّ المرسل

فهم الألى نصروا الهدى بعزائم

مصقولة وبصائر لا تخذل

ماذا يحبّر شاعر في مدحهم

وبفضلهم أثنى الكتاب المنزل

مولاي لا أحصي مآثرك التي

بحديثها تنضى (2) المطيّ الذّلّل

(1) الأزهار: بحدودها.

(2)

الأزهار: تمضي.

ص: 209

وإذا الحقائق ليس يدرك كنهها

سيّان فيها مكثر ومقلّل

فإليك من شوّال غرّة وجهه

أهداكها يوم أغر محجّل

عذراء راق العيد رونق حسنها

فغدا بنظم حليّها يتجمّل

رضعت لبان العلم في حجر النّهى

فوفت لها منه ضروع حفّل

سلك البيان بها سبيل إجادة

لولا صفاتك كان عنها يعدل

جاءت تهني العيد أيمن قادم

وافى بشهر صيامه يتوسّل

وطوى الشهور مراحلاً معدودة

كيما يرى بفناء جودك ينزل

وأتى وقد شفّ النحول هلاله

ولشوقه للقاء وجهك ينحل

عقدت بمرقبه العيون مسرّةً

فمكبّر لطلوعه ومهلّل

فاسلم لألف مثله في غبطة

ظلّ المنى من فوقه يتهدّل

فإذا بقيت لنا فكلّ سعادة

في الدين والدنيا بها تتكفّل وقال ابن الأحمر: ومن جياد أناشيده المتميزة بالسبقية، وبارقات تهانيه في المواسم العقيقية، قوله يهنئه - رضوان الله تعالى عليه - بطلوع مولانا الوالد قدّس الله تعالى روحه (1) :

طلع الهلال وأفقه متهلل

فمكبّر لطلوعه ومهلّل

أوفى على وجه الصباح بغرّة

فغدا الصباح بنوره (2) يتجمّل

شمس الخلافة قد أمدّت نوره

وبسعدها يرجو التمام ويكمل

لله منه هلال سعد طالع

لضيائه تعشو البدور الكمّل

وألحت يا شمس الهداية كوكباً

يعشي سناه كلّ من يتأمّل

والتاج تاج البدر في أفق العلا

ما زال بالزهر النجوم يكلّل

(1) لتشابه القصيدتين تشابه كثير من الأبيات.

(2)

الأزهار: بنورها.

ص: 210

ولئن حوى كلّ الجمال فإنه

بالشّهب أبهى ما يكون وأجمل

أطلعت يا بدر السماح هلاله

والملك أفقٌ والخلافة منزل

يبدو بهالات السروج وإنّه

من نور وجهك في العلا يستكمل

قلّدت عطف الملك منه صارماً

بغنائه ومضائه يتمثّل

حلّيته بحلى الكمال وجوهر ال

خلق النفيس وكلّ خلق يجمل

يغزو أمامك والسعود أمامه

وملائك السبع العلا تتنزّل

من مبلغ الأنصار منه بشارة

غرّ البشائر بعدها تسترسل

أحيا جهادهم وجدّد فخرهم

بعد المئين فملكهم يتأثّل

فبه إلى الأجر الجزيل توصلوا

وبهم إلى ربّ السما يتوسّل

من مبلغ الأذواء من بمن وهم

قد توّجوا وتملّكوا وتقيلّوا

أنّ الخلافة في بنيهم أطلعت

قمراً به سعد الخليفة يكمل

من مبلغ قحطان آساد الشرى

ما غابها إلاّ الوشيج الذّبّل

أنّ الخلافة وهو شبل ليوثهم

قد حاط منها الدين ليث مشبل

يهني بني الأنصار أنّ إمامهم (1)

قد بلغته سعوده ما يأمل

يهني البنود فإنها ستظلّه

وجناح جبريل الأمين يظلّل

يهني الجياد الصافنات فإنها

بفتوحه تحت الفوارس تهدل

يهني المذاكي والعوالي والظّبى

فبها إلى نيل المنى يتوصّل (2)

يهني المعالي والمفاخر أنّه

في مرتقى أوج العلا يتوقّل

سبقت مقدّمة الفتوح قدومه

وأتاك وهو الوادع المتمهّل

وبدت نجوم السعد قبل طلوعه

تجلو المطامع قبله وتؤثّل (3)

(1) الأزهار: مليكهم.

(2)

ق: يتوسل.

(3)

الأزهار: لا تأفل.

ص: 211

وروت أحاديث الفتوح غرائباً

والنصر يملي والبشائر تنقل

ألقت إليك به السعود زمامها

فالسعد يمضي ما تقول ويفعل

فالفتح بين معجّل ومؤجّل

ينسيك ماضيه الذي يستقبل

أوليس في شأن (1) المشير دلالة

أنّ المقاصد من طلابك تكمل

ناداهم داعي الضلال فأقبلوا

ودعاهم داعي المنون فجدّلوا

عصوا الرسول إبايةً وتحكمت

فيهم سيوفك بعدها فاستمثلوا

كانوا جبالاً قد علت هضباتها

نسفتهم ريح الجلاد (2) فزلزلوا

كانوا بحاراً من حديد زاخر

أذكتهم نار الوغى فتسيّلوا (3)

ركبت أرجلها الأداهم كلما

يتحرّكون إلى قيام تصهل

كان الحديد لباسهم وشعارهم

واليوم لم تلبسه إلاّ الأرجل

الله أعطاك التي لا فوقها

فتحاً به دين الهدى يتأثل

جدّدت للأنصار حلي جهادها

فالدين والدنيا به تتجمّل

من يتحف البيت العتيق وزمزماً

والوفد وفد الله فيه ينزل

متسابقين إلى مثابة رحمة

من كلّ ما حدب إليه تنسل

هيماً كأفواج القطا قد ساقها

ظمأ شديد والمطاف المنهل

من كل مرفوع الأكفّ شراعة

والقلب يخفق والمدامع تهمل

حتى إذا روت الحديث مسلسلاً

بيض الصوارم والرماح العسّل

من فتحك الأسنى عن الجيش الذي

بثباته أهل الوغى تتمثّل

أهدتهم السرّاء نصرة دينهم

واستبشروا بحديثها وتهلّلوا

وتناقلوا عنك الحديث مسرّة

بسماعه واهتزّ ذاك المحفل

ودعوا بنصرك وهو أعظم مفخراً

إنّ الحجيج بنصر ملكك يحفل

(1) ق: ثاني.

(2)

ق: فنفتهم

الضلال.

(3)

ق: فتبسلوا.

ص: 212

فاهنأ بملكك واعتمد شكراً به

لطف الإله وصنعه تتخوّل

شرفت منه باسم والدك الرضى

يحيا به منه الكريم المفضل

أبديت من حسن الصنيع عجائباً

تروى على مرّ الزمان وتنقل

خفقت به أعلامك الحمر التي

بخفوقها النصر العزيز موكل

هدرت طبول العزّ تحت ظلالها

عنوان فتح إثرها يستعجل

ودعوت أشراف البلاد وكلّهم

يثني الجميل وصنع جودك أجمل

وردوا ورود الهيم أجهدها الظما

فصفا لهم من ورد كفّك منهل

وأثرت فيه للطراد فوارساً

مثل الشموس وجوههم تتهلّل

من كلّ وضّاح الجبين كأنّه

نجم وجنح النقع ليل مسبل

يرد الطراد على أغرّ محجّل

في سرجه بطلٌ أغرّ محجّل

قد عوّدوا قنص الكماة كأنما

عقبانها ينقض منها أجدل

يستتبعون هوادجاً موشيّةً

من كلّ بدع فوق ما يتخيّل (1)

قد صوّرت منها غرائب جمّة

تنسي عقول الناظرين وتذهل

وتضمنت جزل الوقود حمولها

والنصر في التحقيق ما هي تحمل

والعاديات إذا تلت فرسانها

آي القتال صفوفها تترتّل

لله خيلك؛ إنها لسوابح

بحر القتام وموجه متهيّل

من كل برقٍ بالثريا ملجمٍ

بالبدر يسرج والأهلّة ينعل

أوفى بهادٍ كالظليم وخلفه

كفل كما ماج الكثيب الأهيل

هنّ البوارق غير أنّ جيادها

عن سبق خيلك يا مؤيد تنكل

من أشهب كالصبح يعلو سرجه

صبح به نجم الضلالة يأفل

أو أدهم كالليل قلّد شهبه

خاض الصباح فأثبتته الأرجل

(1) ق: يتحمل.

ص: 213

أو أشقر سال النّضار بعطفه

وكساه صبغة بهجة لا تنصل

أو أحمر كالجمر أضمر بأسه

بالركض في يوم الحفيظة يشعل

كالخمر أترع كأسها لندامها

وبها حبابة غرّة تتسيّل

أو أصفر لبس العشيّ ملاءة

وبذيله لليل ذيل مسبل

أجملت في هذا الصنيع عوائداً

الجود فيها مجمل ومفصّل

أنشأت فيها من نداك غمائماً

بالفضل تنشأ والسّماحة تهمل

فجّرت من كفّيك عشرة أبحر

تزجي سحاب الجود وهي الأنمل

من قاس كفّك بالغمام فإنّه

جهل القياس ومثلها لا يجهل

تسخو الغمام ووجهها متجهم

والوجه منه مع النّدى يتهلّل

والسّحبُ تسمح بالمياه وجوده

ذهب به أهل الغنى تتموّل

من قاس بالشمس المنيرة وجهه

ألفيته في حكمه لا يعدل (1)

من أين للشمس المنيرة منطق

ببيانه درّ الكلام يفصّل

من أين للشمس المنيرة راحة

تسخو إذا بخل الزمان الممحل

من قاس بالبدر المنير كماله

فالبدر ينقص والخليفة يكمل

من أين للبدر المنير شمائل

تسري بريّاها الصّبا والشّمأل

من أين للبدر المنير مناقب

بجهادها تنضى المطيّ الذّلّل

يا من إذا نفحت نواسم حمده

فالمسك يعبق طيبه والمندل

يا من إذا لمحت محاسن وجهه

تعشو العيون ويبهر المتأمّل

يا من إذا تليت مفاخر قومه

آي الكتاب بذكرها تتنزّل

كفل الخلافة منك يا ملك العلا

والله جل جلاله لك أكفل

مأمونها وأمينها ورشيدها

منصورها مهديّها المتوكّل

(1) سقط البيت من ق.

ص: 214

حسب الخلافة أن تكون وليّها

ومجيرها من كلّ من يتحيّل

حسب الزمان بأن تكون إمامه

فله بذلك عزّة لا تهمل

حسب الملوك بأن تكون عميدها

ترجو الندى من راحتيك وتأمل

حسب المعالي أن تكون إمامها

فعليك أطناب المفاخر تسدل

يا حجّة الله التي برهانها

عزّ المحقّ به وذلّ المبطل

أنت الإمام ابن الإمام ابن الإما

م ابن الإمام، وفخرها لا يعدل

علّمت حتى لم تدع من جاهل

أعطيت حتى لم تدع من يسأل

وعناية الله اشتملت رداءها

وعلقت منها عروة لا تفصل ومنها (1) :

أخذت قلوب الكافرين مهابة

فعقولهم من خوفها لا تعقل

حسبوا البروق صوارماً مسلولة

أرواحهم من بأسها تتسلّل

وترى النجوم مناصلاً مرهوبة

فيفر منها الخائف المتنصل

يا ابن الألى إجمالهم وجمالهم

شمس الضحى والعارض المتهلّل

مولاي لا أحصي مآثرك التي

بجهادها يتوصّل المتوسّل

أصبحت في ظل امتداحك ساجعاً

ظلّ (2) المنى من فوقه يتهدّل

طوّقته طوق الحمائم أنعماً

فغدا بشكرك في المحافل يهدل

فإليك من صون العقول عقيلة

أهداكها صنع أغرّ محجّل

عذراء راق الصنع رونق حسنها

فغدا بنظم حليّها يتكلّل

خيرتها بين المنى فوجدتها

أقصى مناها أنها تتقبّل

(1) قال في أزهار الرياض (2: 121) بعد هذا البيت: اتصل بهذا البيت جملة من القصيدة المترجمة في العيديات التي أولها " بشرى كما وضح الصباح وأجمل " وحذفناها من هذه اقتصاراً للتكرار.

(2)

الأزهار: طل.

ص: 215

لا زلت شمساً في سماء خلافة

وهلالك الأسمى يتمّ ويكمل قال: ومن رقيق منازعه في بعض نزه مولانا رضوان الله عليه بالقصر السلطاني من شنيل قوله:

نفسي الفداء لشادن مهما خطر

فالقلب من سهم الجفون على خطر

فضح الغزالة والأقاحة والقنا

مهما تثنّى أو تبسّم أو نظر

عجباً لليل ذوائب من شعره

والوجه يسفر عن (1) صباح قد سفر

عجباً لعقد الثغر منه منظّماً

والعقد من دمعي عليه قد انتثر

ما رمت أن أجني الأقاح بثغره

إلاّ وقد سلّ السيوف من الحور

لم أنسه ليل ارتقاب هلاله

والقلب من شك الظهور على غرر

بتنا نراقبه بأوّل ليلة

فإذا به قد لاح في نصف الشهر

طالعته في روضة كخلاله

والطيب من هذي وتلك قد اشتهر

وكلاهما يبدي محاسن جمّة

ملء التنسم (2) والمسامع والبصر

والكأس تطلع شمسها في خدّه

فتكاد تعشي بالأشعة والنظر

نورية كجبينه، وكلاهما

يجلو ظلام الليل بالوجه الأغرّ

هي نسخة (3) للشيخ فيها نسبة

ما إن يزالا يرعشان من الكبر

أفرغت في جسم الزجاجة روحها

فرأيت روح الأنس منها قد بهر

لا تسق غير الروض فضلة كأسها

فالغصن في ذيل الأزاهر قد عثر

ما هبّ خفّاق النسيم مع السّحر

إلاّ وقد شاق النفوس وقد سحر

ناجى القلوب الخافقات كمثله (4)

ووشى بما تخفي الكمام من الزهر

(1) الأزهار: والوجه منه عن.

(2)

الأزهار: المشامم.

(3)

كذا في ق؛ وفي الأزهار: شيمة، وكلتا اللفظتين قاصرة الدلالة.

(4)

ق: لمثله، والمعنى: أن القلوب خافقات كمثل خفق النسيم المذكور في البيت السابق.

ص: 216

وروى عن الضحاك عن زهر الربى

ما أسند الزهريّ عنه عن مطر

وتحمّلت عنه حديث صحيحه

رسل النسيم وصدّق الخبر الخبر

يا قصر شنيل وربعك آهلٌ

والروض منك على الجمال قد اقتصر

لله بحرك والصّبا قد سرّدت

منه دروعاً تحت أعلام الشجر

والآس حفّ عذاره من حوله

عن كل من يهوى العذار قد اعتذر (1)

قبّل بثغر الزهر كفّ خليفة

يغنيك صوب الجود منه عن المطر

وافرش خدود الورد تحت نعاله

واجعل بها لون المضاعف عن خفر

وانظم غناء الطير فيه مدائحاً

وانثر من الزهر الدراهم والدرر

المنتقى من جوهر الشرف الذي

في مدحه قد أنزلت آي السور

والمجتبى من عنصر النور الذي

في مطلع الهدي المقدّس قد ظهر

ذو سطوة مهما كفى، ذو رحمة

مهما عفا، ذو عفّة مهما قدر

كم سائل للدهر أقسم قائلاً:

والله ما أيامه إلاّ غرر

مولاي سعدك كالمهنّد في الوغى

لم يبق من رسم الضلال ولم يذر

مولاي وجهك والصباح تشابها

وكلاهما في الخافقين قد اشتهر

إنّ الملوك كواكب أخفيتها

وطلعت وحدك (2) في مظاهرها قمر

في كل يوم من زمانك موسمٌ

في طيّه للخلق أعياد كبر

فاستقبل الأيام يندى روضها

ويرف والنصر العزيز له ثمر

قد ذهّبت منها العشايا ضعف ما

قد فضضت منها المحاسن في السّحر

يا ابن الذين إذا تعدّ خلالهم

نفد الحساب وأعجزت منها القدر

إن أوردوا هيم السيوف غدائراً

مصقولة فلطالما حمدوا الصدر

سائل ببدر عنهم بدر الهدى

فبهم على حزب الضلال قد انتصر

(1) ق: اقتدر.

(2)

الأزهار: وجهك.

ص: 217

واسأل مواقفهم بكلّ مشهّرٍ

واقر المغازي في الصحيح وفي السير

تجد الثناء ببأسهم وبجودهم

في مصحف الوحي المنزّل مستطر

فبمثل هديك فلتنر شمس الضحى

وبمثل قومك فليفاخر من فخر

ماذا أقول وكلّ وصف معجز

والقول فيك مع الإطالة مختصر

تلك المناقب كالثواقب في العلا

من رامها بالحصر أدركه الحصر

إن غاب عبدك عن حماك فإنّه

بالقلب في تلك المشاهد قد حضر

فاذكره إنّ الذكر منك سعادة

وبها على كلّ الأنام قد افتخر

ورضاك عنه غاية ما بعدها

إلاّ رضى الله الذي ابتدع البشر

فاشكر صنيع الله فيك فإنّه

سبحانه ضمن المزيد لمن شكر

وعليك من روح الإله تحيّة

تهفو إليك مع الأصائل والبكر ثمّ قال: ومن أغراضه الوقتية - استرسالاً مع الطبع البديهي في الشكر عن ضروب من التحف التي يقتضيها التحفّي السلطاني بأولياء خدمته - نبذ متعددة فيما يظهر فيها، فمنها قوله:

يا خير من ملك الملوك بجوده

وبفضله قد أشبه الأملاكا

والله ما عرف الزمان وأهله

أمناً ويمناً دائماً لولاكا

وافيت أهلي بالرياض عشيّة

في روض جاهك تحت ظل ذراكا (1)

فوجدته قد طلّه صوب الندى

بسحائب تنهلّ من يمناكا

وسفائن مشحونة ألقى بها

بحر السماح يجيش من نعماكا

رطب من الطلع النضيد كأنها

قد نظّمت من حسنها أسلاكا

من كلّ ما كان النبيّ يحبّها

وأحبّها الأنصار من أولاكا

وبدائع التّحف التي قد أطلعت

مثل البدور أنارت الأحلاكا

(1) الأزهار: رضاكا.

ص: 218

نطفٌ من النور المبين تجسّمت

حتى حسبنا أنهنّ هداكا

يحلو على الأفواه طيب مذاقها

لولا التجسّد خلتهنّ ثناكا (1)

طافت بها النّشأ الصغار كأنّها

سرب القطا لمّا وردن نداكا

نجواهم مهما سمعت كلامهم

ونداؤهم: مولاي، أو مولاكا

بلّغت في الأبناء عبدك سؤله

لا زلت تبلغ في بنيك مناكا

يتدارسون من الدعاء صحائفاً

كيما يطيل الله في بقياكا

فبقيت شمساً في سماء خلافةٍ

وهم البدور أمدّهنّ سناكا ومنها وقد أهداه نعمة الله أطباقاً من حبّ الملوك (2) :

كتب الإله على العباد محبّة

لك كان فرض كتابها موقوتا

وأنا الذي شرّفته من بينهم

حتى جعلت له المحبّة قوتا

ما زلت تتحفه بكلّ ذخيرة

حتى لقد أتحفته الياقوتا

وإلى الملوك قد اعتزى من عزّه

فغدا له ياقوتها ممقوتا ومنها في مثل ذلك:

يا خير من ملك الملوك

أهديتني حبّ الملوك

فكأنّما ياقوتها

نظمت لنا نظم السلوك

إنّ الملوك إذا لجوا

فغياثهم أن أمّلوك

وكذا العفاة إذا شكوا

فغناهم أن يسألوك

فالله يقبل من دعا

لعلاك من أهل السلوك

لا زلت تطلع غرّة

كالشمس في وقت الدلوك

(1) الأزهار: سناكا.

(2)

ما يعرف في مصر باسم " حب العزيز ".

ص: 219

ومنها، وقد أهداه صيداً ممّا صاده أولاده:

يا خير من روث السماح عن الألى

نصروا الألى وتبوّأوا إيمانا

في كلّ يوم منك تحفة منعم

والى الجيمل وأجزل الإحسانا

قد أذكرت دار النعيم عبيده

وتضمنت من فضله رضوانا

تهدي مواليّ (1) الذين تفرّعوا

عن دوح فخرك في العلا أغصانا

لجلالك الأعلى قنيصاً أتعبوا

في صيده الأرواح والأبدانا

فتخصّني منه بأوفر قسمة

فسحت لعبدك في الرضى ميدانا

لله من مولىً كريم بالذي

تهدي الموالي يتحف العبدانا

تدعو بنيّ إلى الغنيّ بربّه

يا ربّنا أغن الذي أغنانا

وعليك من قدس الإله تحيّة

تهديك منه الرّوح والريحانا ومنها، وقد أهداه أصنافاً من الفواكه:

يا من له الوجه الجميل إذا بدا

فاقت محاسنه البدور كمالا

والمنتقى من جوهر الفخر الذي

فاق الخلائف عزّة وجمالا (2)

ما أبصرت عيناي مثل هديّة

أبدت لنا صنع الإله تعالى

فيها من التفاح كلّ عجيبة

تذكي بريّاها صباً وشمالا

تهدي لنا نهد الحبيب وخدّه

وتري من الورد الجنيّ مثالا

وبها من الأترجّ شمس أطلعت

من كلّ شطر للعيون هلالا

ويحفّها ورق يروق كانة

ورق النّضار وقد أجاد نبالا

لون (3) العشية ذهّبت صفحاتها

رقّت وراقت بهجةً وجمالا

(1) الأزهار: مواليك.

(2)

الأزهار: وجلالا.

(3)

ق: لولا.

ص: 220

وبها من النّقل الشهيّ مذكّر

عهداً تولّى ليته يتوالى

لله منها خضرة من حضرة

تغني العفاة وتحسب الآمالا

أذكرتني العهد القديم ومعهداً

كانت شموس الراح فيه تلالا

فأردت تجديد العهود وإنّما

كتب المشيب على عذاري لا لا

فأدرت من ذكراك كأس مدامة

وشربت من حبي لها جريالا

فبقيت شمساً في سماء خلافة

لا يستطيع لها الزمان زوالا ومنها يوم عاشوراء:

يا أيها المولى الذي بركاته

رفعت لواء للنّدى منشورا

لك راحة تزجي الغمام بأنمل

فجرّت منها بالنوال بحورا

واليوم موسم قربة وعبادة

وغداً، ظفرت بأجره، عاشورا

راعيت فيه سنّة نبويّة

تروي الثقات حديثه المشهورا

لا زلت عامك كلّه في غبطة

لقّيت منها نضرة وسرورا ومنها في بعض قطعة:

واليت ما أوليت يا بحر النّدى

ووحقّ جودك ما رأيت كهذه

فإذا يهزّ لها اللسان حسامه

فصفات فخرك قد قضت بنفاذه

علّمت فرسان الكلام نظامها

كتعلّم التلميذ من أستاذه

والبحر تمتار السحائب ماءه

فتجوده من غيثها برذاذه ومنها، وقد أهداه باكوراً:

يا وارث الأنصار وهي مزيّة

بفخارها أثنى الكتاب المنزل

أهديتني الباكور وهي بشارة

ببواكر الفتح الذي يستقبل

ص: 221

وولادة لهلال تمّ طالع

وجه الزمان بوجهه يتهلّل

هو أوّل الأنوار في أفق الهدى (1)

وترى الأهلّة بعده تسترسل

مولاي صدق الفال قد جرّبته

من لفظ عبدك، والعواقب أجمل ومنها في جفنة:

طعامك من دار النعيم بعثته

فشرّفته من حيث أدري ولا أدري

بهضبة نعمى قد سمونا لأوجها (2)

فصدنا بأعلاها الشهيّ من الطير

وقوراء قد درنا بهالة بدرها

كما دارت الزّهر النجوم على البدر

وقد حملت فوق الرؤوس لأنها

هديّة مولىً حلّ في مفرق الفخر

فما شئت من طعمٍ زكيّ مهنّإ

وما شئت من عرف ذكي ومن نشر

فلو أنها قد قدمت لخليفة

لأعظمها قدراً وبالغ في الشكر

وكم لك من نعمى عليّ عميمة

يقلّ لأدناها الجميل من الذكر

فلا زلت يا مولى الملوك مبلّغاً

أمانيّ ترجوها إلى سالف الدهر ومنها شكراً عن كتاب:

مولاي يوم الجمعه

سعوده مجتمعه

فانعم صباحاً واغتنم

أوقاته المجتمعه

وابشر بصنع عاجل

أعلامه مرتفعه

وانتظر الفتح الذي

يأتيك بالنصر معه

وبيضُه وسمره

إلى العداة مشرعه

واللطف مرجوٌ فرد

بفضل ربي مشرعه

(1) ق: الندى.

(2)

ق: لأجلها.

ص: 222

فاتحتني شرّفتني

برقعة مرفّعه

بل روضة ممطورة

أزهارها منوّعه

حديقة قد جدتها

بصوب جود مترعه

وراية منشورة

وآية مستبدعه (1)

كم حكم لطيفة

في طيّها مستودعه

عقيلة صورتها

من الجمال مبدعه

سقيتني من فضلها

بفضل كاس مترعه

فدم وأملاك الورى

على علاك مجمعه ومنها شكراً على خلعة:

يا بدر تمّ في سماء خلافة

حفّت نجوم السّعد هالة قصره

ألبست عبدك من ثيابك ملبساً

قد قصّرت عنه مدارك شكره

ورضاك عنه خير ما ألبسته

فلقد أشاد بجاهه وببرّه

ألبستني، أركبتني، شرّفتني

أهديتني ما لا أقوم بحصره

نظري لوجهك وهو أجمل نيّرٍ

يزري على شمس الزمان وبدره

أعلى وأعظم منّةً لا سيّما

وأنا المنعّم في الحضور ببشره

لا زلت مولىً للملوك مؤمّلاً

وحلاك (2) للإسلام مفخر دهره ومنها، وقد خلع - رضوان الله تعالى عليه - على رسول من أرساله:

أبحر سماح مدّ عشرة أبحر

تفيض غمام الجود وهي الأنامل

بكفّك غيث للبلاد وأهلها

يروّض محل الأرض، والعام ما حلُ

(1) سقط البيت والذي يليه من ق.

(2)

الأزهار: وعلاك.

ص: 223

لك الخير إن أصبحت بحر سماحة

يعم نداه فالمواهب ساحل

خلعت على هذا الرسول ملابساً

بها تتسنّى في علاك المآمل

وبلّغته آماله كيف شاءها

فبلّغت يا مولاي ما أنت آمل ومنها وقد مرض بعض أبنائه رحمة الله تعالى على الجميع، قوله سائلاً عن حاله:

أسائل بدر التمّ كيف هلاله

وأدعو له الرحمن جل جلاله

وأسأله تعجيل راحته التي

وسيلتنا فيها النبيّ وآله

ستبلغ فيه ما تؤمّل من منّى

ويرضيك يا بدر الكمال كماله وفي مثله:

أقول لبدر التمّ كيف هلالكا

نعمت صباحاً بالسعود (1) وآلكا

وبلّغت في النجل الكريم (2) سعادة

تقرّ بها عيناً وينعم بالكا

وخصصت بالبشرى من الله ربّنا

كما عمّ أقطار البلاد نوالكا ومن التورية باسم قائد ولاه على جماعة من الجند:

يا أيها المولى الذي أيامه

تهمي بسحب الجود من آلائه

أبشر لجيشك بالسعادة كلما

يغزو ونصر الله تحت لوائه وأنشده في ملبس اتخذه:

أمولاي يا ابن السابقين إلى العلا

ومن نصروا الدين الحنيفيّ أولا

غنيت بنور الله عن كلّ زينة

وألبست من رضوانه أشرف الحلى

وقارك زاد الملك عزّاً وهيبةً

وسوّغه من رحمة الله منهلا

(1) الأزهار: بالسرور.

(2)

الأزهار: السعيد.

ص: 224

ويا شمس هدي في سماء خلافة

وأبناؤه الزهر المنيرة تجتلى

تبارك من أبداك في كلّ مظهر

جميلاً جليلاً مستعاذاً مؤمّلا

فيخجل منك الشمس شمس هداية

ويحسد منك البدر بدراً مكمّلا

إذا أنت ألبست الزمان وآله

ملابس عزّ ليس يدركها البلى

وطوّقت أجياد الملوك أيادياً

وتوّجتهم بالفخر تاجاً مكلّلا

فما شئت فالبس فالمشاهد قائل:

تبارك ما أبهى وأسنى وأجملا

ألا كلّ من صلّى وضحّى ومن دعا

ومدّ يديه ضارعاً متوسّلا

وجودك شرط في حصول قبوله

وجودك أثرى كفّه فتنفّلا (1) وقال برسم ما يرسم على ثوب في بعض هدايا مولانا رحمه الله تعالى للسلطان أبي العباس:

أهدي أبا العبّاس

ملك الندى والباس

ثوب السماء لأنّه

بدر بدا للنّاس

فلق الصباح بوجهه

عوّذته بالنّاس

يكسو إماماً لم يزل

بحلى المحامد كاسي

فيا له من مرتد

ثوب التّقى لبّاس

أذياله من حمده

مسكيّة الأنفاس

وبطرزه مدح زرى

بالمدح في القرطاس

إن كنت في لون السما

ء بنسبة وقياس

فلأنت يا بدر العلا

شرّفتني بلباس

أنا منشدٌ " ما في وقو

فك ساعةً من باسِ " (2)

(1) الأزهار: متنفلا.

(2)

صدر بيت لأبي تمام، وعجزه " تقضي ذمام الأربع الأدراس ".

ص: 225

لترى رياضاً (1) أطلعت

زهراً على أجناس

أوراقها توريقها

بقضيبها الميّاس

ومن المديح مدامتي

ومن المحابر كاسي

فالله يمتع لابسي

بالبشر والإيناس وقال في مثل ذلك:

إنّ الإمام محمّدا

أهدى الخليفة أحمدا

للباسه ثوباً، وقد

لبس المحامد وارتدى

وعمامة الشفق (2) التي

من فوقها شمس الهدى

يا حسنها إذ أرسلت

من كفّه غيث النّدى

وكأنّ وشي رقومها

بالبرق طرّز عسجدا

وبطرزه لون السما

ء ووجهه قمر بدا

لله منه نيّر

حلّ المنازل أسعدا

مستنصر، أعلى له

فوق المنازل أسعدا ثمّ قال وأنشده وهو على جواد أدهم:

تجلّى لنا المولى الإمام محمّد

على أدهمٍ قد راق حسن أديمه

فأبصرت صبحاً فوق ليل وقد حكى

مقلّد ذاك الطّرف بعض نجومه وكتب له مع هدية زهر:

أمولاي تقبيلي ليمناك شاقني

ولا ينكر الظمآن شوقاً إلى البحر

ولمّا رأيت الدهر ماطلني بها

وشوّقني من حيث أدري ولا أدري

(1) ق: رياشاً.

(2)

الأزهار: التقوى.

ص: 226

بعثت لك الزّهر الجنيّ لعلّه

يقبّلها عني ثغور من الزهر وكتب إليه أيضاً متشوّقاً:

كتبت ودمعي بلّل الركب قطره

وأجرى به بين الخيام السواقيا

حنيناً لمولىً أتلف المال جوده

ولكنّه قد خلّد الفخر باقيا

وما عشت بعد البين إلاّ لأنّني

أرجّي بفضل الله منه التلاقيا وأنشده أيضاً وهو بحال تألم:

كأني بلطف الله قد عمّ خلقه

وعافى إمام المسلمين وقد شفى

وقاضي القضاء الحتم سجّل ختمه (1)

وخطّ على رسم الشفاء له " اكتفى " وله في مثل ذلك:

لك الخير يا مولاي أبشر بعصمة

عقدت مع الأيام في حفظها صلحا

وعافية في صحّة مستجدّة

تجدّد للدين السعادة والنّجحا

ووجه التهاني مشرق متهلل

وجوّ الأماني بعدما غام قد أضحى

وقد ظهرت للبرء منك علامة

علامتك العليا (2) تقول لنا " صحّا " وفي مثل ذلك:

يا إماماً قد تخذنا

هـ من الدهر ملاذا

خطّ يمناك ينادي

صحّ هذا صحّ هذا وقال مهنئاً بالشفاء:

(1) الأزهار: حكمه.

(2)

الأزهار: العظمى.

ص: 227

الحمد لله بلغنا المنى

لمّا رأيناك، وزال العنا

وفزت بالأجر وكبت العدا

وفزت بالعزّ ويطب الثنا

فالحمد لله على ما به

منّ علينا من ظهور السنا وقال أيضاً في نحوه:

نعم قرّت العينان وانشرح الصدر

وقد لاح من وجه الإمام لنا البدر

سرينا بليل التيه يكذب فجره

فلمّا تجلّى فجره صدق الفجر

أغرّ المحيّا بالحياء مقنّعٌ

زهاه الكلام الحرّ والنسب الحرّ

إمام الهدى قد خصّه بخلافة

إله له في خلقه النهي والأمر وقال في مثله، وقد ركب رحمه الله تعالى لمعاهد حضرته:

هنيئاً هنيئاً لا نفاد لعدّه

وبشرى لدين الله إنجاز وعده

فقد لاح بدر التم في أفق العلا

وحلّ كما يرضى منازل سعده

وطاف أمير (1) المسلمين محمّد

بحضرته العليا مبلّغ قصده

ولاحت بها الأنوار من بشر وجهه

وفاح بها النوّار من نشر حمده

وأبصرت الأبصار شمس هداية

وأشرقت الأرجاء من زهر رفده

ولوّحت الأعلام فيها بنصره

كما لوّح الصبح المبين (2) ببنده

ستهدي له الأيام كلّ مسرّة

ويحيي به الرحمن آثار جدّه

فسلّ حسام السعد واضرب به العدا (3)

وخلّ حسام الهند في كنز (4) غمده

فسيفك سيف الله مهما سللته

يقيم حدود الله قائم حدّه

(1) الأزهار: إمام.

(2)

الأزهار: المنير.

(3)

الأزهار: واضرب بحده.

(4)

الأزهار: في كنّ.

ص: 228

وقال، وقد عاد رحمه الله تعالى من بعض متوجهاته الجهادية لجبل الشوار:

على الطائر الميمون والطالع السّعد

قدمت مع الصنع الجميل على وعد

وقد عدت من جبل الشوار لتجتلي

عقائل للفتح المبين بلا عدّ وقال ممّا رسم في طيقان (1) الأبواب بالمباني السعيدة التي ابتناها رحمه الله تعالى:

أنا تاج كهلال

أنا كرسيّ جمال

ينجلي الإبريق فيه

كعروس ذي اختيال

جود مولانا ابن نصر

قد حباني بالكمال وفي مثله:

من رأى التاج الرفيعا

قد حوى الشكر البديعا

تحسد الأفلاك منه

قوسه السهل المنيعا

دمت ربعاً للتّهاني

أنظم الشمل الجميعا وفيه:

للغني بالله قصر

للتهاني يصطفيه

فيه محراب صلاة

يقف الإبريق فيه

تالياً سورة حسنٍ (2)

والمعالي تقتفيه وفيه:

أي قوس ذي جمال (3)

سهمه سهم السعادة

(1) ق: طبقات.

(2)

الأزهار: حبي.

(3)

الأزهار: كمال.

ص: 229

ملك الإبريق فيه

عوّد الإحسان عاده

ذو صلاة من صلاة

كلّها دأباً معاده وقال في المعنى ممّا كتب به لعمنا الأمير سعد رحمة الله تعالى عليه:

انظر لأفق جمال

به الأباريق تصعد

حسن بديع حباه

به الأمير (1) الممجّد

فخر الإمارة سعد

به الخليفة يسعد

وكيف لا وأبوه

فخر الملوك محمد

عليه حلي رضاه

في كل يوم يجدّد وقال فيه أيضاً:

رفعت قوس سمائي

يزهى بتاج الهلال

قد قلدته نقوشي

در الدراري العوالي

ترى الأباريق فيه

تهديل عذب الزلال

قد زان قصري سعد

بسعده المتوالي

فدام يعمر ربعي

في كلء مولى الموالي وفي الغرض:

ما ترى في الرياض أشباهي

يسحر العقل حسني الزاهي

زان روضي أميره سعد

وهو نجل الغني بالله

دام منه بمرتقى عزّ

آمر بالسعود أو ناهي وقال في غرض الشكر عن مغطى (2) صنهاجي أهداه إياه:

(1) ق: الأمين.

(2)

يستدل من القطعة أن المغطى نوع من الصناديق.

ص: 230

لمن قبّة حمراء مدّ نضارها

تطابق منها أرضها وسماؤها

وما أرضها إلا خزائن رحمة

وما قد سما من فوق ذاك غطاؤها

وقد شبّه الرحمن خلقتنا به

وحسبك فخراً بان منه اعتلاؤها

ومعروشة الأرجاء مفروشة بها

صنوف من النعماء منها وطاؤها

ترى الطير في أجوافها قد تصففت

على نعم عند الإله كفاؤها

ونسبتها صنهاجة غير أنّها

تقصّر عمّا قد حوى خلفاؤها

حبتني بها دون العبيد خلافة

على الله في يوم الجزاء جزاؤها وفي مثله:

ما للعوالم جمعت في قبة

قد شادها كرم الإمام محمد

في صفح صرح بالزجاج مموّه

وبجود مولاي الإمام ممهّد

ما إن رأيت ولا سمعت كطائر (1)

عن ثوب موشيّ الرياش مجرّد

إن لم تكن تلك الطيور تغرّدت

فلشكر هذا العبد سجع مغرّد

صفّت عليها للفواكه كلّ ما

قد عاهدته بدوحها المتعوّد

لو أبصرت صنهاجة أوضاعه

دانت له أملاكها بتعبد

عوّدتني الصنع الجميل تفضّلاً

لا زلت خير معوّذ ومعوّد

وبسورة الأنعام كم من آية

فيها لقار بالنوال مجوّد وقال تذييلاً لبيتي ابن المعتز (2) :

سقتني في ليل شبيه بشعرها

شبيهة خديها بغير رقيب

" فأمسيت في ليلين للشّعر (3) والدجى

وشمسين من خمر وخدّ (4) حبيب "

(1) الأزهار: بطائر.

(2)

انظر أشعار أولاد الخلفاء: 179.

(3)

الصولي: فبت لذا الليلين بالشعر.

(4)

الصولي: وفجرين من راح ووجه.

ص: 231

إلى أن بدا الصبح المبين كأنّه

محيّا ابن نصر لم يشن بغروب

شمائله مهما أديرت كؤوسها

قلائد أسماع وأنس قلوب وقال مذيلاً على بيت ابن وكيع (1) :

هي في أوجه الندامى عقيق

وهي مثل النضار في الأقداح

كابن نصر تراه في الحرب ليثاً

وهو بدر الندى وغيث السماح

ذكره قد ثنى قدود الندامى

وأعاد الحياة في الأرواح (2) وقال ممّا يرسم للغني بالله:

للغني بالله ملك

برده بالعزّ مذهب

دام في رفعة شان

ما جلا الإصباح غيهب وقال أيضاً:

يا ابن نصر لك ملك

ليس تعدوه الفتوح

دمت روحاً للمعالي

ما سرى في الجسم روح ومن مقطوعاته:

وابن نصر له محيّا كصبح

إن تجلّى جلا لنا (3) كلّ كرب

ذو حسامٍ كأنّه لمع برق

في بنان كأنّها غيث سحب ومن أخرى:

وكأنّ النجوم في غسق اللي

ل جمان يلوح في آبنوس

(1) لم يرد في ديوانه المجموع.

(2)

الأزهار: الأشباح؛ وهي بمعنى الأجسام.

(3)

الأزهار: جلا دجى.

ص: 232

وكأنّ الصباح في الأفق يجلى

بحليّ النجوم مثل العروس

وكأنّ الرياض تهدي ثناء

للغنيّ بالله فوق الطروس وقال من قصيدة أولها:

أضياء هدي أم ضياء نهار

وشذا المحامد أم شذا الأزهار

قسماً بهديك في الضياء، وإنّه

شمس تمدّ الشهب بالأنوار (1) ومنها:

كم من لطائف للهدى أوضحتها

خفيت لطائفها (2) على الأفكار

كم من جرائم قد غفرت عظيمها

مستنزلاً من رحمة الغفّار

علمت ملوك الأرض أنّك فخرها

فتسابقت لرضاك في مضمار ومنها يصف الجيش:

سالت به تحت العجاج سفينة

لقحت بريح العز (3) من أنصار

أرست بجودي الجود في يوم الندى

وجرت بيوم الحرب في تيّار ومنها:

ألقى بأيدي الريح فضل عنانه

فيكاد يسبق لمحة الأبصار ومنها:

فهي العراب متى انبرت يوم الوغى (4)

قد أعربت عن لطف صنع الباري

(1) بين هذا البيت وسابقه في أزهار الرياض: ومنا بعد كثير.

(2)

الأزهار: مداركها.

(3)

الأزهار: العزم.

(4)

الأزهار: متى أثيرت في الوغى؛ ق: أثيرت يوم.

ص: 233

ومنها:

إن خاض في ليل العجاج (1) رأيته

يجلو دجنّته بوجه نهار ومنها:

كم فيهم من قار ضيف طارق

وضحت شواهد فضله للقار ومنها:

يا أيّها الملك الذي أيامه

غرر تلوح بأوجه الأعصار

قد زارك العيد السعيد مبشراً

فاسمح لألف منهم بمزار

لمّا ازدهته عواطف ألطفتها

عطف الإله عليك عطف سوار

فأتى يؤمم منك هدياً صالحاً

كي يستمدّ النور بعد سرار

وأتاك يسحب ذيل سحب أغدقت

تغري جفون المزن باستعبار

جادت بجاري الدمع من قطر الندى

فرعى الربيع لها حقوق الجار

فأعاد وجه الأرض طلقاً مشرقاً

متضاحكاً بمباسم النوّار

لمّا دعاك إلى القيام بسنّة

حكّمت داعي الجود والإيثار

فأفضت فينا من نداك مواهباً

حسنت مواقعها على التركار

فاهنأ بعيد عاد يشتمل الرضى

جذلان يرفل في حلى استبشار ومنها:

لا عذر لي إن كنت فيه مقصّراً

سدّت صفاتك أوجه الأعذار

فإذا نظمت من المناقب درّها

شرّفتني منها بنظم دراري

فلذاك أنظمها قلائد لؤلؤ

لألاؤها قد شفّ بالأنوار

(1) الأزهار: بحر العجاج.

ص: 234

وأنشد على لحده المقدّس رحمه الله تعالى (1) :

ضريح أمير المسلمين محمّد

يخصك ربي بالسلام المردّد

وحيّتك (2) من روح الإله تحيّة

مع الملإ الأعلى تروح وتغتدي

وشقّت جيوب الزهر فيك كمائم

يرف بها الريحان عن خضلٍ ندي

وصابت من الرحمى عليك غمائم

تروّي ثرى هذا الضريح المنجّد

وزارتك من حور الجنان أوانس

نواعم في كلّ النعيم المخلّد

وجاءتك بالبشرى ملائكة الرضى

كما جاء في الذكر الحكيم الممجّد

وصافح منك الروض أطيب تربة

وعاهد منك المزن أكرم معهد

رضى الله والصفح الجميل وعفوه

يوالي على ذاك الصفيح المنضّد

ويا صدفاً قد فاز من جوهر العلا

بكلّ (3) نفيس بالنفاسة مفرد

أعندك أنّ العلم والحلم والحجى

وزهر الحلى قد أدرجت طيّ ملحد

وهل أنت إلاّ هالة القمر الذي

بنور هداه الشهب تهدي وتهتدي

ويا عجباً من ذلك الترب كيف لا

يفيض ببحر للسماحة مزبد

لقد ضاقت الأكوان وهي رحيبة

بما حزت من فخر عظيم وسودد

قدمت على الرحمن أكرم مقدم

وزوّدت من رحماه خير مزوّد

أقام بك المولى الإمام محمّد

مؤمّل فوز بالشّفيع محمّد

فجاء كما ترضى وترضى به العلا

وأنجز للآمال أكرم موعد

ومد ظلال العدل في كل وجهة

وكف أكفّ البغي من كلّ معتد

وقام بمفروض الجهاد عن الورى

وعوّد دين الله خير معوّد

قضى بعدما قضّى الخلافة حقّها

وعامل وجه الله في كلّ مقصد

(1) انظر أزهار الرياض 2: 152.

(2)

الأزهار: وحياك.

(3)

الأزظهار: حاز

لكل.

ص: 235

وفتّح بالسيف الممالك عنوةً

ومدت له أملاكها كفّ مجتد

وكسّر تمثال الصليب وأخرست

نواقيس كانت للضلال بمرصد

وطهّر محراباً وجدّد منبراً

وأعلن ذكر الله في كلّ مسجد

ودانت له الأملاك شرقاً ومغرباً

وكلهم ألقى له الملك باليد

وطبّق معمور البسيطة ذكره

وسارت به الركبان في كل فدفد

وسافر عن دار الفناء ليجتلي

بما قدّم اليوم السعادة في غد

وقام بأمر الله حقّ قيامه

بعزمة لا وانٍ ولا متردّد

لئن سار للرحمن خير مودع

وحلّ من الفردوس أشرف مقعد

فقد خلّف المولى الخليفة يوسفاً

يعيد له غرّ المساعي ويبتدي

سبيلك في سبل المكارم يقتفي

وهديك يا خير الأئمة يقتدي

محمد جلّى الخطب من بعد يوسف

ويوسف جلّ الخطب بعد محمد

ولو وجد الناس الفداء مسوّغاً

فداك ببذل النفس كلّ موحّد

ستبكيك أرض كنت غيث بلادها

وتبكيك حتى الشهب في كلّ مشهد

وتبكي عليك السحب ملء جفونها

بدمع يروّي غلّة المجدب الصّدي

وتلبس فيك النيرات ظلامها

حداداً ويذكي النجم جفن مسهّد

وما هي إلا أعين قد تسهدت

فكحّلها نجم الظلام بإثمد

فلا زلت في ظلّ النعيم مخلّداً

ونجلك يحيا بالبقاء المخلّد

وأوردك الرحمن حوض نبيّه

وأصدر من خلّفت عن خير مورد

عليك سلام مثل حمدك عاطرٌ

يفض ختام المسك عن تربك الندي

وصلى على المختار من آل هاشمٍ

صلاةً بها نرجو الشفاعة في غد وقال يستعطف الوالد السلطان أبا الحجاج (1) :

(1) أزهار الرياض: 2: 157.

ص: 236

بما قد حزت من كرم الخلال

بما أدركت من رتب الجلال

بما خوّلت من دين ودنيا

بما قد حزت من شرف الجمال (1)

بما أوليت من صنع جميل

يطابق لفظه معنى الكمال

تغمدني (2) بفضلك، واغتفرها

ذنوباً في الفعال وفي المقال وقال أيضاً (3) :

أتعطش أولادي وأنت غمامة

تعمّ جميع الخلق بالنفع والسقيا

وتظلم أوقاتي ووجهك نير

تفيض به الأنوار للدين والدنيا

وجدّك قد سمّاك ربّك باسمه

وأورثك الرحمن رتبته العليا

وقد كان أعطاني الذي أنا سائل

وسوّغني من غير شرط ولا ثنيا

وشعري في غرّ المصانع خالد

يحيّيه عني في الممات وفي المحيا

وما زلت أهدي المدح مسكاً مفتّقاً

فتحمله الأرواح عاطرة الريّا

وقد أكثر العبد التشكّي وإنّه

وحقّك يا فخر الملوك قد استحيا

وما الجود إلا ميّت، غير أنّه

إذا نفخت يمناك في روحه يحيا

فمن شاء أن يدعو لدين محمد

فيدعو لمولانا الخليفة بالبقيا وقال أيضاً فيه وقد نزل بالولجة من مرج الحضرة:

منزل اليمن والرضى والسعود

أنجزت فيه صادقات الوعود

كلّ يوم نزاهة إن تقضّت

أنشدتها السعود: بالله عودي

جمع المستعين وصف كمال

بين بأس عمّ الملوك وجود

(1) الأزهار: المعالي.

(2)

ق: تغمدها.

(3)

الأزهار: ومن ذلك أيضاً يخاطب أخانا السلطان أبا عبد الله رحمه الله تعالى عليه متوسلاً بقديم ذمامه، والخدم المتعددة من نظامه.

ص: 237

فاهن في غبطة وعزة ملك

أنت والله فخر هذا الوجود وقال أيضاً مشيراً لتوليته العلامة:

لك غرّة ودّ الصباح جمالها

ومحاسن تهوى البدور كمالها

وشمائل تحكي الرياض خلالها

وأنامل ترجو (1) الأنام خلالها

للمستعين خلافة نصريّة

عرفت ملوك العالمين جلالها (2)

وأنا الذي قد نال منك معالياً

تهدي النجوم الزاهرات منالها

تهديه ما قد نلته من بعضها

فالفخر كلّ الفخر فيمن نالها

في كلّ يوم منك منّة منعم

لو طاولت سمك السما (3) ما طالها

بلغت آمال العبيد فبلّغت

فيك العبيد من البقا آمالها وقال أيضاً وكتبها إليه مع خمسة أقلام:

أيا مالكاً لم يبد للعين حسنه

سوى ملك قد حلّ من عالم القدس

لك الخير خذها كالأنامل خمسة

تعوّذ مرآك المكمّل بالخمس

فمن أبصرت عيناك مرآه فليقل

أعوذ بربّ الناس أو آية الكرسي ثم قال ابن الحمر: وقال يخاطب مولانا الوالد رحمة الله تعالى عليه وقد مرّ معه بفحص ريّة، والثلج قد عمّ أنديته، وبسط أرديته، في وجهة توجهها مولانا الجد تغمّده الله تعالى إلى مالقة:

يا من به رتب الإمارة (4) تعتلي

ومعالم الفخر المشيدة تبتني

(1) ق: ترجى.

(2)

الأزهار: جمالها.

(3)

الأزهار: سمك العلا.

(4)

الأزهار: المعالي.

ص: 238

ازجر بهذا الثلج فألاً إنّه

ثلج اليقين بنصر مولانا الغني

بسط البياض كرامةً لقدومه

وافترّ ثغراً عن مسرّة معتني

فالأرض جوهرة تلوح لمجتل

والدوح مزهرة تفوح لمجتني

سبحان من أعطى الوجود وجوده

ليدلّ منه على الجواد المحسن

وبدائع الأكوان في إتقانها

أثر يشير إلى البديع المتقن ثم قال: ومن أوليات نظمه يخاطب شيخه الوزير أبا عبد الله ابن الخطيب مادحاً قوله:

أما وانصداع النور من مطلع الفجر

إلى آخره، وقد تقدمت.

ثم قال: وقال يراجع الكاتب أبا زكريا ابن أبي دلامة (1) :

على الطائر الميمون والطالع السّعد

أتتني مع الصنع الجميل على وعد

وأحييت يا يحيى بها نفس مغرم

يجيل جياد الدمع في ملعب السهد

نسيت وما أنسى وفائي وخلّتي

وأقفر ربع القلب إلا من الوجد

وما الطلّ في ثغر من الزهر باسمٍ

بأزكى وأصفى من ثنائي ومن ودي

فأصدقتها من بحر فكري جواهراً

تنظّم من درّ الدراريّ في عقد

وكنت أطيل القول إلاّ ضرورة

دعتني إلى الإيجاز في سورة الحمد وأنشد السلطان أبا العباس المرسي في غراب (2) من إنشائه:

أإنسان عين الدهر جفنك قد غدا

يحفّك منه طائر اليمن والسّعد

إذا ما هفا فوق الرؤوس شراعه

أراك جناحاً مدّ للجزر والمدّ

(1) أزهار الرياض 2: 175.

(2)

الغراب: نوع من السفن.

ص: 239

وأنشد فيه أيضاً:

لك الخير شأن الجفن يحرس عينه

وهذا بعين الله يحرس دائماً

تبيت له خمس الثريّا معيذة

تقلّده زهر النجوم تمائما

فيا جفن لا تنفك في الحفظ دائماً

وإن كنت في لجّ من البحر عائما انتهى ما لخصته من كلام ابن الأحمر في حق ابن زمرك، وذلك جملة من نظمه.

[موشحات ابن زمرك]

وقد رأيت أن أعزز ذلك ببعض موشحات ابن زمرك المذكور (1) ممّا انتقيته من كلام ابن الأحمر.

فمنها قوله متشوّقاً إلى غرناطة ويمدح الغني بالله:

بالله يا قامة القضيب

ومخجل الشمس والقمر

من ملك الحسن في القلوب

وأيّد اللّحظ بالحور

من لم يكن طبعه رقيقا

لم يدر ما لذة الصّبا

فربّ حرٍّ غدا رقيقا

تملكه نفحة الصّبا

نشوان لم يشرب الرحيقا

لكن إلى الحسن قد صبا

فعذّب القلب بالوجيب

ونعّم العين بالنظر

وبات والدمع في صبيب

يقدح من قلبه الشّرر

(1) في الأزهار: وقد عن لي أن أذكر جملة من موشحاته لغرابتها، ولأن جل ما وقفت عليه منها ينخرط في سلك المعرب، إذ أكثره من مخلع البسيط.

ص: 240

عجبت من قلبي المعنّى

يهفو إذا هبّت الرياح

لو كان للصبّ ما تمنّى

لطار شوقاً إلى البطاح (1)

وبلبل الدّوح إن تغنّى

أسهر ليلي إلى الصباح

عساك إن زرت يا طبيبي

بالطّيف في رقدة السّحر

أن تجعل النوم من نصيبي

والعين تحمي من السهر

كم شادن قاد لي الحتوفا

بمربع القلب قد سكن

يسل من لحظه سيوفا

فالقلب بالروع ما سكن

خلقت من عادتي ألوفا

أحنّ للإلف والسّكن

غرناطة منزل الحبيب

وقربها السؤل والوطر

تبهر بالمنظر العجيب

فلا عدا ربعها المطر

عروسة تاجها السبيكه

وزهرها الحلي والحلل

لم ترض من عزّها شريكه

بحسنها يضرب المثل

أيّدها الله من مليكه

تملكها أشرف الدول

بدولة المرتجى المهيب

الملك الطاهر الأغرّ

تختال من بردها القشيب

في حلّة النور والزّهر

كرسيّها جنّة العريف

مرآتها صفحة الغدير

وجوهر الطّلّ عن شنوف

تحكمها صنعة القدير

والأنس فيها على صنوف

فمن هديل ومن هدير

(1) الأزهار: بلا جناح.

ص: 241

كم خرق الزهر من جيوب

وكلّل القضب بالدرر

فالغصن كالكاعب اللّعوب

والطير تشدو بلا وتر

ولائم النصر في احتفال

وفرح دين الهوى (1) جديد

سلطانها معمل العوالي

محمد الظافر السعيد

ومخجل البدر في الكمال

سلطانها المجتبى الفريد

أصفح مولىً عن الذنوب

أكرم عاف إذا قدر

وشمس هدي بلا مغيب

وبحر جود بلا حسر

مولاي يا عاقد البنود

تظلّل الأوجه الصّباح

أوحشت يا نخبة الوجود

غرناطة هالة السّماح

سافرت باليمن والسعود

وعدت بالفتح والنجاح

يا ملهم القلب للغيوب

ومطعم النصر والظفر

أسمعك الله عن قريب:

" على السلامه من السفر " وقال أيضاً (2) من الموشحات الرائقة (3) ، في مثل أغراض هذه السابقة، وأشار إلى محاسن من وصف الدشار:

نسيم غرناطة عليل

لكنّه يبرىء العليل

وروضها زهره بليل

ورشفه ينقع الغليل

سقى بنجد ربى المصلّى

مباكراً روضه الغمام

فجفنه كلّما استهلاّ

تبسّم الزّهر في الكمام

والروض بالحسن قد تحلّى (4)

وجرّد النهر عن حسام

(1) الأزهار: الهدى.

(2)

ق: ثم ذكر.

(3)

الأزهار: الفائقة.

(4)

الأزهار: تجلى.

ص: 242

ودوحها ظلّه ظليل

يحسن في ربعه المقيل

والبرق والجو مستطيل

يلعب بالصارم الصقيل

عقيلة تاجها السّبيكه

تطلّ بالمرقب المنيف

كأنّها فوقه مليكه

كرسيّها جنّة العريف

تطبع من عسجد سبيكه

شموسها كلّما تطيف

أبدعك الخالق الجميل

يا منظراً كلّه جميل

قلبي إلى حسنه يميل

وقبلنا قد صبا جميل

وزاد للحسن فيك حسنا

محمد الحمد والسّماح

جدّد للفخر فيك مغنى (1)

في طالع اليمن والنّجاح

تدعى دشاراً وفيك معنى

يخصّك الفأل بافتتاح

فالنصر والسعد لا يزول

لأنّه ثابت أصيل

سعد وأنصاره قبيل

آباؤه عترة الرسول

أبدى به حكمة القدير

وتوّج الروض بالقباب

ودرّع الزهر بالغدير

وزيّن النهر بالحباب

فمن هديل ومن هدير

ما أولع الحسن بالشباب

كبت على روضها القبول

وطرفها بالسّرى كليل

فلم يزل بينها يجول

حتى تبدّت له حجول

للزهر في عطلفها رقوم

تلوح للعين كالنّجوم

وللندى بينها رسوم

عقد النّدى فوقه نظيم

وكلّ وادٍ بها يهيم

ولم يزل حولها يحوم

(1) ق: معنى.

ص: 243

شنيلها مدّ منه نيل

والشين ألف لمستنيل

وعين واد به تسيل

من فوق خدّ له أسيل

كم من ظلال به ترفّ

تضفو له فوقها ستور

ومن زجاج به يشف

ما بين نور وبين نور

ومن شموس بها تصف

تديرها بينها البدور

مزاجها العذب سلسبيل

يا هل إلى رشفها سبيل

وكيف والشيب لي عذول

وصبغه صغرة الأصيل

يا سرحة في الحمى ظليله

كم نلت في ظلك المنى

روّضك الله من خميله

يجنى بها أطيب الجنى

وبرقها صادق المخيله

ما زال بالغيث محسنا

أنجز لي وعدك القبول

فلم أقل مثل من يقول:

يا سرحة الحيّ يا مطول

شرح الذي بيننا يطول ومن ذلك ما كتب به إلى الغني بالله:

أبلغ لغرناطة سلامي

وصف لها عهدي السليم

فلو رعى طيفها ذمامي

ما بت في ليلة السليم

كم بت فيها على اقتراح

أعلّ من خمرة الرضاب

أدير فيها كؤوس راح

قد زانها (1) الثغر بالحباب

أختال كالمهر في الجماح

نشوان في روضة الشباب

(1) الأزهار: قد زانت.

ص: 244

أضاحك الزهر في الكمام

مباهياً روضه الوسيم

وأفضح الغصن في القوام

إن هبّ من جوّها نسيم

بينا أنا والشباب ضاف

وظلّه فوقنا مديد

ومورد الأنس فيه صاف

وبرده رائق جديد

إذ لاح في الفود غير خاف

صبح به نبّه الوليد

أيقظ من كان ذا منام

لمّا انجلى ليله البهيم

وأرسل الدمع كالغمام

في كلّ وادٍ به أهيم

يا جيرة عهدهم كريم

وفعلهم كلّه جميل

لا تعذلوا الصبّ إذ يهيم

فقبله قد صبا جميل

القرب من ربعكم نعيم

وبعدكم خطبه جليل

كم من رياض به وسام

يزهى بها الرائض (1) المسيم

غديرها أزرق الجمام

ونبتها كلّه جميم (2)

أعندكم أنّني بفاس

أكابد الشوق والحنين

أذكر أهلي بها وناسي

واليوم في الطول كالسنين

الله حسبي فكم أقاسي

من وحشة الصحب والبنين

مطارحاً ساجع الحمام

شوقاً إلى الإلف والحميم

والدمع قد لجّ في انسجام

وقد وهى عقده النظيم

(1) الأزهار: الرائد.

(2)

ق: جسيم.

ص: 245

يا ساكني جنّة العريف

أسكنتم جنّة الخلود

كم ثمّ من منظر شريف

قد حفّ باليمن والسعود

وربّ طود به منيف

أدواحه الخضر كالبنود

والنهر قد سلّ كالحسام

لراحة الشّرب مستديم

والزهر قد راق بابتسام

مقبّلاً راحة النّديم

بلّغ عبيد المقام صحبي

لا زلتم الدهر في هنا

لقاكم بغية المحبّ

وقربكم غاية المنى

فعندكم قد تركت قلبي

فجدّد الله عهدنا

ودارك الشمل بانتظام

من مرتجى (1) فضله العميم

في ظلّ سلطاننا الإمام

الطاهر الظاهر الحليم (2)

مؤمّن العدوتين ممّا

يخاف من سطوة العدا

وفارج الكرب إن ألمّا

ومذهب الخطب والرّدى

قد راق حسناً وفاق حلما

وما عدا غير ما بدا

مولاي يا نخبة الأنام

وحائز الفخر في القديم

كم أرقب البدر في التمام

شوقاً إلى وجهك الكريم منها موشحة عارض بها موشحة ابن سهل التي أولها ليل الهوى يقظان وهي:

نواسم البستان

تنثر سلك الزّهر

والطّل في الأغصان

ينظمه بالجوهر

(1) ق: من يرتجي.

(2)

ق: الحميم.

ص: 246

وراحة (1) الإصباح

أضاء منها المشرق

تنشرها الأرواح

فلا تزال تخفق

والزهر زهر فاح

لها عيون ترمق

فأيقظ الندمان

يبصرن ما لم يبصر

جواهر الشهبان (2)

قد عرضت للمشتري

قدحت لي زندا

يا أيّهذا البارق

أذكرتني عهدا

إذ الشباب رائق

فالشّوق لا يهدا

ولا الفؤاد الخافق

وكيف بالسّلوان

والقلب رهن الفكر

وسحب الهجران

تحجب وجه القمر

لولا شموس الكاس

نديرها بين البدور

وعرّج الإيناس

منّا على ربع الصدور

لكن لها وسواس

يغري بربّات الخدور

كم والهٍ هيمان

بصبح وجه مسفر

ضياؤه قد بان

من تحت ليل مقمر

يا مطلع الأنوار

كم فيك من مرأى جميل

ونزهة الأبصار

ما ضرّ لو تشفي الغليل

يا روضة الأزهار

وعرفها يبري العليل

(1) الأزهار: وراية.

(2)

ق: الشبان.

ص: 247

قضيبك الفينان

يسقى بدمع همر

فلاعج الأشجان

فيض الدموع يمتري (1)

هل في الهوى ناصر

أو هل يجار الهائم

لو كان لي زائر

طيف الخيال الحائم

ما بتّ بالساهر

ودمع عيني ساجم

والحب ذو عدوان

يجهد في ظلم البري

وصارم الأجفان

مؤيّد بالحور

رحماك في صبّ

أذكرته عهد الصّبا

بواعث الحب

قادت إليه الوصبا

لم تهف بالقلب

ريح الصّبا إلاّ صبا

بليلة الأردان

قد ضمّخت بالعنبر

يشير غصن البان

منها بفضل المئزر

طيّبها حمد

فخر الملوك المجتبى

من يرجح الطود

من حلمه إذا احتبى

قد جرّد السعد

منه حساماً مذهبا

فالبأس والإحسان

والغوث للمستنصر

تحمله الركبان

تحيّة للمنبر

عصابة الكتّاب

حقّ لها الفوز العظيم

تختال في أثواب

ألبسها الطول الجسيم

فحسبها الإطناب

في الحمد والشكر العميم

(1) ق والأزهار: يجري؛ وامترى افتعل من مرى بمعنى استدر.

ص: 248

خليفة الرحمن

لا زلت سامي (1) المظهر

يا مورد الظمآن

ورأس مال المعسر

خذها على دعوى

تزري على الروض الوسيم

جاءت كما تهوى

أرقّ من لدن النسيم

قد طارحت شكوى

من قال في الليل البهيم

" ليل الهوى يقظان

والحب ترب السهر "

" والصبر لي خوّان

والنوم من عيني بري " وله في الصبوحيات:

ريحانة الفجر قد أطلّت

خضراء بالزهر تزهر

وراية الصبح قد أظلّت

في مرقب الشرق تنشر

فالشهب من غارة الصباح

ترعد خوفاً وتخفق

وأدهم الليل في جماح

أعنّة البرق يطلق

والأفق في ملتقى الرياح

بأدمع الغيث يشرق

والسحب بالجوهر استهلّت

فالبرق سيف مجوهر

صفاحه المذهبات حلّت

في راحة الجوّ تشهر

كم للصّبا ثمّ من مقيل

بطيبه الزهر يشهد

والنهر كالصارم الصّقيل

في حلية النور يغمد

ورب قال به وقيل

للطير في حين تنشد

فألسن الورق قد أملّت

مدائحاً عنه تشكر

ونسمة الصبح قد تجلّت

في سندس الروض تعثر

(1) الأزهار: زاهي.

ص: 249

والكاس في راحة النديم

يجلو بها غيهب الهموم

أقبست النار في القديم

من قبل أن تخلق الكروم

والنهر في ملعب النسيم

للزهر في عطفه رقوم

فلبّة الحلي (1) قد تحلّت

والطّلّ في الحلي (2) جوهر

وبهجة الكون قد تجلّت

والروض بالحسن يبهر (3)

يذكرني وجنة الحبيب

والآس في صفحة العذار

وشارب الشارب العجيب

بين أقاح وجلّنار

يدير من ثغره الشنيب

سلافة دونها العقار

حلّت لأهل الهوى وجلّت

بالذكر والوهم تسكر

كم من نفوس بها تسلّت

فما لها الدهر منكر

يا غصن بان يميل زهوا

ريّان في روضة الشباب

لو كنت تصغي لرفع شكوى

أطلت من قصة العقاب

ومن لمثلي ببث نجوى

للبدر في رفرف السحاب

عزائم الصبر فيك حلّت

وعقدة الصبر تذخر

قد أكثرت منك ما استقلّت

وليت لو كنت تشعر

كم ليلة بتّها وبتّا

ضدين في السهد والرقاد

أسامر النجم فيك حتى

علّمت أجفانها (4) السّهاد

أرقب بدر الدجى، وأنتا

قد لحت في هالة الفؤاد

(1) ق: الشمس.

(2)

الأزهار: القضب.

(3)

ق: يزهر.

(4)

الأزهار: أجفانه.

ص: 250

نفسي ولّيت ما تولّت

دعها على الشوق تصبر

لو سمتها الهجر ما تولّت

ولم تكن عنك تنفر

علّمها الصبر في الحروب

سلطاننا عاقد البنود

معفّر الصيّد للجنوب

أعزّ من حفّ بالجنود

نصرت بالرعب في القلوب

والبيض لم تبرح الغمود

عناية الله فيه حلّت

بسعده الدين ينصر

والخلق في عصره تملّت

غنائماً ليس تحصر

مولاي يا نكتة الزمان

دار بما ترتضي الفلك

جللت باليمن والأمان

كلّ مليك وما ملك

لم يدر وصفي ولا عياني

أملك أنت أم ملك

جنودك الغلب حيث حلّت

بالفتح والنصر تخفر

وعادة الله فيك دلّت

أنّك بالكفر تظفر

يا آية الله في الكمال

ومخجل البدر في التمام

قدمت بالعزّ والجلال

والدهر في ثغره ابتسام

يختال في حلّة الجمال

والبدر قد عاد في اختتام

ريحانة الفجر قد أطلّت

خضراء بالزهر تزهر

وراية الصبح قد أظلّت

في مرقب الشرق تنشر وقال سامحه الله تعالى:

قد طلعت راية الصباح

وآذن الليل بالرحيل

فباكر الروض باصطباح

واشرب على زهره البليل

ص: 251

فالورق هبّت من السّبات

لمنبر الدوّح تخطب

تسجع مفتنّة اللّغات

كلّ عن السوق يعرب

والغصن بعد الذهاب ياتي

لأكؤس الطّلّ يشرب

وأدمع السّحب في انسياح

في كلّ روض لها سبيل

والجوّ مستبشر النواحي

يلعب بالصارم الصقيل

قم فاغتنم بهجة النفوس

ما بين نور وبين نور

وشفّع الصبح بالشموس

تديرها بيننا البدور

ونبّه الشّرب للكؤوس

تمزج من ريقة الثغور

ما أجمل الراح فوق راح

صفراء كالشمس في الأصيل

تغادر الصدر ذا انشراح

للأنس في طيّه مقيل

ولا تذر خمرة الجفون

فسكرها في الهوى جنون

ولتخش من أسهم العيون

فإنّها رائد المنون

عرضت منها إلى الفتون

وكلّ خطب لها يهون

أهيم بالغادة الرّداح

والجسم من حبّها عليل

لو بت منها على اقتراح

نقعت من ريقها الغليل

أواعد الطّيف للمنام

ومن لعينيّ بالمنام

أسهر في ليلة التمام

وأنت يا بدر في التمام

وألثم الزهر في الكمام

عليه من ثغرك ابتسام

سفرت عن مبسم الأقاح

وريقك العذب سلسبيل

قل لي يا ربّة الوشاح

هل لي إلى الوصل من سبيل

ص: 252

يا كعبة الحسن زدت حسنا

وللهوى حولك المطاف

وغصن بان إذا تثنّى

لو حان من زهرك القطاف

ألا انعطاف على المعنّى

فالغصن يزهى بالانعطاف

أصبحت تزهو على الملاح

بذلك المنظر الجميل

ووجهك الشمس في اتضاح

لو أنّها لم تكن تميل

ما الزهر إلاّ بنظم درّ

تحسد في حسنه العقود

للملك الظاهر (1) الأغرّ

أكرم من حفّ بالسعود

محمد الحمد وابن نصر

وباسط العدل في الوجود

مساجل السّحب في السماح

بالغيث من رفده الجليل

ومخجل البدر في اللّياح

بغرّة ما لها مثيل

يا مشرب الحبّ في القلوب

وواهب الصفح للصفاح

نصرت بالرعب في الحروب

والرعب أجدى من السلاح

قد لحت من عالم الغيوب

لم تعدم الفوز والفلاح

مراكش نهبة افتتاح

والصنع في فتحها جليل

بشراك بالفتح والنجاح

والشكر من ذلك القبيل وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

في كؤوس الثغر من ذاك اللّعس

راحة الأرواح

وتغشّى الروض مسكيّ النفس

عاطر الأرواح

وكسا الأدواح وشياً مذهبا

يبهر الشمسا

(1) ق: الطاهر.

ص: 253

عسجد قد حلّ من فوق الربى

يبهج النفسا

فاتخذ للهو فيه مركبا

تلحق الأنسا

منبر الغصن عليه قد جلس

ساجع الأدواح

حلل السندس خضراً قد لبس

عطفه المرتاح

قم ترى هذا الأصيل شاحبا

حسنه قد راق

ولأذيال الغصون ساحبا

في حلى الأوراق

ونديم قال لي مخاطبا

قول ذي إشفاق

عادة الشمس بغرب تختلس

هات شمس الراح

إن أرانا الجوّ وجهاً قد عبس

أوقد المصباح

ووجوه الشّرب تغني عن شموس

كلّما تجلى

بلحاظ أسكرتنا عن كؤوس

خمرها أحلى

مظهرات من خفايا في النفوس

سوراً تتلى

ما زمان الأنس إلاّ مختلس

فاغتنم يا صاح

وعيون الشّهب تذكي عن حرس

تخصم النّصّاح

ما ترى ثغر الوميض باسما

يظهر البشرا

وثناء الروض هبّ ناسما

عاطراً نشرا

بث من أزهاره دراهما

قائلاً: بشرى

ركب المولى مع الظهر الفرس

وشفي (1) وارتاح

بجنود الله دأباً يحترس

إن غدا أو راح

(1) ق: وسقي.

ص: 254

وجب الشكر علينا والهنا

بعضنا بعضا

فزمان السعد وضّاح السنا

وجهه الأرضى

أثمرت فيه العوالي بالمنى

ثمراً غضّا

يجتني الإسلام منها ما اغترس

سيفه السفّاح

في ضمير النّقع منها قد هجس

شهب تلتاح

يا إماماً بالحسام المنتضى

نصر الحقّا

ثغرك الوضّاح مهما أومضا

أخجل البرقا

وديون السعد منه تقتضى

توسع الحقّا

لك وجه من صباح مقتبس

بشره وضّاح

وجميل الصفح منه ملتمس

منعم صفّاح

هاكها تمزج لطفاً بالنّسيم

كلّما هبّا

قد أتت بالبرّ والصنع الجسيم

تشكر الربّا

أخجلت من قال في الصبح الوسيم

مغرماً صبّا

" غرد الطير فنبّه من نعس "(1)

يا مدير الراح

" وتعرّى الفجر عن ثوب الغلس "

وانجلى الإصباح وقال أيضاً سامحه الله تعالى:

قد أنعم الله بالشفاء

واستكملت راحة الإمام

فلتنطق الطير بالهناء

وليضحك الزهر في الكمام

وجوده بهجة الوجود

وبرؤه راحة النفوس

(1) تضمين من شعر ابن وكيع.

ص: 255

قد لاح في مرقب السعود

واستبشرت أوجه الشموس

فالدوح يومي إلى البنود

أكمامه غطّت (1) الرؤوس

والزّهر في روضة السّماء

كالزهر قد راق بابتسام

والصبح مستشرف اللواء

والبدر مستقبل التّمام

محاسن الكون قد تجلّت

جمالها العقل يبهر

عرائس بالبها تحلّت

والطلّ في الحلي جوهر

وألسن الورق قد أملّت

مدائحاً عنه تشكر

تستوقف الخلق بالغناء

كأنّها تحسن الكلام

تطنب لله في الثّناء

تقول سلّمت يا سلام

كم من ثغور لها ثغور

تبسم إذ جاءها البشير

ومن خدور بها بدور

يشير منها له المشير

تقول إذ حفّها السرور

تبارك المنعم القدير

قد أنعم الله بالبقاء

في ظلّ مولى به اعتصام

قد صادف النّجح في الدواء

فالداء عنّا له انفصام

يهنيك مولاي بل يهنّى

ببرئك الدين والهدى

فالغرب والشرق منك يعنى

بمذهب الخطب والردى

والله لولاك ما تهنّا

ما فيه من سطوة الردى

يا مورد الأنفس الظماء

قد كان يشتفّها الأوام

وقرّة العين بالبهاء

رددت للأعين التمام

(1) الأزهار: إلى السجود

حطت.

ص: 256

لو أبذل الروح في البشاره

بذلت بعض الذي ملك

فأنت يا نفس مستعاره

مولاي بالفضل جمّلك

لم أدر إذ سطّر العباره

أملك هو أم ملك

لا زلت مولاي في هناء

مبلّغ القصد والمرام

ودمت للملك في اعتلاء

تسحب أذياله الغمام

وقال في مالقة:

عليك يا ريّة السلام

ولا عدا ربعك المطر

مذ حلّ في قصرك الإمام

فقربك السؤل والوطر

والدوح في روضك الأنيق

للشكر قد حطّت الرؤوس (1)

والغصن في نهره غريق

وفي حلاه كما عروس

والجو من وجهك الشريق

تحسده أوجه الشموس

وأعين الزهر لا تنام

تستعذب السّهد والسهر

تنفث من تحتها الغمام

ترقيك من أعين الزهر

عروسة أنت يا عقيله

تجلى على مظهر الكمال

مدت لك الكفّ مستقيله

تمسح أعطافك الشمال

والبحر مرآتك الصقيله

تشف عن ذلك الجمال

والحلي زهر له انتظام

يكلّل القضب بالدرر

قد راق من ثغره ابتسام

والورد في خدّها خفر

(1) ورد بدله في الأزهار:

كم فيك للمغرم المشوق

من منظر يبهج النفوس

والدوح.....................

...................... (البيت)

والجو من وجهك

................................

ص: 257

إن قيل من بعلها المفدّى

ومن له وصلها مباح

أقول أسنى الملوك رفدا

مخلد الفخر بالصفاح

محمد الحمد حين يهدى

ثناؤه عاطر الرياح

تخبر عن طيبه الكمام

والخبر يغني عن الخبر

فالسعد والرعب والحسام

والنصر آياته الكبر

ذو غرّة تسحر البدورا

وطلعة تخجل الصّباح

كم راية سامها ظهورا

تظلّل الأوجه الصّباح

وكم جهاد جلاه نورا

أظفر بالفوز والنّجاح

الطاهر الظاهر الهمام

أعزّ من صال وافتخر

لسيفه في العدا احتكام

جرى به سابق القدر

يا مرسل الخير في الغوار

لو تطلب البحر تلحق

لك الجواري إذا تجاري

سوابق الشّهب تسبق

تستنّ في لجة البحار

فالكفر منهن يفرق

فالدين وليقصر الكلام

بسيفك اعتزّ وانتصر

كذاك أسلافك الكرام

هم نصروا سيّد البشر

وقال من غير هذا البحر في المحدث (1) بمالقة:

قد نظم الشمل أتمّ انتظام

واغتنم الأحباب قرب الحبيب

واستضحك الروض ثغور الغمام (2)

عن مبسم الزهر البرود الشّنيب

(1) المحدث: اسم بناء بمالقة.

(2)

الأزهار: الكمام.

ص: 258

وعمّم النّور رؤوس الرّبى

وجلّل النّور صدور البطاح

وصافح القضب نسيم الصّبا

فالزهر يرنو عن عيون وقاح

وعاود النهر زمان الصّبا

فقلّد الزهر (1) مكان الوشاح

وأطلع القصر برود التّمام

في طالع الفتح القريب الغريب

خدودها قامت مقام الغمام

فلا اشتكى (2) من بعدها بالمغيب

أصبحت يا ريّة مجلى النفوس

جمالك العين بها يبهر

والبشر يسري في جميع الشموس

وراية الأنس بها تشهر

والدوح للشكر تحطّ الرؤوس

وأنجم الزهر بها تزهر

وراجع النهر غناء الحمام

وقد شدت تسجع سجع الخطيب

بمنبر الغصن الرشيق القوام

لمّا انثنى يهفو بقدّ رطيب

يا حبّذا مبناك فخر القصور

بروجه طالت بروج السما

ما مثله في سالفات العصور

ولا الذي شاد ابن ماء السّما

كم فيه من مرأى بهيج ونور

في مرتقى الجوّ به قد سما

خليفة الله ونعم الإمام

أتحفك الدهر بصنعٍ عجيب

يهنيك شمل قد غدا في التئام

ممهداً في ظلّ عيش خصيب

نواسم الوادي بمسك تفوح

ونفحة النّدّ به تعبق

وبهجة السكّان فيه تلوح

وجوّه من نورهم يشرق

وروضه بالسرّ منه يبوح

بلابل عن وجده تنطق

(1) الأزهار: النهر.

(2)

الأزهار: لا أشتكي.

ص: 259

لو أنّ من يفهم عنها الكلام

فهي تهنيك هناء الأديب

ونهره قد سلّ منه الحسام

يلحظه النرجس لحظ المريب

فأجمل الأيام عصر الشباب

وأجمل الأجمل يوم اللّقا

يا درّة القصر وشمس القباب

وهازم الأحزاب في الملتقى

بشّرك الربّ بحسن المآب

متّعك الله بطول البقا

ولا يزال القصر قصر السلام

يختال في برد الشباب القشيب

يتلو عليك الدهر في كلّ عام:

{نصر من الله وفتح قريب}

وقال من المخلع في الشفاء:

في طالع اليمن والسعود

قد كملت راحة الإمام

فأشرق النور في الوجود

وابتسم الزهر في الكمام

قد طلعت راية النجاح

وانهزم البؤس والعنا

وقال حيّ على الفلاح

مؤذّن القوم (1) بالمنى

فالدهر يأتي بالاقتراح

مستقبلاً أوجه الهنا

تخفق منشورة البرود

والسعد يقدم من أمام

والأنس مستجمع الوفود

واللطف مستعذب الجمام

وأكؤس الطلّ مترعات

بأنمل السوسن الندي

والطير مفتنّة اللغات

تشدو بأصوات معبد

والغصن يذهب ثم يأتي

بالسندس الغضّ مرتدي

(1) الأزهار: الفوز.

ص: 260

والدوح يومي إلى السجود

شكراً لذي الأنعم الجسام

والريح خفّاقة البنود

تباكر الروض بالغمام

مظاهرٌ للجمال تجلى

قد هزّ أعطافها السرور

وباهر الحسن قد تجلّى

ما بين نور وبين نور

قد هنأت بالشفاء مولى

بعصره تفخر العصور

ما بين بأس وبين جود

قد مهّد الأمن للأنام

فالدين ذو أعين رقود

وكان لا يطعم المنام

والكاس في راحة السقاة

تروح طوراً وتغتدي

يهديكها رائق السّمات

ما بين برق وفرقد

والشمس تذهب للبيات

قد لبست ثوب عسجد

والزهر في اليانع المجود

يقابل الشّرب بابتسام

والروض من حلية الغمود

قد جرّد النهر عن حسام

مولاي يا أشرف الملوك

وعصمة الخلق أجمعين

أهديك من جوهر السلوك

يقذفه بحرك المعين

جعلت تنظيمه سلوكي

وأنت لي المنجد المعين

تحيّة الواحد المجيد

ورحمة الله والسّلام

عليك من راحم ودود

يا مخجل البدر في التمام

وقال من الرمل المجزوء:

وجه هذا اليوم باسم

وشذا الأزهار ناسم

ص: 261

هاتها صاح كؤوسا

جالبات للسرور

وارتقب منها شموسا

طالعات في حبور

ما ترى الروض عروسا

في حلى نورٍ ونور

وأتت رسل النواسم

تجتلي هذي النواسم

قد أهلّت بالبشائر

أضحكت ثغر الأزاهر

سنحت في يمن طائر

ونظمن كالجواهر

فانشروها في العشائر

إنّ هذا الصنع باهر

وأشيعوا في العوالم

الغني بالله سالم

أيّ نور يتوقد

أيّ بدر يتلالا

أيّ فخر يتخلّد

أيّ غيث يتوالى

إنّما المولى محمد

رحمة الله تعالى

كفّه بحر المقاسم

وبها حجّ المباسم

خير أملاك الزّمان

من بني سعد ونصر

ما ترى أنّ الشّواني

في صعيد البرّ تجري

قد أطارتها التهاني

دون بحريّ وبحر

مذ رأت بحر النّعائم

كلّها جارٍ وعائم

فهنيئاً بالشفاء

يا أمير المسلمينا

ولنا حقّ الهناء

وجميع العالمينا

إن جهرنا بالدعاء

ينطق الدهر أمينا

دمت محروس المكارم

بظبي البيض الصوارم

ص: 262

وقال يهني السلطان موسى ابن السلطان أبي عنان، وقد وجه إليه الغني بالله أمه وعياله عند تملّكه المغرب من قبله:

قد نظم الشمل أتمّ انتظام

ولاحت الأقمار بعد المغيب

وأضحك الروض ثغور الغمام

عن مبسم الزهر البرود الشنيب

وعاود الغصن زمان الصّبا

وأشرب الأنس جميع النفوس (1)

وعمّم النّور رؤوس الربى

وجلّل النور وجوه الشموس

وأطرب الغصن نسيم الصّبا

فالدوح للشكر تحطّ الرؤوس

واستقبل البدر ليالي التمام

وصافح الصبح بكفّ خضيب

وراجع الأطيار سجع الحمام

بكلّ ذي لحن بديع غريب

نواسم الوادي بمسك تفوح

ونفحة الندّ به تعبق

وبهجة السكان فيه تلوح

وجوّه من نوره يشرق

وعرفه بالطيب منه يفوح

كأنّه من عنبر يفتق

والنهر قد سلّ كمثل الحسام

حبابه تطفو وطوراً تغيب

وثغرها قد راق منه ابتسام

يهنّىء الحبّ بقرب الحبيب

كواكب أبراجهن الخدور

يلوح عنها كلّ بدر لياح

جواهر أصدافهن القصور

نظمها السعد كنظم الوشاح

يا حبّذا والله ركب السرور

يبشّر المولى بنيل اقتراح

ابتهج الكون بموسى الإما

واختال في برد الشباب القشيب

وعاده يخدم مثل الغلام

شبابه قد عاد بعد المشيب

(1) ق: الكؤوس.

ص: 263

أكرم به والله وفد الكريم

مولى سنا (1) الحرة في مقدمه

مرضاتها تحطي بدار النعيم

وتوجب التوفيق من منعمه

بشّر بالنصر وفتح جسيم

وخيره أجمع في مقدمه

لقاؤها المبرور مسك الختام

بشّرك الله بصنع عجيب

وقصرك الميمون قصر السلام

خطّ يحفظ من سميع مجيب

مولاي يهنيك وحقّ الهنا

قد نظم الشمل كنظم السعود

قد فزت بالفخر ونيل المنى

وأنجز السعد جميع الوعود

وقرّت العين وزال العنا

وكلّما مرّ صنيع يعود

فلا يزل ملكك حلف الدوام

يحوز في التخليد أو في نصيب

يتلو عليك الدهر بعد السلام:

{نصر من الله وفتح قريب}

وقال رحمه الله تعالى في وصف غرناطة والطرد وغيرهما:

لله ما أجمل روض الشباب

من قبل أن يفتح زهر المشيب

في عهده أدرت كأس الرّضاب

حبابها الدرّ بثغر الحبيب

من كلّ من يخجل بدر التمام

إذا تبدّى وجهه للعيون

ويفضح الغصن بلين القوام

وأين منه لين قدّ الغصون

ولحظه يمضي مضاء الحسام

ويذهل العقل بسحر الجفون

أبصرت منه إذ يحطّ النّقاب

شمساً ولكن ما لها من مغيب

إذا تجلّت بعد طول ارتقاب

صرفت عنها اللحظ خوف الرقيب

(1) ق: ثناء؛ وفي الأزهار: مولاتنا.

ص: 264

من عاذري منه فؤاداً صبا

للامع البرق وخفق الرياح

يطير إن هبّ نسيم الصبّا

تعيره الريح خفوق الرياح

ما أولع الصبّ بعهد الصّبا

وهل على من قد صبا من جناح

فقلبه من شوقه في التهاب

قد أحرق الأكباد منه الوجيب

والجفن منه سحبه في انسكاب

قد روّض الخدّ بدمع سكيب

غرناطة ربع الهوى والمنى

وقربها السؤل ونيل الوطر

وطيبها بالوصل لو أمكنا

لم أقطع الليل بطول السهر

عمّا قريب حقّ فيها الهنا

بيمن ذي العودة بعد السفر

ويحمد الناس نجاح الإياب

بكل صنع مستجدّ غريب

ويكتب الفال على كلّ باب:

{نصر من الله وفتح قريب}

ما لذة الأملاك إلاّ القنص

لأنّه الفال بصيد العدا

كم شارد جرّع فيه لاغصص

وأورد المحروب ورد الردى

وكم بذا الفحص لنا من حصص

قد جمع البأس بها والندى

ومنها بعد أبيات من الوزن والروي:

مولاي مولاي، وأنت الذي

جدّدت للأملاك عهد الجلال

والشمس والبدر من العوّذ

لمّا رأت منك بديع الجمال

والروض في نعمته يغتذي

بطيب ما قد حزته من خلال

بشراك بشراك بحسن المآبْ

تستضحك الروض بثغر شنيب

ودمت محروس العلا والجناب

بعصمة الله السميع المجيب انتهى ما انتقيته من كلام ابن زمرك من كتاب ابن الأحمر، رحمه الله

ص: 265

تعالى. وقد عرفت منه ما تسنى للغني بالله ابن الأحمر من الفتوحات والسعود ونفاذ الأمر على ملوك المغرب، فهو الأحق بقول لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى:

ملك إذا عاينت منه جبينه

فارقته والنور فوق جبيني

وإذا لثمت يمينه وخرجت من

أبوابه لثم الملوك يميني وكان الغني بالله المذكور معتقداً في الصالحين، حتى إنّه كتب وهو بفاس مخلوع إلى ضريح ولي الله سيدي أبي العباس السبتي بمراكش، ومن إنشاء وزيره لسان الدين على لسانه:

يا وليّ الإله أنت مطاع

الأبيات والنثر بعدها، وقد ذكرتهما في الباب الخامس فراجعه (1) ، وكان ذلك بفضل الله تعالى عنوان رجوعه إلى ملكه، ونظم تلك الأماكن في سلكه، حتى حصل له من السعد ما لم يحصل لغيره حسبما يعلم ذلك من كلام لسان الدين وابن زمرك وغيرهما.

[ترجمة الولي السبتي]

والسبتي المذكور: هو سيدي أبو العباس أحمد بن جعفر السبتي الخزرجي (2) ، الولي الصالح العالم العارف بالله القطب ذو الكرامات الشهيرة، والمناقب الكثيرة، والأحوال الباهرة، والفضائل الظاهرة، والأخلاق الطاهرة،

(1) انظر أيضاً أزهار الرياض 1: 273.

(2)

راجع ترجمة الولي السبتي أنس الفقير: 7 - 9 وتعطير الأنفاس في التعريف بالشيخ أبي العباس لابن الموقت (ط. فاس 1918) ونيل الابتهاج 31 - 37 وعن هذا الأخير ينقل المقري؛ وراجع الأعلام للعباس بن إبراهيم 1: 239 - 338.

ص: 266

نزيل مراكش، وبها توفّي سنة إحدى وستمائة، وولادته بسبتة عام أربعة وعشرين وخمسمائة، ودفن خارج مراكش، وقبره مشهور مقصود بإجابة الدعاء، وقد زرته مراراً كثيرة، فرأيت عليه من ازدحام الناس ما لا يوصف، وهو ترياق مجرب.

قال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى: كان سيدي أبو العباس السبتي - رضي الله تعالى عنه - مقصوداً في حياته، مستغاثاً به في الأزمات، وحاله من أعظم الآيات الخارقة للعادة، ومبنى أمره على انفعال العالم عن الجود، وكونه حكمة في تأثير الوجود (1) ، له في ذلك أخبار ذائعة وأمثال باهرة؛ ولمّا توفّي ظهر هذا الأثر على تربته، وتشبث بلحده، وانسحب على مكانه عادة حياته، ووقع الإجماع على تسليم هذه الدعوى، وتخطى الناس مباشرة قبره بالصدقة إلى بعثها له من أماكنهم على بعد المدى، وانقطاع الأماكن القصى (2) ، تحملهم أجنحة نياتهم فتهوي إليه بمقاصدهم من كل فج عميق، فيجدون الثمرة المعروفة والكرامة المشهورة.

وقال ابن الزيات (3) : كان أبو العباس قد أعطي بسطة في اللسان، وقدرةً على الكلام، لا يناظره أحد إلا أفحمه، ولا يسأله إلا أجابه، كأن القرآن والحجج على طرف لسانه حاضرة، يأخذ بمجامع القلوب، ويسحر العامة والخاصة ببيانه، يأتيه المنكرون للإنكار فما ينصرفون إلا مسلّمين منقادين، وشأنه كلّه عجيب، وهو من عجائب الزمانز وحدثني مشايخنا أنهم سمعوه يقول: أنا

(1) في الأصل: الوجود، والتصويب عن التنبكي؛ وأورد العباس بن إبراهيم أن ابن رشد أرسل أبا القاسم الخزرجي ليعرف مذهب أبي العابس بمراكش، فلما نقل الخزرجي خبره إلى ابن رشد قال له:" هذا مذهبه أن الوجود ينعل بالجود " وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسة.

(2)

نيل الابتهاج: المكان الأقصى.

(3)

تنقل المصادر ترجمة السبتي عن التشوف، ولكن ابن الزيات صرح بأنه يفرد ترجمة السبتي إذ لا يكفي في ذكره الاختصار، وجعل ترجمته في آخر كتابه، إلا أنها لم تطبع مع سائر الكتاب، وقد نقل العباس بن إبراهيم ما ذكره ابن الزيات في تلك الترجمة.

ص: 267

القطب. وحدثني أبو الحسن الصنهاجي من خواص خدّامه قال: خرجت معه مرة لصهريج غابة الرمان يوم عرفة، فجلسنا هناك وصلينا، فقال لي: إنّما سمي هذا اليوم يوم عرفة لانتشار الرحمة فيه لمن تعرّف إليه بالطاعات، وقد فاتنا عرفة، فتعال نمثل بهذا المكان ونعمل كما يعملون، لعلّ الله تعالى يتغمدنا برحمته معهم، فعمل (1) مكاناً داثراً بالعين الكعبة، ومحل عنصر الماء الحجر، وموضعاً آخر مقام إبراهيم، فطاف بالعين أسبوعاً وأنا أطوف بطوافه، وكبر على العنصر في كل طواف، وصلى في مثل (2) المقام ركعتين تامتين، وأطال في سجود الثانية، ثم استند إلى الشجرة ثم قال لي: يا علي، اذكر كل حاجة لك من حوائج دنياك تقض، فإن الله تعالى وعد في هذا اليوم من تعرّف له أن يقضي حوائجه، فقلت له: ما أريد إلاّ التوفيق، فقال لي: ما خرجت معك من باب المدينة حتى وفقت، فسألته عن حاله من بدايته إلى نهايته، وبم تنفعل له الأشياء ويستجاب له الدعاء ولم صار يأمر بالصدقة والإيثار من شكا إليه حالاً أو تعذّر عليه مطلب في هذه الدار فقال لي: ما آمر الناس إلا بما ينتفعون به، وإنّي لمّا قرأت القرآن وقعدت بين يدي الشيخ أبي عبد الله الفخار تلميذ القاضي عياض ونظرت في كتب الأحكام وبلغت من السن عشرين سنة وجدت قوله تعالى {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} فتدبرته وقلت: أنا مطلوب به، فلم أزل أبحث عنها (3) إلى أن وقفت على أنّها نزلت حين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وأنّهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم حكم المؤاخاة، فأمرهم بالمشاطرة، ففهمت أن العدل المأمور به في الآية هو المشاطرة، ثم نظرت إلى حديث " تفترق أمتي على ثلاثين فرقة - الحديث " وأنّه صلى الله عليه وسلم

(1) ق: فعمد؛ نيل الابتهاج: فجعل.

(2)

في الأصل: قبل.

(3)

نيل الابتهاج: فبحثت عن الآية.

ص: 268

قاله صبيحة اليوم الذي آخى فيه ببن المهاجرين والأنصار، وذكر له الأنصار أنّهم شاطروا المهاجرين، فقال لهم ذلك بأثره (1) ، فعلمت أن الذي هو عليه وأصحابه المشاطرة والإيثار، فعقدت مع الله تعالى نيّة أن لا يأتيني شيء إلا شاطرت فيه الفقراء، فعملت (2) عليه عشرين سنة، فأثمر لي الحكم بالخاطر (3) ، فلا أحكم على خاطري بشيء إلا صدق، فلمّا أكملت أربعين سنة راجعت تدبر الآية فوجدت الشطر هو العدل، والإحسان ما زاد عليه، فعقدت مع الله تعالى نيّة لا يأتيني قليل ولا كثير إلا أمسكت ثلثه وصرفت الثلثين لله تعالى، فعملت عليه عشرين سنة، فأثمر لي الحكم في الخلق بالولاية والعزل فأولي من شئت، وأعزل من شئت، ثم نظرت بعد ذلك في أوّل ما فرضه الله تعالى على عباده في مقام الإحسان، فوجدت شكر النعمة، بدليل إخراج الفطرة عن المولود قبل أن يفهم ووجدت أصناف من تصرف إليهم الصدقات (4) الواجبة [سبعة] وسبعة أصناف أخر صرفها فيها للإحسان والزيادة، وذلك أن لنفسك عليك حقّاً، وللزوجة حقّاً، وللرحم حقّاً، ولليتيم حقّاً، وللضعيف حقّاً، وذكر صنفين آخرين، فانتقلت لهذه الدرجة، وعقدت مع الله تعالى عقداً أن كل ما يأتيني أمسك سبعيه حق النفس وحق الزوجة وأصرف الخمسة أسباع لمستحقيها، فأقمت عليه أربعة عشر عاماً، فأثمر لي الحكم في السماء، فمتى قلت يا رب قال لي: لبيك، ثم قال لي: إنّها نهايتي بتمام عمري، وهو أن تنقضي لي ستة أعوام تكملة العشرين عاماً.

قال الصنهاجي: فأرخت ذلك اليوم، فلمّا مات وحضرت جنازته تذكرت التاريخ المكتوب، وحققت العدد، فنقصت من ستّة أعوام ثلاثة أيام خاصة،

(1) نيل الابتهاج: ذكر ذلك الحديث أثره.

(2)

نيل الابتهاج: فبقيت.

(3)

نيل الابتهاج: حكم الخاطر.

(4)

نيل الابتهاج: أضاف من يعطى الصدقة.

ص: 269

فيحتمل أن تكون من الشهور الناقصة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وقال أبو بكر ابن مساعد: جاء بعض السلاطين إلى أبي العباس وهو راكب، وقال له: إلى متى تحيرنا ولا تصرح لنا عن الطريق فقال له: هو الإحسان، فقال له: بيّن لي، فقال له: كل ما أردت أن يفعله الله تعالى معك فافعله مع عبيده.

وقال له أبو الحسن الخباز (1) : أما ترى ما فيه الناس من القحط والغلاء فقال: إنّما حبس المطر لبخلهم، فلو تصدقوا لمطروا، فقل لأصحابك الفلاحين: تصدقوا بمثل ما أنفقتم تمطروا، فقال له: لا يصدقني أحد، ولكن مرني في خاصة نفسي، فقال له: تصدق بمثل ما أنفقت، فقال له: إن الله تعالى لا يعامل بالدّين، ولكن أستسلف، فاحتال وتصدق بها كما أمره، قال: فخرجت إلى البحيرة التي عمرتها والشمس شديدة الحر، فأيت من المطر، ورأيت جميع ما غرست مشرفاً على الهلاك، فأقمت ساعة فإذا سحابة أمطرت البحيرة حتى رويت، وظننت أن الدنيا كلّها مطرت، فخرجت فإذا المطر لم يتجاوزها؛ انتهى.

والحكايات عنه في مثل هذا كثيرة.

وقال ابن الخطيب القسمطيني في رحلته (2) : حضرت عند الحاج الصالح الورع الزاهد أبي العباس أحمد بن عاشر بمدينة سلا، وقد سأله أحد الفقراء عن كرامة الأولياء، فقال له: لا تنقطع بالموت الكرامة، انظر إلى السبتي، يشير إلى الشيخ الفقيه العالم المحقق أبي العباس السبتي المدفون بمراكش، وما ظهر عند قبره من البركات في قضاء الحاجات بعقب الصدقات، سمعت يهوديّاً بمراكش يلهج ببركته وينادي باسمه في أمر أصابه لا مع المسلمين، فسألته عن سببه،

(1) نيل الابتهاج: الجنان.

(2)

يعني أنس الفقير، كما تقدم، انظره ص:8.

ص: 270

فأخبر أنّه وجد بركته في غير موطن، فسألته عمّا بدا له في وقت (1)، فقال لي: وحق ما أنزل على موسى بن عمران ما أذكر لك إلا ما اتفق لي، سريت ليلة مع قافلة في مفازة، فعجرت دابتي، فما شككت في قتلي وسلب مالي، فجلست وبكيت، وبيني وبين الناس بعد، وقلت: يا سيدي أبا العباس، خاطرك، قال لي: والله ما أتممت الكلام إلاّ وأهل القافلة أصابهم سبب وقفوا به، وضربت دابتي، وخف عرجها، ثم زال، واتصلت بالناس، فقلت له: لم لم تسلم فقال: حتى يريد الله تعالى، وعجبت من كون ذلك من يهودي، وهذه شهادة من عدوّ في الدين. ولقد وقفت على قبره مرات، وسألت الله تعالى في أشياء يسّر لي فيها سؤلي: منها أن أكون ممّن يشتغل بالعلم ويوصف به، وأن ييسر عليّ فهم كتب عينتها، فيسر الله تعالى عليّ ذلك في أقرب مدّة. وكان السبتي آية في أحواله، ما أدرك صحبته إلاّ الخواص من الناس، وكان أصل مذهبه الحض على الصدقة، وكان أمره عجباً في إجابة الدعاء بنزول المطر، واختصاصه بمكان دون آخر، وقال لأصحابه: أنا القطب، وكان تفقّه على أبي عبد الله الفخار، ووقفت على قبره، وله بركات وأنوار. وكان السبتي آية في المناظرة، وأوذي باللسان كثيراً جدّاً فصفح وتجاوز.

ورأى (2) عبد الرحمن بن يوسف الحسني النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له: يا رسول الله، ما تقول في السبتي قال: وكنت سيىء الاعتقاد فيه، فقال لي بعد أن تبسّم: هو من السّبّاق، قال: فقلت بيّن لي يا رسول الله، فقال: هو ممّن يمر على الصراط كالبرق، قال: فخرجت بعد الصبح، فلقيني أبو العباس، فقال لي: ما رأيت وما سمعت والله لا تركتك (3) حتى

(1) أنس الفقير: عما رأى له في أقرب وقت.

(2)

ما يزال النقل مستمراً عن أنس الفقير.

(3)

ق: لا أتركنك.

ص: 271

تعرفني، فعرفته، فصاح: كلمة الصفا من المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ انتى ببعض اختصار.

وقال ابن الزيات: وحدثني أبو العباس الصنهاجي وغيره أن رجلاً يعرف بابن الشكاز (1) ، وكان غنياً فدار عليه الزمان وافتقر، حدّث أنّه وصل لأبي العباس السبتي وعليه ثوب خلق تظهر منه عورته، فشكا إليه حالته، فأخذ بيده إلى أن خرج معه من باب تاغزوت، فجاء إلى مطهرة هنالك، قال: فدخل أبو العباس المطهرة وتجرّد من أثوابه وناداني، وقال لي: خذ هذه الثياب، فأخذتها، وكان بعد العصر، فأردت أن أرى ما يكون من أمره، فصعدت إلى حائط هناك إلى قرب المغرب، فإذا بفتى خرج من الباب على دابة معه رزمة ثياب، فلمّا رأيته نزلت إليه، فقال لي: أين الفقيه أبو العباس فقلت: ها هو في الساقية عريان، فقال لي: أمسك الدابة، فسمعت الفقيه يقول له: أين تلك الثياب فأخذها منه وخرج، فلمّا رآني قال لي: وما لك هنا قلت: يا سيدي خفت عليك، فلم أقدر على الانصراف وأتركك، فقال لي: أفترى الذي فعلت ما فعلت له يتركني ثم سألت الفتى عن سبب وصوله إليه، فذكر له أن إحدى الكرائم أمرته أن يحمل إليه تلك الثياب، وقالت له: لا تدفعها إلا للفقيه، ولا يلبسها إلاّ هو، وهذه قصّة صحيحة مشهورة.

وقال ابن الخطيب: وروضته بباب تاغزوت أحد أبواب مراكش غير حافلة البناء، ربما يتبرع متبرع باحتفالها فلا تساعده الأقدار، وزرتها، وربما شاهدت في داخلها أشياخاً من أهل التعفف والتصوّف يسارقون خفية الناظر إلى مساقط رحمات الله تعالى عليها لكثرة زائريها، فيقتحم (2) ذو الحاجة بابها خالعاً نعله مستحضراً نيته ويقعد بإزاء القبر ويخاطبه بحاجته، ويعين بين يدي النجوى صدقة

(1) نيل الابتهاج: السكان؛ ق: السكاك، والتصويب عن الأعلام.

(2)

ق: فيقحم؛ نيل الابتهاج: فيلج.

ص: 272

على قبره، ويدسها في أواني في القبر معدة لذلك، ومن عجز عن النقدين تصدق بالطعام ونحوه، فإذا خف الزائرون آخر النهار عمد القائم إلى التربة إلى ما أودع هناك في تلك الأواني وفرّقه على المحاويج الحافّين بالروضة، ويحصون كل عشية، ويعمهم الرزق المودع فيها، وإن قصر عنهم كملوه في غده.

قال ابن الخطيب لسان الدين: وترافع خدام الروضة لقاضي البلد، وتخاصموا في أمر ذاك الرزق المودع هناك، فسألهم القاضي عن خرجه اليوم، فقالوا: يحصل في هذه الأيام في اليوم الواحد ثمانمائة مثقال ذهباً عيناً، وربما وصل في بعض الأيام لألف دينار فما فوقها، فروضة هذا الوليّ ديوان الله تعالى في المغرب لا يحصى دخله ولا تحصر جبايته، فالتبر يسيل، واللجين يفيض، وذو الحاجة كالطير تغدو خماصاً وترجع بطاناً؛ يختص برحمته من يشاششء والله ذو الفضل العظيم.

قال: وأنا ممّن جرب المنقول عن القبر، فاطّرد القياس، وتزيفت الشبهة، وتعرفت من بدء زيارته ما تحقّقت من بركته، وشهد على برهان دعوته؛ انتهى.

وقال الشيخ أبو الحجاج يوسف التادلي في كتابه " التشوّف إلى رجال التصوّف "(1) : كان أبو العباس جميل الصورة، أبيض اللون، حسن الثياب، فصيح اللسان، مقتدراً على الكلام، حليماً صبوراً، يحسن إلى من يؤذيه، ويحلم على من يسفه عليه، رحيماً عطوفاً محسناً إلى اليتامىة والأرامل، يجلس حيث أمكنه الجلوس من الطرق والسوق، ويحض على الصدقة، ويذكر في فضلها آيات وأحاديث، ويأخذها ويفرقها على المساكين، ويرد أصول الشرع إلى الصدقة، ويفسّرها بها، ويقول: معنى قول المصلي الله أكبر أي: من أن نضن عليه بشيء، فمن رأى شيئاً من متاع الدنيا في نفسه أكبر فلم يحرم ولا كبّر، ومعنى رفع اليدين للتكبير: تخليت من كل شيء لا قليلاً ولا كثيراً،

(1) انظر الأعلام 1: 241.

ص: 273

وهكذا يتكلم بنحو هذا في جميع العبادات، ويقول: سرّ الصوم أن تجوع، فإذا جعت تذكرت الجائع، وما يقاسيه من نار الجوع، فتتصدق عليه، فمن صام ولم يعطف على الجائع فكأنّه لم يصم، إلى غير ذلك من كلامه في مثل هذا.

وكان إذا أتاه امرؤ يأمره بالصدقة، ويقول له: تصدق، ويتفق لك ما تريده، وأخباره في ذلك كثيرة عجيبة.

قال التادلي: وحدثني ولده الفقيه أبو عبد الله عن أبيه أنّه قال: كان ابتداء أمري وأنا صغير أنّي سمعت كلام الناس في التوكل، ففكرت في حقيقته (1) فرأيت أنّه لا يصح إلا بترك شيء، ولم يكن عندي منه [بد] ، فتركت الأسباب، واطّرحت العلائق، ولم تتعلّق نفسي بمخلوق، فخرجت سائحاً متوكّلاً، وسرت نهاري كلّه فأجهدني الجوع والتعب، وقد نشأت في رفاهية [من العيش](2) ، وما مشيت قط على قدمي، فبلغت قرية فيها مسجد، فتوضأت ودخلت المسجد فصليت المغرب ثم العشاء، وخرج الناس، فقمت لأصلي، فلم أقدر من شدة الجوع والتألّم بالمشي، فصليت ركعتين، وجلست أقرأ القرآن إلى أن مضى جزء من الليل، فإذا قارع يقرع الباب بعنف، فاستجاب له صاحب الدار، فقال له: هل رأيت بقرتي فقال: لا، فقال: إنّها ضلت وقد أكثر عجلها من الحنين فطلبتها فلم نجدها في القرية، فقال أحدهم: لعلّها [دخلت] في المسجد وقت العتمة، ففتحوا باب المسجد ودخلوا فوجدوني، فقال صاحب البقرة: ما أظنّك أكلت الليلة شيئاً، فذهب وجاءني بكسرة خبز وقدح لبن، ثم ذهب ليأتيني بالماء فوجد بقرته في داخل الدار، فخرج لجيرانه وقال لهم: ما زالت البقرة من الدار، وما كان خروجي إلا لهذا الفتى الجائع في المسجد، ثم رغّبني أن أمشي معه لمنزله، فأبيت.

(1) ق: دقيقة، والتصويب عن الأعلام.

(2)

سقطت من ق.

ص: 274

وكان في أول أمره يسكن في الفندق (1) ويعلّم الحساب والنحو ويأخذ الأجرة على ذلك، وينفقها على طلبة العلم الغرباء، ويمشي في الأسواق، ويذكّر الناس، ويضربهم على ترك الصلاة، ويأتي بالطعام على رأسه.

وبات ليلة عند الطلبة فارتفعت أصواتهم بالمذاكرة، فإذا بالحرس قد قرعوا باب الفندق فقام إليهم القيّم بخدمته، فقالوا له: ما تعلمون أن من رفع صوته باللّيل يقتل ثم قعد اثنان من الحرس على باب الفندق ليحملونا إذا طلع الفجر للوالي (2) ، فجاء القيّم فأخبرنا فأدركنا خوف عظيم، وأيقنّا بالهلاك، فأخذ أبو العباس في الضحك ولا يبالي، ثمّ خلا بنفسه عند السحر ساعة ثم قال لنا: لا خوف عليكم، قد استوهبتكم من الله تعالى، وهذان الحرسيان الواقفان غداً يقتلان إن شاء الله تعالى، فقيل له: الجزاء عندك على الأفعال من الخير والشر، وهما لا يفعلا ما يوجب قتلهما، بل جزاؤهما يروّعان كما روّعانا، فقال: العلماء ورثة الأنبياء، وترويعكم عظيم لا يقابله منهم إلا القتل، فمازلنا نعارضه في ذلك حتى قال: عقوبتهما أن يضرب كل واحد منهما مائة سوط، ثم اجتاز عبد الله الخرّاز صاحب الوقت بالجامع الأعظم، فوجد حانوته (3) مفتوحاً، ورأى الحرسيين على قرب، فلم يشكّ أنهما حلاّه (4) ، فحملا إلى ربحة القصر قبل طلوع الفجر، فقال لنا أبو العباس: احضروا على ضربهما كما أرادا قتلكم، فتبعناهما، وحضرنا حتى ضرب كل واحد مائة سوط.

وكراماته ومناقبه كثيرة لا تحصى.

وكان يقول (5) : أصل الخير في الدنيا والآخرة الإحسان، وأصل الشرّ فيهما البخل، قال الله تعالى " فأمّا من أعطى (الليل: 5) وقال عن إبليس " ثمّ

(1) زاد التادلي في الأصل: الفندي الذي بأدجير، المعروف بفندق مقبل.

(2)

الأعلام: لنقتل.

(3)

ق: تابوته.

(4)

حلاه: فتحاه؛ وفي الأعلام: فتحاها.

(5)

انظر الأعلام: 258.

ص: 275

لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم " الأعراف: 17 وقال " ومنهم من عاهد الله " التوبة: 75 وقال " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " الحشر: 9 وقال " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة " القلم: 17 وقال " وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم " آل عمران: 133 وقال " ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم " البقرة: 177 وقال " إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض - الآية " الأحزاب: 72 فهذه الأمانة هي الرزق، فأعطت السموات ما فيها من الماء وهو المطر، والأرض ما فيها من الماء النازل من الجبال، والجبال ما فيها كذلك، وأنبتت الأرض وأبت إمساكها، فخزن الإنسان جميعها عنده ومنع المساكين إنّه كان ظلوماً جهولاً، وفي الحديث " هم الأقلّون وربّ الكعبة، إلا من قال هكذا وهكذا - الحديث " ولمّا أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه دعا عليهم موسى بالبخل، فقال " ربنا إنّك آتيت فرعون - إلى قوله: دعوتكما " يونس: 88، 89 وكان رضي الله عنه في آخر عمره كثيراً ما يقرأ هذه الآية " أفرأيت الّذي تولّى - إلى قوله: سوف يرى " النجم: 23 وكان يقول: من قال إن الله تعالى لا يجازي على الصدقات فقد وافق اليهود في الفرية على الله تعالى لأنهم قالوا " يد الله مغلولة، غلّت أيديهم " المائدة: 64 أي لا يجازي على الصدقات، قال الله تعالى " غلّت أيديهم - إلى آخره " أي يجازي على العطاء كيف شاء. وكان يقول في قوله تعالى " والذين يكنزون الذّهب والفضّة - الآية " التوبة: 34 إنّما كويت هذه المواضع لأن الغني يعرض عن المسكين بوجهه، ثم بجنبه، ثمّ بظهره، فعوقبت هذه المواضع بالكيّ بالنار لإعراضه عن الفقير، ومنازعه رحمه الله تعالى في أمثال هذا كثيرة؛ انتهى ملخصاً.

وحدث أبو إسحاق إبراهيم بن أبي يعمور (1) أنّه دخل صحبة الشيخ سيدي أبي العباس السبتي إلى الأمير السيد أبي سعيد عثمان يعوده، فقال له: ادع الله

(1) أورده في الأعلام: 310 نقلا عن النفح.

ص: 276

تعالى لي أيّها الشيخ، فقال له: ارجع إلى الله تعالى حق الرجوع بحيث تتحقّق أنّه الممرض والمعافي، واخرج عن بعض ما عندك من فضول الدنيا لأبناء الجنس، لتكون ممّهن وقي شح نفسه، فحينئذ يحصل لك ما ترجوه من الدعاء، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: في المرض فوائد لا ينبغي أن تجهل: الأولى معرفة قدر العافية، الثانية تمحيص بعض الذنوب، الثالثة توقّع الثواب، الرابعة تنقية الجسم من فضول الأخلاط، الخامسة كثرة ذكر الله تعالى والتضرع إليه، السادسة حدوث الرقة والشفقة، السابعة - وهي العظمى - الصدقة والخروج عن رذيلة البخل؛ انتهى. وحدث الكاتب أبو القاسم ابن رضوان عن أبي بكر ابن منظور عن بعض أعيان مراكش أنّه توفّي وأوصى ابناً له كان من أهل البطالة أن يعمد إلى ألف دينار من متخلّفه، فيدفعها للشيخ سيدي أبي العباس السبتي، ففعل، وقال للشيخ: إن أبي توفّي وأوصاني أن أدفع إليك هذه الألف دينار تضعها حيث شئت، فقال له الشيخ: قد قبلتها وصرفتها إليك، فقال له: يا سيدي، وما تأمرني أن أفعل بها قال: خذها، قال: فانصرفت من عنده وسؤت ظنّاً بقوله، ثم قلت: وأنا أنفق مثل ذلك على عادتي في الوجه الذي يلذ لي، فلأفعلن بها ما أفعل بغيرها، فأخذتها في محفظة، وخرجت ألتمس الزنى، فإذا امرأة عل دابة وغلام يقودها، فأشرت إلى الغلام، فقال لي: نعم، واتبعني إلى بستان لي، فنزلت المرأة، فأدخلتها إلى قبة كانت في البستان، وأخذ الغلام الدابة وصار ناحية، وقال: أغلق الباب، ففعلت، ثم أقبلت إلى القبة فإذا المرأة تبكي بكاء شديداً حتى طال بكاؤها، وبكيت لبكائها، فقلت لها: ما شأنك فقالت: افعل ما دعوتني لأجله، ودع عنك هذا، ونحيبها يزيد، فقلت لها: إن المعنى الذي دعوتك لأجله لا يصلح مع البكاء، بل مع الأنس وانشراح الصدر وزوال الانقباض ورفع الخجل، فقالت: نترك البكاء ونرجع للأنس على ما تحب ويوفى غرضك، فقلت: لا، حتى أعلم سبب بكائك، وألححت عليها، فقالت: أتعرف حاجب الملك الذي سجنه قلت: نعم، قالت: فأنا ابنته

ص: 277

ولم يبق له أحد غيري، وقد سجنه الملك وأخذ أمواله، فما زلت أبيع ما ترك أبي وأنفقه عليه، حتى لم يبق بيدي شيء، فلمّا أعيتني الحيلة فيما أنفقه ألجأت نفسي ووقفت هذا الموقف وأنا بكر ما رأى لي أحد وجهاً قط، فرميت لها بالألف دينار وقلت لها: والله لا قربت منك على هذا الوجه أبداً، فأنفقي الدنانير على والدك إلى أن تنفد، وابعثي لي غلامك أعلمه بمنزلي، ولازمي دارك، واستمري على صيانتك وإلا فضحتك، وتريني واللله لا أزال أبيع أملاكي وأنفقها على والدك حتى أموت أو يفنى كل ما أملكه، ثم خرجت ألتمس الغلام وإذا بجماعة يطلبون البنت، وقالوا: إن الملك رضي عن والدها، ورد عليه ضياعه وأملاكه، ووصله بعشرة آلاف دينار، وقعد يلتمس بنته فلم توجد، فسقط في يد الغلام الذي كان مع الدابة، وظن أن الأمر على ما جرى بيني وبين البنت، فبادرته وقلت له: لا عليك، فتجاهل في خبرها حتى ينصرفوا، ودخلت إلى البنت وقلت لها: إن الملك قد رضي عن والدك، ورد عليه ماله ووصله، فسيري إلى دارك، فركبت دابتها وانصرفت، فدخلت على والدها فقال لها: أين كنت وما الذي أخرجك عن دارك وهمّ بها، فقالت له: أخرج عني كل من في الدار، ففعل، فأخبرته أمرها مع الشاب من أوله إلى آخره، ورمت إليه بالألف دينار، وقالت له: هذا الذي أعطاني لأنفق عليك، فقال أبوها: هذا والله هو الكبريت الأحمر، والله لو كان أبوه كنافاً ما أنفت أن أزوجك منه، فوجّه العبد الذي كان معها إلى الشاب، وقال له: إن سيدي يدعوك، قال: فخفت أن يوضع عنده الأمر على غير وجهه، ثم أقدمت إقدام من علم براءة نفسه، فدخلت عليه، فقام إليّ وعانقني، وقد عرف لي مقامي (1)، وقال: أما الآن وأنت من أعيان الناس فقد قرّت بك عيني، وقال: والله لو كان أبوك كنافاً ما أنفت لبنتي أن أزوجك منها، فما قام من المجلس حتى وجّه إلى

(1) ق: وقد عرفني.

ص: 278

العدول وأشهد على نفسه بأنّه زوّج ابنته فلانة من هذا الشاب، ونقندها عنه الشطر الأول من العشرة آلاف دينار التي وصله بها الملك وأجّل لها عنه الشطر الثاني، وأهدى لها من الحلي كذا وكذا، ومن الثياب كذا وكذا، حتى أتى على أكثر أملاكه حتى أنفقها على ذلك، فحصل من إشارة الشيخ السبتي رضي الله عنه في تلك الألف دينار على أضعاف مضاعفة من الأموال، وظفر ببنت حاجب الملك؛ انتهى. أكثر أملاكه حتى أنفقها على ذلك، فحصل من إشارة الشيخ السبتي رضي الله عنه في تلك الألف دينار على أضعاف مضاعفة من الأموال، وظفر ببنت حاجب الملك؛ انتهى.

رجع إلى ابن زمرك رحمه الله تعالى:

قال الشاطبي في الإشارات والإفادات ما صورته:

إفادة: أفادني صاحبنا الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك إثر إيابه إلى وطنه من رحلة العدوة في علم البيان فوائد أذكر منها الآن ثلاثاً: الفقه في اللغة، وهو النظر في مواقع الألفاظ وأين استعملتها العرب، ومن مثل هذا الوجه قرم وعام إذا اشتهى، لكن لا يستعمل قرم إلا مع اللحم، ولا يستعمل عام إلاّ مع اللبن، فتقول: عمت إلى اللن، وكذلك قولهم: أصفر فاقع، وأحمر قان، ولا يقال بالعكس، وهذا كثير. والثانية تحري الألفاظ البعيدة عن طرفي الغرابة والابتذال، فلا يستدل بالحوشي من اللغات، ولا المبتذل في ألسن العامة. والثالثة اجتناب كل صيغة تخرج الذهن عن أصل المعنى أو تشوش عليه؛ إذ المقصود الوصول في بيان المعنى إلى أقصاه، والإتيان بما يحصله سريعاً ويمكنه في الذهن، وتحري كل صيغة تمكن المعنى وتحرض السامع على الاستماع، وأخبرني أن كتّاب المغرب يحافظون في شعرهم وكتابتهم على طريقة العرب، ويذمّون ما عداها من طريقة المولدين، وأنّها خارجة عن الفصاحة، وهذه المعاني الثلاثة لا توجد إلا فيها.

وذكر من شرح بديعية الحلي من المغاربة وهو الشيخ النحوي عبيد الثعالبي في شواهد حسن الختام أن منه ختام قصيدة للكاتب البارع أبي عبد الله المعروف

ص: 279

بابن زمرك الأندلسي مدح بها ملك المغرب عبد العزيز حين قدم عليه رسولاً من صاحب الأندلس، وهو قوله:

ولو أنشدت بين العذيب وبارق

لقال رواة الغرب يا حبذا الشرق ولم يظهر لي كل الظهور دلالته لي على حسن الختام، ولا بد، فالله سبحانه أعلم.

وقد أطلنا في ترجمة ابن زمرك فلنختم نظامه بموشّحة له زهرية مولدية تضمنت مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي هذه (1) :

لو ترجع الأيام بعد الذهابْ

لم تقدح الأيام (2) ذكرى حبيب (3)

وكلّ من نام بليل الشبابْ

يوقظه الدهر بصبح المشيب

يا راكب العجز ألا نهضة

قد ضيّق الدهر عليك المجال

لا تحسبن أن الصّبا روضة

تنام فيها تحت فيء الظلال

فالعيش نوم والردى يقظة

والمرء ما بينهما كالخيال (4)

والعمر قد مرّ كمرّ السحاب

والملتقى بالله عمّا قريب

وأنت مخدوع بلمع السراب

تحسبه ماء ولا تستريب

والله ما الكون بما قد حوى

إلاّ ظلال توهم الغافلا

وعادة الظلّ إذا ما استوى

تبصره منتقلاً زائلا

إنّا إلى الله عبيد الهوى

لم نعرف الحقّ ولا الباطلا

فكل من يرجو سوى الله خاب

وإنّما الفوز لعبد منيب

يستقبل الرّجعى بصدق المتاب

ويرقب الله الشهيد القريب

(1) أوردها في أزهار الرياض 2: 205.

(2)

الأزهار: الأشواق.

(3)

ق: ذكر الحبيب.

(4)

من قول أبي الحسن التهامي:

فالعيش نوم والمنية يقظة

والمرء بينهما خيال ساري

ص: 280

يا حسرتا مرّ الصّبا وانقضى

وأقبل الشيب يقص الأثر

واخجلتا والرحل قد قوّضا

وما بقي في الخبر غير الخبر

وليتني لو كنت فيما مضى

أدّخر الزاد لطول السّفر

قد حان من ركب التصابي إياب

ورائد الرشد أطال المغيب

يا أكمه القلب بغين الحجاب

كم ذا أناديك فلا تستجيب

" هل يحمل الزاد لدار الكريم "(1)

والمصطفى الهادي شفيع مطاع

فجاهه ذخر الفقير العديم

وحبّه زادي ونعم المتاع

والله سمّاه الرؤوف الرحيم

فجاره المكفول ما إن يضاع

عسى شفيع الناس يوم الحساب

وملجأ الخلق لرفع الكروب

يلحقني منه قبول مجاب

يشفع لي في موبقات الذنوب

يا مصطفى والخلق رهن العدم

والكون لم يفتق كمام الوجود

مزية أعطيتها في القدم

بها على كلّ نبيّ تسود

مولدك المرقوم لمّا نجم

أنجز للأمّة وعد السّعود

ناديت لو يسمح لي بالجواب

شهر ربيع يا ربيع القلوب

أطلعت للهدي بغير احتجاب

شمساً ولكن ما لها من غروب

2 -

ومن تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى، الطبيب العالم ابن المهنا شارح ألفية ابن سينا (2) ، وشرحه عليها من أبدع الشروح، وقد نقل عن لسان الدين

(1) من قول الشاعر:

هل احتقبت الزاد اكففي

هل يحمل الزاد لدار الكريم (2) يعني أرجوزة ابن سينا في الطب، وأولها بعد التحميدات:

الطب حفظ صحة برء مرش

من سبب في بدن منذ عرض (انظر قنواتي: مؤلفات ابن سينا: 172 وما بعدها) .

ص: 281

كثيراً، واعتمد عليه في أمور الطب، وقد طال عهدي به الآن، وهو من الكتبالمشهورة بالمغرب، ولم أره بهذه الديار المشرقية.

3 -

من تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى: الأديب الكاتب العالم العلامة القاضي أبو بكر ابن جزيّ الكلبي، وأبوه الشيخ أبو القاسم ابن جزي شيخ لسان الدين، وبيت بني جزي بيت كبير مشهور بالمغرب والأندلس، وقد عرّفنا فيما سبق بالشيخ أبي القاسم وابنيه العلامتين الناظمين الناثرين الكاتب أبي عبد الله محمد والقاضي أبي بكر المذكور، فليراجع في الباب الثالث (1) .

ورأيت بخط بعض علماء المغرب أن أبا بكر المذكور روى عن لسان الدين ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - جميع تواليفه مع أنّه مقاربه في السن، ولكن الإنصاف في ذلك الزمان غير معدوم، وقد عرّف به لسان الدين في الإحاطة والذي فهمت من عبارته في الإحاطة أنّه إن عبر بصاحبنا فلا يطلقها غالباً إلا على تلامذته، وربما أطلقها على غيرهم كما لا يخفى على من مارس كلامه، رحمه الله تعالى؛ وأتقن تاريخ أهل المغرب والأندلس، رحم الله تعالى الجميع.

4 -

ومن تلامذة لسان الدين رحمه الله تعالى: مؤدب أولاد الملوك ومعلمهم القرآن وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عبد الله الشريشي، وهو الذي تولى أولاً نقل " الإحاطة " من مبيضتها، كما يبقت الإشارة إليه في كلام حفيط السلطان ابن الأحمر، وأحكم النسخة، فكانت في مجلدات ستة، وكان لسان الدين ألقى إليه بالمبيضات اعتماداً منه عليه، وثقة به، لاشتغال لسان الدين بأمور المملكة.

5 -

ومن تلامذة لسان الدين: القاضي الكاتب أبو محمد عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن عطية المحاربي.

(1) انظر ترجمته في ما تقدم 5: 517.

ص: 282

قال في " الإحاطة ": صاحبنا الفقيه الخطيب، كاتب الإنشاء بالباب السلطاني أبو محمد، نسيج وحده في أصالة البيت وعفاف النشأة، مقصود المنزل، نبيه الصهر، معم مخول في الأصالة، بارع الخط، جيّد القريحة، سيّال المداد، نشيط البنان، جلد على العمل، خطيب ناظم ناثر، قرأ بغرناطة، وولي الخطابة بالمسجد الأعظم والقضاء سنتين ببلده في حداثة السن، ثم انتقل إلى غرناطة فجأجأت به الكتابة السلطانية داحضة بالحق، آوته إلى هضبة أمانة مستظهرة ببطل كفاية، فاستقل رئيساً في غرض إعانتي وانتشالي من هفوة الكلفة على جلل الضعف وإلمام المرض. ثم كشفت الخبرة منه عند الحادثة على الدولة، وإزعاجها من الأندلس عن سوأة لا توارى، وعورة لا يرتاب في أشنوعتها ولا يتمارى، فسبحان من علّم النفس فجورها وتقواها، إذ لصق بالدائل الفاسق (1) فكان آلة انتقامه، وجارحة صيده، وأحبولة كيده، فسفك الدماء، وهتك الأستار، ومزق الأسباب، وبدل الأرض غير الأرض، وهو يزقه في أذنه زقوم النصيحة، وينحله لقب الهداية، ويبلغ في شدّ أزره إلى الغاية، عنوان عقل الفتى اختياره، يجري في سبيل دعوته طوالاً، أخرق يسيء السمع فيسيء الإجابة، بدويّاً قحّاً جهوريّاً ذاهلاً عن عواقب الدنيا والآخرة، طرفاً في سوء العهد وقلّة الوفاء، مردوداً في الحافرة، منسلخاً من آية السعادة، تشهد عليه بالجهل يده، ويقيم عليه الحجج شرهه (2) ، وتبوئه هفوات الندم جهالته، ثم أسلم المحروم مصطنعه أحوج ما كان إليه، وتبرأ منه، ولحقته بعده مطالبة مالية لقي لأجلها ضغطاً، وهو الآن بحال خزي، واحتقاب تبعات، واستدعيت شيئاً من نظمه ونثره حال التصنيف ليترجم به، فكتب إليّ ما نصّه:

يا سيّداً فاق في مجد وفي شرف

وفات سبقاً بفضل الذات والسلف

(1) يعني السلطان النصري الذي هرب منه لسان الدين إلى المغرب.

(2)

ق: شره.

ص: 283

وفاضلاً عن سبيل الذمّ منحرفاً

وعن سبيل المعالي غير منحرف

وتحفة الزّمن الآتي به فلقد

ربا بما حازه منها على التحف

ومعدناً لنفيس الدرّ فهو لما

حواه منه لدى التشبيه كالصدف

وبحر علم جميع الناس مغترف

منه، ونيل المعالي خير مؤتلف

وسابقاً بذّ أهل العصر قاطبة

فالكل في ذاك منهم غير مختلف

من ذا يخالف في نار على علم

أو يجحد الشمس نوراً وهو غير خفي

ما أنت إلاّ وحيد العصر في شيم

وفي ذكاء وفي علم وفي ظرف

لله من منتم للمجد منتسب

بالفضل متّسم، بالعلم متصف

لله من حسب عدّ ومن كرم

قد شاده السلف الأخيار للخلف

إيه أيا من به تبأى الوزارة إذ

كنت الأحقّ بها في الذات والشرف

يا صاحب القلم الأعلى الذي جمعت

فيه المعالي فبعض البعض لم أصف

يا من يقصّر وصفي في علاه ومن

أنسي مديح حبيب في أبي دلف

شرّفتني عندما استدعيت من نظمي

نظماً تدوّنه في أبدع الصحف

وربما راق ثغر في تبسّمه

حتى إذا ناله إلمام مرتشف

أجلّ قدرك أن ترضى لمنتجع

بسوء كيلته حظاً مع الحشف

هذا، ولو أنّني فيما أتيت به

نافحت بالطيب زهر الروضة الأنف

لكنت أفضي إلى التقصير من خجل

إذ لست بالبعض ممّا تستحق أفي

فنحسبي العجز عمّا قد أشرت به

فالعجز حتماً قصارى كلّ معترف

لكن أجبت إلى المطلوب ممتثلاً

وإن غدوت بمرمى القوم كالهدف

فانظر إليها بعين الصفح عن زلل

واجعل تصفّحها من جملة الكلف

بقيت للدهر تطويه وتنشره

تسمو من العزّ باسمٍ غير منصرف ثم ذكر نثراً، وأن مولده بوادي آش آخر عام تسعة وسبعمائة، وتولّى الخطابة والإمامة بها عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة، ثم ولي القضاء بها وبأعمالها عام

ص: 284

ثلاثة وأربعين وسبعمائة، ثم انتقل للحضرة آخر رجب عام ستّة وخمسين وسبعمائة، ومن شعره قوله:

ألا أيّها الليل البطيء الكواكب

متى ينجلي صبح بليل المآرب

وحتى متى أرعى النّجوم مراقباً

فمن طالع منها على إثر غارب (1)

أحدّث نفسي أن أرى الركب سائراً

وذنبي يقصيني بأقصى المغارب

فلا فزت من نيل الأماني بطائل

ولا قمت في حقّ الحبيب بواجب

فكم حدّثتني النفس أن أبلغ المنى

وكم علّلتني بالأماني الكواذب

وما قصّرت بي عن زيارة قبره

معاهد أنس من وصال الكواعب

ولا حبّ أوطان نبت بي ربوعها

ولا ذكر خلّ حلّ فيها وصاحب

ولكن ذنوب أثقلتني فها أنا

من الوجد قد ضاقت عليّ مذاهبي

إليك رسول الله شوقي مجدّداً

فيا ليتني يممت صدر الركائب

فأعملت في تلك الأباطح والرّبى

سراي مجدّاً بين تلك السباسب

وقضّيت من لثم البقيع لبانتي

وجبت الفلا ما بين ماش وراكب

وروّيت من ماء بزمزم غلّتي

فلله ما أشهاه يوماً لشارب

حبيبي شفيعي منتهى غايتي التي

أرجّي ومن يرجوه ليس بخائب

محمد المختار والحاشر الذي

بأحمد حاز المجد من كلّ جانب

رؤوف رحيم خصّنا الله باسمه

وأعظم بماح في الثناء وعاقب

رسول كريم رفع الله قدره

وأعلى له قدراً رفيع الجوانب

وشرّفه أصلاً وفرعاً ومحتداً

يزاحم آفاق السما بالكواكب

سراج الهدى ذو الجاه والمجد والعلا

وخير الورى الهادي الكريم المناسب

هو المصطفى المختار من آل هاشم

وذو الحسب العدّ الرفيع المناصب

(1) كأنه نسخ فيه قول ابن خفاجة (ديوانه: 217) :

وحتى متى أرعى الكواكب ساهراً

فمن طالع أخرى الليالي وغارب

ص: 285

هو الأمد الأقصى هو الملجأ الذي

ينال به مرغوبه كلّ راغب

إمام النبيين الكرام، وإنّه

لكالبدر فيهم بين تلك المواكب (1)

بشير نذير مفضل متطوّل

سراج منير بذّ نور الكواكب

شريف منيف باهر الفضل كامل

نفيس المعالي والحلي والمناقب

عظيم المزايا ما له من مماثل

كريم السجايا ما له من مناسب

ملاذ منيع ملجأ عاصم لمن

يلوذ به من بين آت وذاهب

جليل جميل الخلق والخلق ما له

نظير، ووصف الله حجّة غالب

وناهيك من فرع نمته أصوله

إلى خير مجد من لؤيّ بن غالب

أولي الحسب العدّ الرفيع جنابه

بدور الدياجي أو صدور الكتائب

له معجزات ما لها من معارض

وآيات صدق ما لها من مغالب

تحدّى بهن الخلق شرقاً ومغرباً

وما ذاك عمّن حاد عنها بغائب

فدونكها كالأنجم الشّهب عدة

ونور سناً لا يختفي للمراقب

وإحصاؤها مهما تتبعت معوز

وهل بعد نور الشمس نور لطالب

لقد شرّف الله الوجود بمرسلٍ

له في مقام الرسل أعلى المراتب

وشرّف شهراً فيه مولده الذي

جلا نوره الأسنى دياجي الغياهب

فشهر ربيع في السهور مقدّم

فلا غرو أنّ الفخر ضربة لازب

فلله منه ليلة قد تلألأت

بنور شهاب بيّن الأفق شاهب

ليهن أمير المسلمين بها المنى

وأن نال من مولاه أسنى الرغائب

على حين أحياها بذكر حبيبه

وذكر الكرام الطاهرين الأطايب

وألّف شملاً للمحبين فيهم

فسار على نهج من الرشد لاحب

(1) ق: الكواكب.

ص: 286

فسوف يجازى عن كريم صنيعه

بتخليد سلطان وحسن عواقب

وسوف يريه الله في نصر دينه

غرائب صنع فوق تلك الغرائب

فيحمي حمى الإسلام عمّن يرومه

بسمر العوالي أو بيض القواضب

ويعتز دين الله شرقاً ومغرباً

بما سوف يبقى ذكره في العجائب

إلهي ما لي بعد رحماك مطلب

أراه بعين الرشد أسنى المطالب

سوى زورة القبر الشريف وإنّه

لموهبة فاقت جميع المواهب

عليه سلام الله ما لاح كوكب

وما رافق الأظعان حادي الركائب وقال لسان الدين رحمه الله تعالى: وليس لهذا الرجل انتحال لغير الشعر والكتابة وغير هذا الشعر قران، فقلّ أن ينتهي هذا الشعر في الضعة والاسترذال إلى ما دون هذا النمط، فهو بغير ثان شعراً وشكلاً وبلداً، لطف الله تعالى بنا وبه؛ انتهى باختصار.

6 -

ومن تلامذة لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الكاتب أحمد بن سليمان بن فركون (1)، ومن نظمه على لسان من يرمى بالداء العضال في فرج (2) عبد ابن زمرك الوزير بعد ابن الخطيب:

قالوا كلفت به غلاماً حالكاً

فأجبتهم في فيه ما يرضي المهج

مهما جننت بحسنه وبحبّه

علّقت فوقي منه حرزاً من سبجْ

(1) ترجم له في الإحاطة 1: 228 وأثنى عليه بأنه شعلة من شعل الذكاء والإدراك ومجموع خلال حميدة وأنه طالب نبيل مدرك نجيب بذ أقرانه

ثم عاد فترجم له في الكتيبة الكامنة: 305 وأنحى عليه بالذم الشديد: " جرو محقور وفي جلدة كلب عقور

وسفيه يقال عند ذكره: كفاك الله شر من أحسنت إليه " وما ذلك إلا لأن ابن فركون كان من الزمرة التي تغيرة على لسان الدين.

(2)

قال لسان الدين في الكتيبة الكامنة في ترجمة ابن زمرك: " وبينه وبين معاصريه مداعبات في غلام له غريب (لعلها: غربيب) جعله مرمى غزل ونسيب

وجمجمت الأقوال في هذا الميدان، فجمعت بين الندس والهدان، والقاصي والدان

إلخ ".

ص: 287

ورأيت بخط الوادي آشي ما صورته: وجدت بخط لسان عالدين، وخاتمة أعلام البيان المجيدين، ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب رحمه الله تعالى في طرة اسم الكاتب أحمد بن سليمان بن فركون، المختص به، المتأدب بما انفرد به من انتساخ تواليف ابن الخطيب ما نصّه: يسقط هذا الساقط من الديوان؛ انتهى.

ولعلّ لسان الدين إنّما أمر بإسقاطه من الإحاطة لما يتّهم به من معنى بيتيه السابقين، ويحتمل أن يكون لغير ذلك (1) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1) قلت هذا الترجيح من المقري يؤكد أنه لم يطلع على الكتيبة الكامنة، ولا عرف سبب التغير في نفس لسان الدين على أحد تلامذته.

ص: 288