المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرافلين في حلل الجلاله، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله، الوارثين - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ٧

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌الرافلين في حلل الجلاله، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله، الوارثين

‌الباب الثامن

‌في ذكر أولاده

‌الرافلين في حلل الجلاله، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله، الوارثين

العلم

والعمل والرياسة والمجد عن غير كلاله، ووصيته لهم الجامعة لآداب الدين

والدنيا، المشتملة على النصائح الكافية والحكم الشافية من كل مرض بلا ثنيا،

المنقذة من أنواع الضلاله، وما يقع في ذلك من المناسبات القوية، والأمداح

النبوية، التي لها على حسن الختام أظهر دلاله

اعلم - وفقني الله تعالى وإياك لمرضاته، وجعلنا ممّن يعتبر بالدهر في معضاته - أن أولاد لسان الدين ثلاثة: عبد الله، ومحمد، وعلي، وكلّهم حدّث عن أبيه وعن ابن الجياب.

أما محمد فقد نال حظه من التصوّف، ولم يكن له إلى خدمة الملوك تشوّف، ولم يحضرني الآن نص من أنبائه أكتبه لعدم وجود الكتب التي هي مظّان ذلك، إذ قد تركتها بالمغرب.

وقد سبق فيما مرّ (1) من كلام ابن خلدون أن أولاد لسان الدين كانوا من ندماء السلطان وأهل خلوته، وأن عليّاً كان خالصة السلطان، رحم الله تعالى الجميع.

وأمّا عبد الله فقد كتب بالعدوتين، لملوك الحضرتين، وتولى القيادة والكتابة بالأندلس أيام كان أبوه مدبر الدولة، وأكثر الناس بها كالخواص

(1) فيما مر: سقطت من ق.

ص: 289

حوله، ولا أعلم الآن ما آل إليه أمره بعد وفاة أبيه، وقد ألمّ ببعض التعريف بمبدإ أحواله أبوه لسان الدين في كتاب " الإحاطة في تاريخ غرناطة " فقال في حقّه ما ملخصه (1) : عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن الخطيب التلمساني، حسن الشكل، جيد الفهم، يغطي منه رماد السكون جمرة حركة، منقبض عن الناس قليل البشاشة، حسن الخط، وسط النظم، كتب عن الأمراء بالمغرب، وأنشدهم واقتضى صكوكهم بالإقطاعات (2) والإحسان، واختال في خلعهم، ثم لما كانت الفتنة كتب عن سلطان وطنه معزز الخطة بالقيادة، قرأ على قاضي الجماعة الخطيب أبي القاسم الحسني، والخطيب أبي سعيد فرج بن لب التغلبي، واستظهر بعض المبادىء في العربية، واستجيز (3) له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب. وشعره مترفع عن الوسط إلى الإجادة، يكلّله عذر الحداثة، فمنه قوله في مولد أربعة وستين وسبعمائة:

بحقّ الهوى يا حداة الحمول

قفوها قليلاً بتلك الطلول

معاهد مرّت عليها السحاب

ببرق خفوق ودمع همول

أحنّ إليها حنين العشار

وأبكي عليها بشجو طويل

فيا سعد عرّج عليها الركاب

ففيها لقلبي شفاء الغليل

سقاها من المزن صوب الغمام

وحيّا بعرف النسيم العليل

ولا زال فيها يجرّ الذيول

فيحيي النفوس بجرّ الذيول

لئن حلت يا ربع عن عهدنا

فعهد الهوى ليس بالمستحيل

وممّا شجاني وميض خفوق

كقلبي غداة النوى والرحيل

وميض إذا سلّه المزن وهناً

يضيء سناه كعضب صقيل

(1) انظر الإحاطة، الورقة:237.

(2)

الإحاطة: بالاقطاع.

(3)

الإحاطة: وأجاز.

ص: 290

أطار الفؤاد فؤاد المشوق

وأغرى السهاد بطرف كليل

فبت أطاول ليل التمام

بوجد جديد وصبر محيل

ودمع يساجل دمع الغمام

وشجو الحمائم عند الهديل

فيا ليت شعري وهل من سبيل

على الوجد يوماً بصبر جميل

وهل (1) يسمح الدهر بعد العناد

بجبر الكسير وعزّ الذليل

وهل راجع عهدنا بالحمى

على رغم دهر ظلوم جهول

فيا حسن مأوى عزاء جميل

ويا طيب مأوى بظلّ ظليل

وفي ذمّة الله ركب سروا

يجدّون والليل مرخى السدول

نشاوى بكأسين كأس الهوى

وكأس من الأمن مثل الشّمول

يؤمّون بالعيس أمّ القرى

وقبرَ النبيِّ الشفيع الرسول

ديار بها الوحي وحي السما

تنزّل، أكرم به من نزول

بها أشرق الدين كالشمس نوراً

وآن من الشرك وقت الأفول

فيا حادي العيس يطوي الفلا

بوخد القلاص ونصّ الذّميل

سفائن آل طواها السرى

وشق الحزون وقطع السهول

نشدتك بالبان بان الحمى

وبالمورد العذب والسلسبيل

إذا ما حللت لدى طيبة

وجئت محلّ الرضى والقبول

وقبراً ثوى فيه خير الورى

وبشرى الكليم وفخر الخليل

فأبلغ تحيّة صبّ مشوق

عدته عوادي الزمان الخذول

وقل يا رسول الهدى والشفيع

إذا ضاق صدر أب عن سليل

عليك الصلاة وطيب السلام

يحيّيك عند الضحى والأصيل

نبيّ كريم رؤوف رحيم

بنص الكتاب وحكم العقول

إمام الهدى المجتبي المصطفى

بأزكى شهيد وأهدى دليل

(1) ق: وما.

ص: 291

به أظهر الله دين الهدى

وعلّم كيف سواء السّبيل

وقام بأعباء دين الإله

أتمّ القيام بفعل وقيل

فأكرم بليلة ميلاده

على كلّ وقت وعصر وجيل

لك الله من ليلة فضلها

يجرّ على النجم فضل الذيول

وأيّد بالنصر مولى أقام

مواسمها فعل برّ وصول

أعاد بها الليل مثل النّهار

بوجه كريم وفعل جميل

وأبدى الرضى نحوها والقبول

وأكرم به من حفيّ كفيل

سميّ النبي الكريم الرسول

وسيف الإله العليّ الجليل

محمد المرتجى المستجار

مبيد العدا ومنيل الجزيل

من النفر الغرّ أسد الكفاح

وأهل السماح عشيّ النزول

تراهم لدى السلم أطواد حلم

ويوم الكريهة آساد غيل

مبيد العداة، ومحيي العفاة

ومأوى الغريب ومدني الدخيل

فبأس حكى النار عند احتدام

وجود حكى السحب عند الهمول

فيصلي عداه لدى الحرب ناراً

ويروي نداه زمان المحول

مليك كفيل لمن يرتجيه

بكلّ مرام بعيد وسول

وفرع كريم حميد الخلال

نماه إلى المجد طيب الأصول

فدام لنا ما سرى في الرياض

نسيم الصّبا ومهبّ القبول

وحنّ مشوق لأرض الحجاز

إذا لاح إيماض برقٍ كليل وقال يمدح السلطان أبا عبد الله محمد بن يوسف بن نصر من مدينة فاس (1) :

لمن طلل بالرقمتين محيل

عفت دمنتيه شمأل وقبول

(1) أورد بعضها في نسخة الإحاطة المشار إليها.

ص: 292

يلوح كباقي الوشم غيّره البلى

وجادت عليه السحب وهي همول

فيا سعد مهلاً بالركاب لعلّنا

نسائل ربعاً فالمحبّ سؤول

قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى

ويشفى بها بين الضلوع غليل

وعرّج على الوادي المقدس بالحمى

فطاب لديه مربع ومقيل

فيا حبّذا تلك الديار وحبّذا

حديث بها للعاشقين طويل

دعوت لها سقي الحمى بعدما سرى

وميض وعرف للنسيم عليل

وأرسلت دمعي للغمام مساجلاً

فسال على الخدين منه مسيل

فأصبح ذاك الرّبع من بعد محله

رياضاً بها الغصن المروح يميل

لئن حال رسم الدار عمّا عهدته

فعهد الهوى في القلب ليس يحول

وممّا شجاني بعدما سكن الهوى

بكاء حمامات لهنّ هديل

توسّدن فرع البان، والنجم ماثل

وقد آن من جيش الظلام رحيل

فيا صاحبي دع عنك لومي فإنّه

كلام على سمع المحبّ ثقيل

تقول: اصطباراً عن معاهدك الألى

وهيهات صبري ما إليه سبيل

فلله عينا من رآني وللأسى

غداة استقلّت بالخليط حمول

يطاول ليل التمّ مني مسهّد

وقد بان عنّي منزل وخليل

فيا ليت شعري هل يعودنّ ما مضى

وهل يسمحنّ الدهر وهو بخيل

وهل راجع عهد الحمى سقي الحمى

وظلّ بعين الدمع فيه ظليل

وأيام أنس كم نعمنا بقربها

وقد غاب عنّا حاسدٌ وعذول

حلفت بربّ الراقصات إلى منىً

لهنّ إلى البيت العتيق ذميل

لجود أمير المسلمين محمد

بكلّ مرام في الزّمان كفيل

مليك أتاه الله في الملك عزمةً

يروع الأعادي بأسها ويهول

هو الملك المنصور والبطل الذي

يهون عليه الخطب وهو جليل

ص: 293

إذا فلّت البيض الرقاق وجدته

أخا عزمات ما بهنّ فلول

يقصر باع المدح دون صفاته

ويرجع عنها الفكر وهو كليل

من النفر البيض الوجوه لدى الوغى

لهم غرر وضّاحة وحجول

هم ما هم والحرب قد شبّ نارها

وللخيل في جنح العجاج صهيل

إذا سئلوا يوم الندى فنوالهم

تفيض شآبيب له وسيول

بهم عزّ دين الله شرقاً ومغرباً

وأصبح دين الكفر وهو ذليل

هم السادة الأنصار والعرب الألى

حمى الدين حيّ منهم وقبيل

لهم يوم بدر والرسول أميرهم

تصول به أرماحهم وتطول

فأصبح أصحاب القليب كأنّهم

كثيب لوطء المرهفات مهيل

وقد أمن الإسلام كيد عدوّه

وغودر ربع الكفر وهو محيل

وعدّوا رواحاً للمدينة والرضى

لهم منه فوز عاجل وقبول

فمن ذا يجاري أو يداني عصابة

جزاؤهم عند الإله جزيل

لكم يا بني نصر من المجد هضبة

تزول الرواسي وهي ليس تزول

فيا سيّد الأملاك والواحد الذي

إذا عدّ فخر ليس عنه عدول

لقد قرع الأعداء منك مؤيد

له الذعر نصر والحسام دليل

فلم يدركوا ما أمّلوا غير ساعة

كذاك متاع الأخسرين قليل

تعاوَين في باب البنود بسحرة

كلاب عليهم بعد ذاك عويل

أبى الله إلا أن يموتوا بغيظهم

فويل لهم من مكرهم وأليل

فأضحوا حديثاً في البلاد ويومهم

وساء صباح عندهم وأصيل

بسعد إمام ينزل العصم سعده

ويروي نداه والزمان محول

وفرع كمال في الخلافة ثابت

نمته إلى المجد الزكيّ أصول

حكى وجهه شمس النهار إذا بدا

وريّاه عرف الروض وهو بليل

أعاد لنا بالعدل أيّامه التي

عهدنا، فدارت للسرور شمول

ص: 294

فدام لنا ما هبّ عرف من الصّبا

وأومض برق في الظلام كليل

وحنّ مشوق للحجاز إذا بدت

لعينيه منه شامة وطفيل

وأشرق نجم مثل قلبي خافق

وحان له عند الغروب أفول

ولا زالت الأقدار تجري بأمره

وصنع إله العرش فيه جميل وقال في إعذار ابن السلطان رحمه الله تعالى ورضي عنه:

أثرها عزمة تنضي الركابا

وإن دميت لها العين انسكابا

لعلّ الوجد تطفأ منه نار

أبت إلا زفيراً والتهابا

أما بعد الألى ترجو قلوب

تسارع نحو أرضهم انقلابا

فيا أخويّ كفّا عن عتابي

فلست بسامع أبداً عتابا

تذكرت العقيق فسال دمعي

عقيقاً من تذكره مذايا

أقول لنسمة مرّت صباحاً

يعطّر عرفها القفر اليبابا

ألا يا هذه كوني رسولي

وكوني إن رجعت لي الجوابا

نشدتك بلّغي صحبي سلامي

إذا جئت المعاهد والقبابا

يلومني العواذل في اشتياقي

إذا ما القلب من وجدي تصابى

وكم بين الأباطح من مهاة

تروع بلحظها الأسد الغضابا

رمتني ثم قالت وهي تزري

ولم تحذر بفتكتها العقابا

إذا ما الشهب للغرب استمالت

وفود الليل بالإصباح شابا

أوجّه إن رقدت إليك طيفي

كلمع البرق يخترق السحابا

فقلت: لقد بخلت على مشوق

أبى إلا غراماً (1) واكتئابا

وكيف له بنومٍ بعد وجد

يذيب لهيبه الصمّ الصلابا

(1) ق: عراماً.

ص: 295

سينصره من الأنصار ملك

إذا ناداه مظلوم أجابا

كريم الذات من ملإ كرام

لقد طابت سجاياهم وطابا

تواضع رحمة وعلا محلاّ

وسهّل منه للناس الحجابا

فليس يصدّ عن جدواه راج

وليس يسدّ عن عافيه بابا

له عطف على الراجي جميل

يفلّ من الردى ظفراً ونابا

وعدل (1) أمّن الأرجاء حتى

ترى الغزلان لا تخشى الذئابا

أمولاي الذي أحيا المعالي

وقد بليت وألحفت الترابا

مددت على البلاد جناح عدل

وكفّ الجور تستلب استلابا

وتاب الدهر ممّا قد جناه

فجدت له بعفوك حين تابا

وسكّن عزّ دولتك الدواهي

فكانت رحمة دفعت عذابا

ويا لله إعذار سعيد

دعوت السعد فيه فاستجابا

عجبت لمقدم والروع يهفو

بأفئدة الكماة وما استرابا

ومن شبلٍ أطاع أخا سلاح

وحكّمه اصطباراً واحتسابا

وهل عذر لعاذر ليث غاب

أظنّ فؤاده والعقل غابا

فلولا سنّة حكمت وهدي

أصبت وقد سلكت به الصوابا

لحامت عصبة الأنصار عنه

بأسياف تقدّ بها الرقابا

من الصّيد الذين لهم نفوس

لغير الفخر لا تصل الطّلابا

تنير الليل أوجههم إذا ما

أرادوا السير أو حثّوا الركابا

دعوت به الأنام ليوم حشرٍ

ولم تذخر لهم إلا الثوابا

رأوا من زخرف الدنيا مقاماً

يذكّر بالجنان لمن أنابا

وأبهتهم فما عاطوا حديثاً

ولا عرفوا السؤال ولا الجوابا

(1) ق: وعطف.

ص: 296

ولو مكثوا به دهراً طويلاً

لما ذكروا الطعام ولا الشرابا

وطاردت الصّوار بكلّ ضار

كما أتبعت عفريتاً شهابا

ضربت به على الآذان منها

فلم تسطع حراكاً واضطرابا

ومعصوب الجبين بتاج روقٍ

يروع خواره الأسد الغضابا

تعرّف أنّ تحت الأرض ثوراً

فرام بأن يشقّ له الترابا

وكلت به هضيم الكشح أجنى

حديد الناب تحسبها حرابا

تباعد مجمع الشدقين منه

وسال الموت بينهما لعابا

فأثبته كوحي الطرف حتى

توثق منه جازره غلابا

وصاح به الصّوار وقد رآه

حبيس الكلب قد منع الإيابا

" فغض الطرف إنّك من نمير

فلا كعباً بلغت ولا كلابا " (1)

وأرسلت الجياد إلى استباق

كأنّ بوارقاً شقّت سحابا

فمن وردٍ أقبّ ومن كميتٍ

وأشهب يلهب الأرض التهابا

وساقية العماد إذا أطلّت

إلى الأدواح تنساب انسيابا

تحوم بها العصيّ فراش ليل

تروم بسمعه منه اقترابا

تجفّ بها خيول القوم منّا

فترسل نحوها الجرد العرابا

عجائب أبدعت علياك فيها

ومثلك يبدع الأمر العجابا

محمد لا عدمت الدهر حمداً

فقد أحسنت في الملك المنابا

وزكّى نفسك الرحمن لمّا

رآك ملكت للمجد النّصابا

تداركت البلاد ومن عليها

فأمّنت التنائف والشعابا

لقد أوليتنا بيض الأيادي

لقد طوّقتنا المنن الرغابا

روت عنك العوالي في المعالي

حديث الفخر حقّاً لا انتسابا

ستفتح من بلاد الشرك أرضاً

قد اعتقلت عقائلها اغتصابا

(1) بيت لجرير بن الخطفي.

ص: 297

وتعمل في العدا بيض المواضي

إلى أن ينكر السيف القرابا

فما كأس من الصهباء صرف

تعيد الشيخ من طرب شبابا

وطاف بها من الرهبان بدر

يهتّك من دجى الليل الحجابا

تجدّ الأنس عوداً بعد بدء

وربع الهمّ تتركه خرابا

بأعذب من ثنائك حين يطوي

به الركب الأباطح والهضابا

أمولاي استمعها بنت فكر

تخيّرها فأبرزها لبابا

وغاص على فرائدها الغوالي

وشقّ على نفائسها العبابا

وهنّاك الإله بكلّ نعمى

تقود لك الأمانيّ الصعابا

ودمت لعزة الإسلام ركناً

إلى أن يشمل الشيب الغرابا وقال، وقد أنشدها السلطان ليلة الميلاد عام خمسة وستين وسبعمائة:

نفس الصّبا أهدى إليّ نسيما

قد رام ممتنعاً ورام عظيما

يا هل يبلّغني السّرى خير الورى

فأرى معاهد للهوى ورسوما

وأسابق الركبان فوق نجيبة

تفري من البيد العراض أديما

وأحطّ رحلي في كريم جواره

أرجو نعيماً في الجنان مقيما

حتى إذا بلغوا الذي قد أمّلوا

ورأوا مقاماً بالرضى موسوما

وتزاحموا في الترب يستلمونه

أرأيت في الورد الظّماء الهيما

قبّلت ذاك الترب من شوقي إلى

من حلّه وأقمت فيه لزيما

وبكيت من دمع المآقي زمزماً

وتركت جسمي كالحطيم حطيما

صلّى عليه الله ما هبّت صباً

تهدي من الطيب الزكيّ شميما

لله مولده الذي أنواره

صدعت ظلاماً للضلال بهيما

شرعت من التأييد سيف هداية

أردت ظباه فارساً والروما

كسر الأكاسر بالعراء ولم يدع

أن ردّ قيصر قاصراً مهزوما

ص: 298

لله منها ليلة أضحى بها

شمل الهدى لأولي الهدى منظوما

أبداً أمير المسلمين أعدّها

بدعاً من القصر (1) الكريم جسيما

ملك أقام الله منه لخلقه

مولىً رؤوفاً بالعباد رحيما

يحمي ذمار المسلمين من الردى

ويبيح ربعاً للعدا وحريما

بمحمّد قد عاد دين محمّد

غضّ الرياض وكان قبل هشيما

أحيا به الله الخلافة بعدما

كانت بأطباق التراب رميما

من آل سعد الخزرج بن عبادة

طابوا فروعاً في العلا وأروما

تلقاه في يوم الكريهة والوغى

والخيل عابسة أغرّ وسيما

وتخال كفّيه إذا شحّ الحيا

أفقاً بعامية الغيوث غيوما

تأبى خلال العدل والشيم العلا

من أن يرى في دهره مظلوما

كهف العباد وفخرها وثناؤه

ترك المديح على الطروس رقيما

لا زال يلقى العيش طلقاً والعلا

مرقىً وصرف الحادثات خديما

ما اهتز غصن في الحديقة ناعم

لمّا أحسّ من الشمال شميما مولده بغرناطة، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة؛ انتهى.

[أشعار للسان الدين]

وممّا خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى ولده عبد الله المذكور ما في النفاضة من قوله: أنشدت ابني عبد الله وقد وصل لزيارتي من الباب السلطاني حيث جرايته ووظيفته، وانجر حديث ما فقد بغرناطة في شجون الكلام:

يا بنيّ عبد الإله احتساباً

عن أثابٍ ومنزلٍ وعقار

(1) ق: القصد.

ص: 299

كيف يأسى على خسارة جزء

من يرى الكلّ في سبيل الخسار

هدف لا تني سهام الليالي

عن سباق تجاهه وبدار

واحد طائش وسهم مصيب

ليس ينجي منها اشتمال حذار

غير ذي الدار صرف الهم فيها

فمناخ الرحيل ليس بدار انتهى. وقال أيضاً رحمه الله تعالى: ممّا أنشدته ولدي عبد الله، وأمرته بحفظه والتأدب به واللهج بحكمته:

إذا ذهبت يمينك لا تضيّع

يسارك في البكاء ولا المصيبهْ

ويسراك اغتنم فالقوس ترمي

وما تدري أرشقتها قريبهْ

وما بغريبة نوب اللّيالي

ولكنّ النجاة هي الغريبهْ قال: ومن المنظوم في قريب من هذا قولي:

أيا أهل هذا القطر ساعده القطر

دهيت فدلوني لمن يرفع الأمر

تشاغلت بالدنيا ونمت مفرّطاً

وفي شغلي أو نومتي سرق العمر وقال رحمه الله تعالى: وممّا قلته وقد انصرف عني الولد عبد الله إلى مدينة فاس لإقامة رسمه من الخدمة، وأشجاني انصرافه لوقوع قرحة على قرح، والله المستعان:

بان يوم الخميس قرّة عيني

حسبي الله أيّ موقف بين

لو جنى موقف النوى حين حيّا

حان يوم الوداع والله حيني

ضايقتني صروف هذي الليالي

وأطالت همّي وألوت بديني

وطن نازح وشمل شتيت

كيف يبقى معذّب بعد ذين

يا إلهي أدرك بلطفك ضعفي

إنّ ما أشتكيه ليس بهين وقال رحمه الله تعالى: أنشدت يوماً ولدي عبد الله وقد رأيت منه نشاطاً

ص: 300

ومرحاً انتقل مني إليه بعد السن:

سرق الدهر شبابي من يدي

وفؤادي مشعر بالكمد

جملة الأمر إذا أبصرته

باع ما أفقدني من ولدي وقد سبق هذان البيتان عند ذكر بعض نظم لسان الدين رحمه الله تعالى.

[علي وتعليقاته على الإحاطة]

وأمّا علي بن لسان الدين رحمه الله تعالى فهو شاعر البيت بعد أبيه النبيه، وكان مصاحباً للسلطان أحمد المريني المستنصر بالله ابن السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني، رحمهم الله تعالى.

وحكى بعضهم أنّه حضر معه في بستان، سحّ فيه ماء المذاكرة الهتّان، وقد أبدى الأصيل شواهد الاصفرار، وأزمع النهار لما قدم الليل على الفرار، فقال المستنصر لما لان جانبه، وسالت بين سرحات البستان جداوله ومذانبه:

يا فاس إنّي وأيم الله ذو شغف

في كلّ ربع لهم مغناه يسبيني

وقد أنست بقرب منك يا أملي

ونظرة فيكم بالأنس تحييني فأجابه أبو الحسن علي بن الخطيب، بقوله المصيب:

لا أوحش الله ربعاً أنت زائره

يا بهجة الملك والدنيا مع الدين

يا أحمد الحمد، أبقاك الإله لنا

فخر الملوك وسلطان السلاطين وقد رحل رحمه الله تعالى إلى مصر، ولم يحضرني الآن من أحواله بعد دخوله مصر ما أعوّل عليه، وقد كان وقف بالقاهرة على نسخة الإحاطة التي وجّهها أبوه إلى مصر ووقفها بخانقاه سعيد السعداء كما أشرنا إليه فيما مرّ، فكتب بالحواشي كتابات مفيدة، وقد ذكرنا بعضها فيما أسلفناه من هذا الكتاب

ص: 301

فليراجع: إما تكميل لما أغفله أبوه، وإما إخبار عمّا شاهده هو، أو رواية له عن المترجم به، أو جواب عن أبيه فيما انتقد عليه.

[نماذج في تعليقاته من ترجمة ابن جابر]

ولنذكر شيئاً منها غير ما تقدم بعد إيراد نص " الإحاطة " فنقول:

قال في الإحاطة في حرف الميم في ترجمة شمس الدين الهواري (1) الضرير شارح ألفية ابن مالك وصاحب البديعية الشهيرة بالأعمى والبصير، ما صورته: محمد بن أحمد بن علي الهوّاري، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جابر، من أهل المرية.

حاله - رجل كفيف البصر، مدل على الشعر، عظيم الكفاية والمنة على زمانته، رحل إلى المشرق، وتظاهر برجل من أصحابنا يعرف بأبي جعفر الإلبيري، صارا روحين في جسد، ووقع الشعر منهما بين لحيي أسد، وشمر للعلم وطلبه، فكان وظيفة الكفيف النظم، ووظيفة البصير الكتب، وانقطع الآن خبرهما؛ انتهى.

فكتب المذكور على أوّل الترجمة ما صورته: نعم الرجل ورفيقه أبو جعفر أحسن الله تعالى إليهما، فلقد أحسنا الصحبة، في الغربة، وانفردا بالنزاهة والفضل وعلو الهمّة، إلا أن المصنف قصّر فيهما بعض قصور، ومنهما يطلب الإغضاء والصفح، فالرجل مات، وذكر الأموات بالخير مشروع، وهما والله الشرف الباهر بقطرهما علماً وعملاً، أمتع الله تعالى بهما، قاله ولد المؤلف علي بن الخطيب القاهرة؛ انتهى.

(1) قد ترجم المقري لابن جابر الضرير ورفيقه أبي جعفر الإلبيري (المجلد 2: 664 - 687) وهاهو يعود إلى الإسهاب في ذكر الرجلين في هذا الجزء.

ص: 302

وكتب على قول أبيه وانقطع الآن خبرهما ما نصّه: هما الآن بإلبيرة من حلب، تحت إنعام ولطف، تحث إليهما الرواحل، وتضرب إليهما آباط النّجب.

رجع تكميل ترجمة الشمس ابن جابر من " الإحاطة ":

قال لسان الدين بعد ما مضى ما نصّه، وجرى ذكره في الإكليل بما نصّه: محسوب من طلبتها الجلّة، ومعدود فيمن طلع بأفقها من الأهلّة، رحل إلى المشرق وقد أصيب ببصره، واستهان في جنب الاستفادة بمشقّة سفره، على بيان عذره، ووضوح ضره.

شعره - وشعره كثير، فمنه قوله:

سلوا حسن ذاك الخال في صفحة الخدّ

متى رقموا بالمسك في ناعم الورد

وقولوا لذاك الثغر في ذلك اللّمى

متى كان شأن الدرّ يوجد في الشهد

ومن هزّ غصن القدّ منها لفتنّي

وأودعه رمانتي ذلك النهد

ومن متّع القضب اللّدان بوصفها

إلى أن أعؤن الحسن من ذلك القد

فتاة تفتّ القلب مني بمقلة

لها رقّة الغزلان في سطوة الأسد

تمنيت أن تهدي إليّ نهودها

فقالت رأيت البدر يهداه أو يهدي

فقلت أللرّمّان بدّ من الجنى

فتاهت وقالت: باللواحظ لا الأيدي

فقلت أليس القلب عندك حاصلاً

فقالت قلوب الناس كلّهم عندي

فقلت اجعليني من عبيدك في الهوى

فقالت كفاني كم لحسني من عبد

إذا شئت أن أرضاك عبداً فمت جوىً

ولا تشتكي واصبر على ألم الصدّ

ألم تر أنّ النحل يحمل ضرّها

لأجل الذي تجنيه من خالص الشهد

كذلك بذل النفس سهل لذي النّهى

لما يكسب الإنسان من شرف الحمد

ألست ترى كفّ ابن جانة طالما

أضاع كريم المال في طلب المجد

ص: 303

وكتب ابن المؤلف على هذه القصيدة ما صورته: عارضة قوية، ونزعة خفاجية، ويكف لا والشيخ أبو عبد الله صدر صدور الأندلس علماً ونظماً ونحواً، زاده الله تعالى من فضله؛ انتهى.

رجع إلى الترجمة - قال لسان الدين: وقال، يعني ابن جابر:

عرّج على بان العذيب ونادي

وانشد فديتك أين حلّ فؤادي

وإذا مررت على المنازل بالحمى

فاشرح هنالك لوعتي وسهادي

إيه فديتك يا نُسيمة خبري

كيف الأحبة والحمى والوادي

يا سعد، قد بان العذيب وبانه

فانزل فديتك قد بدا إسعادي

خذ في البشارة مهجتي يوماً إذا

بان العذيب ونور حسن سعاد

قد صحّ عيدي يوم أبصر حسنها

وكذا الهلال علامة الأعياد وممّا نقلته من جزء قيده لي صاحبنا الفقيه الأستاذ أبو علي الزواوي ممّا ادعاه لنفسه:

عليّ لكلّ ذي كرم ذمام

ولي بمدارك المجد اهتمام

وأحسن ما لديّ لقاء حرّ

وصحبة معشر بالمجد هاموا

وإنّي حين أنسب من أناس

على قمم النجوم لهم مقام

يميل بهم إلى المجد ارتياح

كما مالت بشاربها المدام

هم لبسوا أديم الليل برداً

ليسفر عن أديمهم الظلام

هم جعلوا متون العيس أرضاً

فمذ عزموا الرحيل فقد أقاموا

فمن كلّ البلاد لنا ارتحال

وفي كلّ البلاد لنا مقام

وحول موارد العلياء منّا

لنا مع كلّ ذي شرف زحام

تصيب سهامنا غرض المعالي

إذا ضلّت عن الغرض السهام

وليس لنا من المجد اقتناع

ولو أنّ النجوم لنا خيام

ص: 304

ثم سرد لسان الدين القصيدة بتمامها، وذكر بعد ما سبق اثنين وستين بيتاً، ولم نثبتها لطولها، ثم قال بعدها: نجزت وما كادت، ثم قال بعدها أيضاً: وقد وطّأ لإمطاء قروحها، وأعيا لإكثار سروحها، ثم قال بعده: والله ولي النجاة بفضله؛ انتهى.

وكتب ابنه على أول القصيدة وهو: عليّ لكلّ ذي كرم ذمام ما نصّه: نزعة معرية، قاله ابن المؤلف رحمه الله تعالى؛ انتهى.

وكتب الشيخ ابن مرزوق على قوله نجزت إلى آخره ما صورته: ما أنصف المصنف هذا الفاضل في ترجمته، وقدره شهير، ومكانه من الفضيلة كبير، وعلمه غزير، ولعلّه لم يطلع إلا على ما أودعه.

وكتب إثره ابن لسان الدين ما صورته: نعم يا سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق لم ينصف المترجم به المؤلف، ولولا أنّهما بالحياة ما صدر منكم التنبيه، ولو حصلا تحت الصفيح لم تعملوا فيهما قلماً، هكذا شأن الدنيا بقلّة الوفاء شنشنة معروفة، والحقد على الأموات شأن المغاربة، قاله علي ابن المصنف رحمه الله تعالى؛ انتهى.

[استطراد بأشعار ابن جابر]

ولا خفاء أن لسان الدين لم يستوف حقوق الشمس ابن جابر الهوّاري المذكور مع أن له محاسن جمة. ومن محاسنه رحمه الله تعالى:

هناؤكم يا أهل طيبة قد حقّا

فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا

فلا يتحرّك ساكن منكم إلى

سواها وإن جار الزّمان وإن شقا

فكم ملك رام الوصول لمثل ما

وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا

فبشراكم نلتم عناية ربّكم

فها أنتم في بحر نعمته غرقى

ص: 305

ترون رسول الله في كلّ ساعة

ومن يره فهو السعيد به حقّاً

متى جئتم لا يغلق الباب دونكم

وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا

فيسمع شكواكم ويكشف ضركم

ولا يمنع الإحسان حراً ولا رقّا

بطيبة مثواكم، وأكرم مرسل

يلاحظكم فالدهر يجري لكم وفقا

فكم نعمة لله فيها عليكم

فشكراً، وشكر الله بالشكر يستبقى

أمنتم من الدجّال فيها فحولها

ملائكة يحمون من دونها الطّرقا

كذاك من الطاعون أنتم بمأمن

فوجه اللّيالي لا يزال بكم طلقا

فلا تنظروا إلاّ لوجه حبيبكم

وإن جاءت الدنيا ومرّت فلا

حياة وموتاً تحت رحماه أنتم

وحشراً فستر الجاه فوقكم ملقى

فيا راحلاً عنها لدنيا يريدها

أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى

أتخرج عن حرز النبيّ وحوزه

إلى غيره تسفيه مثلك قد حقّا

لئن سرت تبغي من كريم إعانةً

فأكرم من خير البرية ما تلقى

هو الرزق مقسوم فليس بزائل

ولو سرت حتى كدت تخترق الأفقا

فكم قاعد قد وسع الله رزقه

ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا

فعش في حمى خير الأنام ومت به

إذا كنت في الدارين تطلب أن ترقى

إذا قمت فيما بين قبر ومنبر

بطيبة فاعرف أين منزلك الأرقى

لقد أسعد الرحمن جار محمّد

ومن جار في ترحاله فهو الأشقى ومن محاسنه رحمه الله تعالى المقصورة الفريدة، وهي قوله (1) :

بادر قلبي للهوى وما ارتأى

لمّا رأى من حسنها ما قد رأى

فقرّب الوجد لقلبي حبها

وكان قلبي قبل هذا قد نأى

(1) واضح أن هذه المقصورة من " المعشرات " على حروف المعجم وقد فصلنا بين أجزائها لتتضح للقارئ صورتها.

ص: 306

يا أيها العاذل في حبي لها

أقصر فلي سمع عن العذل بأى (1)

لو أبصر العاذل منها لمحة

ما فض باب عذله ولا فأى (2)

سرّحت طرفي طالباً شأو العلا

وتابعاً في حبها ما قد شأى (3)

إنّي لأرعاها على تتبيعها

عهدي، ومثل من وفى إذا وأى (4)

من منصفي من شادن لم أرجه

لحاجة من وصله إلا زأى (5)

وإن قبضت النفس عن سلواته

مدّ أديم هجره لي وسأى (6)

لأقطعنّ البيد أفري حاذها

بضامر يفري الحصى إذا جأى (7)

حتى أزور ربّة الخدر وقد

ذاد الكرى عني الوشاة وذأى (8)

يا ربّ ليل قد تعاطينا به

حديث أنس مثل أزهار الربى

في روضة تعانقت أغصانها

إذا واصلت ما بينها ريح الصّبا

نادمت فيها من بني الحسن رشاً

يصبو له من لم يكن قطّ صبا

حلو رخيم الدلّ في أعطافه

لين وفي ألحاظه بيض الظّبى

أيام كان العيش غضّاً حسنه

عذب الجنى ريبّان من ماء الصّبا

أي زمان ومحلّ للمنى

ما ضاق مغناه بنا ولا نبا

يا مربعاً ما بين نجد والحمى

ويا زماناً قد حباني ما حبا

(1) بأى يبأى: فخر؛ وفي ق: فلي قلب

نأى.

(2)

فأى: شق وخرج.

(3)

شأى: قد تعني " بعد " أو " أعجب وأطرب ".

(4)

وأى: وعد؛ وفي: ومثلي من فأى

الخ.

(5)

زأى: تكبر، عن ابن الأعرابي.

(6)

سأى الثوب والأديم: مده حتى انشق.

(7)

الحاذ: طريقة المتن وهو موضع اللبد من الفرس؛ وجأى: قذف.

(8)

ذأى: ساق سوقاً شديداً وطرد.

ص: 307

الله يرعاه زماناً لم يحل

عن بذل ما نأمله ولا أبى

فأيّ مغنىً آهل يممته (1)

لمقصد حلّت لنا فيه الحبا

هل ترجع الأيام عيشاً باللوى

فراقه كان اللهيم الأربى (2)

تالله لا أعبا بعيش قد مضى

ولا زمان قد تعدّى وعتا

مذ علقت كفي بالهادي الذي

ساد الورى طفلاً وكهلاً وفتى

كالبحر لا يغيض يوماً ورده

لوارد إذا أصاف أو شتا

متصل البرّ لمن قد أمّه

لا يكره العودة ممّن قد أتى

ولا يناجي نفسه في ضيقة

أيّ نهار سرّ هذا ومتى

إنّ رسول الله مصباح هدىً

يهدى به من في جدى الليل متا (3)

كفّ بني الجور بعدل واضح

كما تكفّ اليد كفّاً من فتى

كم ذي هوى قد راضه بهديه

فانقاد كالعبد إذا العبد قتا (4)

قد خالط الحلم سجايا طبعه

كمثل ما قد خالط الثوب السنا (5)

أقسمت لا زلت أوالي مدحه

ما اشتدّ بالناس زمان ورتا (6)

لولا اشتياقي لديار كرمت

لبعدها يرثي لنا من قد رثى

ومدح من أرجو بأمداحي له

إصلاح ما قد عاث مني وعثا

لم أجعل الشعر لنفسي خلّة

ولم يخش فكري به ولا غثا (7)

(1) ق: أملته.

(2)

اللهيم: الداهية؛ الأربى: الشديدة.

(3)

متا في الأرض مثل العطا، أي مشى.

(4)

قتا العبد: خدم، أو أحسن الخدمة.

(5)

ستى الثوب يستيه بمعنى سداه يسديه.

(6)

رتا - من الأضداد: شد وأرخى.

(7)

غثا: كثر غناؤه.

ص: 308

فما أرى الأيام تبدي منصفاً

ولو حكيت المسك من حسن النّثا

يا ضيعة الألباب في دهر غدا

فيه فتيت المسك يعلوه الخثى (1)

يا ويل أم ليس تزجي ضيمها

مثلي بما تبديه من منع الحثا (2)

هل مارست إلا أخا عزم إذا

ما قعد الناس عن الخطب جثا (3)

تسيل من جهد السرى أعطافه

كمثل ما سال من الدوح اللثى (4)

له اعتصام بالرسول المجتبى

أجود من أضفى العطايا وحثا

من ليس للدنيا محلّ عنده

ولا ينيل المال إلا بالحثا (5)

أنا الفتى لا يطّبيني طمع

فأبذل الوجه لنيل يرتجى

لكن إذا اضطر زمان جائر

أمّلت من ليس يردّ من رجا

لا أسأل النذل ولو أنّي به

أملك ما حاز النهار والدجى

حسبي بنو عبد مناف بهم

يغنى من استغنى وينجو من نجا

أولئك القوم الألى من أمّهم

أمّن ممن لام يوماً وهجا

يلقاك منهم كلّ وجه مشرق

كأنّه البدر إذا الليل سجا

إنّي مذ أمّلتهم لم يثنني

عن طلب المجد زمان قد شجا

إن أنا قد نكّرني دهرٌ عدا

فطالما عرّفني فضل الحجى

يطوي العدا ذكري ومجدي ناشري

آليت لا زال لهم مني شجا

أنا الذي أعملت للمجد السّرى

لا أسأم الأين ولا أشكو الوجى

(1) الخثى: جمع خثي، وهو روث الثور.

(2)

الحثا: التراب المحثو أو المحثي.

(3)

جثا: جلس على ركبتيه للخصومة أي لمواجهة الخطب، فهو مستوفز.

(4)

اللثى: شيء ينضحه ساق الشجرة أبيض خائر.

(5)

يريد بلء الكفين.

ص: 309

كم سرت في البيداء لا يقلقني

حرّ الهجير لا ولا برد الضحى

أرسلها غرّ الذرا تسري بنا

كلّ عويص السير صعب المنتحى

يطيح مفتوت الحصى من دونها

كأنّه سهم عن القوس طحا (1)

فكم بذلت الجهد في كسب العلا

وجدت بالنفس لحاني من لحا

أرغم أعداي بحزم نافذ

يعركهم عرك الثفال بالرحى

أذود عن عرضي وأحمي حسبي

بكرم جزل ومجد قد ضحا

أقسم بالبيت ومن طاف به

ومن نحا وجهته فيمن نحا

وكلّ من أعمل لله الخطا

محا بها من الخطايا ما محا

ومعشر ثجّوا وعجّوا فلهم

بمرتقى المروة ذكر ووحى (2)

لا زلت أزجيها لإدراك العلا

حتى ترى من جهدها مثل اللّحا

يا عجباً من حاسد لي قد زها

بعيشه الغض عليّ وانتخى

كأنّني لم أعرف العزّ ولا

صاحبت دهري في سرور ورخا

وإنما الدهر له تقلّب

إن ارتخى شد وإن شد ارتخى

إنّ الذي لا ينثني عن جوده

إن بخل الدهر لنا وإن سخا

خير الورى طرّاً من الله به

أذهب عنّا كلّ غيّ فامتخى (3)

شرّفه الله وحلّى جيده

بجوهر من كل مجد موتخى (4)

زينة تواضع على علا

فما ازدهى بعزة ولا نخا (5)

فكم حمى بهديه وكم وقى

وكم أفاد آملاً وكم نخا

(1) طحا: ذهب بعيداً.

(2)

الوحى: الصوت.

(3)

يقال امخى من الشيء أي تبرأ منه وتحرج.

(4)

موتخى: متحرى.

(5)

نخا: زهي، وقال الأصمعي، يقال: نخي وانتخى ولا يقال نخا.

ص: 310

خلّص من أسر الخطايا جاهه

فما على قلب امرىء منها طخا (1)

خفّف عنّا ثقل ما نحمله

فلم نبت من ثقله نشكو السّخا (2)

إن تحسب الرّسل سماء قد بدت

فإنّه في أفقها نجم هدى

وإن يكن كلّ كريم قد مضى

طلاًّ فقد أضحى لنا غيث جدا

وإن يكونوا أنجماً في فلك

فإنّه من بينهم بدر بدا

واسطة السلك إذا ما نظموا

وملجأ القوم إذا الخطب عدا

كالبحر بل كالبدر جوداً وسنا

فحبّذا من اجتدى أو اقتدى

أحسن أخلاقاً من الروض إذا

ما اختال في برد الصّبا أو ارتدى

وساقط القطر عليه دمعه

فابتل برد الزهر منه وانتدى

تفديه نفسي من شفيع للورى

وقلّت النفس له مني فدا

هو الذي أنعشنا من بعد ما

قد يبس الغصن وأذواه الصّدى

وكنت في ليل الهوى ذا حيرة

فجاء بالحقّ وأنجى وهدى

فكم كسا من ثوب نعمى قد ضفا

وكم هدى بعلمه وكم إذا

من اقتدى بغيره فإنّه

لم يتّبع سبل الهدى ولا حذا

هل هي إلاّ سنّة الحقّ التي

أرشد من لاذ بها أو احتذى

كف اللسان وانبساط الكف بال

خير وطيب الذكر همّ قد شذا (3)

(1) الطخا: قطع السحاب.

(2)

السخا: ظلع يصيب البعير حين يثب بالحمل الثقيل.

(3)

شذا: آذى، أي أن هذه الواجبات تقلق من يريد الاحتفاظ بها، وفي التجارية: عرف قد شذا، ويكون شذا بمعنى تطيب.

ص: 311

أحسن ما نال الفتى من كرم

أن لا يرى من أجله من ائتذى

والصمت عمّا لا يفيد قوله

من كلم يهذي به فيمن هذى

لا شيء كالصمت وقاراً للفتى

يوماً ولا أنجى له من الأذى

من عيبه يشغله عن غيره

بات سليم العرض نفّاح الشذا

ومن يعب عيب ومن يحسن إذن

لان له كلّ عصيّ وخذا (1)

ومن تكن دنياه أقصى همّه

لم يرو من ثدي الحجى ولا اغتذى

لا تنفق العمر سوى في حبّ من

هو الذي في سنن الحقّ جرى

يهديك من رشد ومجد واضح

روضين من علم وذكر قد سرى

أجاد هدياً وأفاد نائلاً

وجاد حتى عمّم الجود الورى

ترى بني الحاجات نحو بابه

قد أعملوا العيس بحزن في البرى

لهم إلى رؤيته تشوّق

تشوق الساري إلى نار القرى

ذا يبتغي علماً وهذا نائلاً

وخائب من قصده ليس يرى

كأنّهم إذا رأوا غرّته

وفد حجيج عاينوا أمّ القرى

وجه لديه يحمد السير، كذا

عند الصباح يحمد القوم (2) السّرى

هدا إذا ما أخلف الناس وفى

نائي المدى في مجده سامي الذرا

إذا شددت الكفّ في أمر به

فليس بالواني ولا الواهي العرى

أنهضني بهديه إلى التّقى

بعد قصور العزم والباع الوزى (3)

(1) خذا: لان واسترخى.

(2)

ق: الساري؛ وقوله " عند الصباح

" مثل.

(3)

الوزى: القصير.

ص: 312

هو الشفيع المجتزى بجاهه

بمثل ذاك الجاه حقّاً يجتزى

مذ زرته لم أشك من شحط النوى

إذ كان لي فيه غنىً ومجتزى

وما وجدت غربة ولم يجد

مس اغتراب من إلى الجود اعتزى

متصل البشر غضوب للهدى

إذا رأى من زاغ عنه أو نزا

أصبح من أيّامه في مأمن

من قد لجا يوماً إليه أو رزى (1)

تخذته كهفاً فبتّ آمناً

جزاه ربّ العرش خير ما جزى

أدّبنا بسنّة أفلح من

نمى إليها النفس يوماً أو عزا

يجزي أخا الحسنى على إحسانه

شكر امرىء راض الأمور وحزا (2)

لست أجازي الشرّ بالشرّ، ولا

أغزو لناوي السوء مثل ما غزا

لم تر عين كرسول الله ذا

حزم، ولا أحلم إن دهر غزا

إذا ملمّات الأمور قلقلت

ألفيته كأنّه طود رسا

بخلقه فليقتد المرء فما

أكرمها من مقتدى ومؤتسى

كن حذراً وإن رأيت تمرة

فمثلها توقد جمرة الأسى

لا تيأسن إن تناءى أمل

وكلّما عثا زمان قد عسا

وإن بدا صبح المشيب فاطّرح

ما كان إذ ليل الشباب قد غسا (3)

ولا تظنّ الشيب يرجى طبّه

بزور صبغ أو مدام يحتسى

إذا الفتى قوّس واعتدّ العصا

لقوسه عن وتر أعيا الأسا

فاذكر زمان الشيب في حال الصّبا

عسى يلين للتقى قلب قسا

(1) رزا: إذا قبل البر، وأرزى إلى: لجأ.

(2)

حزا: عرف وجرب، والحازي: الكاهن.

(3)

غسا الليل يغسو: أظلم.

ص: 313

ما أقبح اللهو على المرء إذا

ما اشتعل الرأس مشيباً واكتسى

لا تحسب الراحة راحاً قرقفاً

للشّرب منها قبس ومنتشى

إذا أداروها وقد جنّ الدجى

وشى بهم نيّرها فيمن وشى

قد حجبت في دنّها دهراً إلى

أن برزت كأنّها صبح فشا

لم يبق من جوهرها إلاّ سنا

ينشىء أفراح الفتى إذا انتشى

كأنها والكأس قد حفّت بها

متيّم أصبح مضروم الحشا

يديرها مختلف الحسن إذا

أقبل بدر، وإذا تاه رشا

يحكي القطا والظبي والغصن إذا

ما قد تثنى أو تجنّى أو مشى

وإنّما الراحة زهد المرء في

أعراض دنيا تورث العين غشا

والمجد إيقادك نيران القرى

يعشو لها في الأزمات من عشا

والجود أن تعطي قباء للنّدى

لا لافتخار أو لجاه يختشى

خاب امرؤ لم ير أرضاً حلّها

من اصطفى ربّ السماء وانتصى

أرسله الله هدىً ورحمةً

أوصى ووالى الخير فينا ووصى

وخلّص الأنفس من أسر الهوى

في يوم هول فاز فيه من فصى (1)

ذو رأفة تلقاه يوم العرض قد

مال بنا عن الجحيم ومصى (2)

صلّى عليك الله يا من جاهه

يوم الحساب ملجأ لمن عصى

يا من جرى من كفّه الماء ومن

حنّ له الجذع وسبّح الحصى

بك اعتصامي يوم يدنو من دنا

من رحمة الله ويقصى من قصا

(1) فصى الشيء من الشيء: فصله، ولعله يعني هنا: ميز الخير من الشر.

(2)

مصى: لم أجد له معنى ملائماً للسياق هنا.

ص: 314

هل غير إحسانك يرجو مذنب

طال به خوف الخطايا وانتصى

يا من سما في يوم بدر بدره

عزّاً ليشقى كلّ من شقّ العصا

أحصاهم ربّ السماء عدداً

وإنّهم أدنى الفريقين حصى

يا مجتبىً من خير قوم حسباً

فيما أتى من زمن وما مضى

يا من تدانى قاب قوسين ومن

قيل له سل تعط قد نلت المضا

ومن أتى والناس من ظلمهم

في ظلمة ليس لها من مرتضى

فكان كالصبح جلا جنح الدجى

فأذهب الإظلام عنّا وانتضى

رضيت للإرسال إذ آدم بي

ن الماء والطين فكنت المرتضى

اختارك الله رسولاً هادياً

أكرم بما اختار لنا وما ارتضى

يا أحلم الناس على من قد جنى

وأعدل الخلق إذا ما قد قضى

يا مصغر الألف إذا ما جاد أو

تجرّد في الهيجاء سيفاً أو نضا

يا ناصحاً أحكم تشييد الهدى

عزماً فلمّ اينتقض ولا انقضى

يا مضفياً للناس ظلّ رحمة

بات العدا منها على جمر الغضا

ادفع الشرّ بحسنى فإذا

به أخو صدق وإن كان سطا

وانف لنفس كرهت أعمالها

كمن يريك قدرها حث الخطا

إن يدرك الهوى الفتى في بيته

ليس كمن سعى إليه وخطا

وإن خيراً من صديق سيء

أن يصحب الإنسان في البيد القطا

ولا ترم ما لا تطيق نيله

فخجلة الخيبة شر ممتطى

وبت من الدنيا مبات خائف

فلليالي عدوات وسطا

وخلّها عنك ولا تعبأ بما

تبوّأ المكثر منها وعطا (1)

(1) عطا: تناول.

ص: 315

وجنّب الحرص تعش ذا عزة

أفلح من إن شده الحرص نطا (1)

ولا تجد للنّفس حظّاً واطّرح

من امتطى الكبر فبئس ما امتطى

لا تطرينّ صاحباً بغير ما

فيه فإطراء الفتى كسر المطا (2)

لا يحسن المدح سوى لمن يرى

مادحه بمدحه قد احتظى

خير عباد الله ذو العزّ الذي

لظلّه يأوي الشريف والشظى (3)

كم آمن ببابه وقبل أن

يلقاه لاقى ما عجا وما عظا (4)

أصبح من حرمته في حرم

يرفل في ظلّ هباتٍ وحظا

في منزل سيّان فيه ربّه

وضيفه فيما اقتنى وما حظا (5)

إنّ رسول الله غيث واكف

إذا لهيب الصيف داج والتظى

إذا أعدّ للملمّين القرى

لم يدّخر عن ضيفه ولا حظا (6)

لمّا علمت جوده الجزل وما

هناك من علم وحلم وبظا (7)

يممته فوق طمرٍّ ضامر

منتظم الأعضاء ملموم الشظا

ليس يمس الأرض من سرعته

كأنّما يخشى بها مسّ اللظى

يا موسع الألف بصاع شبعا

ومن مشى الدّوح إليه وسعى

وأخصب الضرع بلمس كفّه

وبادر المزن له لمّا دعا

(1) نطا: بعد أو امتد.

(2)

المطا: الظهر.

(3)

الشظى من الناس: الموالي والأتباع.

(4)

يقال لقي الإنسان ما عجاه وما عظاه وما أورمه: إذا لقي شدة وبلاء.

(5)

كأنه يعني: أصاب حظاً.

(6)

حظا: فاضل بين.

(7)

البظا: اكتناز اللحم، ويريد هنا وفرة العلم.

ص: 316

وسلّم الظبي عليه كرماً

وكلّم الميت فقام ورعى

واستشهد الضب فحيّا معلناً

بصدقه ومثبتاً لما ادعى

إليك أعملت المطايا في الفلا

تنساب ما بين أراك ولعا

مسوّغاً (1) جاهك عليّ في غد

أكون ممّن قد أجاد ورعا

أزكى صلاة وسلام أبداً

عليك ما ارتاح الظليم وارتعى

وسبّح الرعد بحمد من سقى

صوب الحيا فقال للأرض لعا

فاشتملت بالنّور كلّ فدفد

لم يك للسارح فيه مرتعى

وباكر البيداء غيث مسبل

فأخلف النبت الهشيم ورعى

ودق سحاب تحسب البرق به

أسنّة قد أشرعت يوم وغى

واخضرت الدوح ومدت قضبها

فبينها حسن التئام وصغا (2)

وساقطت لها السحاب حملها

إذ خوّف الرعد تساقط الفغا (3)

ترى خرير الماء في قضيبه

كأنّه ميّت ذود قد رغا

فسكّن القيظ لهيب حرّه

وفرّ لمّا أن رأى الماء طغى

غيث حمى الرمضاء عنّا مثلما

حمى رسول الله جور من بغى

ناهٍ عن الفحشاء داع للهدى

لم ينتطق بباطل ولا لغا

هذا إذا استكفيت في أمر به

أجداك فيما تنتحيه وكفى

تهفو به ريح العلا إلى الندى

كأنّه ناعم غصن قد هفا

محيي الهدى والعدل في زمانه

من بعد ما ألفاهما على شفا

(1) ق: مسرعاً.

(2)

الصغا: الميل.

(3)

الفغا: البسر الفاسد المغبر، أو ما يخرج من الطعام فيرمى به.

ص: 317

أخفى الهدى قوم فأضحى وهو قد

أظهره بعدله فما اختفى

إن يقض يعدل أو متى يسأل يهب

وإن يقل يصدق وإن يعد وفى

وإن يجد يجزل وإن جاد يعد

وإن تسىء يحسن وإن تجن عفا

بحر طما، بدر سما، عضب حمى

روض نما، طبٌّ أفاد وشفى

لمجتد أو مقتد أو معتد

أو مجدب (1) أو مشتك خطباً جفا

ما لي لا أضفي له المدح وقد

أضحى به الحقّ علينا قد ضفا

أسس خلق الجود فينا فاغتدى

به لنا ورد المعالي قد صفا

الجود يعلي المرء والبخل لقد

يحط عن رتبته من ارتقى

والعز ما أحسنه لكنّه

إن كان هذا مع علم وتقى

والجهل للإنسان عيب قادح

ولو حوى مالاً ككثبان نقا

والعلم في حال الغنى والفقر لا

يزال يرقى بك كلّ مرتقى

ولا ألوم المال فالمال حمىً

من جاهل يلقاك شرّ ملتقى

قد جبل الناس على حب الغنى

فربّه فيهم مهاب متقى

وما لذي الفقر لديهم رتبة

ولو أفاد وأجاد واتّقى

إن الغنى طب لعلاّت الفتى

والفقر داء لا تداويه الرّقى

والحزم أحرى ما به المرء اقتدى

في أمره وما به النفس وقى

من لم يبت مع الليالي حازماً

لغدرها غادرنه فيها لقى

أمضيت طرفي كي يرى طرفي ما

أخبرته من طيب مجد قد زكا

(1) ق: أو مجتز.

ص: 318

فصدّق الحاكي ما أبصرته

وفاق ما عاينته ما قد حكى

فسهّلت رؤيته جهد السرى

وأشكت الأيام من كان شكا

عجبت للأيّام من عزّ بها

ذلّ، ومن يضحك بها يوماً بكى

فكم لها من كرّة على فتى

جلد إذا ما لهب الحرب ذكا

تجتنب الأسد سطاه في الوغى

فذلّ حتى صار قصواه بكا

وكم صريع غادرت ليس له

من ملجإ يوماً ولا من مشتكى

عدت على نفس عديّ وسقت

منها ابن حجر كأس سمّ كالذكا (1)

واستلبت ملك بني ساسان لم

تترك له على اللّيالي مرتكى (2)

لم يأمن المأمون من صولتها

ولا ابن هند من عواديها خلا

وأتبعت جعفراً الفضل وكم

بات الطلا (3) يسقيهما صرف الطلا

وغالت الزبّاء في منعتها

فأظفرت عمراً بها فما ألا (4)

وأنفذت في آل بكر حكمها

وجرّعت مهلهلاً كأس البلا

وكم سبت من سبإ من نعمة

فمزّقوا في كلّ قفر وفلا

وأهلكت عاداً وأفنت جرهماً

وزوّدت منها تميماً بالصّلى (5)

فرعون موسى أولجت في لجة

فمات قهراً بعد عزّ وعلا

وأظفرت بابن زياد مثلما

أفنت يزيد حسرة لمّا اعتلى

وسيف استلّته من غمدانه

من بعد ما قد خضعت له الطّلى (6)

(1) الذكا: الجمرة الملتهبة.

(2)

المرتكى: المعول.

(3)

الطلا: الغلام، شبهه بولد الظبية.

(4)

ألا يألو: قصر.

(5)

الصلى: الوقود، يشير إلى ما فعله أحد المناذرة ببني تميم حين حرقهم.

(6)

الطلى: الرقاب.

ص: 319

ثم أعادته فحزّ الجيش عن

حوزته حزّ النبات المختلى (1)

هي الليالي ليس يرعى صرفها

لا خاملاً فيها ولا من قد سما

ولا رسول الله فينا لم يزل

كهف حمىً (2) ، فهو لنا نعم الحمى

لله ما أكرمه من سيد (3)

ينمى من المجد لأعلى منتمى

سليم صدر ذو وفاء لم يجش

في صدره غش امرىء ولا غمى (4)

أوسعنا فضلاً فما خاب امرؤ

أوى إلى ذاك الجناب وانتمى

يا من غدا للخلق كهفاً وحمى

فأكرم المثوى وآوى وحمى

إنّا أتينا من ديار دونها

موحشة بيداء أو بحر طما

وإنّني من قبح ما أسلفته

ذو كبد رضّت ودمع قد همى

فلا تخيّبني ممّا لك من

شفاعة ترجى وفضل قد نما

إنّك من قوم بهم يشفى العنا

ويدرك الشأو البعيد المرتمى

أعرض عن الجاهل مهما قد أسا

وحسبه من جهله ما قد حوى

ولا تلم ذا سفه فإنّه

إن لمته لم يتّئد ولا ارعوى

وإن رأيت من كريم عثرة

فقل لعاً ولا تعب بما احتوى

وإن ترعك من زمان فرقة

فاصبر لها فالصبر أشفى للجوى

لم أشكر البعد على خير حمى

قد صدّني عن أنسه شحط النوى

يا منزلاً ما بين نجد والحمى

ويا دياراً بين كثبان اللوى

(1) المختلى: المقطوع.

(2)

ق: حياً.

(3)

ق: من سند.

(4)

غمى: غطى.

ص: 320

هل لي إلى تلك المعالي عودة

أو جرعة من ذلك الماء الروّى

لا تعجبوا من لعب الدهر بنا

فأيّ إنسان على حال سوا

إن عشت لاقيتهم وإن أمت

فإنّما الدنيا فناء وتوى

إنّ رسول الله مذ أمّلته

فالدهر قد أضمر نصحي ونوى

إي والذي مازال يسري جاهداً

حتى أتى ميقاته وما ونى

فقدّم الغسل وصلى ونضا

أثوابه مستغفراً ممّا جنى

ثمّ نوى ملبياً ثمّ مضى

حتى رأى ذات السناء والسنى

ثم أتى باب بني شيبة قد

أبصر ما أمّل قدماً مذ دنا

فقبّل الركن وطاف وسعى

ثم مضى مرتحلاً نحو منى

ثم أتى الموقف يدعو راغباً

حتى إذا ما نفر القوم انثنى

ثم رمى ثم أفاض وانبرى

معتمراً قد نال غايات المنى

ثم مضى مرتحلاً فيمن مضى

ميمّماً طيبة لا يشكو العنا

يبغي التي شرّفها الله بمن

شاد به الدين القويم وابتنى

فلم يكن ممّن إذا حج جفا

بل يمّم القبر وزار واعتنى

خلق علىً لم يحوها إلا امرؤ

نهاه عن نبذ العلا رعي النّهى

فإن يقل: من حازها قل: الذي

له تسامى كلّ مجدٍ وانتهى

معتصم الراجين إن خطب دنا

وكهفهم إن راع أمر ودهى

المرشد الناصح لله فما

قصر في نصر الهدى ولا لها

من جدّ في إدراك ما رام يجد

ولم يصب من قد توانى وسها

فلا يقصر بك خوف خيبة

من خيّل الخيبة في البدء وهى

واكتسب الحمد بما تبديه من

فتح اللها بمستدامات اللها

ص: 321

واحرص على المجد ودنياك اطّرح

فأمرها أمر زهيد المشتهى

والمرء من إن فاته لم يكتئب

وإن ينل لم يفتخر ولا ازدهى

من لازم الكبر على الناس اغتدى

متضع القدر ولو نال السها

أنّى تخيب اليوم آمالي ولي

من كفّه أكرم من صوب الحيا

يدني الفتى إلى مدى آماله

ولو غدا من دونها الأرض اللّيا (1)

إن أهزل القوم زمان معور

أنعشهم حتى يرى لهم حيا (2)

وإن أمات الجدب كلّ مخصبٍ

بدا لنيران القرى منه حيا (3)

أرسل سحب هديه جارية

بالحق حتى حيي الدرّ حيا (4)

أوقع في الأنفس من ماء لدى

ظام إذا ما اشتد بالشمس الحيا

لم تعي من فعل جميل كفّه

ولا له في المكرمات معتيا

ما لي لا أبلغ أقصى غاية

في مدح من بالغ جوداً واغتيا

لكلّ شخص غاية يبلغها

وما له في المعلوات مغتيا (5)

تعيا يد السائل من معروفه

ولم يقصر كرماً ولا اعتيا

والآن قد أكملتها في مدحه

مقصورة يقصر عنها من خلا

ضمّنتها من كلّ فنّ درراً

نظماً فأضحت من نفيسات الحلى

حلّيتها جيد معاليه وما

أملح حليَ المدح في جيد العلا

(1) الأرض الليا: التي بعد ماؤها واشتد السير فيها.

(2)

الحيا: الخصب.

(3)

لعله شبيه بقولهم: حاييت النار أي أحييتها.

(4)

الحيا: المطر.

(5)

مغتيا: موضع غاية أو نهاية.

ص: 322

جعلتها مني وداعاً فاعتجب

لنظمها الحلو الجنى كيف حلا

من قارب الرحلة عن ذاك الحمى

كيف أجاد النظم يوماً أو درى

أرسلتها من خاطر خامره

وجدٌ جلا عن مقلتي طيب الكرى

وكيف لا آسى على بعدي عن

قوم جرى من جودهم ما قد جرى

أنصار دين الله والهادي الذي

لولا وضوح هديه ضلّ الورى

فالقلب بين مشرق ومغرب

مقسّم اللوعة مجذوب العرى

إذا ذكرت الغرب جنّت مهجتي

وبلّ دمعي من جوى الشوق الثرى

وإن ذكرت حبّ من في مشرقِ

أبطأ بي حبّهم عن السرى

وإن يصف من وجه لشخص مورد

كدرّ من أخرى فلا صفو يرى

فإن ترحّلت فقلبي عندكم

لم يرتحل عن بابكم ولا سرى

ولا تزال رسل شوزقي أبدا

تترى على مجدكم الجزل الندى

ولن تمرّ ساعة إلاّ هفا

بذكركم مفصح نظمي وشدا

فليس عندي للنجاة مخلص

إن لم يكن منكم نوال أو جدا

بكم ملاذي وحماكم ملجئي

ليس سوى ذاك السماح المجتدى

وما ذخرنا عدّةً سواكم

مثلكم من يرتجى ويجتدى

لا أوحش الله دياراً أنتم

فيها ولا أزرى بمرعاها الصّدى

ولا نأت داركم ولا خلا

ربعكم ما راح يوم واغتدى ومن محاسنه أيضاً البديعية المشهورة، وهي المعروفة ببديعية العميان، ولو لم يكن من محاسنه إلا قصيدته التي في التورية بسور القرآن ومدح النبي صلى الله عليه وسلم لكفى وهي من غرر القصائد، وكثر من الناس ينسبها للقاضي

ص: 323

الشهير عالم المغرب أبي الفضل عياض، وكنت أنا في أوّل الاشتغال ممن يعتقد صحة تلك النسبة، حتى وقفت علىة شرح البديعية الموصوفة لرفيقه أبي جعفر، فإذا هي منسوبة للناظم ابن جابر، وهي:

في كلّ فاتحة للقول معتبره

حق الثناء على المبعوث بالبقره

في آل عمران قدماً شاع مبعثه

رجالهم والنساء استوضحوا خبره

من مدّ للناس من نعماه مائدة

عمّت فليست على النعام مقتصره

أعراف نعماه ما حلّ الرجاء بها

إلاّ وأنفال ذاك الجود مبتدره

به توسّل إذ نادى بتوبته

في البحر يونس والظلماء معتكره

هود ويوسف كم خوف به أمنا

ولن يروّع صوت الرعد من ذكره

مضمون دعوة إبراهيم كان، وفي

بيت الإله وفي الحجر التمس أثره

ذو أمّة كدويّ النحل ذكرهم

في كلّ قطر، فسبحان الذي فطره

بكهف رحماه قد لاذ الورى، وبه

بشرى ابن مريم في الإنجيل مشتهره

سماه طه، وخصّ الأنبياء على

حجّ المكان الذي من أجله عمره

قد أفلح الناس بالنور الذي غمروا

من نور فرقانه لمّا جلا غرره

أكابر الشعراء اللّسن قد عجزوا

كالنمل إذا سمعت آذانهم سوره

وحسبه قصص للعنكبوت أتى

إذ حاك نسجاً بباب الغار قد ستره

في الروم قد شاع قدماً أمره وبه

لقمان وفّق للدرّ الذي نثره

كم سجدة في طلى الأحزاب قد سجدت

سيوفه فأراهم ربّه عبره

سباهم فاطر السبع العلا كرماً

لمن بياسين بين الرسل قد شهره

في الحرب قد صفّت الأملاك تنصره

فصاد جمع الأعادي هازماً زمره

لغافر الذنب في تفصيله سور

قد فصّلت لمعان غير مختصره

شوراه أن تهجر الدنيا فزخرفها

مثل الدخان فيعشي عين من نظره

ص: 324

عزّت شريعته البيضاء حين أتى

أحقاف بدر وجند الله قد نصره

فجاء بعد القتال الفتح متصلاً

وأصبحت حجرات الدين منتصره

بقاف والذاريات الله أقسم في

أنّ الذي قاله حقّ كما ذكره

في الطور أبصر موسى نجم سؤدده

والأفق قد شقّ إجلالاً له قمره

أسرى فنال من الرحمن واقعة

في القرب ثبت في ربّه بصره

أراه أشياء لا يقوى الحديد لها

وفي مجادلة الكفار قد نصره

في الحشر يوم امتحان الخلق يقبل في

صف من الرّسل كل تابع أثره

كفّ يسبّح لله الحصاة بها

فاقبل إذا جاءك الحق الذي قدره

قد أبصرت عنده الدنيا تغابنها

نالت طلاقاً ولم يصرف لها نظره

تحريمه الحبّ للدنيا، ورغبته

عن زهرة الملك حقّاً عندما نظره

في نون قد حقّت الأمداح فيه بما

أثنى به الله إذ أبدى لنا سيره

بجاهه سال نوح في سفينته

سفن النجاة وموج البحر قد غمره

وقالت الجنّ جاء الحق فاتبعوا

مزملاً تابعاً للحقّ لن يذره

مدثّراً شافعاً يوم القيامة هل

أتى نبيٌّ له هذا العلا ذخره

في المرسلات من الكتب انجلى نبأ

عن بعثه سائر الأخبار قد سطره

ألطافه النازعات الضيم في زمن

يوم به عبس العاصي لما ذعره

إذ كوّرت شمس ذاك اليوم وانفطرت

سماؤه ودعت ويل به الفجره

وللسماء انشقاق والبروج خلت

من طارق الشهب والأفلاك منتثره

فسبّح اسم الذي في الخلق شفعه

وهل أتاك حديث الحوض إذ نهره

كالفجر في البلد المحروس غرّته

والشم من نوره الوضاح مستتره

واللّيل مثل الضحى إذ لاح فيه ألم

نشرح لك القول في أخباره العطره

ولو دعا التين والزيتون لابتدرا

إليه في الحين واقرأ تستبن خبره

ص: 325

في ليلة القدر كم قد حلّ من شرف

في الفخر لم يكن الإنسان قد قدره

كم زلزلت بالجياد العاديات له

أرض بقارعة التّخويف منتشره

له تكاثر آيات قد اشتهرت

في كلّ عصر فويل للذي كفره

ألم تر الشمس تصديقاً له حبست

على قريش، وجاء الروح إذ أمره

أريت أنّ إله العرش كرمه

بكوثر مرسل في حوضه نهره

والكافرون إذا جاء الورى طردوا

عن حوضه فلقد تبّت يدا الكفره

إخلاص أمداحه شغلي، فكم فلق

للصبح أسمعت فيه الناس مفتخره

أزكى صلاتي على الهادي وعترته

وصحبه؛ وخصوصاً منهم عشره

صدّيقهم عمر الفاروق أحزمهم

عثمان ثمّ عليّ مهلك الكفره

سعد سعيد عبيد طلحة وأبو

عبيدة وابن عوف عاشر العشره

وحمزة ثمّ عبّاس وآلهما

وجعفر وعقيل سادة خيره

أولئك الناس آل المصطفى وكفى

وصحبه المقتدون السادة البرره

وفي خديجة والزهرا وما ولدت

أزكى مديحي سأهدي دائماً درره

عن كلّ أزواجه أرضى، وأوثر من

أضحت براءتها في الذكر منتشره

أقسمت لا زلت أهديهم شذا مدحي

كالروض ينثر من أكمامه زهره [معارضات لقصيدة ابن جابر في تضمين السور]

انتهت القصيدة؛ وقد عارض منحاها جماعة فما شقّوا لها غباراً، ومن معارضاتها قول بعضهم:

بسم الإله افتتاح الحمد والبقره

مصلياً بصلاة لم تزل عطره

على نبي له الرحمن ممتدح

في آل عمران أيضاً والنسا ذكره

كذا بمائدة الأنعام فضّله

ووصفه التم في الأعراف قد نشره

أنفاله نزلت أيضاً براءة من

يحبّه وهو مشغول بما أمره

ص: 326

به نجا يونس من حوته ونجا

هود ويوسف من سجن به عبره

أقسم برعد إبراهيم أنّ له

في حجر نحل ترى الآيات مشتهرة

سبحان جاعله كهفاً لأمّته

ومريم زوجة في جنّة نضره

طه به الأنبيا للحج قد وفدوا

والمؤمنون على النور اقتفوا أثره

آيات فرقانه ذلّت لها الشعرا

وسورة النمل قد قصّت لنا سيره

والعنكبوت على غار له نسجت

والروم ولّت برعب منه منكسره

لقمان حكمته من بعض حكمته

فاسجد لربّ على الأحزاب قد نصره

كم في سبا عبرة للقلب قد فطرت

فلذ بياسين تنجو يا أخا البرره

قد صفّت الأنبيا والرسل قاطبة

خلف النبي بأمر الله مؤتمره

إن صاد قلبي الهوى تنزيل منقذه

وغافر الذنب كم ذنب له غفره

كم خلعة فصّلت للطائعين له

وأمرهم بينهم شورى بلا نكره

لم تلههم زينة الدنيا وزخرفها

كانوا يروها كدخان له قتره

إذا جثا الخلق والأحقاف قد شرفت

فذاك يوم على الكفار قد نصره

محمد خصّ بالفتح المبين وقد

أتاه في الحجرات الوحي بالخبره

قاف الوفاق وذر الطور نجم هدى

وشقّ ربّ السّما للمصطفى قمره

من يمتحن صفّنا في يوم جمعتنا

فليس يلفى به غشّ ولا كدره

مطهّر من نفاق ليس بينهم

تغابن طلّقوا دنياهم القذره

وحرموها وفي ملك لها زهدوا

كزهد صاحب نون حقّقن خبره

إن تسألوني عن نوح نبيّ هدى

والمصطفى سامع الجن الذي جهره

مزّمّل اسمه مدّثّر، وله

يوم القيامة للإنسان ما ضمره

للمرسلات نباً في يوم نازعة

عبوس تكوير شمس فيه منفطره

ص: 327

مطفف الكيل قد بانت خسارته

في سوم شقّ السّما أبراجها النضره

كم طارق سبّح الأعلى بغاشية

والفجر بلدته بالشمس مستتره

والليل قمه ولا تترك صلاة ضحى

يشرح لك الصدر والخيرات مدّخره

بسورة التين اقرأ أنّها نزلت

في ليلة القدر، والأنوار منتشره

ولم يكن مثل خير الرّسل أحمدنا

منه تزلزلت الكفّار والفجره

بعاديات لها قرع بهامته

أعمى التكاثر من قلب له بصره

من كان في عصه همّازة أبداً

يلقاه قبل قريش قاهر قهره

ويل لمانع ماعون تراه غداً

مباعداً كوثر الهادي الذي أثره

الكافرون إذا جا نصر خالقنا

تبّاً لهم لعنوا هم أمّة كفره

أخلص لربّ فلق الناس تنج إذا

يوم المعاد غدا من شرّة عسره

وصلّ ربّ على الهادي وعترته

وآله وعلى أصحابه العشره وممّن سلك هذا المنهج الشيخ القلقشندي إذ قال:

عوّذت حبّي برب الناس والفلق

المصطفى المجتبى الممدوح بالخلق

إخلاص وجدي له والعذر يقلقني

تبّت يدا عاذل قد جاء بالملق

يهدي لأمّته والنصر يعضده

والكافرون وعذّالي على نسق

هذا له كوثر والدين شرعته

والمصطفى من قريش ديّنٌ وتقي

ألم تر الماء قد سحّت أصابعهه

ويل لكل جهول بالنبي وشقي

في كل عصر ترى آياته كثرت

أضحى تكاثرها في سائر الأفق

وعند قارعة فهو الشفيع لنا

والعاديات من الأجفان في طلق

وزلزلت من غرامي كلّ جارحة

وكلّ بيّنة تحكي لكم علقي

يا عالي القدر رفقاً مسّني ضرر

فالله قد خلق الإنسان من علق

ص: 328

ولو دعا التين والزيتون جاء له

والشرح عنه (1) طويل غير مختلق

يبدو كشمس الضحى والليل طرته

كالشمس في بلد والفجر في أفق

إنّي بغاشية لولاك يا أملي

أنت الشفيع إلى الأعلى وخير تقي

كم طارق منك بالإحسان يطرقني

مثل البروج أتى في أحسن الطرق

وفي انشقاق فؤادي عبرة، وبه

ويل من الصد، والأجفان في أرق

والانفطار به ممّا يكابده

والشمس قد كورت في القلب ذي الحرق

والصب في عبس والنازعات به

وقد أتى نبأ من دمعه الغدق

ومرسلات دم الإنسان جارية

إلى القيامة من دمعي ومن حرقي

وبالمدّثّر إنّي ماسك أبداً

وبالمزّمّل إن ألجمت بالعرق

فالجن والإنس في خير ببعثته

هذا ونوح به أنجى من الغرق

وفي المعارج معراج الرسول علا

حقاً، وفي حاقة كنز لمخترق

والله مرسله في نون بشّره

والملك خيّره حتى رأى ولقي

وجاء بالحلّ والتحريم أمّته

وبالطّلاق من الدّنيا لمنطلق

وفي التغابن تهجّار به ربحوا

إذ المنافق في خسر وفي نفق

يا صاحب الجمعة الغرّاء يا أملي

في الصف عند امتحاني أنج من زلقي

وأنت في الحشر عوني في مجادلتي

عسى تزيل حديد النار من عنقي

وعند واقعة إن كان لي رمق

فاشفع إلى ربّك الرحمن من رمقي

لم أرع يا قمري للنّجم في سهر

إلا لعلّك من نار الجحيم تقي

قلبي الكليم غدا للطّور مرتقياً

ودرّ دمعي غدا بالذاريات سقي

وقاف يعجز عن حمل الغرام بكم

وليس في حجرات الدمع من رمق

إنّا فتحنا قتالاً للعذول ففي

أحقاف جاثية في الغيظ والحنق

دخان زخرف ما العذّال فيه هبا

شوراي تتركه في أنف محترق

(1) ق: مني.

ص: 329

وعزّ من فصّلت في مدحه سور

نبينا المصطفى الهادي إلى الطرق

فغافر الذنب كم أهدى به زمراً

وكم سقى كفّه صاد بمندفق

وليس غيرك في الصافات أقصده

وأنت ياسين لي من سائر الفرق

يا فاطراً قد سبا الأحزاب طلعته

كم سجدة لك في الأسحار والغسق

لقمان يشهد أن الروم تعرفه

والعنكبوت فقد سدت عن الغلق

هذا ولي قصص بالنمل قد كتبت

هامت بها الشعرا في خدّه اليقق

تبارك الله من بالنور كلّله

قد أفلح الحج لمّا زاره فوقي

يا أيّها الأنبيا طه ختامكم

ويا ابن مريم خذ من مسكه العبق

لاذوا بكهف لهم سبحان خالقه

حتى أتى الأمر بعد الخوف والفرق

فالركن والحجر حقّاً قد أضاء له

وذاك دعوة إبراهيم ذي الخلق

والله ربي برعب الرعد ينصره

مسير شهر بلا سيف ولا درق

فيوسف مع هود والخليل إذاً

ويونس شربوا من كأسه الدهق

لتوبتي أرتجي الأنفال منه غداً

فإنّني رجل أضحيت في قلق

أعراف أنعام إنعام له اشتهرت

وكم لمائدة أسدى لمرتزق

كلّ النسا لم تلد مثل الرسول إذاً

فينا وفي آل عمران ولم تطق

أعطيت خاتمة من سورة البقرة

لم يعطها أحد فيما مضى وبقي

فأنت فاتحة الأنبا وخاتمهم

وكلّهم قد أتوا بالود والملق

والقلقشندي محبّ قال سيرته

في مدح خير الورى الممدوح بالخلق

فاقبل هدية عبد أنت مالكه

وانظر إليه فإنّ العبد في قلق

صلى عليك إله العرش ما طلعت

ورقا على فنن والورق في الورق وهذه القصيدة وإن لم تلحق بلاغة قصيدة ابن جابر فهي ممّا يتبرك به، والأعمال بالنيات.

ووقفت على أخرى من هذا النمط هي بالنسبة إلى هذه كنسبة هذه إلى

ص: 330

قصيدة ابن جابر، وهي:

بحمد إله العرش أستفتح القولا

وفي آية الكرسيّ أستمنح الطّولا

وفي آل عمران أتى ذكر أحمد

نساؤهم بالعقد قد أنعموا القولا

بأعراف رحماه بأنفال جوده

شرفنا وفضّلنا وتبنا إلى المولى

له يونس نادى وهود ويوسف

وذاكره في الرعد لا يسمع الهولا

ودعوة إبراهيم كان محمد

وفي الحجر خير الخلق قد فضل الرسلا

له أمة كالنحل قد صح فضلهم

فسبحان من أسرى بأحمدنا ليلا

علا فضله والناس في كهف نيله

ومريم في الأخرى يكون لها بعلا

وطه له فضل على الخلق كلّهم

ولكن جميع الأنبياء علا فضلا

ولولاه ما حجّ المقام وكعبة

فأفلح من قد طاف فيها ومن حلاّ

ومن نوره الوهاج كل منوّر

وفرقانه قد أخمد الكفر والبطلا

ترى الشعرا كالنمل حول محمد

إذا قصص في العنكبوت لهم تتلى

علا ديننا روما ولقمان عالم

بأنّ السيوف أسجدت كلّ من ضلاّ

والأحزاب يسبيهم بحكمة فاطر

وياسين قد صفّت له الملأ الأعلى

وصاد جميع الكافرين بزمرة

له غافر في الحرب قد فصلت فصلا

وشوراه في الدنيا بها كل زلفة

وقد زخرف الكفّار في دينهم جهلا

لقد رأوا الدخان حول بيوتهم

بجاثية الأحقاف قد قتلوا قتلا

محمدنا لم يخلق الله مثله

وفي الحجرات فضله أبداً يتلى

وقد أنزل الجبّار قافاً بذكره

كما تذر الكفّار ريح بها تبلى

بطور سما والنجم ما ضوء احمد

كما قمر بل نور خير الورى أجلى

به الله رحمن وفي وقعة ترى

حديداً به الكفّار يجدلهم جدلا

ص: 331

وقد سمع الغفّار دعوة أحمد

بحشرٍ، ولكن بامتحان به تبلى

صففنا بجمع للأعادي فمنهم

منافق إنّ الكفر في دركٍ سفلى

يرى غبنه في الخبر منهم مطلّق

ولكنّ من يحرم نعيماً فقد ضلاّ

لأحمد ملك لا يوازيه سيّد

ونون لقد قلنا مقالاً به استعلى

بحقّ لقد سالت أباطح مكّة

بفضل الذي قد كان نوح به استعلى

صحيح بأنّ الجن جاءت لأحمد

ومزّمّل كان الغمام له ظلا

لمدّثّر فضل القيامة واضح

أتاه، وجمع المرسلات حوت سبلا

وعمّ بجدواه فلا من منازع

فحيث تراه لا عبوساً ولا بخلا

لقد كوّرت شمس بها انفطر السما

لويل أتى الكفار وانشقّ واستولى

ولكن بروج الجوّ تزهو بأحمد

وفي طارق الأفلاك فضّله الأعلى

وغاشية كالفجر حلّت ببلدة

بها حرم أمن كشمس جلت ليلا

وفاق الضحى حقّاً جبين محمد

كما بانشراح الصدر قد خصّه المولى

فأقسم بالتين الذي عمّ نفعه

وبالقلم الأعلى لقدر له أعلى

ألم يكن الكفّار قد ضل سعيهم

وقد زلزلوا بالعاديات كما يتلى

وقارعة جلّت وألهاهم الهوى

ووالعصر إنّ الويل يقريهم نزلا

ألم تر أنّ الله فضّل أحمداً

لأمن قريش حيثما سلكوا السبلا

أريت بأنّ الكوثر العذب خصّه

به، وجميع الكفر لن يردوا أصلا

لقد نصر الرحمن ربي محمداً

فأردى أبا لهب ولم يكتسب نيلا

فيا أحد إنّي بفضلك عائذ

إذا غسق الديجور ناديت يا مولى ولم أقف على غير هذه الأبيات من هذه القصيدة، وقد سقط منها كما رأيت سورة الناس، فقلت مكملاً على نمطه:

ويا مالكاً للناس إنّي لائذ

بعفوك فاغفر عمد عبدك والجهلا

ص: 332

ويا رب عاملنا بما أنت أهله

من الجود والرحمى وإن لم نكن أهلا

وصلّ على مسك الختام محمد

أتمّ صلاة تملأ الحزن والسهلا

[خطبة لعياض يورّي فيها بأسماء السور]

وتذكرت بهذا الموضع خطبة القاضي أبي الفضل عياض التي ضمّنها سور القرآن على المهيع الماضي آنفاً، وهي: الحمد لله الذي افتتح بالحمد كلامه، وبين في سورة البقرة أحكامه، ومد في آل عمران والنساء مائدة الأنعام ليتم إنعامه، وجعل في الأعراف أنفال توبة يونس وألر كتاب أحكمت آياته بمجاورة يوسف الصدّيق في دار الكرامة، وسبّح الرعد بحمده، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ليؤمن أهل الحجر أنّه إذا أتى أمر الله سبحانه فلا كهف ولا ملجأ إلاّ إليه ولا يظلمون قلامة، وجعل في حروف كهيعص سرّاً مكنوناً قدمم بسببه طه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ليظهر إجلاله وإعظامه، وأوضح الأمر حتى حج المؤمنون بنور الفرقان والشعراء صاروا كالنمل ذلاً وصغاراً لعظمته، وظهرت قصص العنكبوت فآمن به الروم، وأيقنوا أنّه كلام الحي القيّوم، نزل به الروح الأمين على زين من وافى القيامة، وأفصح لقمان الحكمة بالأمر بالسجود لرب الأحزاب فسبا فاطر السموات أهل الطاغوت، وأكسبهم ذلاً وخزياً وحسرة وندامة، وأمدّ ياسين صلى الله عليه وسلم بتأييد الصافّات فصاد الزمر يوم بدره وأوقع بهم ما أوقع صناديهم في القليب مكدوس ومكبوب حين شالت بهم النّعامة، وغفر غافر الذنب وقابل التوب للبدريين رضي الله عنهم ما تقدم وما تأخر حين فصّلت كلمات الله فذل من حقت عليه كلمة العذاب وأيس من السلامة، ذلك بأن أمرهم شورى بينهم وشغلهم زخرف الآخرة عن دخان الدنيا فجثوا أمام الأحقاف لقتال أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يمينه وشماله وخلفه وأمامه، فأعطوا الفتح وبوّئوا حجرات الجنان وحين

ص: 333

تلوا {قاف والقرآن المجيد} وتدبروا جواب قسم الذاريات والطّور لاح لهم نجم الحقيقة وانشق لهم قمر اليقين فنافروا السآمة، ذلك بأنهم أمنهم الرحمن إذا وقعت الواقعة واعترف بالضعف لهم الحديد وهزم المجادلون وأخرجوا من ديارهم لأوّل الحشر يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين حين نافروا السلامة.

أحمده حمد من امتحنته صفوف الجموع في نفق التغابن فطلق الحرمات حين اعتبر الملك وعامه، وقد سمع صريف القلم وكأنه بالحاقة والمعارج يمينه وشماله وخلفه وأمامه، وناح نوح الجن فتزمل وتدثر فرقاً من يوم القيامة، وأنس بمرسلات النبإ فنزع العبوس من تحت كور العمامة، وظهر له بالانفطار التطفيف فانشقت بروح الطارق بتسبيح الملك الأعلى وغشيته الشهامة، فورب الفجر والبلد والشمس والليل والضحى لقد انشرحت صدور المتقين، حين تلوا سورة التين، وعلق الإيمان بقلوبهم فكل على قدر مقامه يبين، ولم يكونوا بمنفكين دهرهم ليله ونهاره وصيامه وقيامه، إذا ذكروا الزلزلة ركبوا العاديات ليطفئوا نور القارعة، ولم يلههم التكاثر حين تلوا سورة العصر والهمزة وتمثلوا بأصحاب الفيل فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، أرأيتهم كيف جعلوا على رؤوسهم من الكور عمامة، فالكوثر مكتوب لهم والكافرون خذلوا وهم نصروا وعدل بهم عن لهب الطامّة، وبسورة الإخلاص قروا وسعدوا وبرب الفلق والناس اتسعاذوا فأعيذوا من كل حزن وهمّ وغمّ وندامة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادة ننال بها منازل الكرامة، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه ما غردت في الأيك حمامة؛ انتهت.

وممّن نسبها للقاضي عياض الشيخ أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد بن أبي جمعة الوهراني، وفي نفسي من نسبتها له شيء لأن نفس القاضي في البلاغة أعلى من هذه الخطبة، والله تعالى أعلم.

وكنت رأيت بتلمسان المحروسة بخط عمّي ومفيدي وليّ الله تعالى العارف

ص: 334

المعروف بشيخ الشيوخ الإمام المفتي الخطيب سيدي سعيد بن أحمد المقّري - صبّ الله عليه سجال الرضوان - خطبةً من هذا النمط نصّها:

[خطبة على مثالها لأبي جعفر الطنجالي]

الحمد لله الذي افتتح بفاتحة الكتاب سورة البقرة ليصطفي من آل عمران رجالاً ونساء وفضّلهم تفضيلاً، ومدّ مائدة أنعامه ورزقه ليعرف أعراف أنفال كرمه وحقّه على أهل التوبة وجعل ليونس في بطن الحوت سبيلاً، ونجّى هوداً من كربه وحزنه، كما خلّص يوسف من سجنه وجبّه، وسبّح الرعد بحمده ويمنه، واتخذ الله إبراهيم خليلاً، الذي جعل في حجر الحجر من النحل شراباً نوّع باختلاف ألوانه، وأوحى إليه بخفي لطفه سبحانه، واتخذ منه كهفاً قد شيد بنيانه، وأرسل روحه إلى مريم فتمثل لها تمثيلاً، وفضّل طه على جميع الأنبياء فأتى بالحج والكتاب المكنون، حيث دعا إلى الإسلام قد أفلح المؤمنون، إذ جعل نور الفرقان دليلاً، وصدّق محمداً صلى الله عليه وسلم الذي عجزت الشعراء عن صدق نفثه، وشهدت النمل بصدق بعثه، وبين قصص الأنبياء في مدة مكثه، ونسج العنكبوت عليه في الغار ستراً مسدولاً، وملئت قلوب الروم رعباً من هيبته، وتعلم لقمان الحكمة من حكمته، وهدى أهل السجدة للإيمان بدعوته، وهزم الأحزاب وسباهم وأخذهم أخذاً وبيلاً، فلقبه فاطر السموات والأرض بياسين كما نفذ حكمه في الصافّات، وبين صاد صدقه بإظهار المعجزات، وفرق زمر المشركين وصبر على أقوالهم وهجرهم هجراً جميلاً، فغفر له غافر الذنب ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وفصلت رقاب المشركين إذ لم يكن أمرهم شورى بينهم وزخرف منار الإسلام وخفي دخان الشرك وخرّت المشركون جاثية كما أنذر أهل الأحقاف فلا يهتدون سبيلاً، وأذل الذين كفروا بشدة القتال وجاء الفتح للمؤمنين والنصر العزيز، وحجر الحجرات الحريز، وبقاف القدرة

ص: 335

قتل الخرّاصون تقتيلاً، كلّم موسى على جبل الطور، فارتقى نجم محمد صلى الله عليه وسلم فاقتربت بطاعته مبادي السرور، وأوقع الرحمن واقعة الصبح على بساط النور، فتعجب الحديد من قوته، وكثرت المجادلة في أمته، إلى أن أعيد في الحشر بأحسن مقيلاً، امتحنه في صف الأنبياء وصلى بهم إماماً، وفي تلك الجمعة ملئت قلوب المنافقين من التغابن خسراً وإرغاماً، فطلق وحرم تبارك الذي أعطاه الملك وعلّم بالقلم ورتل القرآن ترتيلاً، وعن علم الحاقة كم سأل سائل فسال الإيمان، ودعا به نوح فنجاه الله تعالى من الطوفان، وأتت إليه طائفة الجن يستمعون القرآن فأنزل عليه: يا أيّها المزّمّل قم الليل إلا قليلاً، فكم من مدثر يوم القيامة شفقة على الإنسان إذا أرسل مرسلات الدمع فعم يتساءلون أهل الكتاب، وما تقبل من نازعات المشركين إذا عبس عليهم مالك وتولاّهم بالعذاب، وكوّرت الشمس وانفطرت السماء وكانت الجبال كثيباً مهيلاً، فويل للمطففين إذا انشقت السماء بالغمام، وطويت ذات البروج وطرق طارق الصور بالنفخ للقيام، وعزّ اسم ربّك الأعلى لغاشية الفجر فيومئذ لا بلد ولا شمس ولا ليل طويلاً، فطوبى للمصلين الضحى عند انشراح صدورهم إذا عاينوا التين والزيتون وأشجار الجنّة فسجدوا باقرأ باسم ربّك الذي خلق هذا النّعيم الأكبر لأهل هذه الدار ما أحيوا ليلة القدر وتبتّلوا تبتيلاً، ولم يكن للذين كفروا من أهل الكتاب من أهل الزلزلة من صديق ولا حميم، وتسوقهم كالعاديات إلى سواء الجحيم، وزلزلت بهم قارعة العقاب وقيل لهم: ألهاكم التّكاثر، هذا عصر العقاب الأليم وحشر الهمزة وأصحاب الفيل إلى النار فلا يظلمون فتيلاً، وقالت قريش: ما أمنتم من هول المحشر، أرأيت الذي يكذّب بالدين كيف طرد عن الكوثر، وسيق الكافرون إلى النار وجاء نصر الله والفتح فتبّت يدا أبي لهب إذ لا يجد إلى سورة الإخلاص سبيلاً، فنعوذ بربّ الفلق من شرّ ما خلق، ونعوذ برب الناس ملك النّاس إله النّاس من شرّ الوسواس الخنّاس الذي فسق، ونتوب

ص: 336

إليه، ونتوكّل عليه، وكفى بالله وكيلاً؛ انتهى.

وهي من إنشاء الفقيه الجليل الشريف الكامل أبي المجد عبد المنعم ابن الشيخ الفقيه العدل أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم الهاشمي الطنجالي رحمه الله تعالى ونفعنا به وبسلفه (1) الطاهر.

[عود إلى نظم ابن جابر]

ومن نظم ابن جابر المذكور قوله:

جعلوا لأبناء الرسول علامةً

إنّ العلامة شأن من لم يشهر

نور النبوّة في كريم وجوههم

يغني الشريف عن الطراز الأخضر وفي هذا المعنى يقول شمس الدين (2) الدمشقي:

أطراف تيجان أتت من سندس

خضر بأعلام على الأشراف

والأشرف السلطان خصّهم بها

شرفاً لتفرقهم من الأطراف والأشرف المذكور هو شعبان بن حسن بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون الصالحي الألفي، رحمهم الله تعالى.

وقال الرحالة ابن بطوطة في رحلته عند ذكر سلطان ماردين ابن الملك الصالح ابن الملك المنصور ما نصّه (3) : وله المكارم الشهيرة، وليس بأرض الشام والعراق

(1) ق: وبنسله.

(2)

ق: شمس الدين الحزين.

(3)

رحلة ابن بطوطة: 238، وقال ابن بطوطة في الملك المنصور والد الملك الصالح: كان كريماً شهير الصيت ولي الملك بها (اي بماردين) نحو خمسين سنة وأدرك أيام قازان ملك التتر وصاهر السلطان خذابنده ديار خاتون.

ص: 337

ومصر أكرم منه، يقصده الشعراء والفقراء فيجزل عطاياهم جرياً على سنن أبيه، قصده أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسي الهوّاري الكفيف مادحاً فأعطاه عشرين ألف درهم؛ انتهى.

ومن شعر ابن جابر رحمه الله تعالى:

وفي الخيام ومن لي بالخيام رشاً

لا أحسب البدر في حسن يقاومه

مثل الغزالة إن تاهت وإن طلعت

فكيف يصرف عنه الصبّ لائمه وقوله رحمه الله تعالى:

في القلب من حبّكم بدر أقام به

فالطرف يبصر نوراً حين يبصره

تشابه العقد حسناً فوق لبّته

والثغر نظماً إذا ما لاح جوهره وقوله:

ردف أقام لنا بها فتن الهوى

وإذا أتت لتقوم قال لها اقعدي

أبصرتها ما بين ذاك وبين ذا

فوقعت منها في المقيم المقعد وقوله:

سامح بالوصل على بخله

وقال لي أنت بوصلي حقيق

فقلت ما رأيك في نزهة

ما بين كاسات وروض أنيق

فقال يعني خده واللمى:

هذا هو الروض وهذا الرحيق

فبتّ من دمعي ومن خدّه

ما بين نعمان وبين العقيق

وإذ تذللت على حبّه

قال: أما تخشى؛ أما تستفيق

قدي وخدي خفهما يا فتى

هذا هو الرمح وهذا شقيق

ص: 338

وقوله:

وقفت للوداع زينب لمّا

رحل الركب والمدامع تسكب

مسحت بالبنان دمعي، وحلو

سكب دمعي على أصابع زينب رجع إلى أولاد لسان الدين رحمه الله تعالى:

ومن قصيدة موشّحة لابن زمرك يخاطب بها شيخه ومخدومه الوزير لسان الدين ابن الخطيب قبل أن يظلم الجوّ بينه وبينه، جواباً عن رسالة خاطب بها لسان الدين ابن الخطيب أولاده صدر نظم له لم يحضرني ذلك الآن قوله:

ما لي بحمل الهوى يدان

من بعد ما أعوز التداني

أصبحت أشكوه من زمان

ما بتّ منه على أمان

ما بال عينيك تسجمان

والدمع يرفض كالجمان

ناداك والإلف عنك وان

والبعد من بعده كواني

يا شقّة النفس من هوان

لجّج في أبحر الهوان

لم يثنه عن هواك ثان

يا بغية القلب قد كفاني وقال بعض الحفّاظ في ترجمة أبي الحسن علي بن لسان الدين بعد أن ذكر روايته عن أبيه وابن الجياب وابن مرزوق: إنّه أخذ عن جماعة غيرهم، كالشريف القاضي الفقيه أبي علي الحسن بن يوسف بن يحيى بن أحمد الحسني السبتي نزيل تلمسان، والفقيه الإمام العلامة قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبي عبد الله محمد المقّري التلمساني القرشي، والشريف العالم أبي القاسم محمد ابن الفقيه العالم المعلم لكتاب الله تعالى أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد بن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن الحسن بن إدريس بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وليس إدريس المذكور هنا بملك المغرب وجدّ الأدارسة.

ص: 339

قال: وروي أيضاً عن القاضي ابن شبرين الإشبيلي ثمّ السبتي نزيل غرناطة، والقاضي أبي البركات البلفيقي، والكاتب صاحب القلم الأعلى أبي جعفر ابن صفوان القيسي المالكي، وابن خاتمة، والفقيه الحاج أبي القاسم محمد ابن الفقيه الصالح العالم أبي عمرو يحيى ابن الفقيه الصالح أبي القاسم محمد الغساني الرحبي نزيل فاس، وغيرهم ممّن يطول تعدادهم من الأئمّة الأعلام، نجوم الإسلام؛ انتهى.

[خطبة للكفعمي في تضمين أسماء السور]

وقد وقفت للكفعمي رحمه الله تعالى في شرح بديعيته على خطبة وقصيدة من هذا النمط. قال رحمه الله تعالى ما نصه:

ولنختم الخاتمة بخطبة وجيزة، في فنها عزيزة، وجعلناها في مدح سيد البرية، وتورياتها في السور القرآنية، فكن لسورها قارياً، ولمعارجها راقياً، وعلّ وانهل من شرابها السكري، وفكه نفسك بتسجيعها النميري، وهي هذه:

الحمد لله الذي شرّف النبي العربي بالسبع المثاني وخواتيم البقرة من بين الأنام، وفضل آل عمران على الرجال والنساء بما وهب لهم من مائدة النعام، ومنحهم بأعراف الأنفال وكتب لهم براءة من الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي نجّى يونس وهوداً ويوسف من قومهم برعد الانتقام، وغذى إبراهيم في الحجر بلعاب النحل ذات الإسراء فضاهى كهف مريم عليها السلام، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله الذي هو طه الأنبياء وحج المؤمنين ونور فرقان الملك العلام، فالشعراء والنمل بفضله تخبر، ولقصص العنكبوت الروم تذكر، ولقمان في سجدته يشكر، والأحزاب كأيادي سبا تقهر، وفاطر يس لصافّاته ينصر، وصاد مقلة زمره تنظر الأعلام، فآل حم بقتال فتحه في حجرات قافه قد ظهرت، وذاريات طوره ونجمه وقمره قد عطرت، وبالرحمن واقعة حديده يوم المجادلة قد نصرت، وأبصار معانديه في الحشر يوم الامتحان حسرت

ص: 340

وصفّ جمعته فائز إذ أجساد المنافقين بالتغابن استعرت، وله الطلاق والتحريم ومقام الملك والقلم فناهيك به من مقام، وفي الحاقة أعلى الله له المعارج على نوح المتطهر، وخصّه من بين الإنس والجن بيا أيّها المزّمّل ويا أيّها المدّثّر، وشفّعه في القيامة إذا دموع الإنسان مرسلات كالماء المتفجر، ووجهه عند نبإ النازعات وقد عبس الوجه كالهلال المتنور، ويوم التكوير والانفطار وهلاك المطففين وانشقاق ذات البروج بشفاعته غير متضجر، وقد حرست لمولده السماء بالطارق الأعلى وتمّت غاشية العذاب إلى الفجر لعى المردة اللئام، فهو البلد الأمين وشمس الليل والضحى المخصوص بانشراح الصدر، والمفضل بالتين والزيتون المستخرج من أمشاج العلق الطاهر العلي القدر، شجاع البرية يوم الزلزال إذ عاديات القارعة تدوس أهل التكاثر ومشركي العصر، أهلك الله به الهمزة وأصحاب الفيل إذ مكروا بقريش ولم يتواصوا بالحقّ ولم يتواصوا بالصبر، المخصوص بالدين الحنيفي والكوثر السلسال والمؤيد على أهل الجحد بالنصر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تبّت يدا معاديه، ونعم بالتوحيد مواليه، وما أفصح فلق الصبح بين الناس وامتد الظلام.

[قصيدة على مثالها للكفعمي]

ولنشفع هذه الخطبة بقصيدة على سور القرآن، في مدح سيد ولد عدنان، يحسن هنا أن ننضي عن فرائد نفائسها لطلابها، ما أغدف من خمرها وستورها، ونجلّي عن خرائد عرائسها لخطابها، ما أسدف من غررها في خدورها، فانظر إلى سور أبياتها وصور تورياتها، ثم ادعهن يأتينك سعياً، فحفظاً لها ووعياً، وهي هذه:

يا من له السبع المثاني تنزل

وخواتم البقرة عليه تنزل

في آل عمران النساء لم تلد

كنظيره الأجساد ذلك تفعل

ص: 341

مولى له الأنعام والأعراف وال

أنفال والحكم التي لا تجهل

بعلاه توبة يونس قبلت كذا

هود ويوسف رعدهم يتجلجل

وكذاك إبراهيم في حجر له

والنحل في الإسرا عليه تعوّل

يا كهف مريم أنت طه الأنبيا

والحج ثم المؤمنون الأفضل

يا نور يا فرقان يا من مدحه

نطقت به الشعراء وهو المرسل

والنمل في قصص الحديث به دعت

وعليه نسج العنكبوت يهدّل

والروم تتلو إسمه ولكم به

لقمان حقّاً في المضاجع يسأل

وبعزمه الأحزاب جمعهم سبا

وبه الملائكة الكرام تفضل

يس سمّاه الإله بذكره

وكواكب بسعوده لا تأفل

يا ليتني صاد شربت بكأسه

وعليه في زمر وردت فأنهل

كم مؤمن قد فصّلت أعلامه

من زخرف بجداه يا من يعقل

ودخان جاثية على أحقافها

بقتاله أطفى وفتح أدخل

حجرات قاف ذاريات سمائه

في طورها نجم منير يكمل

ودنا له القمر المنير وشقّه ال

رحمن واقعة له لا تجهل

زغف الحديد بحربه أصواتها

رعد مجادلة لقوم أبسلوا

وله لدى الحشر العظيم شفاعة

في أمّة بالإمتحان تسربلوا

عن صفّ جمعته المنافق نائياً

يوم التغابن من حديد ينعل

يا من به شرع الطلاق ومن له ال

تحريم والملك العظيم الأكمل

يا من به ذو النون لاذ بيمنه

لمّا أصيب بحاقة لا تعدل

يا من سأل نوح بطاهر إسمه

يا من أتته الجنّ يا مزّمّل

مدّثّر يوم القيامة شافع

ومخلّص الإنسان وهو الموئل

يا من نزول المرسلات ببعثه (1)

يا أيّها النّبأ العظيم الأكمل

(1) ق: بغيته.

ص: 342

والنازعات نزعن نفس عدوّه

هذا، وقد عبس الجبين وأذهلوا

وهو الشفيع إذا المنيرة كوّرت

والإنفطار من السماء يعجل

ولدى ذوي التطفيف ويل والسما

في الإنشقاق إذ البروج تبدل

والله قد حرس السماء بطارق

لولادة الأعلى به يتفضل

وأزال غاشية العذاب ونوره

كالفجر إذ أنواره تتهلّل

بلد أمين ثم شمس أشرقت

والشعر ضاهى الليل بل هو أليل

شمس الضحى من وجهه ولصدره

ألانشراح، وقلبه لا يغفل

يا من أتى في التين حقّاً ذكره

فاقرأ ولا يرتاب فيه، واسألوا

يا من ليالي القدر بيبّنة له

وعداه بالزلزال منه تزلزلوا

بالعاديات أزال قارعة العدا

وبقوله ألهاكم ما تجهل

ولقد أتى من قبل عصر نبيّنا

ويل لأهل الفيل منه وقتّلوا

هو صاحب الإيلاف والدين الذي

يسقى غداً من كوثر يتسلسل

والكافرون لنصره في جيدهم

مسد إذا التوحيد عنه تعدل

يا خاتماً فلق الصباح كوجهه (1)

والنّاس منه مكبر ومهلّل

أبياتها ميقات موسى عدّة

والكفعمي بمدحه يتجمّل

صلّى عليه الله مع أصحابه (2)

ما زال طير العندليب يعندل [ترجمة الكفعمي]

والكفعمي هو إبراهيم بن علي بن حسن بن محمد بن صالح نسبة إلى كفر عيما (3) قرية من قرى أعمال صفد، كما تقول في النسبة إلى بني عبد الدار:

(1) ق: بوجهه.

(2)

ق: ثم صحابه.

(3)

في ق والتجارية: عتما، والكفعمي نسبة إلى كفر عيما إحدى قرى جبل عامل، كما ذكره صاحب روضات الجنات (7) نقلاً عن بهاء الدين العاملي، والنسبة الشائعة إليها كفعيماوي. والمترجم إمامي المذهب، وله كتب وأشعار وتصانيف منها: كتاب جنة الأمان الوافية المشتهر باسم المصباح وكتاب البلد الأمين والدرع الحصين وكتاب نهاية الأرب في أمثال العرب وغيرها، وقد توفي سنة 905.

ص: 343

عبدري، وإلى حص كيفا: حصكفي، وشرحه لبديعيته سماه نور حدقة البديع ونور حديقة الربيع " (1) وما رأيت مثله في سعة الحفظ والجمع.

ومن نظمه في أسماء الكتب:

يا طريق النجاة بحر فلاح

أنت دفع الهموم والأحزان

أنت أنس التوحيد عدّة داع

ثم روح الإحيا وفلك المعاني

نهج حيّ ونثر درّ نبيه

ورياض الآداب ذكرى البيان

فائق رائع مسرة راض

منتهى السؤل جامع للأماني

نزهة عدّة ظرائف لطف

روضة مبهج جنان الجنان

زاهر كامل شهاب وكنز

مجتنى من ذخيرة الإخوان

فصحاح الألفاظ فيه تلقّى

وشذور العقود والمرجان

وهو قوت القلوب نهج جنان

وكنوز النجاح والبرهان فناسب بين أسماء الكتب، وقصده غير ذلك، وأكثر هذه الكتب التي ورّى بها غير موجودة بأيدي الناس، بل ولا معروفة لديهم، وهذا دليل على سعة اطلاعه.

ومن بدائع الكفعمي المذكور رسالة كتب بها إلى قاضي القضاة العالم العلامة أبي العباس ابن الفرفور (2) في شأن أستاذ دار قاضي القضاة المذكور الأمير علاء

(1) ذكره حاجي خليفة (1982) وأوله: الحمد لله الذي شيد بنيان صرح البيان.

(2)

هو شهاب الدين أحمد بن محمود بن عبد الله بن محمود الشهير بابن الفرفور الدمشقي الشافعي (852 - 911) ولي قضاء القضاة الشافعية بدمشق ثم جمع له بينه وبين قضاء مصر سنة 910 فأناب عنه بدمشق وولده ولي الدين (الكواكب السائرة 1: 141) .

ص: 344

الدين، ويخرج من أثنائها قصيدة منها: يقبّل الأرض وينهي (سلام) عبد لكم محب وعلى المقة مكب لو بدا للناظرين عشر معشار شوقه وغرامه لطبّق ذلك ما بين آفاق السموات السبع والأرض لشدة هيامه تراه حقّاً لكم حافياً بالأمن والسرور والسعد والحبور داعياً لا جرم وهذا الثناء المتوالي والدعا للمقام العالي لا شكّ من لازم الفرض ملّكه الله تعالى أزمّة البسط والقبض، وأنجاك ربي من المعاطب في دينك ودنياك وأنقذك من شر كل صغير شدة وكبيرها، وأرضاك، وجعلك أميناً في الأرض، إلى يوم القيامة والنشور والعرض، كما أنت أمن لي من المخاوف وعون في كل شدة وغوث وملجأ وعدة وأنجت آمالي ووفرت بإخدامك لي مالي وأحسنت قرضي ووفرت بإجلالك لي عرضي، وينهي المملوك إلى سيده قاضي القضاة وكافي الكفاة بأن المتولي الأمين ذا الفخر المبين علي ابن المرحوم فخر الدين قوله في أمركم العالي مرضي وفعله مقضي ومدحكم عليه فرض واجب قراه أبداً لسانه ويذكر المناقب وحبّكم له واختياركم إياه دالّ بأنّه أمين حليم شاهده حقّاً يقضي بجعله على خزائن الأرض إنّه حفيظ عليم حديث مدح سواكم ليس من مدائحه، ولا يمرّ أبداً بقلبه وجوارحه وإن مرّ في خاطره لا يحلو قطعاً وحكمكم عليه شرعاً، ومرسومكم يمضي وأمركم يقضي يتيه سروراً به رؤساء أهل الشام، ومن في القبيبات من الأنام، عزّة وعلوّاً لخدمته الشريفة إياك ولأنّه يا قاضي قضاة الدين والأرض لا يريد سواك، فإن يك الخادم المذكور في بعض أفعاله غافلاً أو في مقاله غير كامل وعصاكم في بعض الأمر فعين العفو والستر عن ذنبه لا جرم تغضي، وهو بتوبته إليه يفضي

ص: 345

وسلام الله عليكم ورحمته لديكم كلّما نطق ناطق أو ذرّ في المشارق شارق وما دارت الأفلاك، وسبحت بلغاتها الأملاك، في فسيح الطول ورحب العرض، دوماً ما بين السماء والأرض.

وهذه أبيات القصيدة المتولدة من هذه الرسالة:

سلام محب لو بدا عشر شوقه

لطبّق ما بين السّموات والأرض

تراه لكم بالأمن والسعد داعياً

وهذا الدعا لا شك من لازم الفرض

وأنجاك في دنياك من كل شدة

وأرضاك في يوم القيامة والعرض

كما أنت لي عون وغوث وعدّة

ووفرت لي ما لي ووفرت لي عرضي هذا، ويصح أن يقرأ عوناً بالنصب على الحاليّة، وهو الذي رأيته بخطه، أعني الكفعمي، ثم قال:

وينهي إلى قاضي القضاة بأنّ ذا

عليّ بن فخر الدين في أمركم مرضي

ومدحكم فرض قراه لسانه

وحبّكم إيّاه شاهده يقضي

حديث سواكم لا يمر بقلبه

وإن مرّ لا يحلو وحكمكم يمضي

يتيه به أهل القبيبات عزّة

لخدمته إياك يا قاضي الأرض

فإن يك في أفعاله أو مقاله

عصاكم فعين العفو معن ذنبه تغضي

سلام عليكم كلّما ذرّ شارق

وسبّحت الأملاك في الطول والعرض قلت: وهذه طريقة بديعة، وقد تبارى فيها البلغاء، فبعضهم يعمد إلى أحاديث أو آيات وينسج على منواله مثلها، ويفرقها في أبياته أو سجعاته، ويكتبها بلون مخالف للأصل، وقد ذكرت في روضة الورد من أزهار الرياض من كلام ابن عاصم ما لا مزيد وراءه، فليراجعه من أراده، وذكرت في غيره أيضاً نبذة.

ص: 346

رجع إلى نظم ابن جابر - فمن ذلك قوله:

ناديت من أسري به

بحياة من أسري به

سل مدمعاً تجري به

بلواه في تجريبه وقوله:

أيّها العاذل في حبي له

خلّ نفسي في جواها تحترق

ما الذي ضرّك منه بعدما

صار قلبي في هواه تحت رق وله:

برد الصباح على برد الصّا سحراً

ما زال يذكرني أوقات نعمان

لهفي لعيش قضينا في معاهدها

ما بين حسن من الدنيا وإحسان وله رحمه الله تعالى من حسناته المقبولة المضاعفة أيضاً:

جعلت ملاك العين والقلب في الهوى

بناطقة القرطين صامتة القلب

تصحّف لي ألحاظها لين قدّها

وتقلّبه كيما تصيد به قلبي قال بعض علماء المشرق: أجاد والله هذا العالم المغربي المقال، وأراد أ، لفظ لين إذا قلب صار نيلاً، وإذا صحّف صار نبلاً، وهذا زيادة على ما فيه من التحريف؛ انتهى.

[من شعر أبي جعفر رفيق ابن جابر]

وقريب منه لرفيق المذكور قوله:

يفترّ عن برد يثير ببرده

حرّ الغرام ولا سبيل لرشفه

أخذ الرشا من حسنه طرفاً لذا

نسب الورى ملح الجمال لطرفه

ص: 347

وله:

تجرّ فرعيها على إثرها

رافلةً في حلل الحسن

فتطلع البدر لنا في الدجى

وترسل البدر على الغصن وله:

قد نعمنا بجزع نعمان لكن

عقّنا البعد، والعقوق قبيح

قل لأهل الخيام أمّا فؤادي

فجريح لكنّ ودّي صحيح وقوله:

مقدّمات الرقيب كيف غدت

عند لقاء الحبيب متّصلة

تمنعنا الجمع والخلوّ معاً

وإنّما ذاك حكم منفصله وله يمدح سيد الخلق وخاتم المرسلين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين:

رحمةً أرسله الله لنا

وشفيعاً قد غدا فينا غدا

وهب المال لمن مال له

وفدى من ذنبه من وفدا

ليس يحصي فضله إلا الذي

هو أحصى كلّ شيء عددا وله:

حسّن النية ما اسطعت ولا

تتّبع في الناس أسباب الهوى

إنّما الأعمال بالنيات، من

ينو شيئاَ فله ما قد نوى وله:

قالت وقد حاولت نيل وصالها

من غير شيء لا تجوز المسألهْ

بالله قل لي أين نحوك يا فتى

أرأيت موصولاً يجيء بلا صله

ص: 348

وهذا معنى قد تلاعب الشعراء بكرته، وقضية ابن عنين في ذلك مع المعظّم دالة على توقد فكرته، وما ذاك إلاّ أنّه مرض فكتب إلى الملك المعظّم:

انظر إليّ بعين مولىً لم يزل

يولي الندى وتلاف قبل تلافي

أنا كالذي، أحتاج ما يحتاجه

فاغنم دعائي والثناء الوافي فعادة المعظّم وأعطاه ألفاً، وقيل: ثلاثمائة، وقال له: هذه الصلة، وأنا العائد.

قال بعض المغاربة في هذا: قد تلطف ابن عنين في الصلة والعائد، وأجاد وسبق المعظم إلى فهم مقصوده مطابقة الجوار فأتى بما يستغرب عن سيبويه ونظرائه، فلذلك جعل الشرف ابن عنين ديوانه مملوءاً بمدحه وأطرابه، ونقلته من حفظي وفيه بعض تغيير بيتين.

[عود إلى شعر ابن جابر]

وقال ابن جابر المذكور:

يا دار ليلى لا صمتك يد البلى

وسقاك درّ الغيث كلّ سحاب

أصبو إلى تلك الربوع، وكيف لا

أصبو وهنّ منازل الأحباب وقال من قصيدة:

وأطلب تشويق الأنام بحسنه

فأذكر من أسمائه كلّ طيّب ومنها:

وإنّي لم أمدحه إلا تشوّقاً

وإن كان مشهوراً بشرقِ ومغرب

ص: 349

وقال:

أمر الشباب [......]

فهفا فقالت: دمعتي أغلى

أسر الهوى مهج الأنام لها

إذ سلّ من أعطافها أسلا وقال:

ظعنوا [والقدود] منهم رماح

طعنوا في الحشا بها فأصابوا

جاد دمعي لهم وقد حاد صبري

حين سارت بالظاعنين الرّكاب وقال:

شاه وجه الرقيب إذ شاء وصلي

قمري، والأنام عنّا نيام

زارني بالنّهار في الليل لكن

ليل فرع يحار فيه الظلام وقال:

يا أيّها الجائر في حكمه

إني فيما قد جرى حائر

قدّك من أعدل شيء يرى

وأنت في أهل الهوى جائر وقال:

قد زعم العاذل لي أنّه

يهدي لي الرّشد بما يصنع

ما هو هاد لي ولكنّه

هاذٍ فسمعي قال لا تسمعوا وقال:

شفى فؤادي من شقا هجره

وبتّ من لقياه في عيد

وزارني يحكي غزال النقا

في الحسن لولا الحلّي في الجيد وقال:

ص: 350

سلب القلب غزال قدّه

قد حكى البان لنا والسّلما

ساحر العين إذا أبصره

كاتب ألقى لديه القلما وقال:

يكفي الأنام بسيفه وبسيبه

عقد المكاره والمكارم دائما وقال:

تجلّت بما يحكي محاسن ثغرها

وحلّت عقود الصبر مني عقودها

ثقيلة أرداف فصعب قيامها

بما حملت منها وسهل قعودها وقال:

أبى حسنها إلا افتنان قلوبنا

فكم قد أباد الحسن فيها من الناس

وقالت تحمل طول هجري إن ترد

وصال ذوات الحسن قلت على راسي وقال:

أرى أناساً، من أراد الرضى

منهم رجا ما ليس بالممكن

سيّان أن يعطوا وأن يمنعوا

قد ضاع فيهم كرم المحسن وقال:

يا جيرة الحيّ حيّا الله واديكم

فكم سرور به للقلب قد عرضا

فلن أنسال حياة أستلذ بها

إذا أنا لم أنل عن وصلكم غرضا وقال:

شبّ حرّ الفؤاد ماء رضاب

منه قد حار فيه ماء الغمام

زان بالحلي جيده قلت: ماذا

قال: شيء نظمته من كلامي

ص: 351

وقال:

صاد قلبي وصدّ عني صدودا

وانثنى يسحب الذوائب سودا

فرأيت الصباح في الليل يبدو

وشهدت الرّشا يصيد الأسودا وقال:

إنّي سئمت من الزمان لطول ما

قد صدّ عن حسن الوفاء رجاله

ومن النوادر في زمانك أن ترى

خلاّ حمدت وداده وخلاله وقال:

إن قابل الغصن بأعطافه

فقلّ أن تبصر من فرق

قلت قد استبعد كلّ الورى

فقال ذاك البعض من حقّي وقال:

صحّ أنّ الصباح من وجنتيها

وغصون الرياض من معطفيها

قاتل الله عاذلي قلّ يومٌ

ليس يسعى بالعذل فيه إليها وقال:

شدّوا محاملهم يوم الرحال وقد

محا رسوم اصطباري فقد من رحلا

هزّوا الغصون على الكثبان حين مضوا

وأسبلوا فوق أقمار الدجى كللا وقال:

خدّ ترى الورد بعضاً من محاسنه

تبارك الله ما أبهى شمائله

لصارم اللحظ قد أرخى حمائل من

عذاره فحمى عنّا خمائله وقال:

ص: 352

قام حادي الركاب ليلاً فغنّى

فاستقام السّرى وثار الغرام

قيل نام الأنام فاهجع قليلاً

قلت دون الحبيب لست أنام وقال:

ترامى بنا في البيد شوق إلى الحمى

ترى عنده الأجفان منهلّة الدمع

فلمّا رأينا ربع من سكن الحشا

نزلنا فقبّلنا ثرى ذلك الرّبع وقال:

يراودني الواشي على حبّ غيرها

وإنّ محالاً أن يرى مثل حسنها

موفّرة الأرداف، مهضومة الحشا

يريك التفات الظبي فاتر جفنها وقال:

سلّت علينا سيوفاً من لواحظها

ومن لنا من سيوف اللحظ من واقي

أضحت لسفك دم العشاق هادرة

فما ترى ديةً في قتل عشّاق وقال:

في خدّها شبهٌ للخال أو شيةٌ

بما حوى الحسن من ألطاف أسرار

وشيٌ من الحسن لم يحتج لصنع يد

تبارك الله هذي صنعة الباري وقال:

بين الجوانح لو علمت من الجوى

نار عليها سكب عيني يهمع

فدع المدامع في مدى جريانها

فالدمع بعد فراقهم لا يمنع وقال:

قالوا بدارين قد قالوا، وقد وردوا

ماء العقيق، وبالزوراء قد باتوا

ص: 353

بانوا عن العين لكن بالقلوب ثووا

وفي البعاد عن الأحباب آفات وقال:

مليحة الخدّ به شامة

كالورد قد نقّط بالغاليهْ

قلت لها: ما اسمك قولي لنا

قالت: فما تعرفني غاليهْ وقال:

جارية جارية في مدى

شبابها من أملح الخلق

ما بين فرق الصبح لمّا بدا

ووجهها للناس من فرق وقال:

لصبّه منه امتداد النوى

فلا يلام الدمع في صبّه

في قدّه لين فهلاّ قضى

بقلبه منه إلى قلبه يريد بالقلب الأول التحويل والنقل: أي فهلاّ قضى بنقل اللين الذي في قدّه إلى قلبه.

وقال:

يا لابس اللام والأسياف عارية

قد انعطفت على الأعطاف واللام

ويا ضجيع رماح الخطّ يرسلها

في كلّ هام لها بالحظ في الهام الهام الأول: جمع هامة، والثاني اسم فاعل من همى يهمي.

قال رفيقه: لو قال " من الهام " لكان أليق بالمعنى وألطف.

وقال:

من مال يبغي كسب مال له

من حرمه إن جاء أو حلّه

ص: 354

فلا تثق يوماً به واحترز

منه فما يبقي على خلّه وقال يتشوق إلى وطنه بالمرية:

لله عيش بالمريّة قد ذهب

أخباره بالحسن تكتب بالذهب

وهبت لنا تلك اللّيالي مدة

ثم استردّ الدهر منّا ما وهب وقال:

أنّ من شوقه فثار الضّرام

ودرى الناس أنّه مستهام

لا تسل ما جرى من الدمع لمّا

قيل هذي النقا وهذي الخيام وقال:

صلاة إله العالمين على الذي

أقلّ العطايا منه واد من النّعم

يجود على الراجي وإن كان مذنباً

وما قوله للسائلين سوى نعم وقال:

قد سبا قلبي غزال فاتن

سل به كيف اعتدى في سلبه

أنا لا أعتب فيما قد جرى

صفح الله له عن ذنبه وقال:

صبرت له فتمادى به

هواه، فكانت هي الفاصله

وأنكر برّي ويا طالما

أتاني يوماً فألقى صله وقال:

وليل نظمنا به شملنا

كما انتظم البيت بالقافيه

وفرقنا الدهر من بعد ذا

فلست من اليوم ألقى فيه

ص: 355

فئة، ولا يكمل التجنيس فيه إلاّ بتسهيل الهمزة كما قال رفيقه، ولمّا أنشده قال:

ومن هذا النوع قول بعض الأندلسيين:

وقائل قال ألا صف لنا

بستاننا هذا ونارنجنا

قلت لهم بستانكم جنّة

ومن جنى النارنج ناراً جنى وقال ابن جابر المذكور:

قل بحقّ الهوى سمحت بوصل

ربة القلب أم نهاك الرقيب

رمت نيل الوصال منها فقالت

لك وصل غداً فقلت: قريب وقال:

زيّن الخدّ منه صدغ كنون

قد بدا تحته عذار كلام

قلت هذي محاسن ابن هلال

فانثنى وهو ضلاحك من كلامي وقال:

لها حسن لها عن كلّ شيء

به قلبي، فما أنا أستفيق

على وجناتها نعمان يبدو

لنا وشفاهها هنّ العقيق وقال:

تمرّ في ذكركم، والله، أحياني

ولو سرى طيفكم ليلاً لأحياني

لا يعذب العيش لي بعد العذيب ولا

نعيم مثل ليالينا بنعمان وقال:

مداراة هذا الخلق أوليك بينهم

صفات هي الأقمار والنظم دارات

ص: 356

وشارات حمد المرء أن لا ترى له

على الناس ممّا لازم الحلم دارات وقال:

أرى كمداً سعيي إلى خاملٍ، ولو

أراك مدى في فرقد بلغ السها

وما الخير يوماً من لئيم بممكن

وإن كان منه الخبر يوماً فقد سها وقال:

أرى حيدي عن كلّ طارىء نعمةٍ

أراح يدي من أن يقيّدها الذلّ

فمن أخذ المعروف من غير أهله

تروح الليالي وهو في عنقه غلّ وقال:

شبا لحظها الماضي وحسن شبابها

هما حمّلا نفسي من الوجد ما بها

كثيب النقا من ردفها، وقضيبه

لمعطفها، والبدر تحت نقابها وقال:

حلّ عقد الصبر مني عقدها

إذ سبت قلبي بما في قلبها

تحسب الدّرّ على لبّتها

أنجماً قد كلّل البدر بها وقال:

شعر كالليل يبدو تحته

قمر قد حار شعري في صفاته

نقل المسواك عن مبسمه

أنّ ماء الورد يجري من لثاته وقال:

من سنّ تلك اللحاظ فاتّبعت

من سنّة الحبّ كلّ متّبع

تقتل عشّاقها بلا سبب

وذاك في الحبّ غير مبتدع

ص: 357

وقال:

وما شجو صال لوعة الهجر قد قضى

زمان وصال لم تكدّر مشاربه

كشجو محبّ لم يذق لذّة الرضى

ولا بات والغيد الحسان تلاعبه وقال:

سرت في رحال العيس منه أهلّةٌ

فأيسر حال أن أزوّدها قلبي

بعيشك قل لي هل دروا كيف علّتي

وفيض دموعي بعد منصرف الركب وقال:

من جنى باللحاظ زهر المعاني

من جناب الحمى إذا الناس ناموا

هو قد نال كلّ ما يتمنى

وسعت في مراده الأيام وقال:

لطائف حسنها بربوع قلبي

لطائف ألجأتني للغرام

تريك تكاسلاً في اللحظ منها

لتحسبه تنبّه من منام وقال:

إذا زرت حيّاً بالعقيق فحيّهم

وذكّرهم عهدي وحقّ ودادي

حرامٌ فراق العيس حتى تحلّني

بواديه من تلك الوجوه بوادي وقال:

من فرط ما في الطرف من فتنة

قد غلب الحبّ على النّاس

قالت نسيت العهد قلت اكففي

عنّي فما عبدكِ بالنّاسي وقال:

ص: 358

بين نعمان وسلع ملأ

ليس منهم لمحبّ ألم

كلفي منهم ببدر حلّ في

فلك العياء فاعرف من هم وقال:

أراقبها وحين أرى سبيلاً

أقاربها فتنفر كالغزال

وقالت أنت مرتقب لماذا

فقلت لها: ارتقابي للهلال وله من قصيدة مطوّلة في فضائل الصحابة العشرة وأهل البيت، فمما يختص منها بأبي بكر رضي الله تعالى عنه قوله:

فمنهم أبو بكر خليفته الذي

له الفضل والتقديم في كلّ مشهد

وصدّيق هادي الخلق والمؤثر الذي

لإنفاقه للمال في الله قد هدي

وصهر رسول الله، وانته التي

يبرئها نصّ الكتاب الممجّد

وصاحبه في الغار إذ قال لا تخف

فثالثنا ذو العرش أوثق منجد

وسدّ على المختار مخرج حيّةٍ

هناك برجلٍ منه فازت بأسعد

وفيه وفي خير الأنام تسامعوا

بمكّة صوت الهاتف المتقصد (1)

" جزى الله ربّ الناس خير جزائه

رفيقين حلاّ خيمتي أمّ معبد " (2)

وعتق بلال حسبه، فهو سيّد

تأثل في الإسلام، إعتاق سيد

(1) يقال إن أهل مكة سمعوا بعد هجرة الرسول ومعه أبو بكر هاتفاً يقول: جزى الله

إلخ البيت التالي؛ وقد مر الرسول وصاحبه بخيمتي أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف الخزاعية فقالا عندها، ويقال إنها ذبحت لهما شاه وطبختها (انظر إمتاع الأسماع: 43 وعيون الأثر 1: 188 - 189) .

(2)

واية البيت في عيون الأثر (1: 188) :

جزى الله خيراً والجزاء بكفه

رفيقين قالا خيمتي أم معبد وقد وردت الرواية المثبتة في النفح مع وضع " قالا " موضع " حلا " في ص: 189 من الكتاب المذكور.

ص: 359

وقال رسول الله إنّ أمنّكم

عليّ أبو بكر وأوفى بموعد (1)

فصدّق إذ كذبتم، وأطاع إذ

عصيتم، ووافاني موافاة مسعد

ولو أنّني من أمتي كنت آخذاً

خليلاً تولّى خلّتي وتودّدي

كان أبو بكر، ولكن أخوّة

في الإسلام مهما تنقص الناس تزدد (2)

فلمّا أراد الله قبض نبيّه

وصار إلى دار النعيم المخلّد

تقدم في نيل الخلافة بعده

بإجماعهم لا بالحسام المهنّد

وقد فارقت يومالسقيفة فرقة

فلمّا رأته الحقّ لم تتردّد

وقام عليّ بعد ذاك مبايعاُ

فأثنى ثناء المخلص المتودّد

وأظهر عذراً في تأنّيه صادقاً

وبايع طوعاً لا لفقدان مسند

فآب بحمد منهم غير قاصر

ومن يتبع الإنصاف والحقّ يحمدِ

وما أشبه الصدّيق في الفضل مشبه

ولا أحصيت أوصافه بتعدّد وممّا يختص بعمر رضي الله تعالى عنه قوله من هذه القصيدة:

ويتبعه في فضله عمر الذي

رمى عن قسيّ الصدق قوس مسدّد

وما كلّ من رام السعادة نالها

ولكنّه من يسعد الله يسعد

هو المرء لم يترك له الحق صاحباً

ولا قعد الشيطان منه بمقعد

ولا سلك الشيطان فجّاً قد اغتدى

له سالكاً من خوفه المتزيّد

ومن ظلّه قد كان ينفر هيبةً

له حيثما أضحى يروح ويغتدي (3)

(1) يشير إلى الحديث: " ما من أحد أعظم عندي يداً من أبي بكر واساني بنفسه وماله " رواه الطبراني، وفيه أرطاة أبو حاتم وهو ضعيف (مجمع الزوائد 9: 46) .

(2)

هو تعبير عن الحديث: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن إخاء ومودة إلى يوم القيامة " رواه الطبراني، وفيه نهشل بن سعيد وهو متروك (المصدر السابق 9: 45) .

(3)

في الأحاديث: " إن الشيطان لم يلق عمر منذ سلم إلا خر لوجهه "(مجمع الزوائد 9: 70) وهناك أحاديث أخرى في خوف الشيطان منه؛ وفي صحيح مسلم (2: 234) : والذي بنفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك.

ص: 360

وقد جاء عنهم: ما برحنا أعزة

بإسلامه فانكفّ من كان يعتدي

ومن قولهم: إسلامه كان غرة

وهجرته فتحاً شجا كلّ ملحد

وإمرته كانت على الناس رحمة

فآبوا إلى فتح وعزّ ممهّد

ومن فضله رعي النبيّ بغيرة

له فانثنى عن قصره المتشيد

وقد قيل للفاروق: هذا، ومن به

فأنبأه عن ذا النعيم المؤبّد

فأقبل يبكي قائلاً كيف غيرتي

عليك، ولولا أنت ما كنت أهتدي (1)

ورؤيا رسول الله للقدح الذي

تناول من درّ به غاية الصدي

وناوله الفاروق من بعد ما ارتووا

إلى أن غدا من ظفره الريّ يبتدي (2)

فأوّله العلم الذي منه ناله

وأوّل رؤيا الدلو حسن التأيد

فصارت له غرباً فأروى بها الورى

فكان افتتاح الأرض فتح ممهّد

ورؤياه أيضاً في قميص يجرّه

وللناس قمص بعضها يبلغ الثّدي

فأوّل خير الخلق طول قميصه

بما حاز في إيمانه من تأيّد (4)

وتفريقه ما بين حقّ وباطل

بيوم سقى الكفّار أفظع مورد

وسمّي بالفاروق من أجل هذه

ومازال في نصّ الهدى ذا تجلّد

وحسبك أنّ الله وافق رأيه

لدى يوم بدر إذ رأى قتل من فدي

كذا في أذان والحجاب وجعلهم

مصلّى مقاماً للخليل بمسجد (4)

(1) يشير إلى الحديث: " دخلت الجنة فرأيت فيها داراً أو قصراً فقلت: لمن هذا قالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فذكرت غيرتك؛ فبكى عمر وقال: أي رسول الله، أو عليك يغار "(صحيح مسلم 2: 233 وورد فيه الحديث بصورة أخرى وانظر مجمع الزوائد 9: 74) .

(2)

عن ابن عمر عن النبي (ص) أنه قال: بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت حتى لأرى الري يجري في أظافيري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: العلم. (الرياض النضرة 1: 275) .

(4)

عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي اسارى بدر (وانظر تفصيل ذلك في الرياض النضرة 1: 261 وما بعدها وانظر صحيح مسلم 2: 234) .

(4)

عن عمر أنه قال: وافقت ربي في ثلاث: مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي اسارى بدر (وانظر تفصيل ذلك في الرياض النضرة 1: 261 وما بعدها وانظر صحيح مسلم 2: 234) .

ص: 361

شديد على أهل الهوى رحمة لمن

عن الحقّ لم يجنح ولم يتحيّد

وممّا رووا إن كان في أمةٍ فتى

يحدّث فالفاروق من ذاك فاعدد (1)

وما أبغض الفاروق إلا مفارق

لدين الهدى ذو مذهب لم يسدّد وممّا يختص بعثمان رضي الله تعالى عنه قوله:

وحسبي عثمان بن عفان أنّه

عليه اعتمادي وهو سؤلي ومقصدي

إمام صبور للأذى وهو قادر

حليم عن الجاني جميل التعوّد

هو الجامع القرآ، والقانت الذي

إذا جنّ ليل ليس يأوي لمرقد

ويقطع بالصوم النهار وينثني

مدى ليله في خشية وتهجّد

وقال رسول الله في بئر رومة

أما مشتر يبغي بها الأجر في غد

له الجنّة العليا بذلك فاشترى

وتجهيز جيش العسرة اذكر وعدّد

فقال رسول الله إذ جاءه بما

قد احتاج من مال وظهرٍ وأعبد

هنيئاً لعثمان بن عفّان عفله

وما ضرّه ما بعد مع هذه اليد (2)

وقول ألا أبدي حياء لمن له

قد استحيت الأملاك أشرف محتد (3)

وبلّغ بشرى الهاشميّ بأنّه

من الجنة العليا بأكرم مقعد

ولكن على بلوى، وقال سأرتضي

وأصبر صبر الطائع المتجلد

(1) في صحيح مسلم (2: 234) قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم؛ قال ابن وهب في تفسيره محدثون: ملهمون. وانظر الرياض النضرة 1: 260.

(2)

من فضائل عثمان أنه جهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً وأتم الألف بخمسين فرساً (وقيل أكثر من ذلك) وقال فيه الرسول " ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم " - وهو حديث حسن غريب - وأنه اشترى بئر رومة بعشرين ألف درهم (انظر الرياض النضرة 2: 120 - 122) .

(3)

يشير إلى الحديث الذي ينص على أن الرسول (ص) كان مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر ثم عمر وهو على تلك الحال، فلما استأذن عثمان جلس وسوى ثيابه، فلما سئل في ذلك قال:" ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة "(صحيح مسلم 2: 234 - 235) .

ص: 362

فأظهر يوم الدار صبر أولي النّهى

ولو شاء لم تظفر به يد معتد

ولم يرض، صوناً للدم، بحربهم

وكان متى يستنجد القوم ينجد

فمات شهيداً صابراً فهو خير من

على نفسه في غير حقّ قد اعتدي

على بنّي المختار أرخى ستوره

فناهيك من مجد وعزٍّ مجدّد

ولم يدع ذا النورين إلا لأنّه

حوى بيته نورين من نور أحمد

وإنّ لعثمان بن عفّان رتبةً

من المجد تسمو عن سماكٍ وفرقد وممّا يختص بعلي رضي الله تعالى عنه قوله:

وإنّ عليّاً كان سيف رسوله

وصاحبه السامي لمجد مشيّد

وصهر النبيّ المجتبى وابن عمّه

أبو الحسنين المحتوي كلّ سؤدد

وزوّجه ربّ السما من سمائه

وناهيك تزويجاً من العرش قد بدي

بخير نساء الجنة الغرّ سؤدداً

وحسبك هذا سؤدداً لمسوّد

فباتا وحلي الزهد خير حلاهما

وقد آثرا بالزاد من جاء يجتدي

فآثرت الجنات من حلل ومن

حليّ لها رعياً لذاك التزهد

وما ضرّ من قد بات والصوف لبسه

وفي السندس الغالي غداً سوف يغتدي

وقال رسول الله إنّي مدينة

من العلم وهو الباب، والباب فاقصد

ومن كنت مولاه عليّ وليّه

ومولاك فاصدق حبّ مولاك ترشد

وإنّك مني خالياً من نوّة

كهرون من موسى وحسبك فاحمد (1)

وقال غداً أعط اللواء محبباً

إليّ وللرحمن بالنصر مرتدي

فباتوا وكلّ يشتهي أن ينالها

إلى أن بدا وجه الصباح المجوّد

فنادى علياً ثم أبرأ عينه

بنفث كأن لم يمس قبل بأرمد

فأعطاه إياها وقال له ادعهم

ومهما أبوا فانهد إليهم تؤيد

(1) اشار في هذا البيت وما سبقه إلى أحاديث في فضائل علي منها: " أنا مدينة العلم وعلي بابها " و " من كنت مولاه فعلي مولاه " ومنها " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ".

ص: 363

فجدّل منهم من جنى عندما دعا

إلى الحرب دعوى الفاتك المتمرّد

وقاتل طول اليوم والباب ترسه

يجرّ به للقوم في كل مرصد (1)

فأعجزهن الباب من بعد عشرة

فما الظن في ههذا القوي المؤيد

وكان من الصبيان أوّل سابق

إلى الدين لم يسبق بطائع مرشد

وجاء رسول الله مرتضياً له

وكان عن الزهراء بالمتشرّد

فمسّح عنه الترب إذ مسّ جلده

وقد قام منه آلفاً للتفرّد

وقال له قول التلطف قم أبا

تراب كلام المخلص المتودد (2)

وفي ابنيه قال المصطفى ذان سيدا

شبابكم في دار عزّ وسؤدد

وأرسله عنه الرسول مبلّغاً

وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفرد

وقال هل التبليغ عني ينبغي

لمن ليس من بيتي فبالقوم فاقتد

وقد قال عبد الله للسائل الذي

أتى سائلاً عنهم سؤال مندّد

وأمّا عليّ فالتفت أين بيته

وبيت رسول الله فاعرفه واشهد

بأمرين من حرّ وبرد فلم يجد

أذى بردها أو حرّها المتوقد

وما زال صوّاماً منيباً لربّه

على الحقّ قوّاماً كثير التّعبّد

قنوعاً من الدنيا بما نال، معرضاً

عن المال، مهما جاءه المال يزهد

لقد طلّق الدنيا ثلاثاً، وكلّما

رآها وقد جاءت يقول لها ابعدي

وأقربهم للحق فيها وكلّهم

أول الحق لكن كان أقرب مهتد ومنها في ذكر السّبطين رضي الله تعالى عنهما:

(1) قص في هذه الأبيات إعطاء الراية لعلي ليوم خيبر: " لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه " ثم سأل عن علي فقيل: إنه يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فلما جاء بصق في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع؛ وفي الهجوم على الحصن طرح ترسه وتناول باباً عن حصن فترس به نفسه

الخ (الرياض النضرة 1: 242 - 247) .

(2)

في سبب تلقيب علي بأبي تراب انظر صحيح مسلم 2: 238.

ص: 364

وبالحسنين السيدين توسّلي

بجدهما في الحشر عند تفرّدي

هما قرّتا عين الرسول وسيدا

شباب الورى في جنّة وتخلّد

وقال: هما ريحانتاي، أحبّ من

أحبّهما، فاصدقهما الحبّ تسعد

هما اقتسما شبه الرسول تعادلاً

وماذا عسى يحصيه منهم تعددي

فمن صدره شبه الحسين أجله

وللحسن الأعلى وحسبك فاعدد

وللحسن السامي مزايا كقوله

هو ابني هذا سيد وابن سيد (1)

سيصلح رب العالمين به الورى

على فرقة منهم وعظم تبدد

وإن تطلبوا ابناً للنبي فلن تروا

سواي: مقال منه غير مفنّد

بدا سيداً ظهر الرسول قد ارتقى

فقرّ ولم يعجله وهو بمسجد

فقالوا له طال السجود فقال لا

ولكنما ابني خفت إن قمت يشرد (2)

وكان الحسين الصارم الحازم الذي

متى يقصر الأبطال في الحرب يشدد

شبيه رسول الله في البأس والندى

وخير شهيد ذاق طعم المهنّد

لمصرعه تبكي العيون وحقّها

فلله من جرمٍ وعظم تمرّد

فبعداً وسحقاً لليزيد وشمره

ومن سار مسرى ذلك المقصد الردي ومنها في ذكر حمزة رضي الله تعالى عنه:

ومن مثل ليث الله حمزة ذي الندى

مبيد العدا مأوى الغريب المطرّد

فكم حزّ أعناق العداة بسيفه

وذبّ عن المختار كلّ مشدد

فقال رسول الله: هذا أمرته

ولي أسد ضار لدى كلّ مشهد

وقال أبو جهل: أصبت محمداً

بما ساءه فاهتزّ هزّة سيّد

(1) إشارة إلى الحديث: إن ابني هذا سيد وليصلحن الله به بين فئتين من الملسلمين عظيمتين. (مجمع الزوائد 9: 178) .

(2)

انظر الخبر عن الحسن كيف جاء وهو طفل فصعد على ظهر النبي وهو ساجد. (المصدر السابق ص: 175) .

ص: 365

وأهوى له بالقوس ما بين قومه،

وقال: وأخرى بالحسام المهنّد

وقال له: إنّي على دينه فإن

أطقت فعرّج عن طريقي واردد

فذلّ أبو جهل وأبدى تلطفاً

ومن ينصر الحقّ المبين يؤيد (1)

فعاد وقد نال السعادة واهتدى

وأضحى لدين الله أكرم مسعد

وفي يوم بدر حثّ عند سؤالهم

لما شهدوا من بأسه المتوقّد

لمن كان إعلامٌ بريش نعامة

يشردنا مثل النعام المشرّد

فذاك الذي والله قد فعلت بنا

أفاعيله في الحرب ما لم نعوّد

وفي أحد نال الشهادة بعدما

أذاق سباعاً للردى شرّ مورد

ففاز وأضحى سيد الشّهداء في

ملائكة الرحمن يسعى ويغتدي

وصلّى رسول الله سبعين مرّة

عليه إلى ثنتين عند التعدّد

وقال: مصاب لن نصاب بمثله

وإن كان لي يوم سأجزي بأزيد

وأسمعهم لكن حمزة ما له

وبشر بالنّار النوائح ما عدي

نوائحه..

...

...

... وقلن يا أعين اسعدي (2)

وزاد إلى فضل العمومة أنّه

أخوه رضاعاً هكذا المجد فاشهد

وما زال ذا عرض مصون عن الأذى

ومال مهان في العطايا مبدد

كريم متى ما أوقد النّار للقرى

" تجد خير نار عندها خير موقد "(3) ومنها في ذكر العباس رضي الله تعالى عنه:

(1) يتحدث عن إسلام حمزة بعد أن سمع أن أبا جهل أساء إلى النبي فجاء إلى أبي جهل بفناء الكعبة، وجمع يديه بالقوس وضربه بها فيقال إن أبا جهل قال له:" ما كنت يا أبا عمارة فاحشاً " وعلى أثر هذه الحادثة أعلن إسلامه. (مجمع الزوائد 9: 267) .

(2)

تتحدث كتب السيرة بإسهاب عن استشهاد حمزة يوم أحد على يد وحشي، وحزن النبي عليه، وصلاته عليه كلما صلى على شهيد من أمته، وقوله " لكن حمزة لا يواكي له.... " وقوله " لن أصاب بمثلك أبداً ".

(3)

شطر بيت للحطيئة (ديوانه: 51) وصدره: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره.

ص: 366

وقد بلغ العباس في المجد رتبةً

تقول لبدر التم: قصّرت فابعد

ألا إنّه فضل السقاية قد حوى

فكان لوفد الله أكرم مورد

وكان طويل الباع في الباس والندى

كريماً متى يسترفد القوم يرفد

ويوم حنين ليس ينسى ثباته

ودعوته مستنجداً كلّ منجد

وقال رسول الله فيه عليّ ما

عليه وأيضاً مثله في التزيد

ألا إنّ عمّ المرء صنو أبيه كي

يزيدهم في برّه المتأيد

ألا إنّ عمّ المرء صنو أبيه كي

يزيدهم في برّه المتأيد

وبشّره أنّ الخلافة في الورى

لأولاده من سيد ومسوّد

بشيبته استسقوا إذ المحل شامل

فجاءهم غيث سقى كلّ فدفد انتهى ما وقفت عليه من هذه القصيدة الفريدة، وليس بيدي الآن ديوان شعره حتى أكتبها بكمالها فإنّها مناسبةٌ لهذا الباب الذي جعلناه ختماً للكتاب كما لا يخفى.

ومن مقطّعات ابن جابر:

شغفت بها حيناً من الدهر لم يكن

سوى سكب دمعي في محبتها كسبي

وما أصل هذا كلّه غير نظرة

إلى مقلة منها أضعت لها قلبي وقال:

قد بان عذري في مليح له

لحظا رشاً بلحظ من ذعر

إنّي على الهجر مطيع له

ممتثل في السرّ والجهر وقال:

هذا الرشا يقنص ليث الشري

بنظرة منه فلا مخلص

لو عارض العاذل يوماً له

لكان من أول ما يقنص

ص: 367

وقال:

ظبية في ثغرها لعسٌ

يجتنى من رشفه عسل

سلك التيه بمقلتها

مسلكاً قد زانه كسل وقال:

رقم الخال خدّها فرأينا

قمر الأفق فيه نقطة ليل

قلت: أين الكثيب والغصن قالت:

كل ما قد ذكرته تحت ذيلي وقال:

إن خفت من فتك المهنّد والقنا

فإذا رنت وإذا مشت لا تقرب

في قلب برقعها محاسن أنزلت

قمر السماء لنا بقلب العقرب وقال:

رأى عذولي حسنها بعدما

حقّق كوني للهوى جانحا

فقال إن كنت محبّاً لها

فقد حمدنا رأيك الناجحا وقال:

ذكر الله بالمريّة عيشاً

لست عن ذكره الجميل أحول

طال عهدي بها وما دمت حيّاً

لا يزيد الرجاء بل قد يطول وقال:

مرّت ليال بالمريّة طالما

قضّيت من ليل بهنّ مآربا

لم أسل عن تلك الديار وإنّما

جعل القضاء لكلّ نفس غالبا

ص: 368

وقال:

لا تعقني عن العقيق فإنّي

بين أكنافه تركت فؤادي

وعلى تربه وقفت دموعي

ولسكّانه وهبت ودادي وقال:

عرف المنزل الذي دار فيه

زمن الأنس والشباب النضير

فشجاه قلب التلاقي فراقاً

وانثنى عنه ذا فؤاد كسير وقال:

جمال هذا الغزال سحر

يا حبّذا ذلك الجمال

هلال خدّيه لم يغيّب

عني وإن غيّب الهلال

غزال أنس يصيد أسداً

فاعجب لما يصنع الغزال

دلاله دلّ كلّ شوق

عليّ إذ زانه الدلال

كماله لا يخاف نقصاً

دام له الحسن والكمال

نباله قد رمت فؤادي

يا حبّذا تلكم النبال

حلال وصلي له حرام

وحكم قتلي له حلال

زلال ذاك الحمى حياتي

وأين لي ذلك الزلال

قتاله لا يطاق لكن

يعجبني ذلك القتال وقال:

بين تلك الخيام أكرم حيّ

طربت للنّدى عليهم خيام

قد أقاموا بين العقيق وسلع

فحياة النفوس حيث أقاموا وقال:

إذا جئت نجداً كرّم الله عهده

فسلّم على أهل المنازل من نجد

ص: 369

لئن حال بعد الدار بيني وبينهم

فإنّي لأرعاهم على ذلك البعد وقال:

خجلت عندما نظرت إليها

وانثنت وهي بين تيه ومنع

إنّما ورد خدّها زرع طرفي

حين مروا فكيف أحرم زرعي وقال:

لك نفسي إذا بدت لك نجد

فلقد سرّني الزّمان بنجد

فلتلك الخيام عندي عهد

وأبى الله أن أضيّع عهدي وقال:

سل عن القوم إن بدت لك سلع

ففؤادي عند الذين بسلع

لي على تلكم المعاهد دمع

كاد يغني بها عن اللثّ دمعي وقال:

صفحوا عن محبهم وأقالوا

من عثار النوى ومنّوا بوصل

لست أستوجب الوصال ولكن

أهل تلك الخيام أكرم أهل وقال:

مال الزمان بهم عنّي وقد بعدوا

لم يلهني عنهم أهل ولا مال

إنّي لأخشى وما الأيام طوع يدي

أنّي أموت ولي في القلب آمال وقال:

بين وادي النقا وبان المصلّى

ملأ ألبسوا الوجود جمالا

إن يكن قد نوى لي الدهر قرباً

منهم فهو قد كفاني نوالا

ص: 370

وقال:

زرت الديار عن الأحبة سائلاً

ورجعت إذلالاً بدمع سائل

ونزلت في ظلّ الأراكة قائلاً

والرّبع أخرس عن جواب القائل وقال:

لا أوحش الله المنازل منهم

منهم غدت تلك الديار حسانا

فاشكر لدهرك أن أراك بحاجر

بان الحمى وأراكه قد بانا وقال:

لك يا وادي العقيق علينا

كل ما شئت من ذمام وثيق

فمن البرّ أنّني أتبرّى

من عقوق لمنزل بالعقيق وقال:

يا أهل ذي سلمٍ بشرى لمستلم

ذاك الثرى مقدمٍ في السير لم ينم

يؤم داراً بها خير الورى حسباً

الخاتم الرسل من عرب ومن عجم ولنقتصر من كلام ابن جابر في هذا الموضع على هذا المقدار، وإنّما أطنبت فيه لما تقدم من الاعتراض على لسان الدين في عدم توفيته بحق المذكور وحق رفيقه، مع أنّه أطال فيمن دونهما من أهل عصره، وأيضاً فإن كليهما غريب عندنا بالمغرب، لكونهما ارتحلا قبل أن يشتهرا كل الاشتهار، وكان خبرهما في الشرق أشهر.

[من شعر رفيق ابن جابر]

وأمّا رفيقه شارح بديعيته فقد ذكرنا في غير هذا الموضع بعض حاله وكلامه، ولنزد هنا ما تيسّر، فنقول: من نظمه:

ص: 371

لمّا عدا في الناس عقرب صدغها

كفّت أذاه من الورى بالبرقع

والصبح تحت خمارها متستر

عنّا متى شاءت تقول له اطلع وقال:

تجنّت فجنّ في الهوى كلّ عاقل

رآها وأحوال المحبّ جنون

وما وعدت إلاّ عدت في مطالها

كذلك وعد الغانيات يكون وقال:

لا تجدوا في الهوى على كلف

نظيره في الغرام لن تجدوا

لهفان ما يشتيك إلى أحد

ظمآن غير الدموع لا يرد وقال:

ربّ ليل قطعته بالجزيره

فتذكرت أهلنا بالجزيره

قصّر الأنس ما تطاول منه

وكذا أزمن السرور يسيره قال: والجزيرة الأولى المراد بها حمص المحيط بها النهر المسمى بالعاصي، والثانية جزيرة الأندلس.

وله أيضاً:

وما لي والتزين يوم عيد

وجيد صبابتي بالدمع حالي

وقد أرسلت أشهبها بريداً

وبعد كميتها ينبي بحالي والمراد بالأشهب الدمع الذي لا يشوبه شيء؛ وبالكميت الدمع المشوب بالدم، قال رحمه الله في شرح البديعية وقد ذكر العقيق بعد كلام ما نصّه: قلت: وكان هذا الوادي المبارك زمن عثمان رضي الله تعالى عنه ذا قصور محتفّة، وحدائق ملتفّة، وبنيان مشيد، ونخل طلعه نضيد، وجنات ترتي أكلها كلّ حين

ص: 372

وسواق تجري به بماء معين، ثم لعبت به أيدي السنين، وغيرت معالمه فصار عبرة للناظرين، فلم يبق من معاهده إلا آثار تشهد بحسنه، ونضرة نعيم تدل على ما سلف من نضارة غصنه؛ وقد خرجنا إلى هذا الوادي أيام مجاورتنا بالمدينة الشريفة، وهو يتدفّق بمائه، ويعارض بجوهر حبابه أنجم سمائه، وقد سالت شعابه، وفاض عبابه، والناس تفرقوا في جهاته، وافترشوا غضّ نباته، والشّيح قد توشّح بالندى، والأنس قد راح به وغدا، والأصيل مذهب الرداء، والبيداء مخضرة الأنداء، وبحافته آثار قصور، ليس لها في الحسن قصور، قد بليت وحسنها جديد، وخربت وربعها بالأنس مشيد؛ انتهى.

ومن بديع نظمه قوله:

مهلاً فما شيم الوفا منقادة

لمن ابتغى من نيلها أوطارا

رتب المعالي لا تنال بحيلة

يوماً ولو جهد الفتى أو طارا وقوله رحمه الله تعالى:

على وادي العقيق سكبت دمعي

بلا عين فيبدو كالعقيق

فكم غصن وريق منه يحكي

قوام رشا شهيّ فم وريق وقال:

سألتك بالله يا من غدا

يصرّف بالقلب أفعاله

تدارك محبّاً بدرياق وصل

فإنّ عبادك أفعى له وقال:

لا تأمننه على القلو

ب فمنه أصل غرامها

فلحاظه هنّ التي

رمت الورى بسهامها ومن فوائده رحمه الله تعالى في شرح البديعية ما نصّه: ومن غريب ما في

ص: 373

لدى أن أبا علي حكى في تذكرته عن المفضّل أنها أتت بمعنى هل وأنشد:

لدى من شبابٍ يسترى بمشيب

وكيف شباب المرء بعد ذهاب (1) رجع - وقال رحمه الله تعالى يتشوّق إلى حمراء غرناطة:

ذابت على الحمراء حمر مدامعي

والقلب فيما بين ذلك ذائب

طال المدى بي عنهم ولربما

قد عاد من بعد الإطالة غائب وقال:

ما هبّ من نحو السّبيكة بارقٌ

إلاّ غدا شوشقي لقلبي شابكا

والله ما اخترت الفراق لربعها

لكن قضاء الله أوجب ذلكا وقال:

منازل سلمى إن خلت فلطالما

بها عمرت في القلب مني منازل

رسائل شوقي كلّ يوم تزورها

وما ضيّعت عند الكرام الرسائل (2) وقال:

بجور الوداع لنا موقف

أذاب الفؤاد لأجل الوداع

فما أنا أنسى غداة النوى

وحادي الركائب للبين داعي قال: وجور الوداع موضع بظاهر غرناطة، عادة من سافر أن يودّع هناك.

وقال:

ناولته وردة فاحمرّ من خجلٍ

وقال: وجهي يغنيني عن الزّهر

(1) ق: ذهيب.

(2)

ق: الوسائل.

ص: 374

الخدّ ورد، وعيني نرجس، وعلى

خدّي عذار كريحانٍ على نهر وقال رحمه الله تعالى في التشريع:

يا راحلاً يبغي زيارة طيبة

نلت المنى بزيارة الأخيار

حيّ العقيق إذا وصلت وصف لنا

وادي منىبأطايب الأخبار

وإذا وقفت لدى المعرّف داعياً

زال العناوظفرت بالأوطار وقال:

يا أولاً في المرسلين وآخراً

الله خصّك بالكمال ليرضيك

من قبل آدم قد جعلت نبيّه

قدماً فقدّمك الإله ليعليك

أوحى إليك لكي تكون حبيبه

ويتمّ نعمته عليك ويهديك وقال:

صيرتني في هواك اليوم مشتهراً

لا قيس ليلى ولا غيلان في الأوّل

زعمت أنّ غرامي فيك مكتسبٌ

لا والذي خلق الإنسان من عجل وقال:

لا تعاد الناس في أوطانهم

قلّما يرعى غريب الوطن

وإذا ما شئت عيشاً بينهم

خالق الناس بخلق حسن وقال:

نسختي اليوم في المحبّة أصل

فعليها اعتماد كلّ عميد

نقلوا مرسل المدامع منها

وصحيح الهوى بغير مزيد

قد رواها قبلي جميل وقيس

حين هاما بكلّ لحظ وجيد

ص: 375

ومن فوائده: أنّه لما أنشد في طراز اعلحلة قول سعد الدين محمد بن عربي في ابن مالك:

إنّ الإمام جمال الدين فضّله

إلى آخره قال ما ملخصه: ولما أورده الصفدي في فض الختام قال: هذا في غاية الحسن لو كان الكتاب المذكور يسمى الفوائد وإنّما هو تسهيل الفوائد فذكر المضاف إليه دون المضاف، وهي تورية ناقصة، قلت: ابن مالك له كتابان: أحدهما الفوائد صنعه أولاً ثم صنع تسهيل الفوائد بعده، وكأنّه سهّل فيه كتاب الفوائد، وكنت وقفت على هذا الكتاب المسمّى بالفوائد ببلدنا غرناطة، فلمّا وصلنا إلى هذه البلاد بحثنا عنه فلم نجده، وتمادى الأمر على ذلك إلى سنة 760، فوجدناه في حلب، وهو الآن عندنا، وهو عزيز الوجود، ولذلك خفي على القاضي صلاح الدين؛ انتهى وبعضه بالمعنى.

وقال أبو جعفر أحمد المترجم به: كتبت إلى صاحبنا الشيخ بدر الدين خليل الناسخ:

مددت النوى وقصرت اللّقا

أرتضى بهبذا وأ، ت الخليل

وتترك أحمد ذا وحشة

لديك وأنت له ابن جليل وقال:

قد كان لي أنسٌ بطيب حديثكم

والآن صار حديثكم برسول

ولقد مددت من النوى مقصوره

إنّ الخليل يراه غير جميل وله رحمه الله تعالى:

ما للنوى مدّت وأنت خليلنا

ولقبل قد قصرت برغم الكاشح

أتبعت في ذا مذهباً لا يرتضى

أبداً وليس الرأي فيه بصالح

ص: 376

وله:

ولمّا رأى الحساد منك التفاتة

إلى جانب اللهو الذي كان مرفوضا

أضافوا إلى علياك كلّ نقيصة

حقيق لدينا بالإضافة مخفوضا وله:

حسنك ما بين الورى شائع

قد عرّف الآن بلام العذار

فجاء منه متبداً للهوى

خبره الآس مع الجلّنار ولنقتصر على هذا المقدار إلى هنا.

رجع إلى أولاد لسان الدين رحمهم الله تعالى:

وقد قدمنا أن علي بن لسان الدين كان نديم السلطان وخاصّته، كما ذكرنا في مخاطبته لابن مرزوق في الباب الخامس قوله: فالسلطان يرعاه الله تعالى يوجب ما فوق مزية التعظيم، والولد هداهم الله تعالى قد أخذوا بحظ قلّ أن ينالوه بغير هذا الإقليم، والخاصة والعامة تعامل بحسب ما بلته من نصح سليم وترك لما بالأيدي وتسليم، وتدبير عاد على عدوّها بالعذاب الأليم، إلا من أبدى السلامة وهو من إبطان الحسد بحال السليم؛ انتهى.

ولقد صدق رحمه الله تعالى فيما ذكره من النصح وغيره.

ومن نصائحه رحمه الله تعالى ما كتب به على لسان السلطان، ونصّه: من عبد الله أمير المسلمين محمد وصل الله تعالى سعده، وبلّغه من فضله العميم قصده، إلى أوليائنا المخصوصين منّا ومن سلفنا بذمام الجوار القريب، والمساكنة التي لا يتطرق إلى حقّها الذي بني استرابة المستريب، المعتمدين إذا عدّت الرعايا، وذكرت المزايا، بمزيد الاعتناء والتقريب، من الأشياخ الجلّة الشرفاء والعلماء، والصّدور الفقهاء، والعدول الأذكياء، والأعيان

ص: 377

الوزراء، والحماة المدافعين عن الأرجاء، والأمناء الثّقات الأتقياء، والكافة الذين نصل إيهم عوائد الاعتناء، ونسير فيهم بإعانة الله تعالى على السبيل السّواء، من أهل حضرتنا غرناطة المرحوسة بفضل الله تعالى وربضها، شرح الله تعالى لقبول الحكمة والموعظة الحسنة صدورهم، وكنف بنتائج الاستقامة سرورهم، وأصلح بعنايته أمورهم، واستعمل فيما يرضيهم أميرهم ومأمورهم: سلام كريم عليكم أجمعين ورحمة الله تعالى وبركاته.

أمّا بعد حمد الله الذي إذا رضي عن قوم جعل لهم التوقى لباساً، والذكرى لبناء المتاب أساساً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي هدانا إلى الفوز العظيم ابتغاء لرحمته والتماساً، والرضى عن آله الذين اختارهم له ناساً، وجعلهم مصابيح من بعده اقتداء واقتباساً، فإنّا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى إعزازكم وحرس أحوازكم؛ وجعل للعمل الصالح اهتزازكم؛ وبقبول النصائح امتيازكم - من مستقرنا بمحروسة الحمراء، حماها الله سبحانه، ولا متعرف بفضل الله تعالى إلا هداية تظهر على الأقوال والأعمال، وعناية تحفّ من اليمين والشمال، وتوكّل على الله يتكفل لنا ببلوغ الآمال، وأنتم أولياؤنا الذين لا ندّخر عنهم نصحاً، ولا نهمل في تدبيرهم ما يثمر نجحاً، وبحسب هذا الاعتقاد لا نغفل عن نصيحة ترشدكم إذا غفلتم، وموعظة نقصّها عليكم إذا اجتمعتم في بيوت الله واختلفتم، وذب عنكم تارة بسلم نعقدها، ومطاولة نسدّدها، وتارة بسيوف في سبيل الله تعالى نحدّدها، وعمارة للشهادة نرددها، ونفوس بوعد الله نعدها، ونرضى بالسهر لتنام أجفانكم، وبالكدّ لتّتّدع صبيانكم وولدانكم، وباقتحام المخاوف ليتّصل أمانكم، ولو استطعنا أن نجعل عليكم وقاية كوقاية الوليد لجعلنا، أو أمكننا أن لا تفضلكم رعية بصلاح دين أو دنيا لفعلنا، هذا شغل زماننا منذ عرفناه، ومرمى همّنا مهما استهدفناه، وقد استرعانا الله تعالى جماعتكم، وملاّنا طاعتكم، وحرّم علينا إضاعتكم

ص: 378

والراعي إذا لم يقصد بسائمته المراعي الطيبة، وينتجع مساقط الغمائم الصيّبة، ويوردها الماء النمير، ويبتغ لها النماء والتثمير، ويصلح خللها، ويداو عللها، قلّ عددها، وعدمت غلّتها وولدها، فندم على ما ضيعه في أمسه، وجنى عليها وعلى نفسه.

وألفيناكم في أيامنا هذه الميامن عليكم قد غمرتكم آلاء الله تعالى ونعمه، وملأت أيديكم مواهبه وقسمه، وشغل عدوّكم بفتنة قومه فنمتم للعافية فوق مهاد، وبعد عهدكم بما تقدم من جهد وجهاد، ومخمصة وسهاد، فأشفقنا أن يجركم توالي الرخاء إلى البطر، أو تحملكم العافية على الغفلة عن الله تعالى وهي أخطر الخطر، أو تجهلوا مواقع فضله تعالى وكرمه، أو تستعينوا على معصيته بنعمه، فمن عرف الله تعالى في الرخاء وجده في الشّدّة، ومن استعد في المهل وجد منفعة العدّة، والعاقل من لا يغتر في الحرب أو السلم بطلو المدة، فالدهر مبلي الجدّة، ومستوعب العدّة، والمسلمون إخوانكم اليوم قد شغلوا بأنفسهم عن جبركم، وسلموا لله في نصركم، ونشبت الأيدي ولا حول ولا قوّة إلا بالله بثغركم، وأهمتهم فتن تركت رسوم الجهاد خالية خاوية، ورياض الكتائب الخضر ذابةل ذاوية، فإن لم تشمّروا لما بين أيديكم في هذه البرهة فماذا تنتظرون وإذا لم تستنصروا بالله مولاكم فبمن تستنصرون وإذا لم تستعدّوا في المهل فمتى تستعدون لقد خسر من رضي في الدنيا والآخرة بالدون، فلا تأمنوا مكر الله " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الأعراف:99.

ومن المنقول عن الملل، والمشهور في الأواخر والأول، أن المعصية إذا فشت في قوم أحاط بهم سوء كسبهم، وأظلم ما بينهم وبين ربهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثلات والنقمات، وشحّت السماء، وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفّت الضّروع، وأخلفت الرضوع.

ص: 379

فوجب علينا أن نستميلكم بالموعظة الحسنة، والذكرى التي توقظ من السّنة، ونقرع آذانكم بقوارع الألسنة، فأفزعوا الشيطان بوعيها، وتقربوا إلى الله تعالى برعيها، الصلاة الصلاة فلا تهملوها، ووظائفها المعروفة فكملوها، فهي الركن الوثيق، والعلم الماثل على جادة الطريق، والخاصة التي يتميز بها هذا الفريق، وبادروا صفوفها الماثلة، وأتبعوا فريضتها النافلة، وأشرعوا إلى تاركها أسنّة الإنكار، واغتنموا بها نواشىء الليل وبوادي الأسحار، والزكاة أختها المنسوبة، ولدتها المكتوبة المحسوبة، فمن منعها فقد بخل على مولاه، باليسير ممّا أولاه، وما أحقّه بذهاب هبة الوهاب وأولاه؛ فاشتروا من الله تعالى كرائم أموالكم بالصّدقات، وأنفقوا في سبيله بربحكم أضعاف النفقات، ووسوا سؤالكم كلّما نصبت الموائد، وأعيدت للترفّه العوائد، وارعوا حق الجوار، وخذوا على أيدي الدّعرة والفجّار، وأخرجوا الشّنآن من الصدور، واجعلوا صلة الأرحام من عزم الأمور، وصونوا عن الاغتياب أفواهكم، ولا تعوّدوا السفاهة شفاهكم، وأقرضوا القرض الحسن إلهكم، وعلموا القرآن صبيانكم، فهو أسّ المبنى، وازرعوه في تراب ترائبهم فعسى أن يجنى، ولا تتركوا النصيحة لمن استنصح، وردوا السلام على من بتحية الإسلام أفصح، وجاهدوا أهواءكم فهي أولى ما جاهدتم، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، وثابروا على حلق العلم والتعلّم، وحفوا بمراقي التكلّم، وتعلّموا من دينكم ما لا يسعكم عند الله تعالى جهله، ويتبين أنّكم أهله، فمن القبيح أن يقوم أحدكم على وقاية برّه وشعيره، ورعاية شاته وبعيره، ولا يقوم على شيء يخلص به قاعدة اعتقاده، ويعدّه منجاة ليوم معاده، والله عز وجل يقول ولقوله يرحل المنتجعون " أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون " المؤمنون:115.

وائنفوا من الحوادي الشنيعة، والبدع التي تفتّ في عضد الشريعة، فقد شنّ علينا الملبّسة بأهل التصوّف المغار، ونال حملتها بل جملتها بإغماضهم

ص: 380

الصغار، وتؤوّل المعاد والجنّة والنار، وإذا لم يغر الرجل على دينه ودين أبيه فعلى من يغار، فالأنبياء الكرام وورثتهم العلماء، هم أئمة الاقتداء، والكواكب التي عيّنها الحق للاهتداء، فاحذروا معاطب هذا الداء، ودسائس هذه الأعداء.

وأهم ما صرفتم إليه الوجوه، واستدفعتم به المكروه، العمل بأمره جل وعلا في الآية المتلوّة، والحكمة السافرة المجلوّة، من ارتباط الخيل وإعداد القوّة، فمن كان ذا سعة في رزقه، فليقم لله بما استطاع من حقّه، وليتخد فرساً يعمر محلّته بصهيله، ويقتنه من أجل الله وفي سبيله، فكم يتحمل من عيال يلتمس مرضاتهن باتخاذ الزينة، والتنافس في ترف المدينة، ومؤونة الارتباط أقل، وعلى الهمّة والدين أدل، إلى ما فيه من حماية الحوزة، وإظهار العزة، ومن لم يحسن الرمي فليتدرب، وباتخاذ السلاح إلى الله فليتقرب، وقبل الرمي تراش السّهام، وعلى العباد الاجتهاد وعلى الله التمام.

والسكّة الجارية في حوادث نواديكم، وأثمان العروض التي بأيديكم، من تحيّف حروفها، ونكّر معروفها، أو سامح في قبول زيف، أو مبخوس حيف، فقد اتّبع هواه، وخان نفسه وسواه، قال الله عز وجل " أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " الشعراء: 181 ولتعلموا أن نبيّكم صلوات الله عليه إنّما بعثه الله مجاهداً وبالحق قاضياً، وعن الهفوات حليماً متغاضياً، فتمسّكوا بحبله، ولا تعدلوا عن سبله، يروكم الله تعالى من سجله، ويراعكم من أجله، مراعاة الرجل لنجله، فهو الذي يقول " وما كان الله ليعذّبهم وأ، ت فيهم، وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون " الأنفال: 33 وإن كان في وطنكم اليوم سعة، وقد ألحفكم أمن من الله تعالى ودعة، فاحسبوا أنّكم في بلد محصور، وبين لحيي أسد هصور، اكتنفكم

ص: 381

بحر يعبّ عبابه، ودار بكم سور بيد عدوّكم بابه، ولا يدرى متى ينتهي السّلم، وينشعب الكلم، فإن لم تكونوا بناء مرصوصاً، وتستشعروا الصبر عموماً وخصوصاً، أصبح الجناح مقصوصاً، والرأي قد سلبته الحيرة، والمال والحريم قد سلبت فيه الضنانة والغيرة، وإن شاء الله تهبّ ريح الحميّة، ونصرة النفوس على الخيالات الوهمية، فإن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين، والله متم نوره على رغم الجاحدين وكره الكافرين " وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصّابرين " البقرة:249.

واعتقدوا أن الله تعالى لم يجعل الظهور مقروناً بعدد كثير، ولو مثل جراد مزرعة أثارها مثير، بل بإخلاص لا يبقي لغير الله افتقاراً، ونفوس توسع ما سوى الحق اقتداراً، ووعد يصدق، وبصائر أبصارها إلى مثابة الجزاء تحدق، وهذا الدين ظهر مع الغربة، وشظف التربة، فلم ترعه الأكاسرة وفيولها، والقياصرة وخيولها، دين حنيف، وعلم منيف، من وجوه شطر المسجد الحرام تولى، وآيات على سبعة أحرف تتلى، وزكاة من الصميم تنتقى، ومعارج ترتقى، وحج وجهاد، ومواسم وأعياد، ليس إلا تكبير شهير، وأذان جهير، وقوّة تعد، وثغور تسد، وفيء يقسم، وفخر يرسم، ونصيحة تهدىة، وأمانة تؤدى، وصدقة تخفى وتبدى، وصدور تشرح وتشفى، وخلق على خلق القرآن تحذى وتقفى، قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا العقلد قد سجّل، والوعد به قد عجّل " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي؛ ورضيت لكم الإسلام ديناً " المائدة: 3 ولا ينقطع لهذا الفرع عادة وصله، ما دام شبيهاً بأصله، وإنّما هو حلبٌ لكم زبدته الممخوضة، وخلاصته الممحوضة، والعاقبة للمتقين " ولتعلمنّ نبأة بعد حين " ص:88.

وحضرتكم اليوم قاعدة الدين، وغاب المجاهدين، وقد اخترعت بنا أيامنا هذه وأيام والدنا المقدس الآثار الكبار، والحسنات التي تنوقلت بها الأخبار

ص: 382

وأغفلت إلى زمنكم الحسنة المذخورة، والمنقبة المبرورة، وهي بيمارستان يقيم منكم المرضى المطّرحين، والضعفاء المغتربين منهم والمعترضين في كلّ حين، فأنتم تطرونهم بالأقدام، على مرّ الأيّام، ينظرون إليكم بالعيون الكليلة، ويعربون عن الأحوال الذليلة، وضرورتهم غير خافية، وما أنتم بأولى منهم بالعافية، والمجانين تكثر منهم الوقائع، وتفشو منهم إماتة العهد الذائع، عار تحظه الشرائع، وفي مثله تسدّ الذرائع.

وقد فضلتم أهل مصر وبغداد، بالرباط الدائم والجهاد، فلا أقل من المساواة في معنى، والمنافسة في مبنى، يذهب عنكم لؤم الجوار، ويزيل عن وجوهكم سمات العار، ويدل على همتكم، وفضل شيمتكم، أهل الأقطار، وكم نفقة هانت على الرجل في مشروع، وحرص اعتراه على ممنوع، فأسرعوا فالنظر في هذا المهم خير مشروع، ولولا اهتمامنا بمرتزقة ديوانكم، وإعدادنا مال الجباية للمجاهدين من إخوانكم، لسبقناكم إلى هذه الزّلفة، وقمنا في هبذا العمل الصالح بتحمّل الكلفة، ومع ذلك فإذا قدناكم إلى الجنّة ببنائه، وأسهمناكم في فريضة أجره وثنائه، فنحن إن شاء الله تعالى نعيّن له الأوقاف التي تجري عنها المرفقة، وتتصل عليه بها الصدقة، تأصيلاً لفخركم، وإطابة في البلاد لذكركم، فليشاور أحدكم همّته ودينه، ويستخدم يساره في طاعة القصد الكريم ويمينه، ونسأل الله تعالى أن يوفّق كلاًّ لهذا القصد ويعينه، ومن وراء هذه النصائح عزم ينهيها إلى غايتها، ويجبر الكافة على اتباع رأيها ورايتها، فأعملوا الأفكار فيما تضمنته من الفصول، وتلقّوا داعي الله تعالى فيها بالقبول، والدنيا مزرعة الآخرة، وكم معتبر للنفوس الساخرة، بالعظام الناخرة " يا أيّها النّاس إنّ وعد الله حقّ فلا تغرّنّكم الحياة الدّنيا، ولا يغرّنّكم بالله الغرور " فاطر: 5 وأنتم اليوم أحقّ النّاس بقبول الموعظة نفوساً زكية، وفهوماً لا قاصرة ولا بطيّة، وموطن جهاد، ومستسقى غمام

ص: 383

من رحمة الله تعالى وعهاد، وبقايا السلف بالأرض التي فتحوا فيها هذا الوطن، وألقوا فيها العطن، فإلى أين يذهب حسن الظن بأديانكم، وصحّة إيمانكم، وتساوي إسراركم وإعلانكم

اللهمّ إنّا قد خرجنا لك فيهم عن العهدة المتحمّلة، وبلّغناهم نصيحتك المكملة، ووعدناهم مع الامتثال رحمتك المؤملة، فيسّرنا وإياهم لليسرى، وعرّفنا لطائفك التي خفي فيها المسرى، ولا تجعلنا ممّن صمّ عن النداء، وأصبح شماتة الأعداء، فما ذلّ من استنصر بجنابك، ولا ضل من استبصر بسنّتك وكتابك، ولا انقطع من توسّل بأسبابك، والله سبحانه يصل لكم عوائد الصنع الجميل، ويحملكم وإيانا من التوفيق على أوضح سبيل، ويصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته. انتهى.

ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى على لسان السلطان بعد كلام:

الله الله في الهمم فقد خمدت ريحها، والله الله في العقائد فقد خفيت مصابيحها، والله الله في الرجولية فقد فلّ حدّها، والله الله في الغيرة فقد تعسّر جدّها، والله الله في الدين فقد طمع الكفر في تحويله، والله الله في الحريم فقد مدّ إلى استرقاقه يد تأميله، والله الله في الملّة التي يريد إطفاء سناها، وقد كمل فضلها وتناهى، والله الله في الحريم، والله الله في الدين الكريم، والله الله في القرآن، والله الله في الجيران، والله الله في الطارف والتالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن الوالد، اليوم تستأسد النفوس المهينة، اليوم يستنصر الصبر والسكينة، اليوم ترعى لهذه المساجد الكرام الّمم، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدّة والشّمم (1) ، اليوم يرجع إلى الله المصرّون، اليوم يفيق من نوم الغفلة المغترّون، قبل أن يتفاقم الهول، ويحق القول، ويسد الباب، ويحيق

(1) اليوم

الشمم: سقطت من ق.

ص: 384

العذاب، ويسترق الكفر الرقاب، فالنساء تقي بأنفسهن أولادهن الصغار، والطيور ترفرف لتحمي الأوكار، إذا أحست العيث (1) بأفراخها والإضرار، تمر الأيام عليكم مرّ السحاب، وذهاب اللّيالي لكم ذهاب، فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كد إلا لزينة يحلّى بها نحر وجيد، ولا سعي إلا لمتاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد، وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمى مسخّر السحاب، واستقالة كاشف العذاب، وسؤال مرسل الديمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عليكم رحمة السماء، واغبرّت جوانبكم المخضرة احتياجاً إلى بلالة الماء " وفي السّماء رزقكم وما توعدون " الذاريات: 22 وإليها الأكف تمدون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصحر منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا الصّدقة خبر، وتثوقل عن إعادة الرغبة إلى الولي الحميد، والغني الذي " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " إبراهيم: 19 وايم الله لو كان لهواً لارتقبت الساعات، وضاقت المتسعات، وتزاحمت على أنديته الجماعات.

أتعززاًعلى الله وهو القوي العزيز أتلبيساً على الله وهو الذي يميز الخبيث من الطيب والشّبه من الإبريز أمعاندة والنواصي في يديه أغروراً بالأمل والرجوع بعد إليه من يبدأ الخلق ثم يعيده من ينزل الرزق ويفيده من يرجع إليه في الملمات من يرجّى في الشدائد والأزمات من يوجد في المحيا والممات أفي الله شك يختلج القلوب أثمّ غير الله يدفع المكروه وييسّر المطلوب تفضلون على اللجإ إليه (2) عوائد الفضل، ونزه الجهل، وطائفة منكم قد برزت إلى استسقاء رحمته تمد إليه الأيدي والرقاب، وتستكشف بالخضوع لعظمته العقاب، وتستعجل إلى مواعيد إجابته الارتقاب، وكأنّكم عن كرمه

(1) ق: العياث.

(2)

ق: الجالية.

ص: 385

قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه ينيتم.

أما تعلمون كيف كان نبيّكم صلوات الله عليه من التبلّغ (1) باليسير، والاستعداد للرحيل إلى دار الحق والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله تعالى والرجوع: دخلت فاطمة رض الله تعالى عنها وبيدها كسرة شعير فقال: ما هذا يا فاطمة فقالت: يا رسول الله خبزت قرصة وأحببت أن تأكل منها، فقال: يا فاطمة أما إنّه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث. وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم سبعين مرّة يلتمس رحماه، ويقوم وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر حتى ورمت قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجد والاجتهاد، ومواقف صبره تعرفها الرّبى والوهاد، ومقامات رفقه تحوم على مراتبها الزهاد، فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون وإذا لم تهتدوا به فبمن تهتدون وإذا لم ترضوه باتباعكم فكيف تعتزون إليه وتنتسبون وإذا لم ترغبوا في الاتصاف بصفاته غضباً لله تعالى وجهاداً، وتقللاً من العرض الأدنى وسهاداً، ففيم ترغبون

فابتروا حبال الآمال فكل آت قريب، واعتبروا بمثلات من تقدّم من أهل البلاد والقواعد فذهولكم عنها غريب، وتفكروا في منابرها التي يعلو عليها واعظ وخطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعددة الصفوف والجماعة، المعمورة بأنواع الطاعة، وكيف أخذ الله تعالى فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغضوا عنه عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله تعالى عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان، هذا والناس ناس والزمان زمان.

فما هذه الغفلة عمن إليه الرجعى وإليه المصير وإلى متى التساهل في حقوقه

(1) ق: التبليغ.

ص: 386

وهو السميع البصير وحتى متى مد الأمل في الزمن القصير وإلى متى نسيان اللجإ إلى الولي النصير قد تداعت الصلبان مجلبة (1) عليكم، وتحركت الطواغيت من كل جهة إليكم، أفيخلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم وألسنة الآيات تناديكم، لم تمتح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من فتحها من عدد قليل، وصابر فيها كل خطب جليل، فوالله لو تمحض الإيمان، ورضي الرحمن، ما ظهر التثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عادة التأييد، لكن شمل الداء، وصم النداء، وعميت الأبصار فكيف الاهتداء والباب مفتوح، والفضل ممنوح، فتعالوا نستغفر الله جميعاً فهو الغفور الرحيم، ونستقل مقيل العثار فهو الرؤوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدمت أيدينا فقبول المعاذير من شأن الكريم، سدت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلا منك يا فتّاح يا وهّاب " يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم، ويثبّت أقدامكم " محمد: 7 " يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلظةً والعموا أنّ الله مع المتّقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران: 139 " يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون " آل عمران: 200 أعدوا الخيل وارتبطوها، وروضوا النفوس على الشهادة وغبطوها، فمن خاف الموت رضي بالدنية، ولا بد على كلّ حال من المنيّة، والحياة مع الذلّ ليست من شيم النفوس السنية، واقتنوا السلاح والعدة، وتعرفوا إلى الله تعالى في الرخاء يعرفكم في الشدّة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدائه وأعدائكم، واستميتوا من دون أبنائكم، وكونوا كالبناء المرصوص لحملات هذا العدو النازل بفنائكم، وحوطوا بالتعويل على الله تعالى وحده بلادكم، واشتروا من الله جل جلاله أولادكم. ذكروا أن امرأة

(1) ق: مجابة؛ التجارية: متراكمة.

ص: 387

احتمل السبع ولدها وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة، فتصدقت برغيف، فأطلق السبع ولدها، وسمعت النداء: يا هذه لقمة بلقمة، وإنا لما استودعناه لحافظون.

واهجروا الشهوات، واستدركوا البقية من بعد الفوات، وأفضلوا لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصبر على الأزمات، والمواساة في المهمات، وأيقظوا جفونكم من السّنات، واعلموا أنّكم رضعاء ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب والدين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص، فتفقدوا معاملاتكم مع الله تعالى، ومهما رأيتم الصدق غالباً، والقلب للمولى الكريم مراقباً، وشهاب اليقين ثاقباً، فثقوا بعناية الله التي لا يعلبكم معها غالب، ولا ينالكم لأجلها عدو مطالب، فإنكم في الستر الكثيف، وكنف (1) الخبير اللّطيف، ومهما رأيتم الخواطر متبدّدة، والظنون في الله مترددة، والجهات التي تخاف وترجى متعددة، والغفلة عن الله ملامسها متجددة، وعادة دواعي الخذلان دائمة، وأسواق الشهوات قائمة، فاعلموا أن الله تعالى منفذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنّكم قد ظلمتم أنفسكم ولا عدوان إلاّ على الظالمين، والتوبة تردّ الشادر (2) إلى الله تعالى والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وهو القائل " إنّ الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " هود:114.

وما أقرب صلاح الأحوال مع الله تعالى إذا صحّت العزائم، وتوالت على حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدنيا لاغريبة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظنون " يا أيّها النّاس إنّ وعد الله حقّ فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرّنّكم بالله الغرور " فاطر: 5 وثوبوا سراعاً إلى طهارة الثوب، وإزالة

(1) ق: وعظة.

(2)

ق: السارح.

ص: 388

الشّوب، واقصدوا أبواب غافر الذنب وقابل التوب، واعلموا أن سوء الأدب مع الله تعالى يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق العوائد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله فتغشوا إيمانكم، ولا تعلقوا متابكم بالضّرائر، فهو علاّم السرائر، وإنما علينا أن ننصحكم وإن كنّا أولى بالنصيحة، ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة - علم الله تعالى - عن صدق القريحة، وإن شاركناكم في الغفلة فقد سبقناكم إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنّما لكم لدينا نفس مبذولة في جهاد الكفار، وتقدم قبلكم إلى مواقف الصبر التي لا ترضى بالفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدار، والاختيار لله ولي الاختيار، ومصرّف الأقدار، وها نحن نسرع في الخروج إلى مدافعة هذا العدو ونفدي بنفوسنا البلاد والعباد، والحريم المستضعف والأولاد، ونصلى من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدعاء لمن وعد بإجابته، فإنّه يقبل من صرف إليه وجه إنابته، اللهم كن لنا في هذا الاهتمام نصيراً، وعلى أعدائك ظهيراً، ومن انتقام عبدة الأوثان كفيلاً، اللهم قوّ من ضعفت حيلته فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلاّ أنت فإيّاك نعبد وإيّاك نستعين، اللهم ثبّت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدو الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستسلام، اللهم دافع بملائكتك المسوّمين، اللهم اجعلنا على تيقّظ وتذكر من " قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتّبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " آل عمران:173.

وقد وردت علينا المخاطبات من إخواننا المسلمين الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين أولي الامتعاض لله تعالى والحميّة، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحقّ الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار، والنفرة

ص: 389

لانهتاك ذمار نبيّهم المختار، وحركة سلطانهم بتلك الأقطار والأمصار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضمين للعزّ والأجر والفخار، والسلام الكريم يخصّكم أيها الأولياء ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.

وممّا كتبه ابن لسان الدين رحمه الله تعالى على لسان سلطانه الغني بالله تعالى والنظر إليهم بعين الشفقة ما صورته:

هذا كتاب كريم أصدرناه بتوفيق الله تعالى شارحاً للصدور، مصلحاً بإعانة الله تعالى للأمور، ملحفاً العدل (1) والإحسان الخاصة والجمهور، يعلم من يسمعه أو يقف عليه، ومن يقرؤه ويتدبر (2) ما لديه، ما عاهدنا الله تعالى عليه من تأمين النفوس وحقن الدماء، والسير في التجافي عنها على السّنن السّواء، ورفع التناوب عن البعيد منها والقريب، والمساواة (3) في العفو والغفران بين البريء منها والمريب، وحمل من ينظر بعين العداوة في باطن الأمر محمل الحبيب، وترك ما يتوجّه بأمر المطالبات، ورفض التبعات، ممّا لا يعارض حكماً شرعياً، ولا يناقض سنناً في الدين مرعيّاً، فمن كان رهن تبعة أو طريد تهمه، أو منبوزاً (4) في الطاعة بريبة توجب أن نريق دمه (5) ، فقد سحبنا عليه ظلال الأمان وألحفناه أثواب العفو والغفران، ووعدناه من نفسنا مواعد الرفق والإحسان، حكماً عامّاً، وعفواً تامّاً، فاشياً في جميع الطبقات، منسحباً على الأصناف المختلفات، عاملنا في ذلك من يتقبل الأعمال، ولا يضيع السؤال، واستغفرنا عن نفسنا وعمن أخطأ علينا من رعيتنا ممن يدرأ الشرع غلطته،

(1) ق: ملحفاً جناح الله للعدل.

(2)

ق: ويبدي.

(3)

ق: والمساواة منها.

(4)

ق: منبزاً.

(5)

توجب

دمه: سقطت من ق.

ص: 390

ويقبل الحق فيأته " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً " النساء: 110 لما رأينا من وجوب اتفاق الأهواء والضمائر، وخلوص القلوب والسرائر، في هذا الوطن الذي أحاط به العدو والبحر، ومسّه بتقدم الفتنة الضر، وصلة لما أجراه الله تعالى على أيدينا، وهيأه بنا في نادينا، فلم يخف ما سكن بنا من نار الفتنة، ورفع من بأس وإحنة، وكشف من ظلمة، وسدل من نعمة، وأصفى من مورد عافية، وأولى من عصمة كافية، بعدما تخربت الثغور، وفسدت الأمور، واهتضم الدين، واشتد على العباد كلب الكافرين المعتدين " ذلك من فضل الله علينا وعلى النّاس " يوسف: 38 فله الحمد دائباً، والشكر واجباً، ومن الله نسأل أن يتمم نعمته علينا كما أتمها على أبوينا من قبل إن ربّك حكيم عليم.

ونحن قد شرعنا في تعيين من ينوب عنّا من أهل العلم والعدالة، والدين والجلالة، للتطوّف في البلاد الأندلسية، ومباشرة الأمور بالبلاد النّصرية، ينهون إلينا ما يستطلعونه، ويبلغون من المصالح ما يتعرفونه، ويقيدون ما تحتاج إليه الثغور، وتستوجبه المصلحة الجهادية من الأمور، ونحن نستعين بفضلاء رعيتنا وخيارهم، والمراقبين الله تعالى منهم في إيرادهم وإصدارهم، على إنهاء ما يخفى عنّا من ظلامة تقع، أو حادث يبتدع، ومن اتخذت بجواره خمر فاشية، أو نشأت في جهته للمنكر ناشية، فنحن نقلده العهد، وتطوّقه القلادة، ووراء تنبيهنا على ما خفي من الشكر لمن أهداه، وإحماد سعي من أبلغه وأداه، ما نرجو ثواب الله تعالى عليه، والتقرب به إليه، فمن أهدى لنا شيئاً من ذلك فهو شريك في أجره، ومقاسم في مثوبته يوم ربح تجره، وحسبنا الله ونعم الوكيل انتهى.

[وصية لسان الدين لأبنائه]

وإذ أجرينا طرف القلم ملء عنانه فيما للسان الدين رحمه الله تعالى من

ص: 391

النصائح والمواعظ والوصايا، وما يرجع بالنفع على الخاصة وجمهور الرعايا، كلّ دون شأوه، وقصر عن أمده مديد خطوه، وقد تقدم في هذا الكتاب من ذلك جملة وافرة، فلتراجع في محالها المتكاثرة، وقد آن أن نسرد في هذا المحل الوصية التي أوصى لسان الدين رحمه الله تعالى بها أولاده، وهي وصية جامعة نافعة، يحصل بها انتعاش، لاشتمالها على ما لا بد منه في المعاد والمعاش، ونصّها (1) :

الحمد لله الذي لا يروعه الحمام المرقوب، إذا شيم نجمه المثقوب، ولا يبغته الأجل المكتوب، ولا يفجؤه الفراق المعتوب، ملهم الهدى الذي تطمئن به القلوب، وموضح السبيل المطلوب، وجاعل النصيحة الصريحة في قسم الوجوب، لا سيما للولي المحبوب، والولد المنسوب، القائل في الكتاب المعجز الأسلوب " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب " البقرة: 133 " ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " البقرة: 132 والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله أكرم من زرّت على نوره جيوب الغيوب، وأشرف من خلعت عليه حلل المهابة والعصمة فلا تقتحمه العيون ولا تصمه العيوب، والرضى عن آله وأصحابه المثابرين على سبيل الاستقامة بالهوى المغلوب، والأمل المسلوب، والاقتداء الموصل للمرغوب، والعز والأمن من اللغوب.

وبعد، فإنّي لما علاني المشيب بقمته، وقادني الكبر في رمّته (2) ، وادكرت الشباب بعد أمته (3) ، أسفت لما أضعت، وندمت بعد الفطام على ما رضعت، وتأكّد وجوب نصحي لمن لزمني رعيه، وتعلّق بعيني (4) سعيه، وأمّلت أن

(1) قارن نص هذه الوصية بما ورد في أزهار الرياض 1: 320.

(2)

ق: برمته، والتصويب عن الأزهار.

(3)

ق: بهمته.

(4)

الأزهار: بسعيي.

ص: 392

تتعدى إليّ ثمرة (1) استقامته وأنا رهين فوات، وفي برزخ أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عثاري، إن سلك - وعسى أن لا يكون ذلك - على آثاري، فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخلد، بعد الضراعة إلى الله تعالى في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم، وأن يمن عليّ منهم بحسن الخلف، والتلافي من قبل التلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف، فهو ولي ذلك، والهادي إلى خير المسالك:

اعلموا هداكم الله تعالى الذي بأنواره تهتدي الضّلاّل، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال، إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، وتبرأت من يمينها الشمال - أنّي مودعكم وإن سالمني الردى، ومفارقكم وإن طال المدى، وما عدا ممّا بدا، فكيف وأدوات السفر تجمع، ومنادي الرحيل يسمع، ولا أقل للحبيب المودع من وصية محتضر، وعجالة مقتصر، ورتيمة (2) تعقد في خنصر، ونصيحة تكون نشيدة واع مبصر، تتكفّل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضح لكم من الشفقة والحنّو قصدي، حسبما تضمّن وعد الله من قبل وعدي، فهي أربكم الذي لا يتغير وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رفّ عليكم سقفه، وكأنّي بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ، وبناشطكم قد كسل، واستبدل الصاب من العسل، ونصول الشيب تروع بأسل، لا بل السام (3) من كل حدب قد نسل، والمعاد اللحد ولا تسل، فبالأمس كنتم فراخ حجر، واليوم أبناء (4) عسكر مجر، وغداً شيوخ مضيعة وهجر، والقبور فاغرة، والنفوس عن المألوفات صاغرة، والدنيا بأهلها ساخرة، والأولى تعقبها

(1) الأزهار: ثمرات.

(2)

الرتيمة: الخيط الذي يشد في افصبع لتستذكر به الحاجة.

(3)

السام - بتخفيف الميم -: الموت.

(4)

الأزهار: آباء.

ص: 393

الآخرة، والحازم من لم يتّعظ به في أمر، وقال: بيدي لا بيد عمرو (1) ، فاقتنوها من وصية، ومرام في النصح قصية، وخصّوا بها أولادكم إذا عقلوا، ليجدوا زادها إذا انتقلوا، وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ولا رضي الدنيا منزلاً، ولا لطف بمن أصبح عن فئة الخير منعزلاً.

ولتلقنوا تلقيناً، وتعلموا علماً يقيناً، أنكم لن تجدوا بعد أن أنفرد بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويسح انسكابي، وتهرول عن المصلّى ركابي، أحرص مني على سعادة إليكم تجلب، أو غاية كمال بسببكم ترتاد وتطلب، حتى لا يكون في الدين والدنيا أورف منكم ظلاً، ولا أشرف محلاً، ولا إبط نهلاً وعلاًّ، وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تصيخوا إلى قولي الآذان، وتستلمحوا صبح نصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصية لقمان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بنيّ لا تشرك بالله إنّ الشّرك لظلم عظيم، يا بنيّ أقم الصّلاة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك، إنّ ذلك من عزم الأمور، ولا تصعّر خدّك للنّاس، ولا تمش في الأرض مرحاً، إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور، واقصد في مشيك، واغضض من صوتك، إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير " لقمان: 13 - 19 وأعيد وصية خليل الله وإسرائيله، حكم ما تضمنه حكم تنزيله " يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون " البقرة: 132 والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفّاه، وقرّره مصطفاه، من قبل أن يتوفّاه، إذا أعمل فيه انتقاد، فهو عمل واعتقاد، وكلاهما مقرر، ومستمد من عقل أو نقل محرر، والعقل متقدم، وبناؤه مع رفض أخيه متهدم، فالله واحد أحد، فرد صمد، ليس له والد ولا ولد،

(1) قولة قالتها الزباء حين انتحرت وأيت أن تستسلم لعمرو بن عدي.

ص: 394

تنزه عن الزمان والمكان، وسبق وجوده وجود الأكوان، خالق الخلق وما يعملون، الذي لا يسأل عن شيء وهم يسألون، الحي العليم المدبّر القدير:ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير " (الشورى: 11) أرسل الرسل رحمة لتدعو الناس (1) إلى النجاة من الشقاء، وتوجّه الحجّة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيدة بالمعجزات التي لا تتصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء، ثمّ ختم ديوانهم بنبي ملّتنا المرعيّة الهمل (2) ، الشاهدة على الملل، فتلخصت الطاعة، وتعيّنت (3) الإمرة المطاعة، ولم يبق بعده إلا ارتقاب الساعة، ثمّ إن الله تعالى قبضه إذ كان بشراً، وترك دينه يضم من الأمة نشراً، فمن تبعه لحق به، ومن تركه تورّط (4) عنه في منتشبه، وكانت نجاته على قدر سببه، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا بعدي: كتاب الله، وسنّتي، فعضوا عليهما بالنواجذ " (5) .

فاعملوا يا بني بوصية من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد، واستشعروا حبه الذي توفّرت دواعيه، وعوا مراشد هديه فيا فوز واعيه، وصلوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به مجملاً أو مفصّلاً (6) على حسبه، وأوجبوا التجلة لصحبه الذي اختارهم الله تعالى لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته، واشملوهم بالتوقير، وفضلوا منهم أولي الفضل الشهير، وتبرأوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داع، ولا تع التشاجر بينهم أذن واع، فهو عنوان

(1) الأزهار: العباد.

(2)

الأزهار: المرعية للهمل.

(3)

الأزهار: وتبينت.

(4)

ق والتجارية: نوط.

(5)

هو من حديث العرباض بن سارية السلمي الصحابي عن الرسول؛ وعضوا عليهما بالنواجذ أي تمسكوا بهما كما يتمسك العاض بجميع أضراسه، وروي الحديث " فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين عضوا عليها بالنواجذ " (أسد الغابة 3: 399) .

(6)

أو مفصلاً: سقطت من ق والأزهار.

ص: 395

السداد، وعلامة سلامة الاعتقاد، ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملّة، وأثمتها الجلّة، فهم صقلة نصولهم، وفروع نائشة من أصولهم، وورثتهم وورثة رسولهم.

واعلموا أنّني قطعت في البحث زماني، وجعلت النظر شاني، منذ براني الله تعالى وأنشاني، مع نبل يعترف به الشاني، وإدراك يسلّمه العقل الإنساني، فلم أجد خابط ورق، ولا مصيب عرق، ولا نازع خطام، ولا متكلّف فطام، ولا مقتحم بحر طام، إلاّ وغايته التي يقصدها قد نضلتها (1) الشريعة وسبقتها، وفرعت ثنيتها وارتقتها، فعليكم بالتزام جادّتها السابلة، ومصاحبة رفقتها الكاملة (2) ، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة، والله تعالى يقول وهو أصدق القائلين " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين " آل عمران: 85 وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائعه، فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فعل المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخس ما ورث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بلّغت فأنت خير الشاهدين.

فاحذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شوه الوجوه ونضج الجلود، واستعيذوا برضى الله من سخطه، واربأوا بنفوسكم عن غمطه، وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العرض الزائل ائتلافكم، واقتنعوا منه بما تيسر، ولا تأسوا على ما فات وتعذر، فإنّما هي دجنة ينسخها الصباح، وصفقة يتعاقبها (3) الخسار والرباح، ودونكم عقيدة الإيمان فشدوا بالنواجذ عليها، وكفكفوا الشبه أن تدنوا إليها.

(1) الأزهار وق: فضلتها؛ ونضلتها: سبقتها وبذتها في الرمي.

(2)

الأزهار: الكافلة.

(3)

الأزهار: يتعقبها.

ص: 396

واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خرق لا يرفؤه عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم الميت (1) أمل، وتمسكوا بكتاب الله تعالى حفظاً وتلاوة، واجعلوا حمله على حمل التكليف علاوة، وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره ونواهيه، ولا تتأولوه ولا تغلوا فيه، وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه، وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا ينخرم.

الله الله في الصلاة ذريعة التجلة، وخاصة الملّة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم، وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة، والناهية عن الفحشاء والمنكر وإن (2) عرض الشيطان عرضهما، ووطّأ للنفس الأمّارة سماءهما وأرضهما، والوسيلة إلى بل الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تحفة الله إلى مريض الفكر، وضامنة (3) حسن العشرة من الجار، وداعية للمسالمة من الفجار، والواسمة بسمة السلامة، والشاهدة للعبد (4) برفع الملامة، وغاسول الطبع إذا شانه طبع، والخير الذي كل ما سواه له تبع (5) ، فاصبروا النفس على وظائفها بين بدء وإعادة، فالخير عادة، ولا تفضلوا عليها الأشغال البدنية، وتؤثروا على العلية الدنية (6) ، فإن أوقاتها (7) المعينة بالانفلات تنبس (8) ، والفلك بها من أجلكم لا يحبس، وإذا قورنت (9) بالشواغل فلها الجاه الأصيل، والحكم الذي لا يغيره الغدو ولا الأصيل،

(1) الميت: سقطت من الأزهار.

(2)

الأزهار: مهما.

(3)

الأزهار: وضابطة.

(4)

الأزهار: للعقد.

(5)

الأزهار: كل خير له تبع.

(6)

وتؤثروا

الدنية: سقطت من ق وأصل الأزهار.

(7)

ق: فأوقاتها.

(8)

تنبس: تسرع.

(9)

الأزهار: قرنت.

ص: 397

والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حق من يموت من حق الحي الذي لا يموت، وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها، وأتبعوها النوافل ما أطقتموها، فبالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة استحقت (1) الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح مع إضاعة رأس المال (2) ، وذلك أحرى بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعض البعض.

والطهارة التي هي في تحصيلها سبب موصل، وشرط لمشروطها محصل، فاستوفوها، والأعضاء نظفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها، والحجول والغرر فأطيلوها، والنيات في كل ذلك فلا تهملوها، فالبناء بأساسه، والسيف برئاسه. واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور، تستغرق الأوقات، وتنازع شتى الخواطر المفترقات، فلا يضبطها إلاّ من ضبط نفسه بعقال، وكان في درج الرجولية ذا انتقال، واشتقاض صدأه بصقال، وإن تراخى قهقر الباع، وسرقته الطباع، وكان لما سواها أضيع فشمل الضياع.

والزكاة أختها الحبيبة، ولدتها القريبة، مفتاح السماحة بالعرض الزائل، وشكران المسئول على الضدّ من درجة السائل، وحق الله تعالى في مال من أغناه، لمن أجهده في المعاش وعنّاه، من غير استحقاق ملأ يده وأخلى يد أخيه، ولا علّة إلاّ القدر الذي يخفيه، وما لم ينله حظ الله تعالى فلا خير فيه. فاسمحوا بتفريقها للحاضر لإخراجها، في اختيار عرضها ونتاجها، واستحيوا من الله تعالى أن تبخلوا عليه ببعض ما بذل، وخالفوا الشيطان كلّما عذل، واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون، فوهب وأقدر، وأورد بفضله وأصدر، ليرتب بكرمه الوسائل، أو يقيم الحجج والدلائل،

(1) الأزهار: استحق.

(2)

زاد في الأزهار: وثابروا عليها في الجماعات، وبيوت الطاعات، فهو أرفع السلام، وأظهر لشرائع الإسلام وأبر بإقامة

الخ.

ص: 398

فابتغوا إليه الوسيلة بماله، واغتنموا رضاه ببعض نواله.

وصيام رمضان عبادة السر المقربة إلى الله زلفى، الممحوضة لمن يعلم السر وأخفى، مؤكدة بصيام الجوارح عن الآثام، والقيام ببر القيام، والاجتهاد، وإيثار التهجد (1) على المهاد، وإن وسع الاعتكاف فهو من سنته المرعية، ولواحقه الشرعية، فبذلك تحسن الوجوه، وتحصل من الرقة على ما ترجوه، وتذهب قسوة الطباع، ويمتدّ في ميدان الوسائل الباع.

والحج - مع الاستطاعة - الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجبه الحاجب، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم قدره فيما فرض عن ربّه وسنّه، وقال ليس له جزاء عند الله إلاّ الجنّة.

ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله تعالى إن كانت لكم قوّة عليه، وغنى لديه، فكونوا ممّن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه.

هذه عمد الإسلام وفروضه، ونقود مهره وعروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناويكم ظاهرين، وتلقوا الله لا مبدّلين ولا مغيرين، ولا تضيعوا حقوق الله فتهلكوا مع الخاسرين.

واعلموا أن بالعلم تستكمل وظائف هذه الألقاب، وتجلى محاسنها من بعد الانتقاب، فعليكم بالعلم النافع، دليلاً بين يدي السامع، فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصل إلى اللّباب، والله عز وجل يقول " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنّما يتذكّر أولو الألباب " الزمر: 9 والعلم وسيلة النفوس الشريفة، إلى المطالب المنيفة، وشرطه الخشية لله تعالى والخيفة، وخاصة الملأ الأعلى، وصفة الله في كتبه التي تتلى، والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفي الدنيا إلى التجلّة عادة، والذخر الذي قليله ينفع،

(1) الأزهار: السهاد.

ص: 399

وكثيره يشفع (1) ، لا يغلبه الغاصب، ولا يسلبه العدوّ المناصب، ولا يبتزّه الدهر إذا مال، ولا يستأثر به البحر إذا هال، من لم ينله فهو ذليل وإن كثرت آماله، وقليل وإن جم ماله، وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتخطى حسابكم، فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم، واحملوهم على جمعه ودرسه، واجعلوا طباعهم ثرىً (2) لغرسه، واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جرّاه، وسهر يهجر له الجفن كراه، تعقدوا لهم ولاية عزّ لا تعزل، وتحلّوهم مثابة رفعة لا يحطّ فارعها ولا يستنزل، واختاروا من العلوم التي ينفّقها الوقت، ما لا يناله في غيره المقت.

وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة، من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد حصولها، فإنّما هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير، فمن كان قابلاً لازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد، فليخص تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه، ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المنّة، المهدي كنوز الكتاب والسنّة، ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة، والتدرّب في طرق النظر وتصحيح الأدلّة، وهذه هي الغاية القصوى في الملّة، ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى، فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه، وليقرإ المسائل الفقهية على مذهب إمامه، وإياكم والعلوم القديمة، والفنون المهجورة الذميمة، فأكثرها لا يفيد إلا تشكيكاً، ورأياً ركيكاً، ولا يثمر في العاجلة إلا اقتحام العيون، وتطريق الظنون، وتطويق الاحتقار، وسمة الصّغار، وخمول الأقدار، والخسف من بعد الإبدار، وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال، وأوفق (3) من قطع العمر في الجدال، هذا ابن رشد

(1) الأزهار: والذخر الذي قليله يشفع وينفع وكثيره يعلي ويرفع.

(2)

ق: ندى.

(3)

ق: وأشفق.

ص: 400

ومفتيه، وملتمس الرشد وموليه (1) ، عادت عليه بالسخطة الشنيعة، وهو إمام الشريعة، فلا سبيل إلى اقتحامها، والتورّط في ازدحامها، ولا تخلطوا سامكم بحامها، إلا ما كان من حساب ومساحة، وما يعود بجدوى فلاحة، وعلاج يرجع على النفس والجسم براحة، وما سوى ذلك فمحجور، وضرم مسجور، وممقوت مهجور.

وأمروا بالمعروف أمراً رفيقاً، وانهوا عن المنكر نهياً حريّاً بالاعتدال حقيقاً، واغبطوا من كان من سنة الغفلة مفيقاً، واجتنبوا ما تنهون عنه حتى لا تسلكوا منه طريقاً.

وأطيعوا أمر من ولاه الله تعالى من أموركم أمراً، ولا تقربوا من الفتنة جمراً، ولا تداخلوا في الخلاف زيداً ولا عمراً.

وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهم ما أضى عليه الآباء ألسنة البنين، وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عرف به. وإياكم والكذب فهو العورة التي لا توارى، والسوأة التي لا يرتاب في عارها ولا يتمارى، وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعد الله له من العذاب، أن لا يقبل منه صدقة إذا صدق، ولا يعول عليه إن كان بالحق نطق.

وعليكم بالأمانة فالخيانة لوم، وفي وجه الديانة كلوم، ومن الشريعة التي لا يعذر بجهلها، أداء الأمانات إلى لأأهلها، وحافظوا على الحشمة والصّيانة، ولا تجزوا من أقرضكم دين الخيانة، ولا توجدوا للغدر قبولاً، ولا تقروا عليه طبعاً مجبولاً " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " الإسراء: 34 ولا تستأثروا بكنز ولا خزن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حزن، ولا تبخسوا الناس أشياءهم في كل أو وزن، والله الله أن تعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو بالكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في

(1) الأزهار: ومؤتيه.

ص: 401

فسحة ممتدة، وسبل الله تعالى غير منسدة، ما لم ينبذ إلى الله تعالى بأمانه، ويغمس في الحرام بيده أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه الذي هدى به سنناً قويماً، وجلى من الجهل والضلال ليلاً بهيماً " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً " النساء: 93 واجتناب الزنا وما تعلّق به من أخلاق من كرمت طباعه، وامتد في سبيل السعادة باعه، لو لم تتلقّ نور الله الذي لم يهد شعاعهه، فالحلال لم تضق عن الشهوات أنواعه، ولا عدم إقناعه، ومن غلبت عليه غرائز جهله، فلينظر هل يحب أن يزنى بأهله، والله قد أعدّ للزاني عذاباً وبيلاً، وقال " ولا تقربوا الزنا إنّه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً " النساء:22.

والخمر أم الكبائر، ومفتاح الجرائم والجرائر، واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطا، والمحرم قد أغنى عنه بالحلال الذي سوّغ وأعطى، وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لعقولهم بالفساد، ولا لنفوسهم بالمضرة في مرضاة الأجساد، والله تعالى قد جعلها رجساً محرماً على العباد، وقرنها بالأنصاب والأزلام في مباينة السّداد.

ولا تقربوا الربا فإنّه من مناهي الدين، والله تعالى يقول " وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين " البقرة: 278 وقال: " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " البقرة: 279 في الكتاب المبين، ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه، وانزعوا الطمع عن ذلك حتى تذهب ريحه، والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه، ولا يكل اختياره إلا للثقة من خدمه، ولا تلجأوا إلى المتشابه إلاّ عند عدمه، فهو في السلوك إلى الله تعالى أصل مشروع، والمحافظ عليه مغبوط، وإياكم والظلم فالظالم ممقوت بكل لسان، مجاهر الله تعالى بصريح العصيان، والظلم ظلمات يوم القيامة كما ورد في الصحاح الحسان. والنميمة فساد وشتات، لا يبقى عليه متات، وفي الحديث " لا يدخل الجنّة قتّات "(1) .

(1) القتات: النمام الذي ينقل الحديث أو الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون (النهاية 3: 227) .

ص: 402

واطرحوا الحسد فما ساد حسود، وإياكم والغيبة فباب الخبر معها مسدود، والبخر فما رؤي البخيل وهو مودود. وإياكم وما يعتذر منه فمواقع الخزي لا تستقال عثراتها، ومظنّات الفضائح لا تؤمن غمراتها، وتفقّدوا أنفسكم مع الساعات، وأفشوا السلام في الطرقات والجماعاتن ورقوا على ذوي الزمانات والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يربحكم في البضاعات. وعوّلوا عليه وحده في الشدائد، واذكروا ما ورد في ذلك من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج البادية الالتحام، واحذروا شهادة الزور فإنّها تقطع الظهر، وتفسد السرّ والجهر؛ والرّشا فإنّها تحط الأقدار، وتستدعي المذلّة والصّغار، ولا تسامحوا في لعبة قمر، ولا تشاركوا أهل البطالة في أمر. وصونوا المواعيد من الإخلاف، والأيمان من حنث الأوغاد والأجلاف، وحقوق الله تعالى من الإزراء والاعتساف، ولا تلهجوا بالآمال العجاف، ولا تكلفوا بالكهانة والإرجاف. واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد. واعلموا أن الله سبحانه بالمرصاد، وأن الخلق زرع وحصاد، وأقلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما تحذر السموم. واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم، وقابلوا بالصبر أذاية المؤذين، ولا تقارضوا مقالات الظالمين، فالله لمن بغي عليه خير الناصرين، ولا تستعظموا حوادث الأيام كلّما نزلت، ولا تضجوا للأمراض إذا أعضلت، فكل منقرض حقير، وكل منقض وإن طال قصير، وانتظروا الفرج، وانتشقوا من جناب الله تعالى الأرج، وأوسعوا بالرجاء الجوانح، [واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطوبى لعبد إليه جانح](1) ، وتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء، والجأوا إليه في البأساء والضّرّاء،

(1) واجنحوا.... جانح: سقطت من ق وأصل الأزهار.

ص: 403

وقابلوا نعم الله تعالى بالشكر الذي يقيد به الشارد، ويعذب الوارد، وأسهموا منها للمساكين وافضلوا عليهم، وعيّنوا الحظوظ منها لديهم، فمن الآثار " يا عائشة، أحسني جوار نعم الله، فإنّها قلّما زالت عن قوم فعادت إليهم ". ولا تطغوا في النعم فتقصروا عن شكرها، وتلفّكم الجهالة بسكرها، وتتوهموا أن سعيكم جلبها، وجدّكم حلبها، فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتّقين، ولا فعل إلا لله إذا نظر بعين اليقين، والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زينكم، وليلتزم كل منكم لأخيه، ما يشتد به تواخيه، بما أمكنه من إخلاص وبر، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزية لا تجهل، وحق لا يهمل. وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التعاهد والتزاور، ترغموا بذلك الأعداء، وتستكثروا الأوداء، ولا تتنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تتهارشوا تهارش السباع على الجيفة، واعلموا أن المعروف يكدر بالامتنان، وطاعة النساء شرّ ما أفسد بين الإخوان، فإذا أسديتم معروفاً فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمراً فاحقروه.

والله الله لا تنسوا مقارضة سجلي، وبروا أهل مودّتي من أجلي، ومن رزق منكم مالاً بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للمذلّة والاحتقار، وساعياً لنفسه إن تغلب العدوّ على بلده في الافتضاح والافتقار، ومعوقاً عن الانتقال، أمام النّوب الثقال، وإذا كان رزق العبد على المولى، فالإجمال في الطلب أولى، وازهدوا جهدكم في مصاحبة أهل الدنيا فخيرها لا يقوم بشرّها، ونفعها لا يقوم بضرّها، وأعقاب من تقدّم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضدة، ومن بلي بها منكم فليستظهر بسعة الاحتمال، والتقلل من المال، وليحذر معاداة الرجال، ومزلات الإدلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال، وإفشاء السر، وسكر الاغترار (1) ، وليصن الديانة، ويؤثر الصمت ويلازم الأمانة، ويسر من رضى

(1) زاد في التجارية: فإنه دأب الغر، والعبارة ساقطة من ق والأزهار.

ص: 404

الله على أوضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قصد أقربهما إلى الحق، وليقف في التماس أسباب الجلال دون اعلكمال غير النقصان، والزعازع تسالم اللّدن اللطيف من الأغصان، وإياكم وطلب الولايات رغبة واستجلاباً، واستظهاراً على الحظوظ (1) وغلاباً، فذلك ضرر بالمروءات والأقدار، داع إلى الفضيحة والعار، ومن امتحن بها منكم اختياراً، أو جبر عليها إكراهاً وإيثاراً، فليتلقّ وظائفها بسعة صدره، ويبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره، فالولايات فتنة ومحنة، وأسر وإحنة، وهي بين إخطاء سعادة، وإخلال بعبادة، وتوقع عزل، وإدالة بإزاء بيع جد من الدنيا بهزل، ومزلّة قدم، واستتباع ندم، ومآل العمر كلّه موت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد، جعلكم الله ممّن نفعه بالتبصير والتنبيه، وممّن لا ينقطع بسببه عمل أبيه.

هذه أسعدكم الله وصيتي التي أصدرتها، وتجارتي التي لربحكم أدرتها، فتلقوها بالقبول لنصحها، والاهتداء بضوء صبحها، وبقدر ما أمضيتم من فروعها، واستغشيتم من دروعها، اقتنيتم من المناقب الفاخرة، وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة، وبقدر ما أضعتم لآليها النفيسة القيم، استكثرتم من بواعث الندم. ومهما سئمتم إطالتها، واستغزرتم مقالتها، فاعلموا أن تقوى الله فذلكة الحساب، وضابط هذا الباب، كان الله خليفتي عليكم في كل حال، فالدنيا مناخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض محال، فالموعد للالتقاء، دار البقاء، جعلها الله من وراء خطة النجاة (2) ، ونفّق بضائعها المزجاة، بلطائفه المرتجاة، والسلام عليكم من حبيبكم المودع، والله سبحانه يلأمه حيث شاء من شمل متصدع، والدكم محمد بن عبد الله بن الخطيب، ورحمة الله وبركاته.

انتهت الوصية الفريدة في حسنها، الغريبة في فنها، المبلغة نفوس الناظرين

(1) التجارية: الخطوب.

(2)

ق والتجارية: جعل

خطته النحاة.

ص: 405

فيها فوق ظنّها، ولأجل ذلك كان شيخ سيوخنا المؤلف الكبير الفقيه الإمام قاضي القضاة العلامة سيدي الشيخ عبد الواحد ابن الشيخ الإمام عالم المالكية صاحب التآليف العديدة كالمعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى إفريقية والأندلس والمغرب - وهو في ست مجلدات [ولو لم يكن له غيره] لكان كافياً، وله مصنّفات كثيرة غيره أكثرها في مذهب مالك، ولم يؤلف في المذهب مثلها -[كثيراً ما يدخل منها في خطبه](1) .

[وصية لابن الجنان على لسان ابن هود]

رجع إلى ما كنا فيه:

أقول: لم تزل عادة الأكابر من العلماء والملوك الوصية لأولادهم وعمالهم باقتفاء النهج الذي يرون فيه السلوك، وقد وقفت للفقيه الكاتب أبي عبد الله محمد ابن الجنّان المرسي الأندلسي رحمه الله تعالى لى وصية ضمن رسالة كتبها عن ابن هود ملك الأندلس إلى أخيه اشمتملت على ما لا بدّ منه، فرأيت أن أذكرها هنا تتميماً للفائدة، ونصها بعد الصدر:

من مجاهد الدين، وسيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكّل عليه أمير المسلمين محمد بن يوسف بن هود، أيده الله تعالى بنصره، وأمدّه بتمكينه، وأعانه على ما ينويه من إحياء معالم دينه، إلى صنونا المبارك، وقسيمنا وأخينا المخصوص بتبجيلنا وتكريمنا، وحسامنا المنتضى المرتضى لإمضاء عزمنا وتصميمنا، الأمير الأعلى، الموقّر الأسمى، الميمون النقيبة المحمود السجيّة، الأحب النيّة، الأعز علينا، المتمم بمساعيه الصالحة كل ما نوينا، أدام الله تعالى تظفيره وإسعاده، وأمضى في الحق قواضبه وصعاده، ووالى معونته وإنجاده، وتولى توقيفه

(1) قد سقط ما بين معقفين من ق والتجارية، وزدناه حسب المعنى من أزهار الرياض.

ص: 406

وإرشاده، سلام طيب كريم زاك يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

أمّا بعد - فالحمد لله الذي أوضح للحق سبيلاً، ومد ظل رحمته على الخلق ظليلاً، وجعل العدل بحفظ نظام الإسلام كفيلاً، ونزّل الأحكام على قدر المصالح تنزيلاً، ونصب معالم الهدى علماً لمن اقتدى ودليلاً، وألهم إلىما يرضاه عملاً ومعتقداً وقيلاً، وصلواته الطيبة، وبركاته الصّيّبة، على سيد العالمين، وخاتم النبيين، محمد رسوله الذي فضّله بخلته واصطفاه تفضيلاً، وبعثه بالحنيفية السمحة فبينها تبييناً وفصّلها تفصيلاً، ورتبها كما أمره ربّه إباحة وندباً وتحريماً وتحليلاً، حتى ثبتت سنة الله " فلن تجد لسنّة الله تبديلاً، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً "(فاطر: 43) وعلى آله وصحبه الذين فهموا ما جاءهم به عليه الصلاة والسلام نصّاً وتأويلاً، وأبقوا من سيرتهم الفاضلة، وأحكامهم العادلة، أساساً للمتقين جليلاً، ومآثر للمقتفين تسبح الأفهام والأقلام في بحارها سبحاً طويلاً، وأمضوا عزائمهم تنسخ بالحق باطلاً وبالهدى تضليلاً، ورضوان الله تعالى يتوالى على خليفته، وحامل أمانته إلى خليقته، الذي كمل الله تعالى له موجبات الإمامة تكميلاً، وأناله من هدي النبوّة أفضل ما كان للهداة منيلاً، سيدنا ومولانا الإمام المنتصر بالله تعالى أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين المتبوّىء من ساحة الشرف والجلالة محلاً شريفاً جليلاً، والمنتخب من بحبوحة بيت الرسالة الذي وجد الوحي عنده معرّساً ومقيلاً، والدعاء له من لدن العزيز القوي بنصر يأتي لإمداده بمدد الملائكة قبيلاً، وفتح يؤتي الإيمان من الظهور بغية وتأميلاً -.

فإنّا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم عزماً لا يزال عضبه صقيلاً، وعزّاً يروق بإظهار الحق غرّة وتحجيلاً، ورأياً لقداح السداد والنجاح مجيلاً، وسعداً يوصل إلى الإسعاد برضاه توصيلاً، من حضرتنا بمرسية حرسها الله تعالى، ونحن نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على فضله الذي أناله جسيماً جزيلاً، ونتوكل عليه، توكل من يلجأ في كل أحواله إليه، وكفى بالله وكيلاً، ونستعينه على أمور

ص: 407

المسلمين التي حملنا منها أمانة كبيرة وعبئاً ثقيلاً، ونقف بالضراعة بين يديه، طلباً لما يخلصنا لديه، عساه أن يجعل لرغبتنا قبولاً وتوسيلاً، ونعوذ به من كل عمل لا يكون حاصله إلا مآلاً وبيلاً، وعرضاً من الدنيا قريباً ومتاعاً قليلاً.

إنّا - والله المرشد - لنعلم أن هذا الأمر الذي قلدنا الله تعالى منه ما قلّده، وأسنده إلينا من أمور خلقه فيما أسنده، قد ألزمنا من حقوقه الواجبة، وفروضه الراتبة، ما لا يستطاع إلاّ بمعونته أداؤه، ولا يستتبّ إلاّ بتوفيق الله تعالى انتهاؤه وابتداؤه، فهو المشكور عزّ وجهه على نعمته، والمستعان على ما يدني من رضاه ويقرب من رحمته، وأن كل امرىء بشأنه مشغول، وعن خويّصة نفسه مسؤول، ونحن بما استرعانا الله تعالى مشغولون، وعن الكبير والصغير مسؤولون، وعلينا النصيحة لله في عباده وبلاده، والنظر لهم بمنتهى جدّ المجتهد واجتهاده، ولا قوّة إلا بالله عليه توكلنا، وبه إليه توسّلنا، فعيننا تسهر لتنام للرعية عيونهم، وتحركنا يتصل ليحصل لهم سكونهم، وأملنا أن لا نقر فيهم بحول الله تعالى ظلماص ولا هضماً، ولا نخرم لهم في إقامة حقوق الله ما استطعنا نظماً، وأنّى ينصرف عن هذا القصد بعمله ونيته، من يعرف أن الله جل جلاله لا يجوّز ظلم ظالم في بريته، ولعل الله الذي حملنا ما حملنا، واستعملنا بمشيئته فيما استعملنا، أن يهب لنا توفيقه، ويسلك بنا إلى هداه طريقه.

ألا وإن من ولّيناه أمراً من أمور المسلمين فهو مطلوب به، وموقوف عليه عند ربه، فلينظر امرؤ في جزئية ما نيط به وكليته، وليراقب فيما لديه عالم خفيته وجليته، ألا وكلكم راعٍ وكلّ راع مسؤول عن رعيته، فمن حفظ الله حفظه الله في نفسه وآله، وقضى له بالسعادة في حاله ومآله، وأنجاه يوم عرضه وسؤاله، والخلق عيال الله فأحبهم إليه أحبهم لعياله. العدل العدل فبه قامت السموات والأرض، وبإقامته أقيمت السنّة والفرض " اعدلوا هو أقرب للتّقوى " المائدة: 8 وأقوى ما تشتد به أركان الدين وتقوى، أما إن الحق في أن لا تتعدى

ص: 408

أساليب الشرع وقوانينه، وأن لا يتجاوز في قضية من القضايا إفصاحه وتبيينه، وأن يجازى بحكمه المسيئون والمحسنون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون.

ألا وإنّا قد عثرنا لبعض قوّاد الجهات وحكامها على أمور أنكرنا معرفاتها، واستقبحنا مستوصفاتها، وبرئنا إلى الله ته من متغيراتها ومحرفاتها، وعلمنا أن منهم أقواماً لا يتورّعون عن الأموال والدماء، ولا يحذرون فيما يأتون ويذرون جبّار الأرض والسماء، فأزلنا بحمد الله ذلك ونحوه، وعجلنا ابتغاء رضاه محقه ومحوه، وانبعثنا لنظر جديد، واستئناف لإصلاح أحوال وتسديد، وتغليظ في المحرمات وتشديد، واستقبلنا ما يسوسع الأمور ربطاً وضبطاً، ويفيض على الأمّة بعون الله تعالى عدلاً وقسطاً، وتعين علينا فيما رأيناه إنفاذ الخطاب إلى كل من استكفيناه بالبلاد، ووليناه النظر عنّا في مصالح العباد، بما يكون إن شاء الله تعالى الاعتماد على فصوله، والاستناد إلى محصوله، والاجتهاد بحسب فروعه وأصوله:

فأوّل ما نوصيكم به وأنفسنا تقوى الله في كل حال، ومراقبة أوامره ونواهيه عند كل انتحاء وانتحال، والوقوف عند حدود الله التي حدها، وأرصدها بإزاء موجباته وعدها، فإنّه لا يتعداها إلاّ من رام تعفّي رسمها وطمسه " ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه " الطلاق: 1 والمحافظة على ما به تحفظ الشريعة، والملاحظة لما يضم الرعايا من حوزة أولي الحياطة المنيعة، والمثابرة على ما تكف به أكف الاعتداء، والمبادرة إلى الاهتمام بالسلف الصالح والاقتداء، والطريقة المثلى، وآيات الله التي تتلى، وهداياته التي لأبصار البصائر تجلى، وخفض الجناح، والأخذ بالرفق والإنجاح، وتوخي الحق الذي هو أوضح انبلاجاً من فلق الإصباح، والحلم والأناة، والمذاهب المستحسنات، والأمور البيّنات.

والله الله في الدماء فإنّها أوّل ما يقضى بين الناس يوم القيامة فيها، ولا سبيل لاستحلالها إلا بعد ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل المسلم

ص: 409

لأخيه، وقد قال مالك الأمر والخلق " ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلا بالحقّ " الأنعام: 151 فتثبتوا فيها فأمرها جليل، وتحريمها لا يدخله تحليل، وإياكم أن تجعلوا فيها لأحد من ولاة الجهاد حكماً أو نظراً، أو تكلوا إليهم منها مستكثراً أو مستنزراً، فإنّه إذا استبدّ بالقضاء فيها كل وال ذهبت هدراً، واستباحها الجاهل والجائر أشراً وبطراً، وربما كان فيهم من في طباعه سبعية فيقتل بها الناس قتلاً ذريعاً، ويتسهّل بذلك من جوره صعباً ويرتكب بجهله شنيعاً، ويذهل عن قول الله تعالى " من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً، ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً "(المائدة: 32) فأنّى تحل المسامحة في هذا الشان، أو يحكم به كل إنسان في نفوس أهل الإيمان معاذ الله أن يكون هذا ونحن نعرفه، أو ينصرف إليه نظرنا فلا نزيله ولا نصرفه، فسدّوا هذا الباب سدّاً، وصدوا عنه من أمّه صدّاً، وكفوا كل ما كان من الأيدي للدماء ممتدّاً، ومن وجب عليه القتل شرعاً (1) وتعين، واتضح موجب القصاص فيه وتبين، فليس لكم إلا القاعدة الكبرى، تتحرّى فيها الأحكام عليه بمحضر القاضي والشهود كما يجب أن يتحرّى، بعد أن يتثبت في نازلته لديكم ويستجلى ويستبرا، فلا تحل القضية إلا على بصيرة، وحقيقة مستنيرة، فقد يلوح في اليوم ما خفي بالأمس، ويتعذر بعد الإقادة إعادة النفس.

وملاك الأمر في انتقاء من يتصرف، وتولية من لا يضيم ولا يتحيف، فتخيروا للأنظار والجهات، من ترتضى سيرته من الولاة، ولا تستعملوا أهل الفظاظة والجهالة، والمصرين على الراحة والبطالة، فإنذهم إذا استرعوا أضاعوا، وإذا دعاهم شيطان الهوى أطاعوا، وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا، وميلوا باختياركم إلى المتّسمين بالصلاح، المرتسمين في ديوان الكفاة النصاح،

(1) شرعاً: سقطت من ق.

ص: 410

وأطيلوا مع ذلك التنقير عنهم والتنقيب، ولا تغفلوا عن التعهد بالبحث البعيد منهم والقريب، ومن عثرتم له على منكر من استباحة دم أو مال، وإضاعة للحقوق وإهمال، فخذلوا على يده، وجازوه بفاسد مقصده، وأنزلوه بالمنزل الأقصى، وعاملوه معاملة من أوصيَ بتقوى الله فما استوصى.

واصرفوا نظركم إلى القضاة فإن مدار الشريعة إنّما هو على ما يستند إليهم، ويقصر من الأحكام عليهم، فإذا كانوا من أهل العلم والديانة، وذوي النزاهة والصيانة، أمسكهم الورع بزمامه، وبلغ العهد بهم غاية تمامه، وإذا كانوا بضدّ هذا قبلوا الرشوة، وأوطأوا العشوة، وأطالوا النشوة، وأحلّوا من الدماء والفروج محرمها، وطمسوا من السنّة بالميل والمين معلمها، وحكموا بالهوادة والهوى، وطووا من الحق ما انتشر ونشروا من الباطل ما انطوى، فانتقوهم فهم أولى بالانتقاء، وشرّ جاسرهم وجاهلهم أحق بالاتقاء، ولا تقدموهم ولا غيرهم بالشفاعات والوسائل، ولكن قدموهم بتورعهم في القضايا وعلمهم بالمسائل.

وممّا نؤكد عليهم فيه أمر الشهود؛ فإن شهادة الزور هي الداء العضال، والظلمة التي يتستر بها الظّلمة والضّلاّل، والحجة الداحضة التي بها يحلّل الحرام ويحرم الحلال، وقد كثر في هذا الزمان أهل الشهادة الفاسدة، ونفقت بهم سوق الأباطيل الكاسدة، فتقدموا إلى القضاة وفقهم الله تعالى أن لا يقبلوا إلاّ مشهوراً بزكاء وعدل، موفوراً حظّه من رجاحة وعقل، ومن كان مغموزاً عليه في أحواله، منبوزاً بالاسترابة في شهادته وأقواله، فلتردّ شهادته على أدراجها، وليبطل ما يكون من حجاجها. وأكدوا عليهم عند تعارض العقود في الترجيح، والنظر في التعديل والتجريح، لتجري أمور المسلمين على مستوى الحقّ المستبين، وتبدو المعدلة مشرقة الغرّة مؤتلفة الجبين.

وممّا نأمركم به أن تبحصوا عن العمال، ولا تولّوا منهم إلا الحسن الطريقة المرضيّ الأعمال، ومن لم يكن منهم جارياً على القوانين المرعية، ناصحاً لبيت المال

ص: 411

رفيقاً بالرعية، وكان في أمانته حائداً عن الجادة السوية، قائلاً كما قال قبله ابن اللتبية (1) ، فليعوّض منه غيره، وليرفع عن الجانبين ضيره، فإنّه ما كانت الخيانة قط في شيء إلا أهلكته، ولا وضعت في إنسان طبيعة سوء إلا ملكته.

وإنّما هو مال الله تعالى الذي يرزق منه الحماة، وبه تسد الثغور المهمات، فينبغي أن يختار له محتاط في اقتضائه وقبضه، حافظ لدينه ومروءته في كلّه وبعضه، فخذوا في انتقاء هذه الأصناف المسمين، واطلبوا بهذه الأوصاف المصرفين والمولين، واجمعوا من الاجتهاد الحميد والقصد والاعتماد الأثر والعين، وأنصفوا منهم إن تظلّم من أحدهم متظلم، واشفوا شكوى كل متشك وألم كل متألم، واعلموا أن حرمة الأموال بحرمة الدماء لاحقة، وأن إحدى القضيتين للأخرى مساوية ولاحقة، ومن أكبر ما ورد في ذلك وأعظمه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" حرمة مال المسلم كحرمة دمه ".

وليكن الناس في الحق سواء لا محاباة ولا مفاضلة، ولا مجاوزة في تغليب قوي على ضعيف ولا محاولة، إن هذه أمتكم أمّة واحدة، وإن دلائل الشرع بمراد الله سبحانه وتعالى لشاهدة، ولا يؤخذن أحد بجريرة أحد، ولا يجني ولد على والد ولا والد على ولد، فكتاب الله تعالى أولى بالاتباع وأحرى، لقول الله عز وجل " ولا تزر وازرة وزر أخرى " (الأنعام: 164) (2) اللهم إلاّ من آوى محدثاً فإنه مأخوذ بما أجرم، ومعلون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فارفعوا - أعاننا الله تعالى وإياكم - للعدل بكل علم مناراً، واتخذوا الرفق بالإمامة شعاراً، فقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرفق لا يكون

(1) يسمى عبد الله بن اللتبية ثعلبة الأزدي، قال ابن حجر في افصابة (4: 123) : مذكور في حديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين أن النبي (ص) بعث رجلاً على الصدقات يدعي ابن اللتبية وذكره الفيروز ابادي في تحفة الأبيه (ص: 107) باسم عمر بن اللتبية وقيل الأتبية الاول قول ابن دريد والثاني قول ابن الكلبي.

(2)

وردت الآية أيضاً في سورة الإسراء: 15 وفاطر: 18 والزمر: 7.

ص: 412

في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلاّ شانه " وقد نصّ الكتاب والسنّة على مواضع اللين والاشتداد، ونبها على منازع المقاربة والسّداد، فلا غضب لأمر إلاّ بما غضب له الله عز وجل، ولا رضىً به إلا إذا استقر فيه رضى الله تعالى وحل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذي يجلد فوق ما أمر الله تعالى به يقول له الله عز وجل: عبدي، لم جلدت فوق ما أمرتك به فيقول: رب غضبت لغضبك، فيقول: أكان ينبغي لغضبك أن يكون أشد من غضبي ثم يؤتى بالمقصر فيقول: عبدي، لم قصرت عمّا أمرتك به فيقول: ربّ رحمتهن فيقول: أكان ينبغي لرحمتك أن تكون أوسع من رحمتي " قال: فيأمر فيهما بشيء قد ذكره لم يحفظه الراوي، إلا أنّه قال: صيروهما إلى النّار، أعاذنا الله تعالى منها بفضله ورحمته! فليوقف بالقضايا حيث وقف بها الشرع، ويحفظ الأصل من هذه الوصايا والفرع، واحتاطوا في الرعية فإنّه رأس المال، والأمانة التي لا ينبغي أن يكون فيها شيء من الإهمال، ومع توفيقكم لما سطرناه، في هذا الكتاب وشرحناه، من أبواب الخير المسعد في المآب والمآل، فاستوفوا ضروب الصالحات واستقصوها، واعملوا أعمال البر وخصوها، واذكروا آلاء الله وقصوها، " وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها " إبراهيم: 34 واشتدوا في تغيير المنكرات كلّها، واحسموا أدواءها من أصلها، ورغّبوا الناس في الطاعات واندبوهم إليها، ووضحوا لهم أعمالهم وحرّضوهم عليها، وانتهوا في كل سعي ناجح، ورأي راجح، إلى أفضل ما ينتهي إليه المنتصحون، " ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون " آل عمران: 104.

وخذوا بعمارة مساجد الله التي هي بيوت الأتقياء، ومحلّ مناجاة ذي العظمة والكبرياء، إنّما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.

ومروهم بأن يعلّموا أولادهم كتاب الله تعالى فإن تعليمه للصغار يطفىء غضب

ص: 413

الرّب، ونعم الشفيع يوم القيامة، والمتوسل فيما يتوج القارىء وأباه تاج الكرامة، وأرشدوا للخير ما استطعتم، واتبعوا سبيله فهو أشرف ما اتبعتم، والله ولي التوفيق والإرشاد، والملجىء بالهداية إلى طريق الفوز والسداد.

وهذه أوامرنا إليكم امتثلنا أمر الله تعالى فامتثلوها، وأحضروها في خواطركم مع كل لحظة ومثلوها، وإنّا لما يكون منكم فيها لمستمعون، ولآثاركم فيما يوفيها لمتطلعون، وقد خرجنا لكم عن عهدة لزمتنا في التذكير، ونهجنا لكم منها التقديم والتأخير، والله تعالى يعلم أنّا إنّما قصدنا ما نرجو الخلاص به يوم الحساب، وأردنا رضاه فيما أوردناه من هذا الحظر والإيجاب، لنرعى حقّه سبحانه فيمن استرعانا، ونسعى في صلاح الأمّة عسى الله تعالى أن ينجح فيه مسعانا.

اللهم عبدك يضرع إليك، ويخضع بين يديك، في أن تلهمه إلى ما يجمل قصداً ومعتمداً، وتهب له من لدنك رحمة وتهيىء له من أمره رشداً، اللهم منك المعونة على ما وليت، ولك الشكر على ما أوليت، فالمهديّ من هديت، والخير كلّه فيما قضيت. اللهم من أعاننا على مرضاتك فكن له معيناً، وأورده من توفيقك عذباً معيناً، إنّك الولي النصير، العلي الكبير.

وإذا وصلكم كتابنا هذا فقصّوه (1) على الناس مفصلاً ومجملاً، وأظهروا مضمونه لهم قولاً وعملاً، واسلكوا بهم من مراشده سنناً مستجملاً، إن شاء الله تعالى، والله سبحانه يديم علاكم، ويصل إادتكم في كل محمد وإبداكم، ويجزل حظوظكم من السعادة وأنصباكم، بمنّه وكرمه لا ربّ سواه. والسّلام الأكرم الأزكى يخصّكم، ورحمة الله تعالى وبركاته.

وكتب في الرابع والعشرين لجمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وستمائة؛ انتهى.

(1) ق: فنصوه.

ص: 414

[ترجمة ابن الجنان]

وهذا ابن الجنان (1) له الباع المديد في النظم والنثر، ومن شعره رحمه الله تعالى في مرضه الذي توفي فيه، وهو آخر كلامه:

جهل الطبيب شكايتي، وشكايتي

أنّ الطبيب هو الذي هو ممرضي

فإن ارتضى برئي تدارك فضله

وإن ارتضى سقمي رضيت بما رضي

ما لي اعتراض في الذي يقضي به

لكن لرحمته جعلت تعرضي ومن نظمه رحمه الله تعالى ملغزاً في بطيخة:

وحبلى بأبناء لها قد تمخّضوا

بأحشائها من بعد ما ولدوها

كسوها غداة الطلق برداً معصفراً

على يقق أزرارها عقدوها

ولمّا رأوها قد تكامل حسنها

وأبدر منها طالع حسدوها

فقدّوا قميص البدر بالبرق واجتلوا

أهلّتها من بعد ما فقدوها

ولو أنصفوا ما أنصفوا بدر تمّها

ولا أعدموا الحسناء إذ وجدوها وقال أيضاً ملغزاً في الميل، وهو المرود:

مسترخص السوم غال

عال له أيّ حظوه

ما جاوز الشبر قدراً

لكنّه ألف خطوه وهذا استخدام ما به باس، لأنّه اكتسى من الحسن خير لباس، وكم لهذا

(1) كتب حيثما ورد في ق والتجارية " ابن الجيان " - بالياء - وهو خطأ؛ فقد ذكره ابن عبد الملك في مواضع من الذيل والتكملة (4: 108 و 5: 327

) بالنون؛ ونسخة الجزء الخامس من الذيل والتكملة مضبوطة مصححة. وكذلك ثبت اسمه في المصادر التي ترجمت له (انظر الإحاطة 2: 256 - 264 وعنوان الدراية: 213) . وله في الذيل والتكملة (5: 327) رسالة إلى أبي عبد الله ابن عابد، وفي (4: 108) تعزية في أستاذه سهل بن مالك، والجزء الذي ترجم له فيه ابن عبد الملك لا يزال مفقوداً، وعنه ينقل لسان الدين.

ص: 415

الكاتب من محاسن، ماؤها غير آسن.

وقد عرّف لسان الدين في الإحاطة بابن الجنان، وأطال في ترجمته، ونشير إلى بعض ذلك باختصار.

وهو محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري من أهل مرسية، أبو عبد الله ابن الجنان.

كان محدثاً راوية ضابطاً، كاتباً بليغاً شاعراً بارعاً، رائق الخط، ديناً فاضلاً، خيراً ذكيّاً، استكتبه بعض أمراء الأندلس فكان يتبرم من ذلك ويقلق (1) منه، ثم خلصه الله تعالى منه، وكان من أعاجيب الزمان في إفراط القماءة، حتى يظن رائيه الذي استدبره أنّه طفل ابن ثمانية أعوام أو نحوها، متناسب الخلقة، لطيف الشمائل وقوراً، خرج من بلده حين تمكن العدوّ من قبضته سنة 640، فاستقرّ بأربولة إلى أن دعاه إلى سبتة الرئيس أبو علي ابن خلاص (2) ، فوفد عليه، فأجلّ وفادته، وأجزل إفادته، وحظي عنده حظوة تامّة، ثم توجّه إلى إفريقية، فاستقر ببجاية، وكانت بينه وبين كتّاب عصره مكاتبات ظهرت فيها براعته، وروى ببلده وغيره عن أبي بكر ابن خطاب وأبي الحسن سهل بن مالك وابن قطرال وأبي الربيع ابن سالم وأبي عيسى ابن أبي السداد وأبي علي الشلوبين وغيرهم، وكان له في الزهد ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بدائع، ونظم في المواعظ للمذكرين كثيراً؛ انتهى مختصراً، وإلا فترجمته في الإحاطة متسعة، رحمه الله تعالى.

ولمّا كتب له أبو المطرف ابن عميرة برسالته الشهيرة التي أوّلها تحييك الأقلام تحية كسرى، وتقف دون مداك حسرى وهي طويلة، أجابه بما

(1) الإحاطة: ويضيق.

(2)

هو الحسن بن خلاص تولى سبتة سنة 637 ثم ثار فيها في زمن السعيد أبي الحسن ابن المعتضد بالله من خلفاء الموحدين سنة 641 وبايع للأمير أبي زكريا الحفصي صاحب تونس. وكانت وفاته سنة 646 (ابن عذاري 3: 359 ط. تطوان) .

ص: 416

نصّه: ما هذه التحية الكسروية وما هذا الرأي وهذه الروية أتنكيت من الأقلام أو تبكيت من الأعلام أو كلا الأمرين توجّه القصد إليه، وهو الحق مصدقاً لما بين يديه وإلاّ فعهدي بالقلم يتسامى عن عكسه (1) ، ويترامى للغاية البعيدة بنفسه، فمتى لانت أنابيبه للعاجم، ودانت أعاريبه للأعاجم واعجبا لقد استنوق الجمل، واختلف القول والعمل، لأمر ما جدع أنفه قصير (2) ، وارتد على عقبه الأعمى أبو بصير، أمس أستسقي من سحابه فلا يسقيني، وأستشفي بأسمائه فلا يشفيني، واليوم يحلّني محلّ أنوشروان، ويشكو مني شكوى الزيدية من بني مروان (3) ، ويزعم أنّي أبطلت سحره ببئر ذروان (4) ، ويخفي في نفسه ما الله مبديه (5) ، ويستجدي بالأثر (6) ما عند مستجديه، فمن أين جاءت هذه الطريقة المتبعة، والشريعة المبتدعة أيظن أن معمّاه لا ينفك، وأنّه لا ينجلي هذا الشك هل ذلك منه إلا إمحاض التّيه، وإحماض تفتّيه، ونشوة من خمر الهزل، ونخوة من ذي ولاية آمن من العزل تالله لولا محلّه من القسم، وفضله في تعليم النّسم، لأسمعته ما ينقطع به صلفه، وأودعته ما ينصدع به صدفه، وأشرت بطرف المشرفي وحدّه، وأشرت إلى تعاليه عن اللعب بجدّه، ولكن هو القلم الأوّل، فقوله على أحسن الوجوه يتأوّل، ومعدود في تهذيبه، كل ما لسانه يهذي به، وما أنساني إلا الشيطان أياديه أن أذكرها (7)، وإنّما أقول:

(1) أي عن الملق.

(2)

هذا مثل يرد في قصة الزباء وجذيمة.

(3)

الزيدية: أتباع زيد بن علي، وقد قتله الأمويون في زمن هشام بن عبد الملك.

(4)

بئر ذروان: بناحية المدينة، وفي حديث هشام بن عروة أن لبيد بن الأعصم سحر الرسول وخبأ السحر في تلك البئر.

(5)

إشارة إلى الآية: " وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس ".

(6)

ق: بالأسد؛ التجارية: بالأشر.

(7)

من الآية: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ".

ص: 417

ليت التحية كانت لي فأشكرها (1)

ولا عتب إلاّ على الحاء، المبرحة بالبرحاء، فهي التي أقامت قيامتي في الأندية، وقامت عليّ قيام المتعدية، يتظلم وهو عين الظالم، ويلين القول وتحته سم الأراقم، ولعمر اليراعة وما رضعت، والبراعة وما صنعت، ما خامرني هواها (2) ، ولا كلفت بها دون سواها، ولقد عرضت نفسها عليّ مراراً، فأعرضت عنها اوزراراً، ودفعتها عني بكل وجه، تارة بلطف وأخرى بنجه (3) ، وخفت منها السآمة، وقلت: انكحي أسامة، فرضيت مني بأبي جهم (4) وسوء ملكته، وابن أبي سفيان وصعلكته (5) ، وكانت أسرع من أم خارجة للخطبة، وأسمع من سجاح (6) في استنجاح تلك الخطبة.

ولقد كنت أخاف من انتقال الطباع في عشرتها، واستثقال الاجتماع من عترتها، وأرى من الغبن والسفاه، أخذها وترك بنات الأفواه والشفاه (7) ، إذ هي أيسر مؤونة، وأكثر معونة، فغلطني فيها أن كانت بمنزل تتوارى صوناً عن الشمس، ومن نسوة خفرات لا ينطقن إلا بالهمس، ووجدتها أطوع من البنان للكف، والعنان للكفّ (8) ، والمعنى للاسم، والمغنى للرسم، والظل للشخص، والمستدل للنص، فما عرفت منها إلاّ خيراً أرضاه، وحسبتها من الحافظات

(1) من شعر كثير عزة؛ وتمامه: مكان يا جمل حييت يا رجل.

(2)

الضمير عائد إلى " الحاء " ولعله يعني قصيدة أو رسالة بنيت على تكرير الحاء في كل كلمة.

(3)

النجه: الرد القبيح.

(4)

في ق والتجارية: أبو جهل، وهو خطأ، انظر التعليق التالي.

(5)

يشير لى قصة فاطمة بنت قيس أخت الضحاك حين خطبها معاوية وأبو جهم: أما معاوية فوصف بأنه صعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فإنه لا يضع عصاه عن عاتقه (اي يضرب النساء) ، وتزوجت فاطمة بعد ذلك أسامة بن زيد.

(6)

قصة زواج سجاح من مسيلمة مشهورة؛ وقد ضرب بها المثل في الإسماح.

(7)

بنات الأفواه والشفاه من الحروف مثل الباء والميم

الخ.

(8)

الكف: الكبح والمنع.

ص: 418

للغيب بما حفظ هـ، فعجبت لها الآن كيف زلت نعلها، ونشزت فنسرت ما استكتمها بعلها، واضطربت في رأيها اضطراب المختار بين أبي عبيد (1) ، وضربت في الأرض تسعى عليّ بكل مكر وكيد، وزعمت أن الجيم خدعها، وألان أخدعها، وأخبرها أن سيبلغ بخبرها الخابور (2) ، وأحضرها لصاحبها كما أحضر بين يدي قيصر سابور (3) .

فقد جاءت إفكاً وزوراً، وكثرت من أمرها منزوراً، وكانت كالقوس أرنّت وقد أصمت القنيص، والمراودة قالت " ما جزاء " وهي التي قدّت القميص (4) ، وربما يظن بها الصدق وظن الغيب ترجيم، ويقال: لقد خفضت الحاء بالجوار لهذا الجيم، وتنتصر لها التي خيمت بين النرجسة والريحانة، وختمت السورة باسم جعلت ثانيه أكرم نبي على الله سبحانه، فإن امتعضت لهذه التكلمة، تلك التي سبقت بكلمتها بشارة الكلمة، فأنا ألوذ بعدلها، وأعوذ بفضلها، وأسألها أن تقضي قضاء مثلها، وتعمل بمقتضى " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها " النساء:35.

على أن هذه التي قد أبدت مينها، ونسيت الفضل بيني وبينها، إن قال الحكمان: منها كان النشوز، عادت حرورية (5) العجوز، وقالت التحكيم في دين الله تعالى لا يجوز، فعند ذلك يحصحص الحق، ويعلم من الأولى بالحكم والأحق، ويصيبها ما أصاب أروى، من دعوة سعدية حين الدعوى، ويا ويحها أرادت أن تجني عليّ فجنت لي، وأناخت لي مركب السعادة وما ابتغت إلا ختلي، فأتى شرها بالخير، وجاء النفع من طريق ذلك الضير، أتراها علمت

(1) المختار بن أبي عبيد الثقفي الثائر للمطالبة بدم الحسين؛ حوالي 65هـ. لم يكن ثابت الرأي مخلص النية.

(2)

أي سيبلغ خبرها إلى مكان ناء، والخابور من روافد الفرات.

(3)

يعني سابور ذا الأكتاف ويقال إنه تنكر ودخل بلاد الروم فوقع في يد قيصر.

(4)

غشارة إلى قصة امرأة العزيز " وروادته التي هو في بيتها عن نفسه " وعندما انفضح الأمر قالت " ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً

الآية ".

(5)

اي ترفض التحكيم وتقول: لا حكم إلا لله.

ص: 419

بما يثيره اعوجاجها، وينجلي عنه عجاجها، فقد أفادت عظيم الفوائد، ونظيم الفرائد، ونفس الفخر، ونفيس الدر، وهي لا تشكر أن كانت من الأسباب، ولا تذكر إلا يوم الملاحاة والسباب.

وإنّما يستوجب الشكر جسيماً، والثناء الذي يتضوع نسيماً، الذي شرف إذ أهدى أشرف السحاءات، وعرف بما كان من انتحاء تلك الحاء المذمومة في الحاءات، فإنّه وإن ألمّ بالفكاهة، بما أملّ من البداهة، وسمّى باسم السابق السّكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب في الصفات تلاعب الصفاح والصّبا بالبانة، والصّبا بالعاشق ذي اللّبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى القلوب بفتونه، ونفث بخفية الأطراف، وعبث من الكلام المشقّق بالأطراف، وعلم كيف يمحض البيان، ويخلص العقيان، فمن الحق شكره على أياديه البيض، وإن أخذ لفظة من معناه في طرف النقيض.

" تالله أيها الإمام الأكبر، والغمام المستمطر، والحبر الذي يشفى سائله، والبحر الذي لا يرى ساحله، ما أنا المراد بهذا المسلك، ومن أين حصل ذلك النور لهذا الحلك، وصح أن يقاس بين الحداد والملك إنّه لتواضع الأعزّة، وما يكون عند الكرام من الهزّة، وتحريض الشيخ للتلميذ، وترخيص في إجازة الوضوء بالنبيذ، لو حضر الذي قضي له بجانب الغربيّ أمر البلاغة، وارتضى ما له في هذه الصناعة، من حسن السبك لحليها والصياغة، وأطاعته فيما أطلعته طاعة القوافي الحسان، واتبعته فيما جمعته لكن بغير إحسان، لأذعن كما أذعنت، وظعن عن محل الإجادة كما ظعنت، وأنّى يضاهى لفرات بالنغبة، ويباهى بالفلوس من أوتي من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة، وأي حظ للكلالة بالنشب، وقد اتصل للورثة عمود النسب، هيهات والله المطلب، وشتان الدر والمخشلب، وقد سيم الغلب، ورجع إلى قياده السلب.

" وإن كنّا ممّن تقدّم لشدة الظمإ إلى المنهل، كمن أقدم إلى عين تبوك بعد النهي للعلل والنهل، فقد ظهرت بعد ذلك المعجزة عياناً، وملأ ما هنالك جناناً

ص: 420

وما تعرضنا بإساءة الأدب واللوم، ولكن علمنا أن آخر الشّرب ساقي القوم، وإن أسهبنا فما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهوانا في الحجاز، فلكم قصيرات الحجال، ولنا قصيرات الخطا في هذا المجال، وإكثارنا في قلّة، وجارنا من الفقر في فقر وذلة، ومن لنا بواحدة يشرق ضياؤها، ويخفي النّجوم خجلها منها وحياؤها إن لم تطل فلأنّها للفروع كالأصل، وفي الجموع كليلة الوصل، فلو سطع نورها الزاهر، ونورها الذي تطيب منه الأنوار الأزاهر، لسجدت النيران ليوسف ذلك الجمال، ووجدت نفحات ريّاها في أعطاف الجنوب والشمال، وأسرعت نحوها النفوس إسراع الحجيج يوم النّفر. وسار خبرها وسرى فصار حديث المقيمين والسّفر، وما ضرّ تلك الساخرة في تجليها، الساحرة بتجنيها، أن كانت بمنزلة ربيبتها بل ربيئتها، هذه التي سبقتني لما سقتني بسيئتها (1) ، ووجدت ريحها لما فصلت من مصر عيرها، وحين وصلت لم يدلني على ساريها إلا عبيرها، وكم رامت أن تستتر عني بليل حبرها في هذه المغاني (2) ، فأغراني بهاؤها (3) وكل مغرم مغرى ببياض صبح الألفاظ والمعاني، وهل كان ينفعها، تلفحها بمرطها وتلفعها إذ نادتها المودة، قد عرفناك يا سودة، فأقبلت على شم نشرها وعرفها، ولثم سطرها وحرفها، وقريتها الثناء الحافل، وقرأتها فزينت بها المحافل، ورمت أمر الجواب، فعزني في الخطاب، لكن رسمت هذه الرقعة التي هي لديكم بعجزي واشية، وإليكم مني على استحياء ماشية، وإن رقّ وجهها فما رقت لها حاشية، فمنوا بقبولها على عللها، وانقعوا بماء سماحتكم حرّ غللها، فإنّها وافدة من استقر قلبه عندكم وثوى، وأقر بأنّه يلقط في هذه الصناعة ما يلقى للمساكين من النوى، بقيتم سيدي للفضل والإغضاء، ودمتم غرة في جبين السمحة البيضاء، واقتضيتم السعادة

(1) السيئة: اللبن قبل نزول الدرة.

(2)

ق: أن يستر عني الليل خبرها في هذه المعاني.

(3)

ق: بها.

ص: 421

المتصلة مدة الاقتضاء، بيمن الله سبحانه انتهى.

ومن نثر ابن الجنان رحمه الله تعالى في شرف المصطفى صلى الله عليه وسلم: لمحمد خير الأنام، ولبنة التمام، عليه أفضل الصّلاة والسلام، خيرة المفاخر، يتضاءل لعظمتها المفاخر، والمعالي، يتصاغر لعزّتها المعالي، والمكارم، يعجز عن مساجلتها المكارم، والمناقب، لا تضاهي سناها النجوم الثواقب، والمحامد، لا يبلغ مداها الحامد، والمماجد، لا يتعاطى رتبهن المماجد، والمناسب، سمت بجلالهن المناصب، والعناصر، طيّبها الشرف المتناصر، والفضائل، تفجرت في أرجائهن الفواضل، والشمائل، تأرّجت بعرفهن الجنائب والشمائل، فلا مجاري لسيد البشر، الآتي بالنذارات والبشر، فيما حباه الله تعالى به وخصّه، وقصّه علينا من خلقه العظيم ونصّه، عند رسم مدائحه يوجد المعوّل، وفي الثناء عليه يستقصر الكلام المطوّل، هو الآخر في ديوان الرسالة والأوّل، وله في الفضيلة، وقبول الوسيلة، النص الذي لا يؤوّل، نوره صدع الظلم، وظهوره رفع لدين الله تعالى العلم، بدأه الوحي وهو بحراء، وأسرّ إليه سر تقدم الإسراء، حتى إذا نصب له المعراج، وتوقد في منارة السماء ذاك السراج، ناجى الحبيب حبيبه، وجلا عن وجه الجلاء جلابيبه، فتلقى ما تلقى، لما علا وترقى، ثم صدر عن حضرة القدس، وجبين هدايته يبهر سنا الشمس، فشق لمعجزاته القمر، ونهى بأمر ربّه وأمر، وأزال الجهالة، وأزاح الضلالة، وكسر منصوب الأوثان، ونصر من قال واحد أ؛ د على من قال ثالث ثلاثة أوثان، وبنى الملّة على قواعدها الخمس، وأحيا دين إبراهيم وكان رفاتاً بالرمس، فرفلت الحنيفية البيضاء في بردة الجدّة، وبيضت بيضاء غرتها أوجه الأيام المسودّة، وانتشرت الرحمة بنبيها، ومطرت المرحمة من سحب حيها، وافتنت الآيات الباقيات البينات في مساقها واتساقها، وإشراقها في آفاقها وائتلاقها.

وشهد الحجر والشجر، والماء من بين البنان يتفجر، والظبية والضب، والجذع المشاق الصب، والشاة والبعير، والليث إذ هدأ أو سمع من الزئير

ص: 422

والحي والجماد، والقصعة والزاد، بأن محمداً رسول الملك الحق، والمبلغ عنه بواسطة الملك إلى الخلق، وصاحب اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، والقول المسموع، والذكر المرفوع، والصدر المشروح، والفخر الباهر الوضوح، والأنوار المتناقلة، والآثار المتداولة، والنبوّة التي عهدها تقادم، من قبل خلق آدم، والمزية المعروف قدرها الجليل، المقبول فيها ما دعا به الخليل، والرتبة التي استشرف إليها الكليم، حتى قال له " وكن من الشاكرين " الأعراف: 144 ربّه الكريم، والبشارة التي كان بها يصيح حين يسيح، روح الله تعالى وكلمته عيسى المسيح، والشفاعة التي يرجوها الرسل والأمم، ويقرع بها الباب المرتج المبهم، فما لنبينا المختار، من علوّ المقدار، واصطفاء الجبار، والاختصاص بالأثرة، والاستخلاص للحضرة، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً.

" وحسب هذا الوجود من الفضل الرباني والجود الذي لم يزل عظيماً، أن بعث الله تعالى فيه رسولاً رؤوفاً بالمؤمنين رحيماً، عزيزاً على ربّه الكريم كريماً، بسرّه سجدت الملائكة لآدم تعظيماً، وبذكره بنظم سلك المادح لحضرته العلية تنظيماً، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً صلاة تتصل ما دار كأس محبته على أحبّته فكان مزاجه تسنيماً، وسلاماً ينزل دار دارين فيرسل ببضائعها إلى روضة الرضى نسيماً ".

ومن خطبه المرتجلة قوله سامحه الله تعالى:

" الحمد لله الذي حمده من نعمائه، وشكره على آلائه من آلائه، أحمده حمد عارف بحق سنائه، واقف عند غاية العجز عن إحصاء ثنائه، عاكف على رسم الإقرار بالافتقار إليه والاستغناء به في كل آنائه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتوحّد بعظمته وكبريائه، المتقدس عمّا يقوله الملحدون في أسمائه. وأصلي على سيد ولد آدم ونخبة أنبيائه، محمد المفضل على العالمين باجتبائه

ص: 423

واصطفائه، المنتقى من صميم الصميم وصريح الصريح بجملة (1) آبائه، المرتضى الأمانة والمكانة بإبلاغ أمر الله وأدائه، أرسله الله للناس كافة عموماً لا يتخصص باستثنائه، وفضّله بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة على أمثاله من المرسلين ونظرائه، ورقّاه إلى الدرجات العلا وأنهاه إلى سدرة المنتهى ليلة إسرائه، وحباه بالخصائص التي لا يضاهى بها بهاء كمله وكمال بهائه، وردّاه رداء العصمة فكانت عناية الله تكنفه عن يمينه وشماله وأمامه وورائه (2) ، ووفاه من حظوظ البأس والندى ما شهد بمزيته على الليث والغيث في إبائه وانهمائه، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الهدى ونجوم سمائه، صلاة تتصل ما سمح البدر بائتلاق أنواره والقطر باندفاق أنوائه، وسلّم تسليماً ".

ومن نثره رحمه الله تعالى رسالة كتب بها من الأندلس إلى سيد الكونين صلى الله عليه وسلم، وهي:

السلام العميم الكريم، والرحمة التي لا تبرح ولا تريم، والبركة التي أوّلها الصلاة وآخرها التسليم، على حضرة الرسالة العامة الدعوة والنبوة، المؤيدة بالعصمة والأيد والقوة، ومثابة البر والتقوى فهي لقلوب الطيبين صفاً ومروة، مقام سيد العالمين طرّاً، وهاديهم عبداً وحرّاً، ومنقذهم من أشراك الهلاك وقد طالما ألفوا العيش ضنكاً والدهر مرّاً، ومقر الأنوار المحمدية، والبركات السرمدية، أمتع الله تعالى الإسلام والمسلمين بحراسة أضوائها، وكلاءة ظلالها العلية وأفيائها، وأقر عين عبدها بلثم ثراها، والانخراط في سلك من يراها.

" السلام عليك يا محمد، السلام عليك يا أحمد، السلام عليك يا أبا القاسم، سلام من يمدّ إليك يد الغريق، ويرجو الإنقاذ ببركتك من نكد المضيق، ويتقطع أسفاً ويتنفس صعداً كلّما ازدلف إليك فريق، وعمرت نحوك طريق،

(1) ق: مجد.

(2)

ورداء

ورائه: سقطت من ق.

ص: 424

ولا يفتر صلاة عليك له لسان ولا يجف ريق.

كتبته يا رسول الله وقد رحل المجدون وأقمت، واستقام المستعدون وما استقمت، وبيني وبين لثم ثراك النبوي، ولمح سناك المحمدي، مفاوز لا يفوز بقطعها إلا من طهر دنس ثوبه، بماء توبه، وستر وصم عيبه، بظهر غيبه، فكلّما رمت المتاب رددت، وكلّما يممت الباب صددت، وقد أمرنا الله تعالى بالمجيء إليك، والوفادة عليك، ومن لي بذلك يا رسول الله والآثام تنئي وتبعد، والأيام لا تدني ولا تسعد، وبين جنبي أشواق لا يزال يهزني منها المقيم المقعد، ولئن كنت ممّن خلّفته عيوبه، وأوبقته ذنوبه، ولم يرض للوفادة وهو مدنس، على ذلك المقام وهو المطهر المقدس، فعندي من صدق محبتك، وحبّ صحبتك، والاعتلاق بذمتك، ما يقدمني وإن كنت مبطئاً، ويقربني وإن كنت مخطئاً.

" فاشفع لي يا رسول الله في زيارتك فهي أفضل المنى، وتوسل لي إلى مولىً بيّن فضيلتك، وتقبّل وسيلتك، في النقلة من هناك إلى هنا، واقبلني وإن كنت زائفاً، وأقبل عليّ وإن أصبحت إلى الإثم متجانفاً، فأنت عماد أمتك جميعاً وأشتاتاً، وشفيعهم أحياء وأمواتاً. ومن نأت به الدار، وقعدت بعزمه الأقدار، ثم زار خطّه ولفظه، فقد عظم نصيبه من الخير وحظّه، وإن لم أكن سابقاً فعسى أن أكون مصلّياً، وإن لم أعدّ مقبلاً فلعلي أعد مولياً، ووحقك وهو الحق الأكيد، والقسم الذي يبلغ به المقسم ما يريد، ما وخدت إليك ركاب، إلا وللقلب إثرها التهاب، وللدمع بعدها سحّ وانسكاب، ويا ليتني ممّن يزورك معها ولو على الوجننتين، ويحييك بين ركبها ولو على المقلتين، وما الغنى دونك إلا بؤس وإقلال، ولا الدنيا وإن طالت إلا سجون وأغلال، والله تعالى يمن على كتابي بالوصول والقبول، وعلي بلحاقي ببركتك ولو بعد طول.

ثم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته عليك يا سيد الخلق، وأقربهم من الحق، ولمولاه بإحراز قصب السّبق، ومن طهّر الله تعالى مثواه وقدّسه، وبناه على

ص: 425

التقوى والرضوان وأسسه، وآتاه من كل فضل نبوي أعلاه وأسناه وأنفسه، وعلى ضجيعيك السابقين لمهاجريك وأنصارك، الفائزين بصحبتك العلية وجوارك، وعلى أهل بيتك المطهرين أوائل وأواخر، الشهيرين مناقب ومفاخر، وصحابتك الذين عزروك ووقروك، وآووك ونصروك، وقدموك على الأنفس والأموال والأهل وآثروك، وأقرئك سلاماً تنال بركته من مضى من أمّتك وغبر، ويخص بفضل الله تعالى وجاهك من كتب وسطر، إن شاء الله تعالى.

كتبه عبدك المستمسك بعروتك الوثقى، اللائذ بحرمك الأمنع الأوقى، المتأخر جسماً المتقدم نطقاً، فلان، والسلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ورحمة الله تعالى وبركاته ".

وله من خطبة طويلة: ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الصوفة المجتبى، الكريم أمّاً طاهرة وأبا، المختار من الطيبين مباركاً طيبا، المصطفى نبيّاً إذ كان آدم بين الماء والطين متقلّبا، المتقدم بمقام تأخّر عنه مقام الملائكة المقربين، انتخبه الله وانتجبه، وأظهره على غيب عن غيره حجبه، وشرفه في الملإ الأعلى وأعلى رتبه، وخطّ اسمه على العرش سطراً وكتبه، فهو وسيلة النبيين، والمرشّح أوّلاً لإمامة المرسلين، بعثه ربّه لختم الرسالة، ونعته بنعت الشرف والجلالة، وأيده بالحجّة البالغة والدلالة، وجعله نوراً صادعاً لظلام الضلالة، وأثنى في ذكره الحكيم، على خلقه العظيم، فما عسى أن يبلغ بعد ثناء المثنين، بفضله التصريح وإليه الإشارة، وبه سبقت من إبراهيم الدعوة ومن عيسى البشارة، وعليه راقت من صفة الرؤوف الرحيم الحلية والشارة، وهو المخيّر بين الملك والعبودية فاختار العبودية بعد الاستخارة والاستشارة، فبتواضعه حل بمكان عند ذي العرش مكين أسرى به ربه إليه، ووفد أكرم وفادة عليه، وأدناه قاب قوسين لديه، ووضع إمامة الرسالة العظمى في يديه، وقال له " اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " الحجر: 94 فصدع بأمر الله

ص: 426

صدعاً، وأوتي من المثاني سبعاً، ومن الآيات البينات آلافاً وإن كان أوتي موسى تسعاً.

فما مشي الشجر إليه يجر عروقه إلا كرجوع العصا حية تسعى، وما تفجر الحجر بالماء بأعجب من بنانه نبعت بالعذب الفرات نبعا، فارتوى منه خمسمائة وقد كان يكفي آلافاً فكيف المئين، وكم له عليه الصلاة والسلام من معجزة تبهر، وآية هي من أختها أكبر، رجعت له الشمس وانشقّ القمر، وكلّمه الضب وأخبر به الذئب وسلّم عليه الشجر والحجر، وكان للجذع عند فراقه إعلاناً بوجده واشتياقه أنّة وحنين، أعطي من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر، وكانت له في الغار آيات بيّنات خفي بها على القوم الأثر، وارتج لمولده إيوان كسرى وخمدت نار فارس وكان ضرمها يتسعر، وأتته أخبار السماء فما عمي في الأرض الخبر، فحدث عن الغيوب وما هو على الغيب بضنين، وجعل له القرآن معجزة تتلى، يبلى الزمان وهي لا تبلى، وتعلو كلماتها على الكلم ولا تعلى، وتجلى آياتها في عين آيات الشمس حين تهجلى، فيتوارى منها بالحجاب حاجب وجبين، بهر إعجاز التنزيل العلي، وظهر به صدق النبي العربي، فكم نادى لسان عزّه في النّديّ، بأهل البديهة من الفصحاء والروي: قل فأتوا بسورة من مثله فلم يكونوا لها مستطيعين.

لقد خص نبينا عليه السلام بالآيات الكبر، والدلالات الواضحة الغرر، والمقامات السامية المظهر، والكرامات المخلّدة للمفخر، فهو سيد الملإ النبوي والمعشر، وحامل لوواء الحمد في المحشر، وصاحب المقام المحمود والكوثر، والشفيع المشفّع يوم يقوم الناس لرب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وذريته المباركين، وصحابته الأكرمين، وأزواجه أمهات المؤمنين، صلاةً موصولة تتردد إلى يوم الدين، وتصعد إلى السموات العلا فتكون كتاباً في علّيّين، وسلّم تسليماً.

ومن نثره في خطبة قوله: أيّها الناس، رحمكم الله تعالى، أصيخوا

ص: 427

أسماعكم لمواعظ الأيام، واعتبروا بأحاديثها اعتبار أولي النهى والأحلام، وأحضروا لفهم موادّها أوعى القلوب وأصحّ الأفهام، وانظروا آثارها بأعين المستيقظين ولا تنظروا بأعين النّوام، ولا تخدعنكم هذه الدنيا الدنية بتهاويل الأباطيل وأضغاث الأحلام، ولا تنسينكم خدعها المموّهة وخيالاتها الممثلة ما خلا من مقالاتها في الأنام، فهي دار انتياب النوائب، ومصاب المصائب، وحدوث الحوادث وإلمام الآلام؛ دار صفوها أكدار، وسلمها حرب تدار، وأمنها خوف وحذار، ونظمها تفرق وانتشار، واتصالها انقطاع وانصرام، ووجودها فناء وانعدام، وبناؤها تضعضع وانهدام، ينادي كل يوم بناديها منادي الحمام، فلا قرار بهذه الغرّارة (1) ولا مقام، ولا بقاء لساكنيها ولا دوام.

فبئست الدار داراً لا تدارى، ولا تقيل لعاثرها عثارا، ولا تقبل لمعتذر اعتذارا، ولا تقي من جورها حليفاً ولا جارا، وليس لها من عهد ولا ذمام، كم فتكت بقوم غافلين عنها نيام، كم نازلت بنوازلها من قباب وخيام، كم بدلت من سلامة بداء ومن صحة بسقام، كم رمت أغراض القلوب بمصميات (2) السّهام، كم جردت في البرايا للمنايا من حسام، كم بددت بأكف النائبات الناهبات من عطايا جسام، كم أبادت طوارق حوادثها من شيخ وكهل وغلام. لا تبقي على أحد، ولا ترثي لوالد ولا ولد، ولا تخلد سروراً في خلد، ولا يمتد فيها لآمل أمد، بينا يقال قد وجد، إذ قيل قد فقد. بعداً لها قد طبعت على نكد وكمد، فالفرح فيها ترح، والحبرة عبرة، والضحك والابتسام، بكاء وأدمع سجام. تفرق الأحبة بعد اجتماعهم، وتسكن الوحشة مؤنس رباعهم، وتبيح بالحمام حمى الأعزّة فلا سبيل إلى امتناعهم، وتستحثّ ركائب الخلائق على اختلاف أنواعهم، إلى مصيرهم إلى الله عز وجل وارتجاعهم،

(1) ق: القرارة.

(2)

ق: بمزاياها بمصميات.

ص: 428

فيسيرون طوع الزمام، ويلقون مقادة التذلل والاستسلام، حتى يلجأوا بالرغام، وينزلوا بطون الرجام، ويحلّوا الوهد بعد المقام السام، فلا نناج من خطبها العظيم ولا سليم، يتساوى في حكم المنية الأغر والبهيم، والأعز والمضيم.

ولو أنّه ينجو من ذلك مجد صميم، وجدّ كريم، وحظ عظيم، ومضاء وعزيم، ومزية وتقديم، وحديث في الفضل وقديم، وشرف لسمك السّموات مُسام، وعلىً على ساق العرش المجيد ذو ارتسام، لنجا حبيب الملك العلام، وسيّد السادات الأعلام، وصفوة الصفوة الكرام، وخاتم الأنبياء ولبنة التمام، وصباح الهدى ومصباح الظلام، والأبيض المستسقى به غيث الغمام، ثمال الأرامل وعصمة الأيتام، عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن مع قدره الجليل وفضله الجلي، أقدم الموت على جانبه العلي، وتقدم ملك الموت لقبض روحه القدسي وتغيب في الثرى جمال ذلك الوجه البهي، وتغيض ماء السّماء والندى، لملك السماحة النبويّة والندى، وأصيب المسلمون وأعظم بها مصيبة بنبيّهم العربي، الهاشمي القرشي، فيا له وللإسلام، من مصاب أسلمنا للحزن أيّ إسلام، وأسال مياه الدموع عن احتراق للضلوع واضطرام، وأرانا أن الأسى في رزية لخير البرية واجب وأن التأسي حرام.

وهل يسوغ الصبر الجميل، في فقيد بكنه الملائكة وجبريل، وكثر له في السموات السبع النحيب والعويل انقطع به عن الأرض الوحي الحكيم والتنزيل، وعظمت الرزية به أن يؤدي حقيقتها الوصف (1) والتمثيل، غداة أقفر منه الرّبع المحيل، وأوحش من أنسه السفح والنخيل، وكان من تلك الروح الطاهرة الوداع والرحيل، وقامت البتول تندب أباها بقلب قريح وجفن دام، وتنادت الأمّة مات الرسول ففي كل بيت بكاء وانتحاب ونوح والتزام، وحارت الألباب والعقول فلا صبر هنالك لقد زلّت عن الصبر الأقدام. ولمّا نعيت إليه صلى الله عليه

(1) الوصف: سقطت من ق.

ص: 429

وسلّم نفسه، وآن أن تأفل من تلك المطالع شمسه، آذن آمّته بالفراق وأعلمهم، وناشدهم في أخذ القصاص وكلّمهم، مخافة أن يمضي إلى الملك الحق، وعليه تباعة لأحد من الخلق، وحاشاه عليه الصلاة والسلام، من صفات جائر للأمّة ظلاّم، ولكنّه تعريف من نبي الرحمة بما يجب وإعلام، ثم استمر به صلوات الله وسلامه عليه وتمادى، وزاد به السقم المنتاب وتهادى، حتى واراه ملحده، وخلا منه ربعه ومسجده، فعمّ الحزن والاكتئاب، وتوارى النور فأظلم الجناب، وعاد الأصحاب، وكأنّما دموعهم السحاب، فقالت فاطمة وقد رابها من دفن أبيها الكريم ما راب: أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب فكأن كلامها للقلوب المفجعة كلام، وللعيون المفجرة بالدموع انسفاح وانسجام.

وفي مثل هذا الشهر شهر ربيع، المشيد بذكر الأشجان المذيع، كانت وفاة هذا النبي الهادي الشفيع، وانتقاله إلى الملإ الأعلى والرفيق الرفيع، هحين ناداه ربّه إلى قربه، فلبى بشوق قلبه تلبية المهطع المطيع، وحنّ إلى حضرة القدس فانتظم حين حل بها ما كان من شمله الصديع، وانتظر من صنع الرب جميل الصنيع، وإنجاز وعد الشفيع في الجميع، إذ أعطي لواء الحمد وقام محمود المقام، ووقف على الحوض ينادي: هلموا إليّ أروكم من العطش والأوام.

اللهم اسقنا من حوضه المورود، وشرّفنا بلوائه المعقود، وشفّعه فينا في اليوم المشهود، وارحمنا به إذا صرنا تحت أطباق اللّحود، اللهم اعجعله لنا تعزية من كل مفقود، وأوجد لنا من بركاته أشرف موجود، وجازه عنّا بما أنت أهله من فضل وإحسان وجود، وانفعنا بمحبته ومحبة آله وصحابته الرّكّع السّجود، واجعلنا معهم في الجنّة دار الخلود ودار السلام. واخصصهم عنّا بأكرم تحيّة وأفضل سلام، وصلّ عليهم صلاة تستلم أركان رضوانك أيّ استلام، وتنتظم له كرامات إحسانك أيّ انتظام.

فصلوات الله عليه، وأطيب تحياته ورحمته تتوالى لديه، وأجزل بركاته

ص: 430

ما تجدد في ربيع ذكر وفاته، وتمهد كهف القبول لطالبي فضله وعفاته، وتعزى به كل مصاب في مصيباته، وترجّى شفاعته كل محب فيه متبع لهداياته، وتوفرت للمصلين عليه والمسلمين على جنباته، حظوظ من برّ الله تعالى وأقسام " إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً " الأحزاب: 56 اللهم صلّ عليه من نبي لم يزل بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، اللهم صلّ عليه من نبي أوجبت حبه وعظّمته تعظيماً، اللهم صلّ عليه من نبي صليت عليه تجلة وتكريماً، وأمرتنا بالصلاة عليه إرشاداً وتعليماً، فلنا بأمرك اقتداء وائتمام، وبحمدك على ما هديتنا افتتاح واختتام، وكلامك يا ربّنا أشرف الكلام، ولوجهك وحده البقاء والدوام " كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام " الرحمن: 27 " هو الحيّ لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين، والحمد لله ربّ العالمين " غافر: 65 انتهى.

وترجمة ابن الجنان واسعة جدّاً، وكلامه في النبويات نظماً ونثراً جليل، رحمه الله تعالى.

وقال لسان الدين في الإحاطة بعد أن عرف به وأورد له الرسالة من صورته: ومحاسنه عديدة، وآماده بعيدة، ثم قال: إنّه انتقل إلى بجاية فتوفّي بها في عشر الخمسين وستمائة؛ انتهى.

وقال صاحب عنوان الدراية في حق ابن الجنّان المذكور ما ملخصه (1) : الفقيه الخطيب، الكاتب البارع الأديب، أبو عبد الله ابن الجنان، من أهل الرواية والدراية والحفظ والإتقان، وجودة الخط وحسن الضبط، وهو في الكتابة من نظراء الفاضل أبي المطرف ابن عميرة المخزومي، وكثيراً ما كانا يتراسلان بما يعجز عنه الكثير من الفصحاء، ولا يصل إليه إلا القليل من البلغاء، ونثره ونظمه

(1) عنوان الدراية: 213.

ص: 431

كلّه حسن، ونظمه غزير، وأدبه كثير، ومن ذلك قصيدته الدالية التي مطلعها:

يا حادي الركب قف بالله يا حادي

وارحم صبابة ذي نأي وإبعاد وله أيضاً:

ترك النزاهة عندنا

أدى إلى وصف النزاهه

ما ذاك إلا أنّها

تدعو الوقور إلى الفكاهه

وإذا امرؤ نبذ الوقا

ر فقد تلبّس بالسفاهه

[مخمسات من المدائح النبوية]

ومن بديع نظم ابن الجنان رحمه الله تعالى هذا التخميس في مدح سيد الوجود، صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم (1) :

الله زاد محمداً تكريما

وحباه فضلاً من لدنه عظيما

واختصّه في المرسلين كريما

ذا رأفة بالمؤمنين رحيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما جلّت معاني الهاشميّ المرسل

وتجلّت الأنوار منه لمجتلي

وسما به قدر الفخار المعتلي

فاحتلّ في أفق السّماء مقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) وشرف وكرم: سقطت من ق.

ص: 432

حاز المحامد والممادح أحمد

وزكت مناسبه وطاب المحتد

وتأثلت علياؤه السؤدد

مجداً صميماً حادثاً وقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما شمس الهداية، بدرها الملتاح

قطب الجلالة، نورها الوضّاح

غيث السماحة للندى يرتاح

يروي بكوثره الظماء الهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما تاج النبوّة، خاتم الأنباء

صفو الصريح، خلاصة العلياء

نجل الذبيح، سلالة العلماء

بشرى المسيح، دعاء إبراهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما فخر لآدم قد تقادم عصره

من قبل أن يدريى ويجرى ذكره

سرّ طواه الطين فهّم نشره

معنى السجود لآدم تفهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما لله فضل المصطفى المختار

ما إن له في المكرمات مجاري

ولا مبارٍ باختصاص الباري

بالحقّ قدّم مجده تقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 433

أوصاف سيّدنا النبيّ الهادي

ما نالها أحد من الأمجاد

فالرسل في هدي وفي إرشاد

قد سلّموا لنبيّنا تسليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما آياته بهرت سنا وسناء

وأفادت القمرين منه ضياء

وعلت بأعلام الظهور لواء

فهدى به الله الصراط قويما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما دنت النجوم الزّهر يوم ولادته

ورأت حليمة آيةً لسيادته

وتحدثت سعد بذكر سعادته

فتفاءلوا نعم اليتيم يتيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما لمّا ترعرع جاءه الملكان

بالطست فيها حكمة الرحمن

فاستخرجا القلب العظيم الشان

منه وطهّر ثمّ عاد سليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما كرمت مناشي أحمد خير الورى

وجرى له القلم العليّ بما جرى

ما كان ذلكم حديثاً يفترى

لكنّه الحقّ الجليّ رسوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 434

ما زال برهان النبيّ يلوح

يغدو به الإعجاز ثمّ يروح

حتى أتاه بعد ذاك الروح

يوحي له وحي الإله حكيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما شهدت له بمزية التفضيل

سور وآيات من التّنزيل

وصلاة خالقه أدلّ دليل

فافهمه واسمع قوله تعظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما إنّ الرسول المعتلي المقدار

لمؤيدٌ من ربّه القهّار

بالمعجزات جلت عمى الأبصار

وشفت من ادواء الضلال سقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما كم شاهد لمحمّد بنبوّته

في أيد تأييد الإله وقوّته

فبذاك أعلى الله دعوة حجّته

فمضت حساماً صارماً وعزيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما البدر شقّ له ليظهر صدقه

والشمس قد وقفت تعظّم حقّه

والمزن أرسل إذ توسّل ودقه

فاخضرّ ما قد كان قبل هشيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 435

والماء بين بنانه قد سالا

عذباً معيناً سائغاً سلسالا

كنداه يمنح رفده من سالا

وينيل راجيه النوال جسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما بركاته أربت على التعداد

كم أطعمت من حاضرين وبادي

من قصعة أو حثية من زاد

رزقاً كريماً للجيوسش عميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما سجد البعير له سجود تذلل

وشكا إليه بحرقة وتململ

والشاة قال ذراعها: لا تأكل

منّي فإنّي قد ملئت سموما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما والغصن جاء إليه يمشي مسرعا

والصغر أفصح بالتحيّة مسمعا

والظبية العجماء فيها شفّعا

والضبّ كلّم أحمداً تكليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما والجذع حنّ له حنين الوال

يبدي الذي يخفيه من بلباله

أفلا يحنّ متيّم بجماله

يشتاق وجهاً للنبيّ وسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 436

ما بالنا نسلو وحبّ حبيبنا

يقضي ببثّ غرامنا ونحيبنا

لو صح في الإخلاص عقد قلوبنا

لم ننس عهداً للرسول كريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما أين الدموع نفيضها هتّانا

أين الضلوع نقضّها أشجانا

حتى نقيم على الأسى برهانا

لمتمم إرشادنا تتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما أوليس هادينا إلى سبل الهدى

أوليس منقذنا من اشراك الردى

أوليس أكرم من تعمّم وارتدى

أولم يكن أزكى البريّة خيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ذاك الشفيع مقامه محمود

ولواؤه بيد العلا معقود

فإذا توافت للحساب وفود

قالوا: تقدّم بالأنام زعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما فيقوم بالباب العليّ ويسجد

ويقول: يا مولاي آن الموعد

فيجاب: قل يسمع إليك محمد

ونريك منّا نضرةً ونعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 437

أعظم بعزّ محمّد وبجاهه

أكرم به متوسلاً لإلهه

شربت كرام الرّسل فضل مياهه

فغدت تعظّم حقّه تعظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا سامعي أخباره ومفاخره

ومطالعي آثاره ومآثره

ومؤملي وافي الثواب ووافره

إن شئتم فوزاً بذاك عظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما قلت: وكثيراً ما كنت أنشد هذه القصيدة بالمغرب في مجالس التدريس، وأضيف إليها قبلها أخرى لبعض أهل المغرب الذين لهم في منازل الأمداح النبوية مقيل وتعريس، وهي قصيدة ميلادية كأنّما لم ينظمها مؤلفها إلاّ مقدّمة لهذه القصيدة الفريدة، وهي:

اسمع حديثاً قد تضمّن شرحه

روضاً من الإيناس أينع دوحه

فيه الشفاء لمن تكاثر برحه

وافى ربيع قد تعطّر نفحه أذكى من المسك الفتيق نسيما

شهر حوى بوجود أحمد أسعدا

بالمصطفى بين الشّهور تفرّدا

يا ما أجلّ سنا علاه وأمجدا

لولادة المختار أحمد قد غدا يزهو به فخراً تراه عظيما

يا من بأدمع مقلتيه يغتذي

كم ذا تنادي حسرة: من منقذي

وتقول للزفرات: هل من منفذ

بشرى بشهر فيه مولده الذي سر (1) الزمان علوّه تعظيما

(1) ق: بز.

ص: 438

يا ليلة رفعت بأحمد حجبها

لمّا دنا بعد التباعد قربها

وتطلعت للسعد فينا شهبها

ضاءت لها شرق البلاد وغربها وتأنّقت أرجاؤها تنعيما

أسدى إليك الدهر حسن صنيعه

وحباك من غضّ الجنى ببديعه

وافى هلال محمد بربيعه

فاعتزّ أمر الله عند طلوعه وغدا به دين الإله قويما

نظم الزمان بجيد عمرك درّه

فاشكر مآثره وواصل برّه

وافاك بالسرّ المصون فسرّه

واعرف لهذا الشهر حقّاً قدره فلقد غدا بين الشهور كريما

يا صاح جاءت بالأماني أسعد

وأطلّ بالبشرى الكريمة مولد

هذا ربيع فيه أنجز موعد

شهر كريم جاء فيه محمد صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ثم قلت أنا عند ختم درس " الشفا "، موطّئاً لقصيدة ابن الجنان المذكور ولعذب براعتها مرتشفا، ما نصه والأعمال بالنيات:

انشق أزاهر عن فنون رياض

للعلم واكرع من عذاب حياض

واسق الرياض بذكره الفيّاض

واحفظ كلاماً للإمام عياض قد تممت أقسامه تتميما

لله روض منه أينع دوحه

يجنى به من الكريم ومنحه

فهو الشفاء لمن تكاثر برحه

مسك الختام به تعطر نفحه فشذاه في الأرجاء صار شميما

ص: 439

فاضت علينا من هداه عوارف

زهر وأنوار وظلّ وارف

ونمارق مصفوفة ومطارف

يا حسن ما أبداه فذّ عارف درّاً بأسلاك الحديث نظيما

لم لا وبالملك الشّفيع تشرّفا

خير البريّة ركن أرباب الصفا

من أسعد الراجي وقصداً أسعفا

طه النبيّ الهاشمي المصطفى صلّوا عليه وسلّموا تسليما

وقد رأيت بعد وصولي إلى هذا الموضع من هذا الكتاب أن أذكر قصدية ابن الجنان المذكور في رويّ تلك القصيدة غير مخمسة مستقلة بنفسها، وهي قوله رحمه تعالى:

صلّوا على خير البريّة خيما

وأجلّ من حاز الفخار

صلوا على من شرّفت بوجوده

أرجاء مكّة زمزماً وحطيما

صلوا على أعلى قريش منزلاً

بذراه خيّمت العلا تخييما

صلوا على نور تجلّى صبحه

فجلا ظلاماً للضلال بهيما

صلّوا على هاد أرانا هديه

نهجاً من الدين الحنيف قويما

صلّوا على هذا النبيّ فإنّه

من لم يزل بالمؤمنين رحيما

صلّوا على الزاكي الكريم محمد

ما مثله في المرسلين كريما

ذاك الذي حاز المكارم فاغتدت

قد نظّمت في سلكه تنظيما

من كان أشجع من أسامة في الوغى

ولدى الندى يحكي الحيا تجسيما

طلق المحيّا ذو حياء زانه

وسط النّديّ وزاده تعظيما

حكمت له بالفضل كلّ حكيمة

في الوحي جاء بها الكتاب حكيما

وبدت شواهد صدقه قد قسّمت

بدر الدّجى لقسيمه تقسيما

والشمس قد وقفت له لمّا رأت

وجهاً وسيماً للنبي وسيما

كم آية نطقت تصدّق أحمدا

حتى الجماد أجابه تكليما

ص: 440

والجذع حنّ حنين صبّ مغرم

أضحى للوعات الفراق غريما

جلّت مناقب خاتم الرّسل الذي

بالنّور ختّم والهدى تختيما

وسمت به فوق السماء مراتب

بمقام صدق عزّ فيه مقيما

فله لواء الحمد غير مدافع

وله الشفاعة إذ يكون كليما

نرجوه في يوم الحساب، وإنّما

نرجو لموقفه العظيم عظيما

ما إن لنا إلاّ وسيلة حبّه

وتحية تذكو شذاً وشميما

ولخير ما أهدى امرؤ لنبيّه

أرج الصلاة مع السلام جسيما

يا أيّها الراجون منه شفاعةً

صلّوا عليه وسلّموا تسليما وهذه قصيدة بديعة مخمسة من كلام الشيخ الأستاذ أي العلاء إدريس بن موسى القرطبي (1) في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقف عليها أبو عبد الله ابن الجنان المذكور وقرّظها بما سنذكره بعدها قريباً، وهي:

أهلاً بكم يا أهل هذا النادي

أهل اعتقاد الوعد والميعاد

أهدوا الصلاة إلى النبي الهادي

وصلوا السلام له مع الآياد يندى نسيماً مذكراً تسنيما

هو أول الشفعاء يوم المحشر

وسواه بين تقدّم وتأخّر

بهت الحضور لهول ذاك المحضر

والكلّ في الخطب العميم الأكبر قد هيّمت ألبابهم تهييما

ذاك المقام الأشهر المحمود

هو للنبيّ محمّد موعود

فيه الشفاعة ذخرها موجود

درك المراد وحوضه المورود فضل الكليم به وإبراهيما

(1) هو إدريس بن محمد بن محمد بن موسى الأنصاري القرطبي، مال إلى العربية والآداب وأقرأ ذلك بقرطبة إلى أن تملكها الروم فخرج إلى سبتة وأقرأ هنالك؛ وكانت له مشاركة في النظم والنثر مع غلبة الانقباض عليه والصلاح؛ توفي آخر سنة 647 (التكملة: 197) .

ص: 441

عيسى وموسى والخليل مروّع

من هول مطّلع هنالك يفظع

فيقال أحمد قل فإنك تسمع

فيقوم يحمد ربّه فيشفّع فضلاً من الرب العظيم عظيما

يا أمّة المختار أنتم أمّه

والهول قد عمّ البسيطة يمه

والأنبياء سواه كلّ همّه

تخليص مهجته وليس يهمّه من كان في الدنيا عليه كريما

صلى الإله على الذي صلى عليه

عشراً بواحدة يزكّيها لديه

وأراه في الدارين قرّة ناظريه

يا قاصدين إلى وصولكم إليه راجين من أرج القبول نسيما

لولا وصيّة صاحب التنزيل

أن لا يقال له غلوّ القيل

قول الغلاة لصاحب الإنجيل

لغلوت في التعظيم والتبجيل عظم المكانة يوجب التعظيما

طوبى لقلب قد تلالا إذ صفا

بالسرّ منه قد تثبت إذ هفا

خطّت به آيات حبّ المصطفى

فغدا لصاحبه بذلك مصحفا يهدي إلى نهج النّجاة قويما

فاقت عللا ذكراه إذ راقت حلى

ملأ النبوّة أمهم حين اعتلى

في ليلة الإسراء أعلى معتلى

كتب الإله له التقدم في العلا وعليهم التفويض والتسليما

وكذاك يسلم في الشفاعة كلّهم

ومحلّهم عند الإله محلهم

ظلّ النبيّ محمد هو ظلهم

يمشون تحت لوائه فيدلهم يندى عليهم بهجة ونعيما

ص: 442

أوصافه من كل حسن أبهج

العرف ينفح والسنا يتبلّج

فتأرج الأرجاء منه وتبهج

فاق الزواهر نورها يتوهّج والزهر نفّاح النسيم وسيما

طلق المحيّا منهل للنائل

أنحى على الدنيا بزهد كامل

هو مثّل الدنيا بظلّ زائل

لم ترضه حال النّعيم الحائل ما حاول الترفيه والتنعيما

ما ورّث المختار مال مؤمّل

إلا جواهر في الكتاب المنزل

أشهى لقلب الناظر المتأمّل

وأقرّ إعجاباً لعين المجتلي من كلّ قيمة مقتضٍ تقويما

وفّقت يا من لم يخالف نصّه

حزت الكمال وليس تخشى نقصه

نهج الهدى قول النبيّ اقتصّه

بالوحي شرّفه الإله وخصّه شرفاً على شرف السناء صميما

سبحان موحٍ لا يحدّ له الكلام

من قال ذات كلام خلاق الأنام

خلقٌ فذلك آثم كلّ الأثام

ذاك الذي في الدين ليس له ذمام إلا ذمام لا يزال ذميما

ضلّ الذي يبغي الهدى ممّا سواه

وهوى به في كلّ مهواة هواه

من فارق الفاروق قد تبّت يداه

حيران لم يهد السبيل إلى هداه لا يعرف التحليل والتحريما

بالمدح مجد المصطفى يمّمته

من حلي أوصاف له نظمته

لم أبلغ المعشار إذ أحكمته

بعضاً نسيت وبعضه ألهمته قلّدته جيد الزمان نظيما

ص: 443

لو فزت بالإحسان من حسّان

وسحبت أذيالي على سحبان

أو أيدتني لسن كلّ زمان

من كلّ ذي زعم عظيم الشان ما كنت بالمعشار منه زعيما

إدريس حفّتك الحقوق حفوفا

هلاّ خففت إلى الرسول خفوفا

وقريت بالعزم الهموم ضيوفا

وشدوت أن هال الزمان صروفا مهلاً كفاك معلّمي التعليما

ثقة بفضل الواحد القهّار

ملك الملوك مصرّف الأعصار

جعل النبي مكرم الآثار

وأمدّه بالنصر والأنصار وأتمّ نعمته له تتميما

هل أجلون بصري بكحل سناه

يا سعد من كحلت به عيناه

ظفرت يداه، وساعدته مناه

لله ذاك الأفق ما أسناه كرم المحلّ فيقتضي التكريما

ونصّ تقريظ ابن الجنان على هذه القصيدة هو قوله:

ما زال كلّ حليف

لله أضحى وليّا

وللعلوم خليلاً

وعن سواها خليّا

يصوغ عقيان مدحٍ

للهاشميّ حليّا

ويوجب الحقّ فيه

إيجابه الأوليّا

ويقتفي في رضاه

نهجاً جليلاً جليّا

والكلّ أحظاه حظّ

فالفوز يلفى مليّا

لكنّ إدريس منهم

حاز المكان العليّا ولا يخفاك أنّه التزم في هذه القطعة ما لا يلزم من اللام قبل الياء، رحمه الله تعالى.

ص: 444

ولا بأس أن نورد هنا ما حضر من التخميسات الموافقة لتخميس ابن الجنان المذكور السابق أولاً في البحر والروي والمنحى الذي لا يضل قاصده، وكيف لا وهو مدح (1) الجناب الرفيع العظيم النبوي.

فمن ذلك قول أبي إسحاق إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الإشبيلي، فإن بعضاً ذكر أنّها من قوله لما أظهر الإسلام، وهي لا تقتضي رفع الريبة فيه والاتهام (2) :

جعل المهيمن حبّ أحمد شيمةً

وأتى به في المرسلين كريمةً

فغدا هواه على القلوب تميمةً

وغدا هداه لهديهم تتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما أبدى جبين أبيه شاهد نوره

سجعت به الكهّان قبل ظهوره

كالطير غرّد معرباً بصفيره

عن وجه إصباح يطلّ نسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما أنس الرسالة بعد شدّة نفرةٍ

منجى البرية وهي في يد غمرةٍ

محيي النبوّة والهدى عن فترةٍ

فكأنّما كفل الرشاد يتيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) مدح: سقطت من ق.

(2)

لم أجد هذه المخمسة منسوبة لابن سهل الإسرائيلي إلا في النفح، ولم ترد في ديوانه (ط. صادر 1967) .

ص: 445

الله أوضح فضله فتوضّحا

والله بيّن حبّه في " والضحى "

والجذع حنّ له هوىً فترنّحا

والماء فاض بكفّه تسنيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ريّا الرواية عن علاه زكية

نجواه ربّانية ملكية

أوصافه علويّة فلكية

فإخال شعري عندها تنجيما (1)

صلّوا عليه وسلّموا تسليما احتثّ في السبع الطباق براقه

والأرض واجمة تخاف فراقه

سبحان من أدنى سراه فساقه

شخصاً على ملك الملوك كريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما فاشتمّ ريحان القلوب الطيّبا

ودنا فأسمع يا محمد مرحبا

إنّي جعلتك جار عرشي الأقربا

إن كنت قبلك قد جعلت كليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا ليلة يجري الزمان فتسبق

الحجب فيها والأرائج تفتق

ما كان مسك الليل قبلك يعبق

(1) ق: تفخيماً، وما أثبته أنسب.

ص: 446

بشرى محمد استفاد نسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما حتى إذا اقتعد البراق لينزلا

نادته أسرار السموات العلا

يا راحلاً ودّعته لا عن قلى

ما كان عهدك بالغيوب ذميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صعد النجود وسار في الأغوار

سمك السما طوراً وبطن الغار

متقسّماً في طاعة الجبّار

ما أشرف المقسوم ولاتقسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما الشافع المتوسل المتقبّل

القانت المدّثّر المزّمّل

وافى وظهر الأرض داج ممحل

فجلا البهيم به وأروى الهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما دفعت كرامته الزنوج عن الحرم

ودعاه جبريل المنزه في الحرم

وعزت له آيات نون والقلم

خلقاً به شهد الإله عظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما طاوٍ يفيض الزاد في أصحابه

غيث ولكن كان يستصحى به

طابت ضمائر قلبه وترابه

ص: 447

منه بسرّ لم يكن مكتوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا شوقي الحامي إلى ذاك الحمى

فمتى أقضيه غراماً مغرما

ومتى أعانقه صعيداً مكرما

بضمير كلّ موحّد ملثوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومن ذلك قول بعض الوعاظ، وأظنه من أهل المشرق:

جلّ الذي بعث الرسول رحيما

ليردّ عنّا في المعاد جحيما

وبه نرجّي جنةً ونعيما

أضحى على الباري الكريم كريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ما ضلّ عن وحي الإله وما غوى

حاشا رسول الله ينطق عن هوى

الصادق الثقة الأمين بما روى

قد نال من رب السماء علوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما وافى له الروح الأمين مبشّرا

نادى به يا خير من وطىء الثرى

أجب المهيمن يا محمد كي ترى

ملكاً كريماً في السماء عظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما فأجابه المختار حين دعا به

ص: 448

ربّ السموات العلا لخطابه

ركب البراق وقد أتى لجنابه

أمسى له الروح الأمين نديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما فمتى أرى الحادي يبشّر باللّقا

ويضمّه بان المحصّب والنّقا

وأرى ضريح المصطفى قد أشرقا

مولى حليماً لن يزال رحيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما وأقول للزوّار قد نلت المنى

يهنيكم طيب المسرة والهنا

فاستبشروا من بعد فقرٍ بالغنى

فالله زادكم به تكريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ثمّ الرضى عن آله الكرماء

وكذاك عن أصحابه الخلفاء

فهواهم ديني وعقد ولائي

قوماً تراهم في المعاد نجوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومنها قول بعض فضلاء المغاربة رحمه الله تعالى:

يا أمة الهادي المبارك أحمد

يهنيكم نيل الأماني في غد

بمحمدٍ فزتم ومن كمحمد

إن شئتم أن تدركوا التتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 449

صلّوا على البدر المنير الزاهر

صلّوا على المسك الفتيق العاطر

صلّوا على الغصن البهيّ الناضر

وتنعّموا بصلاتكم تنعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالنبوّة زيّنا

صلّوا على من بالكمال تمكّنا

بمحمّد فزنا بإدراك المنى

فضلاً منحنا حادثاً وقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على البدر المنير اللائح

صلّوا على الهادي الحبيب الناصح

صلّوا على المسك الفتيق الفائح

للرشد فهّمَ والهدى تفهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من مجده قد أسسا

والماء بين بنانه قد بجّسا

وأتت إليه سرحةٌ حتى اكتسى

بفروعها إذ خيمت تخييما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من كان يبصر من قفا

وعليه سلّمت الجنادل والصّفا

والذئب قال صدقت أنت المصطفى

وشكا إليه بازل قد ضيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 450

صلّوا على من قد شفى بالريق

عين الضرير ولدغة الصدّيق

وأعاد طعم الماء مثل رحيق

إذ مجّ فيه العنبر المختوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالملائك جيّشا

وغدت تظلله الغمام إذا مشى

حرست سماء الله لمّا أن نشا

ليكون سرّ حبيبه مكتوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا عليه كلّ حين تربحوا

وبهديه مهما اهتديتم تفلحوا

والأجر يشملكم فجدّوا تنجحوا

وإذا أردتم أن يكون عظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا بجمعكمعلى شمس الهدى

صلّوا على بدر يزين المشهدا

صلّوا عليه به الرشاد تمهّدا

والذكر بيّن فضله تفخيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا بإخلاص على خير البشر

صلّوا على من فاق حسناً واشتهر

ونمت فضائله وشقّ له القمر

ولكم دليل في علاه أقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 451

صلّوا على من قد رأى الرحمانا

بالقلب أو بالعين منه عيانا

عن قاب أو أدنى مقام كانا

فخذ الفوائد كي تفاد علوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا عليه كلّكم لا تسأموا

وتبركوا بصلاته وتنعّموا

فعليه صلّى الأنبياء وسلّموا

شرفاً لهم إذ أمّهم تقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا حاضرين بلغتم كلّ المنى

عن جمعكم من فضله ذهب العنا

وإليكم والله قد وجب الهنا

بمحمدٍ كرّمتم تكريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما قولوا برغم معاندين وحسّد

كي ترغموا أنفاً لكلّ مفنّد

صلى الإله على النبيّ محمد

أبداً وزاد لقدره تعظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا ربّ يا ذا المنّ والإحسان

جد بالرضى والعفو والغفران

للوالدين ومنشد الأوزان

والسّامعين أنلهم تنعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 452

صلى عليه الله ما اجتمع الملا

صلى عليه الله ما قطع الفلا

صلى عليه الله ما انتجع الكلا

أبداً وما رعت السّوام هشيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومن ذلك قول الإمام العالم الشهير الأديب مالك بن المرحل المالقي ثم السبتي، وهي من غرر القصائد، وفيها لزوم ما لا يلزم من ترتيبها على حروف المعجم يجعلها بدأ ورويّاً على اصطلاح المغرب:

ألف: أجلّ الأنبياء نبيء

بضيائه شمس النّهار تضيء

وبه يؤمّل محسن ومسيء

فضلاً من الله العظيم عظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما باء: بدا في أفق مكّة كوكبا

ثمّ اعتلى فجلا سناه الغيهبا

حتى أنار الدهر منه وأخصبا

إذ كان فيض الخير منه عميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما تاء: تبيّنت الهدى لمّا أتى

فنفى الشريك عن القديم وأثبتا

أحديّةً من حاد عنها قد عتا

وتلا كلاماً للكريم كريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ثاء: ثوى في الأرض منه حديث

ص: 453

في كلّ أفق طيبه مبثوث

داع بأنواع الهدى مبعوث

يتلو نجوماً أو يهز نجوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما جيم: جلا بسراجه الوهاج

ما جنّ من ليل الظّلام الداجي

وسقى القلوب بمائه الثجّاج

فأصارها بعد الغموم غميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما حاء: حمى دين الهدى بصفائح

وسما بشمّ كالجبال أراجح

من كلّ أزهر هاشمي واضح

لولا نداه غدا النبات هشيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما خاء: خبت نيران جهل شامخ

آيات علم للرسالة راسخ

من مثبت ماح ومنس ناسخ

قد خص بالذكر الحكيم حكيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما دال: دعا فأجاب كلّ سعيد

وأتى بوعد صادق ووعيد

حتى أقرّ الناس بالتوحيد

وتجنّبوا الإشراك والتجسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 454

ذال: ذباب حسامه مشحوذ

للناكثين، وعهدهم منبوذ

أمّا السعيد فبالنبيّ يلوذ

فيدال من ذلّ الشقاء نعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما راء: روينا عن ذوي الأخبار

أنّ الندى والبأس مع إيثار

بعض صفات المصطفى المختار

كم قد تقدم بالأنام زعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما زاي: زعيم بالنزال عزيز

وبليغ معنى في المقال وجيز

فلقوله من فعله تعزيز

ولربما عاد الكلام كلوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما طاء: طويل السيف متسع الخطا

رحب الذراع ومن يمد لهم سطا

يردي العدا وإذا ارتدى متخمطا

يبري عذاباً إذ ألام أليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ظاء: ظهير للعباد حفيظ

حظ لدى ربّ العباد حظيظ

حقّ له التأبين والتقريظ

ميتاً وحيّاً ظاعناً ومقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 455

كاف: كريم العنصرين مبارك

متفرد بالجاه ليس يشارك

فهو الذي بمقامه يتدارك

والهول يغدو مقعداً ومقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما لام: له عقد اللواء الأحفل

وله الشفاعة في غد إذ تسأل

وإذا دعا فدعاؤه متقبّل

حق الرحيم بأن يرى مرحوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ميم: ملائكة الإله تسلّم

فوجاً عليه إذ بدا وتعظّم

ويمرّ جبريل بها يتقدّم

فيضاعف التعظيم والتّكريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما نون: نبيّ جاءنا بتبيان

وبمعجزات أبرزت لعيان

وبحسبه أن جاء بالقرآن

يشفي قلوباً تشتكي وجسوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صاد: صفيّ للإله ومخلص

ومقرّب ومفضّل ومخصّص

ذهب سبيك وزنه لا ينقص

قد طاب خيماً في الورى وأروما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 456

ضاد: ضمين نصحه ممحوض

ضافي القراءة بالعلوم يفيض

إن غاض ماء البحر ليس يغيض

لمّا استمرّ زلاله تسنيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما عين: عزيز ذكره مرفوع

في الأنبياء وقوله مسموع

مشروح صدر حبّه مشروع

من لا يدين بذاك كان ذميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما غين غزا من زغ عنه ومن طغى

وغدا يشبّ لمن طغى نار الوغى

حتى أقامت من عصا بعد الصغا

وتقوم النار العصا تقويما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما فاء: فواتح سوؤة الأعراف

وبراءة والرعد والأحقاف

أحظته يالأقسام والأوصاف

فمتى توفّي حقّه منظوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما قاف: قوافي النّظم عنه تضيق

أيطيقه الإنسان ليس يطيق

فالخلق في التقصير عنه خليق

ولو أنهم ملأوا الفضاء رقوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 457

سين: سلام كالنفيس تنفّسا

وقد اجتنى ورداً وصافح نرجسا

أهدى إليه في الصباح وفي المسا

بقصائد كادت تكون نسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما شين: شمائله الكريمة تعطش

من كان من سكر المحبّة يرعش

لكن أضاع العمر فيما يوحش

فغدت ندامته عليه نديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما هاء: هو الهادي الذي اقتدح النّهى

فتفكرت في ملك من رفع السّها

وقضى بحدّ للأمور ومنتهى

فأفادها النظر السديد عموما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما واو: وهي ركن التجلد، بل هوى

لمّا ثوى في الترب من بعد التّوى

فحوى الضريح الرحب نجماً ما غوى

أجرى من الدمع السجوم سجوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما لام: لأجلك فاض دمعي جدولا

فاخضرّ آس آساك إذ يبس الكلا

يا خير من كلأ المكارم والعلا

وحمى الحمى ورمى فأعمى الروما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 458

ياء: يحيّيه ويسقيه الحيا

ربّ العباد مجازياً وموفيا

ومشرفاً ومسلماً ومصليا

يا مسلمين ورثتم التسليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ومن ذلك قول الفقيه الكاتب أبي العباس أحمد بن محمد بن العباس المغربي حسبما نقلته من المجلّد الخامس والعشرين من كتاب " منتهى السول في مدح الرسول "(1) للحسن بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن عذرة المغربي الأنصاري رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا بقصده، وهي أيضاً مرتبة على حروف المعجم ما عدا الابتداء وبيوت الانتهاء، غير أن ترتيب حروف المعجم في آخر الأشطار ولم يلتزم صاحبها الابتداء كما فعل مالك بن المرحل، رحمه الله تعالى:

الله زاد المصطفى تعظيما

وقضى له التفضيل والتقديما

وأناله شرفاً لديه جسيما

فهو المتمّم فخره تتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من خصّ بالأنباء

وأبوه ما بين الثرى والماء

ثمّ استمرّ النّور في الآباء

فتوارثوه كريمة وكريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) قد ذكرت في المقدمة نقلا عن رحلة العياشي قول هذا الرحالة إن المقري لم يطلع على كتاب " منتهى السول " وهذا هو المؤلف يذكر إطلاعه على الجزء الخامس والعشرين منه؛ وبما أن الكتاب كثير الأجزاء فكلام العياشي يظل يعني أن المقري لم ير الجزء الذي ذكر فيه مدح النعل النبوية.

ص: 459

صلّوا على بدر بدا من يثرب

فأضاء بالأنوار أقصى المغرب

وجلا عن الدنيا دياجي الغيهب

فبدا لنا نهج الرشاد قويما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالشرائع قد أتى

وأباد أحزاب الطغاة وشتّتا

وأبان أسباب النجاة ووقّتا

للأمّة التحليل والتحريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالغيوب يحدّث

وبروعه الروح المقدس ينفث

محبوبنا وشفيعنا إذ نبعث

في يوم لا يدري الحميم حميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على صبح الهدى المتبلج

صلّوا على بحر الندى المتموج

صلّوا على روض الجمال المبهج

كيما تنالوا الفوز والتنعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على غيث الأنام السافح

صلّوا على المسك الذكيّ النافح

أزرت روائحه بكلّ روائح

فالأرض طبّقها شذاه نسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 460

صلّوا على من عهده لا يفسخ

صلّوا على من شرعه لا ينسخ

صلّوا على من حزبه لا يمسخ

نبأ يُفهّم فضله تفهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من فخره لا ينفد

صلّوا على من فضله لا يجحد

أنّى وكتب الرّسل طرّاً تشهد

تنبي اليهود بفضله والروما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من قد حمى عنا الأذى

ومن الغواية والضلالة أنقذا

صلّوا على من ذكره نعم الغذا

وبمدحه نروي القلوب الهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا بإخلاص على خير البشر

من قبل نشأته المباركة اشتهر

كم كاهن عنه أبان وكم خبر

ولكم دليل في علاه أقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من جلّ مولده وعز

ضاءت قصور الشام لمّا أن برز

وتدانت الشّهب الثواقب كالخرز

أو كاللآلي نظّمت تنظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 461

صلّوا على من يوم مولده سطا

بجميع آلهة الضلالة والخطا

وهوى له عرش اللعين وأسقطا

والفرس هدّم صرحهم تهديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من ليس فظّاً غالظا

لأخيه في الإرضاع كان محاظظا

فاعجب لذلك كيف كان ملاحظا

للعدل فينا مرضعاً وفطيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من شأوه لا يدرك

صلّوا على من شأوه لا يشرك

موسى وعيسى والخليل تبركوا

بلقائه وعنوا له تسليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من خلفه صلى الرسل

شرف على تمكين عزّته يدل

فإذن فقل هو سيد لهم ودل

لا تخش توبيخاً ولا تحشيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من قد سرى نحو السما

ليلاً وعاد وما برحنا نوّما

بالروح والجسم المطهّر قد سما

قله وراغم من أبى ترغيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 462

صلوا على من قد رأى الرحمانا

بالقلب أو بالعين منه عيانا

من قاب أو أدنى مكان كانا

فخذ الفوائد واحذر التجسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالمحبّة خصصا

والقلب منه شقّ حتى خلّصا

من حظ إبليس اللّعين ومحّصا

وأعيد ما إن يشتكي تثليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من بالسيادة قد حضي

وانشقّ إكراماً له البدر المضي

ولكم دليل كالصباح الأبيض

فاسمع وكن بالمعجزات عليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من كلّمته ذراع

وبفضله كفت المئين الصاع

والجذع حنّ له وما الأجذاع

بأرقّ منّا أنفساً وفهوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من مدحه لا يفرغ

ماذا عسى مدّاحه أن يبلغوا

فإلهنا يثني عليه ويبلغ

فاقرأ تجده محكماً تحكيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 463

صلّوا على من كان يبصر بالقفا

وعليه سلّمت الجنادل والصّفا

والذئب قال صدقت أنت المصطفى

وشكا إليه بازل قد ضيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من قد شفى بالريق

عين الضرير ولدغة الصدّيق

وأعاد طعم الماء مثل رحيق

إذ مجّ فيه العنبر المختوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من مجده قد أسسا

والماء بين بنانه قد بجسا

وأتت إليه سرحة حتى اكتسى

بفروعها إذ خيمت تخييما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلوا على من بالملائك جيّشا

وغدت تظلّله الغمام إذا مشى

حرست سماء الله لمّا أن نشا

ليكون سرّ حبيبه مكتوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلّوا على من قد حباه إلهه

بالكوثر المروي لنا أمواهه

في يوم حشر الخلق يظهر جاهه

إذ يقدم الرّسل الكرام زعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 464

صلوا على من خصّ بالحوض الرّوى

وكذاك خصّص بالمقام واللوا

نوحاً وآدم والكليم قد احتوى

وابن البتول حوى وإبراهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلى عليه الله ما قطع الفلا

صلى عليه الله ما اجتمع الملا

صلى عليه الله ما انتجع الكلا

أبداً، وما رعت السوام هشيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما صلى عليه الله ما هطل الحيا

صلى عليه الله ما التمع الضيا

فلقد شفى الدنيا من الداء العيا

ولقد حمى عنّا لظى وجحيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما (1) لله سيدنا النبيّ الأكمل

لله برق جبينه المتهلل

لله جود يمينه المتهطّل

أحيا وأغنى بالنوال عديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) قد انتهت المدحة النبوية بحسب الترتيب الهجائي ولا أدري هل هذه البقية منها أو من قصيدة جديدة.

ص: 465

لله منه ذاته وحقيقته

لله منه خلقه وخليقته

لله منه شرعه وطريقته

فلقد جلت بشموسها التغييما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا أمة الهادي النبيّ المصطفى

بالله لو كنّا نعامل بالوفا

متنا عليه حسرة وتلهّفا

حتى نؤدي حقّه المحتوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ما كان أولادنا بطول نحيينا

ما كان أوجبنا بفرط وجيبنا

أفنستطيع الصبر عن محبوبنا

ما الصبر عن لقياه إلاّ لوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما لم لا نفيض على الدوام دموعنا

لم لا نقضّ من الغرام ضلوعنا

لم لا نخلي أهلنا وربوعنا

حتى نعاين من ذراه رسوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما أولم يكن يحنو علينا مشفقا

أولم يكن متعطفاً مترفقا

أولم يعالجنا بأنواع الرّقى

حتى اغتدى منّا العليل سليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 466

من مثله ما إن يضرّ وينفع

من مثله يدرا العذاب ويدفع

من مثله لذوي الكبائر يشفع

من مثله بالمؤمنين رحيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا ويح نفسي كم أرى ذا صبوة

ومسامعي عن واعظي في نبوة

فعسى الرسول يقيلني من كبوة

فلكم رجاه عاثرٌ فأقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يا رب بالهادي الرفيع المحتد

اغفر لعبدك أحمد بن محمد

فلقد توسل إذ رجاك بسيد

ما ردّ معتلق به محروما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ناشدتكم يا سامعي هذا الثنا

قولوا متى أشمعتموه تديّنا

اغفر لقائله المقصر ما جنى

بمديحه خير الورى المعصوما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما قلت: وإنّي لأسأل الله تعالى بلسان لم أعص به وهو لسان هذا المادح، إذ قال يا رب بالهادي فإنّي أحمد بن محمد بلّغه الله أمله من غفرانه بمنّه وكرمه آمين.

رجع - ومن ذلك قول الفقيه الكاتب الأديب أبي العباس أحمد بن القاسم

ص: 467

الإشبيلي الشهير بابن القصير، وطريقه هذه مخالفة للطريق المتقدّمة من بعض الوجوه، رحم الله تعالى الجميع:

الله أكرم أحمداً تكريما

فغدا رسولاً للعباد كريما

فاشكر غفوراً للذنوب رحيما

أرضى النبي بقوله تعليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما لله منه هدى نبيّ مرتضى

بالبعث منه لنا قضى لطف القضا

ملأت فضائئله المهارق والفضا

ودجا الوجود فعند مبعثه أضا

صلّوا عليه وسلّموا تسليما عجبت لنا منه ملائكة السما

أن كان بالإسراء ليلاً قد سما

ورقى البراق به وجبريل لما

قد سرّه سرّا وجهراً سلما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما أعظم به من مرسل قد بشّرا

بوجوده البشر السعيد ويسّرا

لليسر فهو أجلّ مبعوث يرى

بهداه أمته زهت بين الورى

صلّوا عليه وسلّموا تسليما من جاء بالقرآن معجزة له

أعيا الورى من بعده أو قبله

الله كرّمه وفضّل فضله

ص: 468

وأجلّ منه فرعه وأصله

صلّوا عليه وسلّموا تسليما مَن سبّحت صمّ الحصى في كفّه

والبدر شقّق نصفه عن نصفه

ليرى به إعجاز من لم يصفه

حزنا بمعجز ذكره أو وصفه

صلّوا عليه وسلّموا تسليما يكفيه أن يتلى اسمه ويكرّر

مع اسم خالقه إذا ما يذكر

هذا الذي يمقاله لا يفجر

أبداً ولا لخلافه يتصوّر

صلّوا عليه وسلّموا تسليما العبد أسرف يا نبي الله

في الذنب ساه عن تقاه لاهي

فاشفع له من مذنب أوّاه

يرجو كريماً منك جمّ الجاه

صلّوا عليه وسلّموا تسليما أنأى الزّمان وصوله أو سوله

فاستصحب الأبيات منه رسوله

فأنل بفضلك للمراد حصوله

حسبي ثناً وازنت منه فصوله

صلّوا عليه وسلّموا تسليما ابن القصير أطال فيك نظامه

ليرى لذاك مسلماً إسلامه

وترى مطاوع أمره وكلامه

ص: 469

لا زال يقريك الإله سلامه

صلّوا عليه وسلّموا تسليما وما أحسن قول جمال الدين بن جلال الدين الجوزي رحمه الله تعالى:

فضل النّبيين الرسول محمد

شرفاً يزيد، وزادهم تعظيما

درّ يتيمٌ في الفخار، وإنّما

خير اللآلي ما يكون يتيما

ساد النبيين الكرام وكلّهم

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

والله قد صلى عليه كرامة

صلّوا عليه وسلّموا تسليما [مسدسات في مدح الرسول]

ومن ذلك هذا التسديس البديع الذي هو من نظم الإمام العارف بالله تعالى علاء الدين محمد بن عفيف الدين الايجي الحسني الصفوي الزينبي - رحمه الله تعالى - ممّا رتبه على حروف المعجم والتزم الحرف أول الأشطار الأربعة وآخرها:

الله أحمد أحمداً إذ يبرأ

أوضى وضيء نوره يتلألأ

أنواره كلّ العوالم تملأ

أكوانه لولاه لم تك تنشأ

إن كنتم انقدتم له تسليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

بدرٌ بدا من نوره يتطلب

بحر بحور الجود منه تركب

برّ وبرهان جلا يتقلّب

بالمصطفى ممّن صفا أتقرب

بادر بما يجدي لكم تنعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

تالله مثل محمّد لا يثبت

تم الكمال المنتهى ونبوّة

تاج العلا بالمصطفى يتثبت

تاهت عقول للذي هو ينعت

تحف الصلاة به عليه أديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 470

ثق بالذي يوماً يقوم ويبعث

ثبة البريّة بالنّبي تغوّث

ثبت الشّفاعة للورى يتحدث

ثرة الطوائف للذي يتشبث

ثبت لزام الباب فيه مقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

جاء النّبيّ عوالماً يتبلج

جاه له من جاءه يتبهج

جاه ينجّي من لظى تتوهّج

جاءت له الأشجار أرضاً تفرج

جاور نبيّ الله نللت نعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

حقَاً هو الحقّ المبين (1) الأوضح

حبّ حباه حبّه يترنّح

حسناته حثياته (2) تسترجح

حتى القلوب بحبّه تترجّح

حوت العلوم لذاته تكريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

خير البرايا دينه هو ناسخ

خير له خير الخيور رواسخ

خرّ الذي عن دينه هو بازخ (1)

خال خليّ عن نقائص باذخ

خذ باتباع فعاله ترسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

دلّ الأنام على الإله محمّد

دامت سعادة من بأحمد يسعد

دار له مأوى المحامد تحمد

دان الوجود به ومن هو أحمد

داوم على باب له تخييما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ذكر الحبيب أحقّ ما يتأخّذ

ذخراً ليوم بالنواصي يؤخذ

ذاك الشفيع لمن به يتعوّذ

ذاك الذي بجنابه يستنقذ

ذلوا له ولبابه تغنيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) ق: الحقيق.

(2)

ق: حسناته.

(1)

ق: الحقيق.

ص: 471

رب النبيّ محمد هو يذكر

رتب الحبيب كتابه متذكّر

رائي محيا أحمد هو ينظر

روح القلوب ولاؤه هو ينصر

روّح بذكراه المريح نديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

زين البرايا بالوجود معزّز

زان العوالم حسنه يتفوّز

زن فضله عن كلّهم يتميز

زد ذكره عن زلة يتحرز

زلفى أنله بالمنى تتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

سبق الأنام بفضله هو أنفس

ساد الجميع بسؤدد يترأس

سبحان من أسرى به يتأنّس

سرّ الحبيب بسرّه يتقدّس

سمع الكلام من الإله كليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

شمس الهدى بدر الدجى يتبشش

شرف الحبيب من الوجوه يفتش

شكراً لمولانا عليه وأبهش

شوقي إليه وافر أتعطش

شغل للبك (1) بالحبيب أديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صفة الكلام لذاته هو أخلص

صفة الكتاب كماله يتلخص

صفة القلوب بحبّه تتخلص

صفة صبا صبّ وأنّى يخلص

صل بالصّلاة جنابه تكليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ضفت الفيوض من الحبيب تفيّض

ضعفي إليه آملاً يتعوّض (2)

ضري وضيري كلّه يتفوّض

ضلّ الذي في بابه لا ينهض

ضمن الحبيب لذاكريه زعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) ق: لسانك.

(2)

ق: يتفوض.

ص: 472

طوبى لمن بحبيبه يتنشّط

طابت به أحواله والمنشط

طال اشتياقي طيبة أتبسط

طال الإله علي طولاً يبسط

طوبى بمدحته يطيب نسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ظل الهدى بهداه قد يتحفظ (1)

ظلمات شرك قد جلت تتدلظ (2)

ظلي لظلّ وداده يتحفّظ

ظهري ظهيري حبّه أتحفّظ (3)

ظني به يغدو العقاب عديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

علت المعالي بالنّبي وترفع

عزّ علاه للذي هو يتبع

عمّت عطاياه لكل ينفع

عرش العظيم قد ارتقى يترفع

عرج الإله به إليه عليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

غوث الورى ذا المصطفى هو سابغ

غيث الندى هو في البرايا سائغ

غمر النّدى أقصى النهاية بالغ

غزر الحيا شمس وبدر بازغ

غنماً نما بالمؤمنين رحيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

فخر وذخر بالمفاخر يشرف

فرد وحيد في العوالم أشرف

فتح الوجود وكل كون مردف

فاز الفقير بلطفه يتلطف

فاح النسيم من الحبيب جسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

قسم الإله بعمره فيفوّق

قسمت وجوه الحسن منه فيسبق

قمر وشمس نوره متألّق

قمن بذكراه الدعاء معلق

قطب لدائرة الوجود كريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) ق: يتيقظ.

(2)

تتدلظ: تسرع في مرورها.

(3)

ق: أتحظظ.

ص: 473

كتب الإله ثناءه ما يدرك

كتب اسمه قرب اسمه يتبرك

كلّ الكمال له به يستدرك

كنه الكمالات التي لا تدرك

كيف كفى درّ الثناء يتيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

لمعات نور محمّد هي تخجل

للشمس والبدر المنير فتخمل

لذات ذكر محمّد هي أكمل

لذوي الحوائج لائذ متكفّل

لذ خذ بجد منك تلف حكيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

من مثله في العالمين معظم

من مثله في العالمين مكرّم

من للإله لدى اللّقاء يكلم

منحاً حباه منه قد يتعلّم

منّ الإله لديه صار عميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

نور له في آدم يتبين

نقلاً إلى آبائه يتعين

نأي العوالم إذ أتى متعين

نار المجوس تخمدت تتهوّن

نعماه جمت (1) إذ تعم كريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

وجه به كلّ الوجوه إليه هو

وجه الوجاه بكله يتوجّهوا (2)

ووجاهه وجه المرام فوجّهوا

وجه إليك نبيّنا فتوجّهوا

وجّه إلينا نظرة تكريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

هو مصطفى عند الإله الأوجه

هاد لنا وبوجهه من أوجه

ها إنّه وجهي لهذا أوجه

هيه هنيئاً وجهه بالأوجه

هام الفؤاد بحبّه تتييما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) ق: جلت.

(2)

ق: بوجهه قد أوجهوا.

ص: 474

لا مثل للمختار أعلى من علا

لاجيه ناج قد نجا كل البلى

لاذ الصفيّ به يتوب فأقبلا

لاقى النبي محمد أن يقبلا

لازم محبّاً للحبيب نديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

يا أكرم الخلق الذي هو ملجئي

يأتي محمد العفيفي الذي

يده يمدّ إليك مرتجياً وفي

يقن بصفوته الصفي ويكتفي

يمناً لذكرك يبتدي تختيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما وله أيضاً رضي الله تعالى عنه قصيدة أخرى على طريقة هذه، وقد نظمها بعدها نفع الله تعالى بنيته، وبلّغه غاية قصده وأمنيته، وهي هذه:

أحسن بطلعة أحمد هي أضوأ

أعلن بلمعته العوالم تملأ

أزين به لمّا أتى يتلألأ

أبين بآيات له فتنبأ

الله قدّمه بها تقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

بدأ الإله بنوره فيعقّب

بدء الذي بالمصطفى يتقلّب

فيه لذي الحاجات إذ يتطلب

بدء بذكراه به يستوهب

بل هو إلى الأرب انتفع تعميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

تلت العلامات التي هي تثبت

تبّ العدا تبّاً وعنه تتبت

تمت له الآيات فيك تبكت

توراة موسى ناطقاً هي تنعت

توقيع حاجات صفوا تسليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ثبت الكمال له ومنه يورث

ثبت الورى لو لم تكن لا تحدث

ثبت بذكرى المصطفى يتحنث

ثبت الذي بجنابه يتشبث

ثبت بذكر قد تراه قديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 475

جاء العوالم نوره يتبلّج

جاد العوالم بحره يتموّج

جاز السّموات العلا يتعرج

جاب الجميع بسامه يتفرج

جار له جارى له تنعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

حار العقول لمدحه إذ يمدح

حيا الحياء بريّه يستروح (1)

حي له فضل به يسترجح

حي له حامى حمى فتروّح

حي الحمى الحامي تصير سليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

خلقٌ له كلّ به يتشمّخ

خلق له بالنقص لا يتلطّخ

خلق له أحسن به هو أبذخ

خلق يحقّ له الثّناء الأرسخ

خلقٌ إلهيٌّ بذاك تميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

دار الحبيب أحقّ ما يتعمّد

دارت بها كل السعادة تسعد

دانت أهاليها بما هو يرشد

دار بحسنى طيبة لا تبعد

دارك سكوناً بالسكون مقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ذكر الحبيب محمد هو ينقذ

ذكر لما ينسي رسولاً ينفذ

ذكر الإله ثناؤه ويلذذ

ذكراه تنفع سامعاً يتلذذ

ذيل النبي خذ اعتصم تعظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ربّ الورى سبحانه هو أكبر

ربّ النّبيّ محمّد فيكبر

ربّ الرؤوف حبيبه فيدبر

ربّي اصطفاه من الورى فأكبر

ربّ ارتجاء للمنى تدويما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) ق: يتروح.

ص: 476

زان العوالم إذ أتاها يبرز

زاد الإله عروجه فيبرّز

زادت معاليه عروجاً ينشز

زاد لأخرى حبّه يتحرّز

زعم الشفاعة ذاكريه زعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ساد الجميع إذا أتى هو أنفس

سار السّموات العلا يستأنس

سأل الإله وزاد ما يتنافس

سامي ذراه للمحبّ تؤنس

سارع إلى ذاك الذرا تخييما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

شرف لأمّته به يتفايش

شرق لأشرق شرقه يتفرّش

شرقاً وغرباً فيه عقل يدهش

شوقاً إليه قد إليه أجهش

شكراً على النعمى تزيد نعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صفة له ذات له هو أخلص

صفة عن الشيء الذي يتنقص

صفة له حارت عقول تفحص

صفة شريعته النقائص تخل

صفة له وبربه لتديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ضاع المديح لأحمد يتروّض

ضاع الذي عن ذكره هو يعرض

ضاف حباه كفّه ليفضفض

ضاف بذكراه المنى يتعرّض

ضاعف له الآمال صله مديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

طال العوالم إذ أتى هو يقسط

طابت مدائحه فطاب المغبط

طالت به النعمى وطاب المنشط

طام له بحر الألى يتنشّط

طالب مطالب كلّها تتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ظهر النبي وربّ [أحمد يلحظ]

ظهر لأمّته ظهير ملحظ

ظهروا على الأمم افتخار ملحظ

ظلّ له ظلوا به يتحفّظوا

ظلت الظلال إذا ذكرت نديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 477

عدّ المحاسن للنّبي يستتبع

عدّ له آياته تتنوّع

عدّاه مولاه إليه فيطلع

عد لذكراه غداة يشفع

عد باب من بالمؤمنين رحيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

غزرت له الآيات هنّ نوابغ

غزر الحيا عزّ الورى هو سائغ

غمر الرّدا بحر الندى يترفّغ

غمر البلاد بذكره يستفرغ

غمر بذكراه الفؤاد وسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

فاض الجمال وفاض منه يوسف

فاز المحبّ بذكره لا يوسف

فاضت عليه فيوضه يتزلف

فاشٍ له الآيات لا يتكلّف

فاد له كلّ بهم تقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

قمر بدا من أفقه هو فائق

قمر يجاب بذكره ويعلق

فمقام كلّ الأنبياء وسائق

فمقام جود عمّ كلاًّ يرفق

قم بابه مستنجحاً ومقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

كلاًّ به فتح الوجود ويدرك

كلّ الكمالات احتوى لا يشرك

كلَّ اللسان عن البيان ويمسك

كلىء الذي بجنابه يتمسّك

كل مرتجاك إليه ثق تكريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

لمحمّد هو مصطفى ومؤمل

لمحمّد بن محمد ما يأمل

لمحت عليه بروقه يتحمّل

لمعان نور وداده يستكمل

لم لا أصيب من الحبيب شميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

من مثل ذاك المصطفى يتعظم

من كلّ وجه للكمال ليعظم

منّ علينا من إله أعظم

منه العروج إليه وهو يعظم

من كان للربّ العظيم كليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 478

نور الإله حبيبه يتمكّن

نادى الإله حبيبه يتمكّن

نال نوالاً شرحه لا يمكن

ناد له طوبى لمن يتمكن

نادى الحبيب بذكره تكليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

والله مثل محمد لا يشبه

والله مولاه العوالم كيف هو

وجه الوجود بذاته وبه له

وجه علا وبوجهه فتوجهوا

وجدوا وجاد من النجاة مقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

هو أكمل من كل وجه أوجه

هو ذا الحبيب القلب منه أوجه

[....] فأولى طيبه وأوجه

هول من الأرض المكثر أوجه

هانا بنار الشوق صرت سقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

لا ريب لا مثل له والله لا

لاحت له الآيات عرشاً قد علا

لاقى ارتقاء ربّه فتوصلا

لاج به نال المنى إلى الألا

لازم لباب جنابه تقسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

يا أكرماً كلّ إليه يلتجي

يأتي محمدك العفيفي الذي

يقنا توسّل بالصفي ويحتذي

يده إليك [يمدّ] فقراً ترتجي

يمن افتتاح باسمه تختيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

قلت: وإنّما أثبتّ هاتين القصيدتين في جملة ما سردته، وإن كان فيهما من التكلف ما لا يخفى (1) لأوجه، أحدها: أن صاحبهما من الصالحين يسلم له ويتبرك بكلامه، ومن اعترض على مثله يخشى عليه من تسديد السهام لملامه، الثاني: أنهما مدح للنبي صلى الله عليه وسلم وعليه من الله أزكى صلاته وأتم سلامه، الثالث: أن المراد جمع ما وقفت عليه في البحر والروي والمعنى،

(1) لفظة التكلف هنا قاصرة، إذ هذا النمط من السداسيات خارج على طبيعة اللغة ودلالات اللفظ.

ص: 479

لأن بعضاً من العلماء ذكر لي أنّه لم يطلع في ذلك إلاّ على قصيدة ابن الجنان، فأحببت أن أتعرض لتعريفه بهذا العدد وإعلامه، على أن القصد الأعظم ما هو إلا التلذذ بذكر أمداح المصطفى صلى الله عليه وسلم، خصوصاً المقتبس فيها قوله تعالى {صلّوا عليه وسلّموا تسليما} .

وقد كنت نويت أن أؤلف في ذلك بالخصوص كتاباً أسمّيه روضة التعليم في ذكر الصلاة والتسليم على من خصّه الله تعالى بالإسراء والمعاينة والتكليم والله تعالى المسؤول في التيسير، فلنزد عليه يسير.

ومن ذلك هذا التسديس الذي وجدته في كتاب " درر الدرر "(1) للشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد (2) بن أحمد بن أبي بكر العطار الجزائري من جزائر بني مزغنة، وهي المشهورة الآن بالجزائر:

أنوار أحمد حسنها يتلألأ

المصطفى بحلى الكمال يحلأ

الشمس تخجل وهو منها أضوأ

النّور منه مقسّم ومجزأ

قد زان ذاك النّور إبراهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على المسك الفتيق الأطيب

صلوا على الوِرد المعين الأعذب

صلّوا على نور ثوى في يثرب

صلوا عليه بمشرق وبمغرب

ما زال في الرسل الكرام كريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على زهر الكمال النابت

صلوا على طود البهاء الثابت

صلوا على من فاق نعت الناعت

خير الورى من ناطق أو صامت

وأعزّهم نفساً وأطهر خيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) سيورده باسم " نظم الدرر " بعد قليل.

(2)

بعد عبد

محمد: سقطت من ق.

ص: 480

صلوا على طيب يفوح ويمكث

صلّوا على من عهده لا ينكث

صلوا على من بالهدى يتحدث

عنه المعارف والحقائق تورث

أضحى يعلمنا الهدى تعليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من نوره يتبلج

صلّوا على من عرفه يتأرّج

للحضرة العلياء ليلاً يعرج

صلوا على من حاز مجداً يبهج

وبها على العرش المجيد مقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على البدر المنير اللاّثح

صلوا على صبح الرّشاد الواضح

صلوا على المسك الذكي الفاتح

صلوا على الهادي النبي الناصح

الرشد فهّم والهدى تفهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من شرعه لا ينسخ

صلوا على من عهده لا يفسخ

صلوا على من بالثناء يضمخ

علياؤه عليا الكمال تؤرخ

نال المفاخر والكمال قديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على الهادي لأعذب مورد

صلوا على خير الأنام الأوحد

صلوا على بدر التّمام الأسعد

بمحمّد فزنا، ومن كمحمد

الله عظّم قدره تعظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من بالنّبوّة ينفذ

صلوا عليه فللسّعادة يجبذ

صلوا على من حبّه لا ينبذ

أبصارنا طرّاً با؛ مد لوّذ

في موقف ينسي الحميم حميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على البدر المنير الزاهر

صلوا على الروض البهي الناضر

صلوا على بحر العلوم الزاخر

صلوا على المسك الفتيق العاطر

وتنعّموا بصلاتكم تنعيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

ص: 481

صلوا على نور يلوح ويبرز

صلوا على مسك يفوح ويحرز

بمحمّد حلل الكمال تطرز

ولمجده درر السّيادة تفرز

قد نظّمت لكماله تنظيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من بالبهاء يخطط

صلوا على ورد بمسك يخلط

للمصطفى بسط الكرامة تبسط

وله يواقيت السّناء تقسط

وبنوره أضحى الزمان وسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من بالمهابة يلحظ

صلوا على من بالنبوّة يلحظ (1)

صلوا على من بالهداية يلفظ

لعصاته نار الجحيم تغيظ

ورضاه هبّ لنا وطاب نسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلّوا على من قدره لا يدرك

صلوا على من باسمه يتبرك

صلوا على من حبّه لا يترك

صلوا على من للهدى يتحرّك

وبه تحلى ظاعناً ومقيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على البدر المنير الأكمل

صلوا على الروض البهي الأجمل

صلوا على الهادي النبيّ الأحفل

المصطفى الأرقى لأنزه محفل

فيه تقدّم وحده تقديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على زهر أنيق باسم

صلوا على عرف بذكيّ ناسم

صلوا عليه فهو بدر مواسم

من جوده نلنا بخير مقاسم (2)

أنواره قد تممت تتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) ق: يحفظ.

(2)

ق: صلوا على من للمقاسم قاسم.

ص: 482

صلوا على من بالنّبوّة زيّنا

صلوا على من بالكمال تمكنا

صلوا على هاد أبان وبيّنا

بمحمد فزنا بإدراك المنى

للخلق أرسل رحمةً ورحيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من بالكمال يخصص

صلوا على من نوره لا ينقص

صلوا عليه على الدوام وأخلصوا

ظلّ ضفا بالأمن لا يتقلص

شمل الورى طرّاً وطاب عميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على صبح تبلج بالرضى

وقضى على ليل الضلالة فانقضى

صلوا على من بالنجاة تعرّضا

صبح تذهّب نوره وتفضضا

وعلا وخيّم ضوءه تخييما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على البدر المنير الساطع (1)

صلوا على الروض الأنيق اليانع

صلوا على الصبح المنير اللامع

صلوا على المسك الفتيق الذائع

ووقاه في وهج الهجير مغيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على النّور الأعم السابغ

صلوا على البدر الأتم البازغ

صلوا على المسك الذكيّ البالغ

صلوا على الورد المعين السائغ

للواردين به غدا تتميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من بالتقرب يوصف

صلوا على من بالمحبّة يعرف

صلوا على من بالعلا يتشرف

صلوا عليه به الكمال يزخرف

المجد فخّم ذكره تفخيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على مسك يطيب لناشق

صلوا على الروض الأنيق الرائق

إشراقه بمغارب ومشارق

صلوا على البدر الأتم الفائق

باد تنسّم حسنه تنسيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

(1) ق: الطالع.

ص: 483

صلوا على الدرّ النفيس الأنفس

صلوا عليه فهو روض الأنفُس

صلوا عليه فهو زين المجلس

ومنى الجليس ونزهة المتأنّس

راق النفوس شذاً وطاب شميما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على المختار أفضل من مشى

صلوا على النور الذي قد أدهشا

بمحمد عرف القرنفل قد فشا

ورد لظمآن إليه تعطّشا

يبري الضنى أبداً ويروي الهيما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على الهادي النبيّ الأنزه

بدر التّمام وروضة المتنزه

في فضله كلّ الشهادة تنتهي

أبداً بلثم ثراه فخر الأوجه

في حبه أضحى الغرام غريما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على نور بطيبة قد ثوى

فعلا وفاض على البسيطة واحتوى

صلوا عليه فليس ينطق عن هوى

صلوا عليه فهو ينجي من هوى

في موقف يذر السّليم سليما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على نور تلألأ واعتلى

صلوا على صبح مبين يجتلى

صلوا على مسك يخالط مندلا

صلوا على درٍّ تزان به الحلى

وبه المعالي خيمت تخييما (1)

صلّوا عليه وسلّموا تسليما

صلوا على من نال مجداً عاليا

وسما وحاز مفاخراً ومعاليا

صلوا على نور تبدّى حاليا

وبمدحه الرحمن زين حاليا

وإذا سما المخدوم زان خديما

صلّوا عليه وسلّموا تسليما وقد توارد في بعض هذا التسديس مع بعض بيوت القصيدة السابقة التي أولها:

(1) ق: ختمت تختيماً.

ص: 484

يا أمّة الهادي المبارك أحمد

حسبما يعرفه المتأمّل، والذي في ظني أن صاحب يا أمة الهادي متأخر عن ابن العطار فهو الذي أخذ منه، والله سبحانه أعلم.

وتوارد أيضاً في عدّة أبيات مع تخميس الكاتب أبي العباس ابن جمال الدين المتقدم ذكره وأوّله:

الله زاد محمداً تعظيما

وهما على منوال واحد، غير أن ذلك تخميس وهذا تسديس، وابن جمال الدين أقدم من ابن العطار تاريخاً، فيحتمل أن يكون ألمّ بكلام ابن جمال الدين، أو ذاك من توارد الخاطر.

ورأيت في هذا الكتاب تسديساً آخر لم يرتبه على حروف المعجم، وجعل روي الشطرين الأخيرين حرف اللام، فأحببت ذكره هنا زيادة في التبرك بمدح المصطفى عليه أجلّ الصلاة والسلام، وهو:

نور النّبي المصطفى المختار

أربت محاسنه على الأنوار

مرآه يخجل بهجة الأقمار

نور ينجّي من عذاب النّار

قد زان ذاك النّور إسماعيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلوا على البدر المنير المشرق

صلوا عليه بمغرب وبمشرق

صلوا على غصن الكمال المورق

بالمصطفى المختار برق الأبرق

يهدي غراماً للنفوس دخيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلوا على من قد تناهى فخره

صلوا على من قد تعاظم قدره

صلوا على من قد تأرج نشره

صلوا على من قد تناسق دره

عقد السّناء لمجده إكليلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

ص: 485

صلّوا على خير الأنام المرسل

صلّوا على البدر المعين السلسل

صلّوا على أسنى سنا المتوسل

صلّوا على نور الهدى المسترسل

ظلّ علينا لا يزال ظليلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على النّور الأتمّ الأكبر

صلّوا على من فاق عرف العنبر

صلّوا عليه فهو أصدق مخبر

كم زان ذكر المصطفى من منبر

وأراح من داء الضّلال عليلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على النّور الأتمّ الأنور

صلّوا على من فاق كلّ مبشّر

صلّوا عليه هديتم من معشر

صلّوا على بدر يرى في المحشر

حاز الجمال فلا يزال جميلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على النّور البهيّ المغرب

صلّوا عليه بمشرق وبمغرب

صلّوا على الورد الشهي المشرب

بالفكر يشرب ويح من لم يشرب

منه، وينقع بالورود غليلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على من فخره لا ينكر

صلّوا على من في النجاة يفكّر

صلّوا على من بالنبوّة يذكر

صلّوا على من بالهداية يشكر

شكراً على مرّ الزمان حفيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على من بالسّيادة قد سما

صلّوا على من في الكمال تقسّما

صلّوا على صبح بدا متبسما

صلّوا على طيب سرى وتنسّما

وغدا وراح معطّراً وبليلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على مسك يخالط عنبرا

صلّوا عليه سرى وفاح وما انبرى

صلّوا عليه حوى الكمال الأكبرا

لبس الجمال مطرزاً ومحبرا

وبذاك قد خص الجليل جليلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

ص: 486

صلّوا على من بالنبوّة توّجا

صلّوا على صبح بدا وتبلجا

صلّوا عليه لقد أضاء وأبهجا

ومحا برونق نوره ظلم الدجى

نور يعود الطرف منه كليلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على نور تبلّج لائحا

صلّوا على نور تبرّج واضحا

صلّوا على مسك تأرّج فائحا

وبطيبه ملأ الوجود روائحا

وبحبّه يستوجب التبجيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على من نوره ملأ الفضا

صلّوا عليه لقد أضاء وما انقضى

صلّوا على من خصّ حقّاً بالرضى

لنجاتنا خير الأنام تعرّضا

وهدى إلى نيل الرشاد سبيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على بدر يدوم كماله

باقٍ على مرّ الزمان جماله

صلّوا على من قد تعاظم حاله

ودنا إلى ورد الرضى ترحاله

وإلى الورود به أجدّ رحيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلوا بأجمعكم على شمس الهدى

صلّوا على بدر يزين المشهدا

صلّوا عليه فمن رآه تشهدا

صلّوا عليه به الرشاد تمهدا

أرضى النزيل وبيّن التنزيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على من قد تأثل (1) مجده

فسما به غور الحجاز ونجده

ما زهره لولاه أو ما ورده

بالمصطفى المختار يعذب ورده

في تربه ما أعذب التقبيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على محبوبنا مطلوبنا

صلّوا عليه فهو روض قلوبنا

صلّوا عليه فهو عطر جيوبنا

صلّوا على مطلوبنا محبوبنا

لا نرتضي عن حبّه تبديلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

(1) ق: تأصل.

ص: 487

صلّوا على خير الأنام الأطهر

صلّوا على النور الأتم الأزهر

صلّوا على الصبح المنير الأشهر

صلّوا عليه باتصال الأشهر (1)

الله فضّلنا به تفضيلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا

صلّوا على من قد تناهى في العلا

صلّوا على من كان أكمل أجملا (2)

صلّوا على در تزان به الحلى

المجد ألبسه الكمال مكمّلا

والله كمّل مجده تكميلا

صلّوا عليه بكرةً وأصيلا وأظن أنّي رأيت بعض هذه القصيدة في كتاب العروسي المغربي، وهو متأخر.

[قصائد ومقطعات في مدح الرسول]

ومن قصائد هذا الكتاب قصيدة صرح فيها بابن المغربي، وهي:

أهدت لنا طيب الروائح يثرب

فهبوبها عند التنسم يطرب

رقت فرقّ من الصبابة والأسى

قلب بنيران البعاد يعذّب

شوقاً إلى اسنى نبيّ حبّه

يحلو على مرّ الزمان ويعذب

المصطفى أعلى البرية منصباً

قد جل في العلياء ذاك المنصب

فزنا به بين الأنام بديمة

أبداً علينا بالأماني تسكب

حاز السيادة والكمال محمد

فإليه أشتات المحامد تنسب

محبوبنا ونبيّنا وشفيعنا

يدني إلى ورد الرضى ويقرّب

بضيائه الملتاح أشرق مشرق

وبنوره الوضاح أغرب مغرب

وبه وردنا الأمن عذباً صافياً

وبه ترقى في المعالي يشجب

(1) ق: من نبي أنور.

(2)

ق: صلوا عليه فما أتم وأجملا.

ص: 488

صبح الهدى أنواره بنبيّنا

صبحاً تروق الناظرين وتعجب

إن طابت الأنفاس من زهر الرّبى

ريّاه أذكى في النفوس وأطيب

صيّرت أمداح النبيّ المصطفى

لي مذهباً يا حبّذاك المذهب

فعليّ من أمداح أحمد خلعة

موشيّة ولها طراز مذهب

وبمدحه شمس الرضى طلعت على

أفقي تضيء ونورها لا يغرب

أترى يبشرني البشير بقربه

وأبثّ أشواق الفؤاد وأندب

ويقال لي بشراك قد نلت المنى

يا مغربي إلى متى تتغرب

هذا مقرّ الوحي هذا المصطفى

هذا الذي أنواره لا تحجب

رد ورد طيبة واشف من ألم النوى

قلباً على جمر الأسى يتقلب

كم ذا التواني عن زيارة مورد

عذب المقام به ولذّ المشرب

منّا السلام على النّبيّ محمد

ما أسفرت شمس وأشرق كوكب وقد سمي هذا الكتاب " بنظم الدرر في مدح سيد البشر " والورد العذب المعين في مولد سيّد الخلق أجمعين وليس هو بابن العطار المشرقي (1) الذي كان معاصراً لابن حجّة الحموي، فإن ذلك متأخر عن هذا، وهذا مغربيّ وذاك مشرقي، فلم يتفقا لا في زمان ولا في مكان، سوى اشتراكهما في الشهرة بابن العطار.

ووجدت على ظهر أول ورقة من بعد تسميته السابقة ما صورته: ممّا أنشأه الشيخ الفقيه القاضي العدل الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد ابن أبي بكر بن يوسف العطار، ورواية العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن أحمد ابن الأمين الأقشهري، قرأت هذا الكتاب وقصائده على حروف المعجم وقصيدتين غيرها على ناظمها القاضي المذكور قراءة ضبط وتصحيح ورواية مقابلة

(1) يعني بابن العطار المشرقي، شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الدنيسري، وله في المدائح النبوية " عنوان السعادة " (الدرر الكامنة 1: 287) .

ص: 489

بأصله بموضع الحكم في مدينة الجزائر من أقصى إفريقية - حرست - في دول متفرقة، وآخرها يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذي القعدة أواخر عام سبعة وسبعمائة، ونصّ ما كتب على نص قراءتي عليه: صحيح ذلك، وكتبه محمد بن عبد الله ابن محمّد بن محمد بن العطار، والحمد لله رب العالمين؛ انتهى.

ورأيت أثر ما تقدم بخط الأقشهري ما صورته: سمع من لفظي جميع " نظم الدرر في نسب سيد البشر " لجامعه، القاضي المذكور أعلاه القاضي شمس الدين محمد ابن المرحوم عبد المنعم الشيبي وولده أبو محمد عبد الدائم وابن أخيه أبو محمد عبد الباقي بن تاج الدين بن حفص (1) بن أبي بكر البوري وغيرهم، نحو سماعي قراءة مني على مؤلفه أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر العطّار سنة سبع وسبعمائة، قاله راسمه الأقشهري؛ انتهى.

ومن قصائد هذا الكتاب قوله:

أبداً تشوقك أو تروقك يثرب

فإلى متى يقصيك عنها المغرب

هي جنة في النفس يعذب ذكرها

والقرب منها والتداني أعذب

المسك معترف بأنّ نسيمها

أسمى وأسرى في النفوس وأطيب

والعنبر الورديّ دان لطيبها

منه التعطر والتأرج يطلب

جيش الصبابة شنّ غارات الأسى

من بعدها فالصبر منها ينهب

والشوق يثنينا إليها كلّما

وقف الحمام على الأراكة يخطب

حتى النسيم إذا سرى من ربعها

يثني من الروض الغصون ويطرب

حيّا فأحيا المستهام بطيبه

فنفوسنا بهبوبه تتطيّب

يا حبّذا في ربع طيبة وقفة

بين الركائب والمدامع تسكب

(1) ق: أبي حفص.

ص: 490

حتى يرقّ للوعتي وصبابتي

ودموع عيني كلّ من يتغرب

شوقاً لمن زان الوجود، وحبه

يدني إلى ربّ الرضى ويقرّب

ساد الأنام المصطفى بكماله

فإليه أجناس السيادة تنسب

بالنّور زان حلىً علا آياته

وبحسن ذاك النور أعرب معرب

الشمس يغرب نورها وضياؤها

أبداً ونرو المصطفى لا يغرب

الله أرسله إلينا رحمة

فبجاهه عنّا الرضى لا يحجب

بمحمّد فزنا فإدراك المنى

فالوقت طاب لنا وطاب المشرب

خير الورى محبوبنا ونبيّنا

حزنا به الجاه الذي لا يسلب

روض النفوس محمد ونعيمها

وبه يفضض حليها ويذهّب

شرف تقادم قبل آدم عهده

للنّور أطناب عليه تطنّب

منّا عليه مدى الزمان تحية

يثني عليها المندليّ ويطنب ومنها قوله رحمه الله تعالى:

طلعت، وقارنها البهاء، بدور

أبداً على قطب السعود تدور

من نور أحمد يستمدّ ضياؤها

وبهاؤها، يا حبذاك النّور

ويزيد ذاك النّور حسناً فائقاً

يوم القيامة والنام حضور

محبوبنا أسمى البريّة منصباً

يوم النّشور لواؤه منشور

فزنا بخير العالمين محمد

وجرى بوفق مرادنا المقدور

لاحت لنا أنواره فزماننا

نور، وأنس دائم وسرور

بالمصطفى المختار قابلنا الرضى

بين الأنام فسعينا مشكور

الله فضّله على كلّ الورى

فهو الحبيب، وفضله مشهور

القرب خصّصه وعظّم قدره

فسما ببهجة نوره ناحور

خير النبيّين الكرام نبيّنا

بالنور في العرش اسمه مسطور

ص: 491

يا صاحبيّ نداء صبّ مغرم

قلبي بحبّ المصطفى معمور

عوجا عليّ بوقفة وبعطفة

إنّي على ألم الفراق صبور

إن لم أزر بالجسم قبر المصطفى

فالقلب من بعد المزار يزور

نيران قلبي بالبعاد توقّدت

ومدامعي خدّي بها ممطور

فمن الفراق الحتم نيران لها

لهب، ومن فيض الدموع بحور

فمتى أفوز بوقفة في طيبة

والقلب مني فارح مسرور

ويقال لي إنزل بأكرم منزل

وابشر فأنت على النوى منصور

إن جاد دهري بالوصول لطيبة

بعد المطال فذنبه مغفور

هي جنّة من حلّها نال المنى

وسما وساد وصافحتح الحور

حتى النسيم إذا سرى من نحوها

يصبو إليه المسك والكافور ومنها قوله رحمه الله تعالى:

أمّا النّسيم فقد حيّاك عاطره

وبارق المنّحنى أحياك ماطره

خاطر بروحك في نيل الوصال (1) فكم

من نازح نال طيب الوصل خاطره

زهر الرّبى باسم تندى كمائمه

رقّ النّسيم بها إذ راق ناظره

ما حلّ روض المنى الغض الجنى دنف

فاستضحكت فيه من عجب أزاهره

والنهر أبرز للبدر الأتم حلىً

والبدر طرز ماء النهر زاهره

والغصن تلعب أنفاس الرياح به

والطلّ قد نثرت منه جواهره

والليل قد رقمت بالشّهب حلته

والبرق يبسم في الظلماء ساهره

والنور محض جنىً فوق الندى درر

وعقدها زيّن الأغصان دائره

وملبس الروض قد زانته خضرته

والليل بالفجر قد شابت غدائره

والصبح سلّ على جيش الظلام ظبىً

وعندما سلّها ولّت عساكره

(1) ق: الوصول.

ص: 492

للزهر سرّ وعرف الروض فاضحه

والمسك إن فضّ لا تخفى سرائره

هل زار طيبة ذاك العرف حين سرى

فتربها أبداً مسك يخامره

طابت بطيب رسول الله فهي به

سمت وراقت بمن فاقت مفاخره

به معدّ تسامى للعلا، وبه

حاز المكارم واعتزت عشائره

أسنى النبيّين قدراً نوره أبداً

يزيد حسناً على الأقمار باهره

وأفضل الخلق من عرب ومن عجم

أربت على الرمل أضعافاً مآثره

إن كان للرّسل عقد وهو آخرهم

نظماً فقد زان عقد الرّسل آخره

روض من الحلم غضّ راق منظره

بحر من العلم عذب فاض زاخره

إن جاد صاح بلقياه الزمان فمل

إلى مقام حبيب أنت زائره

وصف له حال صبّ مغرم دنف

رام الدنوّ فأقصته جرائره

واذكر هناك بعيد الدار غرّبه

غرب فما غائب من أنت ذاكره

أهدى الّلام بلا حدّ ولا أمد

إلى محلّ رسول الله عامره ومنها قوله رحمه الله تعالى:

أمنزلنا جادت ثراك السحائب

وإلا فجادته الدموع السواكب

ووشّاك وسميّ الغمام بدرّه

وحلّى محلاً حلّ فيه الحبائب

وحيّا نسيم الريح بالجزع آنساً

فما عاب ذاك الأنس بالجزع عائب

فيا عهدنا بالخيف هل أنت عائد

ويا أنسنا بالجزع هل أنت آيب

وهل راجع عصر الشباب الذي انقضى

وقد شيبت سود الشعور الشوائب

وهيهات أن يقضى لنا برجوعه

كما كان غصناً مورقاً وهو ذاهب

وقد سلب الدهر المفرق أنسنا

وأودى به والدهر للأنس سالب

فما وهب الإيناس إلا مغالطاً

وأي بخيل للنفائس واهب

أطالب أيام العقيق بعودة

وقد عزّ مطلوبٌ له أنا طالب

فيا صاحبي كن مسعدي في صبابتي

وإلا فما أنت الصديق المصاحب

ص: 493

إذا ما بدا برق الحجاز فأدمعي

تفيض إلى الورّاد منها المشارب

أعاتب أيام البعاد، وقلّما

يبرّد حرّ الشوق بالعتب عاتب

وأبخل بالصبر الجميل، وإنّه

لينهبه من وارد البين ناهب

ولمّا بدت أعلام طيبة قصّرت

من الشوق ما قد طولته السباسب

وقفنا وسلمنا وفاضت دموعنا

وحنّت إلى ذاك الجناب الركائب

نزلنا وقبّلنا من الشوق تربها

وطابت بذاك الترب منّا الترائب

فللعين من تلك المعاهد نزهة

وللقلب في تلك الرسوم مآرب

حوت سيد الرسل الذي جلّ قدره

له في مقام القرب تقضى المطالب

به غالب حاز المفاخر سالفاً

ولا شرف إلا الذي حاز غالب

بهادي الورى طرّاً مناصبه سمت

وراقت بخير الرسل تلك المناصب

محمد الهادي بإشراق نوره

تمزق من ليل الضلال غياهب

ترقّى إلى السبع الطباق وما بدا

له في ترقّيه من الحجب حاجب

وخاطبه في حضرة القدس ربّه

وأدناه في حال الخطاب المخاطب

نبيّ بدت أنواره وتلألأت

فمنها تضيء النيرات الثواقب

لقد أشرقت شمس النهار بنوره

وبدر الدجى لمّا بدا والكواكب

أعلّل قلبي بالوصول لقبره

وإن غبت ما قلبي وحقّك غائب

وإنّي أناديه وإن كنت نازحاً

نداء غريب غرّبته المغارب

إذا كنت لي يا سيد الرسل شافعاً

فما أنا من نيل السعادة خائب

بمدحك يا من جلّ قدراً وحظوة

وجاهاً وتمكيناً تنال المواهب

فيا معشر الأحباب إنّ نبيّنا

إلى فوزنا داع وساع وخاطب

ألا فاذكروه كلّ حين وسلّموا

عليه، بذاك الذكر تسم المراتب

وقوموا على أقدامكم عند ذكره

فذلك في شرع المحبّة واجب

ص: 494

ومنها قوله رحمه الله تعالى:

شمس الهدى وضحت بأشرف مرسل

ودحت دجى ليل الضلال المسبل

من وجه عبد الله كان ظهورها

للخلق طرّاً في ربيع الأول

خلعت على الآفاق أشرف ملبس

وبدت فأيّ دجنّة لم تنجل

فالنيّران المشرقان كلاهما

للمصطفى اعترفا بعجز مجمل

فالشمس لمّا أن بدت أنواره

أومت إليه بالسّلام الأحفل

والبدر قابله بحسن كامل

فانشقّ للبدر الأتمّ الأكمل

ولليلة الإسراء أجمل منظر

بجمال إسراء الحبيب الأجمل

فضلت على الأيام من شرف لما

حازته من شرف النبيّ الأفضل

وبدا بها نور النّبيّ المصطفى

وبدت لنا نار الكليم المصطلي

إذ جاءه الروح الأمين مسلّماً

ومبشّراً بورود أعذب منهل

فسرى إلى أسنى محلّ وارتقى

والجفن منه بنومه لم يكحل

رفعت له حجب الجلال بأسرها

فرأى جلالاً لم يكن بممثّل

حتى انتهى الروح الأمين لحده

وبحيث يذهل عقل من لم يذهل

ناداه لمّا أن ترقّى وحده:

لك يا محمد ذا التقرب ليس لي

ارقا إلى الأفق المبين مشاهداً

واترك حظوظك بالحضيض الأسفل

واسعد بزورة من تعاظم ملكه

واصعد إلى عرش الحبيب الأول

فسما فشاهد حضرة القدس التي

سبحاتها تغشى حجى المتأمّل

وبدا الكمال له ونودي مقبلاً:

أهلاً وسهلاً بالحبيب المقبل

أنت المراد لسرنا ولوحينا

أقبل إلينا يا محمد تقبل

والبس بحضرة قدسنا خلع الرضى

منّا وجرّ الذيل منها وارفل

ولك الوسيلة يا محمد عندنا

وبها نجيب وسيلة المتوسل

فاحكم بما يوحى إليك من الهدى

وانزل بأنوار الكتاب المنزّل

ص: 495

فيه شفاء للصدور فبرؤها

بمفصّل منه وغير مفصّل

يا نفس هل تشفيك زورة طيبة

فرسومها برء لكلّ مقبّل

ولّى زمانك في التصابي والمنى

فدعي التصابي والأماني وارحلي

يا قلب، روعات الجوى هل تنقضي

عني ولوعات الجوى هل تنجلي

وأزور قبر الهاشمي محمد

قبل الرحيل وقبل عذل العذّل

إنّي وإن بخل الزّمان بقربه

فبلوعتين وبدمعتي لم أبخل

أسقي الثرى تسكابها، فمعينها

يهمي، ونار صبابتي ما تأتلي

لهفي على بعد المزار متى أرى

يقضي الزمان بقرب ذاك المنزل

ومتى أبشّر بالمنى، ويقال لي:

هذا مقرّ الوحي دونك فانزل

وتهبّ تلقائي نواسم طيبة

إنّي أجود بها إليك وحقّ لي

فلقد بليت بلوعة وبدمعة

وهبوبك الأزكى شفاء المبتلي

خيلت قربك برء داء صبابتي

ضن البعاد به فطال تخيّلي

شوقاً إلى خير الأنام بأسرهم

سؤلي وأسنى مقصدي ومؤملي

فبه أنا متوسّل في مقصدي

أسنى التوسل بالرسول المرسل

وبجاهه عند الأنام مآربي

ووسائلي تقضى وإن لم أسأل

وبه الأماني قد حللن بساحتي

وحوادث الحدثان صرن بمعزل

بشراك نفسي فالأماني أعجلت

نحوي تبشّرني بخير معجّل

بمديحه أضحى الزّمان مسالمي

تندى أسرّة وجهه المتهلّل

فبه إلهي قد رجوتك راغباً

دون الأنام فباب جودك موئلي

وإليك ربّي رغبتي وتوسّلي

وعليك في كلّ الأمور توكّلي وثبت في آخر هذا الكتاب ما صورته: قال محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن يوسف بن العطار نفعه الله تعالى بالعلم: كان الفرغ من إكمال هذا الفصل وإتمامه، حسب نثره ونظامه، ضحوة يوم الجمعة الثاني من

ص: 496

شعبان المكرم سنة ست وتسعين وستمائة، ما عدا أربع قصائد اشتمل عليها، فإنّها تقدمت على إنشائه، أودعتها فيه، والله سبحانه المستعان، وذلك بمدينة الجزائر - جزائر بني مزغنة - من أقصى إفريقية من أرض متيجة، صانها الله تعالى؛ انتهى.

وثبت في آخره بخط بعض الأكابر ما نصّه: تأليف الفقيه العالم الأديب البارع أبي عبد الله محمد بن العطار الجزائري؛ انتهى.

وهو كتاب نفيس جمع فيه بين حسن النظم والنثر، فالله تعالى يجازي صاحبه أفضل الجزاء، بمنّه وكرمه.

ولا بأس أن نورد هنا من كلام أهل الأندلس بعض الأمداح النبوية زيادة على ما ذكر هنا فنقول: قال العارف بالله تعالى ابن العريف في كتاب " مطالع الأنوار ومنابع الأسرار ":

وحقّك يا محمّد إنّ قلبي

يحبك قربة نحو الإله

جرت أمواه حبك في فؤادي

فهام القلب في طيب المياه

فصرت أرى الأمور بعين حقّ

وكنت أرى الأمور بعين ساهي

إذ شغف الفؤاد به وداداً

فهل ينهاه عن ذكراه ناهي

يهيم بذكره ويحنّ شوقاً

حنين المستهام إلى الملاهي

يخامره ارتياح منه حتى

يقول أولو الجهالة: ذاك لاهي

وما هو حقّ فضل قد رآه

فصار يجدّ في طلب الملاهي

فسوف ينال في الدنيا سروراً

وفي الدار الأخيرة كلّ جاه

ويعطى ما تمنى من أمان

كما قد حبّ محبوب الإله وقال أيضاً رحمه الله تعالى:

يا عاذلي في طلابي

دعني من العذل دعني

سأعمل العيس شوقاً

بالعزم دون التأنّي

ص: 497

إلى ضريح رسول

مصدّق حسن ظني

أشدو على كلّ فجّ

حين الحمام يغني

يا أطهر الخلق إنّي

بذلّتي عبد قنّ

فأعتق اليوم رقّي

وانظر بعطفك منّي

فأنت أنت ملاذي

إيّاك إيّاك أعني

إن غبت عن عين جسمي

ما غبت عن عين ذهني

لولاك كنّا أناساً

أشرّ من كلّ جنّ

فإذ بعثت رسولاً

فخير فضل ومنّ

لله خالص شكري

عساه يصفح عني

فإنّني عبد سوء

قلبت ظهر المجنّ وقال في خاتمة ذلك الكتاب (1) :

صلى الإله على النبيّ الهادي

ما لاذت الأرواح بالأجساد

صلّى عليه الله ما اسودّ الدجى

فكسا محيّا الأفق برد حداد

صلّى عليه الله ما انبلج السنا

فابيضّ وجه الأرض بعد سواد

صلّى عليه الله ما همع الحيا

فسقى البلاد برائح أو غادي

صلى عليه الله ما هفت الصّبا

وشدا على فنن الأراكة شادي

صلى عليه الله ما ألف الكرى

جفن فخامره لذيذ رقاد

صلى على المختار أحمد ربّه

ما استمسكت نار بطيّ زناد

صلى على خير الأنام محمدٍ

من خصّه بالنور والإرشاد

صلى الإله على رسول حاشر

حشر الأنام لديه في الميعاد

صلى الإله على رسول عاقب

في الدهر وهو بفضله كالهادي

(1) ق: وقوله رحمه الله تعالى

الباب.

ص: 498

صلى الإله على رسول خاتم

ختم النبوّة بالكتاب الهادي

صلى الإله على المقفّى ما اقتفى

بشر نبوّته بغير عناد

صلى على ما حي الضلال إلهه

ما غردت طير على الأعواد

صلى الإله على رسول فاتح

فتح الظلام بنوره الوقّاد

صلى الإله على نبيّ راحم

بالملّة الغرّاء، بعد فساد

صلى الإله على نبي طالع

رحم الإله به من الإبعاد

صلى الإله على نبيّ طالع

بملاحم قصمت فؤاد العادي

صلى عليه الله فهو نبيّه

ناداه بالإرشاد خير مناد

صلى عليه الله فهو رسوله

أعطاه راية عزمة ورشاد

صلى عليه الله فهو خليله

أسدى إليه منه كلّ سداد

صلى عليه الله فهو صفيّه

صفّى سريرته من الأحقاد

صلى عليه الله فهو وليّه

والاه في الإصدار والإيراد

صلى عليه الله فهو المصطفى

من كل حضّار العباد وبادي

صلى عليه الله فهو المجتبى

يجبى إليه الخير دون نفاد

صلى عليه الله فهو المنتقى

نور الزمان وواحد الآحاد

صلى عليه من براه مطهّراً

واختاره طوداً من الأطواد

صلى عليه من براه بفضله

وأعاده حيّاً لغير معاد

صلى عليه من أراه جلاله

وأناله من ذاك كلّ مراد

صلى عليه من أحلّ فؤاده

في ظلّ عرش ثابت الأوتاد

صلى عليه من غذاه بنعمة

فتضاعفت كتضاعف الأعداد

صلى عليه من كساه عوارفاً

واختصه منه بخير أياد وقال الشيخ أبو عبد الله ابن عمران مادحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم

ص: 499

مرتباً على حروف المعجم باصطلاح أهل المغرب، كما تقدم:

ألف: أيا خير البريّة هذي

مدحي، وما أنا في مقالي هاذي

باء: بها أظهرت صدق محبتي

وبذلك الجاه الكريم لياذي

تاء: تخذت وسيلة ما حكته

وجعلته يوم المعاد عياذي

ثاء: ثنائي ليس يحصر فضلك ال

زاهي ولا يحويه باستحواذ

جيم: جلالك جلّ طور فخاره

عن شبه مثل أو لحاق محاذي

حاء: حبيت بمعجزات ذكرها

يولي ذوي الإيمان كلّ لذاذ

خاء: خصصت بها بفضل عناية

منها لجأت إلى أجلّ ملاذ

دال: دحضت بحقّها مستقرياً

إبطال زور مشعوذ ملاّذ

ذال: ذراع الشاة أفصح مخبراً

عمّا يحاذر ضره بنفاذ

راء: رميت عصائباً قد ألّبوا

فعموا ولمّا ينصروا بلواذ

زاي: زعيم بالوجاهة أنت إذ

كلّ بجاهك عاذ كلّ عياذ

طاء: طلابهم لديك شفاعة

فيها بذذت الجمع أيّ بذاذ

ظاء: ظماؤهم بحوضك سوّغوا

ريّاً كأنّ به مذاقة ماذي

كاف: كفك بما تلته والضحى

لجماعة الجارين باستنقاذ

لام: لدعوتك المجابة أسبلت

ثروات هتّان الحيا بهماذ

ميم: معين يديك إذ غلب الظّما

أروى الورى من توأم وفذاذ

نون: نجارك أصله متخيّر

من بطن ذات علا وأطهر حاذي

صاد: صعدت ذرا لموقف زلفة

ترك السعود مقطّع الأفلاذ

ضاد: ضويت إلى جلال كافل

لك بالرضى درّ الجلالة غاذ

عين: علا ذكر افتخارك وارتقى

عن غمز مغتاب وزور الباذي

غين: غمام قد علاك مظلّلاً

يمشي بمشيك دائماً ويحاذي

ص: 500

فاء: فصاحتك البليغة أعجزت

للقوم من قربى ومن شذّاذ

قاف: قواعد صرح كسرى زلزلت

لولادة أوهت قوى ابن قباذ

سين: سبقت بكل فضل يغتدي

جفن المعالي منه ليس بقاذ

شين: شأوت مفاخراً كل الورى

وتركتهم غرقى بلجّة آذي

هاء: هتفت على تنائي شقّتي

بعلاك هذي، وما نحلتك هذي

او: ولو أني استطعت لسابقت

قلمي خطا قدميّ بالإغذاذ

لا: لا أكيّف قدر شوق باعث

لعزائمي مستنهض شحّاذ

ياء: يميناً لو قدرت إذن لما

أخّرت سعي مبادر حذحاذ

دامت عليك صلاة ربك ما همت

ديم بوبل هاطل ورذاذ رجع إلى الكاتب أبي عبد الله ابن الجنان الأندلسي:

قال - تقبل الله تعالى منه - يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:

يا من تقدّس عن أن

يحيط وصف بذاته

ومن تعالى جلالاً

عن مشبه في صفاته

ومن قبول ثنائي

إليه أسنى هباته

صلى على من تبدّى

نور الهدى من سماته

ومن علا الفخر لمّا

نمى إلى معلواته

محمد خير هاد

بحلمه وأناته

محمد خير داع

بالصدق من كلماته

محمّد خير مبدٍ

لنا سنا معجزاته

أكرم به من نبيّ

همت سما مكرماته

أعزز به من رسول

سمت علا درجاته

وخصّه الله منه

بالفضل من تكرماته

ص: 501

لمّا حباه بأوفى

صلاته في صلاته وقال:

يا ربّ بلّغ سلامي

لأحمد ذي الشّفاعه

لخاتم الرّسل أعني

إمام تلك الجماعه

لأبهر الخلق مجداً

يحكي الصباح نصاعه

لمن صفات علاه

تعجز أهل البراعه

لسيّد لسناه

يزهى السنا واليراعه

لمرشد بهداه

قد فاز عبد أطاعه

شمس النبوّة معط

شمس السماء شعاعه

وناظم الحسن نظماً

قد ضمّ منه شعاعه

وسرّ سرك يا من

أرى العيون اطّلاعه

ومن حبا بذكاء

خلاله وطباعه

ومدّ في كلّ فضل

لصفوة الرسل باعه

فزده يا ربّ فخراً

وزد محبّيه طاعه وقال أيضاً غيره:

لقد رفع الإله عن البرايا

ببعث محمّد محن الصروف

أتى والناس في الآفاق نهب

لسمر الخطّ أو بيض السيوف

فأنقذهم، ولولاه لكانوا

لقىً بين الضلالة والحتوف

نبيّ لا يغلّ عليه إلاّ

سخيف العقل ذو رأي مؤوف

كأغمار اليهود أو النصارى

أو الفلكيّ أو كالفيلسوف

فبعض للتجاهل والتعامي

وبعض للتحيّر والوقوف

زعانف لا يهلك لها رواء

فإنّ الجهل مائحة الظروف

ص: 502

إذا جارى بمختلّ ضعيف

فإنّ صحاحنا فوق الألوف

فبرهان النبوّة مستفيض

ندلّ به على رغم الأنوف

شفوف الرّسل متضح ولكن

لأحمد الشفوف على الشفوف

حروف الخطّ أصل للمعاني

وللألف التقدّم للحروف وما أحسن قول القائل رحمه الله تعالى:

لولا النبيّ محمد

هلك الورى في سوء (1) حاله

أعلى الورى قدراً وأك

رمهم وأظهرهم دلاله

ختم الإله به النب

وّة والطهارة والرساله

واختصّه دون البر

يّة بالمكانة والجلاله

بدر الرسالة والصحا

بة حول ذاك البدر هاله

قذف الحصى في أعين ال

كفّار فاعتنقوا الجداله

وتدرعوا ثوب الكآ

بة بعد إظهار الجزاله

فأصخ إلى أنبائه

تعلم بأنّ المنتهى له

وإذا ابتغيت وسيلة

ومدحته ومدحت آله

فاقطع بأنّك آمنٌ

يوم القيامة لا محاله وقال أبو القاسم سعد بن محمد رحمه الله تعالى:

أطلق لسانك بالصلاة على ال

نبيّ الأبطحيّ الهاشميّ محمد

واجعل شعارك ذاك تنج به غداً

إنّ النجاة بذكر يوم للغد ولأبي اليمن ابن عساكر رحمه الله تعالى:

(1) ق: كل.

ص: 503

يا ربّ صلّ على النبي وآله

صلواتنا ما دامت الأيام

واخصص ختوم سلامنا بجنابه

كالمسك يعبق فضّ عنه ختام

واحرس شريعته وأوضح سبلها

تبدو بها للسالك الأعلام

وأدم كرامته وأعل مناره

وأنله أعلى ما لديك يرام

وارفع له الدرجات في رتب العلا

فهو الذي للمرشدين إمام

وأقمه بين يديك زلفى موقف

للحمد ما لسواه فيه مقام

وأنل شفاعته وأورد حوضه

من لو أتاه [....] منه أوام

يشتاقه ويعوقه علقٌ به

لزمانه وزمانة وسقام

فبه إليه غلّة ما تشتفي

إلاّ بلقياه، وعزّ مرام

وله عليه في الأصائل والضحى

تهدى إليه تحيّة وسلام

وبه إلى تقبيل موطىء نعله

وجدٌ له بين الضلوع أوام وله أيضاً رحمه الله تعالى:

ألا إنّ الصلاة على الرسول

شفاء للقلوب من الغليل

فصلّ عليه؛ إن الله صلّى

عليه ولا تكونن بالبخيل

وصلّ عليه قد صلّت عليه

ملائكة السماء بجبرئيل

ألا إنّ الصلاة عليه نور

لدى الظلمات في اليوم المهول

وتثقيل لميزان خفيف

وتخفيف من الوزر الثقيل

إذا صلّيت صلّى الله عشراً

بواحدة عليك على الرسول

وتحظى بالشفاعة يوم تضحى

وما لك من مقيل أو منيل

فأكثر أو أقل فأنت تجزى

بذلك من كثير أو قليل

فصلّ عليه تجز جزاء ضعف

وتجز مضاعف الأجر الجزيل

وأولى الناس أكثرهم صلاة

عليه به وأحرى بالقبول

ص: 504

وأنجاهم من الأهوال عبد

بها لهج بدل (1) قال وقيل

فكن لهجاً بذكراه حفيّاً

بلقياه ومنصبه الجليل

وصلّ صلاة مشتاق إليه

وداو بذكره سقم العليل

وصلّ مدة الزمان على رسول

كريم مصطفى برّ وصول

وصلّ على حبيب فاق فضلاً

مدى شأو الكيم مع الخليل

فصلّى الله أفضل من يصلّي

عليه في الصباح مع الأصيل

وآتاه الوسيلة مستجيباً

وبلّغه نهاية كلّ سول

وأزلفه وشفّعه ليأوي

إليه الناس في ظلّ ظليل

وأطّد شرعه وحمى حماه

وأيّده بواضحة الدليل

وشرّفه ولم يبرح شريفاً

فيجمع جملة المجد الأثيل

وزاد محبّه شرفاً وفخراً

بتفضيل وتنويل جزيل

وزاد علاه منه بطول عمر

قصيّ من مواهبه طويل

وأوردنا عليه الحوض وفداً

لنروى بالرّوى من سلسبيل وله رحمه الله تعالى:

أدم الصلاة على النبيّ المصطفى

تخلص بذاك من الجحيم ونارها

وتولّ إقبالاً عليها كلّما

هتف المؤذن مشعراً بشعارها

فالفخر أجمعه له فتلقّه

من نوبة الأسحار فوق منارها فهذه عدة قصائد في مدحه صلى الله عليه وسلم، أرجو من الله سبحانه أن تكون مكفرة لما ارتكبته على وجه الفخر والشهرة من الهزل واللّغو، فإن ذلك والله قول لا فعل له، وإنما هو على نهج أهل الأدب كالحافظ شيخ الإسلام ابن حجر

(1) كذا بالتسكين، وفي هذه القصائد تسامح أحياناً في اللغة والإعراب لم نشر إليه.

ص: 505

وغير واحد ممّن ألف في الأدب وجمعه.

ولا بأس أن نعززها بمقطوعات تكون للتكفير زيادة، وحقّ لمن توسل بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم أن لا تضيع وسائله، وكيف وهو صاحب المقام المحمود والشفاعة والسيادة، فمنها قول ابن الجنان المذكور آنفاً رحمه الله تعالى:

إلى أحمد المختار نهدي تحيّة

تفاوح روض الحزن بلله المزن

إذا نافحت مغناه زاد تأرجاً

وإن لثمت يمناه قابله اليمن

أسيّر أشواقي رسولاً بعرفها

لتسعدها منه العوارف والمن

وأرجو لديه الفضل فهو منيله

وما خاب لي فيه الرجاء ولا الظن

عليه اعتمادي حين لا لي حيلة

إليه استنادي حين ينبو بي الركن

به وثقت نفسي الضعيفة بعدما

أضرّ بها من ضعف قوتها الوهن

إليه صلاتي قد بعثت مشفّعاً

سلاماً به الإحسان ينساق والحسن وقوله رحمه الله تعالى:

أيذهب يوم لم أكفّر ذنوبه

بذكر شفيع في الذنوب مشفّع

ولم أقض في حقّ الصلاة فريضةً

على ذي مقام في الحساب مرفّع

أرجّي لديه النفع في صدق حبّه

ومن يرتج المختار لا شك ينفع

وأهدي إلى مثواه مني تحيّة

إذا قصدت باب الرضى لم تدفّع وقوله رحمه الله تعالى:

يا أرحم الخلق يوم الحشر والندم

ارحم عبيدك يا ذا الطّول والنعم

إني توسلت بالمختار ملجأنا

الطاهر المجتبي من خيرة الأمم

إليك من سيئاتي إنها عظمت

يا واحداً لم يزل فرداً ولم يتم

عليه منه صلاة كلما طلعت

شمس وما خطّ في الأوراق بالقلم

ص: 506

فهو الشفيع الذي أرجو النجاة به

من الجحيم إذ الكفار كالحمم وقوله أيضاً رحمه الله تعالى:

بحبيب القلوب معتمد الخل

ق أبي القاسم النبيّ الشفيع

قد تشفّعت من ذنوبي إلى ذي ال

عزة الواحد العليّ السميع

فاشفع اشفع يا خاتم الرّسل يوم ال

حشر والمشهد العظيم الفظيع

لظلوم لنفسه قد تناهى

في الخطايا وكلّ فعل شنيع

فإذا ما تذكر الذنب فاضت

مقلتاه واغرورقت بالدموع

لا تخيّب رجاءه إنّه من

ربّه خائف كثير الخشوع

وعليك الصلاة بدءاً وعوداً

ما أضاءت ذكاء عند الطلوع وقوله أيضاً عفا الله تعالى عنه:

يا ربّ إنّ شفيعي من ذنوبي في

يوم القيامة خير الخلق والنسم

محمّد خاتم الرّسل المبلّغ لل

دين الحنيفي والإسلام للأمم

عليه مني صلاة كلما سجع ال

حمام فوق غصون البان والسّلم

وبعد ذلك أعداد الجبال ورم

ل الأرض والطير والحيتان والنّعم

كذاك أيضاً سلامي طيّب عطر

عليه ما قام عبد في دجى الظّلم

لله وهو كئيب خائف وجل

من الذنوب حزين القلب ذو ألم وقول الشيخ الإمام أبي زيد الفازازي رحمه الله تعالى:

كملت بنعت محمّد خير الورى

غرر القصائد كلّها وحجولها

واختصّ دون الأنبياء بدعوة

وسع العباد عمومها وشمولها

فاضت على الثّقلين منه أشعّة

طلعت وما عقب الطلوع أفولها

فالإنس تعلم أنّه مقصودها

والجنّ توقن أنّه مأمولها

ص: 507

كم آية بالصدق كان ظهورها

كم آية بالسّبق كان نزولها

وكفاك هذا الوحي فهو شهادة

لمحمّد لزم العباد قبولها

جمع الإله المكرمات لأمّة

هذا النبيّ الهاشميّ رسولها وقوله رحمه الله تعالى:

أيّ نور كشف الله به

سدف الباطل عنّا أجمعين

ختم الله به أنواره

عندما أكمل سنّ الأربعين

وأتانا بدليل بيّن

عجزت عنه دواعي المدعين

فهو للناس جميعاً مرشد

وهو بالله تعالى مستعين

تركت دعوته وهو الرضى

سائر الخلق إليها مهطعين

فأعد أنباءه فهو منى

أنفس القائل والمستمعين

والذي يهدي إلى شرعته

فهو مجّاج من العذب المعين

والذي يرغب عن سنّته

فهو من شيعة إبليس اللعين وقوله وهو كما قبله لزومي:

أصخ فلخير العالمين مناقب

تدل على التمكين والشرف الأسرى

أتى والورى أسرى فكان غياثهم

بنور سماء ينقلوه عن الإسرا

وعفّى رسوم الكافرين وأهلها

فلا قيصر من بعد ذاك ولا كسرى

تقدّم كلّ العالمين إلى مدىً

تظلّ به الأوهام ظالعة حسرى

وخصّ بتشريف على الناس كلهم

ومن لم يقل هذا تقوّله قسرا

ترقّى إلى السبع الطباق ترقيّاً

حقيقاً ولم يعبر سفيناً ولا جسرا

وبالجسم أسرى الله وهو دلالة

يمحّلها من لا ييسّر لليسرى

فسبحان من أسرى إليه بعبده

وبورك في الساري وبورك في المسرى

وكم عجب أوحى إلى عبده به

فدونك تجميلاً ولا تطلب الفسرا

ص: 508

وقوله رحمه الله تعالى:

هاك عن هذا النبيّ المصطفى

خبراً يقبله من سمعه

سبّحت صمّ الحصى في كفّه

ثمّ في كفّ الهداة الأربعه

وإذا أبدى نبيٌّ عبرةً

فهو لا ينكر فيمن تبعه

أيّ نطق قد روى إعجازه

عن سماع كلّ من كان معه

حجج الرّسل التي قد سلفت

أصبحت في أحمد مجتمعه

فاعتقد صحّتها واعمل بها

فدعاوى ضدها منقطعه

ممكنات العقل لا يجحدها

غير أهل الطبع والمبتدعه وقوله رحمه الله تعالى:

إذا أمّلت من مولاك قرباً

فجدّد ذكر خير الأنبياء

وصلّ عليه أول كلّ قول

وآخره بصبح والمساء

فإنذ محمداً أعلى البرايا

محلاً في السيادة والعلاء

لواء الحمد في يمنى يديه

وكلّ الناس من دون اللواء

فحدث عن دلائله ففيها

شفاءٌ للنّهى من كلّ داء

ولست بناقل للعشر منها

وهل تفنى الزواخر بالدلاء

فقل للسامعين قفوا فهذا

محال ليس يحصر بانتهاء

براهين البسيطة ليس تحصى

فدونكم براهين السماء وقوله رحمه الله تعالى:

أمّا يمين محمّد

ويساره فهما سماء

كلتاهما إن صوّح ال

مرعى لنا طعم وماء

وإذا أضرّ بنا السقا

م وغيره فهما شفاء

ص: 509

فاعجب لكف في الورى

فيها عن المزن اكتفاء

فاقطع بأنّ محمّداً

في الخلق ليس له كفاء

فإذا أصخت لآية

فالنور فيها والضياء

هذا الصباح الهاشم

ي بدا فليس به خفاء

فالأرض قد فتحت بمب

عثه وفتّحت السماء

سبق القضاء بسبقه

والله يفعل ما يشاء وقوله رحمه الله تعالى:

بركات رسل الله غير خفية

ومحمد خير البريّة أبرك

هذا النبيّ الهاشميّ هو الذي

هدي الأنام به وبان المسلك

كم آية لمحمد كم حجة

عزّ الوليّ بها وذلّ المشرك

دعواته مسموعة مرفوعة

والحس ليس يصح فيه تشكك

لا شيء أعجب من دليل واضح

يحيا به بعض وبعض يهلك

أمسك بحبل محمد خير الورى

تظفر بقصدك أيها المستمسك

وإذا عجبت لغاية في رفعة

فمحلّ أحمد غاية لا تدرك وقوله رحمه الله تعالى:

قبح الإله الملحدين

فإنهم جحدوا الضروره

والمعجزات تواترت

عن أحمد في كلّ صوره

والله أعلى كعبه

في خلقه وأتمّ نوره

كثر الطعام مع الشرا

ب بكفه عند الضروره

وتكنّفته عناية

من ربه أعلت أموره

نادى البريّة فالقلو

ب إلى إجابته مصوره

ص: 510

وحمى الشريعة بالدلي

ل فدع معاندها وزوره

قل للمشكّك حين يب

دي في تشككه قصوره

بيني وبينكم الكتا

ب فدونكم فأتوا بسوره وقال رحمه الله تعالى:

إذا بهرت للهاشميّ دلالة

فكم حجج في طيها ودلائل

فكم مرة آتى الغنى كفّ سائل

وكم مرة أعطى المنى فكر سائل

له تحت أستار الغيوب شهادة

معدّلة لم تبق قولاً لقائل

يحدث عما كان أو هو كائن

فقس آخراً من صدقه بالأوائل

إذا الصدق لم يعوزك في غدواته

فلا شكّ في تصديقه بالأصائل

وحسبك في الأنباء بالغيب أنّه

ستسمعها بالنقل من قول قائل وقوله رحمه الله تعالى:

يا ذا المعنّى بهذا الذكر تسمعه

في المدح تأثره في سيد الناس

هذا النبيّ، ومن آيات أثرته

في الطيب والطّول لا تجري بمقياس

قد انقضت معجزات الغيب وافية

صحيحة باستفاضات وإحساس

وهاك نوعاً من الإعجاز منتزهاً

عن نقد منتقد أو صفح قرطاس

لا نعدم النقل عن آثار سيدنا

فإنما نحن فيها بين أعراس

تنقّل الأنف في النوّار ينشقه

من ياسمين إلى ورد إلى آس

إنّ القلوب إذا اعتلّت خواطرها

فذكر أحمد فيها المبرىء الآسي وقوله رحمه الله تعالى:

تأدب إذا ذكر المصطفى

بصمت اللسان وغضّ البصر

فإنّ التأدب عند السماع

يفهّم في النطق أو في النظر

ص: 511

وردّد أحاديثها إنها

دليل على صدق خير البشر

وصلّ عليه مدى ذكره

فذلك أفضل ما يدّخر

ولا تسترب في براهينه

فتسلك مسلك قوم أخر

فكم آية ظهرت للنبيّ

وكم أثر عنده قد ظهر

ومن شكّ في نور برهانه

لعى أنّ برهانه قد بهر

فكبّر على عقله أربعاً

وقل فوق طورك هذا الخبر وقوله رحمه الله تعالى:

اعمل بآثار النب

يّ فإنها النور المبين

واقبل نصيحتها ففي

ها العزّ والشرف المكين

واشدد يمينك بالشري

عة إنها السبب المتين

خير البريّة أحمد

والحقّ يصحبه اليقين

ذو قوّة عند الإل

هـ مقرّب منه مكين

زان النبيّون الورى

ومحمد لهم مزين

هاد إلى طرق النجا

ة مؤيد فيها أمين

والهج بمدح الهاشم

يّ فإنه الحصن الحصين

ولئن فعلت فلن تفو

تك بعد ذا دنيا ودين وهذا تسديس جعلته للكتاب مسك الختام:

وللنّاس أعمال فخير وضدّه

وما يحسن الأعمال غير الخواتم وإلاّ فالأمداح النبوية بحر لا ساحل له، وفيها النثر والنظام، زاده الله شرفاً وحباه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

وهذه القصيدة من نظم الفقيه الأجلّ أبي الحجاج يوسف بن موسى المنتشاقري الأندلسي - نفعه الله تعالى بنيته، وبلغه غاية أمنيته - وترتيبها على

ص: 512

حروف المعجم باصطلاح أهل المغرب فيما عدا الروي فإنه على حرف الميم، وكذا آخر الشطر الذي قبله فإنه ميم أيضاً، وهذا نصه بحروفه ما عدا حرف الواو فإني لم أجده وكملته على منواله:

حلّ في طيبة رسول كريم

فعليه الصلاة والتسليم

صفوة الخلق خاتم الأنبياء

مرشد الناء للطريق السوّاء

والعماد الملاذ في الأواء

وشفيع العصاة يوم الجزاء

يوم يبدو لديه جاه عظيم

فعليه الصلاة والتسليم

أذهب الغيّ نوره والغياهب

فأضاءت مشارق ومغارب

وغدا الحقّ غالباً للأكاذب

وبدت منه للأنام عجائب

صدق أقواله بها معلوم

فعليه الصلاة والتسليم

لبراهين صدقه معجزات

حيثما حلّ حلّت البركات

وسمت أربع به وجهات

فبه قد تعرفت عرفات

وبه تاه زمزم والحطيم

فعليه الصلاة والتسليم

لم يزل هادياً صدوق الحديث

ووفيّاً بالعهد غير نكوث

ومجيباً لدعوة المستغيث

وكريماً نداه فوق الغيوث

ويداه بالجود جود سجوم

فعليه الصلاة والتسليم

بهج الحق أوضح الابتهاج

سيد نوره أضاء الدياجي

خصه الله ليلة المعراج

باصطفاء ورفعة ونتاج

وبتكليمه له التكريم

فعليه الصلاة والتسليم

ص: 513

مصطفى مجتبى كريم صفوح

للنّبيّين جاهه ممنوح

فلإكرامه أجير الذبيح

ونجا آدم وخلّص نوح

وكذاك الخليل إبراهيم

فعليه الصلاة والتسليم

كلّ دين بدينه منسوخ

فسوى ما قضى به مفسوخ

لهداه بكلّ قلب رسوخ

فالورى مادح له ومصيخ

كلهم في هوى النبي يهيم

فعليه الصلاة والتسليم

بعثه كان رحمة للعباد

دلّهم بالهدى طريق الرشاد

ونفى كلّ باطل وعناد

ودعا للإله دعوة هادي

فإذا الحق واضح مستقيم

فعليه الصلاة والتسليم

أمّه بالشّكاة ظبيٌ أخيذ

مستجيراً بجاهه يستعيذ

وبه كانت الوحوش تلوذ

وله خاطب الذراع الحنيذ

لا تذقني فإنني مسموم

فعليه الصلاة والتسليم

أشبع الجيش والطعام يسير

ودعا نخلةً فجاءت تسير

وهمى من يديه عذب نمير

وله البدر شقّ وهو منير

معجزات تحار فيها الفهوم

فعليه الصلاة والتسليم

حجب النور في السموات جازا

فاحتوى الفضل والعلاء وحازا

فبه في غد ننال المفازا

وكفى أمّة الرسول اعتزازا

أن تمنى يكون منها كليم

فعليه الصلاة والتسليم

ص: 514

إنما الحكم منه عدل وقسط

لم يجر في القضاء والحكم قطّ

حبه في بلوغ قصدي شرط

وبأمداحه ذنوبي تحطّ

ويزول العنا وتجلى الهموم

فعليه الصلاة والتسليم

قد حمى ديننا برعي ولحظ

ونفى روعنا بأمن وحفظ

وحبانا بما لدى الربّ يحظي

هادياً راحماً لنا غير فظّ

مثل ما نصّه الكتاب الكريم

فعليه الصلاة والتسليم

نور برهانه جلا كلّ شكر

وهداه أجرا من كلّ هلك

أخير العالمين من غير شكّ

فلكم رامه العداة بشكّ

وهو في كلّ حالة معصوم

فعليه الصلاة والتسليم

ما لخير الأنام منهم عديل

إنّه مجتبىً نبيّ رسول

ما عسى مادح الشفيع يقول

وبأمداحه أتى التنزيل

وثناه خلاله مرسوم

فعليه الصلاة والتسليم

نحن لولا اتّباعه لشقينا

نور برهانه أرانا يقينا

وغدا ما نخاف منه يقينا

وكؤوساً بحوضه قد سقينا

من رحيق مزاجه مختوم

فعليه الصلاة والتسليم

أحمد عند ربه ذو اختصاص

جاهه كامل بغير انتقاص

عدة للمسيء يوم القصاص

وشفيع لكل جان وعاصي

يوم يجفو الحميم فيه الحميم

فعليه الصلاة والتسليم

ص: 515

بيديه حوائج الكلّ تقضى

ويجازي الذي أجاز وأمى

وينادي الحبيب أنت المرضى

سوف نعطيك ما تحب وترضى

فتحكّم يمضى لك التحكيم

فعليه الصلاة والتسليم

فاق بالمولد السعيد ربيع

إن فيه بدا الجلال الرفيع

من هو الذخر والعماد المنيع

فملاذ للمذنبين شفيع

ورؤوف بالمؤمنين رحيم

فعليه الصلاة والتسليم

أفصح الناس في حديث وأبلغ

بيّن الوحي للأنام وبلّغ

طيب الحل قد أباح وسوّغ

ولكم نعمة من الله سوّغ

فلإحسانه علينا عميم

فعليه الصلاة والتسليم

كان بالحقّ والهدى معروفا

أجود الناس بالندى موصوفا

شرّف الله قدره تشريفا

هادياً مرشداً رسولاً شريفا

مجده في العلاء مجدٌ صميم

فعليه الصلاة والتسليم

وجهه بالبها أضاء وأشرق

مجده في صميمه الأصل أعرق (1)

مسّ في كفه قضيباً فأورق

باصبع قد أشار للبدر فانشقّ

ثمّ قد عاد وهو بدر سليم

فعليه الصلاة والتسليم

جاءه الوحي أنت خير الناس

بلّغ الأمر لا تخف من باس

وخذ العفو للأنام وواس

واحمهم من مكايد الوسواس

(1) هذا البيت واثنان بعده سقطت من ق.

ص: 516