المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الباب السادسفي عجائب نبغاء الحجاز - نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة - جـ ٢

[المحبي]

الفصل: ‌ الباب السادسفي عجائب نبغاء الحجاز

بأبِي الذي كَتمتْ مَحبَّتُه

مِنِّي الحَشا فعَليْه ينْضَمُّ

لا لا أُصرِّح باسْمِه أبداً

ويجِلُّ أن يُجْلَى له وَسْمُ

وأقولُ يا نُعْمٌ وآوِنَةً

سَلْمَى ولا نُعْمٌ ولا سَلْمُ

يا عاذِلي إن كنتَ ذا رَشَدٍ

آذانُ كلِّ مُتيَّمٍ صُمُّ

أقْصِرْ فما عَذَلٌ بِمُتَّبَعٍ

سِيَّان فيه القُلُّ والْجَمُّ

إن رُمْتَ تَصْديقِي فلُمْ رَجُلاً

في رَاحَتيْه يغْرَقُ الْيَمُّ

وقوله، مضمنا:

ورُبَّ فتىً في مَعْبَرٍ قد تَلاعَبَتْ

به الرِّيحُ في شَرْقِ المَحَلِّ وغَرْبِهِ

إذا ذهبَتْ ريحُ الشَّمالِ بسَمْعِه

وبالبصرِ الرِّيحُ الجَنُوبُ وسَلْبِهِ

يُناديهما ريحَ الجَنُوبِ وقد مضَتْ

بما أسْأراه من بَقيَّةِ لُبِّهِ

بعَيْشِكما لا تَتْرُكاه مُرَوَّعاً

خُذا مِن صَبَا نَجْدٍ أماناً لِقَلْبِهِ

وقوله، وفيه الإيداع:

وَرْدةُ الخدِّ نَوَّرَتْ

فاخْتشَى قَوْلَ هَاتِهَا

فحَماها بجَمْرةٍ

لم أكُنْ مِن جُناتِهَا

يريد قول الأول:

لم أكُنْ من جُناتِها شهِد اللَّ

هُ وإنِّي لِحَرِّها صَالِي

وله:

شارِبُه المُخْضَرُّ مُذ لاح في

مُحْمَرِّ ياقوتٍ له مُسْتَطابْ

فحدَّه بالقَصِّ لمَّا غَدَا

سَكْرانَ من خَمْرِ الثَّنايا العِذَابْ

وله في مليح، يأكل قاتاً:

أُشَبِّهُ ثَغْرَه والْقاتُ فيه

وقد ذهبتْ بفِتْنتِه القلوبُ

لآلٍ قد نَبَتْنَ على عَقِيقٍ

وبيْنهما زُمُرُّدَةٌ تذوبُ

آخر الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع، وأوله:

‌ الباب السادس

في عجائب نبغاء الحجاز

استدراك سقط أثناء الطبع في صفحة 574 بعد قوله:

همتُ بها وأعجبُ الإبْداعِ

ذو طَيْلَسانٍ هام في قِناعِ

قوله:

أفدي بقلبِ المُسْتهامِ دَلّها

مَن ذا على قتْل النفوس دَلّهَا

الجزء الرابع

الباب السادس

في عجائب نبغاء الحجاز

هذا الباب ورب الكعبة، أعظم ما حوته الجعبة.

وهو باب واسع الأطناب، والإيجاز فيه أولى من الإطناب.

فإذا قل مدحي في أوصاف أهله نثيراً ونظيماً، فإن فكري يمر بنعتهم فيقف له إجلالاً وتعظيماً.

فإن بسطت القول، مع هذه القوة والحول فعلى الصراط أحكم الأوصاف، وفي الميزان أتوفى الإنصاف.

وغاية ما أقول إذا وجهت إلى الكعبة مجدهم صلوات التقديس والتعظيم، وزينت معاطفها بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم:

كفى شَرفاً قُطْراً به أهلُ مكةٍ

على جسَدِ المجدِ الموثَّلِ رَاسُ

وما الناسُ إلَاّ هُمْ وليس سواهُمُ

إذا قال ربُّ الناسِ يا أيها النَّاسُ

فأول من أبدأ به منهم آل البيت والمقام، ورؤساء النبعة التي تقرأ في صحائفهم فواتح الأرقام.

وهم الأشراف بنو حسن بن أبي نمى أصحاب النسب الواضح، ونخبة قريش الأباطح.

ورونق ضئضىء المجد وبحبوح الكرم، وسراة أسرة البلدة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبتها لم ترم.

مون الفضل المبر، الذين سقوا شجر الكرم بغيث البر.

أقول فيهم مقالة يحيى بن معاذ: طينةٌ عجنت بماء الوحي وغرست فيها أشجار النبوة، وسقيت بماء الرسالة والفتوة.

فهل يفوح منها إلا مسك الهدى، وعنبر التقى، وهل تثمر إلا ثمار الندى، وتهدل إلا الأغصان الشامخة المرتقى؟ شرفٌ ضخمٌ ونائلٌ جزيل، وفخر شاهداه وحيٌ وتنزيل.

يفتخر الزمان بوجودهم على ما مضى من الأزمنة وسلف، ويتوج الدهر بأيامهم الخضر رءوس سنية فيحصل لها بذلك غاية الشرف.

الشريف إدريس بن حسن سلطان الأكياس، ومن سيرته سيرة ابن سيد الناس.

رفعه الله مكاناً علياً، وأغدق عليه عهاد المجد وسمياً وولياً.

فأبوابه كعبةٌ تطوف بها آمال العفاة، وتصلى بالقبل إلى أبوابها الشفاه.

ص: 5

وثم رأيٌ يختفي منه في غمده السيف، وصدرٌ يسع رحلة الشتاء والصيف.

إذا سطا فالشهب من نصاله، وإذا فخر فالحمد أقل خصاله.

فلو راع الهضاب لأنحلت معاقدها، أو تناول السماء لخوت فراقدها.

إلى نعمٍ أنجدت على صدمات الزمان، واتخذت عقيدة الكرم كعقيدة الإيمان. فحضرته مقصد المنتاب، إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب.

وله أدب راق ورق، وشعرٌ رقيقه لحر العقول استرق.

وقد وقفت له على ترجمة، ترجمه بها السيد محمد العرضي الحلبي، فلم أتمالك إلا أن ذكرتها.

قال فيها: ذو الجبين المستنير بالعرفان، إذا غدا غيره جهولاً مقنعاً بقناع الذل والهوان.

ماجدٌ احتبى بنطاق المجد كما احتبى السحاب ثهلان، وجواد أقسم جوده بيوم الغدير والنهروان.

فأقسم برب البدن تدمى منها النحور، إنه الوارث منه وقفة الحجيج والوفادة، وسقايتهم والرفادة.

وشهوده على ذلك منىً والمخيف، وصم الصفا والمعرف.

كما قال الشاعر الرضي:

له وَقفَاتٌ بالحَجيجِ شُهودُها

إلى عَقِب الدنيا مِنىً والمُخَيَّفُ

ومن مَأْثُراتٍ غيرِ هاتيك لم تزَلْ

له عُنُقٌ عَالٍ على الناس مُشْرِفُ

سار المذكور في أهل الحجاز بسيرة جده، من غير أن يغمد فيهم سيف حده.

ومما أنشدت له من شعر الملوك المحمود، وإن قيل: شعر الهاشمي لا يكاد يجود.

قوله في الاعتذار عن خضاب الشيب بالشباب المتلبس بالمعاد، والتسربل على موت الصبا بثياب الحداد:

قالُوا خضبْتَ الشّيْبَ قلتُ لهم نعمْ

ما إن طمِعتُ بذاك في رَدِّ الصِّبا

لكنَّ عقلَ الشيبِ ما أحْرَزْتُه

فخشيت أن أُدْعَى جَهولاً أشْيَبَا

السيد أحمد بن مسعود بن حسن نابغة السادة، ومن له في الفضل صدر الوسادة.

لم تنجب بمثله أم القرى، ولم تنضم على مثل وجوده الشريف العرى.

نفذ في العز نفوذ السهم، وبلغ العليا بمعراج الفهم.

وبرز في فرسان الكلام وشجعانه، وجاء من الشعر بما هو أنضر من عهد الصبا في ريعانه.

فلله ما أقوم نهجه، وأوثق نسجه.

وأسمح ألفاظه، وأفصح عكاظه.

وأحمد نظامه ونثاره، وأغنى شعاره ودثاره.

يجولُ بذهْنِه في كلِّ شيءٍ

فيدركُه وإن عَزَّ المَرامُ

تطوف ببَيْتِ سُؤْددِه القوافِي

كما قد طاف بالبيتِ الأنامُ

وتسجدُ في مَقامِ عُلاه شكراً

ونعمَ الرُّكْنُ ذلك والمَقامُ

وكانت له همة تجاوز الأفق مصعداً، ولا ترضى إلا فلك الأفلاك مقعداً.

فلم يزل يقدر من نيل الشرافة ما أطال تعنيه، والأيام تعده بها وتمنيه.

فلم يظفر منها بلحظة لحظ، " وما يلقاها إلا ذو حظ ".

فاقتحم لطلبها بحراً وبراً، متوسعاً أينما حل رفاهيةً وبراً.

قال ابن معصوم: وكان قد دخل شهارة، من بلاد اليمن، وامتدح بها إمامها محمد بن القاسم، بقصيدة راح بها ثغر مديحه وهو ضاحكٌ باسم.

وطلب منه مساعدته على تخليص مكة المشرفة له، وإبلاغه من تحليته بولايتها أمله.

وكان ملكها إذ ذاك الشريف أحمد بن عبد المطلب، فأشار في بعض أبياتها إليه، وطعن فيها بسنان بيانه عليه.

ومطلع القصيدة:

سَلا عن دَمِي ذاتَ الخلاخلِ والعِقْدِ

بماذا استحلّتْ أخْذَ رُوحي على عَمْدِ

فإن أمِنتْ أن لا تُقادَ بما جَنَتْ

فقد قيل أن لا يُقْتَل الحرُّ بالعَبْدِ

منها، وهو محل الغرض:

أغِثْ مكةً وانْهَضْ فأنتَ مُؤيَّدٌ

من اللهِ بالفَتْح المُفوَّضِ والجَدِّ

وقَدِّمْ أخا وُدٍ وأخِّرْ مُباغِضاً

يُساوِر طَعْناً في المُؤيَّد والمَهْدِي

ويطْعن في كلِّ الأئمّةِ مُعْلِناً

ويرْضَى عن ابن العاصِ والنَّجْلِ من هنْدِ

فلم يحصُل منه على طائل، إلاّ ما أجازه به من فضل ونائل.

فعاد إلى مكة المشرفة، ثم توجه إلى الروم.

قلت: فمر على ساحل الشام، ونزل طرسوس، وبها عمل سينيته التي زفها خريدةً على أرائك الطروس، وعطر برياها أندية الأدب ولا عطر بعد عروس.

وكان هام بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن.

وحن إلى تلك البقاع، حنينه إلى أثلاث القاع.

والقصيدة هي هذه، وإنما ذكرتها بتمامها لمكانتها من القلوب:

ص: 6

حُثَّ قبل الصباحِ نَخْب كُؤوسي

فهْي تَسْرِي مَسْرَى الغِذَا في النُّفوسِ

وانتخِبْها بِكْراً فقد ثَوَّب الدَّا

عي إليها من حانةِ القِسِّيسِ

بِنْتُ كَرْمٍ إن تَلْقَ مَلْسُوعَ حَيٍ

وهْو حِلْسٌ لن يرْتضِي بالجلوسِ

كشفَتْ غَيْهَب الخُمارِ ولو تَرْ

شحُ رَمْساً ردَّتْ بقَا المَرْمُوسِ

غَرَستْها بين الحدائقِ في النَّوْ

روزِ والشّطِّ كفُّ بَطْليموسِ

فتلقَّ أمَّ المَسَرَّة طَلْقاً

والنَّدامَى بمَهْرِ كَيْسٍ وكِيسِ

واطْلِقِ النَّدَّ والكِبا الرَّطْبَ واسْتَجْ

لِ عَرُوساً لا عِطْرَ بعد عَرُوسِ

عانِسٌ في الدِّنانِ بالحْانِ لن تُطْ

مثَ من عهد جُرْهُمٍ وجَدِيسِ

نار أُنْسٍ يْعشُو الكَليمُ ويَصْبُو

لِغناها بالذُّلِّ والتَّقديسِ

حرقتْ حُلّةَ الجِنانِ وأبْدَتْ

مُسْتطيرَ الصَّباح في الخَنْدرِيسِ

زعم الجاهلون ظُلْماً بأن قد

عصَرتْها قِدْماَ يَدَا عُبْدوسِ

وهْي من لُطْفِها كشَكٍ نَفاهُ

صادقُ العِلْم عند ذي تَوْسِيسِ

فأدِرْها في كأسِها دون خَدَّيْ

ك وفوق الشّقِيقِ من خَنْدَرِيسِ

واسْقِ بالخَيْزَلَى النَّدامَى لتبدُو

قُدرةُ اللهِ في المَقام النَّفِيسِ

لترى أنْجُماً بفُلْكٍ وبَدْراً

فوق غُصْنٍ يخْتال بين شُموسِ

ولكلٍ إرْبٍ وما أنَا بالرَّا

ئي شَرِيفاً في جَنْبِ وَجْهٍ خَسِيسِ

لستُ من قبلها أُصدِّق أن الرّ

احَ ظَلْمٌ في لُؤلُؤٍ مَغْروسِ

ظَبْيةٌ رَخْوةُ العرِيكةِ تَغْتا

لُ أُسودَ الشَّرَى بِدَهْيِ شُموسِ

لَبِستْ من غلائلِ الحُسْنِ بُرْداً

منه كلُّ العقولِ في تَلْبِيسِ

تتهادَى فيه فتسْتقْبِحُ الرَّ

وضَ أنِيقاً بحَوْزةِ التَّدْنيسِ

لو رآها تَخْتالُ عُجْباً أبوها

لَخَشِينا عليه دِين المَجُوسِ

كلُّ خِلْوٍ منها اسْتجَدَّ رَسِيساً

وقَديِمي فيها اسْتمدَّ نَسِيسي

تركتْني نِضْواً على رسمٍ

فيه دمعي خِلِّي وسُهْدِي جَلِيسي

مُوحِشاً من هُنَيْدةٍ بعد أن كا

نَ حَقِيقياً بالمرْبَعِ المأْنُوسِ

طالَما قلتُ للعُذافِرِ واللَّيْ

ث قد ألْقَى بها عصا السْيرِ هيسي

لنَقْضي به حُقوقاً ونبْكي

فيه وُرْقَ الحِمَى وثُكْلَ العِيسِ

ونُرجِّي الآمالَ أن تبعثَ الرِّ

يحُ أَرِيجاً من معهدٍ مَطْمُوسِ

فرَعَى اللهُ بالأجارِعِ عَصْراً

مَرَّ أمْسَتْ نجُومُه في طُموسِ

حيث جَوُّ الشبابِ صَحْوٌ وبَحْرُ اللَّ

هْوِ رَهْوٌ لم أُلْقِ فيه بِروُسِي

ومَحَلِّي بين الأباطِحِ والقبَّةِ

من طَيْبةٍ بسُوقِ الرَّسِيسِ

أحمدُ الاسْمِ أحمدُ الخُلْقِ في اللَّ

هِ غِياثُ المَنْجُودِ والمَلْبُوسِ

شافعُ الأُمَّةِ التي جاء فيها

كنتُمُ من مُهَيْمِنٍ قُدُّوسِ

أوَّلُ الأنْبياء والخاتِمُ العا

صِمُ من صَوْلِ صَيْلَمٍ دَرْدَبيسِ

يتَّقِي حَيْدَرٌ وحمزةُ والفْا

روقُ فيه إن جَاشَ قِدْرُ الوَطِيسِ

وكذا في المَعادِ عِيسى وإسْحا

ق وموسى الكَليم مَعْ إدْرِيسِ

وبه يسْألون إن دَمْدَمَ الهَوْ

لُ تجلِّيهِ في الزمانِ العَبوسِ

ص: 7

وهمُ الفائزون لكنْ لما طَمَّ

على الخلقِ من عذابٍ بَئِيسِ

مُهْطِعين الأعناقَ في موقفِ الرَّهْ

بَةِ لا يُسْمَعَنْ لهم من نَبِيسِ

فيُنادَى سَلْ تُعْط واشْفَعْ أيا خَيْ

رَ شفيعٍ في مُسْمَهِرٍ طَبِيسِ

أرْيَحيٌّ بقَصْدِه يَأْنفُ الأخْ

مَصُ أن يحْتذِي شَواةَ الرُّءُوسِ

نقَل الدَّهْرَ للجوامِعِ والأحْ

كامِ بعد الأزْلام والناقُوسِ

ترك الذئبَ والغَضَنْفَرَ والشَّا

ةَ جميعاً من خَوْف غبّ الفَرِيسِ

أيَّد الدِّينِ بالذَّوابل والشُّو

سِ المَذاكِي تعدو بِبيضٍ شُوسِ

كل ذِمْرٍ في السِّلمِ هَيْنٍ وفي الحَرْ

ب أبِيٍ يشُقُّ أنْفَ الخَمِيسِ

كعَليٍ وحمزةِ البِشْرِ إن بُدِّ

لَ بِشْرُ الوجوهِ بالتَّعْبِيسِ

بَيْهَسَىْ غابةِ الوَشِيجِ وطَوْدَيْ

مَفْخَرٍ في مُؤثّل قُدْمُوسِ

بهما والبَتُولِ والآلِ والسِّبْ

طَيْنِ والمُخْتبيْن في التَّغليسِ

الإماميْن بالنُّصُوص الشّهيدي

نِ البريئيْن من صَدَا التَّدْنِيسِ

فَرْقَدَيْ هالةِ السيادةِ وابْنَيْ

من خص بالقَواضبِ التَّبخيسِ

ما رعى فيهما رئيسٌ إلى الفِدْ

يةِ إلَاّ فَضْلاً عن المَرْءُوسِ

وبمن قام في مَقامك يُسْتسْ

قَى به والمُحلّقِ الدَّعِّيسِ

وبنَجْمَيْك صاحِبَيْك ضَجِيعَيْ

ك ظَهريْك في الرَّخا والبُوسِ

ذا رفيقٌ في الغارِ حِلْفٌ وذا يَنْ

فِرُ من حَبْسِه شَبَا إبْليسِ

وبِتِلْوِ الاثْنيْن جامعِ أشْتا

تِ المَثاني بالرَّسْمِ والتدْريسِ

لم يراقَب للهدى والجيشِ من غَيْ

رِ فسوقٍ أتَى ولا تَدْليسِ

أدرِكْ أدرِك ذَا غُرْبةٍ وانْفرادٍ

وسُهادٍ ومَدْمَعٍ مَبْجُوسِ

قد لَقي مِن حَصائدِ النَّفْي ما لَا

قَى كُلَيْبٌ فيها غدَاةَ البَسُوسِ

الْوَحَي الْوَحي فذلك مَلْهُو

فٌ يُناديك من وَرا طَرَسُوسِ

يا نَبِيَّاه يا وَلِيَّاه يا جَدَّ

اه يا غَوْثَ ضارعٍ مَوْطُوسِ

أنت إن أعْضَلَ العُضالُ وأعْيَى

كُلَّ آسٍ دَواهُ جَالِينوسِي

وإذا ما الخِناقُ ضاق فلم أرْ

جُ لكَرْبِي إلاّك للتَّنْفيسِ

ولقد جرّد العقول إلى أن

لبِسَتْ منه بِزَّةَ المَخْلوسِ

فبِجَدْواك يقلِب السعدُ في الأزْ

مةِ سَعْداً تحديقَ عَيْنِ النُّحوسِ

يا خَفِيرِي إذا ارْتُهِنتُ ومالي

غيرُ كُتْبي في مَضْجَعِي مِن أنيسِ

أبِظُلمِ الحَوْبا أُقصِّر عن شَأْ

وِ جُدودِي وأنت أصلُ غُروسي

حاشَ للهِ أن يقصِّر مَن أفْ

عم فيكم مَدْحاً بُطونَ الطَّروسِ

فارْتبِطْها من الجِيادِ التي تسْ

بقُ خَيْلَ الوليد وابن سَدِيسِ

وأجْزِني بُرْداً من الأَمْنِ ما حِي

كَ بصَنْعاَ حُسْناً ولا تِنِّيسِ

إن أَرُحْ مُطلقاً من الذنبِ فالتَّغْ

ريضُ وَقْفٌ مُسَلْسَلُ التَّحْبيسِ

أو تناسَى به فَنِاءى وحَقِّي

فعلى الحَظِّ دعوةُ المَبْخُوسِ

فأغِثْنِي دُنْيا وأخرَى بمَوْلا

كَ ليهَْدا روُعي ويقْوى رَسيسي

لو تشفّعْتَ في سَبَا لعلِمْنا

أنهم فائزون بالمَحْسُوسِ

ص: 8

فعليك الصلاةُ ما هَجَّر الركْ

بُ وحَثَّ القِلاصَ للتَّعْرِيسِ

ثم دخل حلب.

قال العرضي: فنزل منها في صدرٍ رحيب، وقابلته بتأهيلٍ وترحيب.

ثم انثالت إليه من أبناء الشهباء عيون أعيانها، من وجوه علمائها وأشرافها، الذين هم إنسان حدقة إنسانها.

انثيال الدر، إلى الواسطة من عقد النحر، واحتفت به احتفاف النجوم بالبدر.

ممن دعاه ناديه فلباه، وحظي بإقبال وجهه وطلعة محياه.

فرأيناه يحاضر بأخبار الطالبين، الحسنيين منهم والحسينيين.

سيما الشريف الرضي، من وجهٍ مذهبه في البلاغة وضي، وطريقه وهو أخو المرتضى مرضي.

ويلهج كثيراً بأخباره، ويحفظ أغلب أشعاره.

قال: فمدحته بقصيدةٍ، مطلعها:

لِلهِ أكْنافٌ بخيفِ

طابتْ وطال بها وُقوفِي

إلى أن تخلصت إلى مديحه:

وإذا طلبتَ عَرِيفَهم

ولأَنْت بالفَطِنِ العَرِيفِ

فهُو الشريفُ بنُ الشري

فِ بن الشّريفِ بن الشريفِ

فتمايل لدى إنشادها طرباً، وأظهر بها إعجاباً وعجباً.

قائلاً: لا فض الله فاك، وكثر من أمثالك.

فقلت: استجاب الله دعوتك هذه، كما استجابها من جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أنشده النابغة الجعدي:

بلَغْنَا السماءَ مَجْدَنا وجُدودَنا

وإنّا لَنرْجو فوق ذلك مَظْهَرَا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين المظهر يا أبا ليلى "؟ قال: الجنة يا رسول الله.

فقال: " قل إن شاء الله ".

ثم قال:

ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم يكنْ له

بَوادِرُ تَحْمِي صَفْوَه أن يُكَدَّرا

ولا خيرَ في أمرٍ إذا لم يكن له

حليمٌ إذا ما أوْرَد الأمرَ أصْدَرَا

فقال له صلى الله عليه وسلم: " لا فض الله فاك ".

فبلغ عمره مائة سنة، لم يتغير له سنٌّ، بل كان أحسن الناس ثغراً.

ثم قصد الشريف أحمد دار السلطنة العلية، قسطنطينية المحمية، فلقي سلطان الوقت إذ ذاك السلطان مراداً بقصيدة فريدة، سأله فيها توليته مكة.

أولها:

ألا هُبِّي فقد بكَر النَّدامَى

ومَجَّ المَرْجُ من ظَلْمِ النَّدَى مَا

فقيل: إنه أجابه إلى ملتمسه ومراده، وأرعاه من مقصده أخصب مراده.

ولكن مدت إليه يد الهلك، قبل أن ينال الملك.

وقيل: بل أجزل عطاه فقط، فقد طمعه عما تمناه وقط.

ولم يعد إلى مكة، وتوفي في تلك السنة، أو في التي تليها.

وتتمة هذه القصيدة قوله بعد المطلع:

وهيْنمتِ القَبُولُ فضاعَ نَشْرٌ

روَى عن شِيحِ نَجْدٍ والخُزامَى

وقد وضَعت عَذارَى المُزْنِ طِفْلاً

بِمَهْدِ الرَّوضِ تَغْدُوه النُّعامَى

فَهُبِّي وامْزُجِي خَمْراً بظَلْمٍ

ليَحْيَى ما أماتتْ يا أُمامَا

ومُنِّي بالحياةِ على أُناسٍ

بشمس الرَّاح صَرْعَى والظّلامَا

فكم خَفَر الفوارسُ في وَطِيسٍ

فتىً منا وما خَفَر الذِّمامَا

وكم جُدْنا على قُلٍ بوَفْرٍ

وأعْطَيْنا على جَدْبٍ هِجامَا

قوله: وقد وضعت عذارى البيت. المراد بالطفل هو النبت، واستعارة الأم المرضع للمزن، كما وقع في قول الباخرزي، من قصيدة:

وترَعْرَعتْ فيه لَطِيفاتُ الكَلَا

رَضْعانَة ضَرْعَ الغَمامِ الغَادِي

ومنه مطلع قصيدة يحيى بن هذيل التجيبي المغربي:

نام طفلُ النَّبْتِ في حِجْرِ النُّعَامَى

لاهْتزازِ الطَّلِّ في مَهْدِ الخُزامَى

وهذا البيت مطلع قصيدة من المرقص والمطرب، بل مطلع شمس البلاغة وإن كان قائلها من المغرب.

وبعده

وسقَى الوَسْمِيُّ أغْصانَ النَّقَا

فهَوتْ تلثمُ أفْواهَ النَّدامَى

كحَل الفَجْرُ لهم جَفْنَ الدُّجَى

وغَدا في وَجْنةِ الصبحِ لِثامَا

تحسَبُ البدرَ مُحَيَّا ثَمِلٍ

قد سقْته راحةُ الصُّبْحِ لِثامَا

حوله الزُّهْرُ كؤوسٌ قد غَدتْ

مِسْكةُ الليلِ عليهنَّ خِتاما

ص: 9

قوله: كحل الفجر. البيت، ما زلنا في تردد وشبهة في معنى هذا البيت؛ فإنه أسند التكحيل إلى الفجر، وهو لا يلائمه؛ لابيضاضه ونوره، وإنما يلائم التكحيل ما كان أسودَ مظلما، وبعض الأفاضل حمله على أنه في ليلة مقمرة، يغيب القمر فيها لدن طلوع الفجر، فتحدث حينئذ ظلمةٌ يستحق بها الفجر أن يستند التكحيل إليه.

وهو معنى متكلف كما تراه، حتى وقفنا على قول ابن الظهير الإربلي:

وكأنَّ الصباحَ مِيلُ لُجَيْنٍ

كاحلٌ للظلامِ طَرْفاً كَحِيلَا

فكان قولاً شارحاً لبيت التجيبي، وصار التكحيل لا غبار عليه بوجه من الوجوه.

وبيت ابن الظهير من قصيدة يصف فيها الفلاة:

جئْتُها والظلامُ راهبُ دَيْرٍ

جاعلٌ كلَّ كوكبٍ قنْدِيلَا

أو عظيمٌ للزَّنجِ يقدمُ جَيْشاً

قد أعَدُّوا أسِنَّةً ونُصولَا

وكأنَّ السماءَ رَوْضٌ أنِيقٌ

نَوْرُه بات بالنَّدى مَطْلُولَا

ليلةٌ كالغُدافِ لو لم يَرْعُها

نارُ فجرٍ ما أوْشكتْ أن تَزُولَا

وتولَّتْ وأشْهَبُ الصبحِ يتْلُو

أدْهمَ الليلِ وانِياً مَشْكُولَا

ومن تتمة القصيدة:

فيا ملكَ المُلوكِ ولا أُحاشي

ولا عُذْراً أسوقُ ولا احْتشامَا

أنِفْتُ بأنني ألْقاك منهم

بمنزلةِ الرِّجال من الأيامَى

إلى جَدْواكَ كَلَّفْنا المَطايا

دَواماً لا نُفارِقُها دَوامَا

وجُبْنا أيها الملِكُ المَوامِي

إلى أن صِرْنَ من هزلٍ هُيامَا

وذُقْنا الشُّهْدَ في معنى التَّرَجِّي

وذُقْنا الصبرَ من جُوعٍ طَعامَا

صَلِينَا من سَموُمِ القَيْظِ نَاراً

تكون بنُورِك السَّامِي سَلامَا

وخُضْنا البحرَ من ثَلْجٍ إلى أن

حسِبْناه على البِيدِ اللُّكَامَا

وجاوَزْنا العَنان على عِنانٍ

تسِيرُ بنا ولم تلبثْ شَآمَا

نَؤُمُّ رَحابَك الفِيحَ اشْتياقاً

ونأمُل منك آمالاً جِسامَا

ومَن قصَد الكريمَ غدا كريماً

على ما في يديْه ولن يُضامَا

وحاشَا بحرُك الفَيَّاض أنَّا

نُرَدَّ بُغلةٍّ عنه حِيامَا

وقد وَافاك عبدٌ مُستَمِيحٌ

نَدَى كَفّيْك والشِّيَمَ الضِّخامَا

وحُسْنُ الظنِّ يقطعُ لي بأنِّي

أنالُ وإن سَما منك المَرامَا

فقد نزَل ابنُ ذِي يَزَنٍ طَريداً

على كِسْرَى فأنْزله شَمامَا

أتَى فَرْداً فآلَ يجُرُّ جيشاً

كسا الآكام خيلاً والرَّغامَا

به اسْتبْقَى جميلَ الذكِّرَ دَهْراً

وأنت أجَلُّ من كِسْرَى مَقامَا

وسَيْفٌ لو سَما دوني فإنِّي

عِصامِيٌّ وأسْمُوه عِظامَا

بفاطمةٍ مع ابْنَيْها وطه

وحَيْدَرةَ الذي أشْفَى العِقُامَا

عليهم رحمةٌ تُهْدِي سلاماً

يكون لنَشْرِها مِسْكاً خِتامَا

ومن تفاريق شعره، قوله من قصيدة، مستهلها:

كيف العَزَا والفُؤادُ يلْتهبُ

والحَيُّ زُمَّتْ لِبَيْنهِ النُّجُبُ

والعينُ عَبْرَى والجسمُ مُمْتَقِعٌ

والنفْسُ حَرَّى والعقلُ مُضْطربُ

وهذه أرْبُعٌ بكاظِمَةٍ

عَفَتْ قديماً فنَدْبُها يجبُ

منها:

وابْكِ زماناً مضَى بها أنُفاً

عنِّي فقد أذْهَلتْنِيَ النُّوَبَ

منها:

وبالنَّقا غادةٌ إذا خطَرتْ

تغارُ منها الأغصانُ والكُثُبُ

كأنها في الأَثِيثِ إن سَفَرتْ

بدرٌ بسَجْفِ الظلامِ مُحْتجِبُ

وكان ابن عمه الشريف محسن بن حسين يطرب لأبيات الحسين بن مطير، ويعجب بها، وهي:

ولي كبدٌ مَقْروحةٌ مَن يَبيعُني

بها كَبِداً ليستْ بذاتِ قُروحِ

أبى النَّاسُ وَيْبَ الناسِ لا يشْترونها

ومَن يشْتري ذا عِلّةٍ بصحيحِ

ص: 10

أحِنُّ من الشوقِ الذي في جَوانِحي

حَنِينَ غَصِيصٍ بالشَّراب قَريحِ

فسأل السيد أحمد تذييلها، فقال:

على سالِفٍ لو كان يُشْرَى زمانهُ

شَرَيْتُ ولكن لا يُباعُ بِروُحِي

تَقضَّى وأبْقَى لَاعِجاً يسْتفِزُّه

تألُّق بَرْقٍ أو تنسُّمُ رِيحِ

وقَلْباً إلى الأطْلالِ والضَّالِ لم يزَلْ

نَزُوعاً وعن أفْياهُ غيرَ نَزُوحِ

فليت بذاتِ الضَّالِ نُجْبُ أحِبَّتِي

طِلاحٌ فنِضوُ الشوقِ غيرُ طَلِيحِ

يُجشِّمُه بالأبْرَقَيْنِ مُنَيْزِلٌ

وبَرْقٌ سَرى وَهْناً وصوتُ صَدُوحِ

وموقفُ بَيْنٍ لو أرى عنه مَوْلِجاً

وَلَجْتُ بنفسِي فيه غيرَ شَحيحِ

صَرَمْتُ به رَبْعِي وواصلتُ أرْبُعِي

وأرْضيْتُ تَبْريحِي وعِفْتُ نَصِيحي

وبايَنْتُ سُلْواني وكلَّ مُلَوّحٍ

ولاءَمْتُ أشْجانِي وكُلَّ مَلِيحِ

وكلَّفْتُ نفسِي فوق طَوْقِي فلم أُطِقْ

لِعَدِّ سَجايا مُحْسِنٍ بمديحِ

ومما قاله في تغربه:

أتَتْنِيَ سَلْمَى وهْي غَضْبَى أسِيفَةٌ

تُساقِطُ ياقوتاً على فضةِ النَّحْرِ

تقول أمَا هذا المُقامُ ببلدةٍ

غريباً على سَخْتِ النوائبِ والسُّمْرِ

أما تذكُر البَطْحاءَ والبيْتَ والصَّفا

ومنزةَ الوُفَّادِ بين بني فِهْرِ

فقلتُ لها والطَّرْفُ تَدْمَى كُلومُه

وقلبِيَ من لَذْعِ الكَلامةِ في جمْرِ

ألا فارْبَعِي عنِّي وعِي القولَ واسْمعِي

وتُوجِعي المحزونَ باللَّوْمِ والهجْرِ

إذا جاء نصرُ اللهِ والفَتْحُ بعدَه

فتبَّتْ يدُ الأحْزابِ في زمنِ الكُفْرِ

وإنِّي على بُعْدِ المَزارِ وقُرْبِه

عزيزٌ على هامِ السِّماكيْن والنَّسْرِ

وله:

ألا ليت شِعْرِي هل أُلاقيكَ مَرَّةً

وصوتَ: قبل الموتِ هل أنا سامعُ

فيا دَهْرَنا للشَّتِّ هل أنت جامِعٌ

ويا دهرَنا بالوصلِ هل أنت راجعُ

وقال مخاطباً عمه الشريف إدريس، وقد رأى تقصيراً منه في حقه:

رأيتُك لا تُوفِي الرِّجالَ حُقوقَهمْ

توَهَّم كِبْراً ساء ما تتوهَّمُ

وتزعُم أنِّي بالمَطامِع أرْتضِي

هَواناً ونَفْسِي فوق ما نِلْتَ تزْعُمُ

وما مَغْنَمٌ يُدْنِي لِذُلٍ رأيتَه

فيُقْبَلُ إلاّ وهْو عنديَ مَغْرَمُ

وأخْتارُ بالإعْزازِ عنه مَنِيَّةً

لأنِّي من القومِ الذين هُمُ هُمُ

المصراع الأخير صدر أبيات أبي الطمحان القيني، أورد المبرد في كامله، والشريف المرتضى في أماليه، وصاحب الحماسة البصرية منها أربعة أبيات.

وهي:

وإنِّي من القومِ الذين هُمُ هُمُ

إذا مات منهم سيِّدٌ قام صاحبُهْ

نجومُ سماءٍ كلَّما غابَ كوكبٌ

بَدا كوكبٌ تأْوِي إليه كواكبُهْ

أضاءتْ لهم أحسابُهم ووجوهُهم

دُجَى الليلِ حتى نظَّم الجِزْعَ ثاقبُهْ

وما زال منهم حيث كانُوا مُسوَّدٌ

تَسِيرُ المَنايا حيث سارتْ كتائبُهْ

وأورد أبو تمام، في حماسته منها ثلاثة أبيات.

وهي:

إذا قيل أيُّ الناسِ خيرٌ قبيلةً

وأصبرُ يوماً لا تَوارَى كواكبُهْ

فإنَّ بني لَام بن عمرٍو أَرُومةٌ

سمَتْ فوق صعبٍ لا تُنال مَراقبُهْ

أضاءتْ لهم أحسابُهم..........

..........................إلخ

وله في الغزل:

أفي المَضارب أسيافٌ وأجْفانُ

تصولُ أم هيَ ألْحاظٌ وأجْفانُ

أحَنَّتِ العِيسُ أم نَوْحُ الحمائمِ أم

نسيمُ نَجْدٍ توالتْ منه أشْجانُ

لا بل هو الشوقُ يدعو الصَّبَّ نحوَهمُ

فيستجِيبُ لهم قلبٌ وجُثْمانُ

ص: 11

وكيف وهْو قَوِيُّ القلبِ لا سِيَمَا

وجُنْدُه خُرَّدٌ غِيدٌ وغِزْلانُ

طاب الزمانُ به والعَيْشُ وابْتجَتْ

أوقاتُنا وكذا الأيامُ تَزْدانُ

هُم الأحبَّةُ إن جارُوا وإن عَدَلُوا

وهُم حُلولُ فؤادِي أينما كانُوا

وله في مغنٍ:

برُوحِيَ مَن غَنَّى ورَوضةُ خَدِّه

مُخضَّبةٌ مُخضَلَّةٌ من دمِي غَنَّا

وأهْدَى لنا وَرْداً وبَاناً ونَرْجِساً

ولم يُهْدِ إلاّ القَدَّ والخَدَّ والجَفْنَا

وله في روض:

انْظُر إلى الروضِ كَساه الحَيَا

مَطارِفاً ضاع شَذاها الأرِيجْ

واهْتزَّتِ الأرضُ إلى أن رَبَتْ

وأنْبتتْ من كلِّ زَوجٍ بَهِيجْ

السيد عمار بن بركات بن جعفر بن بركات هو لأبنية المكارم عمار، ولمجتديه بمواهبه الدارة غمار.

أصلٌ كعمود الصبح في الإنارة، وطبعٌ كالأغر المحجل في الإثارة.

أحد فرسان الكلوم والكلام، وأحد حملة السيوف والأقلام.

سمعت له أشعاراً هي غايةٌ في الحسن، يجلو رونق ديباجها القلب من الحزن.

فعرفت أنه أحق حقيقٍ بأن يذكر، وأخلق في كل خليقٍ بأن تتلى آياته وتشكر.

وكان دخل البلاد الهندية، وتفيأ ظلال أندية ملوكها الندية الندية.

فما لبث أن تعلقت فيه خطاطيف الظنون، وطارت به عنقاء المنون.

وقد أثبت له ما تستهل البراعة من براعة استهلاله، ويؤذن بالسحر الذي لا حرج في القول باستحلاله.

فمنه قوله، مذيلاً بيت أبي زمعة جد أمية بن أبي الصلت ومادحاً النظام ابن معصوم:

اشربْ هنيئاً عليك التَّاجُ مُرْتفِقاً

في رأسِ غُمْدانَ داراً منك مِحلالَا

تسْعَى إليك بها هَيْفاءُ غانيةٌ

مَيَّاسةُ القَدِّ كَحْلَا الطّرْفِ مِكْسالَا

إذا تثنَّتْ كغُصْنِ الْبانِ من تَرَفٍ

وإن تجلّتْ كبدرٍ زان تِمْثالَا

كأنها وأدام اللهُ بَهْجَتها

شمسٌ على فَلَكٍ إشْراقُها طالَا

وكيف لا وهْي أمْسَتْ ساحِبَةً

بِخِدْمةِ السيِّد المِفْضالِ أذْيالَا

ذاك الذي جَلَّ عن تَنْوِيهِ تَسْمِيةٍ

شمسٌ عَلَتْ هل تَرى للشمسِ أمْثالَا

الباسمُ الثّغرَ والأبْطالُ عابِسَةٌ

والباذلُ المالَ لم يُتْبِعْه أنْكالَا

عَارٍ من العْارِ كَاسٍ من مَحامِدِه

لا يعرفُ الخُلْفَ في الأقوالِ إن قالَا

إن قال أفْحَم نَدْبَ القومِ مِقْوَلُهُ

أوصال أخْجَل لَيْثَ الغابِ إن صَالَا

عَلَا به النّسَبُ الوَضّاحُ مَنْزِلةً

عن أن يُماثَل إعْظاماً وإجْلالَا

خُذْها رَبِيبةَ فِكْرٍ طالَما حُجِبتْ

لولا عُلاك ووُدٌّ قَطُّ ما حالَا

واسْمَحْ بفضلِك عن تقْصيرِ مُنْشِئِها

وحُسْنُ بِشْرِك لم يبرَحْ بها فَالَا

قلت: وقد عارض البيت المضمن بعض الشعراء، مخاطباً عبد الله بن طاهر، حيث قال:

اشْرَبْ هَنِيئاً عليك التَّاجُ مُرْتَفِقاً

بالشَّاذِياخِ ودَعْ غُمْدانَ لليَمنِ

فأنتَ أوْلَى بتاجِ المُلْكِ تلْبَسهُ

من هَوْذَة بن عَلِيٍ وابنِ ذِي يَزَنِ

وقصر غمدان باليمن، بناه ليشرح بأربعة وجوه؛ أحمر، أخضر، وأبيض، وأصفر، وبنى داخله قصراً بسبعة سقوف، بين كل سقفين أربعين ذراعاً، وهو أحد الأبنية الوثيقة للعرب، يتمثل بها في الحصانة والوثاقة.

وقال بعض شراح المقصورة الدريدية، عند شرح قوله:

وسَيْفٌ اسْتعلَتْ به هِمَّتُهُ

حتى رمَى أبعَدَ شَأْوِ المُرْتَمَى

فجرَّع الأُحْبُوشَ سَمَّاً ناقِعاً

واحْتَلَّ مِن غُمْدان مِحْرابَ الدُّمَى

ما صورته: غمدان بناءٌ بصنعاء، لم يدرك مثله، هدمه عثمان بن عفان في الإسلام وله رسومٌ باقيةٌ إلى اليوم، والمحراب: الغرفة بلغتهم.

وغمدان: قصر بناه النعمان بن المنذر.

ص: 12

والشاذياخ: اسم نيسابور، وقريةٌ بمرو، كذا في القاموس، ووجد على حاشية مكتوبٌ بخط بعض فضلاء الشام على هامش القاموس صورتها: بل اسم مدينةٍ بخراسان، قرب نيسابور وكانت بستاناً لعبد الله بن طاهر بن الحسين، ذكر في تاريخ نيسابور أنه لما نزل عبد الله بها، نزلت عساكره في دور أهلها، فرأى امرأةً حسناء تسقي فرس جندي، فقال: ما شأنك، لست أهلاً لهذا؟! فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر.

فغضب، ونادى في عسكره: من بات في المدينة حل ماله ودمه.

وسار إلى الشاذياخ، وبنى بها قصراً، وبنى الجند حوله، فعمرت، وكانت من أطيب البلاد تربةً وهواء.

وكتب إلى النظام المذكور، يخاطبه بقوله:

زُرْتُ خِلاّ صَبيِحةً فحبانِي

بسُؤالٍ أشْفَى وأرْغَم شَانِي

قال لمَّا نظرتُ نُورَ مُحَيَّا

هُ ونِلْتُ المُنَى وكلَّ الأمانِي

كيف أصْبَحتَ كيف أمْسَيْتَ مِمَّا

يُنْبِتُ الحُبَّ في قلوب الغَوانِي

فتحرَّجْتُ أنْ أفُوه بما قد

كان مِنِّي طَبْعاً مدَى الأزْمانِ

يا أخا المَجْدِ والمَكارم والفَضْ

لِ ومَن لا أرى له اليومَ ثَانِي

أدْرِك أدْرِك مُتَيَّماً في هواكُمْ

قبلَ تَسْطُو به يَدُ الحِدْثانِ

وابْقَ واسْلَمْ مُمَتَّعاً في سُرورٍ

ما تغنَّتْ وُرْقٌ على غُصْنِ بَانِ

فراجعه بقوله:

ليت شِعْرِي متى يكون التَّدانِي

لبلادٍ بها الحِسانُ الغوانِي

وبها الكَرْمُ مُثْمِرٌ والأَقاحِي

ضحِكتْ عن ثُغورِ زَهْرٍ لِجَانِ

والبساتينُ فائحاتٌ بِعِطْرٍ

يُخْجِلُ العَنْبَرَ الذَّكِيَّ اليَمانِي

وطيورٌ بها تَجَاوَبْنَ صُبْحاً

وعَشِيّاً كنَغْمةِ العِيدانِ

وبألْحانِها تُذِيبُ ذَوِي اللُّبِّ

وتُحْيي مَيْتاً من الهِجْرانِ

وتَمشَّى بها الظِّباءُ الْحَوالِي

مائساتٍ كناعمِ الأغْصانِ

كلُّ خَوْدٍ تسْطُو بلَحْظِ حُسامٍ

وتَثَنٍ كما القنا المُرَّانِ

وَجُهها الصبحُ لكنِ الفَرْعُ منها

ليلُ صَبٍ من لَوْعةِ الحبِّ فانِ

غادةٌ كالنُّجُومِ عِقْدُ طلاها

ما الَّلآلِي وما حُلَى العِقْيانِ

إنَّ ياقوتَ خَدِّها أرْخَص الْيا

قوتَ سِعْراً وعاب بالمَرْجانِ

كلُّ يوم يُقْضَى بقُرْبٍ لَديْها

فهْو يومُ النَّوْروزِ والمِهْرجانِ

منها:

تلك مَن فاقتِ الظِّباءَ افْتناناً

فلذا وَصْفُها أتى بافْتِنانِ

ما لِمُضْنىً أُصِيب من أسْهُم اللَّ

حظِ نجاةٌ من طارقِ الحِدْثانِ

أذْكرتْني أيامَ تلك وأغْرَتْ

أعْيُنِي بالبكاءِ والهَمَلَانِ

نَفَثاتٌ كالسِّحْر يَصْدَعْنَ في قَلْ

ب مُعَنّىً من المَلامةِ عَانِ

ومنها:

كلماتٌ لكنَّها كالدَّرارِي

وسطورٌ حَوَتْ بديع المَعانِي

إذْ أتتْ من أخٍ شقيقِ المَعالي

فائقِ الأصْلِ غُرَّةٍ في الزَّمانِ

ضَافِيَ الوُدِّ صافِيَ القلبِ قَرْمٌ

كعبةٌ قد عَلا على كِيوانِ

ذاكراً لِيَ فيها تزايدَ شَوْقٍ

ووُلوعاً بها مدَى الأزْمانِ

ففهِمْتُ الذي نَحاهُ ولكنْ

ليت شِعْرِي يَدْرِي بما قد دَهاني

أنا قيسٌ في الحُبِّ بل هُو دونِي

لا جميلٌ حالي ولا كابْنِ هانِي

يا أخا العَزْمِ قد سَلِمْتَ ووَجْدِي

طافحٌ زائدٌ بغيرِ تَوانِ

فلِحَتْفِي أبصرتُ مَن قد رَماني

وعَناءٌ تَصَيُّدُ الغِزْلانِ

إن تشأْ شَرْح حالِ صَبٍ كئيبٍ

فلقد قاله بديعُ المَعانِي

مَرَضِي من مَريضةِ الأجْفانِ

عَلِّلاني بوَصْلِها عَلِّلانِي

ص: 13

البيت الأخير مشهور، وهو مطلب قصيدةٍ للشيخ الأكبر، قدس الله سره الأنور.

الإمام عبد القادر بن محمد الطبري إمام الإئمة، وعالم هذه الأمة.

فضائله يقل عند عدها رمل يبرين، ومحامده يتضاءل لديها مسك دارين.

وهو من الرتبة المكينة، والمهابة التي جملت الوقار والسكينة.

في محلٍ اتخذ المجرة ممشى، والفلك الأطلس عرشا.

ثم إذا اعتبر حاله من أرقامه، شهد الوصف بأن ذلك دون مقامه.

وأما تصلبه في أمر الدين، فهو فيه من أعظم الراشدين والمرشدين.

إلى بلاغة وبراغة، أعجز بهما فرسان اليراعة.

وقد أثبت له ما يقوم بالحجة.

فمن ذلك قوله من قصيدة يمدح بها الشريف حسن بن أبي نمى:

بَدَتْ تجُرُّ ذُيول التِّيهِ والُخيَلَا

في روضةِ العُجْبِ حتى قلتُ حَيَّ عَلَى

خَوْدٌ تُجرِّد بِيضاً من لَواحظِها

فتتركُ الأُسْدَ في ساحاتِها قتلَا

وتنْثَني بقَوامٍ زَانَه هَيَفٌ

فتُخْجِلُ الغُصْنَ تَعْدِيلاً كذا مَيَلَا

ما أطلْعتْ لِي هلالاً من مُبَرْقَعِها

إلاّ وعايَنْتُه بَدْراً فلا أفَلَا

ولا رَنَتْ لي بلَحْظٍ فَتْرةً كَسَلَا

إلاّ وقد بعثتْ خوفَ الحشاَ رُسُلَا

يا حُسْنَها من فتاةٍ حَلَّ مَبْسَمُها

ظَلْمٌ يفوق على لَذَّاتهِ عَسَلَا

ورَصَّعَتْه لآَلٍ حولَ مَنْبَتِها

زُمُرُّدُ الوَشْمِ ياللهِ ما فَعَلَا

ناديتُها ورماحُ الحيِّ مُعْلَنةً

يا ظَبْيةَ الحَيِ هل ما يُبْلِغُ الأمَلَا

لِوَالِهٍ عبثَتْ أيْدِي الغرامِ به

أما تَرَىْ شأنَه أن يُبْدِعَ الغَزَلَا

قالتْ صدقْتَ ولكنْ ذاك تَوْطِئَةٌ

لِمَدْحِ أفضلِ مَن في الأرضِ قد عَدَلَا

السيِّدِ الحسَنِ المَلْكِ الهُمامِ ومَن

تراه بالحقِّ للجَوْزاءِ مُنْتعِلَا

سلطانُ مكّةَ حامِي البيتِ مَن شهِدتْ

بعَدْلِه الأرضُ لمّا مَهَّد السُّبُلَا

مُؤيِّدُ الدِّين بالعَزْمِ الذي اقْتربَتْ

به السَّعاداتُ في حالاتِه جُمَلَا

لَيْثُ الكتيبةِ مُرْوِي المشْرَفيَّةِ مِن

دمِ العِدَآ مَنْهَلاً إذْ أرْعَف الأسَلَا

صادَ الصَّناديدَ يوم الحربِ ما بَطَلٌ

رأَى عَجائبَه إلَاّ وقد بَطَلَا

كم ذا أبانَتْ عن العَلْياءِ هِمَّتُه

وكم أبادتْ مَعالِي عَزْمِه رَجُلا

وكم مَحا سيفُه أهلَ الفَسادِ وأرْ

بابَ العِنادِ فجارَى سيفُه الأَجَلَا

فأصبحُوا لا تُرَى إلا مَساكنُهمْ

بَلاقِعاً قد كَساها الذُّلُّ ثَوب بِبلى

وليس بِدْعاً فهذا شأْنُ والدِه

عليٌّ المُرْتَضى السامِي بفضْلِ وَلَا

فسَلْ حُنَيْناً وسَلْ بَدْراً وسَلْ أُحُداً

والنّهْرَوانِ وسَلْ صِفَّينَ والجَمَلَا

فيا ابنَ طه عَلَوْتَ الناسَ قاطبةً

وجَلَّ قَدْرُك أن تَحْكِي له مَثَلَا

هل أنتَ مَلْكٌ عظيمُ الخَلْقِ أم مَلَكٌ

أبِنْ فأمْرُك هذا حَيِّرَ العُقَلَا

وقوله من أخرى يمدحه بها، وأولها:

رَبْرَبُ الأخْدارِ من شَمَمِهْ

لا يُراعِي النَّقْضَ في ذِمَمِهْ

حجَب الأبْصارَ رُؤْيتُه

وتجلَّى في خِبَا خِيَمِهْ

وأرى أحْبابَ حَضْرتِه

غَضَباً ما كان من شِيَمِهْ

ما يراه حالَ نُفْرتِه

غيرُ مَن بارَى بسَفْكِ دَمِهْ

زُرْتُه والعَزْمُ يُسْعِفني

آمِلاً منه ابْتسامَ فَمِهْ

جُنْحُ ليلٍ مُسْفِرٌ بسَنَا

طَلْعةِ المَأْمولِ عن ظُلَمِهْ

فحَدانِي عَرْفُ ساحتِه

وهَدانِي مُرْتقَى أَكَمِهْ

فبدَا لي في الحجابِ فمِن

فَرْقِهِ نُورٌ إلى قَدَمِهْ

هو للرَّائِي مُعايَنةً

مثلُ طَيْفِي مَرّ في حُلُمِهْ

ص: 14

هِمْتُ من حُبِّي له زَمَناً

في رُبا نَجْدٍ وفي سَلَمِهْ

أنْظِمُ الآدابَ من غَزَلٍ

أُسْنِدُ الإعْجازَ عن كَلِمِهْ

لِنَسِيبٍ في المديحِ يُرَى

حَسَناً عند اجْتِنا نِعَمِهْ

سَيِّداً من آل حَيْدرةٍ

وعَرِيقاً باقْتِفَا عِصَمِهْ

وحكيماً في مَمالكِه

قَطُّ ما انحَلتْ عُرَى حِكَمِهْ

فاق قُسّاً في فَصاحتِه

وسَما الطَّائِيَّ في كَرَمِهْ

وابْنُ سُعْدَى لو يُقاسُ به

كان مَطْروحاً بمُلْتَزِمهْ

هَزَّه للمَكْرُماتِ سَنَا

عُنْصِرٍ منه انْتِها هِمَمِهْ

كيف لا يهْتزُّ مُغْتبِطاً

وكتابُ اللهِ في عِظَمِهْ

وملوكُ الأرضِ قاطبةً

كلُّهم واللهِ مِن خَدَمِهْ

جَدُّه طه الشَّفيعُ لنا

فَوْزُ مَن يأْوِي إلى عَلَمِهْ

طِبْتَ نفساً يا مليكُ به

في غَدٍ طُوبَى لِمُعتْصِمِهْ

أُمُّك الزَّهْراءُ إبْتتُه

وابوك السِّبْطُ من رَحِمِهْ

أيَّد الرحمنُ قِبْلَتهُ

بك واسْتَحْمَى حِمَى حَرَمِهْ

وحَباك المجدَ أجْمَعه

حيثما ذَبَّيْتَ عن حُرُمِهْ

قَسَماً باللهِ يُقْسِمُه

عبدُ بِرٍ بَرَّ في قَسَمِهْ

إنَّك المَهْدِي وحُجَّتُه

عَدْلُك المعدودُ مِن قسمِهْ

يا أميرَ المؤمنين ويا مَن

شاد بالعَلْيَا على أُطُمِهْ

خُذْ مَديحاً كلُّه دُرَرٌ

جاء يسْعَى نحو مُسْتَلِمهْ

هَزأتْ بالفَجْرِ غُرَّتُه

حيث لاحَتْ من دُجَى لِمَمِهْ

نَظْمُ عبدٍ نَثْرُ مَدْحِك ما

زال يُرْوَى عن حِجَى قَلَمِهْ

دُمْتَ مولاه وسيِّدَه

ما شَدا القُمْرِيُّ في نَغَمِهْ

ووقف على قول البدر الدماميني:

يا ساكني مكة لا زلْتُم

أُنْساً لنا إنِّيَ لم أنْسَكُمْ

ما فيكمُ عَيْبٌ سِوَى قَوْلِكمْ

عند اللِّقا أوْحَشَنَا أُنْسُكُمْ

فقال مجيباً:

ما عَيْبُنا هذا ولكنَّه

مِن سُوءِ فَهْمٍ جاءَ مِن حَدْسِكُمْ

لم نَعْنِ بالإيحاشِ عند اللِّقا

بل ما مضَى فابْكُوا على نَفْسِكُمْ

وحذا حذوه ولده زين العابدين، فقال:

يا مُظْهِرَ العَيْبِ على قَوْلِنا

عند اللِّقا أوْحَشَنا أُنْسُكُمْ

ما قَصْدُنا ما قد جَنَحْتُم له

من خطأٍ قد جاء في فَهْمِكُمْ

فقَوْلُنا المذكورُ جارٍ على

حَذْفِ مُضافٍ غاب عَن حَدْسِكُمْ

والقَصُدُ فَقْدُ الأُنْسِ فيما مَضَى

لا ضِدُُّّه الواقِعُ في وَهْمِكُمْ

فالأُنْسُ لم يُوحِش بلَى فَقْدُه

هو الذي يُوحِش مِن مِثْلِكُمْ

وبعد أن بان لكم فاجْزِمُوا

بنِسْبةِ العَيْبِ إلى نَفْسِكُمْ

ولما وقف على ما قالاه أحمد بن عبد الرءوف، قال مجيباً ومعتذراً عن الدماميني:

صَوْناً مَوالِي الفضلِ بين الورَى

للبدرِ أن تُدْرِكَه شَمْسُكمْ

وجَلِّلوه بعَباءِ الإِخَا

فإنه الأنْسَبُ من قُدْسِكُمْ

فإنه الكنزُ وبُنْيانُه

مُؤسَّسٌ قِدْماً على أُسِّكُمْ

كأنه أضْمَر أن شَأنَكُمْ

صِناعةُ الإِبْهامِ في لَفْظِكُمْ

فاسْتعمَلَ النَّوَع الذي أنْتُمُ

أدْرَى به كي يُجْتَنى غَرْسُكُمْ

ولم يسَعْه كونهُ مُنْكِراً

لِمثل هذا الحِذْقِ من مثلِكُمْ

فإنَّ هذا سَائغٌ شائِعٌ

بُرْهانُه أوْحَشَنا أُنْسُكُمْ

ولده علي الإمام ابن الإمام، والقطر ابن الغمام.

نشأ في كفالته بذاخ المربض والعري، شامخ الأنف بذلك الوالد أشم العرنين.

ص: 15

أرتعه معه في روضه، وسقاه بيده من حوضه.

حتى بلغه رتبةً تتقاعس عنها رتبة التمني، واعتنى به فأوصلها إليه بغير مشقة التعني.

فقام مقامه في الإمامة والتدريس، وانتصب للفتيا على مذهب الإمام محمد بن إدريس.

وألف وصنف، وقرط الأسماع بلآليه وشنف.

وهو في الأدب ممن سبق وفات، وجمع على أحسن نسقٍ كل متفرقٍ رفات.

وله نظمٌ كانتظام الأحوال، ونثرٍ تعرف منه كيف تشتبه الجواهر بالأقوال.

فمن نثره، ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً: سيدنا المقتدى بآثاره، المهتدى بأنواره.

إمام محراب العلوم البديعة، وخطيب منبر البلاغة التي أضحت مذعنةً له ومطيعة.

قمر سماء المجد الأثيل، فلك شمس فخر كل ذي مقام جليل.

المميطة يد بيانه حواجز الأشكال عن وجوه المعاني، المعترف بمنطقه الفصيح القاصي من هذه الأمة والداني.

عمدة المحققين قديماً وحديثاً، ملاذ المدققين تفسيراً وتحديثاً.

الصاعد معارج العليا بكماله، المنشد في مقام الافتخار لسان حاله:

لنا نفوسٌ لِنَيْلِ المجدِ راغبةٌ

ولو تسَلَّتْ أسَلْناها على الأسَلِ

لا ينْزِل المجدُ إلَاّ في مَنازِلنا

كالنَّوْمِ ليس له مَأْوىً سِوى المُقَلِ

والقائل عند المُجادلة في مَقام المباهلة:

نحن الذين غَدَتْ رَحَى أحْسابِهمْ

ولَها على قُطْبِ الفَخارِ مَدارُ

المملوك يقبل الأرض التي ينال بها القاصد ما يؤمله ويرتجيه، وينهي أنه نظم بعض الجهابذة الأعيان بيتين في التشبيه.

والسبب الداعي لهما، والمعنى المقتضى لنظمهما.

أنه أبصرت العين ظبياً يرتع في رياضه، ويمنع بسيوف لحاظه عن ورود حياضه.

يرى العاشق سيآته حسناتٍ جاد بها وأحسن، ويعترف له بالحسن كل حسنٍ في الأنام وابن أحسن.

بدا وهو الجوهر السالم من العرض، وظهر وعليه أثرٌ من آثار المرض.

فأراد المشبه تشبيهه في هذه الحالة، فشببه بغصنٍ ذابلٍ قائلاً لا محالة.

ونظم ذلك المعنى، فشدا بما قاله صادح الفصاحة وغنى.

وهو:

بَدا وعليه أثْرٌ مِن سَقامِ

كمكْحولٍ من الآرامِ ساهِي

فخُيِّل لي كبدرٍ فوق غُصْنٍ

ذوَى للبُعْدِ من قُرْبِ المِياهِ

فاعترض معترضٌ عالم بالإصدار والإيراد، قائلاً: إن البيت الثاني لا يؤدي المعنى المراد.

إذ القصد تشبيهه بالغصن الموصوف، وليس المراد تشبيهه بالبدر فالبدر لا يوصف إلا بالخسوف.

فطالت بين المعترض والمعترض عليه المنازعة، ولم يسلم كل واحد منهما للثاني ما جادل فيه ونازعه.

فاختارا القاضي الفاضل حكماً، ورضيا سيدنا حاكماً ومحكماً.

فليحكم بما هو شأنه وشيمته من الحق، وليتأمل ما عسى أن يكون قد خفي عن نظرهما ودق.

والأقدام مقبلة، وصلى الله على سيدنا محمدٍ ما هبت الريح المرسلة.

فأجابه بقوله: سيدنا الإمام الهمام، الذي أضحى علم الأئمة الأعلام.

الإمام المقتدى به وإنما جعل الإمام، الحبر الذي قصرت عن استيفاء فضائله الأرقام " ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلام ".

وارث الجلالة عن آبائه الذين زهت بذكراهم الأخبار والسير، المقيم من نفسه العصامية على ذلك أوضح دلالةٍ يصدق فيها الخبر الخبر.

الحري بما استشهد به في شأن المملوك، السالك من الكمال طريقةً عز على غيره فيها لعزتها السلوك.

يقبل المملوك الأرض بين يديه، ويؤدي بذلك ما هو الواجب عليه.

وينهي وصول المثال العالي، الفائقة جواهر كلماته على فرائد اللآلي.

يتضمن السؤال عن بيتي ذلك الجهبذ، في الشأن الذي قضى حسنه أن تسلب الأرواح وتؤخذ.

ومنع حبه الكلام الألسن، وكان الدليل على ذلك اعتراف ابن أحسن.

فإنه ذو النظر العالي المدرك حقيقة الكنه، فإذا تنور من أذرعات أدنى ما تنوره إلى قيد شبرٍ منه.

فتأمل المملوك ما وقع من تلك المعارضة، التي أفضت إلى التحكيم والمفاوضة.

فإذا المتعارضان قد مزجا في حلو فكاهتهما شدة البأس في البحث برقة الغزل، وأخرجا الكلام لبلاغتهما على مقتضى حال من جد وهزل.

وجريا إلى غايةٍ حققا عند كل سابق أنه المسبوق، وأريا غبارهما لمن أراد اللحوق.

وكان الأحرى بالمملوك ستر عوار نفسه، وحبس عنان قلمه أن يجري في ميدان طرسه.

ص: 16

لكن لما كان ترك الجواب من الأمر المحظور، لم يلتفت إلى ما يترتب على الواجب من المحذور.

فقال حيث كان الأمر على ما أسنده مولانا عن الناظم وروى، من أنه قصد التشبيه في حال بقايا أثر السقام بغصنٍ ذوي.

فعدل إلى سبكه في قالب صياغته، وسلكه في سلك بلاغته.

فلا شك أنه أتى بما لا يدل على المراد دلالةً أولوية ظاهرة، وكان كمن شبه الأغصان أمام البدر ببنت مليكٍ خلف شباكها ناظرة.

وحينئذ فإطلاق القول بأن البيت الثاني لا يدل على ما أريد، ربما تمسك الخصم في عدم ثبوت الحكم عليه بأنه إطلاقٌ في محل التقييد.

كما أن للمعترض أن يتمسك في ذلك باستيفاء الدلالة الأولوية، فيكون المحكوم به هو المتعارض في القضية.

وهذا أجدى ما رآه المملوك في فصل الخطاب، وأحرى ما تحرى فيه أنه الصواب.

مع اتهامه نفسه في مطابقة الواقع في الفهم، لعلمه بدقة نظر مولانا إذا قرطس أغراض المعاني من فهمه بسهم.

وتجويزه على نفسه العجز عن الوصول إلى مأخذ المولى ومدركه، واعترافه بأنه لا يجارى في نقد الشعر لأنه فارس معركه.

انتهى.

قوله في أثناء الجواب: كان كمن شبه الأغصان، أمام البدر، يشير به إلى قول الصلاح الصفدي:

كأنما الأغصانُ لمَّا انْثَنتْ

أمامَ بَدْرِ التِّمِّ في غَيْهَبِهْ

بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها

تفرَّجتْ منه على موكِبهْ

وله فيه أيضاً:

كأنما الأغصانُ في رَوْضِها

والبدرُ في أثْنائها مُسْفِرُ

بنتُ مَلِيكٍ سار في مَوْكِبٍ

قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ

قال النواجي: لا يخفى ما في هذين البيتين، بل المقطوعين من ضعف التركيب، وكثرة الحشو، وقلب المعنى، وذلك أنه جعل الأغصان مبتدأ، وأخبر عنه ببنت المليك، وهو فاسد، وإن كان قصده تشبيه المجموع بالمجموع، إلا أن الإعراب لا يساعده.

على أنه لم يخترع هذا المعنى، بل سبقه إليه القاضي محيي الدين ابن قرناص، فقال:

وحديقةٍ غَنَّاءَ ينْتظِم النَّدَى

بفُروعِها كالدُّرِّ في الأسْلاكِ

والبدرُ مِن خَلَلِ الغصونِ كأنه

وجهُ المليحةِ طَلَّ من شُبَّاكِ

فانظر إلى حشمة هذا التركيب وانسجامه، وعدم التكلف والحشو، واستيفاء المعنى في البيت الثاني فحسب، والصفدي لم يستوف المعنى إلا في بيتين، مع ما فيهما.

فلو قال في المقطوع الأول:

كأن بدرَ التِّمِّ لمّا بدَا

من خَلَلِ الأغصانِ في غَيْهَبِهْ

بنتُ مَلِيكٍ خَلْفَ شُبَّاكِها

تفرَّجتْ منه على موكِبهْ

وفي المقطوع الثاني:

كأن بدرَ التِّمِّ في روضةٍ

من خلَلِ الأغصانِ إذْ يُسْفِرُ

بنتُ مَلِيكٍ سار في موكبٍ

قامتْ إلى شُبَّاكِها تنْظُرُ

لتم له من غير تكلف.

ومن شعر علي المذكور:

هَذِي رياضُ الحُسْنِ أغْصانُها

غَرَّد بالدّوْحةِ منه الهَزارْ

يهْتزُّ فيها قَدُّ ذاتِ الرَّنَا

رقيقة الخَصْر على الاخْتصارْ

بِتُّ ونارُ الشوقِ قد أُضْرِمتْ

بمُهجةٍ أحْرَقها الاسْتِعارْ

رام عَذُولِي هَدَّ رُكْنِ الهوى

يا كعبةَ الحُسنِ بكِ المُسْتَجارْ

غَضّيْتُ ذاك الطّرْفَ عن ناظِرٍ

هَيَّجه الوجدُ عَفِيف الإزَارْ

وقول في فتاة اسمها غربية:

ولي جِهَةٌ غَرْبيَّةٌ أشْرقتْ بها

لِعَيْنِي شَمسُ الأُفْقِ من غيرِ لا حُجْبِ

ولاح بها بدرُ التّمامِ لِناظرِي

ومن عجبٍ شمسٌ وبَدْرٌ من الغَرْبِ

وقوله فيها أيضاً:

هَيْفاءُ كالشمسِ ولكنّها

غَرْبيَّةٌ يا قومِ عند الشُّروقْ

يفْتَرُّ منها الثّغْرُ عن لُؤْلُؤٍ

رَطْبٍ ويبدُو منه لَمْعُ البُروقْ

باللهِ يا عاذلُ عنِّي فذَا

باردُه السَّلْسلُ فيه يَرُوقْ

رِفْقاً فما في العَذْلِ لي طاقةٌ

يُمْكِن منها لِعَذُولِي الطُّروقْ

غِبْتُ عن العاذِلِ فيها فما

هَزْلٌ وجِدٌّ لِذَواتِ الفُروقْ

وقوله فيها أيضاً:

ص: 17

إنّ الإهِلّةَ إذ بدَتْ غَرْبيَّةً

فالغَرْبُ منه ضِيَا المَسَرَّة يُشْرِقُ

والشرقُ دَعْهُ فليس منه سِوَى ذُكَا

تَحْتَرُّ في وَسَطِ النهارِ وتَحْرِقُ

وقوله أيضاً، مشجراً:

غزال كبدرِ التِّمِّ لاح بوجْهِه

هلالٌ رأتْه العينُ من أُفُقِ الشمسِ

رنَا طَرْفُه الفَتَّانُ يوماً لناظرٍ

يهيمُ به من حيث يُصْبِحُ أو يُمْسي

بَدَا لِيَ في خُضْرِ الرياضِ بأسمرٍ

به سُودُ هاتيك الحدائقِ في لَبْسِ

يُعلِّل بالتَّسْويفِ قلبي فليْته

رأَى دَنِفاً ما زال يقْنَعُ باللَّمْسِ

هَلكتُ جَوىً منه فَمن لِمُتَيَّمٍ

غريبٍ عن الأوطانِ يدْنُو من الرَّمْسِ

وكتب لبعض أحبابه في صدر رسالة:

على الحَضْرةِ العَلْياءِ دام مَقامُها

عَلِيّاً سلامٌ طيِّبُ النّشْرِ والعَرْفِ

إلى نَحْوِها حَمَّلْتُه نَسْمةَ الصَّبا

لتكْسِب وصْفاً من شَذَا ذلك الوَصْفِ

محمد علي بن إسماعيل الطبري أحد تلك الجلة الكرام، أئمة الحرم الذين وجب لهم الاحترام.

سما قدره فوق أعالي الجبال الشواهق، وبلغ غاية الكهول وهو في سن المراهق.

منزلةٌ لا يكتنه كنهها، ولا يوجد في العالم شبهها.

إلى فضلٍ ثنى إليه عنان الخطاب، وأدبٍ جنى به الثناء المستطاب.

ووراء ذلك رويةٌ أحسن من كل روية، وبديهة أورى من كل فكرةٍ ورية.

بلفظٍ ناهَبَ الحَلْىَ الغَوانِي

وأهْدَى السِّحْرَ للحَدَقِ الصِّحاحِ

وقد جئتك من شعره بما يعطر شام النور العبق، ويروق به كأسه المصطبح على ماء النهر والمغتبق.

فمنه قوله من قصيدة، يمدح بها الشريف حسن بن أبي نمى.

مطلعها:

أسَرتْني بطَرْفِها الفَتَّانِ

وبحُسْنٍ يفوقُ حُورَ الجِنانِ

ذاتُ قُرْطٍ من طَوْقِها مطلع الشَّمْ

سِ فِدَا حُسْنِها البديع جَنانِي

ما تبدَّتْ تخْتال إلاّ أرَتْنا

بدرَ تِمٍ يُقِلُّه غُصْنُ بَانِ

ما حكاها في جَنَّةِ الخُلْدِ حُورٌ

لا ولا في مَراتِعِ الغِزْلانِ

قلّدتْها يدُ الجمال حُلِيّاً

فاق حُسْناً قلائدَ العِقْيانِ

بخُدودٍ مُورّداتٍ حِسانٍ

ما حكتْها شَقائقُ النُّعْمانِ

تَيَّمَتْنِي فَرَقَّ جسمِي نحُولاً

مِن جَفاها فعَائدِي لا يَرانِي

وأذابتْ قلبِي المُعنَّى وجارتْ

وصَلَتْنِي لَواعِجَ الأشْجانِ

ليْتَها بَعْدَ بُعْدِها وصَلتْنِي

وكَفاها ما مَرَّ من هِجْرانِ

أرَّقتْ مُقْلتِي فأذْرَيْتُ دَمْعاً

كالغَوادِي دماً عَبِيطاً قَانِي

لا تَسَلْ ما جَرى على الخَدِّ منها

يا حبيبي فقد جرَى ما كَفانِي

فجُفونِي على الدَّوامِ دَوَامٍ

ودموعِي مَشارِعُ الغُدْرانِ

قيل مَهْلاً فمَن صَبَا صَيَّرتْه

مُوجِباتُ الصِّبا أسيرَ الغَوانِي

حَبَّذا إن قَضيْتُ في الحُبِّ وَجْداً

وقضى حاكمُ الهوى بهَوانِي

ظَبْيةٌ تقْنِصُ الهِزَبْرَ فيُمْسِي

وهْو لَيْثُ الشَرَى الأسِيرَ الْعانِي

تتَّقِي الأُسْدُ في العَرِينِ سَطاهُ

وهْو يخْشَى من فَتْرةِ الأجْفانِ

كلمتْنِي بفَاتِراتٍ مِرَاضٍ

سِحْرُ هارُوتِها قضَى بافْتتانِي

جاوَز الحَدَّ لَحْظُها فمَلاذِي

حَسَنٌ ذُو الفخار والسُّلْطانِ

وقوله من أخرى في مدحه أيضاً، ومستهلها:

أفْدِي مَهاةً تُلِينُ القوَل أحْيانَا

فتسلُب العقلَ ممَّن كان أحْيانَا

أماتَنا هَجْرُها المُولِي القلوبَ أسىً

يُذيِب لولا رجاءُ الوصلِ أحْيانَا

لا عاش مَن يتمَنَّى بعد نَشْوتِه

مِن خمرةِ الحبِّ أن يصحُو ولا كانَا

ص: 18

بمُتْرَفِ الخدِّ جَنَّاتٌ لناظرِها

لكنّها أجَّجَتْ في القلبِ نِيرانَا

لولا سحائبُ جَفْنٍ سَحَّ وَابِلهُ

أجْرَى بِحاراً فأطْفاها وغُدْرانَا

تُرِيك من وجهِها الضّاحِي وقامتِها

بدراً على غُصُنٍ يخْتال نَشْوانَا

جارتْ على قلبِيَ المجروحِ مُقْلتُها

وأتْلفتْه وما أضْمَرْتُ سُلْوانَا

لا تُسْتمال وإن مالتْ مَعاطِفُها

تحمَّلَتْ من رياضِ الحُسْنِ أفْنَانَا

ترْنُو بفاترِ طَرْفٍ زاد صَارِمُه

فينا عن الحَدِّ مَسْنوناً فأفْنانَا

كأنما سيفُ بَدْرِ الدين أوْدَعَه

من طَرْفِها الفاترِ الفَتَّانِ أجْفانَا

ويحسَبُ الناسُ من أهلِ البَدِيعِ ومِن

أهلِ السليميَّةِ الغَبْرَا ومعكانَا

أو آلِ خالد من أهدى ضلالُهُمُ

نُفوسَهم فغدوْا هَدْياً وقُرْبانَا

وغرَّهم فيهمُ حتى غَدَتْ فِئَةٌ

فَيْئاً وأخْرَى قضتْ لم تَرْجُ غُفْرانَا

هذا مُكبَّلُ مَأْسُورٌ وذا ورَدتْ

به القنَا مِن حِياضِ الموت طُوفَانَا

وجرَّعتْهم كؤوسَ الحَيْنِ مُتْرَعةً

وقائعٌ تتْرُك الوِلْدانَ شِيبانَا

لو أنهم عَقَلُوا أمْراً لَما شَهَرُوا

عَضْباً ولا اعْتقلُوا للحَرْبِ مُرَّانَا

ولو يُرِيدون خَيْراً أو يُرادُ بهمْ

كانوا على ما مضَى من قبلُ غِلْمانَا

لكنْ قضَى اللهُ باسْتِئْصالِهم فبَغَوْا

على نفوسِهمُ ظُلْماً وعُدْوانَا

وشاهَدُوا جَحْفَلاً ذابتْ نفوسُهمُ

مِن خَوْفِه مَلأَ الآفاقَ فرسانَا

تَسُلُّ أسْيافَه أحلامُ نائِمهمْ

عليه رُعْباً ويَلْقَى الموتَ يَقْظانَا

هذا من قول أشجع السلمي:

وعلى عَدُوِّك يا ابنَ عَمِّ محمدٍ

رَصَدانِ ضَوْءُ الصبحِ والإظْلامُ

فإذا تنبَّه رُعْتَه وإذا غَفَا

سَلَّتْ عليه سيوفَك الأحْلامُ

منها:

له من الرُّعْبِ أنْصارٌ مُؤيِّدةٌ

تُصَيِّرُ الليثَ مثلَ الضَّبِّ حَيْرانَا

في الأمثال أحير من ضبٍ؛ لأنه إذا فارق جحره لم يهتد للرجوع.

يحُفُّه من بَنِيه أُسْدُ معركةٍ

تَرْوِي الْقَنا إن غَدا الضِّرْغَامُ ظَمْآنَا

بيتُ النُّبُوةِ بيتُ اللهِ مَن ورَثُوا

أمْرَ الخلافةِ سُلْطاناً فسُلْطانَا

يَفْنَى المَديحُ ولا تُحْصَى مَحامدُهمْ

فَدَعْ زُهَيْراً ودَعْ كَعْباً وحَسَّانَا

محمد جمال الدين بن عبد الله الطبري مقدم في المقال وإن تأخر، وإذا كان غيره بحراً يفيض فهو بحرٌ يزخر.

يتقدم حيث يتأخر الذابل، ويجود إذا ما ضن بجوده الوابل.

فروض طبعه تسرح النواظر في فضاه، ومرعى بيانه أينع سعدانه ورف غضاه.

وله ذكاء متطاير اللهب، وقريض يزري بقراضة الذهب.

وقد أثبت له ما يعلق من كعبة البلاغة، ويعرف منه أنه لم يبلغ أحدٌ بلاغه.

فمنه قوله، من قصيدة في المدح:

مُذ لاح بدرُ الدُّجَى وأشْرَقْ

أغْرقني مَدْمَعِي وأشْرَقْ

ورُحْتُ من لَوْعتِي أُصالِي

جَوىً لقلبِي الكئيبِ أحْرَقْ

لا لَوْعَتِي تنْطفِي وحِبِّي

فَرَّق شمْلِي وما ترفَّقْ

ومنها:

لمَّا رأيتَ الهوى هَواناً

وأنني في يديْك مُوثَقْ

وأن جَوْرَ الغرامِ عَدْلٌ

وحاكمَ الحبِّ ليس يُشْفِقْ

جاوَزْتَ في الحدودِ ظُلْماً

ألستَ عَدْلَ الحسينِ تَفْرَقْ

بدرُ الملوك الحُسَين مَن في

نَدَى يديْه البِحارُ تَغْرَقْ

ومَن له صَوْلةٌ وعَزْمٌ

منها أُسودُ الحروبِ تُشْفِقْ

ومنها:

لو لَمَستْ رَاحتاهُ عُوداً

أثْمَرَ في كفِّه وأوْرقْ

ص: 19

ولو ينال السحابُ فَيْضاً

من بعضِ جَدْواهُ كان أغْرَقْ

فلا تقِسْ بالحسين خَلْقاً

فمثلُه ما أظنُّ يُخْلَقْ

ومَن بنُورِ النبيِّ طه

ضَمَّخَه ربُّه وخَلّقْ

أعْظَمُ من قيصرٍ وكسرَى

وتُبَّعٍ مَنْصِباً وأعْرَقْ

وقوله في الغزل:

أسيرُ العيونِ الدُّعْجِ ليس له فَكُّ

لأنَّ سيوفَ اللّحْظِ من شأنها السَّفْكُ

حَذارِ خَلِيَّ القلبِ من عَلَقِ الهوى

وأوّلُها سُقْمٌ وآخرُها فَتْكُ

ورُحْ سالماً قبلَ الغرامِ ولا تقِسْ

عليَّ فإنِّي هالكٌ فيه لاشَكُ

ألم تَرَنِي وَدَّعتُ يوم فِراقِهمْ

حَشايَ لِعلْمِي أن ما دونه الهُلْكُ

وكيف خَلاصِي من يَدَيْ شادِنٍ إذا

بَدا ابْيَضَّ في الدَّيجُور من نُورِهِ الحَلْكُ

وهيْهات أن تُرْجَى لِمثْلِي سَلامةٌ

وقد سَلَّ بِيضَ الهنْدِ ألْحاظُه التُّرْكُ

يقولون تَرْكُ الحُبِّ أسلمُ للفتى

نعم صدقوا إن كان يُمكنُه التّرْكُ

دَعُونِي وذِكْرِي بين بَاناتِ لَعْلَعٍ

عُرَيْباً هواهم في المَواقِفِ لي نُسْكُ

وإن رُمْتُمُ إرشادَ قلبي فكرِّرُوا

أحاديثَ عشقٍ طاب في نَظْمِها السَّبْكُ

أما والخدودِ العَنْدَمِيَّاتِ لم أحُلْ

وكلُّ الذي عنِّي روَى عَاذِلِي إفْكُ

وما بمَصُونِ الثّغْرِ من ماء كَوْثرٍ

وكأسِ عَقِيقٍ خَتْمُه خالُه المِسْكُ

لقد لَذّ لي خَلْعُ العِذارِ وطاب في

هَوى الخُرَّدِ الغِيدِ الدُّمَى عنديَ الهَتْكُ

قوله: لاشك قد يتوهم أن فيه لحناً، على أن لا نافيةٌ للجنس واسمها في ذلك منبيٌّ على الفتح.

ولا لحن فيه، بل فيه وجهان: أحدهما، منع كونها نافيةً للجنس، بل عاملة عمل ليس، والخبر محذوف جوازاً، كقول الحماسي:

مَن صَدَّ عن نِيرانِها

فأنا ابْن قَيْسٍ لا بَراحُ

والثاني؛ أن تكون نافيةً للجنس، إلا أنها ملغاة، والرفع بالابتداء، فلم يجب تكرارها، لجواز تركه في الشعر.

وله تصدير وتعجيز لقصيدة ابن الفارض، وقفت منه على قطعةٍ، وهي:

ما بين ضَالِ المُنْحَنَى وظِلالِهِ

رَشَأٌ سَبَى الألبابَ عَنْبَرُ خالِهِ

في ليلِ طُرَّتِه وصُبْحِ جَبينِهِ

ضَلَّ المُتَيَّمُ واهْتدَى بضلالِهِ

وبذلك الشِّعْبِ اليَمانِي مُنْيةٌ

ما بين سَفْحِ طَوَيْلعٍ وجِبالِهِ

مِن دونها حَتْفُ النفوسِ وبُغْيةٌ

للصَّبِّ قد بَعُدتْ على آمالِهِ

يا صاحِبي هذا العَقيقُ فقِفْ به

واحرُس فؤادَك من لِحاظ غَزالِهِ

فإذا وصلتَ الجِزْعَ طُفْ بِقبابِهِ

مُتَولِّهاً إن كنتَ لست بِوَالِهِ

وانْظُرْه عنِّي إن طَرْفِي عَاقَنِي

ياقوتُه بصَفا لُجَيْنِ رِمالِهِ

مارَام منه ذاك إلاّ صَدَّهُ

إرْسالُ دَمْعِي فيه عن إرْسالِهِ

واسْألْ غَزال كِناسِه هل عنده

خبَرٌ بمَن أضْحَى قتيلَ نِزالِهِ

أو عنده ممَّا أُلاقِي من أسىً

عِلْمٌ بقلبِي في هَواه وحالِهِ

وكتب إلى شيخه عبد الرؤوف بن يحيى الواعظ المكي، مسائلاً بقوله:

يا أَيها الحَبْرُ يا مَنْ

منه العلومُ تفجَّرْ

ومُفَرَدَ العصرِ مَن قد

لمسجدِ اللهِ أَزْهَرْ

بالاشْتغالِ دَواماً

بقُرْبِ بيتٍ مُطهَّرْ

ما الحكمُ في كلِّ قاتٍ

وكفتةٍ هو مُنْكَرْ

أَم لا لنا فأبِينُوا

لديكُم الصَّعْبُ يظْهَرْ

أَنتم مَلاذٌ وأَمَّا

في الحكم كُلٌّ تحيَّرْ

فأجابه بقوله:

الحمدُ لله حَمْداً

أفرادُه ليس تُحْصَرْ

ص: 20

ومنه خيرُ ثَناءٍ

لأحمدَ الطُّهْرِ يُنْشَرْ

الحكمُ في ذَيْنِ حِلٌّ

والتَّرْكُ للضُّرِّ أظْهَرْ

عبدُ الرؤوف وَشاهُ

يرجُو المَزلاّت تُغْفَرْ

فضل بن عبد الله الطبري ذاته كاسمه، والفضل كله برسمه أجل قدراً من أن لا يعرف، وحاشاه أن يكون نكرةً فيعرف.

وقد سمعت من يقول عنه: هو العلم الذي عرف العالم فضله، والفاضل الذي إذا اعتبر فغيره بالنسبة إليه فضلة.

وله من الأشعار كل درةٍ فريدة، هي روي في طلا كل وليدة خريدة.

فمنها قوله، من قصيدة يمدح بها الشريف زيد بن محسن، أولها:

يا مَيُّ حَيَّى الحَيْاَ أحْيَا مُحَيَّاكِ

هلَاّ بأعْتابِ عُتْبَى فَاهَ لي فَاكِ

مَن لي إليك وقد أوْدَى صُدودُك بي

ولا تَزالِين طَوْعاً لَيَّ أفَّاكِ

يا هذه لم أزَلْ مِن بُعْدِها ودُنُوِّ

السُّقْمِ من بَعْدِها مَوْثوقَ أشْرَاكِ

تِيهِي أَطِيلي التَّجنِّي والجَفَاءَ وما

أرَدْتِ فاقْضِيه بي فالُحسْنُ وَلَاّكِ

رِفْقاً رُويْداً كأني بالعَذُولِ على

تَطاوُلِ الصَّدِّ في ذا الصَّبِّ أغْراكِ

منها:

حَسْبي دليلاً على شوقي المُبرِّح بي

أنِّي لَثَمْتُ عَذُولِي حين سَمَّاكِ

والجَفْنُ في أرَقٍ والقلبُ في حُرَقٍ

والعينُ في غَرَقٍ إنْسانُها باكِي

يا مُهجةَ الصَّبِّ غير الصَّبْرِ ليس وقد

جَنَتْ عليك بما لاقيتِ عَيْناكِ

منها في المديح:

قد زاد في شرفِ البَطْحاءِ أنَّك في

جِيرانِها خَيْرُ فَعَّالٍ وتَرَّاكِ

مُولِي الجميل ومَنْجاةُ الدَّخِيلِ ومَنْ

حاةُ الخَذِيلِ سَرِيُّ عَيْنِ أمْلاكِ

قوله في مطلع القصيدة: فاه لي فاك، جرى فيه على اللغة الضعيفة، وهي لزوم الألف للأسماء الخمسة في جميع الحالات، كقوله:

إنَّ أبَاها وأبا أباهَا

ومن شعره قوله:

لا تُضيِّعْ سَبَهْلَلاً فُرَصَ الْ

عمرِ بلا طاعةٍ ولا تتعلَّمْ

سوف يَدْرِي الجَهْولُ عند انْقضا

ءِ العمرِ سُدىً كيف ضاع فيَنْدَمْ

عبد الرحمن بن عيسى المرشدي مفتي القطر الحجازي وعالمه، وصدره الذي قامت به معالمه.

جواد قلمه في ميدان الطرس مرخي العنان، وشرح نموذج حاله أجلى وأظهر من العيان.

سلم له من كل فنٍ أهل حله وعقده، وأذعن لبلاغته من كل صوبٍ جهابذة نقده.

وألقت إليه الفصاحة مقاليدها، وكتبت رؤساء البراعة باسمه تقاليدها.

وهو الطود رصانةً، والطور رزانةً.

بعلمه يقتدى، وبحلمه يهتدى.

وكان عصره يربو على العصور شرفاً، ويرتقي من المعالي فنناً وشرفاً.

بضروبٍ من المآثر والمفاخر، ازدانت بها الأوائل والأواخر.

يحديها حادي الرفاق، على مطالع الإشراقين من الآفاق.

حتى سمعتها كل أذن صما، ورأتها كل عينٍ عميا.

وكان حماه للقصاد قبلة، وما أظن أحداً بلغ مثل شأنه قبله.

يعتقد الحجيج قصده من غفران الخطايا، وينشد ببابه تمام الحج أن تقف المطايا.

وله من الآثار ما هو في مسامع النبغاء شنف، وفي مجامع البلغاء روضٌ أف.

ومن خبره على ما نقل ابن معصوم، أنه لم يزل ممتطياً صهوة العز المكين، راقياً ذروة طود الجاه الركين.

لا يقاس به قرين، ولا تطأ آساد الشرى له عرين.

إلى أن تولى الشريف أحمد بن عبد المطلب مكة المشرفة، ورفل في حلل ولايتها المفوقة.

وكان في نفسه من الشيخ المشار إليه ضغن، حل بصميم مهجته وما ظعن.

فأمر أولاً بنهب داره، وخفض محله ومقداره.

ثم قبض عليه قبض المعتمد على ابن عمار، وجزاه الدهر على يديه جزاء سنمار.

إلاأن المعتمد أعض ابن عمار بالحسام الأبيض، وهذا طوقه هلال فترٍ من أنامل عبدٍ أسود، فجرعه كأس الموت الأحمر.

وكان قد أبقاه في محبسه إلى ليلة عرفة، ثم خشي أن يسعى في خلاصه من أكابر الروم من عرفه.

فوجه إليه بزنجيٍ أشوه خلق الله خلقا، وتقدم إليه بقتله في تلك الليلة خنقا.

فامتثل أمره فيه، وجلله من برد الهلاك بضافيه.

ص: 21

فأقفرت لموته المدارس، وأصبحت ربوع الفضل وهي دوارس.

وذلك في عام سبع وثلاثين والف.

ومن الاتفاق أن الشريف المذكور قتل هذه القتلة بعينها، حين تقاضت منه الليالي ما سلفت من دينها.

وفي الأثر: كما تدين تدان، وهذا حال الدهر مع كل قاصٍ ودان.

وهذا حين أتلو من آياته، وأثبت ما يدل على بعد غاياته.

فأعظمها قصيدته التي مدح بها الشريف حسنا، وابنه أبا طالب، مهنياً لهما بالظفر بأهل شمر، وهو جبل بنجد:

نَقْعُ العَجاجِ لَدَى هَياجِ العِثْيَرِ

أذْكَى لدَيْنا من دُخانِ العَنْبَرِ

وصَلِيلُ تجْريدِ الحُسامِ ووَقْعُه

في الْهامِ أجْدَى نَغْمةً من جُؤْذُرِ

وسَنَا الأسِنَّةِ لَامِعاً في قَسْطَلٍ

أسْنَى وأسْمَى من مُحَيّاً مُسْفِرِ

وتَسَرْبُلٌ في سابِغاتِ مُزَرَّدٍ

أبْهَى علينا من قَباءٍ عَبْقَرِي

وتتَوُّجٌ بقَوانِسٍ مَصْقولَةٍ

أزْهَى علينا من سَدُوُسٍ أخْضَرِ

وكذاك صَهْوةُ سابِحٍ ومُطهَّمٍ

أشْهَى إلينا مِن أَرِيكةِ أحْوَرِ

ولِقَا الْكَمِيِّ مُدَرَّعاً في مِغْفَرٍ

كلِقَا الغَرِيرِ بمِقْنَعٍ وبِمخْمَرِ

ألِفَتْ أسِنَّتُنا الورُودَ بمَنْهَلٍ

عَلقتْ به عَلَقَ النَّجِيعِ الأحْمَرِ

وسيوفُنا هجَرتْ جِوارَ غُمودِها

شَوْقاً لِهامَةِ كلِّ أصْيَدَ أصْعَرِ

فتَخالُها لمَّا تُجرَّد عندما

هاج القَتامُ بَوارِقاً بِكَنَهْوَرِ

وصَهِيلُ جُرْدِ الخيلِ خِيلَ كأنه

رَعْدٌ يُزَمْجِرُ في الْجَدَى المُثْعَنْجِرِ

ودمُ العِدَى مُتقاطِراً مُتدفِّقاً

كالوَبلِ كالسيلِ الجُرافِ الْجِوَّرِ

ورُءوسُهم تجْرِي به كجَنادِلٍ

قذَفْت به مَوْجُ السيولِ الهُمَّرِ

غَشِيَتْهُمُ في العامِ مِنَّا فِرقةٌ

تركتْ فَرِيقَهم كسَبْسَبِ مُقْفِرِ

أوْدَتْهُمُ قَتْلاً وأجْلَتْهم إلى

أن حطَّم الهِنْدِيُّ ظَهْرَ المُدْبِرِ

تركتْ صَحاراهُم مَوائِدَ ضُمِّنَتْ

أشْلاءَ كلِّ مُسَوَّدٍ وغَضَنْفَرِ

ودَعتْ ضُيوفَ الوحشِ تَقْرِيهمْ بما

أفْنَى المُهَنَّدُ والوَشِيجُ السَّمْهَرِي

فأجَابها من كلِّ غِيلٍ زُمْرَةٌ

تحْدُو مَنارَ عَمَلَّسٍ أو قَسْوَرِ

وأظلَّها ظُلَلٌ نِشَاصُ سَحابِها الْ

مرْكومِ أجْنحةُ البُزاةِ الأنْسُرِ

فبَراثِنُ الآسادِ تضْبثُ في الكُلَى

ومَخالبُ العِقْبان تنشَب في المَرِي

شكَرتْ صَنيعَ المَشْرَفيَّةِ والْقَنا

إذْ لم تَضِفها الهُبْرَ غيرَ مُهَبَّرِ

فغَدتْ قبورُهمُ بطونَ الوَحْشِ مِنْ

ها يُبعَثون إذا دُعُوا للمَحْشَرِ

وخلَتْ ديارُهمُ وأقْوَى رَبْعُهمْ

وسَرى السَّريُّ مُشَمِّراً عن شمّرِ

أنِفَتْ من اسْتقْصاءِ قَتْلِ شَرِيدِهمْ

كَيْما يُخبِّرَ قائلاً مِن مَخْبَرِ

فثَنتْ أعِنَّةُ خَيْلِنا أجْيادَها

عن قَتْلِ كلِّ مُزَنَّدٍ وحَزَوَّرِ

حتى إذا حان القِطافُ لِيانِعٍ

من أرْؤُسٍ تُرِكتْ ولَمّا تُؤْبَرِ

عصفَتْ بها رَيْبُ المَنُونِ فأُلْقِحتْ

وتحرَّكتْ بزِعَازِعٍ من صَرْصَرِ

فدعَتْ سُراةَ كُماتِنا لِقطافِها

بأناملِ القصَبِ الأصَمِّ الأسْمَرِ

فتجهَّزتْ لحَصادِها في فَيْلَقٍ

لو يسْبَحون بزَاخرٍ لم يَزْخَرِ

مَلأٌ تنُوق إلى الكفاحِ نُفوسُهم

تَوَقَانها لِلِقَا الرَّداحِ المُعْصِرِ

ص: 22

يغْشَوْن أبْطال الخَمِيسِ بَواسِماً

كالليثِ إن يَلْقَ الفَرِيسةَ يَكْشِرِ

وتَخالُهم فوق الجِياد لَوابِساً

سَدّاً يمُوجُ من الحديدِ الأخْضرِ

فإذا همُ ازْدحمُوا بجِزْعٍ وانْثَنَوْا

أوْرَى زِنادُ دُروعِهم ناراً تُرِي

جيشٌ طَلائعُه الأوابِدُ إن تُصِخْ

لوَجِيبِه من قِيدِ شَهْرٍ تنْفِرِ

يقْتادُهُ الملك المُشِيحُ كأنه

بين العَوالي ضَيْغَمٌ في مَزأَرِ

مَلِكٌ تَدرَّع بالبَسالةِ فاغْتنَى

يومَ الوغَى عن سابِغٍ وسَنَوَّرِ

مَلِكٌ تتوَّج بالمَهابةِ فاكْتفَى

عند الطِّعان لِقرْنِه عن مِغْفَرِ

مَلِكٌ تُذكَرنا مَواقِعُ حَدِّه

في الْهامِ وَقْعةَ جَدِّه في خَيْبَرِ

مَلِكٌ إذا ما جال يومَ كَريهةٍ

لم تَلْقَ غيرَ مجدَّلٍ ومُعَفَّرِ

مَلِكٌ يُجهِّز من جَحافلِ رَأْيِه

قبلَ الوَقيعةِ جَحفَلاً لم يُنظَرِ

مَلِكٌ تسنّمَ ذِرْوةَ المجدِ التي

مِن دونها المَرِّيخُ بل والمشْترِي

الأشْرفُ الشَّهمُ الذي خضَعتْ له

شُمُّ الأُنوفِ وكلُّ جَحْجاحٍ سَرِي

الأفضلُ السَّنَدُ الذي أوْصافُه

أنْسَتْ سُمَا الوَضَّاحِ وابنِ المُنْذِرِ

الأكْرمُ المِفْضالُ مَن إحسانُه

أرْبَى على كسرَى الملوكِ وقَيْصَرِ

ذُو الهِمَّةِ العَلْيا الذي قد نال ما

عنه تُقصِّر هِمَّةُ الإسكَنْدَرِ

شَرَفاً تقاعَستِ الكواكبُ دونَه

لو لم تُمَدَّ بنُورِه لم تُزْهِرِ

هَبْها بمنطقةِ البُروجِ مَقَرُّها

أمُناهِزٌ هذا بُنُوَّةَ حَيْدَرِ

كَلَاّ فكيف بمَن حَواها جامِعاً

نَسَباً سَمَا بأُبُوَّةِ المُدَّثِّرِ

أعْظِمْ بها من نِسْبةٍ نَبَويَّةٍ

عَلَويَّةٍ تُنْمَى لأصلٍ أطْهَرِ

قد شُرِّفْت بَدْءًا بأشْرفِ مُرْسَلٍ

ونِهايةً بالسيِّدِ الحسَن السَّرِي

فَخْرُ الخلائقِ دُرَّةُ التَّاجِ الذي

بِسواه هامُ ذوِي العُلَى لم يَفْخَرِ

لم تَلْقَه يَوْمَيْ وَغىً وعَطاً سِوَى

طَلْقِ المُحَيَّا في حُلَى المُسْتَبْشِرِ

يعْفُو عن الذَّنْبِ العظيمِ مُجازياً

جَازِيه بالحُسْنَى كأن لم يُوزَرِ

يا سيِّد الساداتِ دُونَك مِدْحَةً

نفَحت بعَرْفٍ من ثَناك مُعَطَّرِ

قد فُصِّلتْ بلآلىءِ المَدْحِ التي

يقفُ ابنُ أوْسٍ دُونها والبُحْتُرِي

وَافتَكْ تَرْفُل في بُرودِ بلاغةٍ

وبراعةٍ ببُرودِ صَنْعا تَزْدرِي

صاغتْ حُلاها فكرةٌ قد صانَها

شَمَمُ الإباءِ عن امْتداحِ مُقصِّرِ

ما شَأْنُها كَسْب القَرِيضِ تكسُّباً

لولا مَقامُك ذُو العُلَى لم تَشْعُرِ

فورَدتُ مَنْهَلَها الرَّوِيَّ فلم أجِدْ

أحَداً فنِلْتُ صَفاهُ غيرَ مُكدَّرِ

فنَهلْتُ منه وعَلَّني بنَمِيرِه

وطَفِقْتُ وَارِدَه ولمَّا أصْدُرِ

خُذْهَا عَقِيلةَ كِسْرِ جَيْشِ فَصَاحةٍ

سَفَرتْ نِقاباً عن مُحَيّاً مُسْفِرِ

جمعتْ بَلاغةَ مَنطقِ الأعْرابِ مَعْ

حُسْنِ البيانِ ورقَّةِ المُسْتَحْضِرِ

لو سامَها قُسٌّ لمَا سُمِعتْ له

بعُكاظَ يوماً خُطْبَةٌ في مِنْبَرِ

شرُفتْ على مَن عارَضتْه بمَدْحِ من

أضْحَى القَرِيضُ به كعِقْدٍ جوهرِي

فاسْتَجلِها وَافتْ تُهنِّي بالذي

نفَحتْ بَشائرهُ بمِسْكٍ أَذْفَرِ

ص: 23

نصرٌ تهُزُّ بُنودَه رِيحُ الصَّبا

خفَقتْ على هامِ الأشَمِّ الْحَزْمَرِ

هو نَجْلُك الْمنصور دامَ مُؤيَّداً

بك أيْنما يُلْقِ العزيمةَ يظْفَرِ

لا زلتُما في ظلِّ مُلْكٍ بَاذِخٍ

وجنودُ مُلْككمُ ملوكَ الأعْصُرِ

مُسْتمْسِكين بهَدْي جَدِّكم الذي

بالرُّعْبِ يُنْصَر من مسافةِ أشْهُرِ

أهْدَى الإلهُ صَلاتهُ وسلامه

لجَنابِه في طَيِّ نَشْرِ العَبْهَرِ

أخوه القاضي أحمد شهاب الدين الشهاب الساطع، والحسام القاطع.

له المجد المضاعف، والأمل المساعف.

والتباهي في التهذيب والتحليم، والتناهي في التجريب والتحكيم.

وكان في أيام صدارة أخيه عضده الذي أزره به اشتد، ومضاهيه الذي تهيأ به لقيام تلك الحرمة واعتد.

وولي حكم القضاء بالحرم فأضاءت العقد درةٌ وكانت واسطة، وامتدت يد من القوة وكانت بها باسطة.

ولما قبض ابن عبد المطلب على أخيه، أردفه معه على ذلك الأدهم، حتى جرع أخاه تلك الكأس فألهمه الله في إفراجه ما ألهم.

فنحي بعد ظنه أنه لم يكن ناحياً وسومح بالجناية التي اجترمت عليه وما أحسبه عد جابيا.

فمتع الله به سائر أودائه، ونولهم بقاه إرغاماً لأعدائه.

ثم انقضت دولة ابن عبد المطلب فانهش له الدهر وأراه وجهاً بسيطاً، وساعفه بعيد ذلك التواني فحباه عطفاً نشيطاً.

وراش حاله، وأعاد منه ما غيره وأحاله فما برح في حالٍ حالية، وأيامه من النكد خالية.

إلى أن انمحى رسم عيشه ودثر، وانفصم عقد أيامه المنظوم وانتثر.

واتفق تاريخ وفاته صدر هذا البيت:

مَن شاء بعدَك فَلْيَمُتْ

فعليك كنتُ أُحاذِرُ

وله شعر كرأد الضحى في التألق، وبهجة الروض الأريض في التأنق.

أثبت منه ما به الكتاب عبق، وخاطر المترنح به علق.

فمنه قوله من دالية مشهورة، مدح بها الشريف مسعود بن إدريس، ومستهلها:

عوُجاَ قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوادِي

واسْتوقِفا العيسَ لا يحْدُو بها الحادِي

وعَرِّجا بي على رَبْعٍ صحِبتُ به

شَرْخَ الشَّبِيبةِ في أكْنافِ أجْيادِ

واسْتعْطِفا جِيرةً بالشِّعبِ قد نزلُوا

أعْلَى الكَثِيب فهمُ عزيِّى وإرْشادِي

وسائِلَا عن فؤادِي تبْلُغا أمَلِي

إن التَّعلُّل يشْفِ غُلَّةَ الصَّادِي

واسْتشفِعا تُشْفَعا نَسألْكُمُ فعسَى

يُقدِّر اللهُ إسْعافِي وإسْعادِي

وأحْمِلاني وحُطَّا عن قَلُوصِكما

في سُوحِ مُرْدِي الأعادِي الضَّيْغَمِ العادِي

مسعودُ عينُ العُلَى المسعودُ طالِعُهُ

قلبُ الكتيبةِ صدرُ الْحَفْلِ والنَّادِي

رأسُ الملوك يَمين المُلكِ ساعدُه

زَنْدُ المعالي جَبِينُ الجَحْفلِ البادِي

شهمُ السُّراةِ الأُلَى سارتْ عَوارِفُهمْ

شرقاً وغرباً بأغْوارٍ وأنْجادِ

نَرِدْ غِمارَ العُلَى في سُوحِه ونُرِحْ

أيْدِي الرَّكائِب من وَخْدٍ وإِسْآدِ

فلا مُناخَ لنا في غيرِ ساحتِه

وجودُ كفَّيْه فيها رائحٌ غادِي

يَعْشَوْشِب العِزُّ في أكْنافِ عَقْوتِه

يا حَبَّذا الشِّعبُ في الدنيا لِمُرْتادِ

ونجْتني ثَمرَ الآمالِ يانعةً

من رَوْضِ مَعْروفِهِ من قبل مِيعادِ

فأيُّ سُوحٍ يُرَى من بعد ساحتِه

وأي قصدٍ لمقصودٍ وقُصَّادِ

لِيَهْنِ ذا المُلكَ أن أُلْبِسْتَ حُلَّتَه

تُحْيي مآثرَ آباءٍ وأجْدادِ

لبسْتَها فكسَوْتَ الفخرَ مُرْسِلَها

مُشهَّراً يبْهَرَ المصبوغَ بالجادِي

عَلَوْتَ بيتاً ففاخرْتَ النُّجومَ عُلاً

والشُّهْبَ فَخْراً بأسبابٍ وأوْتادِ

ولُحْتَ بَدْراً بأُفْقِ المُلك تحسِده

شمسُ النهارِ وهذا حَرُّها بادِي

ص: 24

وصُنْتَ مكةَ إذْ طهَّرتَ حَوْزَتَها

من ثُلَّةٍ أهلِ تَثْليثٍ وإلْحادِ

قد غَرَّ بعضَهم الإهمالُ يحسَبُه

عَفْواً فعاد لإتْلافٍ وإفْسادِ

فذُدْتهم عن حِمَى البيتِ الحَرامِ وهم

من السَّلاسلِ في أطْواقِ أجْيادِ

كأنهم عند رَفْعِ الزَّنْدِ أيديهَم

يدْعُون حُبَّاً لمولانا بإمْدادِ

وما ارْعَوَوا فشَهرتَ السيفَ مُحتسِباً

يا بَرْدَ حَرِّهم في حَرِّ أكْبادِ

غادَرْتَهم جَزَراً من كلِّ مُنْجَدِلٍ

كأن أثوابَه مُجَّتْ بفِرْصادِ

سعَيْتَ سَعْياً جَنَينْا من خمائلِه

نَوْرَ الأمانِ لأرْواحٍ بأجْسادِ

فكم بمكةَ من داعٍ ومُبْتهِلٍ

ومن محبٍ ومن مُثْنٍ ومن فادِي

وعاد كلُّ عَصِيٍ ذلَّةً وصَلَى

وكان من قبلُ صَعْباً غيرَ مُنْقادِ

نَفَى لَذيذَ الكرى عنهم تذكُّرُهم

وقائعاً لك بين الخَرْجِ والوادِي

أباح سَرْحَك أن يرعى منازِلَهم

مُهمِّلاً كلَّ مُعْوَجٍ ومُنْآدِ

مِن كلِّ أبْيضَ قد صَلَّتْ مَضاربُه

لمَّا ترقَّى خطيباً مِنْبَرَ الهادِي

وكلِّ أسْمَر نَظَّامِ الطُّلَا وله

إلى العِدَى طَفْرةُ النَّظَّامِ مَيَّادِ

وصانَ وَسْمَكَ في حاشٍ مُخالطةٌ

عن ربِّ غَزْوٍ تنضَّاه بأحْشادِ

وأسْكَنتْ قلبَهم رُعْباً تذَكُّرُه

يُنْسِي الشَّفُوقَ المُوالِي ذِكْرَ أولادِ

أقْبلْتَهم كُلَّ مِرْقالٍ وسابحةٍ

يُسْرِ عَنْ عَدْواً إلى الأعدا بأطْوادِ

من كلِّ شهمٍ إلى العلياءِ مُنتسِبٍ

بسادةٍ قادةٍ للخيْلِ أجْوادِ

فهاكَ يا ابنَ رسولِ اللهِ مِدْحةَ مَن

أوْرَتْ قَريحتُه من بَعْدِ إخْمادِ

فأحْكمَتْ فيك نظماً كلُّه غُرَرٌ

ما أحْرزَت مثلَه أقْيالُ بَغْدادِ

أضْحَتْ قَوافِيه والآمالُ تَسْرَحُها

روضَ البديعِ لإرْصادٍ بمِرْصادِ

ترْوِيه عنِّي الثُّرَيَّا وهْي هازئةٌ

بالأصْمَعِيِّ وما يرْوِي وحَمَّادِ

وتسْتحِثُّ مَطايَا الزَّهْرِ إن ركَدتْ

كأنها إبلٌ يحْدُو بها الحادِي

وتُوقِظُ الرَّكْبَ مِيلاً من خُمارِ كَرىً

والليل من طَوْقِ تَدْآبِ السُّرَى هادِي

أتتْك تشْفَع إدْلالاً لِمُنشِئِها

فاقْبَلْ تذلُّلَها يا نَسْلَ أمْجادِ

وأسْبِلِ الصَّفْحَ سِتْراً إن بَدا خَلَلٌ

تهتك به سِتْرَ أعداءٍ وحُسَّادِ

وكتب إلى القاضي تاج الدين المالكي، من الطائف:

لا هاج قلباً هام مِنْ

بُرَحِ التَفَرُّقِ بانْصِداعِ

غَيْمٌ أرَقُّ حَواشِياً

مِن بُرْدِ ضافِيةِ القِناعِ

زَجِلُ الرُّعودِ كأنها

نَغماتُ آلاتِ السَّماعِ

والهَمْعُ مثلُ الدمعِ مِن

عَيْنَيْ مُراءٍ أو مُراعِ

يَهْمِي ويسكُن كي يعُمَّ

برِيِّهِ شَعَفَ التِّلاعِ

والبرقُ يخفُق مثلَ قَلْ

بِ الصَّبِّ في يوم الوَداعِ

ونَسِيمُه قد رَقَّ مِن

حَرِّ اشْتياقِي والْتياعِي

لِفراق تاجِ الدِّين ما

صِي الأمْرِ قاضِينَا المُطاع

مَن جُمِّعتْ فيه العُلَى

وتوفرتْ فيه الدَّواعِي

ذِي الفضل بالمعنَى الأعَمِّ

ولا أَخُصُّ ولا أُراعِي

سبقتْ أنامِلُه الأنا

مَ فأحْرزَتْ قَصَبَ اليَرَاعِ

ص: 25

لَخجلْتُ إذْ فاتحتْهُ التَّ

رْسيلَ من سوءِ اصْطِناعِي

مَن ذا يُبارِي ذَا البيا

نِ بِرَاقِمٍ ويَدٍ صَناعِ

إذْ حاك وَشْياً لا يحُو

كُ بالابْتكارِ والاخْتِراعِ

لا زال محمودَ الخِصا

لِ ودام مشكورَ المَساعِي

فإليْكها ابْنةَ خاطرٍ

أصْفَى من الذهب المُماعِ

تزْهُو على دُرِّ النُّحو

رِ وتزْدرِي وَدَعَ الوَداعِي

وعلى شهابِ الدِّين مَن

يهْوى النُّزوعَ إلى النِّزاعِ

منِّي تحيَّةِ شَيِّقٍ

مَزَجَ الخلاعةَ بالخَلاعِ

فراجعه بقوله:

إن همَّ قلبُك صِينَ مِن

بُرَحِ الفِراق بالانْصِداعِ

فالقلبُ قد غادرْتُه

شَذَراً بمُعْتَرَكِ الوَداعِ

إذ هاجَ الزَّجِلُ الرَّعُو

دُ سَرَى وأصبح في انْدِفاعِ

وسمعت من نَغماتِهِ

رَنَّاتِ آلاتِ السَّماعِ

فلقد رحَلْتُ بمُقْلةٍ

عَمْيَا وسَمْعٍ غيرِ وَاعِي

ولئن يكُنْ رَقَّ النَّسِي

مُ بما تُجِنُّ من الْتياعِ

فبِزَفْرَتي اشْتَعل الهوَا

ءُ من العَنانِ إلى اليَفاعِ

كم قلتُ للقلبِ المُصَدَّ

ع بالنَّوَى جُدْ بارْتجاعِ

فأحالَ ذاك على انْتِظا

مِ الشَّمْلِ في سِلْكِ اجْتماعِ

عهدِي به لمّا أن اسْ

تولَتْ عليه يدُ الضَّياعِ

أضْلَلْتُه في موقفِ التَّ

ودِيعِ من دَهَشِ ارْتياعِي

ناشدْتكُم نُشْدانَه

لي بيْن هاتِيك الرِّباعِ

تحت المَواطىءِ مِن مَمَرّ

صَديقيَ الخِلِّ المُراعِي

يا سَيّدي وأخِي هَوىً

وجَلالةً ويَدِي وباعِي

مَن أصبحتْ شمسُ العُلَى

بسَناه ساطعةَ الشُّعاعِ

فخرُ القضاة وفَيْصلُ الْ

أحكامِ في يوم التَّداعِي

بحرُ العلوم فإن أفا

دَ ترَى له سَعةَ اطِّلاعِ

قُل للمُحاولِ شَأْوَه

قَصِّرْ خُطَى هَذِي المَساعِي

فانْظُر لمِرآةِ الزَّما

نِ وقد غدتْ ذاتَ اتِّساعِ

لا غيرَ صورةِ مَجْدِه

فيها تراه ذَا انْطِباعِ

يا مُحْرِزاً ببَنانِه

قَصَبَ السِّباقِ بلا دفاعِ

ومُوَشِّياً حِبَرَ البلا

غةِ والبراعةِ باليَراعِ

أنَّى يُحاكَى وَشْيُها

بِحياكتِي ذاتِ الرِّقاعِ

كان الحَرِيُّ بها اشْتما

لِي ثوبَ صَمْتِي وادِّراعِي

لكنْ أمَرْتَ بأن أُجي

بَكَ وامْتثالُ الأمْرِ دَاعِي

فأتْتك من خَجَلٍ تجرُّ

الذَّيْلَ مُرْخِيةَ القِناعِ

فانْشُرْ لها سِتْر الرِّضا الْ

منسوجَ من كَرَمِ الطِّباعِ

لا زال مجدُك كلّ وقْ

في ازْديادٍ وارْتفاعِ

وكتب يستدعي جماعةً من الفضلاء، وهم بجبل النور من المعلاة، وهو بمنىً:

عليكمُ مِن مُحِبٍ حَشْوُ أضْلُعهِ

وُدٌّ أرق إلى الظَّامِي من النُّطَفِ

تحيّةٌ يرْتضيها الفضلُ إن نَفحتْ

أرْبَتْ على نَفَحاتِ الرَّوضةِ الأُنُفِ

حَواكمُ الجبلُ العالِي بكم شَرَفاً

على المَعالِي التي تعلُو على الشّرَفِ

نُظِمْتمُ فيه نَظْمَ العِقْدِ مُتّسِقاً

على تَليِلِ كَعابٍ ظاهِر التّرَفِ

وغادرتْ عقدَكم أيْدي مُؤلِّفهِ

مُكَبَّلاً وحدَه في رَبْقةِ الصَّدَفِ

مِنىً هي الصَّدَفُ المُومَى إليه مُنىً

للنفسِ فيها وفي أفْنائِها الوُرُفِ

ص: 26

ولا أنيسَ له إلاّ مُماثِلُكمْ

على ثَبِيرِ جميلِ السَّفحِ والشّعَفِ

يُجيبُني بصَدَى صَوتي فأرفعُه

مِن قِلّةِ الإلْفِ لا مِن كثرةِ الشّغَفِ

فهل وَفِيٌّ مِن الخِلَاّن يُسْعِدُنِي

في الفجر أو بعد ما صُلِّي مع الحَنَفَي

يُجيبني أو يُجيب الغَيْرَ عنه وما

يُجيبُني غيرُ مُحْيي الدِّين أو شَرَفِ

كُفوانِ يرْضاهما الإحسانُ إن نَطَقَا

أو أُرْعِفَ الدَّنُّ للأقْلامِ في الصُّحُفِ

ومن بديع نظمه، ما كتبه في ديوان قصر ابن عقبة، في قرية السلامة، من أعمال الطائف، وهي قصيدة فريدة، لا يحضرني منها إلا قوله:

قصرَ ابنِ عُقْبةَ لا زالتْ مواصِلَةً

مني إليك التَّحايَا نَسْمةُ السَّحَرِ

ولا عَدَتْك غَوادِي السُّحْبِ تسْحب في

رِحابِك الفِيح ذَيْلَ الطَّلِّ والمَطَرِ

كم لَذّةٍ فيك أرضيْتُ الغرامَ بها

يوماً وأرْغَمْتُ أنْفَ الشمسِ والقمرِ

وكم صديقٍ من الخِلاّنِ حاوَرَني

أطْرافَ أخبارِ أهلِ الكْتبِ والسِّيَرِ

ويعجبني من شعره قوله في مطلع قصيدة مدح بها السيد شهوان ابن مسعود، وهو:

فَيْرُوزجٌ أو وِشامُ الغَادةِ الرُّودِ

يبْدُو على سِمْطِ دُرٍ منه مَنْضُودِ

وأعجب منها مخلصها، وهو:

صَهْباءُ تَفْعلُ بالألْبابِ سَوْرَتُها

فِعْلَ السَّخاءِ بشَهْوانِ بنِ مسعودِ

ومن شعره قوله في البرقع الشرقي، المعروف عند أهل اليمن:

وخَوْدٍ كبدرِ التِّمِّ في جُنْحِ مِصْوَنٍ

حَماها عن الأبْصارِ بُرْقُعُها الشَّرْقِي

سِوَى طُرَّةٍ مثل الهلالِ بَدَتْ لنا

على شَفَق والفَرْقُ كالفجرِ في الأُفْقِ

فقلتُ هلالٌ لاحَ والفجرُ طالعٌ

من الغرب أمْ لاح الهلالُ من الشَّرْقِ

وقوله في مثل ذلك:

بالبُرْقِع الشرقيّ تح

تَ المصْوَن الباهي الجمالْ

أَبْدَت لنا شَفقاً وكيْ

لاً لاحَ بينهما الهلالْ

وقال معللاً تسمية القدح قدحاً:

مُذْ صَبَّ ساقينا الطِّلَا

حتى تناثرَ وانتضَحْ

خالوا شَراراً ما رأَوْا

فلأَجْلِ ذا قالوا قَدَحْ

وله في صوفية عصره:

صُوفيَّةُ العصرِ والأوانِ

صُوفِيَّةُ العَصْرِ والأوانِي

فاقُوا على فعلِ قومٍ لُوطٍ

بنَقْرِزَانٍ لِنَقْرِزَانِ

وله، وهو معنى مبتكر:

ألا انْظُر إلى هذا الصَّفاءِ لِبِرْكَةٍ

تقول لِمَن قد غاب عنها من الصَّحْبِ

لئِن غبْتَ عن عينِي وكدَّرْتَ مَشْرَبِي

تأمَّلْ تجِدْ تِمْثالَ شَخْصِك في قَلْبِي

حنيف الدين بن عبد الرحمن المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملة الفضل شرعه.

قام مقام أبيه بعده، فصدق فيه الدهر وعده.

بمرأى كالصباح إذا وضح، ووجهٍ لو قابله البدر في تمه افتضح.

وفكرٍ أسرع في تدبر الأشياء من الوهم، ورأيٍ يفعل عزمه الشهم ما لا يفعله السهم.

فاستقر في مركز أبيه مكملاً لكمالاته، وهو بدر سمائه ومن عادة البدر أن لا يخرج عن هالاته.

فلم تنطق الأفواه بمدحه إلا وقفت وفيه كثرة الفكر، واستبقت السراة إلى سؤددٍ إلا تناهت وله محكم الذكر.

وهو في الفضل،

تجاوَز قَدْرَ المدحِ حتى كأنه

بأحْسنِ ما يُثْنَى عليه يُعابُ

وفي الأدب،

تبوَّأ أسْمَى منزلٍ فازْدهَتْ به

هضابٌ تسامَتْ للعُلَى وشِعابُ

وله أشعار بحبر الرقة موشاة، كأن صحائفها بنقوش الزبرجد محشاة.

فمنها قوله، مراجعاً عن لسان أبيه لبعض الأدباء:

تبدَّى لنا بَرْقٌ بأُفْقِ رُبَا نَجْدِ

فأذْكَرني عَهْداً وناهِيكَ من عهدِ

وهَيَّمَنِي شوقاً وزاد بيَ الأسَى

وأضْرَم لي نارَ الصَّبابةِ والوجْدِ

وجدَّد لي ذكرَ الليالي التي خَلَتْ

وطِيبَ زمانٍ بالحِمَى طَيِّبِ الوِرْدِ

ص: 27

زماناً جلَا ذو الحسن شمْسَ جمالهِ

علينا فشاهدْنا به الشمسَ في بُرْدِ

وأبْدَتْ لنا ذاتُ الجمال جَبِينَها

فأخْجَل بدرَ الأُفْقِ في طالِعِ السَّعْدِ

هي الروضُ تبْدو للأنام بوَجْهِها

فتقْطفُ زهرَ الوردِ من خَدِّها الوردِي

وفاح لنا نَشْرُ الخُزامَى برَوضةٍ

شَدَتْ وُرْقُها شوقاً على الأغْصُنِ المُلْدِ

تغنَّتْ على غصنِ الأَراكِ بمَدْحِ مَن

علا قَدْرُه السامِي على ذِرْوةِ المجدِ

كمالُ قُضاةِ المسلمين إمامُهم

ومُوضِحُ مِنْهاج الرَّشَادِ لِذي الرُّشْدِ

عليه مَدى الأيام منِّي تحيَّةٌ

تفُوق فَتِيتَ المِسْكِ والعُودِ والنَّدِّ

وقال في مثل هذا الغرض:

غنَّتِ الوُرْقُ في المَسَأ والبُكورِ

ساجِعاتٍ على غُصونِ الزهورِ

وتبدَّتْ من كَلَّةِ الحُسْنِ خَوْدٌ

تُخْجِلُ الشمسَ مَعْ سَناءِ البدورِ

قد تحلَّتْ من الجمالِ بِعقْدٍ

جَلَّ في الحُسْنِ والبَها عن نَظِيرِ

فاقْتطفْنا من خَدِّها زَهْرَ وَرْدٍ

فاق نَشْرَ النِّسْرِين والمَنْثُورِ

وارْتشَفْنا من ثَغْرِها العَذْبِ شُهْداً

فانْتشَوْنا لا نَشْوةَ المخمورِ

برَّدتْ بالوِصالِ قلبَ كَئِيبٍ

كان فيه للهجرِ نارُ السَّعيرِ

يا لَها عَذْبةَ الثَّنايا رَداحاً

قد تبدَّتْ في زِيِّ ظَبْيٍ غَرِيرِ

قد أتتْنا من عالِمِ العصرِ مَوْلىً

قد تَسامَى على السُّها والأَثِيرِ

قد أتاني مولايَ منك كتابٌ

ذُو نظامٍ حكى عُقودَ النُّحُورِ

فَفضضْتُ الخِتامَ عن كَنْزِ عِلمٍ

حاز منه الغِناءَ كلُّ فقيرِ

فتأمَّلتُ في رياضِ حِماهُ

وتنسَّمْتُ ما به من عَبِيرِ

فبَدا نَظْمُ طِرْسِه مع نَثْرٍ

ذِي بَيانٍ فسُرَّ منه ضَمِيرِي

دُمْتَ يا أوْحَدَ الزمانِ فريداً

في أمانٍ بحِفْظِ ربٍ خَبيرِ

ومن بديع شعره قوله:

أمْسي وأصبح من تَذْكارِكم وَصِبَا

يرْثِي له المُشْفِقان الأهلُ والولدُ

قد خدَّد الدمعُ خدِّي من تذكُّرِكمْ

واعْتادَنِي المُضْنِيان الوجدُ والكَمَدُ

وغاب عن مُقْلتِي نومِي لغَيْبتِكم

وخانَنِي المُسْعدِان الصبرُ والجَلَدُ

لا غَرْوَ للدمعِ أن تجري غَوارِبُه

وتحته المُظْلِمان القلبُ والكَبِدُ

كأنما مُهْجتي شِلوٌ بمَسْبَعةٍ

ينْتابُها الضَّارِيان الذئبُ والأسدُ

لم يبْق غيرُ خَفِيِّ الرُّوحِ في جسدِي

فِدىً لك الباقيانِ الرُّوحُ والجسدُ

القاضي تاج الدين المالكي إمام الحرمين وقاضيهما، ولوذعي خلهما الذي سلم له المناظر والمناضل.

فشرفه على سمك السماك مكان، ومجده كعبة أخلاقه لها أركان.

وقد زين مدةً مراقي المنابر، وأمد الفضلا بخطبه التي تنافست في نسخها الأقلام والمحابر.

وهو في الإنشاء تاج رأس أهله، والمقدم فيهم وإن كان جاء على مهله.

فالصاحب على ذكره محشور، وكأن الصابي من طيب نشره منشور.

وأما البديع فلو أدركه لكان بمنزلة غلامه، وعبد الحميد لو عاصره لكان بارياً لأقلامه.

وآثار أقلامه حلية الآداب العواطل، إذا ذكرت كاثرت السحب الهواطل.

وقد وقفت على رسائله التاجية فرأيت اللفظ المعجب، والقول المنجب.

وشاهدت الفضل عياناً، وعاينت التاج قد نثر عقياناً.

وأما نظمه فقد نظم في لبة الإحسان منه عقداً، كاد يتميز عليه سمط الثريا غيظاً وحقداً.

وقد جئتك من بدائعه بما أشرق بدره في مطالع تمه، وأخذت أطرافه بأجل الحسن وأتمه.

فمنه قوله من دالية عارض بها دالية أحمد المرشدي التي ذكرتها، وسيأتي معارضه ثالثة لهما، في ترجمة محمد بن حكيم الملك.

ص: 28

وصاحب الترجمة مدح بقصيدته الشريف مسعوداً أيضاً، ومطلعها:

غُذِيتُ دَرَّ الصِّبا مِن قبلِ ميلادِي

فلِمْ تَرُمْ يا عَذُولِي فيه إرْشادِي

غَيُّ التَّصابِي رَشادٌ والعَذابُ به

عَذْبٌ لداءٍ كبَرْدِ الماءِ للصَّادِي

وعاذِلُ الصَّبِّ في شَرْعِ الهَوى حَرِجٌ

يرومُ تبْديلَ إصلاحٍ بإفْسادِ

ليت العَذُولَ حوَى قلبي فيعذِرُني

أوليت قلبَ عَذُولِي بين أكْبادي

لو شام بَرْقَ الثَّنايا والتَّثَنِّيَ مِن

تلك العُقودِ انْثَنى عِطفاً لإسْعادِي

ولو درَى هادِيَ الجَيْداء كان دَرَى

أن اشْتياقَ الهُدَى من ذلك الهادِي

كم بات عِقْداً عليه ساعِدِي ويَدِي

نطاقُ مُجتمَعِ المَخْفِيِّ والْبادِي

إذْ أعْيُنُ العِينِ لا تنْفكُّ ظامِئةً

لوِرْدِ ماءِ شَبابي دون أنْدادِي

فيا زمانَ الصِّبا حُيِّيتَ من زمنٍ

أوْقاتُه لم نُرَعْ فيها بأنْكادِ

ويا أحِبَّتَنا رَوَّى مَعاهِدَكم

من العِهادِ هَتُونٌ رائحٌ غادِ

مَعاهداً كُنَّ مُصْطافِي ومُرْتَبَعِي

وكم بها طال بل كم طاب تَرْدادِي

يا راحِلين وقلبي إثْرُ ظُعْنِهِمُ

ونازِحين وهم ذِكْرِي وأوْرادِي

إن تطلبُوا شرحَ ما أيْدِي النَّوَى صنَعتْ

بمُغْرَمٍ حِلْفِ إيحاشٍ وإيحادِ

فقابلُوا الرِّيحَ إن هبَّتْ شَآميةً

تَرْوِي حَدِيثي لكم مَوْصولَ إسْنادِ

وَالَهْفَ نفسِي على مَغْنىً به سَلفتْ

ساعاتُ أُنْسٍ لنا كانتْ كأعيادِ

كأنها وأدام اللهُ مُشْبِهَها

أيامُ دولةِ صدرِ الدَّسْتِ والنَّادِي

ذو الجود مسعودٌ المسعودُ طالِعُه

لا زال في بُرْجِ إُقْبالٍ وإسْعادِ

عادتْ بدولتِه الأيامُ مُشرِقةً

تهزُّ مُختالةً أعْطافَ مَيَّادِ

وقلّد المُلْكَ لمَّا أن تقلّده

فخراً على مَرِّ أزْمانٍ وآبادِ

وقام باللهِ في تدْبيرِه فغَدَا

مُوَفَّقاً حالَ إصْدارٍ وإِيرادِ

حَقٌّ لك الحمدُ بعد اللهِ مُفْتَرَضٌ

في كلِّ آوِنةٍ من كلِّ حَمَّادِ

أنْقذتَهم من يدِ الأعداءِ مُتَّخِذاً

عند الإلهِ يداً فيهم بإنْجادِ

دارَكْتَهم سُهَّداً رَمْقَي فعادَلهم

غَمْضٌ لِجَفْنٍ وأرواحٌ لأجسادِ

بُشْراك يا دهرُ حازَ المُلْكَ كافلُه

بُشْراكَ يا دهرُ أخْرَى بِشْرُها بادِ

عادت نجومُ بني الزَّهْراء لا أفلَتْ

بعَوْدةِ الدولةِ الزَّهْرَا لمُعتادِ

واخْضَلَّ رَوْضُ الأماني حين أصبحتِ الْ

أجْوادُ عِقْداً على أجْياد أجْيادِ

وأصبح الدِّينُ والدنيا وأهلُهما

في حِفْظِ مَلْكٍ لظلِّ العدلِ مَدَّادِ

يُبِيحُ هَامَ الأعادِي مِن صَوارِمِه

ما اسْتَحْصدَتْ بالتَّعاصِي كلَّ حَصَّادِ

فيهم أيادِي أيادِيهِ ونائلُه

على الورَى أصْبحتْ أطواقَ أجْيادِ

بَذْلُ الرَّغائبِ لا يعْتدُّهُ كرماً

ما لم يكنْ غيرَ مَسْبوقٍ بِميعادِ

والعَفْوُ عن قُدْرةٍ أشْهَى لِمُهْجتِه

صِينَتْ وأشْفَى من اسْتيفاءِ إيعادِ

مَآثِرٌ كالدَّرارِي رِفْعةً وسَناً

وكَثْرةً فهْي لا تُحْصَى بعَدَّادِ

فأنتَ مِن مَعْشرٍ إن غارةٌ عَرضتْ

خَفُّوا إليها وفي النادِي كأطْوادِ

ص: 29

كم هَجْمةٍ لك والأبطالُ مُحْجِمَةٌ

ووقفةٍ أوْقفَتْ لَيْثَ الشَّرَى العادِي

بكلِّ أبيضَ مَعْضُودٍ لمُضْطَهدٍ

وللمَرائرِ والمُرَّانِ قَصَّادِ

وكل مجتمع الأطراف معتدل

لدن لعرق فجيع القرن فصاد

فَخْرَ الملوكِ الأُلَى فَخْرُ الزمانِ بهم

دُمْ حائزاً مُلْكَ آباءٍ وأجدادِ

ولْيَهْنِ حُلّتَهُ إذْ رُحْتَ لابِسهَا

أن أصبحتْ خيرَ أثْوابٍ وأبْرادِ

واسْتَجْلِ أبْكارَ أفكارٍ مُخدَّرةٍ

قد طال تعْنِيسُها مِن فَقْدِ أنْدادِ

كم رُدَّ خُطَّابُها حتى رأتْكَ وقد

أتتْك خاطبةً يا نَسْلَ أمْجادِ

أفْرغْتُ في قالَبِ الألفاظِ جَوْهرَها

سَبْكاً بذهنٍ وَرِيِّ الزَّنْدِ وَقَّادِ

وصاغَها في مَعاليكم وأخْلَصها

وُدٌّ ضميرُك فيه عَدْلُ أشْهادِ

يحْدُو بها العِيسَ حَاديِها إذا رزَحتْ

مِن طُولِ وَخْدٍ وإرْقال وإسْئادِ

كأنّها الرَّاحُ بالألْبابِ لاعبةً

إذا شَدا بين سُمَّارٍ بِها شادِي

بفضْلِها فُضَلاءُ العصرِ شاهدةٌ

والفضلُ ما كان عن تسْليمِ أضْدادِ

فلو غدَتْ من حبيبٍ في مَسامِعِه

أو الصَّفِيِّ اسْتحالَا بعضَ حُسَّادِي

واستنْزَلا عن مَطايَا القومِ رَحْلَهُما

واستوْقَفا العِيسَ لا يحْدُو بها الحادِي

وحَسْبُها في التّسامِي والتقدُّمِ في

عَدِّ المَفاخرِ إذ تغْدُو لعَدَّادِ

تَقْريظُها عندما جاءتْ مُعارِضةً

عُوَجا قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوادِي

وكتب إلى القاضي أحمد المرشدي، معتذراً عن وصوله إليه بعد وعده له؛ لعروض مانعٍ منعه:

أيُّها المَعْشَرُ الذين إليهمْ

وَاجباً أن يكون سَعْياً براسِي

لا تظنُّوا تَرْكِي الوصولَ إليكم

لِمَلالٍ وِدادَكم أو تَناسِي

أو تَغالٍ عنكم وإن كان عُذْرِي

هو أني شُغِلْتُ من بعض ناسِ

فأجابه بقوله بديها:

قد أتاني اعْتذاركم بعد أنِّي

بِتُّ من هَجْرِكم عديمَ حَواسِي

فتلقَّيْتُه بصدرٍ رَحِيبٍ

ولصَقتُ الكتابَ عِزّاً بِراسِي

غيرَ أنِّي لا أرْتضيه إذا لمْ

تُنْعِموا بالوصالِ والإِيناسِ

وأقِلْني العِثارَ في النظم إني

قلتُه والفؤادُ في وَسْواسِ

وكتب إلى صاحبين له استدعياه، فتعذر عليه الذهاب إليهما:

يا خليليَّ دُمْتُما في سرورٍ

ونعيمٍ ولذَّةٍ وتَصافِي

لم يكن تركيَ الإجابةَ لمَّا

أن أتاني رسولُكم عن تَجافِي

كيف والشوقُ في الحُشاشةِ يقْضِي

أنني نحوَكم أجوبُ الفَيافِي

غيرَ أن الزمانَ للحظ مني

لم يزَلْ مُولَعاً بحُكْمِ خِلافِي

عارَض المُقتضِي من الشوقِ بالْما

نِعِ والحكمُ عندكم ليس خافِي

فسلامٌ عليكمُ وعلى مَن

فُزْتُما مِن ثِمارِه باقْتطافِ

وكتب إلى القاضي محمد بن دراز يستدعيه:

رَقَّ النَّسِيمُ وذيلُ الغَيْمِ مُنسْدِلٌ

على الوُجوهِ وطَرْفُ الدهرِ قد طُرِفَا

فاغْنَمْ مُعاقرةَ الآدابِ واغْنَ بها

عن المُدامِ وخُذْ من صَفْوها طُرَفَا

وانْزَعْ إلينا لنجنِي من خَمائِلها

وَرْداً ونجذبَ من مِرْطِ الوفا طَرَفَا

ومن شعره قوله:

غَنِيَتْ بحِلْيةِ حُسْنِها

عن لُبْسِ أصنافِ الحُلِي

وبدتْ بهيْكلِها البدي

عِ تقولُ شاهِدْ واجْتلِ

تجدِ المَحاسنَ كُلَّها

قد جُمِّعتْ في هَيْكَلِي

ص: 30

ولما وقف عليها السيد أحمد بن مسعود ورآها، وشاها وشاها.

وشيد كل بيت من أبياته قصرا، وابتز ذلك المعنى باستحقاقه قسرا.

فقال:

للهِ ظَبْيٌ سِرْبُهُ

يزْهُو به في المَحْفَلِ

قَنص الأُسودَ بغالِبٍ

قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ

وله الجَوارِ المُنْشِئا

تُ جَوَى الحُشاشةِ للْخَلِي

من كلِّ رُودٍ لَحْظُها

يسْطُو بحَدِّ الْمُنَصُلِ

مُشْتاقها من ثَغْرِها

وأثيثُها في مُشْكِلِ

فاق الغَوانِي حَالِيا

تٍ عاطلٌ في هَيْكَلِي

ما قال في ظَلْمائِه

يا أيُّها الليلُ انجَلِ

وحذا حذوهما القاضي أحمد المرشدي، فقال:

يا ربَّة الحُسْنِ الجَلِي

لمُؤَمِّلِ المُتأمَّلِ

صدري ووجهي مُنْيَةٌ

للمُجتنِي والمُجتلِي

فالْحَظْ بديعَ مَحاسنِي

من تحتِ أنواعِ الحُلِي

تَجِدِ الهياكلَ والحُلِيَّ

جمالها من هَيْكَلِي

وكتب إلى بعض أصدقائه قوله:

مَن كان بالوادي الذي هو غيرُ ذِي

زَرْعٍ وعَزَّ عليه ما يُهْدِيهِ

فلَيُهْديَنَّ من المُفاكهةِ التي

تحلُو فواكهُها لكلِّ نَبِيهِ

وله في غربية المتقدم وصفها:

خالفْتُ أهلَ العشقِ لمَّا شَرَّقُوا

فجعلتُ نحوَ الغربِ وحدي مَذْهَبِي

قالوا عدَلْتَ عن الصوابِ وأنْشدُوا

شَتَّان بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ

فأجبْتُهم هذا دليلي وانظُروا

للشمسِ هل تسْعَى لغيرِ المغْرِبِ

وله في المفاخرة بين الإبرة والمقص:

فاخَرَتْ إبرةٌ مِقَصّاً فقالتْ

لِيَ فضلٌ عليكمْ بَادٍ مُسَلَّمْ

شأنُك القطعُ يا مِقَصُّ وشأْني

وصلُ قطعٍ شَتَّان إن كنت تفْهمْ

وأصله قول بعضهم:

إنَّ شأنَ المِقَصِّ قَصُّ وِصالٍ

فلهذا يَضِيعُ بين الجُلوسِ

وترى الإِبرةَ التي تُوصِل الْ

قَطْعَ بِعزٍ مغروسةً في الرُّءُوسِ

وله في الفوارة:

وفَوَّارةٍ من مَرْوةٍ قاما ماؤُها

كَبزْ بُوزِ إبْرِيقٍ وليس له عُرْوَهْ

بَدا ليَ لمَّا أن وردتُ صَفاؤُها

ولا غَرْوَ أن يبدُو الصَّفاءُ من المَرْوَهْ

ومن فوائده، أنه سئل عن قول الصفي الحلي:

فلئن سطَتْ أيْدِي الفِراقِ وأبْعَدتْ

بَدْراً تَحجَّب نِصْفُه بنَصِيفِ

فلقد نَعِمْتُ بوَصْلِه في مَنْزِلٍ

قد طاب فيه مَرْبَعِي ومَصِيفِي

فأجابه بقوله: لا يخفى أن النصيف هو الخمار، فكأن الشاعر تخيل أن الجبين بدر تمامٍ كامل الاستدارة، ستر الجمال نصفه الأعلى، فلما تخيل ذلك قال:

بدراً تحجَّب نصفُه بنَصيف

ثم ضمنه بقوله:

أفْدِي التي جلَب الخُمارَ جبينُها

تحت الخِمارِ لقلبيَ المَشْغُوفِ

فصَبا له لمَّا تحقق أنه

بدرٌ تحَجَّب نِصْفُه بنَصِيفِ

وقد سئل عنه أيضاً الإمام زين العابدين الطبري، فأجاب بما نصه: النصيف الخمار، وكل ما يغطي الرأس، والوجه هو البدر في التشبيه، فمراد الشاعر أنها تلثمت ببعض النصيف الذي على رأسها، فسارت بذلك، ساترةً لنصف وجهها الأسفل المشبة بالبدر، فصار نصيفا ونقابا.

والنقاب ما تنقب به المرأة، كما في القاموس، وهو شاملٌ لما كان مستقلاً وبعض شيء آخر، كما يقال بمثله أيضاً في النصيف، فهو نصيف وإن غطى رأس الرأس مع الرأس.

وهذا الذي ذكرنا هو عادة غالب النساء الحسان في قصور العرب؛ فإن الواحدة منهن تنتقب بفاضل خمارها، فتفتن العقول بما ظهر من لواحظها وأسحارها.

انتهى.

القاضي محمد جمال الدين بن حسن ابن دراز جملة جمال، وتكملة كمال.

رتع في رياض الفنون فهصر أفنانها، وأجال جواد فكره في ميدان العلوم فملك عنانها.

أما الشعر فهو منمنم حلته وناظم حليه، وأما النثر فهو مبدع زهره ومنمق وشيه.

وكان فيصل أحكام، ومصدر إتقان وإحكام.

ص: 31

ولما دخل اليمن في دولة الروم، قام له حاكمها بكل ما يروم.

فحلاه بحلية القضا، وأرهف حسام أمله بذلك المضا.

ولم يزل مجتلياً وجوه أمانيه مشرقة، مجتنياً من رياضها أغصان حظوةٍ مورقة.

إلى أن فجعه الدهر بمخدومه، وعاجله أمر القضاء والقدر بمحتومه.

هناك انقلب إلى وطنه، شاكياً ما حل به من ضيق عطنه.

ولقي بعد ذلك أحوالاً ركب صعبها وركوبها، وأهوالاً امترى أخلاف شآبيبها منهلها وسكوبها.

كما أفصح عن ذلك في رسالة كتبها لبعض كبراء الحجاز، يقول فيها: ولما قفلت عائداً من اليمن، بعد وفاة سنان باشا وانقضاء ذلك الزمن.

اخترت الإقامة في الوطن، بعد التشرف بمجلس القضاء في ذلك العطن إلا أنه لم يحل لي التخلي عن تذكر ما كان في تذكرة الخيال مرسوماً، وتفكر ما كان في لوح المفكرة موسوماً.

فاخترت أن أكون مدرساً في البلد الحرام، وممارساً لما آذن غب الحصول بالانصرام.

ولم يكن في البلد الأمين كفاية، ولا ما يقوم به الإتمام والوفاية.

انتهى.

وما زال مقيماً في وطنه وبلده، متدرعاً جلباب صبره وجلده.

حتى انصرمت من العيش مدته، وتمت من الحياة عدته.

وها أنا مثبتٌ من بديع إنشائه، ما يدعو لطرب اللبيب وانتشائه.

وأتبعه من عالي نظامه، ما يغني عن مجلس الأنس وانتظامه.

فصل من كتاب لبعض أصحابه: ينهى الملوك أنه لا يزال ذاكراً لتلك الأيام الماضية، شاكراً لهاتيك الأعوام التي حلت بفضل مولانا ولا أقوم مرت بمسراتٍ لا تزال النفس لدينها متقاضية.

كم أردْنا هذا الزمانَ بذَمٍ

فشُغِلْنا بمدحِ ذاك الزمان

أقفر الصفا من إخوان الصفا، وخلا الحطيم من رضيع الأدب والفطيم.

وأقوت المشاعر، من أرباب الإدراك والمشاعر.

كأن لم يكن بين الحَجُونِ إلى الصَّفا

أنيسٌ ولم يسْمُر بمكّة سامِرُ

وكان علم مولانا محيطاً بحالي، إذ كنت آنس بأولئك الجلة وأرباب المعالي.

فلم يبق من يدانيهم، فضلاً عمن يساويهم، ولا من يباريهم، فكيف بمن يماريهم.

ولقد ذكرت هنا قول بعضهم:

دجَا الليلُ حتى ما يبين طريقُ

وخوَّف حتى ما يقَرّ فَرِيقُ

وجَّردت يا بَرْقَ المنون مَناصِلاً

لها في قلوبِ المُبْصرين بَرِيقُ

وزَعْزعْتَ يا رِيحَ الرَّدَى كلَّ شاهِقٍ

عليه لأنفاسِ النفوسِ شَهِيقُ

سلامٌ على الأيام إنّ صَنِيعَها

أساءَ فهل لي بالنّجاةِ لُحوقُ

فصل، من كتاب إلى كاتب الحضرتين الشريفتين؛ الحسنية والطالبية عفيف الدين يعزيه بموت الشريف أبي طالب، في سنة اثنتي عشرة بعد الألف: كتبت إليك، كتب الله لك سعداً لا يزال يتجدد، ومجداً لا ينقطع بانقضاء ملك إلا واتصل بملك ملكيٍ مؤيد.

وإنما كتبت بدم الفؤاد، وأمددت اليراع سويدائي وشفعها اللحظ بما في إنسانه من السواد.

والكون، علم الله، كأنما هو بحرٌ من مداد، والقلوب، ولا أقول الأجساد مسربلة بلباس الحداد.

لا يسمع إلا الأنين، ولا يصغي إلا لمن تفضح بنعيها ذوات الحنين.

أضحى النقع من مثار النقع كليلةٍ من جمادى، وربات الخدود يلطمن الخدود مثنى وفرادى.

وذو الحجى يغوص في لجة الفكر فيسمع له زفير، وليث العرين كاد من صدمة هذا المصاب أن يتفطر من الزئير.

وشارف الحطيم أن يتحطم، وأبو قبيس أن يتقطم، وبيت الله لولا التقى لقلت ود أن يتهدم.

وأخال أن الحجر أسف حيث لم يكن تابوتاً لذلك الجثمان وتندم.

أي داهيةٍ دهياء أصابت قطان ذلك الحرم، وأي بليةٍ نزلت بلازمي أذيال ذلك الملتزم.

" إنا لله وإنا إليه راجعون " كلمةٌ تقال عند المصائب ولم نجد المصيبة مثلاً، ولم تشاركنا فيها حزينةٌ ولا ثكلى.

بأي لسانٍ نناجي وقد أخرسنا هذا النازل، بأي قلبٍ نحاجي وقد بلغنا هذا الجد الهازل.

بينا نحن في سرور وفرح، إذ نحن في همومٍ وترح.

أشكو إلى مخدومي ضحوة يومٍ شمسه كاسفة، " أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة ".

أقبل نعش لابس أثواب المرحمة بعد الخلافة، المتلقى روحه الملائكة مع الحور على الأرائك تتحفه بالسلافة.

والأيدي ممتدةٌ إليه تشير بالعويل، والحجاج وأرباب الفجاج يضجون بالنحيب الطويل.

وكادت آماقنا والله أن تسيل، وأضحت جلاميد القلوب كضحاضح المسيل.

ص: 32

فلم نجد أحداً من الرعايا إلا وهو محرور، وذو قرابته في الحي مسرور.

إنا لله من هذه الطامة، التي أدهشت العامة، وأذهبت الشامة.

ليت شعري أبعده السلاهب تركب، أم الجنائب تجنب، أم المقربات تقرب، أم المنابر يتلى عليها غير اسمه ويخطب

وَاحَرَّ قَلْباه ممَّن قلبُه شَبِمُ

مضَى مَن أقام الناس في ظِلِّ عَدْلِه

وآمن من خَطْبٍ تدُبُّ عَقارِبُهْ

فكم من حِمىً صَعْبٍ أباحتْ سُيوفُه

ومن مُسْتباحٍ قد حَمَتْه كتائبُهْ

أرى اليومَ دَسْتَ المُلْكِ أصبَح خالياً

أما فيكمُ مِن مُخْبرٍ أين صاحبُهْ

فمَن سائِلي عن سائل الدمعِ لِمْ جَرَى

لعل فؤادِي بالوَجيبِ يُجاوِبُهْ

فكم من نُدوبٍ في قلوبٍ نَضِيجةٍ

بنارِ كرُوبٍ أجَّجَتْهَا نَوادِبُهْ

سقتْ قَبْرَه الغُرُّ الغَوادِي وجادَهُ

من الغَيْثِ سَارِيه المِلثُّ وسَارِبُهْ

فما كان إلا كلمحة طرف، أو حلول حتف.

وقد وضع على الباب الشريف، وسمع من أجنحة الملائكة حفيف، وتليت ولكنت أود أن أكون المصلى ولا أقول التالي في جميع ذلك الترصيف.

فما ترك الرئيس لقباً من الألقاب إلا وحلاه بدره، وعله بدره.

حتى كاد النهار أن ينتصف، والمقل تسح بالدموع وتكف.

ومن عدم إنصاف الدهر الخؤون، أن لم يطف به سبعاً وهو لمليك هذا البيت مسنون.

ثم ازدحم على رفع جنازته قاضي الشرع والسادة، فذادوه عنها ورفعوه على أعناق السلاطين والقادة.

وقلت في ذلك المقام، وعيناني تهمل ولا همول الغمام.

يعز علي أن أراك على غير صهوة، وأن تنادي يا مرغم الأنوف ولا تجيب دعوة.

وأن تحف بك الصفوة، ولا تدع لكرك فيها فجوة.

فطالما ضرعت لك السلاطين، وخضعت لك الأساطين، وأرعدت الفرائص، وأوهنت القلائص.

وحميت الحمى ولم يردعه جساس، واقتنصت حتى لم تدع شادناً في كناس، أو ليثاً في افتراس.

فلله جدثٌ ضمك وقد ضاقت الأرض عن علاك، ولله لحدٌ علاك وقد اتخذت أنعلك من السماك.

وكيف بك تحل في الثرى فبالأثير ملعب جردك، والسدرة مضمار أسلافك، والنبوة لحمة بردك.

فلك بجدك في ارتقائك إلى العالم العلوي أسوة، ولنا بفقدك الجزع الذي لا يعقبه سلوة.

فأنت لقيت الحبيب، ولقينا بعدك ما يلقى الكئيب.

فلك البشرى بلقياك ربك، ولنا بك اللقيا على الكوثر وأنت فرحٌ بشرابك وشربك.

ثم يا عفيف لا تسل عن نعشٍ حفه الوقار، وتقدمه الروح الأمين والملائكة الأبرار.

فوائح المسك الأذفر تنفح من كل جانب، كأنما ينفض من غدائر خرعوبٍ كاعب.

وبالله أقسم أن طيبه نفحني وأنا في الخلوة، وهم في تجهيز تلك الذات على هاتيك العلوة.

وحاصل ما أقص عليك من القصص، أنا أودعنا في كنف الرحمن ذلك القفص.

وعدنا ونحن كما يقال: شاهت الوجوه، حيارى لا نعلم من تؤمله وترجوه.

وقد أظلم قتام العثير، ودجا النقع حتى خيل لم يكن قط صبحٌ أسفر.

وحين هجوم هذا الخبر المهيل، كادت البلدة تدثر لولا تسهيل بعض ما صعب في التسهيل.

والنداء من الحاكم بالعافية، والأعين قد امتلأت من الهاربين بالسافية.

وغلقت الأبواب، وانقطعت الأسباب.

حتى والله كأن القيامة قد قامت، وحقت كلمة " يوم يفر المرء " والأنفس قد حامت.

وحال بيني وبين الخلوة طريقٌ طالما صاحب الربا، وسبيلٌ وبيل صرت أقطعه وثبا.

فكل من لاقيته لا يجيب، ومن كان من ورائي فكأنما هو طريدٌ أو سليب.

وبعد الدفن كثر القال والقيل، ونودي كما بلغكم وصليل السيوف منعنا المقيل.

وزف المنادي عصبةً مشهورة القواضب، معنوقة الشوازب.

والأسواق من السكان خالية، فكأنما هي خود أضحت عاطلةً بعد أن كانت حالية.

ودور مكة كأنها وبالله أقسم دور البرامكة، وكأنها لم يتغزل فيها برهة كدار عاتكة.

ولقد تذكرت فيها قينة الأمين، وقولها كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ غير الأنين.

هذا وقد أطلت عليك ما ينبغي أن يقتصر فيه مع علو مكانك، ومشيد مبانيك في البلاغة وأركانك.

والله تعالى يلهمك صبراً جميلاً على هذا المصاب، ويوليك أجراً جزيلاً على فقد ذلك المليك المهاب.

ص: 33

ولا يسمعنا وإياك بعدها صوت عزاء أحدٍ من الأعزا، ولا يحملنا ما لا طاقة لنا به من مثل هذه الأرزا، فوا الرحمن لهو الرزء الذي كل رزءٍ بالنسبة إليه أقل الأجزا.

والسلام.

وكتب إلى الإمام عبد القادر الطبري، يسأله عما يرد على كلامٍ للسبكي، ذكره في الطبقات الكبرى، في استخراج الملك العلقة التي في صدره صلى الله عليه وسلم: مولانا الإمام الذي إليه هذا الحديث يساق، الهمام الذي تشد إليه يعملات البلاغة ببدائع السياق.

فله السلف الذين تتنازل الثريا دون مقاماتهم الرفيعة، وينحط الأثير عن مكاناتهم التي هي للفخار شفيعة.

على أنه العصامي الذي به تفتخر الأبنا، وتتبختر في مطارف سؤدده الأعمام والأصنا.

فالمزني لا يباري جود مزنه، والرازي أضحى في تقديمه منتظراً فضل منة.

هدانا الله إلى سواء السبيل، وأغنانا بسلسال فوائده عن رقراق السلسبيل.

قال السبكي: سمعت الوالد يقول، وقد سئل عن العلقة السوداء التي أخرجت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم في صغره حين شق فؤاده، وقول الملك هذا حظ الشيطان منك: إن تلك العلقة التي خلقها الله في قلوب البشر قابلةٌ لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت من قلبه صلى الله عليه وسلم، فلم يبق فيه مكانٌ قابلٌ لأن يلقي الشيطان فيه شيئاً.

قال: هذا معنى الحديث، ولم يكن للشيطان فيه صلى الله عليه وسلم حظٌ قط، وإنما الذي نفاه الملك أمرٌ هو في الجبلات البشرية، فأزيل القابل، الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في القلب.

قال: فإن قلت فلم خلق هذا القابل في هذه الذات الشريفة، وكان الممكن أن لا يخلق فيها؟ قلت: لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملةً للخلق الإنساني، فلا بد منه، ونزعه أمرٌ رباني طرأ بعده.

انتهى كلام السبكي.

أقول: يعارض هذا بختانه صلى الله عليه وسلم، فخلقه تكملةٌ للخلق الإنساني، ولاشك أن بقاءه على تلك الفطرة الإنسانية، ثم إزالتها بعد ذلك، فيه تعليمٌ للخلق باتباعه.

فإن قلت: ثم فارقٌ، وهو القابل الذي تؤثر فيه الوسوسة.

قلت: الأكمل والأشرف عدم خلق القابل، كعدم خلق القلفة وسلامته من الانزعاج الذي حصل له عند شق الملك صدره الشريف صلى الله عليه وسلم، خصوصاً في سن الطفولية.

فالمسئوول خلاصكم السبكي، والخلاص من شباك سيدنا السبكي.

ولمولانا مناسبة بهذا الفن موروثة، وفي البقية دررٌ على طنافس الفضل مبثوثة.

فأجابه الطبري بما نصه: مولانا الذي يهطل بواكفٍ ترفع لتلقيه الأكف المبسوطة، ويتألق عن بارقٍ يضيء به مظلم وجه الأرض البسيطة.

ويرعد بما ينتجع إليه إذا سمع ثقةً بوعده، ويشرق بذكاء ذكاءٍ أكسبت البدر ساطع ضيائه وطالع سعده.

ويرهف سمهري القلم في كتيبة الكتابة بالمداد الأسود والأحمر، ويرعف عضب اللسان في معرك المناظرة والمناضلة فنال ما لم ينله اللدن الأسمر.

إمام البلاغة، رب الكمالات المصاغة.

دامت فرائد فوائده عقوداً للنحور، واستمرت وطفاء غيثه ممدةً للبحور.

وافي المشرف المشرف، المدبج المفوف.

فوقفت له أقدام الأفهام حيارى، وأضحت تالية:" وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ".

غير أنها داوت ما ألم بها بارتشاف سلسبيله، واستضاءت بمصباحه لسلوك سواء سبيله.

فرأت بعد التكلف في التوفيق بين عبارة مولانا وبين مراده، أنه لا معارضة بما أشار إليه من ختان من منح الله تعالى الخلق بإسعافه وإسعاده.

أما أولاً، فلأنهم اختلفوا في أنه هل ولد مختوناً أو أنه ختن بعد ولادته؟ وقد قال بكلٍ من القولين طائفة: فأما على القول الثاني فلا اعتراض بالمعارضة المذكورة.

وأما على الأول فالكلام في جزءٍ من الخلقة البشرية، من الأجزاء الشريفة، التي لا تمكن الحياة بدونها في العادة، فإنها هي المكملة للخلقة في الحقيقة، وأما القلفة فهي كالأظفار والشعور، مما لا يترتب على وجوده ما يترتب على مثل العلقة المستكنة في ذلك الموضع بالنسبة إلى الحياة.

وأيضاً الكلام فيما يترتب عليه الأحكام، فإن العلقة حيث كانت محل وسوسة الشيطان في البشر، ربما يترتب عليه عدم الإيمان، عياذاً بالله، ولا كذلك القلفة.

ص: 34

وأيضاً خلق القلفة وإزالتها بعد ذلك قد وقع لغيره صلى الله عليه وسلم، كابراهيم عليه السلام فلو وجدت فيه صلى الله عليه وسلم ثم أزيلت لم يكن في ذلك كبير مزية بخلاف الشق المذكور، وإخراج العلقة المذكورة.

نعم، يرد على كلام السبكي، حيث قرر أنه لم يكن للشيطان حظ منه صلى الله عليه وسلم، وأن خلق العلقة فيه لتكميل الخلق، أنه لا معنى لإزالتها بعد ذلك، حيث لم تكن منه صلى الله عليه وسلم مظنةٌ له، فلا يتم حينئذ ما قرره على ذلك النمط.

هذا ما لاح، ودعا إليه الفلاح قلت: فيه مناقشة أما نقله الاختلاف في كونه ولد مختوناً، فلم يكن إليه داع، إذ الإشكال إنما هو واردٌ على مقابله، فلا معنى لنفي الاعتراض.

ودعوى كون العلقة من الأجزاء التي لا يمكن بقاء الحياة بدونها ممنوعة.

وما أورد على كلام السبكي، ليس بواردٍ عليه، فإن في إزالتها مع منع الشيطان عنها حكمةً هي قطع وصوله إليه.

ولقد أجاد الشهاب الخفاجي في تعليله الشق بقوله:

شُقَّ منه صَدْرٌ فأُخْرِج منه

عَلَقةٌ في صَمِيمِه سَوْداءُ

وبه تَمَّ خَلْقُه وتَقَوّى

قلبُه فِطْرَةً وزاد النّماءُ

فلِذا حاز جُرْأةً في اعْتدالٍ

وله حَبَّب الفتاةَ الفَتاءُ

ما انْتفتْ هذه لتُكمْل خَلْقاً

نُكْتةٌُ ما اهْتدَى لها الحُكماءُ

فعلى القلبِ دِرْعٌ عَزْمٍ حَصِينٌ

ولِلُبٍ عليه لَامٌ وبَاءُ

ومن شعر القاضي محمد قوله:

سلامٌ على الدارِ التي قد تباعدَت

ودمعي على طولِ الزمانِ سَفُوحُ

يعِزُّ علينا أن تشِطّ بنا النَّوَى

ولِي عندكم دُون البَرِيّةِ رُوحُ

إذا نَسمتْ من جانبِ الرَّمْلِ نَفْحةٌ

وفيها عَرارٌ للغُوَيْر وشِيحُ

تذكّرتُكم والدمع يستُر مُقْلتي

وقلبي مَشُوقٌ بالبِعاد جَرِيحُ

فقلتُ ولِي من لَاعِجِ الشوقِ زَفْرةٌ

لها لَوْعةٌ تَغْدُو بها وتَرُوحُ

ألا هل يُعيد اللهُ أيَّامَنا التي

نَعِمْنا بها والكاشِحون نُزُوحُ

وقوله أيضاً، في جواب كتابٍ ورد إليه:

هذا كتابُك أم دُرٌّ بمُتّسِقِ

أم الدَّرارِي التي لاحتْ على الأُفُقِ

وذا كلامُك أم سِحْرٌ به سُلِبَتْ

نُهَى العقولِ فتتْلُو سورةَ الفَلَقِ

وذا بيانُك أمو صهْباءُ شَعْشَعَها

أغَنُّ ذو مُقْلةٍ مكحولةِ الحَدْقِ

بتاجِ كلِّ مَلِيكٍ منه لامعةٌ

وجِيدِ كلِّ مُجيدٍ منه في أُفُقِ

رَوْضٌ من الزهْرِ والأنوارُ زاهيةٌ

كأنْجُمِ الأُفْقِ في اللأّلاءِ والنّمقِ

وذِي حمائمُ ألْفاظٍ سَجَعْنَ ضُحىً

على الخمائلِ تحت العارِضِ الغَدِقِ

رسالةٌ كفَراديسِ الجِنانِ بها

من كل مؤتلق يلهى ومنتشق

كأنما الالفات المائدات بها

غصونُ بانٍ على أيْكٍ من الوَرِقِ

تعْلُو مَنابرَها الهَمْزاتُ صادِحةً

كالوُرْقِ ناحَتْ على الأفْنانِ من حُرَقِ

مِيماتُها كثُغورٍ يبْتسِمْنَ بما

يُزْرِي على الدُّرِّ إذْ يُزْهِي على العُنُقِ

فطِرْسُها كبَياضِ الصُّبْح من يَقَقٍ

ونِقْسُها كَسوادِ الليلِ في غَسَقِ

يا ذَ الرَّسالة قد أرْسلْت مُعْجِزةً

رَدَّت بلاغتُها الدَّعْوَى من الفرقِ

ويا مَلِيكَ ذوِي الآدابِ قاطِبةً

ويا إماماً هَدانا أوْضح الطُّرُقِ

مَن ذا يُعارِض ما قد صاغ فكرُك مِن

حَلْي البيَانِ ومَن يقْفوك في السَّبقِ

أنت المُجَلَّى بمضْمارِ العلومِ إذا

أضْحَى قُرومِ أُلِي التحْقيقِ في قَلَقِ

صَلَّى أئمةُ أهلِ الفضلِ خَلْفَك يا

مَوْلى المَوالي وربَّ المنطقِ الذّلِقِ

ص: 35

مُسلِّمين لما قد حُزْتَ من أدبٍ

مُصدِّقين بما شُرِّفْتَ من خُلُقِ

مَهْلاً فبَاعِي من التْقصيرِ في قِصَرٍ

وأنت في الطّوْلِ والإحْسانِ ذو عُمقِ

سبحان بارىءُ هذِي الذاتِ من هِمَمٍ

سبحان فاطرُ ذا الإنْسان من عَلَقِ

يا ليتَ شِعْرِيَ هل شِبْهٌ يُرَى لكمُ

كلَاّ وربِّي ولا الأمْلاكُ في الخُلُقِ

عُذْراً فما فِكْرتي صَوَّاغةً دُرَراً

حتى أصُوغَ لك الأسْلاك في نَسَقِ

واسْلَمْ ودُمْ وتعالى في مَشِيد عُلاً

تسْتنْزِل الشُّهْبَ للإنْشا فلم تُعَقِ

وقوله في صدر كتاب:

بحقِّ الوفَا بالوُدِّ بالشِّيمةِ التي

عُرِفْتم بها بالجودِ والكرمِ الجَمِّ

بتلك الخِصالِ الأشْرفيَّاتِ بالنُّهى

بِعزَّتك العَلْيا على قِمّةِ النّجْمِ

بذاك المُحَيَّا الهَشِّ بالمنطِقِ الشَّهِي

بما فيك من خُلْقٍ رضِيٍ ومن عَزْمِ

أجِرْنِي من التكْليفِ واقْبِلْ تحيَّتِي

بتقْبيل أرضٍ لم تزَلْ مُنْتهى هَمِّي

فدهرِي من الإسْهابِ أمْنَعُ مانِعٍ

ووقْتِي عن الإطْنابِ أضْيَقُ من سَمِّ

وماذا عسَى في الوصفِ يبلُغ مِقْوَلي

ولو مُدَّتِ الأقْلامُ من مَدَدِ اليَمِّ

محمد علي بن محمد بن علان الصديقي علمٌ حديث فضله أحسن الحديث، وإليه انتهى في قطر الحجاز فن التحديث.

فهو سباق غايته، حامل رايته، وحافظه الذي ملك جل روايته ودرايته.

شرح الله لتحفظه صدره، وأعلى به في الخافقين قدره.

فحدث إذا حدث عن البحر ولا حرج، وانظر روضةً من رياض الجنة طيبة الأرج.

إلى ما حوى من فنون أربى فيها على حلفائه، وهناك حسن حالٍ مع الله ألحقه بأتقياء الدين وحنفائه.

تتعظ به النفوس في التكلم والسكوت، ودعوته لا تحجب عن الملك والملكوت.

وله تصانيف تشنف بها آذانٌ ومسامع، وودت صحائف الأذهان لو أنها لها دفاتر ومجامع.

وله شعرٌ ربما أجاد فيه، فلم يحك مثاله من الزلال العذب صافيه.

فمنه قوله:

وزمزمَ قالوا فيه بعضُ مُلوحةٍ

ومنه مِياهُ العَيْنِ أحْلَ وأمْلَحُ

فقلت لهم قلبي يَراها مَلاحةً

فما برِحتْ تحلُو لقلبِي وتمْلُحُ

وقوله:

يا ربِّ أنت حبسْتَ الحُسنَ في قمرٍ

حُلْوِ الشَّمائلِ لا يرْثِي لمن عَشِقَهْ

أكاد أدعو عليه حين يهجُرني

لكنْ لِفَرْطِ غرامي تمنْعُ الشَّفقَهْ

وقوله:

يا مالِكاً رِقَّ قلبي

رِفْقاً بنفْسِ رَفِيقِكْ

اللهُ بيني وبين السَّ

واكِ في رَشْفِ رِيقِكْ

وقوله:

يا مَن يلوم مُحِبّاً

ولا يُراعِي الجمالَا

باللهِ دَعْنِي فإنِّي

لقد فَنِيتُ انْتحالَا

وقوله مضمناً:

كتَبْتُه ولهيبُ الشوقِ في كَبِدِي

والدمعُ مُنْسَكِبٌ والبالُ مَشْغولُ

وقلتُ قد غاب مَن أهْواه وَا أسَفِي

بانتْ سعادُ فقلبي اليومَ مَتْبُولُ

ومن زهرياته، قوله في عقد الحديث:

إذا أمْسَيْتَ فابْتدِرِ الصَّباحَا

ولا تُمْهِلْه تنْتظرُ الصِّياحَا

وتُبْ ممَّا جَنَيْتَ فكم أناسٍ

قَضَوْا نَحْباً وقد ناموا صِحاحَا

ومما يعجب في هذا المعنى قول الشهاب:

ألا أيُّها المغرورُ في نومِ غَفْلةٍ

تيَقَّظْ فإن الدهرَ للناس ناصِحُ

فكم نائمٍ في أوَّلِ الليلِ غافلٍ

أتاه الرَّدَى في نَوْمِه وهْو صَابِحُ

فشَقَّ عليه الليلُ جَيْبَ صَباحِه

وقامتْ عليه للطيورِ نَوائِحُ

وأنشد له بعضهم هذه الأبيات، وهي قوله:

الموتُ بحرٌ مَوْجُه طافحُ

يغْرَق فيه الماهرُ السابِحُ

وَيْحَكِ يا نفسُ قِفِي واسْمعِي

مَقالةً قد قالها ناصحُ

ما ينفعُ الإنسانَ في قبرِه

إلاّ التقى والعملُ الصالحُ

ص: 36

عبد الملك بن جمال الدين العصامي حفيد العصام الإسفرايني، رحمه الله رحمةً تبرد ضريحه، وتقدس روحه وريحه.

المتصف بصفاته، الجاري على نهجه في مصنفاته.

رسا أصله في الثرى، ورافق عزمه النجم في السرى.

فلا مجد إلا إليه انتسابه، ولا جود إلا إليه انسيابه.

وهو والفضل روح وشخص، وكل وصفٍ من أوصافه الكمال به مختص.

عف السريرة طاهر الأثواب، مقسم الآنات بين الطاعة ونيل الثواب.

وله من الآثار ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ على مدى الأيام تحرسه.

فمنه قوله مضمنا:

أُهْدِي لمَجلسِه الكري

مِ فرائداً تُهْدَى إلَيْهِ

كالبحرِ يُمْطِرُه السَّحا

بُ وماله فضلٌ عليْهِ

وهو من قول البديع الأسطرلابي:

أُهْدِي لمجلسِه الكريمِ وإنما

أُهْدِي له ما حُزْتُ من نَعْمائِهِ

كالبحرِ يُمْطرُه السحابُ ومالَه

فضلٌ عليه لأنه من مائِهِ

وكتب إليه القاضي تاج الدين المالكي مسائلاً:

ماذا يقولُ إمامُ العصرِ سيدُنا

ومَن لدَيْه يَرَى التحقيقَ طالبُهُ

في الدارِ هل جائزٌ تذْكيرُ عائدِها

في قَوْلِنا مثلاً في الدارِ صاحبُهُ

وفي إبانةِ هَمْز ابنٍ أراد فهلْ

يكون موصوفهُ إسْما تُطالبُهُ

أم كَوْنُه عَلَماً كافٍ ولو لَقَباً

أو كُنْيةً إن أراد الحَذْفَ كاتبُهُ

أفِدْ فما إنْ رأيْنا الحقَّ مُنْخفِضاً

إلاّ وأنتَ على التحقيقِ ناصبُهُ

فأجابه بقوله:

يا فاضلاً لم يزَلْ يُهْدِي الفرائدَ مِنْ

عُلومِه وتُروِّينَا سَحائبُهُ

تأْنِيثُك الدارَ حَتْمٌ لا سبيلَ إلى التَّ

ذكيرِ فامْنَعْ إذاً في الدارِ صاحبُهُ

والابْنُ مَوْصوفةَ عَمِّمْ فإن لَقَباً

أو كُنْيَة فارْتِكابُ الحَذْفِ واجبُهُ

هذا جَوابِيَ فاعْذِرْ إن تجِدْ خَلَلاً

فمصدرُ العَجْزِ والتَّقْصير كاتبُهُ

لا زِلْتَ تاجاً لِهَاماتِ العُلَى عَلَماً

في العلم يحْوِي بك التحقيقَ طالبُهُ

ابناه: شرف الدين يحيى وبدر الدين حسين لما توفي أبوهما في المدينة قرا بها قرار أحدٍ وسلع، ورسخا رسوخ الباسقات ذوات الثمر والطلع.

وهما قمران طلعا معاً فأشرقا، وروضان سقيا ماء النباهة فأورقا.

وكلٌ منهما أديبٌ أريب، له في المعارف ضرائب ماله فيها ضريب.

إلى أشعارٍ تروق كما راقتك عهود الشبائب، وتشوق كما شاقتك ذكرى الحبائب.

فمما ظفرت به من أشعار شرف الدين، قوله وقد أهدى نبقاً وفلاً:

أهديْتُ نَبْقاً لنبْقَى في الودادِ على

صِدْقِ الوِدادِ وإرْغامِ العدى أبدَا

ومَعْه يا سيِّدي فُلٌّ يبشِّرُكم

بأنَّ فُلَّ مَن يَشْناكمُ كَمَدَا

الفل: نوع من الياسمين، بلغة أهل اليمن، ذكي الرائحة.

ولم يذكره أهل اللغة، فلعله مولد، وسماه ابن البيطار في مفرداته النمارق وكتب على سفينة شعر، لأديب يعرف بعارف، قوله:

سفينةُ أشعارٍ هي البحرُ دُرُّها

نتائج أفكارٍ وشَتَّى مَعارفِ

بها اللفظُ كأْسٌ والمَعاني مُدامةٌ

وما ذاق منها نشوةً غيرُ عارفِ

وله:

رأى سَقَمَ الكتابِ فمال عنه

سَقيمُ الجَفْنِ ذو حُسْنٍ بديعِ

فقلتُ له فَدَتْك الرُّوح هَلَاّ

مُراعاة النَّظيرِ من البديعِ

أين هذا من قول البعض في مليحٍ احمرت عيناه، وهو:

ليس احمرارُ لِحاظِه من عِلَّةٍ

لكنْ دمُ القتْلَى على الأسْيافِ

قالوا تَشابَه طَرْفُه وبَنانُه

ومن البديعِ تَشابُه الأطْرافِ

وقوله معارضاً بيتي القاضي تاج الدين المالكي:

وخَوْدٍ من الأعْرابِ لما تلثَّمتْ

ببُرْقُعِها الشَّرْقِيِّ في مَعْشَرِ العِشْقِ

وشَرَّق خَدَّيْها الحياءُ بحُمْرةٍ

أرَتْنا هلالَ الأُفْقِ يبْدُو من الشَّرْقِ

وله:

ص: 37

قالوا أضافَك يا يحيى لِخدْمتِه

حبيبُ قلبِك في سِرٍ وفي عَلَنِ

فقلتُ لمَّا رآني غيرَ مُنْصرِفٍ

عن حُبِّه رام كَسْرِي فهْوَ يَجْبُرنِي

وله موجهاً بأسماء الأنغام، فيمن اسمه حسين، وقد ورد المدينة من مكة:

أقول لِمَعْشَرِ العُشَّاقِ لمَّا

بدا رَكْبُ الحِجازِ وقَرَّ عَيْنِي

أمِنْتُم من نَوَى المحبوبِ فاسْعَوْا

له رَمَلاً وغَنُّوا في حُسَيْنِي

وما ألطف قول ابن جابر الأندلسي، في مثل ذلك:

يا أيها الحادِي اسْقنِي كأسَ السُّرَى

نحوَ الحبيبِ ومُهْجتِي للسَّاقِي

حَيِّ العِراقَ على النَّوَى واحمِلْ إلى

أهلِ الحِجازِ رسائل العُشَّاقِ

وله تأليف سماه أنموذج النجبا من معاشرة الأدبا تكلم فيه شارحاً لقول القائل:

حاشا شَمائلَك اللَّطيفةَ أن تُرَى

عَوْناً عليَّ مع الزمانِ الْقاسِي

غير أنه لم يعرف قائله، فقال: ولعمري، إنه، وإن جهل بانيه، من البيوت التي أذن الله أن تسكن، فما اللفظ إلا بمعانيه، وإن كان قائله ألكن.

ثم قال: وهذا البيت مما يكثر الاستشهاد به أهل الآداب، في محاضرة الأصدقاء والأحباب.

وهو من أربعة أبيات معمورة بلطيف العتاب، وتنزيه شمائل الأنجاب، مبرورة بصدق المنطق واقتضاء الصواب.

محاسنها غرر في جياد القصائد، ولمعاني البديع بها صلةٌ ومن مفرداتها عائد.

تشرق شموس التهذيب في سماء بلاغتها، وترتشف الأسماع على الطرب من رقيق سلافتها.

فما أحقها بقول القائل:

أبياتُ شِعْرٍ كالقُصو

رِ ولا قصورَ بها يليقُ

ومن العجائبِ لَفْظُها

حُرٌّ ومعناها رقيقُ

وهي:

إنِّي لأعْجبُ من صدودِكَ والجفَا

من بعد ذاك القُرْبِ والإيناسِ

حاشَا شمائلك اللطيفةَ أن تُرَى

عَوْناً عليَّ مع الزمانِ القاسِي

أو ثَغْرَك الصافِي يَرُدُّ حُشاشةً

تشْكو لَهِيباً من لَظَى أنْفاسِي

تاللهِ ما هذا فِعالُك في الهوى

لكنْ حُظوظٌ قُسِّمتْ في الناسِ

انتهى كلامه.

قال ابن معصوم: قلت: وقد وقفت أنا بالديار الهندية على مجموع بخط أبي البقاء الوفائي الوداعي الحنفي قديمٍ، يقول فيه: القاضي علاء الدين علي بن فضل الله أبو الحسن، صاحب ديوان الإنشاء، أخو القاضي شهاب الدين أحمد العمري، وقف على بيتين للصلاح الصفدي.

وهما:

إني لأعجبُ من صُدودِك والجفَا

من بعد ذاك القُرْبِ والإيناسِ

حاشَا شمائَلك.................

..........................الخ

فقال مُجِيزاً لهما:

أو ثغرُك الصافي يرُدُّ حشاشتي

............ البيتين.

انتهى.

فعلم بهذا أن البيت الذي شرحه للصلاح الصفدي.

وقوله: إنه من أربعة أبيات ليس بصواب؛ لإيهامه أن الأربعة الأبيات قائلها واحد، وقد علمت أنها لشاعرين.

والله أعلم.

عبد الملك بن حسين العصامي هو بمنزلة الغرة بين البصر والجبين، رمقته عين العناية منذ أطلق عليه لفظ الجنين.

فنشأ متردياً من النعمة ثوباً سابغاًن ومتروياً من الرفاهة شراباً سائغاً.

لا دأب له إلا توسم وفود الآداب في سوق عكاظها، ولا شغل له إلا استكشاف وجوه المعاني المخبأة تحت براقع ألفاظها.

مشتملاً بحلي الكمالات وبرودها، رافلاً بين عقيق الفضائل وزرودها.

حتى ظنت حصاة علاه، وعجزت حصاة حلاه.

فما الدهر إلا من رواة معاليه، وما بديع الزمان إلا من خدمة معانيه.

وناهيك بعصامي النفس والجد، وماجدٌ جد في المعالي فساعفه على نيله الحظ والجد.

وقد صحبته أيام المجاورة، واغتنمت من نشوة المحاضرة والمحاورة.

في أوقاتٍ لا أحسب من عمري غيرها، ولا أنسى مدة عمري خيرها وميرها.

وقد أخذت عنه من بدعه، ومخترعه في محاسن الشعر ومبتدعه.

ما تتوالد من غصون حضيرته ولدان القريض، وتقتطف أزهار الأدب الغض من غصون روضه الأريض.

فمن ذلك قوله من قصيدة مدح بها الشريف سعد بن زيد، مطلعها:

ص: 38

سقى الغَيْثُ ذَيَّاك الأُبَيْرِقَ والسِّقْطَا

فأنبتَ في أرْجائِه الرَّنْدَ والأرْطَا

وحَيَّى رُبَا تلك المعاهد فاكْتسَتْ

رياضٌ لها من نَسْجِ إبْرتِه بَسْطَا

مَعاهدُ لَمْياءِ البَدِيدِ تعطَّرتْ

دمائِثُ مَيْثاهَا بما تسْحب المِرْطَا

لها بشَرٌ كالماءِ إذ قلْبُها صَفَا

وناظرُها كالسيفِ لكنَّه أسْطَى

إذا ما دجَا ليلٌ حكى لَيْلَ شَعْرِها

وإن لاح نَجْمُ الأُفْقِ شِمْنَا به القُرْطَا

رَدَاحٌ إذا لاحتْ فكالبدر أو رَنَتْ

فكالظَّبْيِ أو ماسَتْ تُرِي الحَلَّ والرَّبطَا

أراشَتْ لأحْشائي رَواشِقَ مُقْلةٍ

ترى نَبْلَها يُصْمِي الفُؤادَ إذا أخْطَا

منها:

رَمَاها ومَرْباها مُلِثٌّ من الحَيَا

ورَوَّى على أكْنافِها الأثْلَ والخَمْطَا

فَوا شَوقَ أحْشائي للحَظْةِ لَحْظِها

وأنَّى بها إذْ قد نأَتْ دارُها شَحْطَا

بلَى قد نأتْ عنِّي ولا بَيْنَ بيننا

وبُدِّلْتُ من عَيْن الرِّضا بالجَفَا سُخْطَا

كذلك أخْلاقُ الغوانِي ومَن يَرُمْ

بِهِنَّ الوفَا كالْمُبْتغِي في الإضَا قُرْطَا

ومن لم يذُد دون التَّصابِي وشِرْبِه

قُصاراه فيها أن يَذَلَّ وينْحَطَّا

ويُمْسي صَرِيعَ العينِ لا ناصرٌ له

سوى عَبْرةٍ يرْوِي تفجُّرُها سَبْطَا

نعم لو نَحَا في كلِّ أمرٍ يؤُودُه

مَليكَ الورى سَعْدَ بن زيدٍ لمَا شَطَّا

مَلِيكٌ له من طِينةِ المجد جوهرٌ

به ازْدانَتِ الدنيا وقِدْماً هي الشّمْطَا

شريفُ العلَى والذّاتِ في الوصفِ مُنْتَمٍ

إلى خيرِ أصلٍ طاب في قَنْسِه رَبْطَا

منها:

طويلُ البِنا رَحْبُ الفِنا مُنْهِل الغِنَىمُزِيلُ العَنَا مُولِي المُنَى لِلُّهَى سَفْطَا

لقد حُطْتَ أكْنافَ الخلافةِ عَزْمةً

وقُمْتَ بها حِفْظاً وشَيَّدْتَها ضَبْطَا

منها:

أبَى اللهُ إلاّ أن تحُلّ مَحَلّهُ

بمَرْتبةٍ عَزَّتْ لغيرِك أن تُمْطَى

فوَافاكِ بالتَّأْييد ما كان كامِناً

من الأزَلِ العُلْوِيِّ ينتظِر الشّرْطَا

فما خَطّ تقْليداً على الطِّرْسِ كاتبٌ

ولكنْ قضاءُ اللهِ من قبلهِ خَطّا

منها وهو آخرها:

سأملأُ ديواني بمَدْحِك مِدْحةً

لِشعْرِ لكي يستوجبَ الحمدَ والغَبْطَا

فدُمْ وابْقَ واسْلمْ لا بَرِحْتَ مُؤيَّداً

على العِزِّ مهما أن تحاوِلَه تُعْطَى

وله من أخرى أولها:

على مُهْجةِ المَعْمودِ والعاشقِ المُضْنَى

أعِدْ نَظْرةً تَشْفِيه يا مَن له الحُسْنَى

بدا قَدُّكَ الميَّاسُ في حُلَلِ الْبَها

فألْبَسنِي جِلْبابَ سُقْمِيَ والحُزْنَا

أجِيءُ إلى الأعْتابِ في غَسَقِ الدُّجَى

وما خِلْتُه ألاّ يزيدَ بي الوَهْنَا

لواءُ وَلائي تحت قَبْضِ يَمينِه

وإن كان عن رِقِّي بغيرِي قد اسْتغْنَى

وَدِدْتُ لخدِّي تحت نَعْليْه مَوْطِئاً

فيا ليْته يَرْضَى وَضعتُ له الجَفْنَا

أيُشبه غُصْنُ الْبانِ لين انْعطافِه

فلا الصَّعدةُ السمراءُ تحْكِي ولا الغُصْنَا

به في فؤادِ الصَّبِّ سُقْمٌ مُبَرِّحٌ

فللهِ سُقمٌ ما ألّذ وما أهْنَا

نَحيفُ قَوامٍ لا من السُّقْمِ رِقّةً

بها صِرْتُ رِقّاً بالنُحُولِ له قِنَّا

حريقُ فؤادي لا يزال مُؤجَّجاً

ومَدْمَعُ جَفْنِي وابِلُ السَّحِّ لم يفْنَا

سَماحُ مُحَيَّاه دليلٌ على السَّخَا

فما بالُه بالوصلِ عن عَبْدِه ضَنَّا

ص: 39

نَبِيُّ جمالٍ مُعْجِزٌ بجمالِه

ومُعْجِزُ لَحْظَيْه عن الكلِّ قد أغْنَى

إليه إشاراتُ المحِبِّين حيثما

تولّى وكلٌّ في هَواه به مُضْنَى

به كلُّ أوصافِ الجمالِ تجمَّعتْ

فمِن أجْلِه في الحبِّ صرتُ له رَهْنَا

نَفَى وَسَنِي عنِّي وذَوَّبَ مُهْجتِي

وحَنَّ فؤادي للوِصالِ وما حَنَّا

عُبَيْدٌ له لا أبْتغِي العِتْقَ دائماً

فيا ليْته يَرضَى حُلولِيَ في المَغْنَى

له في حَشايَ منزلٌ ومَودَّةٌ

مُشيَّدةُ الأركانِ مُحْكمةُ المبْنَى

يَهيمُ به عقلي فسِرِّي تهتُّكِي

ورُشْدِي ضَلالي في هواه ولا مَنَّا

أبُثُّ له شوقي فيَلْوِي وينْثنِي

بِتِيهِ تَثَنٍ يُخْجِلُ الذّابِلَ اللّدْنَا

لماذا تُطيلُ الصَّدَّ يا غايةَ المُنَى

ومُغْرَمُك الوَلْهانُ أفْنيْتَه حُزْنَا

نَهتْنِيَ عُذّالِي وبي يتمَسْخَرُوا

يقولون يا وَلْهانُ إرْعَ لنا الظّعْنَا

زمانُك يا مجنون ضاع بحُبِّه

ولم تر أهل العشق مثلَك قد جُنَّا

يُصدُّ ويجْنِي في فِراقِك دائماً

فقلتُ فعندي ذاك أطيبُ ما يُجْنَى

إلى كم جفَا حتى متى تَرْض باللِّقا

وتُطْفِي لَهِيباً لاعِجاً مُهْجةَ المُضْنى

هنِيئاً لقلبي ما فيك مَحبَّةً

بما يُرْضِي الرحمن والإِنْس والجِنَّا

وما عَشْقتِي فيه قَبيِحاً ولا خَناً

ولكنّها للهِ خالصةُ المعنَى

وله من أخرى في الغزل، أولها:

أمالَ عِطْفاً وطُلاه لَواهْ

وأخْفَق الحسنُ عليه لِوَاهْ

عِطْفٌ حكى الصَّعْدةَ في صَدْعِها

والغُصن المائسُ يحْكي انْثِنَاهْ

يتْلوه لَحْظٌ نافِثٌ تالياً

سِحْراً فيا وَيْلاه ممَّا تَلَاهْ

في كلِّ يومٍ منه لي آية

لو أنّها للطّوْدِ حصَباً تَرَاهْ

وكم به كلّمني إذْ مضَى

فمذُ دَعاه القلبُ وَافَى وجَاهْ

فدَيْتُها من لَحْظةٍ لي بها

من المَنايا وشَهِيّ الحيَاهْ

لا صبرُ لي عنها ولا طاقةٌ

عندي لها والأمرُ فيه اشْتِباهْ

من حَسِبها عَقْربَ صُدْغٍ بها

قلبيَ مَلْدُوعٌ وما مِن رُقَاهْ

دبَّتْ له دَبَّ لذيذِ الكرَى

في مُقْلَةٍ أوْدَى بها الانْتباهْ

ثم تحرَّتْ في سُوَيْداه أن

تشُوكَه وَيْلاه وا ويْلتَاه

بدرٌ ثنانِي حبُّه فاغْتدَى

فكرِي بنَانِي دَيْدَناً في ثَناهْ

ظَبْيٌ وعنه لم يزلْ ناهِياً

كلُّ جَهُولٍ عارِياً عن نُهاهْ

في ثَغْرِه العَذْبِ وسِلْكِ الجُمَا

نِ الرَّطْبِ فانْظُر للحُلَى في حُلَاهْ

وفي شِفاهُ اللُّعْسِ خمرٌ حَلَا

لكنَّ لَحْظَيْه هما حَرَّمَاهْ

بمنطقٍ ذِي غُنَّةٍ خِلْتُها

صَلِيلَ عَضْبٍ في حَشايَ فَرَاهْ

لجِيدِهِ جُدْتُ برُوحِي وبالْ

آباءِ والبيْتِ وما قد حَواهْ

فتَاه بالحُسْنِ وما ضَرَّه

لو أنَّ بالحُسْنِ يُواتِي فَتَاهْ

لا غَرْوَ أن تَاه على مَن له

ليلاً صَباحاً بالشّجَى أنَّتَاهْ

لِمْ يا خليليَّ تلُوما لِمَا

لُمَا جَهُولاً عاذَلِي عن لَماهْ

كم ليلةٍ أمسيْتُ ذا جَذْوةٍ

تسوءُ ظَني لا عِجِي لا عَجَاهْ

وسيِّدي عَنِّىَ لَاهٍ ولم

أُحِرْ سَداداً والحِجا فيه لَاهْ

آهِ لقلبي آهِ آهاً له

آهِ لقلبي آهِ آهاً وآهْ

ص: 40

ذا لُؤلُؤِي ثغْرِه جِسْمُه

ولُؤْلُؤِيُّ الثَّوْبِ قلبي لَواهْ

يا رَشَأً بالكُمِّ عنِّي أرَاهْ

يسترُ لَحْظاً فاتِكاً بالكُمَاهْ

أفْدِيكَ من خَجْلانَ لا عنك لي

مُسْتَبْدَلٌ لا والعَلِي في عُلاهْ

صَبْراً لهجْري إن به تَرْضَ لي

يوماً فيوماً ثم مَاهاً فمَاهْ

وهكذا يقْضِي زَمانِي به

لا حولَ لي ما شاءَ ربِّي قضَاهْ

تقي الدين بن يحيى ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن مصطفى السنجاري الاسم تقي والعرض نقي، والخلق رضي، والفعل بحمد الله مرضي.

تميز بهذا الشأن على وفور حلبته، وفرع فيه البيان على سمو هضبته، وفوق سهمه إلى نحر الإحسان فأثبته في لبته.

مع أدبٍ غاص في لجة بحره، فاستخرج درره وأثبتها في جيد الدهر ونحره.

وقد أثبت له ما يغني عن ارتشاف ثغور الأقداح، ويكفي عن استنشاق عرف الرياض تفتح فيه الورد والأقاح.

فمنه ما كتبه إلى القاضي تاج الدين المالكي، ملغزاً في نخلة:

أيها المِصْقَعُ الذي شرَّف الدهْ

رَ وأحْيَى دَوارِسَ الآدابِ

والهمامُ الذي تسامَى فَخاراً

وتناهَى في العلمِ والأحْسابِ

والخطيبُ الذي إذا قال أمَّا

بعدُ أشْفَى بوَعْظِه المُسْتطابِ

والإمامُ الذي تهذَّب طِفْلاً

وزَكا في العلومِ والأنْسابِ

إن تُصحِّفْه كان فيه شفاءٌ

وبه النَّصُّ جاءنا في الكتابِ

ولك الفضلُ إن تُصحِّفْه أيضا

بالعَطا لا بَرِحْتَ سامِي الرِّحابِ

مُفْرَداً إن حذَفْتَ منه أخيراً

صار جمعاً له بغير ارْتيابِ

أو وصلتَ الأخيرَ منه بصَدْرٍ

كان عَدّاً برأْيِ أهلِ الحسابِ

وبثَانٍ إن ضُمَّ تالٍ إليه

فهو خِلٌّ من أعظمِ الأحْبابِ

وإذا ما صحَّفْتَه لَذَّ للنفْ

سِ مَذاقاً في مَطْعَمٍ وشَرابِ

خَلِّ نِصْفاً يُحَلُّ عنه وبادِرْ

قَلْعَ عيْنٍ ما إنْ لها مِن حسابِ

قلعَ اللهُ عيْنَ شَانِيكَ يا مَن

قَدْرُه قد سَما عن الإسْهابِ

وابْقَ في عِزَّةٍ وعِزٍ مَنِيعٍ

ما حَدا بِالحجازِ حادِي الرِّكابِ

فأجابه بقوله:

يا إماماً صلَّى وسلَّم كُلٌّ

خلفَه من أئمَّةِ الآدابِ

وخطيباً رقَى فضمَّخ طِيباً

مِنْبَر الوعظِ منه فَصْلُ الخطابِ

لم يُنافَس لَدَى التَّقدُّم إلاّ

قال مِحْرابُه هو الأحْرَى بِي

أشْرقتْ شمسُ فضلهِ لا تَوارتْ

عَيْنُها عن عِيانِنا بحِجابِ

وأتى رَوْضُ فكرِه بعَرُوسٍ

قد أُمِدَّتْ أنهارُها من عُبابِ

تقْتضي مِنِّيَ الجوابَ وعُذْرِي

في جوابِي حُوشِيَت أنَّ الجَوَى بِي

شَبَّهُ في حَشايَ فَقْدُ فتاةٍ

رحلتْ تمْتطِي مُتونَ الرِّقابِ

وانْطَوتْ بعد بَيْنِها بُسْطُ بَسْطِي

وانْقضتْ دولةُ الصِّبا والتَّصابِي

ليت شِعْرِي بمن أَهِيمُ وشمسِي

ما لها في أُفُولِها من إيابِ

كيف أصْبُو ووردةٌ كان رَوْضُ الْ

أُنْسِ يزْهُو بها ثَوتْ في التُّرابِ

لا وعَيْشٍ مضَى بها في نعيمٍ

لستُ أصْبُو من بَعْدِها لكَعابِ

هاتِ قُلْ لي يا مَلْعَبَ السِّرْبِ ما لِي

لا أر فيك ظبْيةَ الأتْرابِ

قال سَلْ حاسبِ الكواكبَ عمَّا

حار في دَفْعِه أُولو الألْبابِ

أصبحتْ من بَناتِ نَعْشٍ وكانتْ

بدرَ تِمٍ فهل تَرَى من جَوابِ

فابْسُطِ العُذْرَ يا أخا الفضلِ فَضْلاً

إن تجدْني أخْطأتُ صَوْبَ الصَوابِ

ص: 41

أتُصِيبُ الصوابَ فكرةُ صَبٍ

يحْتسي كأسَ فُرْقةِ الأحْبابِ

وتطَوّلْ وأسْبلِ السِّتْرَ صَفْحاً

فهْو شأنُ الخِلِّ المُحِبِّ المُجابِ

في جَوابٍ عن نَخْلةٍ قد أتتْنا

بِجَنَى النحْلِ في سُطورِ الكتابِ

أتْحفتْنا باللُّغْزِ في اسمِ أُخْتٍ

لأبِينا خُصَّتْ بذا الانْتسابِ

وكَساها المَرْوِيُّ من شَبَهِ المُؤْ

مِن فَضْلاً في سائرِ الأحْقابِ

وهْيَ ترْقَى من غير سَوْءٍ فطَوْراً

يستحِقُّ الجانِي ألِيمَ العذابِ

ثم طَوْراً وهو الكثيرُ يُرَى الجْا

نِي عليها من أفْضلِ الأصْحابِ

ولها إنْ تَشَأ تَصاحِيفُ منها

مُفْرَدٌ فيه غايةُ الإغْرابِ

جاء قَلْبُ اسمِ جِنْسِه وهْو لَحْنٌ

لا تُنافِيه صَنْعةُ الإعرابِ

ومُسَمَّى التصْحيفِ هذا إليه اللّ

هُ أوْحَى سُبحانَه في الكتابِ

وهْو ذُو شَوْكةٍ وجُنْدٍ عظيمٍ

خَلْفَ يَعْسُوبِه بغيرِ حسابِ

ذُو دَوِيٍ في جَحْفَلٍ يَمْلأُ الجَوَّ

كرَعْدٍ في مُكْفَهِرِّ السحابِ

حيوانٌ وإن تُصحِّفْ جَمادٌ

مُفْصِحٌ عن مُرادِ سامِي الجَنابِ

يا خليلِي بل يا أنا فاتِّحادِي

بك يقْضِي بذا بغيرِ ارْتيابِ

إنَّ صُنْعِي في حَلِّيَ اللُّغْزِ باللُّ

غزِ بديعٌ فلا تَفُه بِعتابِ

وابْقَ في نعمةٍ وفي جَمْعِ شَمْلٍ

ببَنِيك الأفاضلِ الأنْجابِ

ما سَرَتْ نَفْحةُ الأزاهرِ ترْوِي

ضَحِكَ الروضِ بُكاءِ السحابِ

وأعقب ذلك بنثرٍ صورته: المولى الذي إذا أخذ القلمَ ووَشَّى، وأرى غباره أرباب البلاغة والإنشا.

لا يرى على من رماه الدهر بسهمه، ولعبت صوالج الأحزان بكرة فهمه.

فمزج المدح بالرثا، وقابل النضر بالغثا.

فقد بان عذره، واتضح فعل الزمان به وغدره.

وقد كنت قبل إدراج هذا الرثاء في أثناء الجواب، أرقت ذات ليلةٍ من تجرع صاب ذلك المصاب.

فنفثت القريحة، في تلك اليلة التي كاد أن لا يكون لها صبيحة:

لقد كان رَوْضُ الأُنْسِ يزْهُو بوردة

شَذَا كلِّ عِطْرٍ بعضُ نَفْحةِ طِيبِهَا

فمَدَّ إليها البَيْنُ كَفَّ اقْتطافِهِ

وأمْحَلَ ذاك الرَّوْضُ بعد مَغِيبِهَا

ولم يصْفُ لي من بعدِها كَأْسُ لَذَّةٍ

وكيف تلَذُّ النفسُ بعد حَبِيبِهَا

فرَوِّي ثَراها يا سحائبَ أدْمُعِي

ومَن لي بأن تَرْوَى بسَحِّ صَبِيبِهَا

فقصدت أن أثبتها في ذيل الجواب وأخرياته، لما عسى أن يكون من محفوظات مولانا ومروياته.

وقد طال هذا الهذا، وطغى القلم بما هو للعين قذى.

فلنحبس عنانه، ونرح سمع المولى وعيانه.

حفيدة علي بن تاج الدين فاضلٌ نشر أدبه فأدهش مخبره، وتنسم صبا خلقه فعطر المشام مسكه وعنبره.

نشأ في حجر الكرم، متفيئاً ظل حرم المجد المحترم.

فطلع وفق ما اقتضته العناية، ودلت عليه كلمة الفضل بالصريح والكناية.

وقد رأيته وليس بينه والمنى حجاز، وحقيقة فضائله لا يطرقها مجاز.

فاستضأت حيناً بمنظره البهي، وتمتعت آونةً بلفظه الشهي.

ورأيت أدباً كالعمر في ريعانه، وسمعت شعراً كالشباب في رونقه ولمعانه.

فمما تناولته من شعره، قوله من قصيدة أولها:

على مِثْلِها من أعْيُنٍ كَحلُها السِّحْرُ

يهُون الذي نَلْقَى وإن عَظُمَ الأمْرُ

فعنِّي إلى غيري العداةِ عَواذِلِي

فلي شِرْعةٌ في الحبِّ لستُمْ بها تَدْرُوا

دَعُوني وما ألْقاه من حُبِّ شادِنٍ

مَحاسنُه لي في الغرامِ به عُذْرُ

مِن التُّرْكِ لَمَّا في الحِياصَة قد بَدا

رأتْ هالةً عَيْنِي ومنه بها بَدْرُ

ص: 42

يُريك جَنِيَّ الوردِ من وَجَناتِه

ويبسَم عن زَهْرِ الأقَأحِ له الثَّغْرُ

تعلَّقْتُه بادِي النِّفارِ كأنه

غزالٌ قد اسْتوْلَى على قلبِه الذُّعْرُ

فما زلتُ أسْقِي قاسياً من طباعِه

مُدامةَ لُطْفٍ مَزْجُ أكْؤُسِها التِّبْرُ

فرَقَّ وقد رقَّتْ مَعانِي تغزُّلِي

فلما رَنَا لم أدْرِ أيُّهما الشِّعْرُ

عشِيَّةَ وافانِي على غيرِ مَوْعِدٍ

وجُنْحُ الدُّجَى من دونِ حُرَّاسِه سِتْرُ

فقبَّلْتُ منه راحَ كَفٍ أُجِلُّها

عن الرَّاحِ حاشَ أن يُلِمَّ بها وِزْرُ

وصارتْ يَميِني كالنِّطاقِ لخَصْرِه

على رَغْمِ مَن قد قال بان له خَصْرُ

وقال وقد رُمْتُ ارْتِشافَ رُضابِه

متى بِحياتي قد أُحِلَّتْ لك الخَمْرُ

فَلوْلاه ما كان الغرامُ بمُهْجتِي

مُقيماً وقد سارتْ بأخْبارِه السَّفْرُ

سَلُوا الليلَ عني كم سهِرْتُ ظَلامَه

أُكابِدُ شوقاً دون حُرْقتهِ الجَمْرُ

أرى نَجْمَه أدْنَى من الوصلِ مَأْخَذاً

وأبْعَدَ من سَلْوايَ إن يمْحُه الفَجْرُ

فما زلتُ أُزْجِيها مَطايا تصبُّرٍ

بأرضِ الجَنَى حتى اسْتبان لِيَ البِشْرُ

وقال لِيَ الوصلُ الذي أنا طالبٌ

له مَرْحباً في الأمْنِ قد رحَل الهَجْرُ

وأنشدني من لفظه لنفسه:

إذا غاب كان المَيْلُ منِّي لغيرِه

وإن لاح كان المَيْلُ منِّي له حَتْمَا

كأنِّي هل في النحوِ والفعلَ حُسْنُه

وكلَّ الورى إن لاح محبوبِيَ الأسْمَا

يريد به ما ذكره النحويون، من أن هل مختصة بالفعل إذا كان في حيزها، فلا يجوز هل زيد خرج؛ لأن أصلها أن تكون بمعنى قد، كقوله تعالى:" هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر "، وقد مختصة بالفعل، فكذا هل، لكنها لما كانت بمعنى همزة الاستفهام، انحطت رتبتها عن قد في اختصاصها بالفعل، فاختصت به فيما إذا كان في حيزها؛ لأنها إذا رأته في حيزها تذكرت عهوداً بالحمى، وحنت إلى الإلف المألوف، ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، وإذا لم تره في حيزها، تسلت عنه، وذهلت، ومع وجوده إن لم يشتغل بضميرٍ لم تقنع به مقدراً بعدها، وإلا قنعت به، فلا يجوز في الاختيار هل زيداً رأيت بخلاف هل زيداً رأيته.

انتهى.

القاضي محمد بن خليل الأحسائي أديبٌ لا يجارى في ميدان إحسان، ولا يبارى في صنعة يدٍ ولسان.

وهو في علم العروض خليفة الخليل، وتحريره فيه الكافي عن شفاء العليل.

وكان ولي قضاء الطائف فاكتست به جمالاً، وبلغت في أهلها مآرب وآمالاً.

فكثر فيه المطري والمادح، وتفنن في وصفه الشادي والصادح.

وقد وقفت له على شعرٍ بهر اتقاده، وصح على زيف الأنام انتقاده.

فأثبت منه ما يقتطف زهراً جنياً، ويتخذ لتعليل النفس نجيا.

فمنه قوله، مخاطباً للقاضي تاج الدين المالكي، وقد طلب شيئاً من شعره:

لدَيْك أخا العَلْيَاء والفضلِ والعلمِ

ومَن جَلَّ من بين الأجِلَاّء بالفَهْمِ

تُحَلَّ رحالُ الظَّاعنِين ومَن غَدا

إليك بَدا في حامِلي العلمِ كالنَّجْمِ

لئن كان ربُّ الفضلِ كالرأسِ في الوَرى

فأنتَ له تاجٌ يُضِيءُ بلا كَتْمِ

طلبتَ من النظمِ البديعِ لآلئاً

فدُونكَها كالعِقْدِ في الحُسْنِ والنَّظْمِ

تُشنِّفُ أسْماعَ الرُّواةِ بدُرِّها

وتقطع أفْلاذَ الغَبِيِّ من الغَمِّ

فيا أيُّها القاضي المُولِّد طَبْعُه

من العلمِ أفْناناً تجِلُّ عن العُقْمِ

نوائبُ هذا الدهرِ غالَتْ قَرِيحَتِي

ودقَّتْ عظامِي بعد تمْزيقها لَحْمِي

فلو أن هذا الدهرَ يُبْدِي تَعطُّفاً

لظَلَّ بديعُ النظمِ وَالنظمُ في سَهْمِ

ولو أن جُزْءاً من هُمومي مُفَرَّقٌ

على الخَلْقِ عامُوا في بحارٍ من الهَمِّ

ص: 43

وسامِحْ فمِنْدِيلُ القَرارِ مُقطَّعٌ

ورِقَّ لقلبٍ لا يقَرُّ من العُدْمِ

ودُمْ أبداً في نِعْمةٍ ضِدُّها لها

يُطَأْطِىءُ رَأْساً في الرَّغامِ على الرَّغْمِ

وكتب إلى القاضي أحمد بن عيسى المرشدي، يهنيه بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم:

زيارةٌ رفعتْها للقبولِ يَدٌ

وسَفْرةٌ أسْفرَتْ في طَيِّها مُدَدُ

يَهْنيِك زَوْرةُ خيرِ الخلقِ في رَجَبٍ

يا مَن ربيعُ يديْه دائماً لُبَدُ

اللهُ والشافِعُ المُخْتَارُ قد نَظرا

إليك والرَّكْبُ إذ سايرْتَه سَعِدُوا

أخْلَصْتَ للهِ في هذِي الزيارةِ إذْ

شدَدْتَ وَجْنَاء لا تشكو إذا تَخِدُ

وفُزْتَ في لَثْمِ أعْتابٍ مُقَرَّبةٍ

إليه قومٌ بها في زِيِّهمْ حمدُوا

نعمْ لكم ذِمَّةٌ منه بتَسْمِيةٍ

يَهْنِى مُحمَّدَ من ذَا الحمْدِ ما يَجِدُ

قد سِرْتَ للَّهِ سيرَ الصالحين إلى

نَبيِّه وعلى الألْطافِ تعْتمِدُ

قصَدتَ سُوحَ إمامِ الرُّسْلِ سَيِّدهم

غَوْثِ العبادِ إذا في حَشْرِهم جُهِدُوا

ورُمْتَ من فضلهِ فضلاً تَزِيد به

فضائلاً هي في عَلْيائِك السَّنَدُ

طابتْ بطَيْبةَ أوقاتُ الأُلَى قصَدُوا

تقْبِيل تُرْبتِه والخيرَ قد وَجدُوا

هبَّتْ عليهم نُسَيْماتُ الرِّضا سَحَراً

فزال عنهم لَهِيبُ القلبِ والكَمَدُ

زاروا جُسوماً وزُرْنا نحنُ أفئدةً

في سَبْسَبِ الوجدِ والأشْواقِ تَطَّرِدُ

بُشْراكَ يا زائرَ المُختارِ لا برِحتْ

عليك منه مَبَرَّاتٌ سَمتْ تَرِدُ

لا زلْتَ تقصِده ما سار زائرُه

إليه في كلِّ عامٍ نَجْمُه يَقِدُ

فأجابه بقوله:

أذِي زهورُ رياضٍ زَانَها النَّضَدُ

أمِ الدَّرارِي التي في أُفْقِها تَقِدُ

أم ذِي جواهرُ تِيجانِ المُلوكِ بَلَى

جواهرُ التَّاجِ إذْ قِيستْ بها تَأَدُ

أم العقودُ أم المنظومُ من كَلِمٍ

أعان نَأظِمَه التَّأْيِيدُ والمَدَد

أم ذِي عرائسُ أفكارٍ مُحجَّبةٌ

أماطَتِ السِّتْرَ عنها للأديبِ يَدُ

يدٌ طويلةُ باعٍ في العلومِ لها

في كلِّ ما يُعْجِزُ الأفهامَ مُنْتقَدُ

كأنها حين وافتْنِي على غِرَرٍ

أرْى قُتيلِ الهوى عَذْبِ اللَّمَى الصَّردُ

قد أذْكرتْنِي أيَّاماً حَلتْ وَخَلَتْ

واغْتال لَذَّتَنا في طَيِّها الأبَدُ

وافتْ تُهنِّي مُحِبّاً لم يزَلْ قَلِقاً

إلى لقائِكَ صَبّاً وهْو مُضْطَهَدُ

وكان لما أتتْ أحْرَى بتهْنِيَةٍ

بها لِمَا أطْفأتْ من حَرِّ ما يَجِدُ

وقلت فيها وزُرْنا نحن أفئدةً

مُعرِّضاً فانْجلَى ما جَنَّهُ الخَلَدُ

فالحمدُ للهِ زار المُصطفى الجسدُ

مع الفؤادِ وحُقَّ الأجرُ والرَّشدُ

هذا وأنتَ على العِلاّتِ أجْمَعِها

لَدَى المُحِبِّ لَموْمُوقٌ ومُعْتَمَدُ

لأنَّ كلَّ اعْتدالٍ من سِواكَ يُرَى

يفُوقُه منك عندي ذلك الأَوَدُ

عليك منِّي تحيَّاتٌ مُضاعَفةٌ

من المُهَيْمِنِ تَتْرَى مالَها أمَدُ

عفيف الدين بن عبد الله ابن حسين الثقفي هذا من أهل الطائف، أديبٌ كثير اللطائف.

ثقفي مثقف قناة المجد، جرى إلى آماد الفتوة فبلغها بالجد والجد.

وقد أطرب بأناشيده من لم يكن يطرب، وأتى بما يسكر من سمعه وإن لم يكن يشرب.

بعبارة مستغنيةٍ عن التصنع، وبديهة لم تشب بخطر التمنع.

مصقولةٍ بلا تطرية واسطة، مجلوة بلا منة ماشطة.

وكل كلامه عليه مسحة النضارة، وله ملاحة البداوة وهي تفوق الحضارة.

ص: 44

وقد جئتك من شعره بما يصف نفسه إذا لاح، وإذا ارتصفت درر عقوده تغايرة عليها لبات الملاح.

فمنه قوله من قصيدة:

سَقَى طَلَلاً بين الأجارِعِ واللِّوَى

وحَيَّى زماناً لم نُرَعْ فيه بالنَّوَى

ورَعياً لأيامٍ هناك سوالِفٍ

قضيْنا بها عصر الشَّبِيبة والهَوى

بظِلِّ جَنابٍ والنَّدامَى عِصابةٌ

كرامُ المساعي تُرغم الخَصْمَ إن غَوَى

على السَّفْحِ ما بين القُصَيرِ إلى الحِمَىإلى الحِصْنِ نَطْوِي الوُدِّ عنَّا وما انْطَوَى

لياليَ لا تُخْطِي سهامُ رَمَّيتِي

ولا عاقَنِي الوالي الغَيُورُ وإن زَوَى

وأصبحتُ يَثْنيني الحِجَى عن هَوِيَّتِي

ويمنعني دهرٌ تمادَى وما ارْعَوَى

فللهِ كم من يومِ دَجْنٍ وصَلْتهُ

بلَيلٍ على الرَّبْعِ الجنوبِي وما حَوَى

وساعاتِ أُنْسٍ كلما عَنَّ ذِكْرُها

يُهيِّجني فَرْط الصَّبابةِ والجَوى

لكلِّ غَضِيضِ الطَّرْفِ أحْوى إذا رَنَا

سَباكَ النُّهى والصبرَ واسْتأثر القُوَى

إذا افْتَرَّ عن ثَغْرٍ حكى الدُّرَّ نَظْمُه

وإن لاح قلت الشمسُ حَلَّتْ في الاسْتِوا

يُشِيرُ فأدْرِي ما يقول برَمْزِه

فأقْضِيَ على ما في هَواه بما نَوَى

عليم بعِلَاّتِ الغَوانِي وطِيبِها

ومُفْتِي النَّدامَى في مُحاورةِ الهَوَى

وكتب إلى السيد علي بن معصوم:

برُوحِيَ مَجْبولاً على الحبِّ طَبْعُه

وقلبيَ مجبولٌ على حُبِّه طَبْعَا

يُراقِبُ أيامَ المُحرَّم جاهداً

فيُطلِعُ بدراً والمُحبُّ له يَرْعَى

كلِفتُ به أيامَ دهرِيَ مُنْصِفٌ

ووجهُ الصِّبا طَلْقٌ وروضُ الهوى مَرْعَى

جنَيْنا ثمارَ الوصلِ من دَوحةِ المُنَى

لياليَ لا وَاشٍ ولا كاشحٌ يسعَى

فللهِ أيامٌ تقضَّتْ ولم تَعُدْ

يَحِقُّ لعَيْنِي أن تَسِحَّ لها دَمْعَا

فراجعه بقوله:

بنفسِيَ مَن قد حاز لَوْنَ الدُّجَى فَرْعَا

ولم يكفْهِ حتى تقمَّصه دِرْعَا

بَدَا فكأن البدرَ في جُنْحِ ليلهِ

تعلّم منه كيف يصْدعُه صَدْعَا

نمَتْه لنا عَشْرُ المُحرَّم جَهْرةً

يُطارِحُ أتْراباً تكنَّفنه سَبْعَا

تبدَّى على رُزْءِ الحسينِ مُسوَّداً

وما زال يُولي في الهوى كَرْب لا مَنْعا

وقد سَلَّ من جَفْنيْه عَضْباً مُهنَّداً

كأنَّ له في كلِّ جارِحةٍ وَقْعا

هناك رأيتُ الموتَ تَنْدَى صِفاحُه

وناعِي الأسَى يَنْعَى وأهلُ الهوى صَرْعَى

وكتب إليه ابن معصوم في لا بس أسود مستجيزاً في عشر المحرم:

لا تقُلِ البدرُ لاح في الغَسَقِ

هذا سوادُ القلوبِ والْحَدَقِ

إنسانُ عيني بدَا بأسْودِها

فعاد لي إذْ رَمَقْتُه رَمَقِي

يا لابِساً للسَّوادِ طِيبَ شَذاً

ما المسكُ إلاّ من نَشْرِك العَبِقِ

لبِسْتَ لَوْنَ الدُّجَى فسَرَّ وقد

أغَرْتَ ضوءَ الصباحِ في الأُفُقِ

حتى بدا وهْو فيه مُنْفَلِقٌ

يشُقُّ ثوبَ الظلامِ عن حَنَقِ

فأجازه بقوله:

رُوحِي فِدَا مَن أعاد لي رَمَقِي

لَمَّا بَدَا كالهلالِ في الشَّفَقِ

يهْتزُّ كالغُصْنِ في غَلائلهِ

ويرشُق القلبَ منه بالرَّشَقِ

قلتُ له مُذْ بدَا يُعاتبنِي

ويمزُج الهَزْلَ منه بالحَنَقِ

لو أنْصَفَ الدهرُ يا شِفَا سَقَمِي

ما بِتُّ أرْعَى النجومَ من أَرَقِ

لكن عسَى عَطْفةٌ تُسَرُّ بها

فيها سرورُ القلبِ والْحَدَقِ

ومن شعره في النسيب قوله:

للهِ دَرُّ ظِباءِ الهنْدِ كم ترَكتْ

من ماجدٍ دَنِف الأحْشاءِ مُضْطَرِمِ

ص: 45

نَواعِسٌ كلَّما فَوَّقْنَ أسْهُمَها

تركْن أُسْدَ الشَّرَى لَحْماً على وَضَمِ

وقوله:

قلتُ لمَّا بدَا يميسُ بقَدٍ

جَلَّ مَن صاغ حُسْنَه وتَبارَكْ

عَمِّرِ الوقتَ بالرَّجا أو بوَصْلٍ

عَمَّر اللهُ يا حبيبي دِيارَكْ

وقوله:

لقد صار لي مَدْمعٌ بعدَكمْ

يفيضُ على وجَنتِي كالعَقِيقْ

لِتَذْكارِ أيَّامِنا بالحِمَى

وتلك الليالِي بوادِي العَقِيقْ

أحمد بن الفضل باكثير الفضل والده، وبه تم له طارف المجد وتالده.

فمقداره في النباهة جليل، ومثل باكثير في الناس قليل.

جيد النثر والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام.

وله قريحةٌ سيالة، وطبيعة في الأفنان ميالة.

وشعره بعيدٌ عن الكلف، نقيٌّ من النمش والكلف.

فمنه قوله مصدراً ومعجزاً قصيدة المتنبي، يمدح بها السيد علي بن بركات الشريف الحسني:

حُشاشةُ نفسٍ وَدَّعتْ يوم وَدَّعُوا

وقلبٌ لأظْعانِ الأحِبَّةِ يَتْبَعُ

وصبرٌ نَوَى التَّرْحالَ يومَ رحيلِهم

فلم أدْرِ أي الظاعِنَيْنِ أُشَيِّعُ

أشارُوا بتسليمٍ فجُدْنا بأنْفُسٍ

تسيلُ مع الأنْفاسِ لَمَّا ترَفَّعُوا

وسارُوا فظلَّتْ في الخدودِ عيونُنا

تسيِلُ من الآماقِ والإسمُ أدْمُعُ

حَشايَ على جمرٍ ذَكِيٍ من الهوى

وصَدْرِيَ مُذْ بَانُوا عن الصبرِ بَلْقَعُ

وقلبي لَدَى التَّوْديعِ في حَزْنِ حُزْنِه

وعَيْنَاي في روضٍ من الحُسْنِ تَرْتَعُ

ولو حُمِّلتْ صُمُّ الجبالِ الذي بنا

من الوجدِ والتَّبْريح كانت تضَعْضَعُ

وأكْبادُنا من لَوْعةِ البَيْنِ والنَّوَى

غَداةَ افْترقْنا أوْشكَتْ تتصدعُ

بما بيْن جَنْبَيَّ التي خاضَ طَيْفُها

دُموعِي فَوافَى بالتَّواصُلِ يطمعُ

تخَيَّل لي في غَفْوةٍ وجَّهتْ بها

إليَّ الدَّياجِي والخَلِيُّون هُجَّعُ

أتتْ زائراً ما خامرَ الطِّيبُ ثَوْبَها

وخَمْرتُها من مِسْكِ دَارِينَ أضْوَعُ

فقبَّلتُ إعْظاماً لها فضلَ ذَيْلِها

وكالمِسْكِ من أرْدانِها يتضَوَّعُ

فشَرَّد إعْظامي لها ما أتَى بها

وفارقْتُ نَوْمِي والحشَا يتقطَّعُ

وبِتُّ على جمرِ الغَضا لفِراقِها

من النومِ والْتاعَ الفؤادُ المُفجَّعُ

فيا ليلةً ما كان أطولَ بِتُّها

سميرَ السُّها حِلْفَ الجوَى أتضرَّعُ

يُجرِّعني كأسَ الأسى فَقْدُ طَيْفِها

وسَمُّ الأفاعِي عَذْبُ ما أتجرَّعُ

تذلَّلْ لها واخْضَعْ على القُرْبِ والنَّوَى

لعلّك تحْظَى بالذي فيه تطمعُ

ولا تأْنَفَنْ من هَضْمِ نفسِك في الهوى

فما عاشقٌ من لا يذِلُّ ويخْضَعُ

ولا ثَوْبُ مَجْدٍ غيرَ ثوبِ ابنِ أحمدٍ

عليّ الذي أضْحَى له الفخْرُ أجْمَعُ

عليه ضَفَا بالمَكْرُماتِ ولم يكُنْ

على أحَدٍ إلاّ بلُؤْمٍ مُرَقَّعُ

وإن الذي حَابَى جَدِيلةَ طَيِّءٍ

بحاتمِهم وهْو الجوادُ المُمنَّعُ

حَبَى بعَليٍ آلَ طه فإنّه

به اللهُ يُعْطِي مَن يشاءُ ويمنعُ

بذِي كَرَمٍ ما مَرَّ يومٌ وشمسُه

بغيرِ سَناً منه تُضِيءُ وتَسْطَعُ

ولا ليلةٌ تزْهُو به ونجومُها

على رأسِ أوْفَى ذِمَّةٍ منه تطْلُعُ

فأرْحامُ شِعْرٍ يتَّصِلْنَ لَدُنَّه

فكم سِعْر شِعْرٍ في مَعاليِه يُرْفَعُ

ومنها في الختام:

ألا كُلُّ سَمْحٍ غيرَك اليومَ باطِلٌ

لأنك فَرْدٌ للكمالاتِ تجْمَعُ

ص: 46

وكلُّ ثناءٍ فيك حَقٌّ وإن عَلَا

وكلُّ مَديحٍ في سِواك مُضَيَّعُ

واتفق له أنه سمع وهو محتضر رجلاً ينادي على فاكهة: ودعوا من دنا رحيله فقال بديها:

يا صاحِ دَاعِي المَنونِ وَافَى

وحَلَّ في حَيِّنا نُزولُهْ

وها أنا قد رَحلْتُ عنكم

فودعوا مَن دَنَا رَحِيلُهْ

محمد بن سعيد باقشير وحيد نسجه رويةً وإسراعاً، ونسيج وحده ابتكاراً واختراعا.

بهر بمحاسنه التمائم، قبل أن توضع على رأسه العمائم.

فانجلت به النواظر وقرت، وابتسمت به ثغور الأماني وافترت.

وقد سلك في الشعر مسلكاً سهلاً، فقالت له غرائبه مرحباً وأهلاً.

فلبس الشعر حلية الحلاوة، ووشاه برونق الرقة وطل الطلاوة.

وقد أوردت له ما يطلع بدره في تمه، ويرقص زهره في كمه.

فمنه قوله، من قصيدة في الغزل:

ألآلٍ ما أرى أم حَبَبُ

أم أقاحٍ لا ولكن شَنَبُ

حُرِّمتْ وهْي حَلالٌ قد جرَى

في خلالِ الطّلْع منها الضَّرَبُ

ما ورَى بارِقُ ذَيَّاك اللَّمَى

أن لي قلباً بها يلْتهبُ

دَعْ لما قد نقَل الرَّاوي لنا

عن لَماه ما رَوتْه الكُتبُ

آهِ ما أعْذبه من مَبْسَمٍ

وهْو لو جاد به لي أعْذَبُ

ليت لو أنَّ مَنالاً منه لي

غير أن البرقَ منه خُلَّبُ

جُؤْذُرٌ يَرْنُو بعيْنَيْ أغْيَدٍ

مِن مَهَا الرملِ أغَنُّ أخْلَبُ

ومُحَيّاً كَلِف الحُسْنُ به

فغَدا يُنْشِد أين المَذْهَبُ

هَزَّ عِطْفيْه فلم يَدْرِ النَّقا

أقناةٌ هزَّه أم قُضُبُ

رَقَّ فاسْتعْبد أرْبابَ الهوى

فله في كلِّ قلبٍ مَلْعَبُ

يا لها من نِعْمةٍ في ضِمْنِها

مَهْلَكٌ هان وعَزَّ المَطْلبُ

وقوله، من قصيدة يمدح بها السيد أحمد بن مسعود، أولها:

عَلِقاً أظُنُّك بالكَعابِ الرُّودِ

أمْ والِهاً بهوَى الظِّباءِ الغِيدِ

أسْبَلْنَ أمْثلةَ الغُدافِ غَدائراً

سُوداً تطولُ على الليالِي السُّودِ

وسفَرْنَ عَمَّا لو لَطَمْنَ بمثلهِ

خَدَّ الظلامِ لَما بدا بالبِيدِ

بِيضٌ يُرنِّحهُنَّ رَيْعانُ الصِّبا

تِيهاً كخُوطِ الْبانةِ الأُمْلودِ

عذَر العَذُول على الهوى فيها وقد

عَنَّتْ لنا بين اللِّوى وزَرُودِ

فطفِقْتُ أُنْشِده على تأْنِيبِه

أرأيتَ أيَّ سَوالفٍ وخُدودِ

تَرِبتْ يدُ اللُّوَّامِ كم ألْظَتْ حَشاً

دَنِفٍ بأُلْهوبٍ من النَّفْنيدِ

أو مَا دَرَوْا أن الجمالَ حَبائلٌ

ما إن يُصاد بهِنَّ غيرُ الصِّيدِ

ولرُبَّ مُخْطَفةِ الحَشَا بَهْنانةِ الْ

مْتنَيْنِ مُفْعَمةِ الإزارِ خَرُودِ

ترْنُو فتحسب أُمَّ خِشْفٍ ثارَها ال

مِقْناصُ عن خَضْلِ الكَلَا مَخْضُودِ

للهِ أحْداقُ الحسانِ وفعْلُها

في قلبِ كلِّ مُتَيَّمٍ مَعْمودِ

ألْحَفْنَنِي البُرَحاءَ لكنِّي امْرُؤٌ

وَزَرِي برُكْنٍ في الملوكِ شَديدِ

وكتب إليه، يصف أمةً له سوداء مداعباً:

أبَتْ صُروفُ القضا المَحْتومِ والقدرِ

إلاّ إشابةَ صَفْوِ العيْشِ بالكَدَرِ

وإنَّ مِن نَكَدِ الأيامِ أن قُربتْ

دارُ الحبيب ولكن شَطَّ عن نَظَرِي

بِي من سَطَا البَيْن ما لو بالجبالِ غدتْ

عِهْناً وبالسبعةِ الأفْلاكِ لم تَدُرِ

نَوى الأحِبَّة والشوق الشديد ولى

جَوىً تُجدِّدُه مهما انْقضَى فِكَرِي

وزادني الدهرُ همّاً لا يُعادِلُه

هَمٌّ بسمراءَ ألْهتْني عن السَّمرِ

ص: 47

زَنْجِيةٌ من بنات الزَّنجِ تحسبُها

حَظِّي تجسَّم جُثْمانا من البشرِ

كأن قامَتها ليلِي ومِنْخَرَها

ذيلي فيالَك من طول ومن قِصَرِ

لها يدٌ ألِفَتْ خَطْفَ الكسارِ ولو

باتتْ تُحوَّطُ بالهِنْديّةِ البُتُرِ

تسْطو على القُرْصِ سَطوَى غيرِ ذي جُبُنٍ

لو أنه بيْن نابِ الليثِ والظُّفُرِ

كم غادرتْنِيَ من جوعٍ ومن سَغَبٍ

حُزْناً أعَضُّ بَنانَ النادِم الحَصِرِ

ورُبَّ يومٍ غدا مَوْتي يُجرِّعني

كاساتِه فيه حتى عِيلَ مُصْطَبَرِي

أرُوضُها تارةً عَتْباً وأزْجرُها

طَوْراً فلم يُجْدِ تأْنيبِي ومُزْدَجَرِي

وربما أفْحمتْنِي القولَ قائلةً

وليس كلُّ مَقالٍ بالجوابِ حَرِي

تخْشَى الرَّدَى وبُنودُ المجدِ خافِقةٌ

على ابنِ مسعود فَرْعِ الفرعِ من مُضَرِ

وله من قصيدة:

بِذِي العَلمْين من شَرْقيّ حَاجِرْ

تَوَقَّ أخا الغرامِ ظُبَا المَحاجرْ

فكم برُبَه من صَبٍ عَمِيدٍ لسائلِ دمعِه الثَّجَّاجِ ناهِرْ

به السُّودُ التي في السُّودِ منها

فِعالُ السُّمْرِ والبيضِ البَواتِرْ

فأيُّ حَشاً يمُرُّ به خَلِيّاً

وقد رمَقتْه هاتِيك الجَآذِرْ

به البِيضُ الرَّعابِيبُ السَّوافِرْ

وآسادٌ بفَدْفَدِه قَساوِرْ

لَعَمْرُك ما سيوفُ الهندِ يوماً

بأمْضَى من بواترِها الفَواتِرْ

عيونٌ ما مضنَحْنَ السُّقْمَ إلَاّ

لقَدِّ القلبِ أو شَقِّ المَرَائرْ

مَرِضْنَ وما مَرضْنَ سُدىً ولكنْ

لسَلْبِ قلوبِ أربْابِ البَصائرْ

بأُمِّي ثم بِي وأبِي رَبِيبٌ

غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ النَّواظِرْ

نَحِيلُ الخَصْرِ عَبْلُ الرِّدْفِ أحْوَى

أزَجُّ الحاجبيْن أغَرُّ نافِرْ

يميِلُ بمِثْلِ غُصْنِ الْبانِ لَدْنٍ

تُرنِّحه الصَّبا والغُصنُ ثامِرْ

ويُسْفِرُ عن مُحَيّاً لو رآه

صَباحاً ذو الهدايةِ ضَلَّ حائرْ

ويبْسَم عن شَهِيِّ الظَّلْمِ عَذْبٍ

تَرقْرَق فيه سَلْسَالُ الجواهِرْ

جَفَا جَفْنِي الكرَى مُذ بان عَنِّي

فجَفْنِي مُذْ نأَى سَاهٍ وساهِرْ

وقال على مصطلح أرباب الحال، وهي قصيدة غريبة:

ربَّما عاكفٍ على الخَنْدَرِيسِ

رَافلٍ في مَلابس التَّلْبيسِ

جَهْبَذٌ يملأُ الدفاترَ عِلْماً

لم يُنَلْ باتَّقْريرِ والتَّدْريسِ

أيُّما خُطَّةٍ أردْتَ تجِدْه

قَهْرماَ المَعقولِ والمَحْسوسِ

يعلَم السابقين من عَهْدِ طَسْمٍ

ويُفِيدُ الطلَاّبَ عصرَ جَديسِ

علَمٌ لم يكن على رأسِه نَا

رٌ ولكنْ كالنورِ في الحَنْدُوسِ

ماشياً عُمْرَه على نَهْجِ الصِّدْ

قِ على ما به من التَّدْلِيسِ

دُغَةٌ مَرَّةً وآونةً قُسٌّ

وطَوْراً يُمْلِيك عن إبليسِ

وعليمٌ بطِبِّ عِلَّةِ بقْرا

ط ويهْزُو بجِدِّ جَالِينُوسِ

ارْمِه حيثُ شئتَ تلْقَ أخَا النَّجْ

دةِ من آدمٍ ومن إدريسِ

لِعب الحبُّ منه بالجبَلِ الرَّا

سِي وبالضَّيْغمِ الهَمُوسِ العَبُوسِ

مِن هوَى رَبَّةِ الحِجالِ ومَن قد

لعبتْ مِن دَلالِها بالنفوسِ

والتي خيَّمتْ على كلِّ قلبٍ

ورمَتْ كلَّ مُهْجةٍ برَسِيسِ

وأبَتْ أن تُرَى بعيْنِ مُحِبٍ

قَطُّ إلاّ في صورةٍ ولَبُوسِ

لاح مِن نُورِها الأغَرِّ سَناءٌ

فَتراءَى في نارِه للمَجُوسِ

ص: 48

قد بدَتْ للكليمِ ناراً ولكنْ

لا بحَصْرٍ فغاب بالتَّقْديسِ

وغَدا المَانَوِيُّ منها على رَأْ

يٍ صحيحٍ لكن بلا تأسِيسِ

والنَّصارَى ظلَّتّ على صُوَرٍ شَتَّى

فضلَّتْ برأْيها المعكوسِ

قيَّدُوا مُطلَق الجمالِ فباتُوا

في قيودِ الشَّمَّاسِ والقِسِّيسِ

كيف مَن قيَّدتْ تُقيَّد والإطْ

لاقُ قيْدٌ والقَيْدُ غيرُ مَقِيسِ

شَأْنُها في حِبِّها فَتُّها الأكْ

بادَ من رائسٍ ومن مَرْءُوسِ

رُبَّ قلبٍ قد تَاهَ فيها فلم يَدْ

رِ حَسِيساص ولم يَمِلْ لِلْمَسِيسِ

ظَلَّ فيها في جَحْفلٍ من سرورٍ

وخَميسٍ يلْقَى الأسَى بخَمِيسِ

كلَّما أسْفَرتْ له عن نِقابٍ

وفَنِى في فِنائه المَأْنُوسِ

أشْرقتْ مِن وراءِ ذاك لعَيْنَيْ

هـ بِمَغْنَى حُسْنِ الجمالِ النَّفِيسِ

فطوَى كَشْحَه على غُصَصِ الوَجْ

دِ تُقىً بين طامعٍ ويَؤُوسِ

ذكرت بمطلع هذه القصيدة، ما حكاه البهاء الحارثي في كشكوله، وهو أن تاجراً من تجار نيسابور، أودع جاريته عند الشيخ أبي عثمان الحيري، فوقع نظر الشيخ عليها، فعشقها، وشغف بها، فكتب إلى شيخه أبي حفص الحداد بالحال، فأجابه بالأمر بالسفر إلى الري؛ لصحبة الشيخ يوسف.

فلما وصل إلى الري، وسأل الناس عن منزل الشيخ يوسف، أكثروا من ملامته وقالوا: كيف يسأل تقيٌّ مثلك عن بيت فاسق؟ فرجع إلى نيسابور، وقص على شيخه القصة، فأمره بالعود إلى الري، وملاقاة الشيخ يوسف المذكور.

فسافر مرةً ثانية إلى الري، وسأل عن منزل الشيخ يوسف، ولم يبال بذم الناس له وازدرائهم به.

فقيل له: إنه في محلة الخمارة.

فأتى إليه، وسلم عليه، فرد عليه السلام، وعظمه.

ورأى إلى جانبه صبياً بارع الجمال، وإلى جانبه الآخر زجاجةً مملوءةً من شيءٍ كأنه الخمر بعينه.

فقال له الشيخ أبو عثمان: ما هذا المنزل في هذه المحلة؟ فقال: إن ظالماً شرى بيوت أصحابي، وصيرها خمارة، ولم يحتج إلى بيتي.

فقال: ما هذا الغلام، وما هذه الخمر؟ فقال: أما الغلام فولدي من صلبي، وأما الزجاجة فخل.

فقال: ولم توقع نفسك في محل التهمة بين الناس؟ فقال: لئلا يعتقدوا أني ثقةٌ، فيستودعوني جواريهم، فأبتلى بحبهن.

فبكى أبو عثمان بكاءً شديداً، وعلم قصد شيخه.

انتهى.

وبهذه الحاية يظهر مغزى صدر هذه القصيدة، ويحصل الجمع بين ما في ظاهرها من المدح والقدح.

والله أعلم.

رجع.

ومن شعر باقشير، وهو مختار من قصيدة له:

أتعْذِلُ في لَمْياءَ والعُذْرث ألْيَقُ

تعشَّقْتُها جهلاً وذو اللُّبِّ يعشَقُ

ولا عيشَ إلاّ ما الصَّبابةُ شَطْرُه

وصوتُ المَثانِي والسُّلافُ المُعتَّقُ

وجَوْبُك أجْوازَ المَوامِي مُشمِّراً

إلى المجدِ يطْوِيها عُذَافِرُ مُعْنِقُ

وأن تَتهاداك النَّعائمُ مُعْلَماً

تُضِلُّك أو تَهْدِيك بَيْداءُ سَمْلَقُ

وأن تَرِدَ الماءَ الذي شَطْرُه دَمٌ

فتسعَى برأيِ ابنِ الحُسَين وتُرْزَقُ

وأسْوَغ ما بَلَّ اللَّهَى بَعْدَ عَيْمةٍ

وأرْوَى من الماءِ الشَّرابُ المُرَوَّقُ

فدَعْ لَجَجَ التَّعْنيفِ وابْكِ بذِي اللِّوَى

دياراً كأنْها للتَّقادُمِ مُهْرَقُ

أحالتْ مَغانِيها السِّنون فأصْبحتْ

قِوَى لهَرِيق الوَدْقِ والرِّيح مَخْرَقِ

وقفتُ بها والقلبُ بالوَجْدِ مُوثَقٌ

كُفِيتَ الرَّدَى والجَفْنُ بالدمعِ مُطْلَقُ

أُناشدُها بَيْنُونةَ الحيِّ عن جَوىً

لقلبٍ إذا هَبَّ النَّسائمُ يخْفِقُ

شَجٍ تتَصاباهُ الصَّبا وتلُوعُه ال

جَنُوبُ ويشْجُوه الحَمامُ المُطَوَّقُ

إلى اللهِ أفعالَ الليالِي بها وبِي

لقد كنتُ منها دائمَ الدهرِ أفْرَقُ

ص: 49

فسِمْ سِمَةَ الصبرِ الجميلِ لعلَّها

تُدِيلُ فإنْ لم تُغْنِ فالصبرُ أخْلَقُ

فلو سلِمتْ من حادثِ الدهرِ دِمْنَةٌ

تمَطَّى على هامِ الدهورِ الخَوَرْنَقُ

ومن محاسنه، قوله في زيات بديع الجمال، وقد أجاد في التورية:

أفْدِيه زَيَّاتاً رَنَا وانْثنَى

كالبدرِ كالشَّادِنِ كالسَّمْهَرِي

أحسن ما تُبْصِرُ بدرَ الدجَى

يلعبُ بالمِيزانِ والمُشْترِي

وقوله:

كيف التخلُّصُ من حُبِّ المِلاحِ وقد

تبادرَتْ لِقتالِي أعْيُنٌ سَحَرَهْ

تغْزُو لَواحِظُها في العاشقِين كما

تغْزُوا جيوشُ بني عثمانَ في الكَفَرَهْ

أحمد بن محمد علي الجوهري جوهرٌ استخرجته أفكار الليالي من بحورها، والتقطته أبكار المعالي لنحورها.

له ذاتٌ تخلصت من الكبر، وخلصت من الخيلاء خلوص التبر.

وأما أشعاره فكلها قطعٌ من خالص الجمان، قلد بها صدور الأيام وشنف آذان الزمان.

فإذا حدثت عن آثار قلمه، فارو الصحاح عن جوهري كلمه.

وقد جئتك من كلماته بأنفس نفيس، فلا تذكر الدر بعدها إن كنت ممن يقيس.

فمن ذلك قوله:

ما شِمْتُ بَرْقاً سَرَى في جُنْحِ مُعْتكِرِ

إلَاّ تذكَّرتُ بَرْقَ المَبْسَمِ العَطِرِ

ولا صَبَوْتُ إلى خِلٍ أُسامِرُه

إلاّ بكَيتُ زمانَ اللهوِ والسَّمَرِ

شَلَّتْ يدٌ للنَّوَى ما كان ضائرَها

لو غادرتْنا نُقضِّي العيْشَ بالوَطَرِ

في خِلْسةٍ من ليالي الوصلِ مُسْرِعةٍ

كأنما هي بيْن الوَهْنِ والسَّحَرِ

لا نَرْقُبُ النجمَ من فَقْد النَّدِيمِ ولا

نسْتعجلُ الخطْوَ من خوفٍ ومن حَذَرِ

وأهْيَفَ القَدِّ ساقِينا برَاحتِه

كأنه صنمٌ في هيكلِ البشَرِ

مُنَعَّمين وشَمْلُ الأُنْسِ منتظِمٌ

يربُو على نَظْمِ عِقْدٍ فاخرِ الدُّرَرِ

فما انْتهيْنا لأمرٍ قد ألَمَّ بنا

إلَاّ وبُدِّل ذاك الصَّفْوُ بالكَدَرِ

لا دَرَّ دَرُّ زمانٍ راح مُخْتلِساً

من بيْننا قَمَراً ناهِيك من قَمَرِ

غزالُ إنْسٍ تحلّى في حُلَى بشَرٍ

وبدرُ حُسْنٍ تجلّى في دُجَى شَعَرِ

وغُصْنُ بانٍ تثَنَّى في نَقَا كَفَلٍ

لا غصنُ بَانٍ تثنَّى في نَقَا مَدَرِ

كأنَّ لَيْلِي نهارٌ بعد فُرْقتِه

مِمَّا أُقاسِي به من شدَّةِ السَّهَرِ

يا ليت شِعْرِيَ هل حالتْ مَحاسنُه

وهل تغيَّر ما باللَّحْظِ من حَوَرِ

فإن تكنْ في جِنانِ الخُلْدِ مُبْتهِجاً

فاذْكُرْ مُعَنَّى الأمانِي ضائعَ النَّظَرِ

وإن تأنَّسْتَ بالحُورِ الحسانِ فلا

تَنْسَ الليالِي التي سَرَّتْ مع القِصَرِ

وقوله:

كيف أسْلُو مَن مُهْجَتِي في يديْهِ

وفؤادي وإن رحَلتُ لدَيْهِ

إن طلبتُ الشَّفاءَ من شفتيْهِ

جادَ لي بالسّقامِ من جَفْنيْهِ

إنَّ حِلْفَ السُّهادِ عينٌ رأتْهُ

وجنَتْ وَرْدَ جَنَّتَيْ خَدَّيْهِ

كلما رُمْتُ سَلْوةً قال قلبي

لا تلُمْني على العكوفِ عليْهِ

لستُ وحدِي مُتيَّماً في هَواهُ

كلُّ أهلِ الغرامِ تصْبُوا إليْهِ

وله مقاليع، سماها لآلىء الجوهري، منها قوله:

كيف يرجو العِرْفانَ باللهِ مَن قد

قيَّدتْه الذنوبُ طولَ حياتِهْ

لا لَعَمْرِي أم كيف يُشْرِقُ قلبٌ

صُوَرُ الكائناتِ في مِرْآتِهْ

وقوله:

إذا مضتِ الأوقاتُ من غيرِ طاعةٍ

ولم تكُ مَحْزوناً فذا أعظمُ الخَطْبِ

علامةُ مَوْتِ القلب أن لا ترَى به

حَراكاً إلى تَقْوَى ومَيْلاً عن الذنبِ

وقوله:

إن حُزْتَ عِلْماً فاتَّخِذْ حِرْفةً

تصُون ماءَ الوجهِ لا يُبْذَلُ

ص: 50

ولا تُهِنْه أن تُرَى سائلاً

فشأْنُ أهلِ العلم أن يُسْئَلُوا

وقوله:

جانبِ اللهوَ والبَطالةَ واحْذَرْ

مِن هوَى النفسِ إن أردتَ السَّعادَهْ

واعبُد اللهَ ما استطعتَ بصدقٍ

مَطْلبُ العارفين صِدْقُ العبادَهْ

وقوله:

قُلْ للذي يبْتغِي دليلاً

من غير طُولٍ على المُهَيْمِنْ

ما ذَرَّةٌ في الوجودِ إلَاّ

فيها دليلٌ عليه بَيِّنْ

وقوله في الغزل:

ولقد سقتْنا البابِليَّةُ إذْ رأتْ

أنَّا نُحدِّثُها لِنَسْبُرَ حُسْنَهَا

خَمْراً أدارتْها العيونُ فأذْهَبتْ

مِنَّا العقولَ ولم تُفارِقْ دَنَّهَا

وقوله:

لمَّا بدا البدرُ يجْلُو

دُجَى الظلامِ وأسْفَرْ

ذكرتُ وجهَ حبيبي

والشيءُ بالشيءِ يُذْكَرْ

وقوله:

وأسْمَحُ الناسِ كَفّاً

مَن لا يقولُ ويفعلْ

وأعْذَبُ الشِّعْرِ بيتٌ

يرْوِيه عَذْبُ المُقبَّلْ

وقوله:

لا تعذِلونِيَ في وقتِ السَّماع إذا

طرِبتُ وَجْداً فخيرُ الناسِ مَن عَذَرَا

حتى الجمادُ إذا غنَّتْ له طَرَبٌ

أمَا ترى العودَ طَوْراً يقْطعُ الوَتَرَا

وقف بعض أدباء عصره على هذين البيتين، فكتب إليه مقرظاً: وصل البيتان بل القصران فما ألفاظهما إلا الدر النظيم، فلا وحقك لم يفز بمثلهما العصران لا الحديث ولا القديم.

فلله درك، ما أحفل درك، وأبهج في أسلاك المعاني درك.

ولقد خاطبت بمعناهما عند سماعهما من عذل، وطربت لحسن سبكهما طرب من منح عند نشوته سبيك النضار وبذل.

بل طرب لهما حتى الجماد، ومن ذا الذي سمعهما وما ماد.

فالله تعالى يبقيك للأدب كهفاً يرجع إليه، وذخراً يعول عند اشتباه الألفاظ والمعاني عليه.

وقد نظمت البارحة أبياتاً في العود، أحببت أن تلاحظها بملاحظتك لها السعود.

وهي:

وعُودٌ به عُودُ المَسَرَّةِ مُورِقٌ

يُغَنِّي كما غَنَّتْ عليهِ الحمائمُ

إذا حرَّكتْ أوتارَه كَفُّ غادَةٍ

فسِيَّانِ من شوقٍ خَلِيٌّ وهائمُ

يُرَنّحُ مَنْ يُصْغِي إليهِ صبابةً

كما رَنَّحَتْهُ في الرِّياضِ النَّسَائِمُ

فراجعه بقوله: يا مولاي الذي إن عد أرباب المجد عقدت عليه الخناصر، وإن ذكر أصحاب الفضل فلا يدانيه متقدم ولا معاصر.

لو أمدني ابن العميد وأضرابه، والصاحب بن عبادٍ وأصحابه.

ما استطعت تقريظ أبياتك الأبيات إلا منك، الممتنعات إلا عنك.

فأنت فريد دهرك، ولا أقول في هذا الفن، ووحيد عصرك، وليس ذلك عن ظن.

وقد دعتني داعية الأدب، إلى أن أقول إن العود يفوق آلات الطرب.

فمدحته كما مدحته، ووصفته كما وصفته.

وقلت:

فاق كلَّ الآلاتِ في اللحْنِ عُودٌ

حين تَعْلُو أصواتُهَا وتَرِنُّ

فكأن الحَمام دهراً طويلاً

علّمَتْهُ ألْحَانَهَا وهْوَ غُصْنُ

قلت وهذا من قول أبي الفضل أحمد بن يوسف الطيبي:

من أين للعُود هذا الصوتُ تأخذُه

أطْرافُهُ بأطَاريفِ الأناشيدِ

أظُنُّ حينَ نَشَا في الدَّوْحِ علَّمه

سَجْعُ الحمائِمِ تَرْجِيعَ الأغارِيدِ

ومثله قول معاصره الصفي الحلي:

وعُودٍ به عاد السرورُ لأنهُ

حَوى اللهوَ قِدْماً وهْوَ رَيَّانُ ناعمُ

يُغَرِّبُ في تَغْرِيدِه فكأَنَّمَا

يُعيدُ لنا ما ألَّفَتْهُ الحمائمُ

ولبعضهم فيه:

وعُودٍ له نوعانِ من لذَّةِ المُنَى

فبُورِكَ جانٍ يجْتَنيهِ وغارِسُ

تغنّتْ عليه وهْوَ رَطْبٌ حمامةٌ

وغنَّتْ عليه قَيْنَةٌ وهْوَ يابسُ

وأصله قول الوزير المغربي:

وطُنْبُورٍ مَليحِ الشكلِ يحكي

بنَغْمَتِهِ الصَّلِيبةِ عَنْدَلِيبَا

رَوَى لما دَرَى نَغَماً فصيحاً

حَواها في تقلُّبهِ قَضِيبَا

كذا مَنْ عاشَرَ العلماءَ طِفْلاً

يكون إذا نَشَا شَيْخاً أدِيبَا

ص: 51

ومن لآليه المذكورة قوله:

لا تَجْهَلَنْ قَدْراً لنفسِكَ إنّها

عُلْوِيَّةٌ تَرْقَى لما هو شِبْهُهَا

والنفسُ كالمِرْآةِ يَصْقُلُهَا التُّقَى

فَسْراً ويُظْلِمُ بالمعاصي وَجْهُهَا

وقوله:

في المَنْعِ والإعْطَاءِ كُنْ شاكِرَا

واستقْبِلِ الكلَّ بوجهِ الرِّضَا

فالخيرُ للعارفِ فيما جَرى

ورُبَّ مَنْعٍ كان عينَ العَطا

وقوله:

إذا الْتَبَسَ الأمرانِ فالخيرُ في الذي

تَرَاه إذا كلَّفْتَه النفسَ تَثْقُلُ

فجانِبْ هَواها واطَّرِحْ ما تُرِيدُه

من اللهوِ واللَّذَّاتِ إن كنتَ تعْقِلُ

وهذا من قول الأحنف بن قيس: كفى بالرجل رأياً إذا اجتمع عليه أمران، فلم يدر أيهما الصواب، أن ينظر أعجبهما إليه، وأغلبهما عليه؛ فيحذره.

وقريب منه قول أبي الفتح البستي:

وإن همَمْتَ بأمرٍ

ولم تُطِقْ تخْريجَهْ

فقِسْ قياساً صحيحاً

واحكُم بضدِّ النتيجَهْ

ومن الحكم المروية عن أبي العلاء المعري: الخير كل الخير فيما أكرهت النفس الطبيعية عليه، والشر كل الشر فيما أكرهتك النفس الطبيعية عليه.

ومن مقاطيعه في الغزل قوله:

وظَبْيٍ نافرٍ ممَّا أراهُ

يَذِلُّ لحُسْنِه الملِكُ المَهِيبُ

عرفتُ مِزاجَه فانْقادَ طَوْعاً

ومَن عرَف المِزاجَ هو الطبيب

وقوله:

وأهْيَفٍ كالسيفِ ألْحاظُه

وقَدُّه العَسَّالُ كالسَّمْهَرِي

أخْجَلنِي ثَغْرٌ له باسمٌ

فاعْجَب لثَغْرٍ يُخْجِلُ الجَوْهَرِي

وقوله:

قال عَذُولِي إذْ رأَى

أخَا الغزالِ الأعْفَرِ

هذا الذي مَبْسَمُه

فتَّتَ قلب الجَوْهَرِي

وقوله:

جرَح اللَّحْظُ خالَ خَدِّ غُلامٍ

فضَح الْبَان قَدَّه باعْتدالِهْ

فإذا ثار طاعِناً لفؤادِي

قال خُذْها من طالبٍ ثَارَ خَالِهْ

وقوله:

تذكَّرتُ إذْ الحَجيجُ بمكَّةٍ

ونحن وقوفٌ ننْظُر الرَّكْبَ مُحْرِمَا

فصرْتُ بأرضِ الهندِ في كل مَوْسمٍ

يُجدِّد تَذْكارِي لقَلبيَ مأْتَمَاَ

وقوله:

ولو أنَّ أرضَ الهنْدِ في الحُسْنِ جَنَّةٌ

وسُكَّانَها حُورٌ وأمْلِكُها وَحْدِي

لَما قِسْتُها يوماً بَبطْحاءِ مكةٍ

ولا اخترتُ عن سُعْدَى بديلاً هَوى هندِ

وقوله:

وقالوا بالْمَخَا خيرٌ كثيرٌ

فقلتُ صدقتمُ وبها الأمانُ

ولكن حَرُّها يشْوِي البَرايا

ولولا الرِّيقُ لاحْترق اللِّسانُ

وقوله:

شبَّهتُ أمواجَ بحرِ الهندِ حين رسَتْ

به السَّفائنُ من هندٍ ومن صِينِ

بأسْطُرٍ فوق قِرْطاسٍ قد انْتسقَتْ

والسُّفْنُ فيه عَلاماتُ السَّلاطينِ

وقوله:

إذا تكنْ ناقِداً للرجالِ

وصاحبْتَ مَن لا له تعرفُ

فخالِفْه في بعضِ أقوالِه

فإنك عن خُلْقهِ تكشِفُ

أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن عبد الرءوف بن يحيى الواعظ لوذعيٌّ وجه أدبه سافر، وخبر نباهته فيما بين الخافقين مسافر.

له كلف بالفنون وعناية، مع ديانة ارتدى بردائها وصيانة.

فمجده مشنف من عقد الثريا، ولديه من نسج السجية ما يهزأ ببرد الروضة الريا.

وأما أدبه فله رواء الوجوه الحسان، وله شعرٌ أفرغ في قالب الحسن والإحسان.

فمنه قوله من نبوية:

يا صاحبِيَّ حَقِّقا مِيعادِي

وانْطلِقا لأخْصَبِ الوِهادِ

ولاحِظاني في السُّرَى فإنني

نِضْوُ هوىً مُقرَّحُ الأكْبادِ

قد ترك الجَفْنَ مَفازةً فلا

يضْوِي إليه وافدُ الرُّقادِ

وضَلَّ شَرْخُ العمرِ في بياضٍ

اشْرَق من أشِعَّةِ الأفْوادِ

فعرِّجا بمَسْرحِ السُّرْبِ الذي

ليس له مَرْعىً سوى فؤادِي

ص: 52

وخفِّضا عليكما وخَلِّيا

دمعِي السَّفِيحَ رائِحاً وغادِي

يرْمُل في جَرْعائِها بعَسْفِها

لا يعْترِيه وَهَنُ الوِخادِ

ويجعل الحصْبَا عَقِيقاً أحمراً

من النَّجِيعِ الأحمرِ الفِرْصادِ

ويترك القاع له أعِقّةٌ

يكْرَع منها كلُّ صَبٍ صادِي

وزَفْرةٌ قد غُرِست بمُهْجتِي

وطَلْعُها في لِمَّتَيَّ بادِي

تتابعتْ حتى يُخالُ أنني

من فَرَقٍ لِمُنْجِدٍ أُنادِي

أذابت القلبَ سِوى ما أحْرزُوا

ثم ثَوَى في وسَط الفؤادِ

وعاذلٍ يعبثُ بي لَوَ انَّه

يُمازِجُ التْشكيكَ باعْتقادِ

كأنما يرقُم في كوثرٍ ما

أفْرغ في الفؤاد من وِدادِ

لا يقبلُ التَّعْنيفَ في الهوى سِوَى

مَ، يقْتنِي غيرَ هوَى سُعادِ

واحَرَّ قلباه وبَرْدَ المُشتهَى

هيْهات كيف مَجمَعُ الأضْدادِ

ذادُوا السيوفَ عن وُرودِ هائمٍ

زادتْ على الأنْواءِ للُورَّادِ

ما حَنَّ طَرْفٌ جاد إذ قد ضَنَّ نَوْ

ءُ الطَّرْفِ أن يحمْي عن المِبْرادِ

هيهات لم يبرحْ يرُوم نَظْرةً

من حضرةِ الإسعافِ والإسْعادِ

من حضرةِ المختار طه أصْلِ مَب

نَى الكونِ في التَّعيين والإيجادِ

مِن نُورِ ذي العرشِ الرفيعِ كُنْهُه

تواترٌ قد جاء بالآحادِ

في قولِ لولاك إشارةٌ ولا

خَفاءَ للمُريدِ في المُرادِ

يدْرِيه مَن يرى الشُّئونَ جُمِّعتْ

في مُفْردٍ مجتمعِ الإفْرادِ

فآدمُ الآبا وغيرُه له

فرعٌ على معنىً جَلِيِّ الرَّادِ

وذاك معنَى أنه أصلُ الوجو

دِ أوّلٌ في البَسْطِ بالأعدادِ

فاعْجَبْ له خَتْماً نَبِيّاً أوَّلاً

قد جاء بالتحقيقِ في الإسْنادِ

الواضحُ الحقَّ الصَّحيح حَسْبَما

حَرَّره أئمَّةُ الإرشادِ

وبعد أن زان جمالُ وجههِ

وجودَه جاء الكمالُ هادِي

فقام بالتَّوحيدِ داعِياً له

وراقَب المُدْعَوْنَ بالمِرْصادِ

ومَهَّد الشرعَ القديم للورَى

مُبَيَّنَ المِيعادِ والإيعادِ

وشَتَّ شَمْلَ الكفرِ بانْتظامِنا

في سِلْكِه كالعِقْد في الأجْيادِ

فابْتَهَج الكونُ بن نَضارةً

وصدَحتْ في دَوْحِها الشَّوادِي

وخفَقتْ ألْوِيةُ النصرِ على

سكُونِ ريح الكفرِ والأعادِي

وزَمْزَم الرعدُ على مَسْرَى الصَّبا

وشقَّتِ السُّحْبَ ظُبَا الغَوادِي

وأضْحك الرَّوضَ بُكاؤُها على

مَسرَّةِ النِّتَاجِ والإيلادِ

وأحْيتِ الأنْوا مَواتَ الجَدْبِ مِن

مُرْتَبعِ التِّلالِ والوِهادِ

ونُتِجتْ من صُلْبهِ أئمَّةٌ

قادوا إلى الإيمان والرَّشادِ

مِن مَظْهر الزَّهراء ذات الفَخْرِ في

حظائر التَّقديس والإسْعادِ

مِن حَيْدرٍ عليٍ الطُّهْرِ أمي

ر المؤمنين سيِّد الأمجادِ

قد أعْرَضوا عمَّا به الناسُ عُنُوا

وصرَفوا الوجْهَ إلى المَعادِ

تزهَّدوا وذاك مِن صِفاتِهم

ذاتاً وهل يخْفَى شَمِيمُ الجادِي

قد شرفوا على الورَى فحَسْبُهم

نَصُّ الكتابِ عن حَصا التَّعْدادِ

يا سيِّدَ الرُّسْل ويا خِتامَ من

قد خُصِّصوا بوافرِ الأيادِي

يا خيرَ مبعوثٍ على ظهرِ الثَّرَى

بسَيْبه أخْضبتِ الأيادِي

ص: 53

يا مَن هو الأَوْلى بكلِّ مُؤْمنٍ

من نفسهِ من سائرِ العبادِ

أحْنتْ عليَّ حَوبةٌ جَنيْتُها

قد جَرَّعتْني غُصَصَ البِعادِ

وعرَّضتْني هدَفاً لأسْهُمٍ ال

إعراضِ لا أخلُو من العَوادِي

وأخْلَقتْ صَبْرِي وجَدَّ مَطْمَعي

في أَن أُرَى في هذه النوادِي

وضاق ذَرْعي فذَرِيعتي إلى

رِحابِك الفَيْحاء شَوْقٌ حَادِي

فحُلَّ عَقْدِي يا مَلاذِي مثلَما

حَللْتَ عَقْدَ العُسْرِ بالإنْقادِ

وأطْلِق القَيْدَ المُحيطَ عَلَّنِي

في سُوحِكم أنْفَكُّ عن قِيادِي

فأنت كَهْفُ المُلْحِفِين في الوَرى

وغيرِهم من زُمَرِ القُصَّادِ

وأنت بابُ اللهِ كلُّ مَن أتى

مِن غيرهِ يُسامُ بالإبْعادِ

فمن دنَا مِن سُوحِه مُلْتمِساً

بادرَهُ العفوُ إلى المُرادِ

وعَمَّه الفضلُ فقال شاكراً

قد كثُرتْ ذخائرُ الفُؤادِ

صلَّى عليك اللهُ ما تَلأْلأتْ

صِفاتُك البِيضُ على السَّوادِ

محمد بن أحمد المنوفي هو في المقام خليفة الشافعي، وكلامه في العلوم كافي المهم وشافي العي.

وكان آيةً في قوة الحافظة، قائماً في الإفادة بوظيفتي المثابرة والمحافظة.

ودخل الروم فقام الدهر بحقوقه، ولم يشب بره بعقوقه.

فاخضرت بالإدرارات أكنافه، وتجملت أنواع رعيه وأصنافه.

إلا أنه عارضه الأجل في طريقه، وأغصته إذ ساغت له أمانيه بريقه.

فقبضه الله بالشام إليه، فلا زالت رحمة الله منهلة عليه.

قال سبطه ابن معصوم: ولا يحضرني الآن من شعره غير ما رأيته منسوباً إليه بخط سيدي الوالد:

عَتبْتُ على دهرِي بأفعالِه التي

أضاقَ بها صدرِي وأضْنَى بها جِسْمِي

فقال ألم تعلمْ بأن حَوادثِي

إذا أشْكلتْ رُدَّتْ لمن كان ذا عِلْمِ

وهذان بيتان لا يشيد مثهلما إلا من شاد ربوع الأدب، وسارع لاقتناص شوارد القريض وانتدب.

وهما نموذج براعته وبلاغته، واقتداره على سبك إبريز الكلام وصياغته.

وقد صدرتهما وعجزتهما، فقلت:

عَتبْتُ على دهرِي بأفعالِه التي

بَراني بها بَرْيَ السِّهامِ من الهَمِّ

ليصْرِف عني فَادحاتِ نوائبٍ

أضاق بها صدْرِي وأضْنَى بها جسْمِي

فقال ألم تعلمْ بأن حَوادثِي

وأخْطارَها اللاتي تُلِمُّ بذِي الفَهْمِ

يضِيقُ بها ذُو الجهلِ ذَرْعاً وإنما

إذا أشْكلتْ رُدَّتْ لمن كان ذا عِلْمِ

ولده عبد الجواد فاضل البيت بعد أبيه النبيه، وأشبه من تصدر في مركز العزة فقيد المثيل والشبيه.

اشتملت عليه دولة آل الحسن، اشتمال الفم على اللسان، والمقلة على الإنسان.

وقامت فضائله في رياض محامدها تلو آية البيان، بما تردد بين السمع والعيان.

وهو أديبٌ عرف بكمال الفطنة من حين المهاد، وله خلالٌ كلها روضٌ قريب العهد من صوب العهاد:

فتىً صَفَتْ من القَذَى مَواردُهْ

وانْتثرتْ في رَوضِه فَرائدُهْ

مَبْذُولةٌ لوفدِه فوائدُهْ

شاهدةٌ بفضلهِ مَشاهِدُهْ

منظومةٌ من شُكْرِه قلائدُهْ

يحمِدُهُ وَلِيُّه وحاسدُهْ

وله شعر حسن الأسلوب، يرف على مائة ريحان القلوب.

فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الأمير محمد بن فروخ أمير الركب الشامي.

مستهلها:

لأيِّ كَمالٍ من كمالِك أذْكُرُ

وأيِّ جميلٍ من جميلِك أشْكُرُ

ألِلسَّابقِ الآتِي به أنت لاحقاً

أم اللاحقِ التَّالي له يتكرَّرُ

تحيَّرتُ في هذا الكمالِ ولم أزَلْ

أنا والنُّهَى في ذا البَها نتحيَّرُ

جَمعتَ كمالاً في سِواك مُفرَّقٌ

وأنت به فَرْدٌ وجمعُك أكثرُ

ص: 54

رفعتَ لِواءَ الدِّين حتى خَفْقتَها

من الدُّونِ يوم النصرِ بالفتْحِ يظْهَرُ

ألسْتَ الذي يوم ابنِ مَعْنٍ ونجْلِه

تأزَّرْتَ مجداً عنه غيرُك يُزْجَرُ

وصَوَّمْتَه فيه عن الفِطْرِ بالقَنَا

وقلبُ السِّوَى منها بها يتفَطَّرُ

ويمَمْتَ إذ يمَّمتَ للنصرِ مُسْرِعاً

وجوهاً تَراها في الوَطِيسِ تَعفَّرُ

وصَلَّيْتَهم من ذلك اليومِ مَشْهداً

تأمَّمْتَ صَفّاً فيه أنت المُكبِّرُ

وأوْردتَ منهم مَعْشراً مَشرعَ الوَغَى

وأصْدرْتَهم والسيفُ بالدَّمِ يقْطُرُ

فما السُّمْرُ إلاّ في الوَغَى كغُصونِه

بهَامِ العِدَى سُمْراً من البِيض تُثْمِرُ

ولا عجَبٌ هذا فآيُ محمدٍ

تَدِينُ لها أهلُ الدُّنا حين تُذْكَرُ

هو البطلُ الحامِي الذِّمارَ ومَن به

تُهَدُّ حصونُ المارِقين وتُهْدَرُ

فيا أيُّها الشَّهْمُ الهِزَبْرُ الذي إذا

دَعاهُ امْرُؤٌ أغْناه إذْ هو مُفْقَرُ

إليَّ فمالي غيرَ سُوحِك مُنْجِدٌ

أمَسُّ بوجْهِي بابَه وأُعفِّرُ

وقد ضاقتِ الدنيا عليَّ بأسْرِها

وضِقْتُ بها ذَرْعاً وقَفْرِيَ مُقْفِرُ

وأنت لنا غَيْثٌ إذا شَحَّ مَاطِرٌ

وماسَحَّ يَرْوِي المُمْطَرين ويُمْطِرُ

وأنت الذي قد عَمَّ وَاكِفُ كَفِّهِ

بوَزْنِ نُضارٍ لا بمُزْنٍ يُدَرَّرُ

وسائله نيلاً وسائله ترى

مَقاصد عمَّن رامَها ليس تقصُرُ

إليَّ وفرِّج ما انْطوَى في جَوانِحِي

من الهمِّ حتى بعدُ لا أتأمَّرُ

فكم لك في يومِ الوغَى من مَعارجٍ

ومن فُرَجٍ فَرَّجْتها حين تَنْضُرُ

وكم لك في الحُجَّاجِ آيٌ جميلةٌ

يُقصِّر عنها في مُنَى الطَّوْلِ قَيْصَرُ

وكم لك في ساداتِ مكةَ من يَدٍ

ومن حسَناتٍ فضلُها ليس يُحْصَرُ

وماذا عسى أُحْصِي صفاتِك والورَى

بأجْمعِهم عن وَصْفِ فضلِك تقصُرُ

ومن شعره قوله:

أتزعُم أنك الخِدْنُ المُفدَّى

وأنت مُصادِقٌ أعْدايَ حَقَّا

إليَّ إليَّ فاجْعلنِي صديقاً

وصادِقْ مَن أصادقُه مُحِقَّا

وجانِبْ مَن أُعادِيه إذا ما

أردتَ تكونُ لي خِدْناً وتَبْقَى

وهو ينظر إلى قول الآخر:

إذا صافَى صديقُك مَن تُعادِي

فقد عاداك وانْفصلَ الكلامُ

وله رسالة في شرح البيتين المشهورين:

مِن قِصَرِ الليلِ إذا زُرْتِنِي

أشْكُو وتشْكِين من الطُّولِ

عَدُوُّ عينيْك وشانِيهما

أصْبَحَ مَشْغولاً بمشْغولِ

أحمد نظام الدين ابن الأمير محمد بن نصير الدين بن إبراهيم بن معصوم هذا النظام، به تم نظام النثار والنظام.

فهو في حوزة المعالي ذو قدرٍ معظم، وفي صنعة النظم صاحب درٍ منظم.

طلاع أنجدةٍ للمجد بواري زنده، مصقول شبا الفكر كالسيف مع فرنده.

تبلغ بالفضل غاية الاشتهار، وبدا كما تبدو الشمس للمبصر في وسط النهار.

حتى عشقت أوصافه الأسماع، وتوفرت للتملي من مشاهدته الأطماع.

فاستدعاه الملك شاهنشاه صاحب حيدر أباد، فدخل إليه الديرة الهندية، متهيئاً لأن يتفيأ كما يستحقه ظلال دولته الندية الندية.

فلما رآه الملك اعتد به واغتبط، وأكرم نزله بمواهبه فارتبط.

ثم أملكه بنته، ورعى غرسه ونبته.

فكثر رياشه، وحسن معاشه، وتولته العناية فعظم انتعاشه.

فأقام وسوق الفضل به نافق، وحظ الكرام بملاحظته لهم موافق.

إليه مطايا الأمل تزجى، ومن يده سحب المكارم ترجى.

حتى ولعت بالملك يد الهلك، واستولى الميرزا أبو الحسن بعده على الملك.

عند ذلك صدمه الزمن المتقلب، وانقلب عليه الدهر المتغلب.

فقفبض عليه أبو الحسن وسجنه، وخلاه رهن قيده وشجنه.

ص: 55

ثم قبضه الله إليه، فانقبضت القلوب حزناً عليه.

فتباً لدهرٍ لم يف بضمانه، ولم يصدق بأمانه.

فيسترجع معاره، ويشن مغاره.

وهكذا الدنيا دول، وما يغني الحول فيها ولا الخول.

وقد وقفت له على أشعار نقشها فكره وزخرفها، وحبر وشيها في بلاد الهند وفوفها.

فأثبت منها ما يعظم وقعه عند الاختبار ولا يقع عليه النظر إلا وقع عليه الاختيار.

فمن ذلك قوله من قصيدة:

مُثِيرُ غرامِ المُسْتهامِ ووَجْدِهِ

وَمِيضٌ سرَى من غَوْرِ سَلْع ونَجْدِهِ

وبات بأعْلَى الرَّقْمتيْن الْتهابُه

فظلَّ كئيباً من تذكُّرِ عَهْدِهِ

يحِنُّ إلى نحو اللِّوَى وطُوَيْلعٍ

وبَاناتِ نَجْدٍ والحِجازِ ورَنْدِهِ

وضَالٍ بذات الضَّالِ مُرْخٍ غُصونَه

تفيَّأه ظَبْيٌ يَميِيسُ ببُرْدِهِ

يَغار إذا ما قِسْتُ بالبدرِ وَجْهَه

ويغضَب إن شبَّهتُ وَرْداً بخدِّهِ

كثيرُ التَّجنِّي ذو قَوامٍ مُهَفْهَفٍ

صَبِيحُ المُحيَّا ليس يُوفِي بوَعْدِهِ

مَلِيحٌ تَسامَى بالمَلاحةِ مُفْرَداً

كشمسِ الضُّحى كالبدرِ في بُرْجِ سَعْدِهِ

ثَناياه بَرْقٌ والصَّباحُ جَبِينُه

وأما الثُرَيَّا قد أُنِيطتْ بِعقْدِهِ

فمِن وَصْلهِ سُكْنَى الجنانِ وطِيبُها

ولكنْ لَظَى النِّيرانِ من نارِ صَدِّهِ

تَراءَى لنا بالجِيدِ كالظَّبْيِ تالِعاً

أسارَى الهوى مِن حُكْمِه بعضُ جُنْدِهِ

روَى حُسْنَه أهلُ الغرامِ وكلُّهم

يَتِيهُ إذا ما شاهدوا ليلَ جَعْدِهِ

يُعَنْعِنُ علمَ السحرِ هاروتُ لَحْظِه

ويَرْوِي عن الرُّمَّانِ كاعبُ نَهْدِهِ

مَضاءُ اليَمانِيَّاتِ دون لِحاظِه

وفِعْلُ الرُّدَيْنِيَّاتِ من دون قَدِّهِ

إذا ما نَضا عن وجهِه البدرِ حُجْبَه

صَبا كلُّ ذي نُسْكٍ مُلازِمُ زُهْدِهِ

وأبْدَى مُحَيّاً قاصِراً عنه كلُّ مَن

أراد له نَعْتاً بتَوْصِيفِ حَدِّهِ

هو الحُسْن بل حسنُ الوَرى منه مُجْتدىً

وكلُّهم يُعزَى لجَوْهرِ فَرْدِهِ

وما تفْعل الرَّاحُ العَتِيقةُ بعضَ ما

بمَبْسَمِه بالمُحْتسِي صَفْوُ وِرْدِهِ

وقوله في مليح اعتل طرفه:

يا جَوْهراً فَرْداً عَلَا

من أين جاءَك ذا العَرَضْ

وعلى مَ طَرْفُك ذا المري

ضُ أعَلَّهُ هذا المَرَضْ

عهدِي به مِمَّا يُصِي

بُ فكيف صار هو الغَرَضْ

ها قلبيَ المَعْمودُ نُصْ

بٌ للنَّوائب يَرْتكِضْ

فاجْعَلْه يا كُلَّ المُنَى

بَدَلاً لِمَا بك أو عِوَضْ

فاسْلَمْ مَدَى الأيَّام يا

ذَا الحُسْنِ ما بَرْقٌ وَمَضْ

فمُذِ اعْتلَلْتَ أخا المَها

في الطَّرْفِ جَفْنِي ما غَمَضْ

ونَحِيلُ جسمي مُذْ وَنَيْ

تَ وحَقِّ عَيْنِك ما نَهَضْ

أنتَ المُرادُ وليس لي

في غيرِ وَصْفِك من غَرَضْ

وله مشجرا:

خِلْتُ خالَ الخدِّ في وَجْنتِهِ

نُقْطةَ العَنْبَرِ في جمرِ الغَضَا

دامتِ الأفراحُ لي مُذْ أبْصَرتْ

مُقْلتِي صُبْحَ مُحَيّاً قد أضَا

يتمنَّى القلبُ منه لَفْتةً

وبهذا اللَّحْظِ للعينِ رِضَا

جاهلٌ رام سُلُوّاً عنه إذْ

حظَر الوصلَ وأوْلاني الفَضَا

هامتِ العينُ به لمَّا رأتْ

حُسْنَ وجهٍ حين كُنَّا بالإِضَا

وقال في الغزل:

سلوا بطن مَرٍ والغَمِيمَ ومَوْزعَا

متى اصْطافَها ظَبْيُ النَّقَا وترَبَّعَا

وهل حَلَّ من شَرْقِّيها أرضَ هَجْلَةٍ

وقد جادَها مُزْنٌ فسال وأمْرَعَا

ص: 56

سقَى تلك من نَوْءِ السِّماكيْن جَحْفَلٌ

سحائب غَيْثٍ مَرْبَعاً ثم مَربَعَا

تَظلُّ الصَّبا تحْدُو بها وهْي نُعّمٌ

وتُنْزِلُها سَهْلاً وحَزْناً وأجْرَعَا

فتلك مَغَانٍ لا تزال تحُلُّها

خَدَلَّجةُ الساقْين مَهْضومةُ المِعَى

رَبِيبةُ خِدْرِ الصَّوْنِ والتَّرَفِ الذي

يزِيد على بَذْلِ اللَّيالِي تمنُّعَا

تروَّتْ من الحسن البَهِيِّ خُدودُها

وقَامَتُها كالغُصْنِ حين تَرَعْرَعَا

قَطُوف الخُطَا مثلُ القَطَا حين ما مَشَتْ

تقومُ بأرْدافٍ يُحَاكينَ لَعْلَعَا

وكتب إلى محمد الحشري الشامي رقعةً، صورتها: يا مولانا عمر الله بالفضل زمانك، وأنار في العالم برهانك، سمحت للعبد قريحته، في رئم هذه صفته، بهذين البيتين:

تَراءَى كظَبْيٍ خائفٍ من حبائلٍ

يُشِيرُ بطَرْفٍ ناعِسٍ منه فاتِرِ

وقد مُلِئتْ عيْناه من سُحْبِ جَفْنِه

كنَرْجِسِ رَوضٍ جادَه وَبْلُ مَاطِرِ

فإن رأى المولى أن يجيزهما ويجيرهما من البخس، فهو المأمول من خصائل تلك النفس، وإن رآهما من الغث فليدعهما كأمس.

ولعل الاجتماع بكم في هذا اليوم قبل الظهر أو بعد العصر، لنحث من كؤوس المحادثة ما راق بعد العصر.

والمملوك كان على جناح ركوب، بيد أنه كتب هذه البطاقة وأرسلها إلى سوق أدبكم العامرة التي ما برح إليها كل خير مجلوب.

فأسْبِل السِّتْرَ صَفْحاً إن بَدا خَلَلٌ

تهْتِك به سِتْرَ أعداءٍ وحُسَّادِ

فكتب إليه بهذين البيتين بديهة:

ولرُبَّ مُلْتَفتٍ بأجْيادِ المَهَا

نحوِي وأيْدِي العِيسِ تنْفُث سمَّهَا

لم يَبْكِ من ألَمِ الفِراقِ وإنما

يسْقِي سيوفَ لِحاظه ليسُمَّهَا

ثم نظم المعنى بعينه، فقال:

ولقد يُشير إليَّ عن حَدَقِ الْمَهَا

والرُّعْبُ يخْفِق في حَشاهُ الضَّامِرِ

أسْيانَ يفْحَص في الحبالِ كأنه

ظَبْيٌ يُخبِّط في حَبالةِ جاذر

غشَّت نواظِرَه الدموعُ كأنها

ماءٌ ترقْرَق في مُتُونِ ضَوامِرِ

رقَّتْ شمائلُه ورَقَّ أدِيمُه

فتكاد تشْربُه عيونُ النَّاظِرِ

وقال أحمد الجوهري، معارضاً له:

وظَبْيٍ غَرِيرٍ بالدَّلالِ مُحجَّبٍ

يرى أن سَتْرَ العَيْن فَرْضُ المَحاجِرِ

رَمانِي بطَرْفٍ أسْبَلَ الدمعَ دونه

لِئلَاّ أرى عينيْه من دون ساتِرِ

ولما وقف أدباء اليمن على بيتي النظام، تجاروا في مضمارهما بسوابق النظام.

فقال السيد حسن الجرموزي:

ورِئْمٍ فلا أصلُ المَحاسنِ فَرْعُه

تبدَّى كبدرٍ في الدجَى للنَّواظِر

سَبانِي بجَفْن أدْعج ماج ماؤُه

فطرَّز شُهْبَ الدَّمْع ليلَ الغدائرِ

وقال حسن بن علي باعفيف:

وخِشْفٍ عليه الحسنُ أَوْقفَ حُسْنَه

له ناظرٌ يحْمِيه عن كلِّ ناظرِ

نظرتُ إليه ناثراً دُرَّ دَمْعِه

فَنظَّام فكرِي هام في دُرِّ ناثِرِ

وقال عبد الله الزنجي:

وطَرْفٍ له فعلُ السيوفِ البَواتِرِ

يُصِيب به مُسْتَلْئِما كلَّ حاسِرِ

رمَى ورَنَا فانْهَلَّ بالدمعِ جَفْنُه

كدُرٍ حَواه سِمْطُ نظمِ الجواهرِ

وقال السيد علي بن النظام الناظم:

وللهِ ظَبْيٍ كالهلالِ جَبينُه

رَمانِي بسهمٍ من جُفونٍ فَواتِرِ

جرَتْ بمآقِيه الدموع كأنّها

مِياهُ فِرِنْدٍ في شِفاهِ بَواتِرِ

ومن نظم النظام في الحماسة:

إلى كم تقاضَاني الظُّبا وهْي ظامِيَهْ

وتشْكُو العَوالِي جوعَها وهْي طاوِيَهْ

وتُشْجِي الجِيادُ الصافِناتُ صَهِيلُها

مُتَيَّمَ وَقْعاتٍ على الدَّمِ طافيَهْ

فمن مُبْلِغٍ عني نِزاراً ويَعْرُباً

أولئك قومٌ أرْتَجيهم لِمَا بِيَهْ

ص: 57

حُماةٌ كُماةٌ قادةُ الخيلِ في الوَغَى

ضَراغِمُ يومَ الرَّوْع تَلْقاك ضاريَهْ

بَهالِيلُ في الْبأْساءِ يومَ تَناضُلٍ

إذا ما الْتَقى الجَيْشان فالعارَ آبِيَهْ

ثِيابُهمُ من نَسْجِ داوُدَ سُبَّغاً

وأوْجُههمْ تحكي بدوراً بِداجِيَهْ

سَمَوْا لدِرَاكِ المجدِ والثأرِ والعُلَى

ورَوّوا قَناهُم من دِما كلِّ طامِيَهْ

وسارُوا على مَتْنِ الخُيولِ وسَوَّرُوا

بذِي شُطُبٍ عَضْبٍ وسَمْراءَ عالِيَهْ

عَلاءٌ لهم لم يبْرحُوا في حِفاظِه

مدَى الدهرِ والأزْمانُ عنه مُحامِيَهْ

فهم سادةُ الأقْوامِ شَرْقاً ومغرِباً

وبَرّاً وبحراً والقُرومُ المُحاميَهْ

فلا غَرْوَ أن كان النبيُّ محمدٌ

إليهم لَيُنْمَى في جَراثيمَ سامِيَهْ

به افْتخروا يوم الفَخارِ وقَوَّضُوا

بِناءَ العُلَى عن كلِّ قومٍ مُضاهِيَهْ

به كَسَرُوا كِسْرَى وفَلُّوا جُموعَه

لكثْرتها في العَدِّ لم تدْرِ ما هِيَهْ

ونافُوا على الأطْوادِ عِزّاً ورِفْعةً

وزادُوا على الآسادِ بأْساً وداهِيَهْ

بَلاغاً صريحاً واضحاً كاشفاً له

قِناعَ المُحيَّا فَلْيُلبِّينَ داعِيَهْ

وإيَّاهمُ والرَّيْثَ عن نَصْرِ خِدْنِهمْ

ولا يأْمَنُوا الدنيا فليستْ بصافِيَهْ

وقُلْ لهمُ يسْرُون فوق جِيادِهمْ

خَفايَا كما تمْشِي مع السُّقْمِ عافيَهْ

ولده السيد علي صاحب السلافة القول فيه أنه أبرع من أظلته الخضرا، وأقلته الغبرا.

وإذا أردت علاوةً في الوصف قلت: هو الغاية القصوى، والآية الكبرى.

طلع بدر سعده فنسخ الأهلة، وانهل سحاب فضله فأخجل السحب المنهلة.

أخبرني السيد علي بن نور الدين بمكة المشرفة، قال: كان رفيقي في التحصيل، وزميلي في التفريع والتأصيل.

والصبا ينزع أواخينا، والرغبة في الاستفادة تعقد في البين تواخينا.

وكلانا في مبدأ صوب القطر من الغمامة، وباكورة خروج الزهرة من الكمامة.

فكنت أشاهد من حذقه الغاية التي لا تدرك، ومن غرائب صنائعه المنزلة التي لا تشرك.

هذا وليلُ الشبابِ الْجُونِ مُنْسَدِلٌ

فكيف حين يجيءُ الليلُ بالسُّرُجِ

ثم فارق البيت والمقام، ودخل الهند فنهض حظه بها وقام.

وهو الآن متقلد خدم ملكها الشريفة، ومتفيءٌ في عهده ظلال النعم الوريفة.

وقد ألف تآليف تهفو إليها الأفكار، وتجنح إليها جنوح الأطيار إلى الأوكار.

منها كتابه المسمى بسلافة العصر، التي زف بها البكر ابنة الفكر، في هودجها الفرج، وجلبابها الأرج.

تباطأ عنها السوابق، وتتطأطأ عن سموها السوامق.

وجاء بها أصفى من ماء الشباب في غضارته، في زمن لم يبق منه إلا رديء عصارته.

إلا أن الظنون مرجمة، وألسنة الانتقاد عنها مترجمة، والأقوال فيها كثيرة، والعبارات للازدراء مثيرة.

وذلك لما بدا منه من أغراض، كان حقها أن تعامل بالإعراض.

فهو في إيراد تلك الفصول، معرض بنفسه إلى وصمة الفضول.

والحق أنه أحسن ماشا، وأبدع فيما أنشا ووشى.

وكم أورد من نادرةٍ مستظرفة، وأبدع من فائدةٍ مستطرفة.

وهو في الأدب بحرٌ ماله ساحل، إذا قصد أن يدنو منه طيف الفكر أصبح دونه بمراحل.

وله شعر أرق من كل رقيق، وأحق بالقبول من غيره عند التحقيق.

فمنه قوله من خمرية:

لَمعتْ ليلاً فقالوا لَهَبُ

وصفَتْ لَوْناً فقالوا ذهَبُ

وإذا ما انْدفقَتْ من دَنِّها

في الدُّجَى قالوا طِرازٌ مُذْهَبُ

قهوةٌ رَقَّتْ فلولا كأسُها

لم يُشاهِد جِرْمَها مَن يشْربُ

وتراها في يدِ السَّاعي بها

كوكباً يسْعَى بها لى كوكبُ

ألْبَسَتْها الكأسُ طَوْقاً ذهَباً

وحَباباً بالَّلآلِي الْحَبَبُ

عجِبُوا من نُورِها إذْ أشرقتْ

وشَذاها من سَناها أعْجَبُ

ص: 58

بِنْتُ كَرْمٍ كَرُمتْ أوصافُها

أيُّ نَبْتٍ قام عنها العِنَبُ

وقوله معارضاً قصيدة أبي العلاء المعري، التي أولها:

هاتِ الحديثَ عن الزَّورَاءِ أوهِيتَا

ومُوِقَدِ النَّارِ لا تكْرَى بتَكْرِيتَا

وقصيدته هي هذه:

يا حادِيَ الظُّعْنِ إن جُزْتَ المواقِيتَا

فحَيِّ مَنْ بِمِنىً والْخَيْفَ حُيِّيتَا

وسَلْ بجَمْعٍ أَجْمعُ الشَّمْلِ مَلتئِمٌ

أم غالَه الدَّهرُ تفْرِيقاً وتشْتيتَا

والْثَم ثَرَى ذلك الوادي وحُطّ به

عن الرِّحالِ تنَلْ يا صاحِ ما شِيتَا

عهْدِي به وثَراهُ فائحٌ عَبِقٌ

كالمِسْكِ فتَّتَه الدَّارِيُّ تفْتِيتَا

والدُّرُ ما زال من حَصْبائِه خَجِلاً

كأنَّ حَصْباءَه كانت يَواقيتَا

يؤُمُّه الوَفْدُ مِن عُرْبٍ ومن عجمٍ

ويسبُرون له البِيدَ السَّبارِيتَا

يطْوُون عُرْضَ الليالِي طُولَ ليلِهمُ

لا يهْتدون بغير النَّجْمِ خِرِّيتَا

من كلِّ مُنْخَرِق السِّرْبالِ تحسَبُه

إذا تَسَرْبَل بالظَّلْماءِ عِفْريتَا

لا يطْعَم الماءَ إلاّ بَلَّ غُلّتِه

ولا يذُوق سِوى سَدِّ الطُّوَى بِيتَا

يفْرِي جُيوبَ الفَلا في كلِّ هاجِرةٍ

يُماثِل الضّبُّ في رَمْضائِها الحُوتَا

ترى الحصَا جَمَراتٍ من تلهُّبها

كأنما أُوقِدتْ في القَفْرِ كبْرِيتَا

أجاب دَعْوةَ داعٍ لا مَرَدَّ له

قَضى على الناسِ حَجَّ البَيْت تَوْقيتَا

يرجو النَّجاةَ بيومٍ قد أهاب به

في موقفٍ يدَعُ المِنْطيقَ سِكِّيتَا

فسار والعَزْمُ يطْوِيه وينْشُره

يُنازِل البَيْن تصْبِيحاً وتبْييتَا

حتى أناخَ على أُمِّ القُرَى سَحَراً

وقد نضَا الصبحُ للظّلْماءِ إصْليِتَا

فقام يقْرَعُ بابَ العَفْو مُبتهِلاً

لم يخْشَ غيرَ عتابِ اللهِ تبْكِيتَا

وطَاف بالبيتِ سَبْعاً وانثنى عَجِلاً

إلى الصَّفا حاذِراً للوقْتِ تفْوِيتَا

وراح مُلْتَمِساً نَيْلَ المُنَى بِمِنىً

ولم يخَفْ غيرَ حِلّ الْخَيفِ تعْنِيتَا

وقام في عَرَفاتٍ عارفاً ودعَا

رَبّاً عَوارِفُه عَمَّتْه ترْبيتَا

وعاد منها مُفِيضاً وهْو مُزْدَلِفٌ

يرْجُو من اللهِ تمكِيناً وتثْبِيتَا

وبات للجَمَراتِ الرُّقْشِ مُلْتقِطاً

كأنه لاقِطٌ دُرّاً ويَاقوتَا

وحين أصْبَح يومَ النَّحرِ قام ضُحىً

يُوفِي مَناسِكَه رَمياً وتَسْبيتَا

وقرَّبَ الهَدْيَ تَهْدِيه شرائعُه

إلى الهُدَى ذاكِراً لله تسْمِيتَا

وملأَّتْه الليالي الْخَيفَ بَهْجتَها

فَحجَّ للدِّين والدنيا مَواقِيتَا

حتى إذا كان يومُ النَّفْرِ نَفّرَه

وجَدَّ ينكُث في الأحْشاء تَنْكيتَا

ثم اغْتدَى قاضِياً من حَجِّه تَفَثاً

يرجُو لتزكيةِ الأعمالِ تَزكِيتَا

وودَّع البيتَ يرْجو العَوْدَ ثانيةً

وليْته عنه طولَ الدهرِ ما لِيتَا

وأمَّ طَيْبَة مَثْوى الطّيِّبين وقد

ثَنَى له الشوقُ نحْوَ المصطفى لِيتَا

فواصَل السيرَ لا يلْوِي على سَكَنٍ

أزاد حُبّاً له أم زاد تمْقِيتَا

حتى رأى القُبَّة الخضراءَ حاكِيةً

قصراً من الفَلَك العُلْوِيِّ مَنْحوتَا

فقبَّل الأرضَ من أعْتابِ ساحتِها

وعفَّر الخدَّ تعْظِيماً وتشْمِيتَا

حيث النبُوَّةُ ممدودٌ سُرادِقُها

والمجدُ أنْبَته الرحمنُ تنْبِيتَا

مَقامُ قُدْسٍ يحارُ الواصِفون له

ويرجِعُ العقلُ عن عَلْياه مَبْهوتَا

ص: 59

لو فاخَرَتْه الطِّباقُ السَّبْعُ لانْتكسَتْ

وعاد كوكبُها الدُّرِّيُّ مَبْكوتَا

تسْتوقفُ العَيْنَ والأبصارَ بَهْجتُه

وتجْمع الفضلَ مَشْهوداً ومنْعوتَا

يقول زائرُه هاتِ الحديثَ لنا

عن زَوْرِه لا عَنِ الزَّوْراءِ أو هِيتَا

وصِفْ لنا نُورَهُ لا نُور عادِيةٍ

باتتْ تُشَبُّ على أيْدِي مَصالِيتَا

مَثْوَى أجَلِّ الورَى قَدْراً وأرْحَبِهم

صَدْراً وأرْفعِهم يومَ الثَّنَا صِيتَا

نَبِيُّ صِدْقٍ هَدَتْ أنوارُ غُرَّتِه

بعد العَمَى للهُدَى مَن كان عِمِّيتَا

وأصْبحت سُبُلُ الدِّين الحَنِيفِ به

عَوامِراً بعد أن كانتْ أمَارِيتَا

أحْيَى به اللهُ قوماً قام سَعْدُهمُ

كما أماتَ به قَوْماً طَواغِيتَا

لَوْلاه ما خاطب الرحمنُ من بَشَرٍ

ولا أبان لهم دِيناً ولَاهُوتَا

له يدٌ لا نُرَجِّي غيرَ نائِلِها

وقاصِدُ البحرِ لا يرْجُو الهَرامِيتَا

فلو حَوَتْ ما حَوَتْه السُّحْبُ من كَرَمٍ

لَما سمِعْتَ بها للرَّعْدِ تَصْوِيتَا

فقُل لِمَن صَدَّه عنه غَوايتُه

لو اهْتدَيْتَ إلى سُبْلِ الهدى جِيتَا

ما رام حَصْرَ مَعالِيه أخُو لَسَنٍ

إلاّ وأصبح بادِي العِيِّ صِمِّيتَا

يا أشْرفَ الرُّسْلِ والأمْلاكِ قاطِبةً

ومَن به شَرَّفَ اللهُ النَّواسِيتَا

سَمْعاً لدعوةِ نَاءٍ عنك مُكْتَئِبٍ

فكَمْ أغثْتَ كئيباً حين نُودِيتَا

يرجوك في الدِّين والدنْيا لِمَقْصدِه

حاشا لِراجِيك مِن بأسٍ وحُوشِيتَا

أضْحَى أسيراً بأرضِ الهنْدِ مُغْترِباً

لم يَرْجُ مَخْلَصَه إلَاّ إذا شِيتَا

فنجِّنِي يا فَدتْك النفسُ مِن بَلَدٍ

أضْحتْ لِقاحُ العُلى فيها مَفالِيتَا

وقد خدَمْتُك من شِعْرِي بقافيةٍ

نَبَّتُّ فيها بديعَ القَوْلِ تنْبِيتَا

وزانَها الفِكرُ من سِحْرِ البيانِ بما

أعْيَى ببابِلَ هارُوتاً ومَارُوتَأ

جلَّتْ بمَدْحِك عن مثلٍ يُقاسُ بها

ومَن يَقِيسُ بنَشْرِ المِسْكِ حِلْتِيتَا

عليك من صَلَواتِ الله أشْرَفها

وآلِك الطُّهْرِ ما حُيُّوا وحُيِّيتَا

وقوله، من قصيدة أخرى، أولها:

يا دار مَيَّةَ باللِّوَى فالأجْرعِ

حَيَّاكِ مُنْهَمِلُ الْحَيَا من أدْمُعِي

وسرَى نسيمُ الرَّوْضِ يسْحَب ذَيْلَه

بمَصِيفِ أُنْسٍ في حِماكِ ومَرْبَعِ

لو لمْ تَبِيتِي من أَنِيسكِ بَلْقَعاً

ما بِتُّ أنْدُب كلَّ دارٍ بَلْقَعِ

لم أنْسَ عَهْدَك والأحِبَّةُ جِيرَةٌ

والعَيْشُ صَفْوٌ في ثَراكِ المُمْرِعِ

أيَّامَ لا أُصْغِي لِلَوْمةِ لئمٍ

سَمْعاً وإن تُغْرِ الصَّبابةُ أسْمَعِ

حيثُ الرُّبَا تسْرِي برَيَّاها الصَّبا

والرَّوضُ زَاهِي النَّوْرِ عَذْبُ المَشْرَعِ

تحْنُو عليَّ عَواطِفاً أغْصانُها

عند المَبِيتِ به حُنُوَّ الُرْضِعِ

والوُرْقُ في عَذَبِ الغُصونِ سَواجِعٌ

تشْدُو بمَرْأىً من سُعادَ ومَسْمَعِ

كم بِتُّ فيه صَرِيعَ كأسِ مُدامةٍ

حِلْفَ البَطالةِ لا أُفِيقُ ولا أًعِي

أصْبُو بقلبٍ لا يزال مُوَلَّعاً

في الحُبِّ بين مُعَمَّمٍ ومُقَنَّعِ

مُسْتهْتَرٌ طَوْعُ الصَّبابةِ في هَوَى

قَمَرَيْ جمالٍ مُسْفِرٍ ومُبَرْقَعِ

ما ساءني أن كنتُ أوَّلَ مُغْرَمٍ

بجمالِ رَبِّ رِداً ورَبَّةِ بُرْقُعِ

يقْتادني زَهْوُ الشبابِ وعِفَّتِي

فيه عَفافُ الناسِكِ المُتورِّعِ

ص: 60

للهِ أيامِي بمُنْعَرَجِ اللِّوَى

حيثُ الهوَى طَوْعِي ومَن أهْوَى مَعِي

لم أنْسَه والبَيْنُ ينْعَقُ بيْننا

مُتصاعِدَ الزَّفَراتِ وهْو مُودِّعِي

إن شَبَّ في قلبي الغَضا بفِراقِه

فلقد ثَوَى بالْمُنْحَنَى من أضْلُعِي

أتجَشَّم السُّلْوانَ عنه تكلُّفاً

والطبعُ يغلِبُ شِيمةَ المتَطبّعِ

وقوله من أخرى، أولها:

بين العُذَيْبِ وبين بَرْقةِ ضاحِكِ

غَرَّاءُ تبْسَم عن شَنِيبٍ ضاحِكِ

في حبِّا للعاشقين مَصارِعٌ

من هالِكٍ فيها ومن مُتهَالِكِ

تسْطُو مَعاطِفُها وسُودُ لِحاظِها

بِمُثقَّفٍ لَدْنٍ وأبْيضَ فاتِكِ

لا تستطِبْ يوماً مَوارِدَ حبِّها

ما هُنَّ للعُشَّاقِ غيرَ مَهالِكِ

فتكَتْ بألْبابِ الرجالِ ولم تصِلْ

بسِوَى فواتِن للقلوب فَواتِكِ

يُرْدِيك ناظِرُها ويُغْضِي فاعْجَبَنْ

من فاِسقٍ يحكي تعفُّفَ ناسِكِ

هجَرتْ وما اتَّسعتْ مَسالِكُ هجرِها

إلاّ وضاقتْ في الغرامِ مَسالِكِي

ولقد أبِيتُ على القَتَادِ مُسهَّداً

وتبِيتُ وَسْنَى في مِهادِ أرائِكِ

لا تسْتعِرْ جَلَداً على هِجْرانِها

إن كنتَ في دعوَى الغرامِ مُشارِكِي

واتْرُكْ حديثَ المُعْرضِين عن الهوَى

يا صاحبِي إن كنتَ لستَ بتاركِي

وإذا دعاك لِبَيْعِ نفسِك سائمٌ

في حبِّها يوماً فبِعْه وبارِكِ

إن التي فتنتْك ليلةَ أشْرقتْ

إشْراقَ شمسٍ في دُجُنَّةِ حالِكِ

لا تصْطفِي خِلاً سوى كلِّ امْرِىءٍ

صَبٍ لأسْتارِ التنسُّكِ هاتِكِ

فاخلَعْ ثيابَ النُّسْكِ فيها واسْترِحْ

من عَذْلِ لَاحٍ في الصَّبابةِ آفِكِ

أو لا فدَعْ دعوى المَحبَّةِ واجتنِبْ

نَهْجَ الغرامِ فلستَ فيه بسالِكِ

وإذا بدَا منها المُحَيَّا فاسْتعِذْ

من سافِرٍ لِدَمِ الأحبَّةِ سافِكِ

كم من مُحِبٍ قد قَضَى في حبِّها

وَجْداً عليه فكان أهْوَنَ هالِكِ

ملكتْ نفوسَ أُلِي الغرامِ بأسْرِها

هلَاّ اتَّقيْتِ اللهَ يا ابنةَ مَالِكِ

حَسْبِي وُلوعاً في هواكِ ولَوْعةً

إن تطْلُبِي قَتْلِي ظَفِرْتِ بذلكِ

وله من نونية نبوية، أولها:

تذكَّر بالحِمَى رَشَأً أغَنَّا

وهاج له الهوى طَرباً فغَنَّى

وحَنَّ فؤادُه شوقاً لِنَجْدٍ

وأين الهندُ من نجدٍ وأنَّى

وغنّتْ في فروعِ الأيْكِ وُرْقٌ

فجاوَبَه بزَفْرتِه وأنَّا

وطارحَها الغرامَ فحين رَنَّتْ

له بتَنفُّسِ الصُّعَداءِ رَنَّا

وأوْرَى لاعِجَ الأشواقِ منه

بَرِيقٌ بالأبَيْرِقِ لاح وَهْنَا

مُعَنى كلما هبَّتْ شَمالٌ

تذكّر ذلك العيشَ المُهَنَّا

إذا جَنَّ الظلامُ عليه أبْدَى

من الوَجْدِ المُبرِّحِ ما أجَنَّا

سقَى وادِي الغَضا دمعِي إذا ما

تهلّل لا السَّحَابُ إذا ارْجَحَنَّا

فكم لي في رُباه قَضِيبُ حُسْنٍ

تفرَّد بالمَلاحةِ إذْ تَثَنَّى

كَلِفْتُ به وما كُلِّفْتُ فَرْضاً

فأوجَب طَرْفُه قَتْلِي وسَنَّا

وأبْدَى حبَّه قلبي وأخْفَى

فصرَّح بالهوى شَوْقاً وكَنَّا

تفنن حسنُه في كلِّ معنىً

فصار العشقُ لي بهَواه مَعْنَى

بدا بَدْراً ولاح لنا هِلالاً

وأشْرَق كوكباً واهْتَزَّ غُصْنَا

وثنَّى قَدَّه الحسَنَ ارْتياحاً

فهام القلبُ بالحسَنِ المُثَنَّى

ص: 61

ولو أن الفؤادَ على هَواهُ

تمَنَّى كان غايةَ ما تَمَنَّى

بكيْتُ دماً وحَنَّ إليه قلبِي

فخضّب من دمِي كَفاً وحَنَّا

ألا يا صاحبَيَّ ترفّقا بي

فإن البَيْنَ أنْصَبنِي وعَنَّا

ولم تُبْقِ النَّوَى لي غيرَ عَزْمٍ

إذا حَفّتْ به المِحَنُ اطْمَأنَّا

وأُقْسِم ما الهوى غَرَضِي ولكنْ

أُعَلِّلُ بالهوى قلباً مُعَنَّى

وأصْرِفُ بالتأنِّي صَرْفَ دهرِي

وأعلمُ أن سيظْفَرُ مَن تأنّى

وأدْفَعُ فادحاتِ الخَطْبِ عنِّي

بتفْويضٍ إذا ما الخَطْبُ عَنَّا

ولا واللهِ لا أرْجُو لِيُسْرِي

وعُسْرِي غيرَ من أغْنَى وأقْنَى

أخوه محمد يحيى غصن طيب النما، أشبه بأخيه من الماء بالما.

فهو الرمح وأخوه سنانه، وكلاهما في حومة الأدب فارسٌ أطلق عنانه.

وكان رحل إلى أبيه للهند، فأقام في كنفه يتأدب بآدابه، وكانت ملازمته من دابه.

ولم يزل من كفايته في ظلٍ غير مقلص، ومن حفايته في موردٍ غير منغص.

حتى غرب نجمه في إبان استنارته، وخسف بدره في بدء استدارته.

فأضحى ناظر الأدب لفقده رمدا، وقلب الأماني لحينه متفجعاً كمدا.

وقد ظفرت من شعره بما هو أغر من الصدغ المرسل، وأعذب من الرحيق السلسل.

فدونك منه ما لا يجد خاطرك فيه تعسفا، غير أني أراك تكثر على قلته تأسفا:

تذكّرتُ أيامَ الحَجِيجِ فأسْبَلَتْ

جفوني دِماءً واستَجدّ بيَ الوَجْدُ

وأيَّامَنا بالمَشْعَريْنِ التي مَضتْ

وبالخَيْفِ إذْ حادِي الركاب بنا يحْدُو

وقوله أيضاً:

ألا يا زماناً طال فيه تباعُدي

أما رحمةٌ تدْنُو بها وتجودُ

لألْقَى الذي فارقتُ أُنْسِيَ مذ نأَى

فها أنا مسلوبُ الفؤادِ فرِيدُ

وقوله:

ألا لا سقَا الله البعادَ وَجوْرَهُ

فإن قليلاً منه عنك خطيرُ

وواللهِ لو كان التَّباعُدُ ساعةً

وأنت بعيدٌ إنه لكثيرُ

وكتب إلى أخيه من قصيدة طويلة، أولها:

أقِلْ أيُّهذا القلبُ عمَّا تُحاولُهْ

فإنك مهما زِدْتَ زاد تَشاغُلُهْ

دَعِ الدهرَ يفعلْ كيف شاء فقلَّما

يرُوم امْرُؤٌ شيئاً وليس يُواصِلُهْ

وما الدهرُ إلَاّ قُلَّبٌ في أمورِه

فلا يغْترِرْ في الحالتيْن مُعامِلُهْ

ويا طالَما طاب الزمانُ لِواجِدٍ

فسَرَّ وقد ساءتْ لَدَيْه أوائلُهْ

سقَى ورعَى اللهُ الحجازَ وأهلَه

مُلِثّاً تعُمُّ الأرضَ سَقْياً هَواطِلُهْ

فإن به داري ودارِي عَزِيزةٌ

عليَّ ومهما أشْغَل القلبَ شاغِلُهْ

ولكنَّ لي شوقاً إلى خُلَّتي التي

متى ذُكِرتْ للقلبِ هاجتْ بَلابِلُهْ

أبِيتُ ولي منها حَنِينٌ كأنني

طَرِيحُ طِعانٍ قد أُصِيبَتْ مَقاتلُهْ

هَوىً لكِ ما ألْقاه يا عَذْبةَ اللَّمَى

وإلاّ فصَعْبٌ ما أتى اليوم حامِلُهْ

أُكابِدُ فيك الشوقَ والشوقُ قاتِلي

وأسألُ عمَّن لم يُجِبْ مَن يسائِلُهْ

تَقِي اللهَ في قَتْلِ امْرِىءٍ طال سُقْمُه

وإلاّ فإن الهجرَ لاشكَّ قاتلُهْ

صِلِيه فقد طال الصُّطودُ فقلّما

يعيش امْرُؤٌ والصدُّ ممَّا يقاتلُهْ

حَزِينٌ لِمَا يْلقاه فيك من الجَوى

فها هو مُضْنىً مُدْنَفُ الجسمِ ناحِلُهْ

بلَى إن يكنْ لي من عليٍ وعَزْمِه

مُعِينٌ فإنِّي كلَّ ما شئتُ نائِلُهْ

فراجعه بقوله:

إليك فقلبي لا تقَرُّ بَلابِلُهْ

إذا ما شدَتْ فوق الغصونِ بلَابلُهْ

تُهيِّجُ لي ذِكْرَى حبيبٍ مُفارِقٍ

زَرُودُ وحُزْوَي والعقيقُ مَنازلُهْ

ص: 62

سَقاهُنَّ صَوْبُ الدمعِ منِّي ووَبْلُهُ

منازلَ لا صَوْبُ الغمامِ ووابِلُهْ

يحُلُّ بها من لا أُصَرِّحُ باسْمِه

غزالٌ على بُعْدِ المَزارِ أُغازِلُهْ

تقسَّمه للحُسْنِ عَبْلٌ ودِقَّةٌ

فَرَنَّ وِشاحاه وصُمَّتْ خَلاخِلُهْ

وما أنا بالنَّاسِي لياليَ بالحِمَى

تقضَّتْ ووِرْدُ العَيْشِ صَفْوٌ مَناهِلُهْ

لياليَ لا ظَبْيُ الصَّرِيمِ مُصارِمٌ

ولا ضاق ذَرْعاً بالصدودِ مُواصِلُهْ

وكم عاذلٍ قلبي وقد لَجَّ في الهوى

وما عادلٌ في شِرْعةِ الحبِّ عاذِلُهْ

يلومون جَهْلاً بالغرامِ وإنما

له وعليه بِرُّه وغَوائِلُهْ

فاللهِ قلبٌ قد تمادَى صَبابةً

على اللَّوْمِ لا تنْفكُّ تغْلِي مَراجلُهْ

وبالحِلّةِ الفيْحاءِ من أبْرُقِ الحِمَى

رَداحٌ حَماها من قَنا الخَطِّ ذابِلُهْ

تمِيسُ كما ماس الرُّدَيْنِيُّ مائداً

وتهْتزُّ عُجْباً مثلَما اهْتزَّ عاملُهْ

مُهَفْهَفةُ الكَشْحَيْنِ طاويةُ الحَشَا

فما مائدُ الغُصْنِ الرَّيِبِ ومائلُهْ

تعلّقْتُها عَصْرَ الشَّبِيبةِ والصِّبا

وما علِقتْ بي من زمانِي حَبائلُهْ

حذِرْتُ عليها آجِلَ البُعْدِ والنَّوَى

فعاجَلنِي من فادِحِ البَيْنِ عاجلُهْ

إلى اللهِ يا أسْماءُ نفساً تقطَّعتْ

عليكِ غراماً لا أزال أُزاوِلُهْ

وخطبٍ بِعَادٍ كلَّما قلتُ هذه

أواخِرُه كرَّتْ عليَّ أوائلُهْ

لئن جار دهرٌ بالتفرُّقِ واعْتدَى

وغال التَّدانِي من دَهَا البَيْنِ غائلُهْ

فإنِّي لأرجُو نَيْلَ ما قد أمَلْتُه

كما نال من يحيى الرَّغائبَ آمِلُهْ

وخاطب أخاه أيضاً بقوله:

وما شوقُ مَقْصوصِ الجناحيْن مُقْعَدٍ

على الضَّيْمِ لم يقدِرْ على الطيرانِ

بأكْثرَ من شوقِي إليك وإنما

رَماني بهذا البُعْدِ عنك زَمانِي

جمال الدين محمد بن أحمد الشاهد شاعر بيض وجه الصحائف بسواد نقسه، وكاتب أقام على فضله شاهداً كألف شاهدٍ من نفسه.

فإذا أخذ القلم بيمينه، جاء من معدن الدر بثمينه.

وكان في رونق حداثته، وملاحة نفاثته.

حيث برد شبابه قشيب، ومسك ذوائبه لم يدر فيه كافور مشيب.

حليف كأسٍ وأليف دن، وله التصابي شغلٌ والخلاعة ديدن.

لا ينتقل من خمارٍ إلا إلى خمار، ولا يقلع عن هوى ذي عمامة إلا إلى هوى ذات خمار.

حتى بدت الشعرات البيض، وأخذت تفرخ في العارض وتبيض.

ولم يبق في إناء العمر إلا صبابة، يتدارك بها ما فات أيام لهو وصبابة.

فأصبح شيخ سجادة ومحراب، بعد أن كان فتى دسكرةٍ وشراب.

ومقتفى إنابة ودعا، بعد أن كان متروك إناءٍ للراح ووعا.

قال السيد علي بن معصوم في سلافته: وبلغني أن الراح أورثت يده رعشة؛ لتعاطيه لها، فقلت:

لا تحسَبوا الرَّاح أورثتْ يدَه

من سُوئِها رَعْشةً لها اضْطَرابَا

لكنه لا يزال يَلْمَسُها

فالكَفُّ تهْتزُّ دائماً طَرَبَا

ومما يقارب هذا قول الشهاب:

أقولُ لِمُدْمِن الرَّاح الذي ارْتعشَتْ

كَفّاه إذْ راح من ثَوْبِ التُّقَى عارِي

كأن كفّك مَقْرورٌ برَعْشتِه

وليس يصْلَى بغير الكأسِ من نارِ

وأنا أقول: الأنسب أن ينشد بعد توبته ما اختلسته من قول البعض:

لَعَمْرُكَ ما اهْتزَّتْ له الكفُّ رَعْشةً

ولكنْ أرداتْ أن ينامَ خُمارُهُ

على أنَّ فيها الكأسَ يرقُص فَرْحةً

بذِكْرَى زمانٍ طاب فيها قَرارُهُ

وقد ذكرت من شعره ما يشوق ويروق، وتحسده شمس الكأس وشمس الأفق في غروب وشروق.

فمن ذلك ما راجع به السيد أحمد بن مسعود، وقد كتب إليه:

ص: 63

وشادِنٍ وافَى وكان خُلْسةً

من بَعْدِ ما أرَّقني بمَطْلِهِ

لمَّا بدا مُحْتجِباً بمِرْطِه

كيْما يَنِمَّ ضَوْءُه لأهلِهِ

قلتُ له البدرُ إذا الغَيْمُ غَشَى

أنْوارَه ترجُو الورَى لِوَبْلِهِ

فقال لي مُسْتضحِكاً يهْزأُ بي

ما أحسنَ الشّاهِدَ في مَحَلِّهِ

يا جمال العلم والأدب، والناس إليهما من كل حدب.

أشرف على هذه الأبيات، وحل عاطلها بفوائد الصفات.

وإن استدعيتنا إلى محلك ولا زال آهل، وكواكب أفقه بوجودك زاهرة ونجم أعدائك آفل.

قلنا: ما أحسن الشاهد في محله، ولا بدع أن يرجع الفرع لأصله.

والسلام.

فأجابه بقوله:

للهِ ما أبْدَتْ وماذا أبْدَعتْ

من دُرِّ عِقْدٍ قد زَها مِن أهْلِهِ

بَدِيهةٌ لواحدِ العصرِ ومَن

حاز المَعالي نَاشِياً كأصْلِهِ

نَظْمُ لآلٍ من مَلِيكٍ ماجِدٍ

فاق الأُلَى هيْهات دَرْكُ مِثْلِهِ

شرَّفني بقطعةٍ من نَظْمِه

أحْلَى من الحِبِّ وَفَى بوَصْلِهِ

أشار فيها أن يزُور منزلاً

ما فيه إلاّ ما نَما من فضلِهِ

ما هُوَ إلاّ روضةٌ أمْطرَها

ما سَحَّ من هامِي مَطِيرِ وَبْلِهِ

فإن يزُرْ شاهدَ معناه يقُلْ

ما أحْسَن الشاهدَ في مَحَلِّهِ

ثم أعقب تالأبيات بنثرٍ، قال فيه: ناظم درها، وناسج حبرها.

وصلته الأبيات الشريفة، من الحضرة العالية المنيفة.

فحير عقله ما حبر منشيها، وأدهش لبه ما دبج موشيها.

فوالله لولا أن يقال غاليت، لكتبت تحت كل بيت:" فليعبدوا رب هذا البيت ".

كيف لا ومفترع بكرها مفترع الأبكار البديعة النظام، الفائقة بتقديمها على من تقدمها من شعراء الجاهلية والإسلام.

ليث بني هاشم الضراغم، واسطة عقد الأكارم ألي المكارم.

وحين سرحت طرف الطرف في ميدان رياضها، ونشقت عنبر عبيرها من نشر غياضها.

واكتحل ناظري بنير مدادها المرقوم، ورشف سمعي من رحيق معناها المختوم.

أنشدت، ولا بدع فيما أوردت:

فللهِ ما أدْرِي أزَهْرُ خَميلةٍ

بطِرْسِك أم دُرٌّ يلُوح على نَحْرِ

فإن كان زَهْراً فهْو صُنْعُ سَحابةٍ

وإن كان دُرّاً فهْو من لُجَّةِ البحرِ

وما لوح به سيدنا من زيارة العبد في الدار، التي هي وما فيها من بعض فضله المدرار.

فلسان الحال، ينشد هذا المقال:

قالوا يزورُك أحمدٌ وتزورُه

قلتُ الفضائلُ لا تُفارِقُ مَنْزِلَهْ

إن زارني فبفضْلِه أو زُرْتُه

فلفضلِه والفضلُ في الحاليْن لَهْ

أبو الفضل بن محمد العقاد ماذا أقول فيمن هو والفضل ابنٌ وأب، وقد تبلغ بالصنعة حتى فاق من درج ودب.

لقبه عقاد وهو لمشكلات القريض حلال، فإذا تفوه أو كتب سحر لكن بسحرٍ حلال.

دخل المغرب في عهد الملك المنصور، فنال حظوة يعترف لسان اليراعة عن حصر بواعثها بالقصور.

فهو ممن غرب وأغرب، وأدب فهذب.

وقابل تلك العصابة، بخاطرٍ قدح زند الإصابة، ورمى غرض الأماني فأصابه.

فكتب اسمه في حسنات الأيام، كما كتب شعره في حسنات الأنام.

فمن شعره الذي ناظر به نسيم الزهر في السحر، وباهى قضاء الوطر على الخطر.

قوله من موشحٍ مدح به السلطان المذكور:

ليت شِعْرِي هل أُروِّي ذا الظَّمَا

من لَمَى ذاك الثُّغَيْرِ الألْعَسِ

وترى عيْنايَ رَبَّاتِ الحِمَى

باهياتٍ بقُدودٍ مُيَّسِ

فقد طال بِعادِي والهوى

ملَك القلب غراماً وأسَرْ

هَدَّ من رُكْنِ اصْطِباري والقُوَى

مُبْدِلاً أجفانَ عيني بالسَّهَرْ

حين عَزَّ الوصل من وادِي طُوَى

هَملتْ أدمعُ عينِي كالمطَرْ

فعساكم أن تجودُوا كَرَماً

بِلقاكم في سَودِ الحِندِسِ

علّه يشفى كَلِيماً مُغْرَماً

من جِراحاتِ العيونِ النُّعَّسِ

كلَّما جَنَّ ظلامُ الغَسَقِ

هَزَّني الشوقُ إليكم شَغَفَا

ص: 64

واعتراني مِن جَفاكم قَلَقِي

وتذكَّرْتُ جِياداً والصَّفَا

وتَناهتْ لَوْعتي من حُرَقِي

كم أُعَزِّي الوجدَ بي والتَّلَفَا

فانْعِمُوا لي ثم جُودُوا لي بما

يُطْفِىءُ اليومَ لَهِيبَ الْقَبَسِ

إنني أرْضَى رِضاكم مَغْنَماً

لِبقا نَفْسِي ومَحْيَي نَفَسِي

كنتُ قبلَ اليوم في زَهْوٍ وتِيهِ

مَعْ أُحَيْبَابي بسَلْعٍ ألْعَبُ

ومعي ظَبْيٌ بإحْدَى وجْنَتيْه

مَشرِقُ الشمسِ وأخْرى مَغْرِبُ

فرَماني بسهامٍ من يديْهِ

قابِسُ البَيْنِ فقلبي مُتْعَبُ

لستُ أرجُو لِلِقاهم سُلّماً

غير مَدْحِي للإمام الأرْأَسِ

أحمدُ المحمودُ حَقّاً مَن سَمَا

الشريفُ بن الشريفِ الأكْيَسِ

قلت: وقد حكى المقري، في نفح الطيب أنه ممن اجتمع بالحضرة المنصورية، أبو الفضل العقاد المكي المذكور، والشريف المدني، وهو رجل وافدٌ من أهل المدينة انتمى إلى الشرف، والشيخ إمام الدين الخليلي، الوافد على حضرته من بيت المقدس.

فقال إمام الدين هذا للمنصور: يا أمير المؤمنين، إن المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، شد أهلها إليك الرحال.

أحمد بن محمد الأسدي الشبل بن الليث، والوبل ابن الغيث، والتيار ابن البحر، والصباح ابن الفجر.

اشتمل بالمجد الصراح، ولطفت ذاته لطف الراح.

ولما رأى أن المخالطة، لا تثمر إلا محض المغالطة.

انعكف في زاوية العزلة، وتفرد في حجرةٍ والعز له.

وقد ذكرت من شعره ما تعوذه بالسبع، وتعلم منه رقة الطبع.

فمنه قوله:

دَعِ المُدامَةَ يعلُو فوقها الحَبَبُ

رُضابُه وثَناياه لنا أرَبُ

نَزِّه فؤادَك من رَاحِ الكئُوسِ وخُذْ

راحاً من الثَّغْر عنها يعجِز العِنَبُ

شَتَّان بين حلالٍ طيِّبٍ وحَرا

مٍ حامضٍ يزْدرِيه العقلُ والأدبُ

إذا تَغَزَّلت في خمرٍ وفي قَدَحٍ

فما مُرادِيَ إلا الثَّغْرُ والشَّنَبُ

لِلّهِ دَرُّ مُدامٍ بِتُّ أَرْشُفُهَا

مِنْ فِي غَزَالٍ إلى الأتْرَاكِ ينْتَسِبُ

مُهَذَّبُ اللَّحْظِ زَنْجِيُّ السَّوالفِ لم

تَحْوِ الذي قد حَوَاه العُجْمُ والعَربُ

منها:

قالت مَبَاسِمُهُ للبرقِ حينَ سَرَى

لقد حكيْتَ ولكن فاتَكَ الشَّنَبُ

وبِتُّ أَشْدُو على الغُصْنِ الرَّطِيب كذا

بيْني وبينك يا وُرْقَ الحِمَى نَسَبُ

يقولُ لمَّا رأى دمعِي جَرَى ذَهَباً

يا مَطْلَباً ليسَ لي في غيرِهِ أرَبُ

تَبَّتْ يَدَا عاذِلِي عمَّنْ أُعَوِّذُهُ

بالناسِ من نافث أو غاسقٍ يَقِبُ

إنَّ الْمُحَرَّم سُلْوَاني لِطَلْعَتِهِ

فقُل لشَعْبَانَ عنِّي إنني رجبُ

كيف السُّلُوُّ وعيْني كلّما نظَرتْ

لَوامِعَ البرقِ قالتْ زالتِ الحُجُبُ

قوله: إن المحرم.. إلى آخر البيت، زاد فيه المحرم على قول القائل:

وشادنٍ مُبْتسِمٍ عن حَبَبْ

مُوَرَّدِ الخدِّ مَلِيحِ الشَّنَبْ

يلُومُني العاذِل في حُبِّه

وما درَى شعبانُ أنِّي رجبْ

والمراد من شبعان: العاذل؛ ومن رجب: الأصم؛ لأن العرب كانت تسمي المحرم: المؤتمر؛ وصفر: ناجرا؛ وربيع الأول خوانا؛ وربيع الآخر: بصانا؛ وجمادى الأولى: الحنين، وجمادى الآخرة: الرنة؛ ورجب: الأصم؛ وشعبان: العاذل؛ ورمضان: الناتق؛ وشوال: وعلا؛ وذا القعدة: هواعا؛ وذا الحجة: بركا.

وعلى ذكر أسماء الشهور، فلنذكر أسماء الأيام.

وقد نظمها بعضهم، فقال:

أُؤمِّل أن أعِيش وأن يَوْمِي

بأوَّلَ أو بأهْوَنَ أو جُبَارِ

أو التَّالِي دُبار فإنَّ فيها

فمُؤُنِس أو عَرُوبة أو شِيَارِ

ومن شعره قوله معارضاً قصيدة ابن المعتز التي أولها:

سقَى المَطيرة ذات الظِّلِّ والشَّجَرِ

ومستلهها قوله:

ص: 65

ما ماسَ بَانُ الحِمَى مِن نَسْمةِ السَّحَرِ

إلاّ وقد أسْمَعْته طَيِّبَ الخَبَرِ

باللهِ يا نَسْمةَ الأسْحارِ هل خَبَرٌ

فإنني بالنَّبَا أَوْلَى من الشجرِ

ليلِي بما طال لا آوِي إلى سَكَنٍ

هذِي نجومُ السما تُنْبِيكِ عن سَهَرِي

أباتُ أرْعَى السُّها في الليلِ مُكتئِباً

وأدْمُعِي في الثرى ترْبُو على المطرِ

أفْدِي الذين أذاقوني مَودَّتهم

حتى إذا ما رأَوْني هائمَ الفِكَرِ

ساروا بقَلْبِي وخَلَّونِي حَلِيفَ هوىً

حَيْرانَ لا أهْتدِي وِرْداً من الصَّدَرِ

واللهِ إنّ لهم في القلبِ مَنْزلةً

ما حَلّها قبْلَهم شخصٌ من البشَرِ

باللهِ يافَوْجُ صِفْنِي مُنْعِماً لهمُ

واذْكُرْ لهم طِبْقَ ما شاهدتَ من خَبَرِ

وقُل لهم قد غَدا في حُبِّكم شَبَحاً

يكاد يخفَى على الرَّائيِنَ بالبصرِ

لعلَّهم أن يرِقُّوا لي ويفْتكرُوا

تلك الذِّمامَ التي في سالفِ العُمُرِ

ويرْحَمُوا مُدْنَفاً صَبّاً بهم كَلِفاً

أسيرَ حُبٍ لهم في عالَمِ الصِّغَرِ

فاللهُ يُولِيهمُ عِزّاً ويحرُسهم

مدَى الزمانِ من الأسْواءِ والغِيَرِ

وله ملغزاً في اسم علي:

أمَاتَ اصْطِبارِي حين أحيْى تولُّهِي

رَشاً في رياضِ الحُسْنِ بالتِّيهِ يمْرَحُ

ثلاثةُ أرْباعٍ لوَصْفِي هو اسمُه

فيا ليته بالوصلِ لو كان يسمَحُ

وله في يوم شديد الحر:

ويومِ حَرٍ دَهانَا

ما فيه طِيبُ هَواءِ

قالوا نهارٌ قَوِيٌّ

فقتلُ من غيرِ هاءِ

وله:

خَطُّ العِذارِ نَهانِي

عن عِشْقِه حين دَبَّا

واللَّحْظُ بالعشقِ يُغْرِي

والسيفُ أصْدَقُ أنْبَا

وله مضمنا:

يا قلبُ غرَّك محبوبٌ كلِفْتَ به

حتى طمِعتَ بوصلٍ دونَه الخَطَرُ

وإن غُرِرتَ بمن تَهْوَى فلا عَجَبٌ

ما أنت أولُ سارٍ غَرَّهُ قَمَرُ

إبراهيم بن يوسف المهتار فرد الزمان في فنه، أطاعه الأدب إطاعة قنه.

فحلق إلى الأوج بعد الحضيض، وحدق عن سر البلاغة جفنه الغضيض.

إن ذكرت الرقة فهو سوق رقيقها، أو الفصاحة فهو الذي نشأ في سفح عقيقها.

فلو سمع طرفة شعره الرقيق، صار له كأبيه العبد الرقيق.

إلا أن الأيام تلاعبت به تلاعب العابث، واستطالت عليه استطالة العائث.

فحمل من عقوقها ما ليس ينكر، وأقل من عثراتها ما ليس يذكر.

وهو أديبٌ كما وصفته، وشاعرٌ عرفت قدره فأنصفته.

فمن مختاره الذي أطلعه مورقاً جنيا، وألمع به لأهل الأدب مشرقاً سنيا.

قوله:

أرِحْ فؤادِي من العذابِ

بالرَّاح والخُرَّدِ العِذابِ

وعاطِنِيها عروسَ دَنٍ

كالنارِ والعَسْجَدِ المُذابِ

مِن كَفِّ لَمْياءَ إن تَبدَّتْ

تَوارتِ الشمسُ بالحِجابِ

دَعْجاءُ بَلْجاءُ ذاتُ حُسْن

لكلِّ أهلِ العقولِ سَابِي

على رياض مُدَبَّجاتٍ

حاكت سُداها يدُ السَّحابِ

بها القَمارِي مُغرِّداتٍ

على الأفانِين والرَّوابِي

فبادِرِ الأُنْسَ يا نَدِيمِي

وقُمْ إلى اللهوِ والتَّصابِي

أعْطِ زمانَ الشبابِ حَظّاً

فَلذّةُ العيشِ في الشّبَابِ

واجْسُرْ ولا تيْأسَنَّ يوماً

من رحمةِ اللهِ في الحسابِظ

وقوله في صدر قصيدة:

قِفْ بالمعاهدِ من مَيْثاءَ مَلْحوبِ

شَرقِيِّ كاظِمةٍ فالْجِزْعِ فاللُّوبِ

واسْتلْمِحِ البرقَ إذْ تبْدُو لَوامِعُه

على النَّقا هل سقَى حَيَّ الأعاريبِ

يا حبَّذا إذْ بدا يفْتَرُّ مُبْتسِماً

أعْلَى الثَّنِيَّةِ من شُمِّ الشّناخِيبِ

ص: 66

والجَوُّ مُضْطرِمُ الأرْجاءِ تحسَبُه

بُرْداً أُصِيبَ حواشِيه بأُلْهوبِ

يا بارِقاً لاح وَهْناً من دِيارِهمُ

كأنه حين يهْفُو قلبُ مَرعوبِ

أذْكَرتنِي مَعهداً كُنَّا بِجِيرتِه

نسْتقصِرُ الدهرَ من حُسْنٍ ومن طِيبِ

لم أنْسَ بالتَّلَعات الجُونِ مَوقِفنا

والحَيُّ ما بين تقْويضٍ وتطْنِيبِ

وقد بَدا لِعيونِ الصَّحْبِ سِرْبُ ظِباً

حَفّتْ بظَبْيٍ ببيضِ الهند مَحْجوبِ

لم تبدُ تلك الدُّمَى إلا لسَفْكِ دمِي

ولا العِذابُ اللَّمَى إلا لتعْذيبِي

ومن خمرياته:

قُمْ إلى بِنْتِ الكُرومِ

واسْقِنِيها يا ندِيمي

ما ترى الليلَ تولّى

وانْطفَا ضوءُ النجومِ

وأضاء الصبحُ ما بي

ن تصارِيفِ الغُيومِ

وبَدا الطَّلُّ على الأغْ

صانِ كالعِقْدِ النَّظِيمِ

وشَدَتْ قُمْرِيَّةُ الأيْ

كِ على الغُصْنِ القَوِيمِ

وسَرتْ رِيحُ الخُزَا

مى من رُبَى ظَبْيِ الصَّرِيمِ

فأدِرْها خمرةً تُنْ

بي عن العصرِ القديمِ

واسْقِنيها لتُزيلَ ال

يومَ عن قلبي هُمومي

هاتِها لي قهوةً من

عهدِ لُقْمانَ الحكيمِ

وامْلأِ الكاساتِ إنِّي

في الصِّبا غيرُ مَلومِ

أيها النفسُ تَصابَىْ

ثم في العِصْيانِ هِيمي

وعن الذُّلِّ تَوَلَّىْ

وعلى العِزِّ أقِيمي

واكْثرِي الذنب فرَبِّي

غافرُ الذنبِ العظيمِ

وله من قصيدة:

أذْكى بقلي لاعِجَ الأشْجانِ

بَرْقٌ أضاء على رُبَا نَعْمانِ

أجرى مَدامعَ مُقْلَتِي أوْرَى زِنَا

دَ صَبابتِي أشْجَى فؤادِي الْعانِي

ما شاقَنِي إلاّ لأنَّ وَمِيضَه

برُبَا الهوَى ومَعاهدِ الخِلاّنِ

يا بَرْقُ جُدْ بالدَّمْعِ في أطْلالِهم

عني فسَحُّ الدمعِ قد أعْيانِي

لم أسألِ الأجفانَ سَقْيَ عُهودِهمْ

إلاّ وجادت لي بأحمرَ قانِ

وَاهاً لأيامِ العُذَيْبِ إذِ اللِّوَى

وطني وسكانُ الحِمَى جِيرانِي

إذْ كنتُ طَوْعاً للهوى واللهو في

ظُلَلِ الشَّبيبةِ ساحبَ الأرْدانِ

تُشْجِينيَ الوَرْقاءُ إن صاحت على

تلك الغصونِ بنَغْمةِ الألحانِ

ويشُوقُني بانُ النَّقا وحُلولُ وا

دِيهِ وحسنُ الدارِ بالسُّكانِ

وله، موجهاً بأسماء الأنغام:

سلامُ اللهِ من صَبٍ مَشُوقِ

جَريحِ القلبِ باكي المُقْلتيْنِ

على مَن حَلَّ من قلبي السُويْدَا

لِعزَّتِه وحلَّ سوادَ عَيْنِي

نأَى بالصبرِ لَمَّا بان عنِّي

وخلّفني سَهيرَ الفَرْقَدَيْنِ

فليت الرَّكْبَ قد وقفُوا قليلاً

على العُشَّاقِ يوم نَوَى الحَسيْني

ومن غزلياته قوله:

جفَت حِلالُ المَنامِ مُقْلتيَّهْ

مُذ حَلَّ حبُّ الجمالِ مُهْجَتيَّهْ

وأحْرَق القلبَ حَرُّ نَارِ جَوىً

وخَدَّد الخدَّ حَرُّ دَمْعَتيَّهْ

فما تغنَّى الحمامُ في غُصُنٍ

إلاّ وسال الدِّما بوجْنَتيَّهْ

ولا تذكَّرْتُ جِيرةً نزلُوا

بالشِّعْبِ إلاّ نسِيتُ صِحَّتيَّهْ

يا جِيرة الشِّعْبِ هل لِبُعْدِكمُ

حَدٌّ يُرَى أم يُطيلُ مُدَّتيَّهْ

نأيْتمُ والحشَا به حُرَقٌ

فقطَّر الدمعَ فَرْطُ حُرْقَتيَّهْ

فما نسِيتُ العهود بعدكمُ

ولا تحوَّلْتُ عن مَحبَّتيَّهْ

ولستُ أسْلوكمُ وحقِّكمُ

هيْهاتَ زال الهوى بسَلْوَتيَّهْ

ص: 67

أنا الذي صِرتُ فيكمُ مَثيلاً

لاقَيْتُهُ بالغَرام مُدَّعِيَّهْ

ورُبَّ ليلٍ طرقْتُ حَيَّكمْ

أزورُ في الحيِّ رَبْعَ مُنْيِتيَّهْ

مَن يسحرُ الطّرْفَ حُسْنُ بَهجتِها

إذا بدت بالجمالِ مُرتدِيَّهْ

خُرْعُوبةٌ بالمَهَا لها شَبَهٌ

رُعبوبةٌ بالظِّباءِ مُزْدرِيّهْ

مَعشوقَةُ القَدِّ غادةٌ وأرَى

ألحاظَها في النفوس مُعْتدِيَّهْ

أتيْتُها والعيونُ راقدةٌ

وأنْصُلُ القومِ غيرُ مُنْتضِيَّهْ

لمَّا رأتْنِي رَبَّ الجَوَى عَلمت

غَدَتْ لَثْنِي الوِسادِ مُتَّكِيَّهْ

قالتْ أما خِفْتَ قومَنا فلقد

خاطَرْتَ لمَّا قصدْتَ زَوْرَتِيَّهْ

فقلت إنَّ المُحِبَّ مُهْجتُه

للحَيْنِ في الحبِّ غيرُ مُتَّقِيَّهْ

فبِتُّ في ليلتي أُسامِرُها

وبُسْتُ فَاها النَّقِيَّ عَشْرَمِيَّهْ

حتى بَدَا صُبْحُها فَفرَّقنا

لا كان صبحٌ بدَأ بفُرْقَتِيَّهْ

ومن مقطوعاته قوله:

طِفْلٌ من العُرْبِ أحْوَى

خِدْنُ الصِّبا والبَطالَهْ

بَدا بوَجْهٍ كبدرٍ

في جِيدِه الطَّوْقُ هَالَهْ

وقوله مقتبساً في مليحٍ فقير الحال:

تَصُدُّ وكم تَصدَّى منك كَفٌّ

لِمَن لم يدْرِ قَدَّكَ يا مُفَدَّى

وصَدُّك عن أُلِي أدبٍ وأمَّا

مَن اسْتغْنَى فأنْتَ له تَصَدَّى

وقوله:

ألا لا تغْضبَنَّ لمَن تَعالَى

ولا تُبْدِ الودادَ لِمَن جفاكَا

ولا تَر للرِّجالِ عليك حَقّاً

إذا هم لم يَرَوْا لك مثلَ ذَاكَا

وقوله:

كم ذا أُغَمِّضُ عيْني ثُمَّ أفتحُها

والدهرُ ما زال والدنْيا بحَالتِهَا

فليت شِعْرِيَ ما معنَى مَقالتِهمْ

ما بيْن غَمْضةِ عَيْنٍ وانْتباهَتِهَا

وقوله:

وظَبْيٍ رَمانِي عن قِسِيِّ حَواجِبٍ

بأسْهُمِ لَحْظٍ جَرْحُها في الهوى غُنْمُ

على نَفْسِه فلْيَبْكِ مَن ضاع عُمْرُه

وليس له منها نصيبٌ ولا سَهْمُ

قد أكثر الشعراء تضمين هذا المصراع في هذا المعرض، والذي أخذ بنصيبه وسهمه القيراطي، حيث ضمنه في رياض دمشق، ومنها محلان، يقال لهما النصيب والسهم:

دمشقُ بِوديها رِياضٌ نَواضِرٌ

بها ينْجلِي عن قلبِ ناظرِها الْهَمُّ

على نفسِه فلْيَبْكِ مَن ضَاع عُمْرُهُ

وليس له منْها نصِيبٌ ولا سَهْمُ

وله:

أسألُ الرحمنَ ذا الفضْ

لِ إلهَ العَرْشِ رَبِّي

حُسْنَ نَظْمِ الأرَّجانِي

ثم حَظَّ المُتنبِّي

ومما رأيته بخطه، وقد نسبه إلى نفسه، قوله في تشبيه الحجر الأسود:

الحجرُ الأسودُ شبَّهْتُه

خَالاً بخَدِّ البيتِ زَاهٍ سَناهْ

أو أنه بعضُ مَوالِي بني ال

عباسِ بَوَّابٌ لِبَابِ الإلهْ

وله في قناديل المطاف:

تراءتْ قناديلُ المَطافِ لِناظِرِي

على البُعْدِ والظَّلْماءُ ذاتُ تَناهِي

كدائرةٍ من خالِصِ التِّبْرِ وَسْطها

فَتِيتةُ مِسْكٍ وهْي بيتُ إلهِي

وله في المنائر في ليالي رمضان:

كأن المَنائِرَ إذْ أُسْرِجَتْ

قَنادِيلُها في دَياجِي الظَّلامْ

عَرائِسُ قامتْ عليها الحُلَى

لتنْظُرَ بيتَ إلهِ الأنامْ

إبراهيم بن محمد بن مشعل العبدلي السالمي أرق لطفاء الحجاز، وأوحد ذوي الإعجاز بالتطويل والإيجاز.

له طبع نقيٌّ متقد، وشعر يختاره كل منتقٍ منتقد.

تناهبت محاسنه الشوادي والحوادي، فحثت بها المدامة في الحانات والمطايا في البوادي.

وقد أوردت له ما يستخف من الطرب القدود، ويغني عن الوردين ورد الرياض وورد الخدود.

فمن ذلك قوله:

لا أرَّق اللهُ مَن بالسُّقْمِ أرَّقنِي

ولا شَفَى سُقْمَ لَحْظٍ منه أسْقَمنِي

ص: 68

ولا طَفى جَمْرَ خَدٍ منه مُلْتهِباً

وإن يكنَ بالجفا والصدِّ أحْرقنِي

وزاد في ضِيق خَصْرٍ منه ضِقْتُ به

ذَرْعاً وأنْحَلَه إذ كان أنْحلنِي

ولا عَدَا لُعْسَ هاتِيكَ الشِّفاهِ لَمىً

وإن حَمى رَشْفها عنِّي وأعْطَشَنِي

ولا اخْتفتْ من ثَناياه بَوَارِقُها

وإن بكيْتُ لها بالعارضِ الهَتِن

وشَدَّ أقْواسَ تلك الحاجِبيْن وإن

غدت بنَبْلِ العيونِ النُّجْلِ ترشُقنِي

ولم تزلْ شمسُ ذاك الحسنِ مُشْرِقةً

في وجهِه لو بدمعِ العينِ شَرَّقنِي

ودام أهْيَفُ ذاك القَدِّ في مَيَدٍ

ولو أطار الحشا إذ صار كالغُصُنِ

وضاعَف اللهُ ذاك الحسنَ أجْمَعَه

ولو رماني بِضْعف الضُّرِّ في البدنِ

أبْقاه في دَوْلةٍ بالحُسْن زاهرةٍ

ولو جميلُ اصْطِبارِي في هَواه فَنِي

وزاد ذاك المُحَيَّا بهجةً وسَناً

وإن حَمى عن جفوني لَذَّةَ الوَسَنِ

يا مَن جميعُ مَعانيه فُتِنْتُ بها

لا أخْمَدَ اللهُ ما تُبْدِي من الفِتَنِ

أحْسِنْ بوجهِك فالإحسانُ أجمعُه

يليقُ لا غيرُهُ من وجهِك الحَسَنِ

وله معارضاً قصيدة المهتار الهائية:

كم مُهْجةٍ بالغرامِ مُنْسَبِيَّهْ

وما لمِن يقتل الغرامُ دِيَّهْ

فلْيَحْذرِ الحبَّ كلُّ مُحْترِشٍ

به ففيه الحُتُوفُ مُنْطوِيَّهْ

وفي رُبَا شِعْبِ عامرٍ رَشَأٌ

له عيونٌ بالسِّحرِ مُمْتلِيَّهْ

في حُسْنِه اليومَ صار مُنْتهِياً

وعَشْقتِي فيه غير مُنْتهِيَّهْ

كم شمس حُسْنٍ عليه مُشْرقةٌ

منها بدورُ التّمامِ مُخْتفِيَّهْ

إذا بدا مُقْبِلاً ولاح فقد

جعلتُ منه الجَبِينَ قِبْلَتِيَّهْ

لي مُهْجةٌ غَرَّها بِغُرَّتِه

آهاً له عن صِيادِ غُرَّتِيَّهْ

وما هَدانِي بصُبْح طَلْعتِه

إلاّ بلَيْلِ الشُّعورِ ضلَّنِيَّهْ

فحَبَّذا ذلك الضلالُ به

لِمُهْجةٍ بالضلالِ مُهْتدِيَّهْ

وأغْيدٍ ذُبْتُ من مَحبَّتِه

ونفسُه بالجمالِ مُلْتهِيَّهْ

مُحَسَّنِ الخلقِ أحْوَرٍ تَرِفٍ

خِلْقتُه بالكمالِ مُسْتوٍيَّهْ

للحسنِ في وَجْنتيْهِ كلٌّ حَلَا

مَاءٌ ونارٌ أحارَ فِكْرَتِيَّهْ

فلم أنَلْ ماءَ وردِ وَجْنتهِ

ومِن لَظاها أحْشايَ مُلْتظِيَّهْ

لا تعجَبُوا إن فَنِيتُ فيه هوىً

فذاتهُ للهلاكِ مُقْتضِيَّهْ

ووَجْنةٍ بالجمالِ زاهرةٍ

بنَرْجِسِ المُقْلتيْنِ مُحْتمِيَّهْ

ورُبَّ خِدْرٍ طَرَقْتُ بَيْضتَه

والليلُ ظَلْماه غيرُ مُنْجَلِيَّهْ

وحَوْلَها من حُماتِها أُسدٌ على اضْطرابِ الحروبِ مُجْترِيَّهْ

فانْتبهَتْ من لذيذِ نَوْمتِها

تقول مَن ذا يحُلُّ غَرْزَتِيَّهْ

فقلتُ صَبٌّ أذبْتِ مُهْجتَه

بالحُسْنِ يابُغْيتي ومُنْيَتِيَّهْ

قالت لقد رُمْتَ مَطلباً خَطِراً

مِن دونه الموتُ يا مُتيَّمِيَّهْ

أمَا رأيتَ الأسودَ رابِضةً

أما رأيت السيوفَ مَنْتضِيَّهْ

فقلتُ إن المحبَّ مُهْجتَهُ

بالموتِ فيمن يحبُّ مُرْتضِيَّهْ

وحبَّذا يا ابْنةَ الكرامِ إذا

بلغْتُ في مُنْيتِي مَنِيَّتيَّهْ

فيما حياةَ النفوسِ أنا مَن

أعْشَقُ في الغانِياتِ مِيتَتيَّهْ

فقالت الآنَ مَرحباً بفتىً

قد عشِق الموتَ في مَحبَّتِيَّهْ

وأرْشفتْني رَحِيقَ رِيقتِها

والنْفسُ منِّي لذاك مُشْتهِيَّهْ

ص: 69

فرُحْتُ نَشْوانَ من مُقبَّلِها

ورِيقِها ما ألَذَّ سَكْرَتِيَّهْ

وفي ثَنايا نَقِيِّ مَبْسمِها

شُهْدٌ عليه النفوسُ مُحتوِيَّهْ

وما اجْتنَى الشُّهْدَ قَطُّ من بَرَدٍ

غيْرِي فيَامَا ألَذَّ جَنْيَتِيَّهْ

فعند ذا أنْعمتْ وما بخِلتْ

ورُحْتُ أُثْنِي على مَحَبَّتيَّهْ

ومن مقطعاته قوله:

شمسُ الطِّلا بدري غدا

لم يصْحُ من تعْليلِهَا

فالرَّاح قتلة قتْلتِي

وأنا قتيلُ قَتِيلِهَا

ومثله قول الأديب محمد البوني:

يا لَقَوْمِي إنِّي قتيلٌ ببدرٍ

هو أضحَى قتيلَ شمسِ العُقارِ

عَلِمَ اللهُ أنَّ قتْلِي حرامٌ

فاشْغَلَنْهُ بها لتأخذَ ثارِي

محمد بن أحمد البوني كوكب مجدٍ أضاء سناه، وحل بيتاً من الفخر ربه وبناه.

بوجهٍ أضاء نوراً، فملأ القلب فرحة وسروراً.

وسجيةٍ وارية الزناد، ذكر علاها عطر كل ناد.

وله شعر في الرتبة العالية، يرخص عند مسك مداده الغالية.

أثبتت منه ما يفوح فوحة الزهر عبقا، ويتمتع به من كان معتلقا بالشعر الرقيق ومستبقا.

ما دام كأسُ المُحَيَّا باسمَ الشَّنَبِ

فتَرْكُ لَثْمِي له من قِلَّةِ الأدبِ

فاسْتجْلِها بنتَ كَرْمٍ مع ذوي كَرَمٍ

مِن كَفِّ ساقٍ ببُرْدِ الحُسْن مُحْتجِبِ

كالبدر يسْعَى بشمسِ الرَّاح في يدِه

فاعْجَبْ لبدرٍ سعَى بالشمسِ للَّهَبِ

إذا رَنا قلت خِشْفٌ في تَلفُّتِه

وإن تثنَّى فغُصْنٌ ماسَ في الكُثُبِ

مَن لي بها وهْي تُجْلَى في زُجاجتِها

ومِن سَنَا مُؤْنسٍ باللهوِ والطَّرَبِ

مَعْ رُفْقةٍ كالنجُومِ الزُّهْرِ ساطعةً

حازُوا جميعَ النُّهَى والذَّوْقِ في العربِ

والوُرْقُ تشْدو على الأغْصانِ قائلةً

باكِرْ صَبُوحَك بالكاساتِ والنُّجُبِ

وكتب إليه إبراهيم المهتار قصيدة، مستهلها:

بقلبِيَ سيفَ اللَّواحِظِ سَنَّهْ

وأفْرَضَ وَجْدِي وهَجْرِيَ سَنَّهْ

فأجابه بقصيدة، أولها:

أجبْتُك مولايَ من غيرِ مِنَّهْ

فذَوْقُك قد خَصَّني الفضُ مِنَّهْ

وإنِّي مُطِيعُك فيما أمرتَ

به ووِدادِي كما تَعْهدَتَّهْ

منها:

عجبتُ لسحرِ عيونِ الظِّبا

تصيدُ القساوِرَ من غَابِهِنَّهْ

وهُنَّ الدُّمَى الخُرَّدُ الآنِساتُ

ومَن لهمُ الشِّعْبَ أضْحَى مِظَنَّهْ

فكم دون أخْدارِها مَهْلَكٌ

وكم حولَه من جِيادٍ مُعَنَّهْ

بِبيضِ الصِّفاح وسُمْرِ الرِّماحِ

وصُفْرِ القِسيِّ وزُرْقِ الأسِنَّهْ

فحيَّى حِمَى الشِّعْبِ من عامرٍ

حياً هَمُّه سَقْيُ أطْلالِهِنَّهْ

فثَمَّ الغَوانِي المِلاحِ الصِّباحِ

يَرِنُّ الوِشاحُ بأعْطافِهِنَّهْ

إذا مِسْنَ ما بين تلك الخُدورِ

تُحاكِي الْقَنا لِينَ قامتِهِنَّهْ

فطيرُ الحَشَا لم يزَلْ واجِباً

عليهِنَّ إن لُحْنَ في حَيِّهنَّهْ

ومن ثَمَّ أحْوَى بديعُ الجمالِ

حوَى اللُّطْفُ والظُّرْفَ مِن بَيْنِهنَّهْ

رَشاً خَصْرُه مُضْمَرٌ ناحِلٌ

إذا قام والرِّدْفُ ما أرْجَحَنَّهْ

فوَجْنتُه منذُ دَبَّ العِذارُ

حكَتْ يا ذَوِي العِشْقِ ناراً وجَنَّهْ

قوله: فطير الحشا قد غدا واجبا، أحسن فيه وأجاد.

وطيور الواجب المتعارفة عند أرباب القوس والبندق أربعة عشر، وهي: الكركي، والشبيطر، والعنز، والسوغ، والمرزم، والغرنوق.

وهذه الستة يقال لها: قصار السبق.

والنسر، والعقاب، والإوز، والتم، واللغلغ، والأنيسة، والكوى.

ويقال لها: طوال السبق.

وإنما قيل لها طيور الواجب؛ لأن الرامي كان لا يطلق عليه لفظ الرامي، إلا بعد قتله هذه بأجمعها بالبندق وجوباً صناعياً.

ص: 70

ومن مقاطيعه قوله:

أنْحَلَ اللهُ خَصْرَ ذاتِ المِثالِ

فهْي واللهِ لا ترِقُّ لحالِي

وأراني ألْحاظَها في انْكسارٍ

ولَظَى جَمْرِ خدِّها في اشْتعالِ

وأصلُه قول ابن الرومي:

أنْحَلتْني حبيبتي

أنْحَلَ اللهُ خَصْرَهَا

كسَرتْني جفُونُها

ضاعَف اللهُ كَسْرَهَا

ومثله قول إبراهيم بن مشعل:

أضْعَفَ الجسمَ فاتِنِي

ضاعَف اللهُ حُسْنَهُ

سَقَمِي من جُفونِه

لا عدا السُّقْمُ جَفْنَهُ

وقوله:

لا طفا اللهُ جَمْرَ خَدِّ حبيبٍ

قد كَوانِي بهَجْرِه والصُّدودِ

وحَماه من عارِض وأراني

سُقْمَ عيْنيْه دائماً في مَزِيدِ

فخر الدين أبو بكر بن محمد الخاتوني أديبٌ منطبع السليقة، متكافىء الخلق والخليقة.

قلد الطروس فخراً بكلمه، وحشر الصواب بين بنانه وقلمه.

وجرى طلقاً في ميدان القريض، فدلت على سبقه كلمة الكلمة بالتصريح والتعريض.

وقد رأيت له قطعاً فذة، منازعها مستلذة.

فمنها قوله في غربية المكية، وقد هام بها هيمان المعتمد بالرميكية.

رُبَّ سَمْراءَ كالمُثقَّفِ لَمَّا

خطَرتْ في الغلائلِ السُّنْدُسِيَّهْ

غادةٌ تسلُبُ العقولَ ولا بِدْ

عَ وأعمالُ طَرْفِها سِحْريَّهْ

جُبِلتْ ذاتُها من المَنْدَلِ الرَّطْ

ب ففاقتْ على الرِّياض الزَّكِيَّهْ

مالَها في الغُصونِ نِدٌّ وليس النَّ

دُّ إلَاّ من ذاتِها المِسْكِيَّهْ

منها:

هي للقلبِ مُنْيةٌ ولكم مِن

صَدِّها الصَّبُّ ذاقَ طعمَ المَنِيَّهْ

ذاتُ لَحْظٍ وَسْنانَ يَفْعل ما لمْ

يفعلِ السيفُ في قلوبِ الرَّعِيَّهْ

ومُحَيّاً مِن دونِه يخْسَف البَدْ

رُ إذا لاح في الليالي البَهِيَّهْ

حَوَتِ الحُسْنَ كلَّه فهْي ممَّا

أبْدَعَ اللهُ صُنْعَه في البَرِيَّهْ

شَبَّهوها عند التلفُّتِ بالظَّبْ

يِ وهيْهات ما هُما بالسَّوِيَّهْ

كلُّ شيءٍ يخْفَى إذا ما تبدَّتْ

وهْي كالشمسِ لا تزال مُضِيَّهْ

ليت شِعْرِي وأيُّ شمسٍ بشرقٍ

لك تبْقَى إذا بدتْ غَرْبِيَّهْ

وله يرثي السيد أحمد بن مسعود، لما بلغه خبرُ موتِه:

على فَقْدِ بدر التِّمِّ أحمدَ لْتَجُدْ

لعُظْمِ الأسَى من كلِّ نَدْبٍ شُئونُهُ

وإلَاّ فمن يا ليت شِعْرِيَ بعدَه

إذا هي لم تسمحْ تسِحُّ جُفونُهُ

فتىً كان والأيامُ للجَدْبِ كُلَّحٌ

إذا أمَّه العافِي أضاءَ جَبِينُهُ

فتُبْصِرُ بدراً منه قد تمَّ حسنُه

وتنْشَق روضاً قد تناهَتْ فُنونُهُ

تجود وإن أوْدَى الزمانُ يَسارُه

بما قد حَوَتْ من كلّ وَفْرٍ يَمِينُهُ

فقُل للذي قد جَدَّ في طَلَبِ النَّدَى

رُوَيْدَك إن الجودَ سارتْ ظُعونُهُ

وقد غاب من أُفْقِ الكمالِ مُنِيرُه

كما غار من بحرِ النَّوالِ مَعِينُهُ

وأصبح وجهُ المجدِ للحُزْن كالِحاً

كأنْ لم تكن من قبلُ قرَّتْ عيونُهُ

سأبْكيه والآدابُ أجمعُها معي

بدمعٍ تَوَدُّ السُّحْبُ يوماً تكونُهُ

ولِمْ لا عليه الفخرُ يبْكي تأسُّفاً

وقد حُقَّ منه البَيْنُ وهْو خَدِينُهُ

فذاك الذي عن مِثْلِه يقْبُح العَزَا

ويحسُن إلَاّ مِن هواه سكونُهُ

عليه من الله التحيَّةُ ما وفَتْ

بفُرْقتِه من كلِّ حَيِّ مَنونُهُ

ورحمتُه ما حَنَّ أوْ ناحَ وَالِهٌ

نأَى عنه من بعدِ التَّدانِي قَرِينُهُ

وله في الفوارة:

ألا مِلْ إلى روضٍ به بِرْكَةٌ زَهَتْ

بفَوَّارةٍ فيها كفَصٍ من الْمَاسِ

إذا ما أتاها زائرٌ قام ماؤُها

فأجْلَسَه منها على العَيْنِ والرَّاسِ

ص: 71

علي بن القاسم بن نعمة الله المعروف بالمنلا وجده الرابع من آبائه الشيخ ظهير الدين، علامة شيراز في زمانه، وسر التحقيق الذي أظهره الدهر بعد كتمانه.

وعلي هذا فرعٌ من فروع دوحته، بان فضله من حين جيئته وروحته.

فظهر أوان الظهور وساد، وشاد من دعائم مجده المؤثل ما شاد.

بهمةٍ إلى صرف العلى مصروفة، وشيمةٍ بإسداء المعروف معروفة.

وأما فضله فالبراعة ميدان مجاله، والنباهة محل رويته وارتجاله.

وله شعر سهل طريقه وساغ، فانساغ مع الرقة ألطف مساغ.

فمنه قوله، مضمنا:

ولمَّا أتتْني من جَنابِك نَفْحةٌ

تضَوَّع من أنْفاسِها المسكُ والنَّدُّ

وقفْتُ فأتْبعْتُ الرسولَ مُسائِلاً

وأنْشدْتُه بيتاً هو العَلَمُ الفَرْدُ

وحدَّثْتني يا سعدُ عنها فزِدْتني

شُجوناً فزِدْنِي من شجُونِك يا سعدُ

والبيت المضمن للعباس بن الأحنف، وبعده:

هَواها هَوىً لم يعرِف القلبُ غيرَه

فليس له قَبْلٌ وليس له بَعْدُ

وله، وكتبه في صدر كتاب:

أناخَ بسُوحِي جيشُ همٍ وإبْطالِ

وأضحَى قَرِينَ القلب من بعدِ تَرْحالِ

وما فَلَّ ذاك الجيشَ غيرُ صَحِيفةٍ

تجِلُّ لَعَمْرِي عن شَبِيهٍ وأمْثالِ

أتَتْ تسلُب الألبابَ طُرّاً كأنها

رَبيبةُ خِدْرٍ ذاتُ سِمْطٍ وخَلْخالِ

أتَتْ من خَليلٍ قثربه غاية المُنى

ومنظرُه الأَسْنى غدا جُلَّ آمالي

فلا زال مَحْفوظاً عن الحُزْنِ والأسَى

ولا زال مَحْفوفاً بعِزّ وإجْلالِ

ولده أحمد هو في هذه الأخلاف، يذكر بما يذكر به كبار الأسلاف.

من تقوى تعمر بها ظاهره، ومن صيانةٍ تجملت بها مظاهره.

وقد رأيته بمكة المعظمة، وفرائد آدابه بليت الزمان منظمة.

وهو من النعمة في ظلٍ رطيب المطارح، ومن الكرامة في حمىً رحيب المسارح.

فتناولت من مناظيمه قطعاً كحدائق الجنان، فدونك منها ما يتمتع به الطرف والجنان.

فمنها قوله، من قصيدة أولها:

يا أخِلَاّئي بجَرْعاءِ الحِمَى

ما لِصافِي وُدِّنا عاد أُجاجَا

وليالٍ بِمنىً قَضَّيْتُها

مَعْ نَدِيمٍ لم يكنْ في الحب دَاجَا

ومِليح كاملٍ في حُسْنِه

يفضَح الأقمارَ حُسْناً وانْبِلاجَا

فسعَى في شَتِّنا دهرٌ بَنَى

بيْننا من فادِح البَيْن رِتاجَا

فتنَاءَوْا وتبدَّلْتُ بهم

فِتْنةً حادتْ عن الحقِّ اعْوِجاجَا

وقوله من أخرى:

سقى اللهُ رَبْعاً بالأجارعِ من هندِ

وحَيَّى الحْيَا وادِي الأراكةِ والرَّنْدِ

مَغانٍ بها كان الزَّمانُ مُساعدِي

بأفْنانِ بِشْرٍ من أسِرَّتِه يُبْدِي

ورِيمٍ إذا ما لاح ضوءُ جَبينِه

بفَرْعٍ حكَى لَيل التَّباعُدِ من هنْدِ

أرَانا مُحَيّاً كالغزالةِ في الضحى

أو البدرِ في بُرْجِ التَّكامُلِ والسَّعْدِ

له مُقْلةٌ وَسْناءُ ترشق أسْهُماً

تُصِيب الحشَا قبلَ الجوارِحِ والجِلْدِ

وثَغْرٌ إذَا ما ضاءَ في جُنْحِ دامِسٍ

توهَّمْتَ دُرّاً قد تنضَّد في عِقْدِ

يُدير به ظَلْماً كأنَّ مَذاقَهُ

جَنَى الطَّلْعِ أو صِرْفُ السُّلافِ أو الشُّهْدِ

وتالِعُ جيدٍ ما الغزالةُ إن عَطَتْ

بمُنْعرجِ الجَرْعاءِ طالبةَ الوِرْدِ

وصَعْدَةُ قَدٍ إن تُقل غُصُن النَّقَا

يقول لها هيْهات ما ذاك من نِدِّي

ورِدْفٌ تَشكَّى الخَصْرُ أعْباءَ ثُقْلِهِ

فنَاء به حتى تضاءَلَ عن جُهْدِ

فلله هاتيك الليالي التي خَلَتْ

وعُوِّضْتُ عنها بالقَطِيعة والبُعْدِ

وأصبحتُ والأحشاءُ يذْكُو لَهِيبُها

ألِيفَ النوى حِلْفَ الجوى دائمَ السُّهْدِ

ص: 72

أروح وأغْدُو واجِداً بين أضْلُعِي

لَهِيبَ جَوىً لم يخْلُ حِيناً من الوَقْدِ

أعَضُّ بَنانِي حسرةً وتأسُّفاً

وأنْدُب عصراً لم أبِتْ خالياًَ وحْدِي

وأُرْسِلُ دَمْعاً كالغمَامِ إذا هَمَى

فهيْهات أن يُغْني التأسُّفُ أو يُجْدِي

إلى الله أشْكُو جَوْرَ دهرٍ إذا عَدَا

على المرء حَاجَاه بألْسِنَةِ لُدِّ

وقائلةٍ والعيْشُ يُزعِجُه النَّوَى

وعَبْرتُها كالطَّلِّ يسقط في الوَرْدِ

لبئس المُنَى أن تقطعَ البِيدَ بالسُّرَى

وترْحلَ عن وادِ المُحصَّبِ للهِنْدِ

فقلتُ لها ما القَصْدُ واللهِ مُنْيَةً

ولا نَيْلَ سُؤالٍ من عَرُوضٍ ومن نَقْدِ

ولكنْ لأقُضِي شُكْرَ سالِفِ نِعْمةٍ

مُشيَّدةِ الأرْكانِ بالأَبِ والجَدِّ

لأكْرَمِ مَوْلىً ألْبَستْ يدُه الوَرى

مَطارِفَ نَعْماءٍ تجِلُّ عن الحَدِّ

ومن شعره قوله مجيباً لصاحب السلافة، عن أبيات كتبها إليه، لغرضً عرض:

أبا حسنٍ لا زال سَعْدُك غالباً

وجَدُّكَ مَسْعوداً ونَجْمُك ثاقِبَا

ولا زالتِ العَلْياءُ تُجْنَى ثِمارُها

لَديْك وتَحْوِي في المَعالي الأطايِبَا

أتاني قَرِيضٌ منك قد جرَّ ذيلَه

على الأطْلَسِ الأعْلَى وفاق الكَواكبَا

يُشِير إلى خِلٍ تغيَّر وُدُّهُ

وأصبح من بعدِ التَّحابِي مُحارِبَا

أبَى اللهُ أن يَثْنِي عِنانَ وِدادِه

ولو مَطَرتْ سُحْبُ الغوادِي قَواضِبَا

ولكنه يا مَفْخَرَ العربِ امْرُؤٌ

يُجرَّع من هذا الزمانِ مَصائِبَا

فجرَّد عَزْماً للتَّجافِي عن الورى

وأصبح مُنْحازاً عن الخلقِ جانِبَا

فصبراً لهذا الدهرِ إنَّ صُروفَه

لَعَمْرُكَ تُبْدِي من قضاها عجائِبَا

سيصْفو شرابٌ مَرَّ دهراً مُكدَّراً

ويرضَى مُحِبٌّ ظلَّ حِيناً مُغاضِبَا

فإن ضميرِي لا يزال مُنازِعِي

بأنَّك تَرْقَى في المَعالي مَراتِبَا

مَراتِبُ تسْمُو للسِّماكَيْن رِفْعةً

تقُود بها خَيْلَ الفخار جَنائِبَا

فذلك عندي عن تَقيٍ مُكَرَّمٍ

صَدُوقٍ إذا ما قال لم يُلْفَ كاذِبَا

وما زلتُ أرْعَى قولَه في مَواطنٍ

فألْفيْتُه ثَبْتَ المَقالةِ صائِبَا

ودُمْ رَاقِياً للمجدِ أرْفعَ رُتْبةٍ

تُبيدُ الأعادي أو تُنيِل الرَّغائِبَا

أحمد بن أبي القاسم الخلي من أولى الناس للمجد تفصيلا، وأحقهم للترجيح تكميلاً وتفضيلا.

لم ترفع عن أحسن من محاسنه النقب، ولم تتشرف بأفضل من مآثره الحقب.

ولقد منيت به في إحدى ثلاثة منى، وحصلت منه على ما كنت أتوقعه من أمنيةٍ ومنى.

في هنيئة أقصر من رجعة طرف، وأخصر من كتابة حرف.

فرأيت فاضلاً ألقى دلوه في بحر الأدب فنزفه، ومد إلى غصنه الفينان فقطفه.

وأنشدني من شعره ما تحسد اتساقه الثغور، وتغزله شهب السماء فتغور.

فمنه قوله من قصيدة:

حَيَّى الْحَيَا مَراتِعاً بنَجْدِ

قد طاب فيها صَدَرِي ووِرْدِي

مَراتعاً كنتُ سميراً للدُّمَى

بها وتِرْبَ ناهِدات النَّهْدِ

من كلِّ هَيْفاءِ القَوام غادةٍ

يبْسَم فَاها عن لآلِي عِقْدِ

إذا انْثنَى بالدَّلِّ لَدْنُ قَدِّها

فأين منه عَذَباتُ الرَّنْدِ

ثقيلةُ الرِّدْفِ هضِيمةُ الحشا

يحْكيهما تجلُّدِي ووَجْدِي

ضعيفةُ الخَصْرِ ولكن فِعْلُه

في القلبِ أبْلانِي بضَعْفِ الجُهْدِ

كثيرةُ الخُلْفِ فما لِصَبِّها

مَطْلُ وَعِيدٍ ونَجازُ وَعْدِ

ص: 73

مَيَّالةُ العِطْفِ لغيرِ عاشقٍ

مَلُولةُ الإلْفِ لغيرِ الصَّدِّ

رَيَّانةُ الجسمِ يظَلُّ شارِقاً

دُمْلُجُها مِنها بماءِ الزَّنْدِ

لها مُحَيّاً كالصباحِ أبْلَجٌ

من فوقهِ ليلٌ أثِيثٌ جَعْدُ

وناظرٌ أجْرَى دموعَ ناظرِي

وَقْفاً على عامِلِ ذاك القَدِّ

وحاجبٌ حجب عن جَفْنِي الكَرى

كأنه مُوَكَّلٌ بالسَّرْدِ

شكَوْتُ ما ألْقَى لِقاسِي قَدِّها

هيهْات هل تعْطِف من صَلْدِ

يا قلْبَها إن كنتَ صخراً إنني ال

خَنْساءُ فارْحَمْ لَوْعتِي وسُهْدِي

وقوله من قصيدة نبوية، مطلعها:

مَن لصَبٍ في الحبِّ أفْنَى زمانَهْ

وهو إلْفُ اسْتكانةٍ وزَمانَهْ

قد بَراهُ الهوى فصار خيالاً

لو أتَى عائدٌ لضَلَّ مكانَهْ

لَذّ ذُلُّ الهوى وهو حُرٌّ

فهْو يهوَى الهَوى ويهْوَى هَوانَهْ

كلَّما هبَّتِ الصَّبا هام شوقاً

لزَرُودٍ وهيَّجَتْ أشْجانَهْ

يا رعَى اللهُ عصرَ أُنْسٍ تقضَّى

بربُاها وما قضَيْتُ لُبانَهْ

وسقَى صَيِّبُ الغمامِ ثَراها

لا دموعِي ودِيمَةٌ هَتَّانَهْ

أنا أخْشَى من دمعِ عيني عليها

قد رأيتمُ يوم النَّوَى طُوفانَهْ

يا خليلِي إذا أتيْتَ إليها

وتراءَتْ تلك القِبابُ المُصانَهْ

قِفْ بها ساعةً وسَلْ عن فؤادي

سَاكِنِيها لعل تعرِفُ شَانَهْ

أخذُوه يومَ الوَداعِ الأُحَيْبا

بُ كأنَّ الفؤادَ عندي أمانَهْ

تركُوني جسماً ولا قلبَ فيه

ما حَياتي واللهِ إلَاّ مَجانَهْ

يا عَذ ُولِي إليك عنِّي فلا قلْ

ب أَراه فأرْتجِي سُلْوانَهْ

أجنُونٌ أصاب عاذِليَ الغِمْ

رَ وإلَاّ مثلي أضاع جَنانَهْ

ما درَى أن عَذْلَه يُضْرِمَ الوَجْ

دَ أجَلْ لو درَى لألْوَى عِنانَهْ

أتُراه من بعد أن شِبْتُ في الْحُبِّ

وأصبحتُ في الهوى تُرْجُمانَهْ

ينتهي في صَرْف قلبي الأما

ني فالأماني بُروقُها خَ، انَهْ

كيف صَرْفُ الفؤاد قُلْ لي وهذا

حُسْنُ ليلَى عَمَّ الوجودَ فزَانَهْ

لو رآها رأى الذي يبْهر العقْ

لَ وينْسَى الرَّائِي به أحْزانَهْ

إنّ داعِي جمالِها قام يدعو

مُوضِحاً للصِّبابها بُرْهانَهْ

جَلَّ مَن صاغَها طريقاً إلى الرُّشْ

دِ وأُنْمُوذَجاً يُرينا جِنانَهْ

نُزْهةٌ للعيون ننْظُرُ فيها

قمراً مُشرِقاً على خُوطِ بَانَهْ

وجَبِيناً يحْكِي الهلالَ وفَرْعاً

مثلَ لَيْلِي إذا انثنَتْ غَضْبانَهْ

وعيوناً لا شكَّ عندي هي الدُّن

يا أراها قَتَّالةً فَتَّانَهْ

وثَنايَا كأنَّهُنَّ الَّلآلِي

ورُضاباً أظنُّه خمْرَ حَانَهْ

طالما أخمدَتْ به وَهَجَ القلْ

بِ المُعَنَّى وأطْفأتْ نِيرانَهْ

وأتتْني من غيرِ سابقِ وَعْدٍ

تتهادَى كأنَّها نَشْوانَهْ

فامْتزجْنا من العِناقِ وبِتْنَا

في سرابيلِ عِفَّةٍ وصِيانَهْ

نتَعاطَى من الحديثِ كؤُوساً

هيَ أشْهَى من أكْؤُسٍ مَلآنَهْ

ثم قالتْ خُذْ في مَدائِحِ طه

عَيْنِ هذا الوجودِ بل إنْسانَهْ

وله من موشح مستبدع، مستهله:

حتَّى متَى هذا الرَّشا الأكْحَلْ

بَاهِي الجَبِينْ

غيري يَفِي وها أنا أُهْمَلْ

الله يُعِينْ

ما حِيلتِي قد زاد بي البَلْبَالْ

ومُهْجتِي تقطَّعتْ أوْصالْ

ص: 74

وعَبْرتِي كالعارِضَ الهَطالْ

قد شَتَّتا نَوْمِ وقد أبْطلْ

حَوْلِي المتينْ

مَن مُنصِفِي منه وما أعملْ

يا مسلمينْ

هَويتُه حلوَ اللَّمَى أرْعَنْ

شَتِيتُه كاللؤلُؤِ المُثْمَنْ

فليْته يُبيحُنِي مِن أنْ

وَاحَسْرتَا إن كُنتُ لا أحْملْ

مَن ذَا المُعينْ

وينْطفي في القلبِ ما أشْعَلْ

وَجْدِي سِنِينْ

أصْمَى الْحَشا بطَرْفِه النَّبَّالْ

وأدْهشَا لُبِّي وعقلي زالْ

ولو يَشا ما صِرتُ في ذا الحالْ

تفَّتتا قلبي بما حَمَلْ

أنتَ الضَّمِينْ

يا مُتْلفِي ظُلْماً وقد أجْمَلْ

حَلَّ اليمِينْ

ما بَراحٌ عن حُبِّه كَلَاّ

ولا سَراحٌ عن عِشْقِه أصْلَا

إلَاّ امْتداحُ خير الورَى أصْلَا

من قد أتَى من ربِّنا مُرْسَلْ

للعالَمينْ

المُقْتفِي والسيِّدُ الأكْمَلْ

طه الأمينْ

وله من آخر:

يا مَن لقتْلِي ظُلْماً أحَلَاّ

والقلبَ حَلَاّ

مَن لدمِ المسلمِ اسْتحلَاّ

ما قَطُّ حَلَاّ

جَفاك طَعْمَ المَنونِ حَلَاّ

والصبرَ حَلَاّ

لم يحْكِكَ الظَّبْيُ لو تجلَّى

فأنتَ أحْلَى

يا مُنْيةَ القلبِ كم تدورُ

على هَلاكِي وكن تجورُ

هذا من الدَّلِّ أم غرورُ

جرَّدْتَ من مُقْلتيْكَ نَصْلَا

ورُشْتَ نَبْلَا

أثْخَنْتَ لمَّا أمِنْتَ عَقْلَا

نَهْباً وقَتْلَا

اللهَ في عاشقٍ غريبِ

مُضْنىً كئيبِ

أضْحَى من النَّوْحِ والنَّحيبِ

كعَنْدَلِيبِ

فارجِعْ إلى اللهِ من قريبِ

وكُنْ مُجيبي

وامْنَح المُسْتهامَ وَصْلَا

فالقلبُ يَصْلَى

حُمِّلْتُ ما لا يُطاقُ أصْلَا

عَقْلاً ونَقْلَا

يا كاملَ الْحُسْنِ والجمالِ

يا بارعَ الغَنْجِ والدَّلالِ

يا فاضحَ الغُصْنِ والغزالِ

أنت من النَّيِّريْن أعْلَى

سَناً وأغْلَى

وجْهُك للبدرِ لو تجلَّى

به تَمَلَّى

أضعْتَ عُمْرَ الشَّجِيِّ قَصْدَا

هَجْراً وصَدَّا

لم تَرْعَ لي يا مَلُولُ وُدَّا

وخُنْتَ عَهْدَا

وسِرْتَ تسْطُو عليَّ عَمْداً

لم تَخْشَ حَدَّا

حَلَفتَ من قبل ذاك أنْ لَا

تُسِيءَ فِعْلَا

نَسِيتَ لي ذِمَّةً وإلَاّ

فاعْطِفْ وإلَاّ

أخوه محمد هو لروضه شقيق، ومثله بالمدح حقيق.

مشحوذ سنان البيان، مصقول أطراف البنان.

وأنا وإن لم أتمل برؤية جماله، فقد استمليت طرفاً من خبر فضله وكماله.

وقد أهدى إلي تحفاً من أشعاره الغضة، فأخذت من راحها بالمصة ومن تفاحها بالعضة.

فمما جردته منها قوله:

باللهِ يا ريحُ هُزِّي غُصْنَ قامتِه

وحاذِرِي العارِضَ النَّمَّامَ في السَّحَرِ

وشَوِّشِي رَوْضَ خَدَّيْه على عَجَلٍ

ثم انْتَحِي نحو ذاك المَبْسَمِ العَطِرِ

وضَمِّخِي الكونَ من رَيَّاه وانْتهِزِي

لي فُرْصةً بين ذاك الوِرْدِ والصَّدَرِ

وعانقِي قَدَّه الزَّاهِي فمما لِشَجٍ

إلَاّكِ شافيةٌ قد جاء في الخَبَرِ

وحدِّثيه بأنِّي في هَواه لَقىً

قد حالفتْنِي يدُ الأسْقامِ والغِيَرِ

مُبَلْبَلُ البالِ أرْعَى النجمَ مُكْتئِباً

نَحِيلَ جسمٍ صَرِيعَ الدَّالِّ والحَوَرِ

ص: 75

كأنَّ عَيْنِيَ لا تَهْدِي بها رَمَدٌ

وأن أهْدَابَها قُدَّتْ من الإِبَرِ

لعل مَسْراكِ يُطفِي ما تضَمَّنَه

قلبٌ تَقَّسم بين الوَجْدِ والفِكَرِ

للهِ أنْتِ فكم طَوَّقْتِنِي مِنَناً

سَحْبانُ في وَصْفِها يُعْزَى إلى الحَصَرِ

لأشْكُرنَّكِ ما غَنَّتْ مُطوَّقةٌ

على الغصونِ بذاتِ الضَّالِ والسَّمُرِ

وما سرَى البَرْقُ وَهْناً من ديارِهمُ

وما هَمَى العارِضُ الرَّجَّافُ بالمطرِ

وقد عارض بها أبيات الطغرائي، التي أولها:

بالله يا ريحُ إن مُكِّنْتِ ثانيةٍ

من صُدْغِه فأقِيمِي فيه واسْتَتِرِي

وقوله:

ولقد ذكرتُك والنجومُ سَواهِمٌ

والجَوُّ من نَقْعِ السَّلاهِبِ مُظلِمُ

والْحَرْبُ تُسْعر بالحرُوب كُماتها

والبِيضُ تُنْثَر والعَوالِي تُنْظَمُ

وكأنما خُضْرُ الدُّروعِ مَجَرَّةٌ

وسَنَأ المَغافرِ في سَنَاها أنْجُمُ

فغدَوْتُ أقْتحِمُ المَعامِعَ إذْ حَكَتْ

مَعْنىً لحسنِك أبْلَجاً يتبسَّمُ

هذا الأسلوب استعمله الشعراء كثيراً.

قال مجنون ليلى:

ذكرتُك والحَجِيجُ له ضَجِيجٌ

بمكةَ والقلوبُ لها وَجِيبُ

مصعب بن زرارة:

ولقد ذكرتُكِ والمَنِيَّةُ بيْننا

تحت الخَوافِقِ والقلوبُ خَوافِقُ

الوزير أبو الحسن بن القبطرنة:

ذكرتُ سُلَيْمَى وحَرُّ الوَغَى

بقلبِيَ ساعةَ فارقْتُهَا

وأبصرتُ بين القَنا قَدَّها

وقد مِلْنَ نَحْوِي فقبَّلْتُهَا

أبو طالب الرقي:

ولقد ذكرتُكِ والظلامُ كأنه

يومُ النَّوَى وفؤادُ مَن لم يَعْشَقِ

عطية السلمي:

ولقد ذكرتُكِ والرِّماحُ تنُوشُنِي

عند الإمامِ وساعدِي مَغْلُولُ

ولقد ذكرتُك والذي أنا عبدُه

والسيفُ بين ذُؤابتي مَسْلُولُ

أبو حيان:

ولقد ذكرتُكِ والبحرُ الخِضَمُّ طَغَتْ

أمْواجُه والورى منه على حَذَرِ

مثله لابن رشيق:

ولقد ذكرتُكِ في السفينةِ والرَّدَى

مثتوقَّعٌ بِتلاطُمِ الأمْواجِ

وعلَتْ لأصحابِ السفينةِ ضَجَّةٌ

وأنا وذِكْرُكِ في ألَذِّ تَناجِي

الصفي الحلي:

ولقد ذكرتُكِ والجَماجِمُ وُقَّعٌ

تحت السَّنابِكِ والأكُفُّ تطِيرُ

والْهَامُ في أُفُقِ العَجَاجةِ حُوَّمٌ

فكأنَّها فوق النُّسُورِ نُسورُ

فظَنَنْتُ أني في مجالسِ لَذَّتِي

والرَّاحُ تُجْلَى والكؤوسُ تدُورُ

وقال أيضاً:

ولقد ذكرتُكِ والعَجاجُ كأنه

مَطْلُ الغَنِيِّ وسوءُ عَيْشِ المُعْسِرِ

فظننْتُ أني في صَباحٍ مُسْفِرٍ

من ضَوْءِ وجهِك أو سَناءٍ مُقْمِرِ

الطغرائي، وما أرق قوله:

إنِّي لأَذْكرُكم وقد بلَغ الظَّمَا

منِّي فأشْرَقُ بالزُّلالِ الباردِ

وأقولُ ليت أحِبَّتِي عايَنْتُهمْ

قبل المَماتِ ولو بيومٍ واحدِ

أبو عطاء السندي الحماسي:

ذكرتُكِ والخَطِّيُّ يخطِر بَيْنَنا

وقد نهِلتْ مِنَّا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ

مثله:

وإني جُلْتُ في جيشِ الأعادِي

برُمْحِي وهْو في فكرِ يجُولُ

مجير الدين بن تميم:

ولقد ذكرتك حين أنْكَرَتِ الظُّبا

أغْمَادَها وتعارفَتْ في الْهامِ

والنَّبْلُ من خَلَلِ الغُبارِ كأنه

مُنْهَلُّ قَطْرٍ من فُروجِ غَمامِ

فاسْتَصْغرَتْ عيْنايَ أفْواجَ العِدَى

والموتُ خَلْفِي تارةً وأمَامِي

ابن مطروح:

ذكرتُكم والعَوالِي في الطُّلَى تَرِدُ

في مَوْقفٍ فيه يَنْسَى الوالدَ الوَلَدُ

وما نسيْتُكِ والأرْواحُ سائِلةٌ

على السيوفِ ونارُ الحربِ تَتَّقِدُ

وقال أيضاً:

ص: 76

ولقد ذكرتكِ والصَّوارِمُ لُمَّعٌ

من حَوْلِنا والسَّمْهَرِيَّةُ شُرَّعُ

وعلى مُكافحةِ السيوفِ ففي الْحَشَا

شَوْقٌ إليكِ تَضِيقُ عنه الأضْلُعُ

ومن الصِّبا وهَلُمَّ جَرّاً شِيمَتِي

حْفْظُ العهودِ فكيف عنها أرْجِعُ

عبد الله بن حسين بن محمد بن أحمد بن مبارك بن طرفة السالمي ابن طرفة طرفة طرف، لم يهجر منه للبراعة طرف.

فهو الشاعر الظريف، الحائز من الكمال التالد والطريف.

تجمل بأهداب الآداب، تجمل الأجفان بالأهداب.

فأقلامه تصوغ الدراري، وقراطيسه يضوع منها الداري.

بعباراتٍ عنبريةٍ، وإشارات عبيرية.

فدونك منها أزهار رياضٍ بعرفِ النشق تتنسم، ولآلىء ثغورٍ عن ماء الحياة تتبسم.

فمنها ما كتبه إلى أحمد الخلي المذكور آنفاً:

مَن لقلبٍ دائمِ الحَزَنِ

ليس يخْلُو الدهرَ من شَجَنِ

ضاق ذَرْعاً بالهمومِ فهل

ماجدٌ يُنْجِي من المِحَنِ

يشْتكي الدهرَ عَلَّ عسَى

يلْتجِي منه إلى سَكَنِ

قد أضاعَ الوقتَ في نَفَرٍ

كالرِّياضِ الخُضْرِ في الدِّمَنِ

ظاهراً راقُوا وقد خَبُثُوا

باطناً فَعْماً مِن الإحَنِ

وغَنُوا بالمالِ عن أدَبٍ

وبهم فَقْرٌ إلى الرَّسَنِ

وغَدَوا عارِين من حَسَبٍ

واكْتَسَوا بالقُبْحِ والدَّرَنِ

فأنا ما بين أظْهُرِهمْ

كغريبِ الدَّارِ والوَطَنِ

صابرٌ عَلَّ الزمانَ يفِي

بصديقٍ قَطُّ لم يَخُنِ

وهْو في ظَنِّي ابنُ قاسم لا

خَيَّبَ المَوْلَى به ظِنَنِي

أحمدُ المحمودُ سيِّدُنا

مالكُ الأفْضالِ والمِنَنِ

من تسامَى أن يُحِيطَ به

وَصْفُ مِنْطِيقٍ من اللَّسَنِ

فاضلٌ لم يَأْلُ مجتهداً

في طِلابِ المجدِ ليس يَنِي

فاق في فضلٍ أُبُوَّتَهُ

وجَرى منهم على السَّنَنِ

وهمُ أبناءُ مَحْمَدةٍ

فِعْلُهم يَرْوِي عن الحسَنِ

شهدتْ في ذا فضائلهُ

وعرَفْنا العِرقَ بالغُصُنِ

يا شهابَ الدين صِخْ لفتىً

وُدُّه باقٍ على الزَّمَنِ

ليس يرجُو منك غيرَ وَفاً

فاشْتَرِ عَبْداً بلا ثَمنِ

بيننا في وُدِّنا نسَبٌ

ليس يخْفَى ذا على فَطِنِ

واحْتكِمْ ما شئتَ فيه على

وَفْقِ ما ترضَى له تكُنِ

وابْقَ واسلَمْ ما تفَنَّن في

سَحَرٍ طيرٌ على غُصُنِ

وأتبعه بنثرٍ صورته: يا سيدي الأعلى، وكنزي وشهابي الأسنى، وروضتي الغنا.

دام علاك، وهدم بناء عداك.

ولا زلت مأمون الغوائل، معتمد الوسائل، يوسفي الصباحة، حاتمي السماحة.

فلكي التأثير، قمري التصوير.

إبراهيمي الوفا، محمدي الأخلاق والصفا.

أنت راءُ الرِّضا وعينُ العطايَا

أنت تاءُ التقى وصادُ الصَّلاحِ

أنت واوُ الوفا ومِيمُ المَعالِي

أنت كافُ الكمالِ سينُ السَّماحِ

الموجب لتسطير هذه الخدمة علمكم بأنه لابد للإنسان من خلٍ يسكن إليه، فيشكو إليه حزنه، وينتصر به على من ظلمه، ويتوصل به إلى ما يشق عليه بلوغه بمفرده.

والمملوك قد تقرب إليك، وعول عليك، ورضي بك مالكاً فهل ترضى به مملوكاً، وتأخذ منه بذلك وثائق وصكوكا.

يراك كالشيخ إجلالاً، وكالوالد إكراماً، والولد حنواً وإشفاقاً.

ويلتمس منك ثلاثة أمور، وأنت الآمر بذلك لا المأمور: أولها؛ حفظ الود في الغيبة والحضور.

ثانيها؛ عدم سماع كلام الواشي والغيور.

ثالثها: رفع سجف الحشمة وطي بساط الكلف في القبض والسرور.

هذا ما أحاط به علمك، فرب أخٍ لم تلده أمك.

فكتب إليه مجيبا:

ذكَّر الماضِي من الزمَنِ

خَفَقانُ البارقِ الْيَمَنِي

فَهمتْ من مُقْلتِي دِيَمٌ

نِيْلُها أشْفقتُ يُغْرِقنِي

ص: 77

يا نُزولَ الصَّفْحِ من إضَمٍ

بُعْدُكم أفْنَى قُوَى بَدَنِي

حَبَّذا أيَّامُنا وبكم

كانت الأقْدارُ تُسعِدُنِي

حيث وجهُ الدهرِ مُنْبَلِجٌ

وخيولُ اللهوِ ليس تَنِي

وسَرابيلُ الصِّبا قُشُبٌ

لم تُمزِّقْها يَدُ المِحَنِ

ليت شِعْرِي والرَّجا طَمَعٌ

بكم الأيامُ تجمعُنِي

يا ديارَ الأُنْسِ جادَك مِن

فَيْضِ دمعي هامِلُ المُزْنِ

إن أكُنْ قد بِنْتُ لا بِرِضاً

ففؤادي عنكِ لم يَبِنِ

آهِ كم من ليلةٍ سلفَتْ

فيك محفوظاً من الحَزَنِ

ليس يُنْسيني تذكُّرَها

غيرُ مَدْحِ المِصْقَعِ اللَّسِنِ

فاضلُ العصرِ الذي يدُه

حلَّتِ الأجْيادَ بالمِنَنِ

مَن به الآدابُ قد فخرتْ

وبدَتْ في منظرٍ حسَنِ

يُدْرِك الأشْيا بفِطْنتِه

وذَكاهُ وهْي لم تكنِ

فِكْرُه كم حَلَّ مُشكِلةً

وقَفتْ عنها ذَوُو الفِطَنِ

عُمْدتِي في كلِّ نازلةٍ

جَرَّدتْ نَ؛ ْوِي ظُبَا الفِتَنِ

يا عَفيفِ الدِّين عبدُ هوىً

بك لم يغدُرْ ولم يخُنِ

قُمْتَ تدْعوه بمُفْرَدةٍ

أصْبحتْ كالقُرْطِ في الأُذُنِ

فاخْتبرْنِي يا أبا حسَنٍ

تَرَنِي المْخبورَ بالحسَنِ

وتقبَّلْ مِدْحةً برزَتْ

مِن شَحٍ ناءٍ عن الشَّجَنِ

جمُدتْ أفكارُه زمَناً

فَرُمِي بالعِيِّ واللَّكَنِ

رفَض الأشْعارَ عنه فلو

وَزَنُوا الأمْوالَ لم يَزِنِ

دُمْتَ سَمّاً للْعِدَى سنَداً

لِيَ يا أطْرُوفةَ الزَّمنِ

لو دَعانِي من غيرِ أرْضك داعٍ

لغَرامٍ لكنتُ غيرَ مُلَبِّي

وأما أنت أيها الأخ الشقيق. والصديق الشفيق.

سمعاً لأمرك الواجبة إطاعته المفروضة إجابته، الممتنعة مخالفته، المستحيلة مجانبته.

لو قيل تِيهاً قِفْ على جمرِ الغَضا

لوقفْتُ ممتثِلاً ولم أتوَقَّفِ

كيف وقد دعوتني إلى شيءٍ أتمنى حصوله، وأترقب وصوله.

وكنت أرى نيله كالمستحيل للسائل، وطالما قلت: أين الثريا من يد المتناول.

فظهر لي قيام الحظ بعد قعوده، وتبدل نحوسه الملازمة بسعوده.

وطفقت أسحب ذيل الإعجاب مرحا، وتزايد بي السرور حتى بكيت فرحا.

يا قلبُ قَرَّ فمن تُحِبُّ

أتى على وَفْقِ المُرادِ

فثق مني بخلوص ودٍ لا يشوبه غش الانفصام، حتى تفارق بعد العمر الطبيعي أرواحنا الأجسام.

ألْقِنِي في لَظىً فإن غيَّرتْنِي

فتيقَّنْ أني لستُ بالياقُوتِ

والله المسئول أن يجعل عيون الحاسدين عنا نائمة، ويزرقنا والمسلمين حسن الخاتمة.

وكتب إليه، وقد وعده بمشترى تمرٍ له:

يا مالكَ الفضلِ ويا خِلَّ الأدبْ

ويا كريمَ الأصلِ يا فخرَ العَرَبْ

طال اشْتياقِي فاستمعْ مَقالِي

لخضْمِ تمْرٍ كالزُّلالِ حالِي

شبَّهتْهُ لم أعْدُ في تشْبيهِه

طريقةَ القَصْدِ لَدَى مُرِيِدِهِ

مَخازنٌ من العَقِيقِ نبتَتْ

أقفْالُها من النُّضارِ جُعِلَتْ

أو أُنْمُلاتٌ للغَوانِي طُلِيَتْ

بالزَّعْفرانِ أعْجَبتْ وَفَتنتْ

وأكُؤُساً من النضارِ الصَّافِي

تشْربُها وخِلُّك المُصافِي

كأنه خُلْقُك في حَلاوتِهْ

ولفظُك الباهرُ في بَراعتِهْ

يا حُسْنَه حين يُرَى في أَدَمِهْ

يُوجِدُ شَخْصَ الجوعِ بعد عَدَمِهْ

أحبَبْتُه حُبَّ الصغيرِ أُمّهْ

ولا عجِيب حُبُّ ابنِ العَمَّهْ

فانْعَمْ به دُمْتَ مدَى الدهورِ

تسحبُ ذيلَ الانْسِ والحُبورِ

ص: 78

إلى مَعاليك العُلى ينْتسِبُ

ومِن أياديك النَّدَى يُنْتَخَبُ

نمِيلُ في مَطْلبِنَا علَيْكَا

وتلتقِي آمالُنا لَدَيْكَا

فكتب إليه:

يا عُمْدتي في الصَّحْبِ والخِلَاّنِ

وعدَّتِي إذا عَدا زَمانِي

وطِبَّ دائي ودواءَ جُرْحِي

وعينَ أعْيانِ ورُوْحَ رُوحِي

وصَارِمِي الصَّارِمَ للأعداءِ

وسَطْوتِي عند لِقَا الهَيْجاءِ

يا مَنْهَلَ الفضلِ ويُنْبوعَ الأدَبْ

وبَحْره المُلْقِي إليْنا بالعَجَبْ

إليك ما كنتُ به وَعَدْتُ

وإن أكُنْ أبْطأتُ ما أخْطَأْتُ

فالعُذْرُ يا مولايَ ما رأيْتَا

فكُن لعُذْرِي قابِلاً بقيتَا

وهاكَها كوَجْنَةِ الحِسانِ

في اللَّوْنِ أو كحُمْرةِ الدِّنانِ

كأنه صِيغَ من العَقِيقِ

وطَعْمُه كرِيقَةِ المَعْشُوقِ

إذا شقَقْنا الظَّرْفَ عنه يبْدُو

بَيْضٌ من النُّضارِ فيه نَدُّ

من ذاقه عافَ مَذَاقَ الشُّهْدِ

والضِّدُّ يبْدُو فضلُه بالضِّدِّ

فكُلْ هَنيّاً يا شقيقَ رُوحِي

وعِشْ مُعَمَّراً كعُمْرِ نُوحِ

السيد محمد بن حيدر بن علي فرعٌ من أشرف نبعة، نمت في أشرف بقعة.

فهو في بيت الشرف شمسٌ ذات إشراق، وفي روض الأدب غصنٌ تتفكه منه بثمار وتتفيأ بأوراق.

فوجه أدبه سافر، وحظه من البراعة وافر.

إذا جرى في مضمارٍ قصر مجاريه، وإذا برى أقلامه فلا أحد يباريه.

مع ما خصه الله من شمائل، أرق من الشمول وألطف من الشمال، وخلائق أشهى من طيب الوصال، وأوقع من موافقة الآمال.

وقد اجتمعت به فرعت عيني منه في مرعىً خصيب، واستطلعت نفسي منه مطلعاً له من الحسن أوفر نصيب.

فشاهدت من نباهته ولطف رويته وبداهته، ما تملك قلبي، واستأثر في أن يخلب خلبي ويسلب لبي.

وحباني من أشعاره بكل مقصدٍ نامي الغراس، وكل مخيلةٍ خامرت العقل لأنها جاءت من أكرم بيت راس.

فمن ذلك قوله:

نسيمٌ سرَى عن شِيحِ نَجْدٍ ورَنْدِهِ

وبَرْقٌ شَرِى من غَوْرِ نَجْدٍ ونَجْدِهِ

فذلك مُورٍ نارَ شَوْقِي بزَنْدِهِ

وهذا مُثيِرٌ حَرَّ وَجْدِي ببَرْدِهِ

وأذْكَرنِي صَوْبُ الغمامِ مَدامِعِي

لتَجْرِي وذكرُ الشيء يجْري بنِدِّهِ

ولولا الهَوى إن كنتَ تعلمُ ما الهوى

لما زلْزلتْ قلبي زَماجِرُ رَعْدِهِ

ووُدِّي لظَبْيٍ بالصَّرِيمةِ راتِعٍ

وفي بعض أفْعالِي وَفَيْتُ بوُدِّهِ

فيُنْبِتُ دمعي كلَّ بَقْلٍ برَوْضِه

ويحْرِق مَرْعاه زَفِيرِي بوَقْدِهِ

أُحِبُّ عَذُولِي حين ينْطِق باسْمِه

وأُبْغِضُ مَرْآهُ وَفاءً بعَهْدِهِ

وأُظْهِر من خَوْفِ الوُشاةِ سُلُوَّه

وإن كان لي قلبٌ يُنادِي بضِدِّهِ

وأقصِد بُعْدِي يَقْظةً عن مَزارِهِ

وإن لم أُحِبَّ النومَ إلَاّ لِقَصْدِهِ

ويلْهجُ نُطْقِي بالعُذَيْبِ وحاجِرٍ

ويعْدِل عن ذِكْرِي حِماهُ بجُهْدِهِ

وفي كلِّ عُضْوٍ لي لسانٌ مُوَلَّعٌ

بذِكْراه في قلبِ المَزارِ وبُعْدِهِ

فهذا وَفائي في الهوى بحُقُوقِه

فهل أرْتجِي منه الوفاءَ بوَعْدِهِ

وكم بالرُّبَى صَبٌّ صَبا بالذي سَبَا

فؤادي ولم يمْنُنْ عليَّ برَدِّهِ

من العُرْبِ طَفْلٌ دأْبُه اللهوُ عابِثٌ

بطفْلِ سوادِ العينِ في مَهْدِهِ سُهْدِهِ

وَهبْتُ له رُوحِي وأعلمُ أنه

يصُدُّ لكي أحْظَى بلَفْتَةِ جِيدِهِ

ونَيْلُ رِضاه مُنْتهَى ما أَرومُه

وما عاشقٌ من لم يقِفْ عند حَدِّهِ

ص: 79

أقول هو المَوْلَى المُطاعُ مُمَنِّياً

لنفسِي بأني عند رُتْبةِ عَبْدِهِ

ووِرْدُ اللَّمَى المَعْسولِ عَزَّ وطالَما

حَلَا بفِمي طعماً تَخيُّلُ وِرْدِهِ

وإن كنتُ في روضٍ تحَاشيْتُ أن أرى

جَنَى وَرْدِهِ للإحْترامِ لخَدِّهِ

وإن مال غُصْنٌ فيه أغْضَيْتُ هَيْبةً

كفِعْلِي إذا ما ماس مائسُ قَدِّهِ

وأقْطَعُ أن الروضَ إذْ كان فيه ما

يُشهابِهُه يسْمو بطالِعِ سَعْدِهِ

وذُلُّ الهوى عِزُّ الكريمِ وإن غَدَا

مَلِيكاً جليلَ القدرِ ما بين جُنْدِهِ

هو الحبُّ إن رُمْتَ المَخاضَ ببَحْرِه

وإلَاّ دَعِ التَّيَّارَ واقْنَعْ بثَمْدِهِ

وله معارضا:

قُلْ للْمَلِيحة في الخِمارِ الأسْودِ

قُلْ للمليحةِ في القِناعِ العُصْفُرِي

يا شمسُ ها شَفَقُ الشروقِ فأسْفِرِي

ولكِ الأمانُ من اللِّحاظِ إذا ارْتَمَتْ

إن الشُّعاعَ يصُدُّ طَرْفَ المُبْصِرِ

أوَما اكْتفيِت بوَرْدِ خدِّك رَوْضةً

عن رَوْضِ وَرْدِيِّ اللِّباسِ المُزْهِرِ

هذا القِناعُ سَما بفَرْقِك مَفْخَراً

عن مِغْفَرٍ قد ضَمَّ هَامَةَ قَيْصَرِ

وخَطرْتِ في مَوْشيَّةٍ ذهَبِيَّةٍ

قد جانسَتْكِ بلَوْنِها في المَنْظَرِ

وبديعُ حُسنِكِ قد تناسَب عندما

راعَى نَظِيراً في المُحَيَّا الأنْضَرِ

أرأيتِ حين خطَرْتِ في رَمْلِ الحِمَى

ما بين بَانِ لِوَى الكَثِيبِ الأعْفَرِ

فتأوَّدتْ أغْصانُه وتستَّرتْ

بالأيْكِ من خَجَلٍ ولاتَ تسَتُّرِ

كم أصْيَدٍ ملكَتْ يميِنُك رِقَّهُ

فأتى إليك بذِلَّة المُسْتأْسِرِ

مافي الحِمَى إلاّ مَوالِي طاعةٍ

فتملَّكِي أو دَبِّرِي أو حَرِّرِي

وله:

جادتْ غَوادِي المُزْنِ رَبْوةَ لَعْلَعِ

بهَواطلٍ تهْمِي بذاك المَرْبَعِ

واخْضَرَّ رَوْضُ جَنابِها وتأرَّجتْ

حُلَلُ النَُّّسِيمِ بنَشْرِه المُتضوِّعِ

يا طِيبَ أوقاتٍ مضتْ بربُوعِها

والشَّمْلُ مُلْتئِمٌ بها لم يُصْدَعِ

حيثُ الزمانُ مُسالِمٌ ما راعَنا

بِبعادِ خِلٍ أو فِراقِ مُوَدِّعِ

وصُروفُه في غَفْلةٍ وصَفاةُ طِي

بِ وِصالِنا بخُطوبِه لم تُقرَعِ

يا سادةً بسِوَى عُقودِ عُلاهمُ

ما نُظِّمتْ دُرَرُ الفَخارِ بمَجْمَعِ

وبغيرِ أُفْقِ مديحهِم ما أشْرقَتْ

شمسُ البلاغةِ بالسَّنَا المُتقشِّعِ

إني لأعْجَزُ أن أَبُثَّكمُ من الْ

أشواقِ ما ضُمَّتْ عليه أضْلُعِي

قلبي من الصبرِ الجميلِ لبُعْدِكمْ

أضْحَى خَلاءً كالديارِ البَلْقَعِ

حَلَّ السُّهادُ بجَفْنِ عَيْني قاطِناً

مُذْ سار عنه ظُعْنُ نَوْمِي المُزْمِعِ

ولقد رَقمْتُ سطورَ طِرْسِ رسالتي

وتكاد تمْحوها هَوامِي الأدْمُعِ

وبعثْتُها لتفوزَ في تقْبيلِها

أقْدامَكم بذَرَى المَحَلِّ الأرْفَعِ

في طيِّها نَشْرُ الثَّناءِ يحُفُّه

إهْداءُ مِسْكِيِّ السَّلامِ الأضْوَعِ

وَافتْ تُهنِّيكم بُلوغَ مُناكمُ

بزيارةِ الدَّاعِي الشفيعِ إذا دَعَا

وبما حَوَيْتُم من جَزِيلِ الأجْرِ إذْ

شمِلْتكمُ بركاتُ ذاك المَضْجَعِ

دام الهناءُ لكم ودام لنا الهَنَا

بكمُ ودُمْتمْ في النَّعيِمِ المُمْرِعِ

وله من قصيدة، أولها:

رِقِّي لِصَبِّكِ يا سعادُ ودارِكِي

وَلْهانَ يندُب رسمَ دَارِسِ دَارِكِ

ص: 80

جُودِي عليه في المَنامِ بزَوْرةٍ

إن لم تجُودِي يَقْظةً بوِصالِكِ

هيهات يغْشَى النومُ جَفْنَ مُتيَّمٍ

عُقِدتْ عُرَى آمالهِ بحِبالِكِ

ما زال ذِكْرُك دائراً في بَالِهِ

أتُراه يخْطِر ذِكْرُه في بَالِكِ

اللهُ حَسْبُكِ كم تصُول بمُهْجتِي

جَفْناكِ بالعَضْبِ الجُرازِ الفاتِكِ

وتهُزُّ قامتُك القَويمةُ ذَابِلاً

يسْطُو بطَعْنٍ في الْحَشَا مُتدارِكِ

أو ما قنِعْتِ وبعضُ ما بي مُقْنِعٌ

بِنَحِيلِ جسمِي والفؤادِ الهالِكِ

يا رَبَّةَ الخِدْرِ التي تَهْفُو له

في الحبِّ أفئدةٌ تنالُ منالَكِ

هَلَاّ رحْمتِ وليس عندك رَحْمةٌ

صَرْعَى هواكِ بنَظْرةٍ لجمالِكِ

مالي ومالك كلَّما جذَب الهوى

قلبي إليك صَدَدْتِ يا ابْنةَ مالِكِ

حتَّى مَ أمْلِكُ كَتْمَ حبِّك في الحشَا

وهُمولُ دمعي ليس بالمُتمالِكِ

وإلى مَ ألهجُ بالعُذَيْبِ وبَارِقٍ

وأغُضُّ طَرْفِي عند ذِكْرِ دِيارِكِ

أنتِ المُرادُ برَغْمِ كلِّ مُعارِضٍ

قَولاً صحيحاً لستُ فيه بآفِكِ

قسَماً بمَنْظرِك الجميلِ وطَرْفِك الْ

غَنِجِ الكَحِيلِ وسَلسَبِيلِ رُضابِكِ

وبَوَرْدِ وَجْنتِك النَّضيرِ وبدرِ طَلْ

عتِك المُنِيرِ بلَيْلِ فَرْعٍ حَالِكِ

وبِدُرِّ مَبْسَمِكِ النَّظيمِ وكَشْحِكِ التَّ

رِفِ الهَضِيمِ ومُسْتقيمِ قَوامِكِ

وبذِمَّةِ العهدِ القديمِ وحُرْمةِ الْ

وَدِّ المُقيمِ بقلبِيَ المُغْرَى بِكِ

إني على عهدِ الغرامِ وشاهِدي

ما تشْهديِنَ من السَّقامِ النَّاهِكِ

قلبي بِحفظِ الوُدِّ قد عَوَّدْتُه

فلِمَا تقرَّر فيه ليس بتارِكِ

وله في الغزل:

آهِ يا عبدَ الهوى ما أحْمَلَكْ

هكذا يحكُم فاصْبِرْ مَن مَلَكْ

وَيْكَ يا قلبُ تكلَّفْ جَلَداً

رُبَّ قلبٍ رَقَّ عِشْقاً فهَلَكْ

كيف لي فيك ومَن ينْفعُنِي

آهِ لا بل فِيَّ قُلْ لي كيف لَكْ

يا فؤادي لك عقلٌ عَاذِرٌ

كنت صعباً والهوى قد ذَلَّلَكْ

هَبْكَ في الدهرِ أرِيباً حازِماً

أنا أدْرِي بالدَّهَا مَن خَتَلَكْ

إنَّما غَرَّتْك أحْداقُ المَهَا

نصرَ اللهُ بها مَن خَذَلَكْ

يا عَذُولِي العشقُ داءٌ مُعْضِلٌ

بالذي عافاكَ خَفِّفْ عَذَلَكْ

الهوى رُشْدِي فدَعْ نُصْحَك لي

فلقد أضْللْتَ فيه سُبُلَكْ

لم تزلْ منذ زمانٍ جاهداً

هل رأيتَ السمعَ يوماً قَبِلَكْ

يا شقيقَ البدرِ يا تِرْبَ الْمَهَا

مَن كَساك النُّورَ أو مَن كَحَّلَكْ

إن يكُنْ يُشْبِهُك البدرُ سَناً

فعلى مثلِك ما دار الفَلَكْ

مَن بأشْراكِك قَسْراً صادَنِي

أنتَ فاعْذِرْ عارِفاً ما سألَكْ

إن تقُلْ إنِّي مَلِيكٌ في الهوى

جارَ في الحُكْمِ أقُلْ أنَّي مَلَكْ

قلتُ دَبِّرْنِي فإنِّي هالِكٌ

قال من دَبَّر عَبْداً ما مَلَكْ

وَيْحَ مَن كُلُّ مُناه وَصْلُه

أيُّ وَادٍ في الأماني قد سَلَكْ

أخذَ الرُّوحَ ووَلَّى بَرِماً

أخْذُ رُوحِي لم يُهوِّنْ مَلَلَكْ

يا أخا الصَّهْباءِ في رِقَّتِه

مَن على قَسْوةِ صَلْدٍ جَبَلَكْ

كان لي قلبٌ فأفْناه الجوَى

أعْظَمَ اللهُ لِيَ الأجْرَ ولَكْ

وله:

لولا مُحَيَّاكَ الجميلُ المَصُونْ

ما كنتُ أُجْرِي من عيوني عُيُونْ

ص: 81

ولا عَرفتُ السُّقمَ لولا الهوى

ولا تَبارِيحَ الجوَى والشُّجونْ

كم وقفَةٍ لي في طُلولِ الحِمَى

رَوَّى ثَراهَا صَوْبُ دَمْعِي الهَتُونْ

يا ربْعُ خَبِّرْ لا جَفاك الْحَيَا

وَلْهانَ لا يعرِفُ غَمْضَ الجُفونْ

هل كنتَ مَغْنىً للغزالِ الذي

إليه أصْبُو والتَّصابي فُنُونْ

وأشْرقتْ فيك شُمُوسُ الضُّحَى

من فوقِ قاماتٍ تفُوق الغُصونْ

مِن كلِّ غَيْداءَ إذا أسْفَرتْ

يجْلُو مُحيَّاها ظلامَ الدُّجونْ

سُيوفُ لَحْظيْها إذا جُرِّدتْ

تُغْمَد من أحْشائِنا في جُفونْ

وعَامِلُ الْقامةِ تسْطُو به

فينا إذا ماسَتْ بأيْدِ المَنُونْ

والشَّامةُ السَّوداءُ في خَدِّها

تُعَلِّمُ الصَّبَّ فنونَ الجُنونْ

مَنِيعةُ الحُجْبِ فَنيْلُ اللِّقا

منها بَعِيدٌ عن مَرامِي الظُّنونْ

حَسْبُكَ لَوْماً يا عَذُولِي اتَّئِدْ

إنِّي لِعَهْدِي في الهوى لا أخُونْ

لا تطْلُبِ السُّلْوانَ من وَامِقٍ

فذاك شيءٌ أبداً لا يكونْ

فدَعْ سُكارَى كأسِ خمرِ الهوى

يا صاحِ في سَكْرَتهِمْ يعْمَهُونْ

ظَنُّوا اتِّباعِي للهوى ضَلَّةً

وهم لرُشْدِي فيه لا يعلمونْ

أما ووَجْدِي يا أُهَيْلَ اللِّوَى

وعهدِيَ الباقي وسِرِّي المَصُونْ

وما لهم من مَنْزِلٍ عامرٍ

بسَفْحِ قلبي هُمْ به نازِلُونْ

وطِيبِ أوْقاتٍ مَضَتْ بالحِمَى

لَفَقْدِها تَذْرِي الدموعَ العُيونْ

لقد أطَعْتُ الحبَّ في حُكْمِه

ومِلْتُ عن طُرْقِ الأُلَى يَعْذِلُونْ

بذَلْتُ فيه مُهْجتِي طَائِعاً

وبَذْلُها في الحبِّ عندي يَهُونْ

ومن نتفه ومقاطيعه، قوله مصدراً ومعجزاً:

لمَّا سرقْتُ بناظرِي مِن لَحْظِهِ

خُلَساً من اللَّحظاتِ بالآماقِ

وجَنَيْتُ حَدّاً إذْ جَنيْتُ برَوْضِهِ

وَرْداً حَمَتْه صَوارِمُ الأحْداقِ

قطَع الكرَى عن ناظِرِي مُتعمِّداً

فوصَلْتُه بالمَدْمَعِ المُهْرَاقِ

كيْلا يقولَ الناسُ إنَّك سارِقٌ

والقَطْعُ حَدُّ جِنايةِ السُّرَّاقِ

وقوله مصدراً أيضاً:

ولمَّا رَقمْتُ الطِّرْسَ أشْفَق ناظرِي

ومانَعَ من سَبْقِ الكتابِ إلى الوَصْلِ

وقال لِيَ احْكُمْ أنتَ بالحقِّ بيْننا

وقال لِخَطِّي سوف أمْحُوكَ بالهَطْلِ

كِلانا سَوادٌ في بَياضٍ فما الذي

يَميِزُكَ والأهْدابُ في مَوْضِعِ الشَّكْلِ

وهل ما أُقاسِي من سُهادٍ ومَدْمَعٍ

خُصِصْتُ به حتى تُشاهِدَهم قَبْلِي

وقوله:

وحقِّك يا كُلَّ المَرامِ أنا الذي

جعلتُ له حِصْنَ اليَقينِ مُقامَا

لأنك قد عَوَّدْتَه لُطْفَك الذي

إذا زار لم يطْرُق كَراهُ لِمَامَا

ولم يَكُ مَنْسِيّاً لديْك بِحالةٍ

ولا منك يخْشَى غَفْلةً وسَآمَا

فكم آيةٍ أظْهَرْتَها إثْرَ آيةٍ

أيَعْمَى لها ذُو اللُّبِّ أو يَتَعَامَى

ومَن كان ذا أرضٍ سقى بِذْرَها الْحَيَا

فقد حاز مَحْصولَ الزُّروعِ وسامَا

ومن يَكُ في مَهْدِ العِنايةِ وَادِعاً

يَزْدْ عند تَحرِيك الخُطوبِ مَنامَا

وقوله:

وكأنما الثَّغْرُ الشَّهِيُّ رُضابُه

ضِمْنَ الشِّفاهِ مع الوِشامِ الأخضَرِ

دُرٌّ نَضِيدٌ ضِمْنَ حُقِّ زَبَرْجَدٍ

وله غِطاءٌ من عَقِيقٍ أحْمَرِ

وقوله:

وباكيةٍ إذ وَدَّعْتنِي وقد بَدتْ

بوَجْهٍ لهَتْكِي في المَحبَّةِ سافِرِ

ص: 82

جرى دمعُها لمَّا تألَّق نُورُهُ

كذا البَرْقُ إذ يَسْرِي دليلُ المَواطِرِ

هو الروضُ فيه نَرْجِسُ اللَّحْظِ ناثِرٌ

على وَرْدِ خَدٍ دُرَّ طَلٍ مُباكِرِ

وقوله:

فتاةٌ لاطفَتْنِي بابْتسامِ

ونال كلامَها قلبي الكَسِيرُ

بَدا من ثَغْرِها دُرٌّ نَظِيمٌ

ومن ألْفاظِها دُرٌّ نَثِيرُ

فراعيْتُ النَّظيرَ دَمْعِي

ولكن ذاك ليس له نَظِيرُ

وقوله:

بنُورِ مُحَيَّاك الجميلِ إذا انْجَلَى

ونَوْرِ لأَلآءِ ثَغْرِك البارِدِ الظَّلْمِ

أعُثْمانُ ذَا النُّورَيْنِ رِفْقاً بمَن غَدَا

شهيدَ الْهوَى يشْكُو إليك من الظُّلْمِ

وقوله في التنباك:

أُحِبُّ الشُّرْبَ للتُّنْباكِ طَبْعاً

وأُذْكِي نارَه أبَداً عليْهِ

فلي قلبٌ حَرِيقُ جَوىً ووَجْدٍ

وشِبْهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ

وكانت المقادير جمعت بيننا في الطائف، بين روضٍ وغدير، فتمتعت بمؤانسته، واغتنمت أوقات مجالسته، وكتبت إليه في أثناء ذلك:

يا رَوْنَق المُنْتسَبِ الشَّرِيفِ

أفْدِيكَ بالتَّالِدِ والطَّرِيفِ

شُكْراً لأيَّامي هذه التي

فُزْتُ بها في ظِلِّكَ الوَرِيفِ

أسمعُ من لفظِك ما يبْهَر مَن

ينْطِق بالأسْماءِ والحروفِ

من كلِّ زَهْراءَ لآَلِي لَفْظِها

تُغْنِي عن العُقودِ والشُّنُوفِ

وأجْتلِي من خَطِّك الرَّوْضَ الذي

أبْدَعْتَ فيه صَنْعةَ التَّفْوِيفِ

طابتْ مَجانِيهِ فأثْمارُ المُنَى

في سُوحِه دَانيِةُ القُطوفِ

دُمْتَ تُحلِّي الدهرَ فخراً وأنا

وَصَّافُ حُسْنِ طَبْعِك المَوصُوفِ

فراجعني بقوله:

يا شمْسَ أُفْقِ الأدبِ المَوْصوفِ

ويا فَرِيدَ عِقْدِه المَرْصُوفِ

ويا جمالَ النَّسَبِ السامِي إلى

عبدِ مَنافٍ بالسَّنا المُنِيفِ

يا مَن حَبانِي مِن صَفاءِ وِرْدِهِ

رَوْنَقَ ذاك الجَوْهرِ اللَّطِيفِ

ومَن سَقانِي من نميرِ فضلهِ

سُلافَ كَرْمِ رَوْضِه المَسْلُوفِ

ومَن أراني مِن خِصالِ ذاتهِ

مَحاسِناً زادَتْ على الألوفِ

يا مُهْدياً إليَّ من أشْعارِه

تاجَ عُلاً تَمَّ به تَشْرِيفِي

إن زماناً بك قد جادَ لنا

جَدَّد جُودَ حاتمِ المعروفِ

أحْسَن إحْساناً نسينا عنده

ما مَرَّ من سُلُوكِه المأْلوفِ

قد كان ما مضَى من العمرِ سُدىً

لا يُشْتَرى بالثمنِ الطَّفيفِ

حتَّى حَبانا بك سَعْدٌ طالِعٌ

يزْهُو بنَجْمِ مَجدِك الشَّرِيفِ

فعاد باقِي العُمْرِ عَيْشَ خالدٍ

في جَنَّةٍ دانِيَةِ القُطوفِ

فاسْلَمْ ودُمْ دامتْ مَعالِيك تُرَى

أوْصافُها للسَّمْعِ كالشُّنوفِ

وبلغني من بعض السادة، أنه أنشأ محاكمة بين الغنى والفقر، فكتبت إليه أطلبها منه: بلغني خبر المحاكمة، التي أنشأها السيد مقامة، وأفاد بها أن لا أحد يساوي مقامه.

فعرفت أنه أتى بالعجب العجاب، واستأثر بما هنالك من الإغراب والإعجاب.

جرياً على ما يعهد من طبعه المهذب، وفكره الذي ينشىء الوشي المذهب.

فكم لفظة منه بحر الفكر، أمثال هذا الجوهر البكر.

فأطلع الكلام دراً، وبيان البنان سحراً.

وصير بطون المهارق بوارق، وما بين مدب الأقلام خوارق.

من قوافٍ تنير حنادس الأفهام، وتتلاعب بالأفكار تلاعب السحر بالأوهام.

وفقرٍ أبهى من الغنى بعد الفقر، وأشهى من الوطن غب مقاساة وحشة القفر.

فلله تلك البديهة النبيهة، والفكرة النزيهة.

حيث أتت بمستبينة الإعجاز، مميزة للحق على الحقيقة والمجاز.

فأنستْ بمحاسنها آثار المتقدم، وصيرت المجترى على مثلها كالمتندم.

فلعل السيد يمتع بها طرفي وسمعي، ويجمع بسببها شمل فكري وطبعي.

ص: 83

فأغنى بها عن نديمٍ ومدامة، وأغدو من منادمتها في السلامة بلا ندامة.

هذا وشوقي إلى ذلك المنظر البهج، واجتلاء بدائع منطقة اللهج، شوق القارظي إلى سكون وسكنى، والقيسي إلى لبونٍ ولبنى.

واعتلاقي بوصفه الجميل، اعتلاق قفا نبك بالملك الضليل.

وكيف لي بخلسةٍ أشد عليها يد الضنين، وتنسيني هذا التأوه والأنين.

فإني من حين الاجتماع، والتلذذ بذلك الخطاب والاستماع، هجرت غيره من القول والإصغا، وجعلتهما في جانبٍ من الإزراء والإلغا.

فحالي فيه كما قلت، وعن نهج وده ما حلت:

يا سيِّداً من حين فارقتُه

ما راقَنِي مَرْأىً ولا مَسْمَعُ

لا تحْرِمَنِّي نَظْرةً أمْكنَتْ

فليس لي في غيرِها مَطْمَعُ

فكتب إلي مجيباً:

مولايَ قد قلَّدْتني مِنَّةً

يسْتغرِقُ الشكرَ حَياها العَمِيمْ

أهْديْتَ لي نثْراً من الدُّرِّ بل

من الدَّرارِي الزُّهْر طَيَّ الرَّمِيمْ

بل نَفْحةً قُدْسِيَّةً عَطَّرتْ

بِطيبِ أخلاقِك نَشْرَ النَّسِيمْ

تمنْع أن يُعْكَس تَشْبِيه مَن

يُشبِّه العِطْر بخُلْقٍ كريمْ

لا بل قد اهْدَيْتَ لي في العُلَا

هِدايةً للمَنْهَجِ المُسْتقيِمْ

تفْتح عَيْنَ القلبِ حتى يَرَى

تبلُّجَ الدهرِ بلَيْلٍ بَهِيمْ

واللهِ لا أمْلِكُ شُكْراً لها

إلَاّ عُبودِيَّةَ قلبٍ سَلِيمْ

يا مولانا الذي شرف مولاه بما أتحفه، وشفاه بطب الفضل من داء الجهل وقد أنحفه.

ومدحه حتى فضله وقدمه، فشجعه حتى ثبت في معارك الأدب قدمه، وفهمه آداب السلوك وعلمه، حتى حق له أن يشهر لدى ملوك الكلام قلمه، وينشر في مواكبهم علمه.

أقدم أولاً عذري في مقابلة الدر بالمدر، وحمل التمر بل الحشف إلى هجر، وجلب الدر بل الصدف إلى البحرين، وإهداء تبركات المساجد إلى أهل الحرمين.

ثم ما ذكره مولانا عظم الله مقامه، من طلب ما أنشأته على لسان الغنى والفقر شبه مقامة.

فإن المخلص بنى في ذلك وهدم، حتى كاد يحلم الأدم، ويعيد ما أخرجه للوجود إلى العدم، خوفاً من الإتيان بما يوجب عند أهل المعرفة إلى الخجل والندم.

وإلى وقت وصول الرقيم، والفكر في تيه الحيرة مقيم.

أيبرزه في قالب التمام، أم يستر الأدب ستر الشمس المنكسفة بالغمام؟ وما قرأته منه على بعض المخاديم الكرام، فقد نزلته منزلة أضغاث أحلام، عند الانتباه من المنام.

لكن بعد أن أسعفه الطالع الميمون بإقبالكم، وأنار هلاله المشبه بالعرجون من شمس كمالكم.

فقد جزم المخلص برفعه بعد خفضه، وإبرامه غب نقضه، وضم بعضه إلى بعضه.

حتى يقوم شخصاً كاملاً، ويليق بأن يكون لديكم على قدم الخدمة ماثلاً.

وبسَعْدِكم تلك المَخائِلُ تَرْتقِي

بتكامُلٍ حتى تعود شمائِلَا

بشرط أن أصل أولاً إلى خدمتكم الواجبة وجوب الفرض، وأنهيه إلى نظركم الكريم بطريق العرض.

ونبلغ مع التحلي بتهذيبكم، أمل التملي بكم.

فوحق ورد ودكم الصافي من الأكدار، إن شوقي مع قرب الدار:

كشَوْقِ ظامٍ بالحِبْالِ مُوثَقِ

لماءِ مُزْنٍ باردٍ مُصَفِّقِ

وأقول:

بل هو شَوْقٌ باللِّقاء يَرْتَقِي

يزْدادُ أن لا نَلْتقِي أو نلْتَقِي

ونسأل الله أن ينيلنا تواتر التردد لديكم، كما أنالنا تظافر التودد إليكم.

وأن يمتع جيد الدهر بعقد مجدكم الثمين، ويحرس حمى وجودكم الذي تهوى إليه الأفئدة كما تهوى إلى الحرم الأمين.

وبعث إلي بالمحاكمة، وهاهي مثبتة منقولة من خطه: الحمد لله الحكيم القادر على الإطلاق، الباسط المقدر للأرزاق.

الذي جعل الفقر والغنى آيتين من أبدع آياته، وغايتين في الحكمة من أبدع غاياته.

يتفكر فيهما ذو الفطنة والاعتبار فيتلو: " ربنا ما خلقت هذا باطلاً "، ويجري إليهما العبد على جياد الأقدار حالياً بزينة العقل أو عاطلاً.

فيسعد من يرشد للتسليم إيماناً وتصديقاً، ويبعد من ينشد وهو المليم:

هذا الذي تركَ الأوْهَام حائرةً

وصَيَّر العالِمَ النِّحْريرَ زِنْدِيقَا

ص: 84

والصلاة والسلام على نبيه المبعوث بالإسلام، محمد الهادي للخلائق إلى أقوم الطرائق، وأكرم الخلائق، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه الأغنياء بالله الفقراء إليه.

وبعد: فقد وقفت على مقامة أنشأها بعض المتأخرين الأفاضل الأعاظم، ووشاها بدرر الفوائءءد هديةً لكل ناثرٍ وناظم.

ابتدعها على لسان الفقر والغنى كالمفاخر بينهما والمفاضل، وأودعها من الحجج التي يفلح بمثلها المناظر والمناضل.

فمد بها في العلوم باعه الأطول، وأمد الفهوم بمصداق كم ترك الأول.

قاصداً بذلك رياضة العقول، في رياض المقول.

وتبريض اللسان، بوقائع شآبيب البيان.

وتعريض الإحسان، للقانع بالأثر عن العيان.

فأيد فيها الفقر على الغنى، وشيد له في الفخر على البنا.

وجعله سابق الحلبة مجليا، وأتلاه بالغنى بعد لأيٍ مصليا.

حتى أقر له بالتقدم تسليما، وأخلص لوداده بعد التندم على عناده قلباً سليما.

هذا وإن كان الفقر عند أبناء الدنا، ملياً باكتساب العنا، خلياً عن أسباب الغنى، حفياً في اقتضاب المنى، كفياً في سد أبواب الهنا.

وبينه وبين النفوس، ما بين تغلب وبكرٍ غب غداة البسوس.

وقد أوقع فيها من المكروه والمساءة، ما لم يوقعه قيسٌ بابني بدرٍ يوم الهباءة.

وحطمها ولا تحطيم الإبل المجفلة، جيوش لقيطٍ يوم جبلة.

ووسمها بالعار الباقي على الزمان، كما وسم به لبيدٌ الربيع بن زياد في مجلس النعمان.

ونفورها عنه ولا نفور الغادة الفتية عن مقاربة الشيب، والشنشنة الأخزمية من مقارنة العيب.

وبعدها عنه بعد العزائم اليقينية عن شبهات الريب، والكثائف الجسمانية عن إدراك محجبات الغيب.

هذا وعقال العقول في تقييد صعاب النفوس محلول، وحسام الفكر المصقول عن قطع أعصاب الأهواء مغلول.

والناسُ أكْيَسُ من أن يمدحُوا رجلاً

ما لم يَرَوْا عنده آثارَ إحْسانِ

فلا جرم كاد ينعقد الإجماع، كما لا يخفى على ذي نظر وسماع، على بغض الفقر وذمه، وقصده بالصد وأمه، وتواتر الدعاء بالهبل والثكل على أمه.

ومَن يجعْلِ المعروفَ من دون عِرْضِهِ

يَفِرْهُ ومَن لم يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ

فكان ما اختاره رحمه الله من هذا الصنيع، معدوداً في فن المغايرة من البديع.

وفيه تسلية لنفس البائس الفقير، وتقوية لقلب الآيس الحقي.

وإعانةٌ للمبتلى بهذا الداء العضال، وإبانةٌ للغرض إن نشط للنضال.

لكن حقيقة الحال أن هذا الفاضل لما كان من كبار الأتقياء الزاهدين، وخيار الصلحاء العابدين.

ومعلومٌ أن غالبهم قد اختار التقشف الموصوف، وشيد بناء التزهد المرصوف.

وهجر أنواع زخرف الدنيا وصنوفه، حتى قطع مسافتها وما بل بحرٌ صوفة.

كانوا جمال زمانِهم فتصدَّعُوا

فكأنما لبس الزمانُ الصُّوفَا

فبنى رحمه الله تعالى على مقتضى طريقتهم، وفضل الفقر إذ كان مرتضى حقيقتهم.

وهو الحق الذي لا ريب فيه، والإنصاف الذي يرتضيه الأريب ويصطفيه.

ولا يعارضه في مراده، مفاد:" قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ".

فإن من راد نفسه على حلول هذه الساحة، وخشي أن يغرق عند تلاطم الأمواج وإن كان متقناً للسباحة، لا يلزمه أن قال بالتحريم وعدم الإباحة.

وأحْزَمُ الناسِ مَن لو مات من ظَمَأٍ

لم يقربِ الوِرْدَ حتى يعرِفَ الصَّدرَا

وأما أرباب العصمة، فهم البريئون من كل وصمة.

فإنهم شاهدوا حظهم الأشرف الأسمى، فلم يثبتوا لما دونه رسماً ولا إسما.

وقصروا نظرهم على الخالد الباقي، وأنفوا أن تطأ أقدامهم الأرض وهم في أعلى المراقي، ومن ورد البحر استقل السواقي.

ولما تأملت تلك المقامة، بوأ الله منشيها دار المقامة.

رأيت مبنى الأفضلية فيها على أن جعل الفقر أمهر في تحصيل العلوم والمعارف، وأكثر مقيلاً في ظلها الوارف.

وأقدر على إبراز الصواب، عند السؤال والجواب.

لا على إقامة الدليل والبرهان بالأفضلية، وجعل السابق في هذا الرهان صاحب الأولية.

على أن هذا الميدان مجرى العوالي ومجرى السوابق، وفيه تزدحم كتائب فرسان الحقائق، وتلتحم مناكب النظارة من الخلائق.

إذ الناس لعدم خلوهم من أحد الوصفين، ينقسمون إلى صنفين، وينتظمون في صفين.

وكلٌ يحتج لصاحبه بالصفات الواقعية المرضية، لا المجازية الفرضية.

ص: 85

فأحببت أن أجول في هذا المجال، ولو بالمحال، وأنسج على هذا المنوال، على وهن القدرة وضعف المجال، وقصور عامل الفضل على التسلط على هذه المحال.

اعترافاً مني بالتقصير، وإسعافاً بطلب المسامحة لباعي القصير.

ومَن يَعْصِ أطْراف الزِّجاج فإنَّه

يُطِيع العَوالِي رُكِّبتْ كُلَّ لَهْذَمِ

فبنيت هذا المقصد على وضعٍ غريب، وترتيب يهش له الأديب والأريب، وأسلوبٍ يأخذه الطبع السليم عن قريب.

وجعلت المفاخرة بينهما على حقائق الأوصاف، وذكرت ما يقال من الطرفين بنهاية الإنصاف.

ثم أنهيت المخاصمة إلى التراضي بالمحاكمة، فحكمت بينهما مناط التكليف، ورباط الفضل الذي اختص به النوع الشريف.

فحكم حكماً يقضي منه الفريقان مآربهم، ويعلم كل الناس مشربهم " كلٌّ في فلكٍ يسبحون "، و " كل حزبٍ بما لديهم فرحون ".

والحق واضح الغرر والأحجال لقومٍ يعرفون، و " ماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ".

حدث الغزل الرقيق، عن المديح الأنيق، عن السؤال الجميل، عن النوال الجزيل، عن الخاطر المطاع، عن كريم الطباع، قال: حضرت مجلساً من المجالس السرية، التي لم تزل تعقد بحضرة النفوس البشرية.

وقد حضر وزيرها العقل، وحاجبها الحلم، وقائدها الفهم، وقاضيها العلم، وخازنها الحفظ، ومنشيها الفكر، وشاعرها الخيال، ونديمها الوهم.

ومثلت للخدمة أعوانها المتظاهرة، وهي المدارك الخمسة الظاهرة.

وانتظمت في مراتبها سائر القوى، وغاب بحمد الله عدوها الهوى.

واتفق أن حضر المجلس الغنى والفقر، وهما الضدان المتناقضان، بل العدوان المتباغضان، والجوادان المتعارضان، بل القرنان المتناهضان.

إلا أن النادي جمع بينهما، وقرب على سبيل الاتفاق بينهما.

وخاض القوم في مجانح الحديث، من سوانح القديم والحديث.

فأراد بعض من حضر، طراد جياد البحث والنظر.

فتلطف بظرفه، ولحظ الغنى بطرف طرفه.

وقال: إني أحفظ بيتين، ورد الأول منهما على روايتين.

يبتني عليهما حكمٌ وأحكام، إذا تقرر مفادهما بإحكام.

وأنشد:

ولو أنِّي وَلِيتُ أميرَ جيشٍ

لما قاتلتُ إلَاّ بالسؤالِ

لأن الناسَ ينْهزِمون منه

وقد ثَبَتُوا لأطْرافِ العَوالِي

ثم قال: والرواية الأخرى، يعرفها من هو بإحراز شرفها أحرى.

قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فابتدر الغنى لجوابه، وقد استخرج دقيق التعريض من جرابه، فقال: إن بعض من أسعده الجد بخدمتي، وأيده الجد بعزمتي، وسدده المجد بهمتي.

أنشده هذين البيتين بعض ندمائه، وجلاهما كالنيرين في سمائه.

فتفطن ذلك الرئيس، لمعنىً فيهما نفيس.

وأعاد إنشادهما في الحال، وقد وضع النوال موضع السؤال.

فأظهر شمائل همته العلية، في دلائل عباراته الجلية.

وسدد سهم الإصابة بساعد الكرم، فكنت قوسه ووتره ورمى مقاتل الفقر وما ظلم.

فأرداه ووتره، وألبس البيتين حلى الملوك بعد أن كانا في أسمال صعلوك.

حتى أشرق معناهما بالضياء المستفاد من شمسي، وأغدق معناهما بالأنواء الهاطلة من سماء يومي وأمسي.

قال: ثم تنبه إلى أن هذا الكلام، من بليغ الكلام.

وأنه بغى والبغي مرتعه وخيم، وأظهر دعوى الفضل، " وفوق كل ذي علمٍ عليم ".

فكف من غربه، ورجع عن شرقه وغربه.

واسترجع وسكت، وأطرق إلى الأرض ونكت.

لكنه قال في أثناء ذلك: ما أراني أضللت المسالك، وأنا ما قلت وإن فخرت وطلت لعنان الحق مالك.

وليس بملومٍ من نطق بالحق وصدع، وإن شق قلب المعاند وصدع، والحق أحق أن يتبع.

وما المرءُ إلَاّ حيث يجعل نفسَه

وإنِّي لها فوق السِّماكيْن جاعلُ

قال الراوي: فاستشاط الفقر من الغيظ، وتلظت أنفاسه أحر من سموم القيظ.

وأنف من الذل والاستكانة، إذ أنزله الغنى إلى هذه المكانة.

وأنشد وقد أشعل نار الحمية تسعيرها:

ونفْسَك أكْرِمْ عن أمورٍ كثيرةٍ

فمالك نفسٌ بعدها تسْتعيرُهَا

ثم انبرى للمقاومة مسترسلاً، بعد أن تضرع إلى الله تعالى متوسلاً، وقال متمثلاً:

إحْدى ليالِيكِ فهِيسي هِيسِي

لا تنْعَمِي الليلةَ بالتَّعْرِيسِ

إلا أنه خاطب خطاب من قيد الحلم ألفاظه، وسدد العلم إيقاظه.

فقال: أيها الغني لقد صرحت وما كنيت، وعجلت وما تأنيت، فبرحت إذ تجنيت.

ص: 86

وليتك حين صددت عن الإنصاف وأبيت، لم تعمر بيتاً بخراب بيت.

أخبرني عن هذا الرئيس، الذي ملأت أنت له الكيس.

فزعمت أنه إنما صار لما ذكرت قائلاً، من حيث كان في ظلك قائلاً.

فلو كان ظامىء العود من مياه الكرم التي جرت فيه، جاف العنقود عن حلب سلاف البلاغة التي رشفت من فيه.

أتراه كان يقول ما قال، ويتحمل ما يستلزمه نطقه من الأثقال؟ أو تراه لو كان مربوطاً بأشراكي، ومخروطاً في أسلاكي، محوطاً بأفلاكي.

ثم كان ممن تشتق أفعال الكرم من مصدر طبعه، وتشق قسي الهمم من غروس نبعه.

ألم يكن ينطق بما به نطق ويرشد إلى ما إليه أرشد، حين أنشد البيتين من أنشد.

فلا تجهل علوم الأخلاق وأنت خبيرها،

فما الجودُ من فقرِ الرِّجالِ ولا الغنَى

ولكنه خِيمُ الرِّجالِ وخِيرُهَا

وأما إزراؤك على الصعاليك، لتزيد بذلك في معاليك.

فكفاهم فخراً في الدين، قول علم المهتدين:" رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره "، وما أشبه هذا مما طرق سمعك غير مرة.

وأما باعتبار الدنيا، ورتبتها الدنيا.

فإن فيهم من علا بالأوصاف قدره، وغلا للأضياف قدره، حتى أشرق من أفق الشعر بدره.

ولكنَّ صُعْلوُكاً صحيفةُ وجهِه

كضَوءِ شهابِ القَابِسِ المُتنوِّرِ

إلى آخر الأبيات، المعلومة في الروايات.

فيا أيها الغني، هلا إذ نطقت، تحملت ما أطقت.

ورفعت نفسك من حيث لم تخفض سواك، وجلوت ثغرك بغير هذا السواك.

فإن الشريف الكريم، ينقص قدراً بالتعدي على الشريف الكريم، وولع الخمر بالعقول رماها بالتنجيس وبالتحريم.

قال: فنظر إليه الغني شزرا، وأعاره لحظاً نزرا.

وخاطبه مخاطبة متحكم، ولاطفه ملاطفة متهكم، فقال: عذراً أيها المسكين، ورفقاً أيها المستكين، فما أنا بلغت عظمك السكين، ولست الذي أنزل شكلك هذا البيت من التسكين.

إنما قلت في وفيك، ما كلانا به حقيق، ونسبت إلي وإليك، ما انعقد عليه الإجماع بالتحقيق.

فاستمع مني بعض أوصافك، واردد جماح أنفتك بلجام إنصافك.

وإن لم تصدق الناس ما أقول، فبرئت مني ذمة المعقول: ألست حائك شقق الهون والإذلال، وموشيها بوشي الكدية والسؤال، ومفصل أوصالها بمقراض الضجر والملال، وخائط تفاصيلها بخيوط الإلحاح الطوال، ومقدرها على قامات الرجال؟ فمفرغها عليهم للزينة والجمال! فاستجل فيهم هذا الوصف الشنيع، واستمل منهم شكر هذا الصنيع.

واعفني من عتابك، فإني أربأ بنفسي عن خطابك.

وإن حمى عزي المنيع المحرم، ومن لا يكرم نفسه لا يكرم.

ثم إنك مع ذا أردت جلاء العين فزدت قذىً، وأنزلت معالي الهدى في مغاني الهذا.

وتكلمت في حضرتي بشريف الآثار، كلام من يظن أنه فيها ذو استثيار، وأنت تعلم أني فارس نقعها المثار.

واستشهدت ببعض الأشعار، فأشهدت أن لمعانيها في ذهنك أشعار، وكلٌ عارفٌ بأني لا أركب في مضمارها الفرس المعار، ولا أقنع في معرفة أسرارها بالدثار دون الشعار.

وإن كنت تستطيع معي صبرا، فسأنبئك بما لم تحط به خبرا.

حسبي وإياك صيتاً وذكرا، أن الله سماني خيرا وسماك شرا، " إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً ".

وجعلني من نعمه التي ذكر بها عباده كثرا، " وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً ".

بل يشمل سيد البشر هذا المعنى، " ووجدك عائلاً فأغنى ".

وإن من دلائل فخري وسعدي، وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي.

وجعلك من المحن التي تسكب عندها العبرات، ولا تقال في حزونها العثرات، " ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات ".

وإن شئت خفضتك طبقةً أخرى، ورويت لك " كاد الفقر أن يكون كفرا "، وما جرى هذا المجرى.

فأنت المبعد عن طاعة الخالق، لما تنزل بالخلائق، من الكرب والمضائق، وهي القواطع والعوائق.

وأنا الذي أيسر لهم سني البضاعات، المتوقف عليها كثيرٌ من الطاعات.

فلولا وجودي، ووجود جودي، لم يظفروا بثواب الزكوات والصدقات، وصلة الأرحام بالنفقات.

ومن أعظم هذا المرام، حج بيت الله الحرام.

وهل يستوي الإيسار والإفلاس، والله لم يدع إلى بيته سوى المياسير من الناس!

ص: 87

وتعلم كثرة دعاء الأنبياء، والمقتدين بهم من الأولياء، بالاستعاذة من جوارك، والاستقالة من عثارك، والتضرع إلى الله في محو آثارك.

وأما الشعراء فقد هاموا بهجوك في كل واد، وقاموا بذمك على رؤوس الأشهاد.

وأمروا للهرب منك بالتغرب في البلاد، ومقاساة الأين في ذلك والسهاد، حتى

رأيتُ المُقامَ على الاقْتصادِ

قُنوعاً به ذِلَّةٌ في العبادِ

وحسبك بيتٌ سار مسير الأمثال في الورى،

فسِرْ في بلادِ اللهِ والْتَمِسِ الغِنَى

تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموتَ فتُعْذَرا

وقال من أنف من قدرك الحقير:

دَعِيني للغنى أسْعَى فإنِّي

رأيتُ الناسَ شَرُّهم الفقيرُ

ولو عقلت ما فاخرت الأقران، وقد نظموك والكفر في قران.

ما أحْسَنَ الدين والدنيا إذا اجْتمعا

وأقْبَحَ الكفرَ والإفْلاسَ بالرَّجُلِ

وصعاليك اليهود، على هذا البيت من الشهود.

ولولا ذم الإطرا وخوف الملام، وأن يقول بعض الفقراء مادح نفسك يقريك السلام؛ لأوردت عليك ما نظموه في من المدائح، وصيرت لك در الفرائد من أخلاف القرائح.

وكيف لا وأنا علتهم الغائية في نظم مدائحهم المحبرة، ونعوتهم المحررة، وأغزالهم الرائقة، وتخيلاتهم الفائقة.

وهل الممدوح إذا مثل المادح لديه، إلا المعهود الذي أقدره على إطلاق يديه.

فخذ إليك غيضاً من فيض، ولمعةً من روض.

وإن أردت زيادة الخوض، ملأت بهذا السجل لك الحوض.

حتى تقول قطني، فقد ملأت بطني.

قال الراوي: فاستجاش الفقر وازبأر، وزمجر وزأر، واستوفز وأثأر، وقال: كلا لا مفر " إلى ربك يومئذٍ المستقر ".

الآن حمي الوطيس، والتف الخميس بالخميس.

وتكلمت القلوب بألسنةٍ أحد من الصفاح، بل تكلمت ألسنة العذبات الحمر بأفواه الجراح.

مَن صدَّ عن نِيرانِها

فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَرَاحُ

أيها الغني، أمثلي تذلل صعابه البرى، ويركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.

أقسمت بمن جعلني في خلقه آية، ورفع لي على الطاغين أشهر راية، وجعلني لمحق الباغين أشأم من ابن داية؛ لتسمعن مني ما يدعك تقرع بأنامل الندم الثنايا، وأنا ابن جلا وطلاع الثنايا.

أيها الناعم في لباس العجب والتيه، والزاعم أنه مولى الفضل ومؤتيه، والنازع إلى أخلاق اللؤم والرداة، والمنازع رب الكبرياء رداه.

لقد افتريت في وصفي ووصفك بمينك، وأبصرت القذاة في عيني ولم تبصر الجذع في عينك.

وصدفت عن مناهج الحق ومشارعه، وحرفت الكلم عن مواضعه.

ولو أنك شداد بن عاد، ثم متعك الله تعالى بإرم ذات العماد، وفرعون ذو الأوتاد، ثم نجوت من اليم بمن معك من الأجناد، وكليب بن ريبعة ولم يقدر عليك جساسٌ في الحمى، وأبرهة ولم ترمك طيرٌ أبابيل من السما، وزهير بن جذيمة ولم تأخذك يد خالد من قريب، وأبو جهل بن هشام ولم تسحب إلى القليب؛ لأنفت لك من هذا العجب والاستطالة، وضجرت منك إذ أطلت هذه الإطالة.

لكن لا بدع في ذلك فإنك منبع الطغيان، بنص القرآن:" إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى "، " أن كان ذا مالٍ وبنين، إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ".

وإن الذي جمع مالاً وعدده، وحسب أن ماله أخلده، منك استمد مدده، وبك أعد في الكفر عدده.

وقد قالت أكابر قريش حين لفحتها ريحك العقيم: " لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم ".

وقد علم مفضلك أو مساويك، إن لم يعمه حبك عن مساويك، أن الخلق بك يخسرون ولا يفلحون، وأنك من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

فكم قد اقتضى غي أهوائك، وعي أدوائك، وسكر شرابك، ومسكر سرابك أن يقطع السارق، ويقمع المارق، ويروع الخائن، ويصفع المائن، ويدفع الغاصب القاسط، ويتبع المحاسب المغالط.

وأن يدنس بياض الأعراض، بسواد دنايا الأغراض، ويتحكم في صحاح العقول عضال الأمراض، من الأطماع الحقيقة بالإهمال والإعراض.

ويفصح الحريص بالجريض، عند الحث على الجود والتحريض.

وأن يرتكب الحازم، متون المآثم.

يطيب الظنون، ويقدم السالك في المفاوز والمهالك على ريب المنون.

وكم أوقعت فتنتك بين المرء وأبيه، وخليله وأخيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن في الأرض جميعاً ثم لا ينجيه.

ص: 88

ولعلك تقول: إن من ذكرت، وشنعت عليهم وأنكرت، منك هربوا فلاذوا بسابغ ظلي، وفي حماك أجدبوا فاستسقوا وبلي وطلي، فأنت الذي حملتهم على أن يرتكبوا ما ارتكبوا، حتى حادوا عن القصد ونكبوا، فعوقبوا ونكبوا.

كلا، إن خرط القتاد، دوون هذا الإيراد.

فمن المعلوم أن كثيراً ممن ظهرت غواياتهم، وبعدت في الفساد غاياتهم، قد يرضى لنفسه بسمة القباحة، مع كوني لم أطرق له ساحة.

وإنما يقصد الزيادة من كيلك، أو التقويم لأودك عند ميلك، فتعشى عين بصيرته في ليلك.

وأما من سواهم، وقليلٌ ما هم، فلو كان قصده بأفعاله الشنيعة، إفلاته من حوزتي المنيعة، لكنت تراه يكتفي بالطفيف الذي يبعده عني، ولا يتآكد مصاعد التمني والتعني.

دليلُك أن الفقرَ خيرٌ من الغنَى

وأن قليلَ المالِ خيرٌ من المُثْرِي

لقاؤُك شخصاً قد عصى الله للِغنَى

ولستَ ترى شخصاً عصى اللهَ للفقرِ

ويؤكد هذه الأحكاك الجليلة، ما أثبتته الأدلة العقلية والنقلية، أن جمع الأموال، من وجوه الحلال، يكاد يدخل في المحال.

أما تعلم أن من قابلني بالرضا، والتسليم للقضا.

وكف نظره عن الطماح، وعامل هواه بالزجر لا بالسماح.

ظفر بكنز القناعة، وطفر عن وهاد الذل والخناعة.

وهجر كد الطلب ووباله، وفرغ بطاعة مولاه خاطره وباله.

وتمسك بأوثق الوسائل، لتحصيل العلوم والفضائل.

واستحق أن ينشد لسان افتخاره:

غيرِي يُغيِّره فِعالُ الجافِي

ويحُول عن شِيَمِ الكريم الوافِي

ويرشد عند اختياره:

إن الغَنِيَّ هو الغنيُّ بنفْسِه

ولَوَ انَّه عارِي المَناكبِ حَافِي

وأما من أبغضك وأحبني، ورفضك وقربني، وأبعدك وأنت قائمٌ في خدمته كبعض عبيده، وطردك وأنت باسطٌ ذراعيك بوصيده، فإنه رجل الدنيا وواحدها، وطالب الأخرى فواجدها.

وحسبك بإبراهيم بن أدهم بعد نزوله من أعلى القصور، وعمرو بن عبيد وجلالة قدره عند المنصور.

دع أهل هذه الطبقة وما حووه من المفاخر، واتل:" لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ".

أليس قد ورد عنه صادق النبا، بأنه قد نشز عنك ونبا، وقد عرض عليه أن تصير معه جبال تهامة فضة وذهبا؟؟ ثم من العجب زعمك أنك العزيز وأنا الذليل، وأني الحقير وأنت الجليل.

ولو كنت تساوي عفطة عنز أو قلامة حافر، لما متع الله تعالى بك الفاسق والكافر.

وإن زعمت أن لك الفضل والنعمة، لأن مصاحبك يعد من ألي النعمة؛ فإن معك من المحن والأكدار، وهموم الخوف من طوارق الأقدار، وتوقي سوء السمعة في هذه الدار، ما لا ينقطع ولا ينتفي، ولا يستتر ولا يختفي.

وَازنْتُ بين مَلِيحِها وقبيحِها

فإذا الملاحةُ بالقباحةِ لا تفي

وأني يهنأ بعي مستطاب، من يعلم أن حلالك حسابٌ وحرامك عقاب.

وكيف يتحمل منك الإفضال والإنعام، من يسمع " يدخل فقراء هذه الأمة الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام ".

فدونكها غارةً شعواء، تخبط في عجاجها خبط العشواء، وداهيةً دهياء، تحقق عندك أنك الداء العياء.

تمنع الحدث الغر أن يصول، والهرم المجرب أن يقول:

يا ليْتني فيها جَذَعْ

أخُبُّ فيها وأضَعْ

وتقرر في العقول، مفاد المثل المنقول:

ما طارَ طيرٌ وارْتفَعْ

إلَاّ كما طارَ وَقَعْ

قد أصدرتها صيانة المروءة الشرعية، وحياطة حقوق النفس المرعية؛ لا بوادر القوة الغضبية، ونوادر النخوة والحمية.

لتفيدك موعظةً حسنة، وتتلو: لا تستوي السيئة والحسنة.

وتنشد البيت الدائر على الألسنة:

الخيرُ يَبْقَى وإن طال الزَّمانُ بهِ

والشَّرُّ أخْبَثُ ما أوْعَيْتَ مِن زادِ

قال راوي الحديث: فما أتم الفقر مقاله، ورمى عن ظهره أثقاله؛ أقبل الغني على رأس المجلس وصدره، وشمس المحفل وبدره.

وقال: أيها النفس الشريفة، مد الله تعالى بك ظلال العقل الوريفة، إن حال هذا الجاهل طريفة أي طريفه.

لقد جهل الجهل المركب، وركب في غير سرجه هذا المركب.

وقصد إذ شوه وجه جمالي، وأود غصن كمالي، أن ينشد حرٌّ كريم، أو ذو أدب قويم:

كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لوجْهِها

حَسَداً وبُغْضاً إنه لَذَمِيمُ

ص: 89

فيدخل بفحوى العموم في جملة أقراني، ويصعد بهذا المفهوم إلى أوج قراني.

وهيهات هيهات، أين الثريا من يد المتناول، ومتى قال السها يا شمس أنت خفية، وقال الدجى يا صبح لونك حائل.

ولو انثالت من جيوش الكلام هذه الجحافل، في أحقر الأندية والمحافل، لميز في الحال بين البطل الشجاع، والخنع اليراع، وأسقط سقط المتاع، عن رتبة سكاب الذي لا يعار ولا يباع.

فكيف بهذا المجلس الذي انتشرت عليه غمائم الأدب والفضل، وشرت منه بوارق صوارم القول الفصل، وارتعدت بصواعق الجد فرائض الهزل، وهمرت سيول النفع والضر في شعاب التولية والعزل.

وإني سأحبس عن القول عناني، ولا آخذ إلا فيما عناني، حتى تنحسم أباطيل الأماني، وتمحي عن صحائف الخواطر وساوس ماني، وأجازي بالشكر من عرف قدري فأسماني.

قال: فبادر الفقر قائلاً: رب إني دعوت هذا الخصم للرشاد ليلاً ونهارا، ونصحته بالبيان المستفاد سراً وجهارا، فلم يزده دعائي إلا فرارا، وإصرارا على الجور واستكبارا.

ثم لم يكتف بذلك حتى أخذ يمكر بي مكراً كبارا، ويتقرب للحضرة السلطانية استظهارا علي واستنصارا، ويظن أن سينال بذلك لديها إيثارا.

كلا والله، تلك حضرةٌ شوط الباطل فيها قصير، وهي للحق وأهله نعمت النصير، ولا يتميز عندها للمتربع فوق السرير، على الجاثي على الحصير، وقد وقف الكلام بمنتهاه وغايته وصار إلى مصير.

ثم أقبل على العقل، وقال: يا مولانا الوزير، أنت المدبر والمشير، والحاكم على كل مأمور وأمير.

وأنت لسان الملك الناطق بلا اعتراض، ويده المتصرفة في سائر الأغراض، وطبيب أحكامه الشافي من كل الأمراض، ولك الأمر " فاقض ما أنت قاض ".

قال كريم الطباع، الراوي لهذه الأسجاع: فلما سمع العقل ما قالاه، ورآى أنهما ألزماه الحكومة وإن عثر ما أقالاه، لبث هنيئةً ينتظر الإذن في الكلام، ويحرر من القول ما يخرجه عن الملام.

إجلالا للحضرة السلطانية وتبجيلا، وعملا بما قيل:

إن الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنما

جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلَا

حتى حصلت له الإشارة، ووصلت نتائج أفكاره المستشارة.

فاستعاذ من الشيطان الرجيم، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم.

أما بعد؛ فإن الحكومة معيار الذمم، ومحك الهمم.

وميزان الفضل والمعرفة، وميدان الأفكار المتصرفة.

وممر أنهار البلاغة والفصاحة، ومقر أطواد الرصانة والرجاجة، ومصرع جنوب المودة والصداقة، لكن في معارك ذوي الجهل والحماقة والحق يأبى الجمع بين النقيضين، والعقل يحرص على الإصلاح بين البغيضين.

والتوفيق عزير، وخير القول الجامع الوجيز.

وبحر المدح والقدح لا تفنى عجائبهم

ومَن ذا الذي تُرْضَى سَجاياهُ كُلُّها

كفَى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعايِبُهْ

ومن هنا أيها الفقر والغني ينبغي أن تعلما أنكما أدخلتماني في أضيق من سم الخياط، وكلفتماني المرور على جهنم فوق الصراط، وأشق المسالك الشرعية باب الاحتياط.

وأنا أستعين الله تعالى وأستهديه، وأسأله أن يوفقكما لقبول ما أبديه.

فقد أجبت السؤال وأطعت، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت.

أما أنت أيها الغنى؛ فإنك المحمود المذموم، الميمون المشئوم؛ المحبوب المبغوض، المطلوب المرفوض؛ النافع الضار، المقيم الفار، المنبه الغار.

وأما أنت أيها الفقر، فإنك العدو الصديق، المسعف الرفيق؛ المشقي المسعد، المهبط المصعد؛ الممرض المعافى، المعرض الوافي، المخل الكافي، الناقص الوافي.

وأنا أفصل لكما هذين الإجمالين، وأرفع التناقض بين الاحتمالين، حتى تنزهاني عن الجهل والمين، وتنقلبا بحقائق الأمور عالمين.

اعلما أن الله لم يخلق شيئاً عبثا ولعبا، " ولا يظلم ربك أحداً " أولاه راحةً أو تعبا.

وجميع نعمه ونقمه، منتظمةٌ في أسلاك حكمه.

وكل ما أودعه في عالم الكون والفساد، ذريعةٌ للعباد إلى كسب الفوز في المعاد.

وملاك نتيجة كل قضية، ما يهدي الله إلى اختياره حضرة النفس الإنسانية.

وقد أحلكما الله تعالى بين عباده في مواقع، يجوزها الشرع ولا يدافع، من أوفاها حقها ظفر بالعمل النافع، ومنقصر جوزي بعذابٍ واقع، ماله من دافع.

فيكون الغنى منحةً استوجبها المطيع فحواها، أو مصلحةً لا يصلح العبد سواها.

أو محنةً للاختبار والابتلا، أو فتنةً للاستدراج والإملا.

ص: 90

ويكون الفقر نقمةً طبق الاستحقاق المسطور، أو نعمةً لتنزيه النفوس الشريفة عن متاع الغرور.

ويشارك الغنى في الابتلاء والاختبار، والمصلحة التي يعلمها الحكيم المختار.

فحق المحبو بالغنى أن لا يألو جهداً، في أن يوالي شكراً وحمدا.

وأن يتوصل به لاكتساب الأخرى، ويتصرف فيه بما هو الأولى والأحرى.

ويتخرج من عهدة النوافل والحقوق، ويتحرج عن وصمة التغافل والعقوق.

ويستعيذ بالله من إملائه وفتنته، ويحذر أن تغلب الغفلة على فطنته.

وإياه ثم إياه، أن يشغله عن مولاه.

وتحت هذا الإجمال تفصيلٌ طويل، الويل لمن أضرب عنه والعويل.

وحق الممنو بالفقر أن يأخذ بالرضا والتسليم، ويقابل حكم الحكيم بقلبٍ سليم.

ويكشره على آلائه، حيث اختصه بشعار أنبيائه وأوليائه.

وينيب إلى باريه بالتوبة، ويستعيذ به من شؤم الإثم والحوبة.

ويعتاض بعز القناعة والكفاف، ويرتاض على الزهد والعفاف.

ويعتصم بحبل التقى، ويحذر من التخلص بالشفا من الشقا.

ولا ييأس من روح الفرج، وإن عز في الضيق المخرج.

ولا يدع التلطف في الحيلة، لتكلف المظاهر الجميلة.

فهذه السنن المتبعة، مقنعة في الخرج من عهدة المواقع الأربعة.

إذا علم هذا وتقرر، وثبت لديكما وتحرر، فاعلما أن كل واحدٍ منكما جاور من هذه صفاته، وحاور من لا تصدع بالجهل صفاته.

فهو في معرك المفاخرة فارس الصفين، والحائز للقسم المحمود من الوصفين.

وإلا فهو المتسم بالوصف الأخير، الحري وإن قدم بالتأخير.

ثم إن أبيتما، إلا التمييز في الصفات بينكما، فأنت أيها الغني كالسيف الصقيل، يضيء حده في أعناق المعتدين والمهتدين، والجواد الأصيل يصلح حده لقطع السبل ولإعزاز الدين.

فلك الفخر الذي يزاحم الكواكب بالمناكب، لكن بعد النظر إلى الضارب والراكب.

وأنت أيها الفقر كالبحر الأجاج، يجري فيه الفلك مواخر، ويستخرج منه الدر الفاخر.

والقفر العجاج، ينجو سالكه من طلب أعدائه، ويرجو عند انتهاء السير لقاء أودائه.

فأنت الحائز للمفاخر، لكن باعتبار العواقب والأواخر.

ثم إني أقول ولا أخشى ملامة، إن الفقر أدل على منهج الاستقامة، وأقرب إلى ساحل السلامة.

وإن كان الغنى إذا كشف عن صاحبه الرين، ووفق على عزة التوفيق لأحمد الاختيارين، فهو الظافر بسعادة الدارين.

وبهذا التأصيل الوثيق، والتفصيل المطابق للتحقيق، يرتفع التناقض بين ما أوردتماه من الحجج، وقلتماه عند الخوض في تلك اللجج.

فتأملاه بعين البصيرة، وتناولاه بيدٍ غير قصيرة.

وعلى كل حال فأنا الممتحن المبتلى بكما، والمرآة المجلى فيها شكلكما.

ولم يكفكما تكليفي المشاق منفردين، حتى جئتماني مجتمعين، وحملتماني ما لو عرض على الجبال لأبين.

وأنا أسأل الله تعالى أن يمنح حكمي القبول، ويوفق بينكما بالإصلاح وهيهات أن تتفق الدبور والقبول.

قال راوي الحديث: فلما سمع الغنى والفقر ما جلاه العقل من الدلائل، وعلما أنه لم يبق مقالاً لقائل، ولا مصالاً لصائل، قاما حامدين للحكومة راضيين، وانطلقا لشأنهما كالسيفين الماضيين.

وتفرق أرباب المجلس وكلٌّ يقول: هذا هو الحكم العدل، والمنطق الفصل، ولواهب العقل جزيل الحمد والمنة والفضل.

محمد بن أحمد حكيم الملك بضم الميم وسكون اللام جواد لا يشق غباره، وكامل خلص من الزيف عياره.

سرح في فنون العلم وسام، واجتلى وجوه خطاياه وهي نضرة وسام.

وهو من بيت رياسةٍ وجلالة، وقومٍ لم يرثوا المجد عن كلالة.

وكان لسلفه عند ملوك الهند آل تيمور، محلٌّ بندى أكفهم معمور، ومنزل بفائض عوارفهم مغمور.

ولما ورد جده مكة المشرفة، قصد آل الحسن السادة، فأحلوه المحل الذي ينبيه أعين الحسادة.

وولد صاحب الترجمة بمكة، فنشأ في بيت مجدٍ علا قدره، ورضع من ضرع ذلك المحتد فلله دره.

فجمع بين تليد المجد وطريفه، وقال من ظل الرعاية في فسيحه ووريفه.

قال ابن معصوم: ولم يزل متبعا تلك الدار، محمود الإيراد والإصدار.

مع تمسكه من سلطانها الشريف محسن بالعروة الوثقى التي لا تنفصم، وحلوله لديه بالمكانة التي ما حلها ابن دؤاد عند المعتصم.

حتى حصل عليه من الشريف أحمد بن عبد المطلب ما حصل، لما انحل عقد ولاية الشريف محسن منها وانفصل.

فكان ممن نهب الشريف داره وماله، وقطع من الأمان أمانيه وآماله.

ص: 91

فالتجأ إلى بعض الأشراف، فأمنه على نفسه بعد مشاهدة الوقوف على الهلاك والإشراف.

ثم سار مختفيا إلى اليمن، واستمر حتى قتل ابن عبد المطلب، فلم ير من شريف مكة السيد مسعود ما كان يأمله قبل، فتوجه إلى الهند فألقى بها عصاه، إلى أن بلغ من العمر أقصاه.

انتهى.

ومن شعره الذي أخذ بكل معنى، وتعطر بمشام ذكره كل مغنى.

قوله:

صَوادِحُ الْبانِ وَهْناً شَجْوُها بادِي

فمن مُعِينُ فتىً في فَتِّ أكْبادِ

صَبٌّ إذا غنَّتِ الورْقاءُ أرَّقهُ

تَذْكيرُها نَغَمات الشادِنِ الشادِي

فبات يرعُف من جَفْنيْهِ تحسَبُه

يُرَجْرِج المَدْمَعَ الوَكَّافَ بالجادِي

جافِي المضاجعِ إلْفُ السُّهْدِ ساوَرَه

سَمُّ الأساوِدِ أو أنْيابُ آسادِ

له إذا الليل وَارَاهُ نَشِيجُ شَجٍ

وجَذْوةٌ في حَشاهُ ذاتُ إيقادِ

سُمَّارُه حين يُضْنيه تَوَحُّشُه

فيَشْرَئِبُّ إلى تأْسِيسِ عُوَّادِ

وَجْدٌ وهَمٌّ وأشْجانٌ وبَرْحُ جَوىً

ولَوعةٌ تتلظَّى والأسى سَادِي

أضْناهُ تفْريقُ شَمْلٍ ظَلَّ مُجتمِعاً

وضَنَّ بالعَوْدِ دَهْرٌ خَطْبُه عادِي

فالعمرُ ما بين ضَنٍ ينْقضِي وضَنىً

والدهرُ ما بين إيعادٍ وإبْعادِ

لا وَصْلَ سَلْمَى وذاتِ الخالِ يرْقُبُه

ولا يُؤمِّل من سُعْدَى لإسْعادِ

أضْنَى فؤاديَ واسْتَوْهَى قُوَى خلَدِي

أقْوَى مَلاعبَ بين الهُضْبِ والوادِي

عَفَّتْ مَحاسنُها الأيامُ فانْدَرستْ

واسْتبْدلَتْ وَحْشةً من أُنْسِها البادِي

وعاث صَرْفُ الليالي في مَعالِمها

فما يُجيبُ الصَّدَى فيها سِوَى الصَّادِي

دَوارِجُ المَوْرِ مارتْ في مَعاهدِها

فغادرَتْها عَفَا السَّاحاتِ والنادِي

وصَوَّحتْ بالبِلَى أطْلالُها وخَلَتْ

رِحابُها الفِيحُ من هَيْدٍ ومِن هادِي

كأنها لم تكنْ يوماً لِبيضِ مَهاً

مَراتِعاً قد خلَتْ فيهنَّ من هادِ

ولم تظَلَّ مَغانيها بغانيةٍ

تُغْنِي إذا ما رَدَى من بَدْرِها رَادِي

ولا تثَنَّتْ بها لَمْياءُ ساحِبةً

ذَيْلَ النعيم دَلالاً بين أنْدادِ

فارقْتُها وكأنِّي لم أظَلَّ بها

في ظِلِّ عَيْشٍ يُجلِّي عُذْرَ حَسَّادِ

أجْنِي قُطوفَ فُكاهاتٍ مُحاضرةً

طَوْراً وطوراً أُناغِي رُتْبة الهادِي

هَيْفاءُ يُزْرِي إذا ماسَتْ تمايُلُها

بأمْلَدٍ من غصونِ الْبانِ مَيَّادِ

بجانبِ الجيدِ يَهْوِي القُرْطُ مُرْتعِداً

مَهْواهُ جِدُّ سَحِيقٍ فوق أكْتادِ

شِفاهُها بين حُقِّ الدُّرِّ قد خَزنتْ

ذخيرةَ النَّحَلِ مَمْزُوجاً بها الجْادِي

إذا نَضَتْ عن مُحَيَّاها النَّقابَ صَبَا

مُسْتهْتَراً كلُّ سَجَّادٍ وعَبَّادِ

وإن تجلَّتْ ففيما قد جَلَتْه دُجىً

لنا به في الدَّآدِي أيُّما هادِي

وَمِيضُ بَرْقِ ثَناياها إذا ابتسمتْ

بعَأرضِ الدَّمْعِ مِن مَهْجورِها حَادِي

وناظِرانِ لها يَرْتَدُّ طَرفُهما

مهما رَنَتْ عن قتيلٍ ما له وَادِي

وصُبْحُ غُرّتِها في ليلِ طُرَّتِها

يَوْمايَ من وصلِها أو هجرِها العادِي

تلك الربوعُ التي كانت مَلاعبُها

أخْنَى عليها الذي أخْنَى على عادِ

إلى مَلاعب غِزْلانِ الصَّرِيمِ بها

يَحِنُّ قلبي المُعَنَّى ما شدَا شَادِي

بُعْداً لدهرٍ رماني بالفِراقِ بها

ولا سَقَى كَنفيْه الرّائحُ الغادِي

ص: 92

عَمْرِي لئن عظُمتْ تلك القَوادِحُ من

خُطوبِه وتعدَّتْ حَدَّ تَعْدادِ

لقد نسِيتُ وأنْسَتني بَوائقُه

تلك التي دَهْدَهتْ أصْلاً وأطْوادِ

مَصارِعٌ لِبَني الزَّهْرا وأحمد قد

أذْكَرْنَ فَخّاً ومَن أرْدَى به الهادي

لفَقْدِهم وعلى المَطْلولِ من دَمهِم

تبكي السماء بمُزْنٍ رائحٍ غادِي

وشَقَّ جَيْبَ الغمامِ البَرْقُ من حَزَنٍ

عليهمُ لا على أبْناءِ عَبَّادِ

كانوا كعِقْدٍ بجيدِ الدهرِ مُذْ فَرطَتْ

من ذاك وَاسِطةٌ أوْدَى بتَبْدادِ

وهو المَليكُ الذي للمُلْكِ كان حِمىً

مُذْ ماسَ من بُرْدِه في خَزِّ أبْرادِ

كانت لجيرانِ ببيتِ اللهِ دولتُه

مِهادَ أمْنٍ بِسَرْحِ الخيفِ ذَوَّادِ

وكان طَوْداً لِدَسْتِ المُلْكِ مُحْتبياً

ولاقْتناصِ المَعالي أيَّ نَهّادِ

ثَوَى بصَنْعا فيا للهِ ما اشْتملَتْ

عليه من مجدهِ في ضِيقِ ألْحادِ

فقد حَوَيْتِ به صَنْعاءُ من شَرَفٍ

كما حَوَتْ صَعْدةٌ بالسيِّد الهادِي

فحبَّذا أنتِ يا صَنْعاءُ من بلدٍ

ولا تغَشَّى زياداً وَكْفُ رَعَّادِ

مُصابُه كان رُزْءاً لا يُوازِنُه

رُزْءٌ ومِفْتاحَ أرْزاءٍ وأسْبادِ

وكان رَأْساً على الأشْرافِ منذ هوَى

تتابَعُوا بعده عن شِبْهِ مِيعادِ

لَهْفَ المُضافِ إذا ما أزْمَةٌ أزَمتْ

من قطبِ نائبةٍ للمَتْنِ هَدَّادِ

لَهْفَ المُضافِ إذا ما أقْلحتْ سَنَةٌ

يَضِنُّ في مَحْلِها الطَّائيُّ بالزَّادِ

لَهْفَ المُضافِ إذا كَرُّ الجِيادِ لدَى

حَرّ الجِلادِ أثار النَّقْعَ بالوادِي

لَهْفَ المُضافِ إذا ما يُسْتباحُ حِمىً

لفَقْدِ حَامٍ بِورْدِ الكَرِّ عَوَّادِ

لَهْفَ المُضافِ إذا جُلَّى به نزلَتْ

ولم يَجِدْ كاشِفاً منها بمِرْصادِ

لَهْفَ المُضافِ إذا نادَى الصَّرِيخُ ولم

يجِدْ له مصرخاً كالغيثِ للصَّادِي

لَهْفَ المُضافِ إذا الدهرُ العَسُوفُ سَطَا

بضَيْمِ جارٍ لنُزْلِ العِزِّ مُعْتادِ

بل لهفَ كُلِّ ذوِي الآمالِ قاطبةً

عليهمُ خيرُ مُرْتادٍ لِمُرْتادِ

كانتْ بهم تَزْدهِي في السِّلْمِ أنْدِيةٌ

وفي الوغَى كُلُّ قَدَّادٍ ومُنْآدِ

على الأرائِك أقْمارٌ تُضِيءُ ومِن

تحت التَّرائِك آسادٌ لمستادِ

تشكُو عِداهم إذا شاكِي السِّلاح بَدَا

شَكَّ القَنَا ما ضَفَا من نَسْجِ أبْرادِ

إلى النُّحورِ وما تحوِي الصدورُ وما

وَارَتْه في جُنْحِها ظُلماتُ أجْسادِ

جَنَى جَنىً قلقاً تحْوِي جَآجِئُها

ممّا يُقَصِّد فيها كلُّ قَصَّادِ

بَأدُوا فباد من الدنيا بأجْمعِها

مَن كان فكَّاكَ أصْفادٍ بإصْفادِ

وقد ذَوتْ زَهْرةُ الدنيا لِفَقْدِهمُ

وأُلبِستْ بعدهم أثْوابَ إحْدادِ

واجْتُثَّ غَرْسُ الأماني من فَجِيعتهم

وأنْشَد الدهرُ تقْنيطاً لِرُوَّادِ

يا ضيفُ أقفْرَ بيتُ المَكْرُماتِ فخُذْ

في جَمْعِ رَحْلِك واجمعْ فَضْلَة الزَّادِ

يا قلبُ لا تبْتئِسْ من هَوْلِ مَصْرَعِهمْ

وعَزِّ نفسَك في بُؤْسٍ وأنْكادِ

بمَن غدا خَلَفاً يا حبَّذَا خَلَفٌ

في المُلْكِ عن خيرِ آباءٍ وأجدادِ

بحائزٍ إرْثَهم حاوٍ مَفاخِرَهم

كما حَوى الألْفُ من آحادِ أعْدادِ

وذاك زيدٌ أدام اللهُ دولتَه

وزاده منه تأييداً بإمدادِ

ص: 93

سمَا به النَّسَبُ الوَضَّاحُ حيث غدا

طَرِيفُه جامعاً أشْتاتَ أتْلادِ

لقد حوَى من رَفِيعاتِ المَكارمِ ما

يكْفِي لمَفْخرِ أجْدادٍ وأحْفادِ

أليس قد نالَ مُلْكاً في شَبِيبتِه

ما ناله مًن سعَى أعْمارَ آبادِ

أليس في وَهَجِ الهَيْجا مَواقِفُه

مَشْكورةً بين أعداءٍ وأضْدادِ

أليس أسْبَحَ في التَّنْعيمِ سابِحَه

لُجَّ المَنايا ليُحْيِي فَلَّ أجْنادِ

أليس يومَ العَطا تحْكِي أنامِلُه

خُلْجانَ بحرٍ بفَيْضٍ التِّبْرِ مَدَّادِ

أليس قد لاحَ في تَأْسِيسِ دولتِه

من جَدِّه المصطفى رمزٌ بإرْشادِ

دامتْ مَعالِيه والنُّعْمَى بذاك له

يَصُونُها وهْو مَلْحوظٌ بإسْعادِ

ما لاح بَرْقٌ وما غَنَّتْ على فَنَنٍ

صَوادِحُ الْبلانِ وَهْنا شَجْوُها بادِي

قوله: أليس قد لاح في تأسيس دولته، يشير به إلى ما وقع للشريف زيد، فإنه لما ورد الأمر السلطاني بولايته الحرمين، وكان إذ ذاك بالمدينة المنورة، قصد زياة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد الخدم أن يفتحوا الباب، فوجدوه مفتوحاً، وكانوا قد أغلقوه من قبل، فعلم الناس أنه إشارةٌ إلى الفتح.

ومن لطائفه قوله من كتاب:

سقى الدمعُ مَغْنَى الوَابِليَّةِ بالحِمَى

سَواجِمَ تُغْنِي جانِبَيْه عن الوَبْلِ

ولا برِحتْ عيني تنُوبُ عن الْحَيَا

بدمعٍ على تلك المَناهلِ مُنْهَلِّ

مَغاني الغوانِي والشَّبيبةِ والصِّبا

ومَأْوَى المَوالِي والعشيرةِ والأهلِ

سَقاها الْحَيا من أرْبُعٍ وطُلولِ

حكَتْ دَنَفِي من بعدهم ونُحولِي

سَقا صَوْبُ الْحَيا دِمَناً

بجَرْعاءِ اللِّوَى دُرْسَا

وزاد مَحلَّكِ المَأْنُو

سَ يا دار الهوَى أُنْسَا

لئِن درَستْ رُبوعُك فالْ

هَوى العُذْرِيُّ ما دَرسَا

إنما المحافظة على الرسوم والآداب، والملاحظة للعوائد المألوفة في افتتاح الخطاب، لمن يملك أمره إذا اعتن ذكر زينب والرباب، ولم تحكم عقال عقله يد النوى والاغتراب.

وليست لمن كلما لاح بارقٌ ببرقة ثهمد، فكأنه أخو جنة مما يقوم ويقعد.

تتقاذفه أمواج الأحزان، وتترامى به طوائح الهواجس إلى كل مكان.

فهو وإن كان فيما ترى العين قاطناً بحيٍ من الأحياء،

يَوْماً بحُزْوَى ويوما بالعَقِيقِ وبالْ

غُوَيرِ يوماً ويوما بالخُلَيْصاءِ

لا يأتلي مقسم العزمات، منفصم عرى العزيمات.

لا يقر قراره، ولا يرجى اصطباره.

إن روح القلب بذكر المنحنى أقام الحنين حنايا ضلوعه، أو استروح روح الفرج من ذكر الخيف بمنىً أو مضت بوارق زفراته تحدو بعارض دموعه.

مَن تمنَّى مالاً وحُسْنَ مآلٍ

فمُنايَ مِنىً وأقْصَى مُرادِي

فيا له من قلبٍ لا يهدأ خفوقه ولا تني لامعةً بروقه، ولا يبرح من شمول الأحزان صبوحه وغبوقه.

يساور هموماً فما مساورة ضئيلةٍ من الرقش، ويناجي أحزاناً لو لابس بعضها الصخر الأصم لانهش، ويركب من أخطار الوحشة أهوالاً دونها ركوب النعش.

يحن إلى مواضع إيناسه، ويرتاح إلى مواضع غزلان صريمه وكناسه، ويندب أيام يستثمر الطرب من أفنان أغراسه.

أيامَ كنتُ من اللُّغوبِ مُراحَا

أيامَ لا الواشِي يَعُدُّ ضَلالةً

وَلَهِي عليه ولا العَذُولُ يُؤنِّبُ

أيَّامَ ليلَى تُرينِي الشمسَ طَلْعتُها

بعد الغروبِ بدَتْ في أُفْقِ أزْرارِ

أيامَ شَرْخُ شبابِي رَوضةٌ أُنُفٌ

ما رِيع منه برَوْعِ الشَّيْبِ رَيْعانُ

أيامَ غُصْنِيَ لَدْنٌ من نَضارتِه

أصْبُو إلى غيرِ جاراتِ وحاراتي

ثم انْقضَتْ تلكَ السِّنُون وأهْلُها

لم يَبْقَ منها لِمُشتاقٍ إذا ذكَرا

إلَاّ لَواعِجُ وَجْدٍ تبعثُ الفِكَرَا

ص: 94

ولم يُبْقِ منِّي الشوقُ إلَاّ تفكُّرِي

فلو شئتُ أن أبكي بكيْتُ تفكُّرَا

لم أكن على مفارقة الأحباب جلداً فأقول وهي جلدي، وإنما هي تجلدي، مما حملت من النوائب على كتدي، وفتت صروف البين المشتت من أفلاذ كبدي.

جرَّبتُ من صَرْفْ دهرِي كلَّ نائبةٍ

أمَرَّ من فُرْقةِ الأحْبابِ لم أجِدِ

فِراقاً قضَى أن لا تَأسِّيَ بعدما

مَضَى مُنْجِداً صبرِي وأوْغَلْتُ مُتْهِمَا

خليليَّ إن لم تُسْعِداني على البُكا

فلا أنْتُما منِّي ولا أنا منكُمَا

وحَسَّنْتُما لي سَلْوةً وتناسِياً

ولم تذكُرا كيف السبيلُ إليهمَا

حفيده صالح بن إبراهيم الحكيم روح الروح وثمرة الفؤاد، ومحله من الفضل محل السويداء من القلب والإنسان من السواد.

وقد من الله تعالى في الحرم الشريف بلقائه، وكنت قبل ذلك أستروح نسيم الود من تلقائه.

فاتخذته ثمة نجياً، وعاطيته ريحان الصداقة جنياً.

أستشعر من جهته نفس العافية، وأتمسح منه باليد الشافية.

فهو للقلب نجيٌّ وللروح سمير، ويكاد يؤكل بالمنى ويشرب بالضمير.

يفاوح أرجه أزاهير الأدواح، ويبعث نسيمه طيب الحياة للأرواح.

إلى طلعةٍ نورها في فلك القبول شارق، وطبيعةٍ إذا ذقت جناها وشمت سناها تذكرت ما بين العذيب وبارق.

وله محاضرةٌ هي غرام كل صبٍ متيم، ومعاضدةٌ إذا مرضت حاجةٌ كان لها ابن مريم.

وأما طبه فلو عالج الدهر لأمن في نفسه النقم، أو داوى الحياة لما طاف بها السقم.

وقد تناولت من أشعاره ما هو شفاءٌ للصدور، وخفرٌ في وجوه البدور.

فمن ذلك قوله من قصيدة:

يا مخجِلَ البِيضِ البَواتِرْ

بالسُّودِ من تلك النَّواظِرْ

الفاتكاتِ القاتِلاتِ الذُّ

بِّلِ الوُطْفِ الفَواتِرْ

عَجبَاً لها تُمْسِي الأُسو

د وهُنَّ أجْفانُ الجآذِرْ

غازَلْتُ منها مُقْلةً

غزلَتْ وحاكتْ كلَّ باتِرْ

يرْنو بها الرَّشَأُ الأغَنُّ

الأحْورُ الخِشْفُ المُنافِرْ

ظَبْيٌ حَشايَ كِناسُه

ومَقَرُّه حيث السَّرائِرْ

قمرَ العقولَ بحُسْنِه

أفْدِيه من قَمَرٍ وقامِرْ

لَمَعتْ بَوارِقُ ثَغْرِه

فانْهَلَّ مِن جَفْنَيَّ ماطِرْ

بمَباسمٍ قد نُظِّمتْ

في سِلْكِ مَرْجانٍ جَواهِرْ

وبدا صباحُ جَبِينِه

فانْجاب لي ليلُ الضِّفائِرْ

واهْتزَّ غصنُ قَوامِه

وغدا الفؤادُ عليه طائرْ

والرِّدْفُ أخفَى خَصْرَه

فلذا عليه الكَشْحُ دائرْ

يا قلبُ مالك سَلْوةٌ

كلَاّ ولا للوجدِ آخرْ

عذَل العَذُولُ ومُذ رأَى

بَاهِي المُحَيَّا عاد عاذِرْ

أجْرَيْتُ وُقْفَ مَدامعِي

وإلى لِقاهُ الطَّرْفُ ناظرْ

وكذا نَجِيعُ نُضارِها

بتصَعُّدِ الأنْفاسِ قاطِرْ

هجرَ الحبيبُ وليْته

لو كان للهِجْران هاجرْ

أبْكِي فيضحكُ هازئاً

ولسائلِ العَبَرات ناهِرْ

يا رَبَّةَ الحُسْنِ الذي

بجمَالِه بهرَ النَّواظِرْ

رِقِّي لرِقٍ طَرْفُه

يرعَى السُّها والطَّرْفُ ساهرْ

ما شام بارِقَ لَعْلَعٍ

إلَاّ غدا هامٍ وهامِرْ

حيثُ الظِّباءُ سَوانِحٌ

غِيدٌ حَبائلُها الغدَائرْ

من كلِّ رُودٍ كَحَّلتْ

بالسِّحرِ هاتيك المَحاجرْ

سلَبتْ فؤادي غادةٌ

مِنْهنَّ تلعب بالخواطِرْ

أفْدِي مُحيَّاها الذي

صُبْحُ الجَبِين عليه سافِرْ

سدَلتْ عليه جَعِيدَها

والليلُ للإصْباحِ ساترْ

ص: 95

لا تسْتُرِي قمراً بَدَا

ليلُ المُحبِّ بغيرِ آخرْ

وقوله من أخرى، أولها:

سَلُوا الرَّكبَ عن سَلْمَى وأين بها شَطُّوا

وهل خيَّمت بالجِزْع أم دارُها الشَّطُّ

وهل عندها عِلْمٌ بما صنعَ النَّوَى

وما جدَّد الشوقُ المُبرِّحُ والشَّحْطُ

وهل نزَلتْ بالسَّفْحِ من أيْمَنِ اللِّوَى

وغَرَّدها القُمْرِي وظَلُّلها الخَمْطُ

وهل ذكَرتْ يوم الوَداعِ وأدْمُعِي

بخدِّي حكاه الرَّسْمُ خَدَّده النَّقْطُ

وهل بارِقٌ ما شِمْتُه أم تبسَّمتْ

سُلَيْمَى فضاء الثَّغْرُ أو لمَع القُرْطُ

رَدَاحٌ لها في كلِّ قلبٍ مُخَيَّمٌ

وليس لمَفْتونٍ سوى حُبِّها قَطُّ

أباح لها وَالِي الهَوى من قلوبِنا

فمهما تَشا من ذي السُّوَيْداء تخْتَطُّ

لها مَبْسَمٌ حُلْوٌ تَنظَّم دُرُّه

على سِلْكِ مَرْجانٍ فضاءَ لنا السِّمْطُ

كأن مُذابَ الشُّهْد في بَرَدِ اللَّمَى

وفي ضِمْن هذا الألْعَسِ العَذْبِ إسْفَنْطُ

تُسدِّد نحوي أسْهُماً من جُفونِها

مُرَيَّشَةً حَبُّ القلوبِ لها لَقْطُ

فتُصْمِي بها قَدّاً يميلُ به الصِّبا

كغُصْنٍ أمالتْه الصَّبَا عندما تخْطُو

وتضْفِر من ليلِ الجَعِيدِ ذَوائباً

غدائر منها للنُّهَى الحَلُّ والرَّبْطُ

عَقِيلةُ سِرْبٍ كالْمَها في الْتفاتِها

تُعِير الظِّبا طَرْفاً وجِيداً إذا تَعْطُو

من الأمْجريَّات اللَّواتِي سَبَيْنَنَا

بشَرْطٍ من الحُسن البديع له شَرْطُ

من الناعماتِ السُّمْرِ مَن عطَّر الحِمَى

شَذاها إذا مَرّتْ به إثْرَها المِرْطُ

فَدَيْتُ تجَنِّيها ولُطْفَ دَلالِها

وإن راعَها مِنِّي بعَارِضِيَ الوَخْطُ

أعَاذِلتي كُفِّي المَلامَ فليس لي

على بُعْدِها صَبْرٌ ولو دُونَها الخَرْطُ

ولم أدْرِ أن الحبَّ يقْدَح زَنْدَه

لقلبِي وأن النار أوَّلها سِقْطُ

سأركبُ مَتْنَ الصَّعْبِ في طُرْقِ وَصْلِها

ولو أنها العَشْوا وسَيْرِي بها خَبْطُ

وأغْشَى حِماها والمُهنَّدُ صاحِبي

ولو أن في ذاك الحِمَى ينْبُت الخَطُّ

وأرْوِي ظَمَا حَرَّي ببارِد رِيقِها

وألْوِي عليها الزَّنْدَ لو مَسَّها الضَّغْطُ

وأشكُو إليها ما لقِيتُ بحبِّها

ومن فَرْطِ أشْواقي بها أدْمُعِي فُرْطُ

وقوله من أخرى، مستهلها:

مَغانِي الغوانِي لا عَدا الرَّبْعَ هَطَّالُ

ولا زال مُخْضَلَاّ بكِ الشِّيحُ والضَّالُ

ولا سجَعتْ وُرْقُ الحَمامِ على سِوَى

غصُونك يا مَرْمىً به الغِيدُ نُزَّالُ

سقاك وحَيَّاك وحَيَّى منازِلاً

لقد كان لي فيهنَّ حَظٌّ وإقْبالُ

أروحُ وأغْدُو بالكَثِيب ولي به

رَداحٌ لها من آل يافِثَ أخْوالُ

مُعَسَّلةُ الأنْيابِ أمَّا شَتِيتُها

فدُرٌّ وأما رِيقُها فهو جِرْيالُ

يجُولُ على تلك الَّلآلِي كأنه

مُذابُ سَلِيل الشُّهْدِ أو هو سَلْسالُ

حَمَى رِيقَها المعسولَ أبْيَضُ صارِمٌ

من قَدِّها الممشوقِ أسْمَرُ عَسَّالُ

تُعير الْمَها منها الْتفاتاً ونَظْرة

وترْنو كما يرْنو إلى الخِشْفِ مِطْفالُ

لها شَرْطُ حسنٍ فوق تُفَّاحِ خَدِّها

ومِن فوق ذاك الشَّرْطِ مِسْكٌ هو الخالُ

ورُمَّانتا نَهْدٍ على غُصن بَانةٍ

به فَرْطُ حُبِّي إن تحقَّق عُذَّالُ

ص: 96

وتسْدِل من ليل الجَعِيدِ ذَوائباً

يُجاذِبُ هاتيك الذَّوائبَ خَلْخالُ

وتُقْعِدها عند النُّهوضِ رَوادِفٌ

تَميل بغُصْنِ القَدِّ والقَدُّ مَيَّالُ

فلا تهْجُرِيني إنَّ هَجْرِي ظُلامةٌ

وجُرْحُ فؤادِي ماله اليومَ إدْمالُ

عسى عَطْفةٌ يَحْيى بها مَيِّتُ الهوى

رُبوعُ اصْطبارِي بعد بُعْدِك أطْلالُ

ويغْفَى مُحِبٌّ دَأْبُه السُّهْدُ والبُكا

كأن بعيْنيه المدامعَ أسْجالُ

يبِيتُ على جَمْرِ الغَضا وهو فَرْشُه

ويصْلَى بنار الحبِّ والحبُّ فَعَّالُ

صِلينِي أنا الوافِي العهودَ على القِلَى

وجَوْرُ الهوى عَدْلٌ ومَيْلٌ إذا مالُوا

ولا الصَّبُّ إلَاّ ما يرى الصَّابَ شُهْدَه

ويعلمُ أن الصبرَ حُلْوٌ إذا حالُوا

فَدَيْتُ الجفا منها وإن كان ضَائِرِي

وعشْقي سُلَيْمى لا محَالَة قَتّالُ

أُكتِّم جُهْدِي حُبَّها وهو ناحِلِي

ويفْضحني دمعٌ على الخدِّ سَيَّالُ

أحِنُّ إلى سَلْمَى على قُرْبِ دارِها

حَنِينَ فَقِيدِ الإلْفِ أضْناه بَلْبَالُ

ويُنْشِد قلبي كلما ارْتاع للنَّوى

وأضْناه تَذْكارٌ وحالتْ به حالُ

أيا دارَها بالخَيْف إن مَزارَها

قريبٌ ولكن دون ذلك أهْوالُ

وكتب إلي هذه القصيدة، طالباً مراجعتي:

قَوامٌ أنْبتَ الرُّمَّانَ نَهْدَا

وغُصْنٌ ماسَ أم قَدٌّ تبدَّى

وبَرْقٌ ما أرى أم دُرُّ ثَغْرٍ

يُنظِّمه بديعُ الحسن عِقْدَا

ووَجناتٌ على تُفَّاحِ خَدٍ

متى أبْدَى لنا التفاحُ وَرْدَا

وآسُ سَوالِفٍ ما خِلْتُ أم ذا

صَفاءُ الخدِّ ظِلَّ الهُدْب مَدَّا

ومالَكِ يا غَزالةُ من شَبِيهٍ

سوى شِبْهِ الضُّحَى والبدرِ نِدَّا

وأنك قد أعَرْتِ الظَّبْيَ جِيداً

وعَيْناً والغصونَ الهِيفَ قَدَّا

وما الحسنُ البديعُ وإن تَناهَى

سوى مِن بعضِ مَعْناكِ اسْتمدَّا

بمَن أَوْلاك مُلْكَ الحسن فينا

وصيَّر كلَّ حُرٍ فيكِ عبدَا

صِلِي حبلَ الودادِ بحبلِ وَعْدِي

لقد جاوَزْتِ في التَّسْويفِ حَدَّا

وما سَكَنِي سِوَى عَهْدِي قديماً

وما أنا ناكِثٌ ما عِشْتُ عهدَا

مُقِيمٌ بالعَقِيقِ وبالمُصَلَّى

أُبَوَّأُ منهما بَاناً ورَنْدَا

أُغازِلُ فيه أجْفانَ الغَوانِ

وألثِم زينباً وأضُمُّ هِنْدَا

وأرشُفُ من رُضابِ الغِيدِ رَاحاً

تُعِيد لَهِيبَ ما أشكُوه بَرْدَا

وأنْظِم من ثَناياها عقوداً

كنَظْمِي مدحَ مولانا المُفَدَّى

محمد الأمين ومَن تَسامَى

شريفٌ قد علا كرماً ومَجْدَا

من القومِ الذين بَنتْ مَعَدٌّ

بهم فوق السِّماكِ ثَناً وحمدَا

أعَزُّوا الدينَ بالسُّمْرِ العَوالِي

وحازُوا الفَخْرَ شِيباناً ومُرْدَا

وقادُوا العادِياتِ مُطَمَّهاتٍ

على صَهَواتِها تحْمِلْنَ قَدَّا

وَرِثْتَهمُ جمالَ الدين حقّاً

عفافاً راسِخاً وتُقىً وزهدَا

فضائلَ قد علَوْتَ بها الثُّرَيَّا

وآداباً تبِعْتَ بهِنَّ جِدَّا

بآراءٍ يَحارُ العقلُ فيها

وأيُّ حِجاً يحُلُّ لهُنَّ عَقْدَا

بِحلمٍ لا يُعادِلُه ثَبِيرٌ

وفخرٍ ليس يُحْصَى أن يُعَدَّا

وأخلاقٍ شَمائلُها شَمُولٌ

يفُوح عَبِيرُها مِسْكاً ونَدَّا

ص: 97

تَوقَّدُ فِطْنةً وتسيلُ لُطْفاً

جَمعْتَ بهنَّ يا مولايَ ضِدَّا

ووَشَّيْتَ البديعَ بحُسْنِ نثرٍ

كمُخْضَلِّ الربيعِ شَذاً وأنْدَى

ودُرٍ أنت تَعْرِفُه كِبارٍ

تُنظِّمه لِجيدِ الدهرِ عِقْدَا

ذَكاءٌ لم يجُزْه إياسُ كَهْلاً

وعَمْرٌو ما به يوما تَحَدَّى

عظُمْتَ جَلالةً وعلَوْتَ قَدْراً

فشاهدْنا الوقارَ لديْك أُحدَا

أعُدُّك مصدرَ الأحكامِ فينا

هُمامٌ مذ أجار عُلاك نَقْدَا

وما للنَّقْدِ والذهبِ المُصفَّى

لقد حقَّقْتَ في ذا النقدِ نَقْدَا

أمولانا أتتْك عروسُ فكرٍ

تمُدُّ لمُمْتطَى نعْلَيْك خَدَّا

خَلَبْت شِغافَها بِنُعوتِ مجدٍ

لذا أضْحَتْ لعَذْبِ لِقاكَ تَصْدَى

لِيَهْنِ العرشَ رَبُّ العرشِ مَوْلىً

به اتَّسقَتْ أمورُ الدين نُضدَا

وتبْقَى صاعداً ذِرْواتِ عِزٍ

بَنتْ أيدِي القضاءِ عليه سَدَّا

نأَى غَمٌّ يؤرِّخ عامَ: م بلْ

غنائمُ أنتَ مَعْناهنَّ قَصْدَا

ولم تبْرح سِنيكَ ومن تَرَدَّى

طِماعاً في لَحاقِك ما تَرَدَّى

فراجعته بقولي:

مُحِبٌّ في المَحبَّةِ ما تصدَّى

لسُلْوانٍ وإن يكُ مات صَدَّا

وهيْهات النجاةُ وما يُعانِي

هَوىً أدْناه إن لم يُفْنِ أرْدَى

أما وعيونِك الَّلاتي شَباها

أبَى إلَاّ شِغافَ القلبِ غِمْدَا

لأَنت مُنَى الحياةِ فإن تكُنْها

فبعدَك للمُنَى سُحْقاً وبُعْدَا

أيجمُل أن أُقضِّي فيك عمرِي

وما عفَّرْتُ في مَمْشاك خَدَّا

ولو أخْطرْتُ ذِكْرَك في خَيالِي

خشِيتُ بأن يُؤثَّر فيك حِقْدَا

فَدَيْتُكَ رَحْمةً لطريحِ عشقٍ

إذا لم يقْضِ سُقْماً مات وَجْدَا

تذكَّر عهدَه فصبَا وآلَى

بغيرِك ما رعَى للحبِّ عَهْدَا

إذا ما ليلهُ المُمتدُّ أرْخَى

سَتائرَه طَواه أسىً وسُهْدَا

يبِيتُ وفي الحَشا منه اشْتعالٌ

إذا قدَحت رعودُ البَرْقِ زَنْدَا

وليس له سميرٌ غيرَ مَدْحٍ

يكون لصالحٍ شكراً وحَمْدَا

فتىً قد ألْبَس العَلْياء بُرْداً

ومثَّل شخصَه أدَباً ومجدَا

له الفكرُ الذي إن شاء أنْشَا

أفانِنَ الهوى وبها تحدَّى

بدائعُ منه تُلْحَم بالمَزايا

وبالسحرِ الحلالِ غدَتْ تُسَدَّى

تعالى اللهُ قد أوْلاه طبعاً

أغَضَّ من الرياضِ رُواً وأنْدَى

وأنْبَتَ مِن أيادِيه ربيعاً

يُنمِّق فيه رَيْحانا ووَرْدَا

أنادِرةَ الزَّمان فَدَتْك رُوحِي

ومَن لي أن تكون بها مُفَدَّى

أتتْني منك خَودٌ من سَناها

تمَنَّى البدرُ لو كان اسْتمدَّا

رَبِيبةُ خِدْرِها في الصَّوْنِ تأْبَى

يَدَيْ أملٍ إليها أن تُمَدَّا

منَحْتَ بها الودادَ المَحْضَ خِلاً

يرى لك وُدَّه فَرْضاً ورَدَّا

وهاك ألُوكةً بثَناك تاهتْ

وفاحتْ مَنْدِلاً رَطْباً ونَدَّا

ولو وفَّيْتُ مَدْحَكَ بعضَ حَقٍ

إذاً نظَّمْتُ فيك الشُّهْبَ عِقْدَا

فعُذْراً إن أخْطارَ التَّنائِي

بَنَتْ بيني وبين الفكرِ سَدَّا

وهذي الأربعون بلغتُ منها

أشُدّاً ساق لي خَطْباً أشَدَّا

فلو كان الذي بي من سقامٍ

على جبلٍ لأوْشَك أن يُهَدَّا

وغيرُك لا أراك لدفْعِ ما بي

فقد أعْيَى دَواه الدهرَ جُهْدَا

ص: 98

بَقِيتَ مُمَّتعاً في الفضلِ فَرْداً

ولا لَقِيَتْ لك الأيامُ فَقْدَا

وكتب إلي أيضاً:

لا عَيْشَ إلَاّ في وِصالِكْ

فامْنُنْ بطَيْفٍ من خَيالِكْ

إن كان لي نَوْمٌ وإلَاّ

ليس أبْعَدَ من مَنالِكْ

يا هاجِرِي والهجرُ عَيْ

نُ الوصلِ إن يكُ عن دَلالِكْ

إلَاّ الملالَ فإنَّه

حَتْفِي أجِرْنِي من مَلالِكْ

يا مَن تمَلَّك مُهْجتِي

لا تُفْنِها وارفُقْ بمالِكْ

لا وَصْلَ أخطرُ لي سِوَى

إخْطارِ تَذْكارِي ببالِكْ

أنا في هَوانٍ من هَوا

كَ ومن صُدودِك في مَهالِكْ

تَلَفُ النفوسِ مُحقَّقٌ

في بِيضِ سُودِك أو نِبالِكْ

وكذا السِّهامُ فإنَّهُنَّ

أخَذْنَ ذلك عن نِصالِكْ

والحَتْفُ في سُمْرِ الْقَنا

من مَيْلِ قَدِّك واعْتدالِكْ

يا نُورَ إنْسانِ العيُو

نِ تركْتَ حالِي فيك حَالِكْ

نارُ الجوَى مِن وَجْنَتَيْ

ك وذِي سُوَيْدايَ بِخَالِكْ

وأرى الجمَال وإن تَنا

هَى مُسْتعاراً من جمالِكْ

هل من سبيلٍ لِلِّقا

ضاقتْ عليَّ به المَسالِكْ

يا بارداً من رِيقِه

واحَرَّ قلبِي من زُلالِكْ

أو يا مُحيَّاه الذي

كالبدرِ سُقْمِي من هلالِكْ

يا ذابلاً في الحُسْنِ بل

سلطانَ أربابِ المَمالِكْ

الشمسُ أقربث منك نَيْ

لاً وهْي أبْعَدُ عن مِثالِكْ

امْنُنْ عليَّ بنَظْرةٍ

إنِّي وحقِّك فيك هالِكْ

يا جَنَّتِي لا تُدْخِلَنِّ

ي نارَ صَدِّك أنتَ مَالِكْ

يا تاركِي شِبْهَ الخِلا

لِ وما التَّجافِي من خِلالِكْ

عَلِّلْ بوعدٍ كاذبٍ

يحْلُو وأمْعِنْ في مِطالِكْ

فإلى الشريفِ تَوجُّهِي

وإليه أخْلُص من حِبالِكْ

مَدْحِي محمداً الأمي

نَ احْرَى وأوْلَى لي بذلِكْ

الْبانِيَ الْمجدِ الأَثِي

لِ على المَجَرَّةِ من هُنالِكْ

صدرُ المَجالسِ قلبُها

عينُ المَناصبِ والمَمالِكْ

يا شمسَ أنْجُمِ كلِّ فَضْ

لِ حين تطلُع في كَمالِكْ

آياتُ فضلِك بَيِّنا

تٌ في مَقالِك أو فِعالِكْ

أمَّا القَرِيضُ فزهْرُ رَوْ

ضٍ إن تُدَبِّجْ من مَقالِكْ

وإذا تَنسَّم عن شَذاً

كالمِسك يروِي عن خصالِكْ

ورجالُ كلِّ فضيلةٍ

قصُروا وليسوا من رجالِكْ

مَن ذا المُناضلُ والمُنا

ظِرُ في جِلادِك أو جِدالِكْ

كذب الزمانُ بما ادَّعَى

إن قال يُوجَد من مِثالِكْ

كَرَمُ الطِّباعِ ولُطْفُها

كلٌّ تَفيَّأَ في ظِلالِكْ

وترى المَعالِي والمَكا

رمَ أنْفقتْ من رأسِ مَالِكْ

مولايَ إنِّي شاكرٌ

لِمَزِيدِ فضلِك واحْتفالِكْ

لا خِلَّ لي أصْبُو إليْ

هِ سِوَى المَعالِي من خِلالِكْ

لا زلتَ في أَوْجِ العلى

والضِّدُّ في دَرْكِ المَهالِكْ

مادام رَضْوَى راسِخاً

يحْكي وَقارَك مِن جَلالِكْ

فكتبت إليه جوابها قولي:

ما بين مَيْلِكْ واعْتدالِكْ

خَطَرُ الْتفاتِك أو دَلالِكْ

فمَن السَّلِيمُ وكلُّنا

منه توَرَّط في مَهالِكْ

يا مُوتِراً قَوْسَ الحَوا

جِبِ مَن لقلبي مِن نِبالِكْ

أمْسِكْ فمَهْلَكُ مَن أرَدْ

تَ يقِلُّ عن أدْنَى انْفعالِكْ

ص: 99

بأبِي لَواحِظُك التي

أوْقَعْنَ قلبي في حِبالِكْ

أتُرَى علمْتَ بحالتي

فأخذْتنِي في جَنْبِ بَالِكْ

لا والذي جعل ابْتدا

عَ الجَوْرِ من أقْوَى اشْتغالِكْ

كلُّ الخُطوبِ حسِبْتُها

إلَاّ اجْتنابَك عن مَلالِكْ

هل كنتَ يا ثَمِلَ الجُفُو

نِ بعَثْتَ طَيْفاً من خَيالِكْ

فيروزَ غَصَّانَ اللَّها

ةِ دَواؤُه صافِي زُلالِكْ

يا مَن تملَّك مُهْجتِي

اللهَ في إتْلافِ مَالِكْ

إن كنتُ أطمعُ في سِوا

ك فلا بلغْتُ مُنَى مَنالِكْ

مالي ولْلأُفُقِ المُضِي

ءِ وعنه كافٍ من كمالِكْ

فالشمس تطلُع من يَميِ

نك والثُّرَيَّا من شِمالِكْ

والبدرُ يُعْزَى للتَّما

مِ إذا اسْتدار على مِثالِكْ

أمَّا الهلالُ فما على

مَن ظَنَّه إحْدَى نِعالِكْ

وإذا تخيَّلتُ الرِّيا

ضَ ذكَرتُ حسنَ رُوا خِصالِكْ

فنسيمُها مهما سرَى

مُتلطِّفاً أثَرُ اخْتيالِكْ

وعَبِيرُها مِن شَمَّةٍ

أهْدَيْتَها من مِسْكِ خَالِكْ

هذا وثَمَّ إذا ذكر

تُ حُلىً تجِلُّ وراءَ ذلكْ

مِن أجْلها أنا شاعرٌ

أجْرَى التغزُّلَ في جَمالِكْ

ولأجْلِ مَدْحِي صالحاً

يحْلو افْتتانِي في خِلالِكْ

ذاك الذي أسْلُو بِعِشْ

رتِه الحميدةِ عن وِصالِكْ

مَولايَ أنت المُرْتجىَ

للوُدِّ في حُسْنِ اقْتبالِكْ

رجلُ المُروءَةِ أنت لا

أحَدٌ وَحقِّك مِن رجالِكْ

حُزْتَ المَعالِي قبل أن

وُجِدت بَنُوها حَسْبَ حَالِكْ

وملكْتَ كلَّ فضيلةٍ

أفْدِيك من مَلكٍ ومالِكْ

فيك المَكارمُ شِيمَةٌ

والأرْيَحيَّةُ في فِعالِكْ

فالطَّوْدُ يُلْفَى ذَرَّةً

في جَنْبِ حِلْمِك واحْتمالِكْ

والبحرُ بعضُ رَشاشِه

بالطبعِ تُؤْثَرُ عن نَوالِكْ

إنَّ الحَكِيميْن اللذيْ

ن تظاهَرا فيما هُنالِكْ

لو عاصَراك تنافَسا

بأقَلِّ جَرْي في مَجالِكْ

والبُحْتُرِيُّ أبو الفُتُوَّ

ةِ لو تأمَّل في مَقالِكْ

أتْحفْتنِي بقصيدةٍ

غَرَّاءَ من بِدْعِ ارْتجالِكْ

وبعثْتَ لي كلَّ المُنى

فكفيْتنِي أدْنَى سُؤالِكْ

قد كان جِيدِي عاطِلاً

لكنْ حَلَا بحُلَى احْتفالِكْ

فإليْك رُوداً من بَنا

تِ الفكر حَيْرَى في جَلالِكْ

ترْتاحُ في مِرْطِ الثَّنا

بصَباك زَهْواً أو شَمالِكْ

واعْذِرْ فطبْعِي لا يُزي

ل صَداهُ عنه سوى صِقالِكْ

واسْلَمْ لبُغْيةِ آملٍ

متفيِّىءٍ بذَرَى ظِلالِكْ

فلأنتَ ظِلٌّ للمُنَى

لا الْتاعَ قلبٌ من زَوالِكْ

وأنشدني من نتفه قوله:

ظَبْيٌ من التُّركِ له مُقلةٌ

ضَيِّقةٌ تُمْعِن في قَتْلِي

يبْخَل بالوصلِ على صَبَّه

وضِيقَةُ العيْنِ من البُخلِ

ملَّكتُه عيْني وأخْدمتهُ

إنْسانَها لمَّا أبى وَصْلِي

هذا كثير في الأشعار، منه قول ابن النبيه:

يصُدُّ بطَرْفِه التُّرْكِيِّ عنِّي

صدقْتُم إنَّ ضِيقَ العيْنِ بُخْلُ

وقوله:

بي ضَيِّقُ العيْنِ وإن أطْنَبُوا

في الحَدَقِ النُّجْلِ وإن وَسَّعُوا

وأصله قول البديع الهمذاني:

أناديةَ الأعْرابِ أهْلَكِ إننَّي

بناديةِ الأتْراكِ نِيطَتْ عَلائقِي

ص: 100

وأرضَكِ يا نُجْل العيونِ فإنني

فُتِنْتُ بهذا الفاتِرِ المُتضايقِ

السيد هاشم الأزواري سيدٌ عرقه طاهر، وفضله بين ظاهر.

أبين من الكعبة للطائفين، وأظهر من المساجد للعاكفين.

وهو أديب شاعر، له في مناسك الفضل مشاعر.

أوتي من البراعة أحسن كلم من عارضها سلم لها ومن لم يعترض لها سلم.

وكان في الغالب أيام المجاورة سميري، ومحله مني خلدي وضميري، ونديمي، ومكانه بين عظمي وأديمي.

فتمليت منه مغتنماً حظ اليوم والغد، في عهدٍ أنضر من روق التصابي في العيش الرغد.

وقد أهدى لي من طرفه قصيدة فريدة، لم تحظ بمثلها دمية ولا خريدة.

وها هي ألذ من معاطاة الأحباب، كأس المعاقرة طفا عليها الحباب:

ما لقلبي عنك سَلْوهْ

ولا ولا عن رَبْعِ سَلْوهْ

منزلٌ يجمعُ ما بَيْ

نِي وما بينك ضَحْوَهْ

قد تسمَّى بانْتظامِ الشَّ

مْلِ فيه دارَ نَدْوَهْ

كم به ليلة أُنْسٍ

لِيَ مَرَّتْ بك حُلْوَهْ

قد جلَا طَلْعتَها البَدْ

رُ لنا أحْسَن جَلْوَهْ

وأرانا لِطلاهَا

بالنُّجومِ الزُّهْرِ زَهْوَهْ

ونهارٍ ألْبسَ الأُفْ

قَ من السِّنْجابِ فَرْوَهْ

وبلُطْفِ فيك عن جَيْ

بِ الْحَيا المُزَوَرِّ عُرْوَهْ

قد أخذْناه اغْتصاباً

من يدِ الدهر بقُوَّهْ

ووصلْناه برَوْحٍ

وبرَيْحان وقهوهْ

وبتوْقيع سَماعٍ

ما نَحَا مَعْبَدُ نَحْوَهْ

ومُديرُ الشمسِ بَدْرٌ

بحُلَى الظَّرْفِ مُنَوَّهْ

أفْلَجُ الثَّغْرِ نَقِيُّ الْ

خَدِّ ألْمى فيه حُوَّهْ

يزدَرِي بالْحُسْن لُبْنَى

والصِّفَاتِ الغُرِّ عَلْوَهْ

ذُو لِحَاظٍ هي والسَّيْ

فُ على حَدٍ وسَطْوَهْ

وقَوَامٍ هوَ والرِّدْ

فُ كغُصْنٍ فوقَ رَبْوَهْ

وعَجِيب لَيِّن العِطْ

فِ وفي أحْشَاه قَسْوَهْ

ما رآه الطَّرفُ إلَاّ

وزَنَى منه بشَهْوَهْ

لا تَلُمْنِي يا ابْنَ وُدِّي

إنْ بَدَتْ مِنيَ هَفْوَهْ

حيثُ لي من نفحة الرَّيْ

حانة الغَضَّةِ صَبْوَهْ

ولعقْلِي من شَذَاهَا

بطِلَا الْحانةِ نَشْوَهْ

وأنا بينَ حبيبٍ

وأبَارِيقٍ وخَلْوَهْ

طابَ لي الشُّرْبُ مساءً

من أيادِيهِ وغُدْوَهْ

مِثْلَما طابَ مَدِيحِي

وسمَا أرْفَعَ ذِرْوَهْ

بأمينِ الفضلِ مَوْلَا

نا الذي في الفضلِ قُدْوَهْ

الشَّرِيفُ المُمْتَطِي مِن

صَافِنِ الرِّفْعَةِ صَهْوَهْ

والسَّرِيُّ الشهمُ مَن لا

يَرْتَضِي الْهَقْعَةَ حَبْوَهْ

طَيِّبُ الأصلِ كريمٌ

مُنْتَقىً من خيرِ صَفْوَهْ

أفصحُ الأمَّةِ لفظاً

يَزْدَرِي كلَّ مُفَوَّهْ

فَيْصَلٌ في الشرعِ لا يَخْ

فَى عليه أمرُ دَعْوَهْ

كيف لا وهْو أمينٌ

لم يَخُنْ في أخْذِ رِشْوَهْ

جَلّ ذاتاً وصِفاتاً

وحَياءً ومُرُوَّهْ

وسَمَا عن أن يُداني

هِ امْرؤُ القَيْسِ وعُرْوَهْ

بحرُ فضلٍ ونَوَالٍ

وكمالاتٍ ونَخْوَهْ

من يَرِدْه وهْو ظَامٍ

يرْتوِي عِلْماً وجَدْوَهْ

ومتى نَوْءُ سحابٍ

ضَنَّ نسْتمْطِرُ نَوَّهْ

فبِه جَدْبُ الأراضِي

عاد بالخِصْبِ مُمَوَّهْ

مَاجِدٌ سيفُ حِجاهُ

قَطُّ ما فُلَّ بِنَبْوَهْ

ص: 101

كم عَوَيصٍ فتح المُغْ

لَقَ منه الرَّأيُ عَنْوَهْ

مِصْقَعٌ طِرْفُ ذَكاهُ

ما له في البحثِ كَبْوَهْ

أحْرَزَ السَّبْقَ وأوْشَى

في حَشَا الحُسَّادِ جَذْوَهْ

وغَدَا كلُّ أديبٍ

عَجزاً يطلب عَفْوَهْ

ذُو يَراعٍ لي به في

رِقَّةِ الألْفاظِ أُسْوَهْ

قد بَراهُ الشوقُ مِثْلِي

وحَشاه انْشَقَّ جَفْوَهْ

فخَطَا وهْو نحيفٌ

ولذَك الخَطْوِ خُطْوَهْ

كعَمِيدٍ يشْتِكي بالصَّ

رِّ في الأطْراسِ شَجْوَهْ

كلُّما أثبتَ عنه الْ

فِكرُ لا يُمْكِن مَحْوَهْ

يا ربيعَ الفضلِ يا مَن

فضَل الناسَ فُتُوَّهْ

نَظْمُك الشُّهْدَ مُصَفّىً

وسِواهُ فيه رَغْوَهْ

أنا ما بين مَصِيفٍ

من مَعانِيه وشَتْوَهْ

فلسُقْمِي فيه بُرْءٌ

ولضَعْفِي منه قُوَّهْ

وإلى عَلْياك وافَتْ

من عَرُوسِ الفكر فَحْوَهْ

فتحتْ من كل قلبٍ

مُرْتجٍ للبَسْطِ فَجْوَهْ

وكَسَا وَصْفُك طِيبَ الْ

عَرْفِ منها أيّ كُسْوَهْ

لِصَفا وَجْهِك تَسْعَى

وهي لا تطْرُق مَرْوَهْ

تنْقُل الأقْدام تِيهاً

خُطْوةً من بعد خُطْوَهْ

ذاتُ حُسْنٍ بك أضْحَتْ

ولها بالحُسْنِ ثَرْوَهْ

فاسْتمِعْها فهْي بِكْرٌ

وأنِلها منك حُظْوَهْ

واسْبِل السِّتْرَ متى إن

شِمْتَ في التركيبِ حَشْوَهْ

قد لَعَمْرِي يغْلَط النا

قدُ للدُّرِّ بحَصْوَهْ

واشْتِباهُ الجِنْسِ أمْرٌ

واضحٌ من غيرِ فَتْوَهْ

وابْقَ واسْلَمْ ما تغنَّى

عَنْدَلِيبٌ بعد هَدْوَهْ

أو مُحِبٌّ قال يوماً

لحبيبٍ بعد قَصْوَهْ

أنا أهواكَ ورَبِّي

ما لقلبي عَنْك سَلْوَهْ

فكتب إليه جوابها، قولي:

لا تُمَنِّ القلبَ سَلْوَهْ

فلقد جُسِّمْتُ صَبْوَهْ

واحْترِزْ من أعْيُنٍ تَرْ

قُبُ للأخْذَةِ هَفْوَهْ

فهْي في بابلَ دَهْراً

سُقِيَتْ بالسِّحرِ قهوهْ

وطِلاً أوْضحَ من شَمْ

سٍ تجلَّتْ وقتَ ضَحْوَهْ

مِن وَلُوعٍ بالتَّثَنِّي

فَتْكةٌ منه وخُطْوَهْ

سَلَّ سيفَ اللَّحْظِ لمَّا

رامَ أخْذَ القلبِ عَنْوَهْ

راكباً في دَرَكِ العِزَّ

ةِ للعِزَّةِ صَهْوَهْ

أتُرَى يسْمح منه اللَّ

حْظُ لِي حيناً بحُظْوَهْ

يُمْكِن الأمْرُ إذا أمْ

كَنَ تَهْوِيمٌ وغَفْوَهْ

أين ماثَمَّةَ إلَاّ

بُغْيَةٌ قُصْوَى ونَبْوَهْ

..............

.................

علي بن عمر بن عثمان المزداكي

من أفاضل العصر، يضيق عن معاليه نطاق الحصر.

رأيته بالشام بعد عودي من الحجاز، فرأيت شخصاً حقيقة فضله لا يتطرقها المجاز.

وقد خرج من وطنه قاصداً باب المراد، وله أمانٍ أرجو أن لا تفوته في الإصدار والإيراد.

وهو على كل حالٍ لم يزل في الإجادة مترقيا، ولشوارد المعاني من مكامنها متلقيا.

وقد أنشدني من شعره هذا المقطوع:

رَوِّ رَوْضَ الكرومِ يا قَطْر نَيْسا

نَ وخَلِّ الأصْداف منك خَوالِي

قَطَراتٍ تصيرُ خَمْراً أتَرْضَى

عَمْرَك اللهُ أن تَصِيرَ لآلِي

وقد تناوله من بيت السيد علي بن معصوم، عربه من الفارسية، وهو:

يا قَطْر نَيْسَان والكَرْمُ مُكَرَّمةٌ

ففي الحَبابِ غِنىً عن لُؤْلُؤِ الصَّدَفِ

ولي ما هو منه، ولا يبعد عنه:

ص: 102

ما عَزَّ شيءٌ في شِبْهِه بَدَلٌ

عنه وللعُسْرِ فُرْجَة اليُسْرُ

في غُنْيةٍ من يَرى الحَبَاب إذَا

مَا عاقَه عائقٌ عن الدُّرِّ

وأنشدته هذين البيتين، وكان أنشدنيهما السيد هاشم الأزواري لنفسه، فتعارف عليهما، وألزمني أن لا أثبتهما إلا له، وهما قوله يمدح السيد عمرو بن محمد بن بركات، في ليلة عيد، بعد وفاة الشريف زيد:

يقولون مات الجُودُ في كلِّ بَلْدةٍ

عجيبٌ ولم يُشْهَد له أبداً قَبْرُ

فقلتُ لهم أحْيَى الذي مات في الورَى

بأُمِّ القُرَ من بعد زَيْدٍ لنا عَمْرُو

السيد سالم بن أحمد بن شيخان هو الختم الوارث لجده سيد الأنام، وبه أرجو من الله سبحانه وتعالى حسن الختام.

فأما العلم فهو من خضع له كل عالم، وأما الصلاح فحسبه أنه من كل ما يشين سالم.

نسبته إلى الشرف نسبةٌ أولى، ويده في المكارم يدٌ طولى.

تعترف به الأبصار والأسماع، وإن جحدت عارضها الإجماع.

طلع في سماء العلوم بدراً مشرقا، وسارت مناقبه مغربا ومشرقا فالعلى فرع علائه، والثنا وقفٌ على آلائه.

ليس يخْتَصُّ مَدْحُه بلسانِي

مَدْحُ شمسِ الضُّحَى بكلِّ مَكانِ

وله تعاريف عدة، هي لأهل العرفان أجل عدة.

وأشعارٌ على لسان أهل الطريقة، تجتنى منها ثمار الحقيقة.

فمنها قوله، مصدراً ومعجزاً:

حُوَيْدِي الجمالِ إلى سُوحِكمْ

وهادِي الرِّحال إلى مَن أُحِب

رَفيقُ الهوَى وفَرِيقُ النَّوَى

يحبُّ الجمَال ويهْوَى الطَّرَبْ

ويسْعَى إليكم على رأسِه

بشَوقٍ وتَوْقٍ عظيمِ الخَبَبْ

ويطْوِي الفَيافِي بعَزْمِ قَوِيٍ

ويقْضِي لكم في الهوى ما وَجَبْ

ويُنشِدُ في حَقِّكمْ جَهْرةً

ألَا إنني عبدُ عالِي الرُّتَبْ

أتيْتُ إلى سُوحِه خاضِعاً

بدَمْعٍ جَرَى وبقلبٍ وَجَبْ

سلامٌ عليكم أُهَيْلَ الحِمَى

أيَا مَن به قد بلغْنا الأرَبْ

إذا ما وقفْنا بأبْوابِكمْ

وزال اللُّغوبُ بها والنَّصَبْ

أنِيلُوا الغِنَى وأبِيدُو العَنَا

فذاك لَديْنا أجَلُّ القُرَبْ

إليكم بكم سادتي جئْتُكم

بحُسْنِ الرِّضا وبصِدْقِ الطَّلَبْ

ولا لي شَفِيعٌ سوَى حُبِّكم

فلا تُهْمِلُوا مَن أساء الأدبْ

وقولُوا عفَا اللهُ عَمَّا مَضَى

جزاءُ المُحِبِّ لنا أن يُحَبْ

فأنتم وجودُ الوفَا والعَطا

وليس التفضُّل منكم عَجَبْ

ومن مقاطيعه قوله:

تراءَى بَدِيعُ الحسنِ في صُنْعِ خَلْقِهِ

جميلاً فظَنَّ المظْهَر النَّاظِرُ القَذِي

وما هُوَ إلَاّ اللهُ بالصُّنْعِ بارِزٌ

على صِيَغِ التَّخْليقِ في الظَّاهرِ الذيِ

وقوله:

رَمَى العبدُ سَهْمَ الوَهْمش من قَوْسِ حُكْمِهفأدْمَى خيالاً في مِنَصَّاتِه السَّبْعِ

وليس إذا حقَّقْتَ رامٍ سِوَى الذي

أتاك بطَيِّ النَّشْرِ في الطَّبْعِ والوَضْع

وقوله:

كُنْ مُمْسِكاً بالصومِ عن كلِّ السِّوَى

واذْكُرْ بفِطْرِك مَن أتَى مَعْروفُهُ

وبفاطرٍ عن رُؤْيةِ الأغْيارِ صُمْ

مَن صامَ عند اللهِ طاب خَلُوفُهُ

وقد أنعم الله علي برواية مؤلفاته، عن ابنه المعمر السيد السند عمر، أحياه الله وحياه، ونور الدنيا بطلعة محياه.

في أملٍ لا يبرح يطيعه، والحادثات فيه لا تستطيعه.

فلله هو من سريٍ متواضعٍ على علوه، ممدوحٍ بإيغال المدح وغلوه.

ماء لطفه يكاد يتقطر، وخلقه تتخلق به النسمات وتتعطر.

إلى وجهٍ بالوضاءة متجلل، يبرق برق العارض المتهلل.

وردت مراراً داره العامرة، وحصلت على نعمه الدارة الغامرة.

أستنجد دعاءه المبارك، وأستمنح اعتناءه في كل حالٍ أن يتدارك.

وعندي له من الولاء فيه ما ينقص ولاء زيادٍ في النعمان، ومن الحب لبيته العمري ما ينشد قول الأول: أحبه حب قريش عثمان.

ص: 103

وهنا أذكر لي شيخين، وعلمين في العلم راسخين.

أخذت عنهما، واستفدت منهما.

وهما: الحسن بن علي العجمي، وأحمد بن محمد النحلي.

كلٌ منهما في ذلك الأفق قمرٌ باهر السناء والسنا، وقصده أسنى قصدٍ توخاه المدح والثنا.

هدايته متكلفةٌ بإحياء علوم الدين، وغرشاده يتولى منهاج العابدين.

ودعاؤه بظهر الغيب عدة وعدد، وبره حالي الظعن والإقامة معتمل معتمد، ومجال المعرفة بفضله لا يحصره أمد.

وردت منهما حضرة الأنوار المفاضة، وجعلت قصدهما بحجة سفري طواف الإفاضة.

فأرياني من الجد ما لو كان بظبة صارمٍ ما نبا له غرار، ومن البشر ما لو سال بصفحة البدر ما خيف عليه سرار.

فلله هما قد خلصا للناقد، ورفلا في أزرٍ من الحمد طيبة المعاقد.

وللعهد أنا لست أنساهما فأذكرهما، وإذا ذكرتهما فكلي ألسنةٌ تحمدهما وتشكرهما.

وبهما أرجو من الله حسن المتاب، وأن أكون ممن تناول بيمينه الكتاب.

أدباء المدينة المنورة لا برحت بحراسة الله من الأسواء مسورة السيد حسن بن شدقم الحسيني الحسن السمت، المستحسن الصمت.

المرموق المعتنى والمعتلى، المعشوق المجتنى والمجتلى.

تصدر من مركز السيادة في الرتبة المكينة، وبلغ في العلم رتبة أسلافه إلى أن ينتهوا إلى باب تلك المدينة.

وكان قد دخل الهند في صباه، فأحبه بعض ملوكها وحباه، وعقد لسماع كلماته حباه.

ثم أملكه كريمته فأردف تكريمه بتكريره، وأتبع توقيره بتوفيره.

فاجتلى عرائس آماله في منصات نيلها، واستطلع أقمار سعده في نواشي ليلها.

وكان من فعله الحسن ما قدره بحزمه، ودبره في تمشيه مآل حاله بقوة جزمه، إرساله في كل عام إلى بلده جملةً من المال، فاصطفيت له بها حدائق وقصورٌ على وفق ما جنح إليه ومال: ولما مات الملك أبو زوجه، وسقط قمر حياته من أوجه.

انقلب بأهله إلى وطنه مصاحباً رفاهيةً زاهية، وأقام مدةً في عيشه بخويصة نفسه باهرةً باهية.

إلا أن الرياسة التي فرخت في أم راسه، والمكانة التي شدت عراها بأمراسه.

لم يجد عنهما عوضاً في وطنه، فانتهى إلى الهند شاكياً ضيق عطنه.

فمن شعره ما قاله حين أنف من الإقامة في بلده:

وليس غريباً مَن نأَى عن ديارِه

إذا كان ذَا مالٍ ويُنْسَبُ للفضلِ

وإني غريبٌ بين سُكانِ طَيْبةٍ

وإن كنت ذا مالٍ وعلمٍ وفي أهْلِي

وليس ذهابُ الرُّوح يوماً مَنِيَّةً

ولكنْ ذهابُ الرُّوحِ في عَدَمِ الشِّكْلِ

وهو من قول البستي:

وإنِّي غريبٌ بين بُسْتَ وأهْلِها

وإن كان فيها جيرَتِي وبها أهْلِي

وما غُرْبةُ الإنسانِ في شُقَّةِ النَّوَى

ولكنها واللهِ في عَدَمِ الشِّكْلِ

ولابن معصوم في المعنى:

وإنِّي غريبٌ بين قومي وجيرتِي

وأهْلِيَ حتى ما كأنَّهُمُ أهلِي

وليس غريبُ الدَّارِ مَن راح نائياً

عن الأهلِ لكنْ مَن غدا نائِيَ الشِّكل

فمن لي بخِلٍ في الزَّمانِ مُشاكلٍ

ألُفُّ به من بعدِ طُولِ النَّوى شَمْلِي

ومن شعر السيد حسن قوله:

لابُدَّ للإنسانِ مِن صاحبٍ

يُبْدِي له المَكْنونَ من سِرِّهِ

فاصْحَبْ كريمَ الأصلِ ذا عِفَّةٍ

تأمَنْ وإن عادَاك مِن شَرِّهِ

ولده السيد محمد فرع دوحةٍ زكت مفارعها، وطابت بطيبة الطيبة مشارعها.

له خبرٌ تتعطر به المجالس، ويتنادم عليه المنادم والمجالس.

إلى ما تميز به من الشعر الرصين، الذي يباهي بتنميقه نقوش الصين.

غرد به ساجع إطرائه وصدح، وأورى زناد البيان وقدح.

فمنه قوله، مذيلاً بيت أبي دهبل مقتفياً للشريف المرتضى:

وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما

أصاتَ المُنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا

فأرَّج أرْجاءَ المُعَرَّف عَرْفُها

وأضْوَى ضِياها الزِّبْرِقان المُعَظَّمَا

وحَيَّي مُحيَّاها المُلَبُّون وانْتَشَوْا

بنَشْرِ مُحيَّاها المُمَنَّع واللَّمَى

ورَوَّض منها كل أرضٍ مَشَتْ بها

تجُرُّ التَّصابي بين أتْرابِها الدُّمَى

ص: 104

هي الشمسُ إلَاّ أنَّ فاحِمَها الدُّجَى

هي البدرُ لكنْ لا يزال مُتَمَّمَا

تجُول مِياهُ الحُسْنِ في وَجَناتِها

وتمْنَع سَلْسالَ الرُّضابِ أخَا الظَّمَا

وتسلُب يَقْظانَ الفؤادِ رَشادَه

وتكسُو رِداءَ الحُسْنِ جسماً مُنَعَّمَا

مَهاةٌ يصِيدُ الأُسْدَ سَهْمُ لِحاظِها

ومن عَجَبٍ صَيْدُ الغَزالةِ ضَيْغَمَا

يُعلِّلني ذِكْرَ الحِمَى مُترنِّمٌ

وما شَغَفِي لولا الغزالةُ بالحِمَى

وأصْبُو لِنَجْدِيِّ الرِّياحِ تَعَلُّلاً

ومَن فقَد الماءَ الطَّهُورَ تَيمَّمَا

قال السيد المرتضى، في كتابه الدرر والغرر: ذاكرني بعض الأصدقاء بقول أبي دهبل:

وأبْرَزْتُها..............

..................الخ

وسألني إجازة هذا البيت بأبياتٍ تنضم إليه، وأجعل الكناية فيه كأنها كناية عن إمرأةً لا عن ناقة، فقلت في الحال:

فطيَّب رَيَّاها المَقامَ وضَوَّأتْ

بإشْراقِها بين الحَطِيم وزَمْزَمَا

فيا رَبِّ إن لَقّيْتَ وجهاً تحيَّةً

فَحَيِّ وجُوهاً بالمَدينة سُهَّمَا

تَجافَيْن عن مَسِّ الدِّهانِ وطالَما

عَصَمْنَ عن الحِنَّاءِ كَفّاً ومِعْصِمَا

وكم من جَلِيدٍ لا يُخامِرُه الهوى

شَنَنَّ عليهِ الوَجْدَ حتى تَتَيَّمَا

أهان لَهُنَّ النفسَ وهْي كريمةٌ

وألقَى إليهنَّ الحديثَ المُكتَّمَا

تسفَّهْتُ لمَّا أن مَرَرْتُ بدارِها

وعُوجِلْتُ دُون الحِلْمِ أن أتحَلَّمَا

فعُجْتَ تَقَرَّى دارِساً مُتنكِّراً

وتسألُ مَصْروفاً عن النُّطْقِ أنْجَمَا

ويومَ وقفْنا للوَداعِ وكلُّنا

يَعُدُّ مُطِيعَ الشوقِ مَن كان أحْزَمَا

نُصِرْتُ بقلبٍ لا يُعنَّف في الهَوى

وعَيْنٍ متى اسْتَمْطَرْتَها قَطَّرتْ دَمَا

قال السيد علي بن معصوم، في سلافته: وقلت أنا ناسجاً على هذا المنوال:

وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما

أصاتَ المُنادِي بالصلاةِ فأعْتَمَا

فَضَوَّأ أكْناف الحَجُونِ ضِياؤُها

وأشْرَق بين المَأْزِمَيْنِ وزَمْزَمَا

ولمَّا سَرتْ للرَّكْبِ نَفحةُ طِيبِها

تغَنَّى بها حادِيهمُ وتَرَنَّمَا

فتاةٌ هي الشمسُ المنيرةُ في الضحى

ولكنَّها تَبْدُو إذا الليلُ أظْلَمَا

تعلَّم منها الغُصْنُ لَفْتةَ قَدِّها

وما كان أحْرَى الغُصْنَ أن يتعلَّمَا

وأسْفَر عنها الصبحُ لمَّا تلّثمتْ

ولو سفَرتْ للصُّبْحِ يوماً تَلثمَا

إذا ما رَنَتْ لَحظاً وماستْ تأوُّداً

فما ظَبْيةُ الْجَرْعا وما بَانةُ الحِمَى

تَراءتْ على بُعْدٍ فكبَّر ذو التُّقَى

ولاحتْ على قُرْبٍ فصلَّى وسلَّمَا

وكم حَلَّتْ بالصَّدِّ قَتْلَ أخِي الهَوى

وكان يُرَى قبلَ الصُّدودِ مُحَرَّمَا

وظنَّتْ فؤادي خالياً فرمَتْ به

هَوىً عاد دائِي منه أدْهَى وأعْظَمَا

ولو أنها أبْقَتْ عليَّ أطَعْتُه

ولكنها لم تُبْقِ لَحْماً ولا دَمَا

قال: وأنشدني صاحبنا احمد الجوهري لنفسه:

وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما

أصاتَ المُنادِي بالصلاةِ فأعْتَمَا

فشاهدتُ مَن لو أبصر البدرُ وَجْهَها

لَكان بها مُضْنىً وَلُوعاً ومُغْرَمَا

ولو عرَضتْ رَكْبَ الحَجِيجِ تصدُّه

لَلَبَّى لِمَا يَدْعُو هَواها وأحْرَمَا

وعَرَّف بالكُثْبان مِن عَرَصاتِها

وقال مِنىً لي دارُها حين يَمَّمَا

فلا تعْذِلُوا في حُبِّ ظَمْياءَ إنها

لها مَبْسَمٌ يشفى الفؤادَ مِن الظَّمَا

ص: 105

وأعْذَبُ من صَوْبِ الغَمامةِ مَرْشَفاً

وأضْوَأُ مِن لَمْعِ البُروقِ تَبسُّمَا

وأجْمَلُ من ليلى وسَلْمَى وعَزَّةٍ

وسُعْدَى ولُبْنَى والرَّبابِ وكُلْثُمَا

وكم مَلِكٍ في قَومهِ كان قاهراً

فأضْحَى ذليلاً في هواها مُتَيَّمَا

يَديِنُ بما تَهْوَى مُطِيعاً لأمْرِها

وإن ظلمتْه لم يكُن مُتظلِّمَا

تَظَلَّ الملوكُ الصِّيدُ تعثُر بالثَّرَى

إذا قارَبُوا أو شاهَدُوا ذلك الحِمَى

وممن ذيل عليها العارف بالله تعالى السيد حاتم بن الأهدل اليمني:

وأبْرَزْتُها بَطْحاءَ مكةَ بعدَما

أصاتَ المنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا

وسَرَّحْتُ عينِي في رياضِ خُدودِها

فشاهدْتُ رَوضاً كالربيعِ مُنَمْنَمَا

سَقتْه مِياهُ الحُسْنِ فازْداد بَهْجةً

وغادر قلبي بالحَطِيمِ مُحَطَّمَا

حُسَيْنِيَّةٌ حَسْناءُ لَمْياءُ نَحْوَها

تَ، جَّه قلبي بالغرامِ وأحْرَمَا

سَعيْتُ إليها بالصَّفاءِ مُسلِّماً

لِرُوحِي وقلبِي طاف سَبْعاً وزمْزَمَا

غزالٌ يُعِيرُ الظَّبْيَ لَفْتةُ جِيدِها

وعن قَدِّها المَيَّاسِ سَلْ بَانةَ الحِمَى

فتاةٌ يُعيرُ الشمسَ بهجةُ وَجْهِها

سَناها بغيرِ الحُسْنِ لن يتلَثَّمَا

عَدَا خَصْرُها جِسْمِي سَقاماً وجَفْنُها

تَعَدَّى على جَفْنِي وللنَّومِ حَرَّمَا

إليها ثَنَتْ قلبي الثَّنايا صَبابةً

فيا ما أُحَيْلى ذلك الثَّغْرَ واللَّمَى

إذا حدَّثتْ فاحَ العَبِيرُ وأَظْهَرتْ

برَمْزَتِها مِنِّي الحديثَ المُكَتَّمَأ

وأما بيت أبي دهبل، المذيل عليه، فهو من قصيدة له يصف فيها ناقته، حدث به موسى بن يعقوب، قال: أنشدني أبو دهبل يوماً:

ألَا عَلِق القلبُ المُتَيَّمُ كُلْثُمَا

لَجاجاً فلم يلْزَمْ من الحُبِّ مَلْزَمَا

خرجْتُ بها من بَطْنِ مكةَ بعدَما

أصاتَ المُنادِي بالصَّلاةِ فأعْتَمَا

فما نام من رَاعٍ ولا ارْتَدَّ سامِرٌ

من الحَيِّ حتى جاوزَتْ بي يَلَمْلَمَا

ومَرَّتْ ببَطْنِ الليِّثِ تَهْوِي كأنها

تُبادِرُ بالإدْلاجِ نَهْباً مُقسَّمَا

وجازَتْ على البَزْواء والليلُ كاسِرٌ

جَناحَيْن بالبَزْواء وَرْداً وأدْهَمَا

فما ذَرَّ قَرْنُ الشمسِ حتى تبَيَّنتْ

بِعُلْيَبَ نَخْلاً مُشْرِفاً أو مُخَيِّمَا

ومَرَّتْ على أشْطانِ رَوْقَةَ بالضُّحَى

فما حدَرتْ للماءِ عَيْناً ولا فَمَا

وما شرِبَتْ حتى ثَنيْتُ زِمامَها

وخِفْتُ عليها أن تُجَرَّ وتُكْلَمَا

فقلتُ لها: قد نِلْتِ غيرَ ذَميمةٍ

وأصْبح وادي البِرْكِ غَيْثاً مُدَيّمَا

قال: فقلت: ما كنت إلا على الريح.

فقال: يا ابن أخي، إن عمك كان إذا هم فعل، وهي العجاجة.

هكذا رواه أبو الفرج الأصبهاني، في الجامع الكبير، وفي رواية البيت المذيل بعض تغيير كما رأيت، والروايات تختلف.

السيد حسين بن علي بن حسن بن شدقم غصن بسق من روضة الفتوة، وأشبه أصله مجداً فحقق شواهد النبوة.

ما شئت من فضلٍ سما باكتسابه، وفخرٍ ما زال يعلو بانتسابه.

وجدٍ أطاعه أبيه وشامسه، وأدبٍ أنار به داجيه وطامسه.

وهو ممن دخل الهند كجده، فعلا بها قدره فوق ما قدره بجده.

وقد رأيت من شعره قطعتين، فأثبتهما له حسنتين.

فالأولى قوله من قصيدة نبوية أولها:

أقِيمَا على الجَرْعاءِ في دَوْمَتَيْ سَعْدِ

وقُولَا لحادِي العِيسِ عِيسَك لا تَحْدِي

فإنَّ بذاكَ الحيِّ إلْفاً ألِفْتُهُ

قديماً ولم أَبْلُغْ برُؤيَتِهِ قَصْدِي

عسَى نَظْرةٌ منهُ أبُلُّ بها الصَّدَى

ويسكُن ما ألْقَاه من لَاعِجِ الوَجْدِ

ص: 106

وإلَاّ فقُولَا يا أُمَيَّةَ إنَّنَا

تركْنَا قتيلاً من صُدُودِكَ بالهنْدِ

يحِنُّ إلى مَغْنَاكِ بالطَّلْحِ والغَضَا

ويصْبُو إلى تلك الأُثَيْلَاتِ والرَّنْدِ

قِفَا ننْدُبِ الأطلالَ أطْلالَ عامرٍ

ونبكي بها شَوْقاً لعلَّ البُكا يُجدِي

إلى ذاتِ دَلٍ يُخْجِلُ البدرَ حُسْنُهَا

مُرَنَّحَةِ الأعْطَافِ مَيَّاسَةِ القَدِّ

سَقاها الْحَيَا ما كانَ أطْيَبَ يَوْمِنا

بِمَوْرِدِها والحَيِّ وِرْداً على وِرْدِ

وقد نَثَرَتْ أيْدِي الغَمامِ مَطَارِفاً

كَسَتْها أدِيمَ الأرْضِ بُرْداً على بُرْدِ

وقد رفَعَتْ فوق الْخُزُومِ سُرادِقاً

من الشَّعْرِ والأضْيَافُ وَفْداً على وَفْدِ

بَدَوْتُ لِحَيَّيْهَا وإلاّ فإنَّني

مِنَ السَّاكنين المُدْنَ طِفْلاً على مَهْدِ

ومِلْتُ إلى ماءِ البَشَامِ لأجْلِهَا

وأعْرَضْتُ عن ماءٍ مُضَافاً إلى الْوَرْدِ

وغادَرْتُ نَخْلاً بالمدينةِ يانِعاً

ومِلْتُ إلى السَّرْحَاتِ من عارِضَيْ نَجْدِ

وحَارَبْتُ أقْوَامي وصادقْتُ قَوْمَها

وبالَغْتُ في صِدْقِ الوِدَادِ لهم جُهْدِي

فلا إثْمَ لي في حُبِّهَا ولقومِها

وإن يَكُ إن اللهَ يغفرُ للعَبْدِ

ولا سِيَّما إن جئتُهُ مُتَوَسِّلاً

بمُرْسَلِهِ خيرِ النَّبيِّينَ ذي المجدِ

أبي القاسمِ المبعوثِ من آلِ هاشمٍ

نَبِيَّاً لإرْشادِ الخلائقِ بالرُّشْدِ

دَنَا فتدلَّى من مَلِيكٍ مُهَيْمِنٍ

كما الْقابُ أوْ أَدْنَى من الواحدِ الفَرْدِ

ألا يا رسولَ اللهِ يا أشرفَ الوَرَى

ويا بَحْرَ فَضْلٍ سَيْبُهُ دائمُ المَدِّ

لَانْتَ الذي فُقْتَ النَّبِيِّينَ زُلْفَةً

من اللهِ رَبِّ العرشِ مُسْتَوْجِبِ الحمدِ

يُناجِيك عَبْدٌ من عَبِيدِكَ نَازِحٌ

عن الدَّارِ والأوْطَانِ والأهْلِ والوُلْدِ

ويسألُ قُرْباً من حِماكِ فَجُدْ له

بقُرْبٍ فقُرْبُ الدَّارِ خيرٌ من البُعْدِ

ليلْثِمَ أعْتاباً لمسْجِدِكَ الذي

به الروْضَةُ الفَيْحَاءُ من جَنَّةِ الخُلْدِ

فإنَّ له سَبْعاً وعشرين حِجَّةً

غريبٌ بأرضِ الهِنْدِ يصْبُو إلى هندِ

إذا الليلُ وَارَاني أَهِيمُ صَبابةً

إلى طَيْبةَ الغَرَّاءِ طَيِّبَةِ النَّدِّ

وأُسْبِلُ من عينَيَّ دَمْعاً كأنَّهُ

عَقِيقٌ غَدا وادِي العَقِيقِ له خَدِّي

سَمِيراه في لَيْلٍ غرامٌ وزَفْرَةٌ

تُقَطِّعُ أفْلَاذَ الحشاشةِ كالرَّعْدِ

عليك سلامُ اللهِ ما ذَرَّ شارِقٌ

وما لاحَ في الخَضْرَاءِ من كوكبٍ يَهْدِي

كذا الآلُ أصْحَابُ الكرامةِ حَيْدَرٌ

وبِضْعَتُهُ الزَّهراءُ زاكيةُ المجدِ

وسِبْطاك مَن حازا الفضائل كُلَّها

وسَجَّادُهم والباقرُ الصادِقُ الوَعْدِ

وكاظِمُهم ثم الرِّضا وجَوادُهم

كذاك عليٌّ ذو المناقبِ والزُّهْدِ

كذا العَسْكَرِيُّ الطُّهْرُ ذُو الفضْلِ والتُّقىوقائمهم غَوْثُ الورَى الحُجَّةُ المَهْدِي

والقصيدة الثانية مطلعها:

هوايَ لِرَبَّاتِ الخدُودِ العواتِقِ

وخَيْلٍ جيادٍ صافِناتٍ سَوابِقِ

وقَوْمٍ ظُهورُ العَادياتِ حُصونُهم

ومِصْباحُهم لَمْعُ السيوفِ البَوارِقِ

غَطاريفُ كم بَلَّ النَّجِيعُ ثِيابَهُمْ

كُماةٌ غَداة الرَّوْع حامُو الحَقائِقِ

أُسودٌ إذا ما زارهم ذُو تَهَوُّرٍ

تَولَّى بقلبٍ بين جَنْبَيْهِ خافِقِ

ص: 107

بِضمَّ الْقَنا تَذْرِي جُسُومَ عِداتِها

وتسْقِي ثَراها من دِماءِ المفارِقِ

إذا أوْلجتْ نحوَ العَدُوِّ خُيولهمْ

تبارَتْ ليوثُ الْغابِ شِبْه الخَرانِقِ

تنازلُهم ما بين نَجْدٍ ويَثْرِبٍ

جَنُوباً وشَاماً في رؤوسِ الشَّواهِقِ

غُيوثٌ إذا حَلَّ النَّزِيلُ بأرْضِهم

وإن أمَّها الْباغِي فهم كالصَّواعِقِ

كِرامٌ يُجازُون الجميلَ بمثْلِه

ويَرْعَونَ وُدّاً للْحَمِيم المُصَادِقِ

مَنِيعُون إن لَاذَ المُخافُ بظلِّهم

كَسَوْه بسِربالٍ من الأمْنِ فائِقِ

وَدَدْتُهم إذ أشْبَهُوا بِفعالهم

فِعال كريم طاهر الأصل صادقِ

الخطيب عبد الله بن إلياس إمام المدينة وخطيبها، وعرفها الذي طاب وطيبها.

أتهم في التحلي بشعار الإمامة وأنجد، وقام في حفل الفصاحة خطيباً يركع لإمامته ويسجد.

وقد التحف الفضل برداً، وأصبح في الأدب علماً فرداً، مع خلقٍ جانبه لدن، وطبع حضرته جنة عدن.

وهو إلى القلوب متحبب، وعما يسيء ويشين متجنب.

وله نثرٌ ونظم، هذا تتضاءل له النجوم في أفقها، وهذا تتستر البدور حياءً منه في شفقها.

فمن نظمه قوله في العروض:

إن العَرُوضَ لَبَحْرٌ

تعومُ فيه الخَواطِرْ

وكلُّ منْ عام فيه

دارتْ عليه الدَّوائرْ

وبخط السيد محمد كبريت ما نصه: أنشدني إجازة لنفسِه سيدي العفيف عبد الله بن الخطيب إلياس، سلما من المكروه والباس:

يا سيِّدي قُم لي ولا

تَدَعِ الوقِيعة والعَتبْ

كيْلا يُقال مُقَصِّرٌ

فأكون فيه أنا السَّبَبْ

فقلت وإن لم يبلغ الظالع شأو الضليع:

لِمَ لا أقومُ لسيِّدِي

مِن غيرِ أن أخْشَى العَتَبْ

وهو الذي قامتْ له

بثنائها عَلْيا الرُّتَبْ

وقلت في المعنى، من بحر الخبب:

أقُومُ على الرَّأسِ مَهْما بَدا

جَمالُك لاجْتنابِ العَتَبْ

ولِمْ لا أقومُ وأنت الذي

لِعَلْياهُ قامتْ كِرامُ الرُّتَبْ

ولبعضهم في المعنى:

قِيامِي والعزيز لَدَيْكَ فَرْضٌ

وتَرْكُ الفضلِ ما لَا يسْتقيمُ

فهل أحَدٌ له عَقْلٌ ولُبٌّ

ومَعْرفةٌ يراك ولا يقُومُ

وما ألطف قول بعضهم معتذراً عن عدم القيام:

عِلَّةٌ سُمِّيَتْ ثمانين عاماً

منَعتْني للأصدقاءِ القِيامَا

فإذا عُمِّروا تمهَّد عُذْرِي

عندهم بالذي ذكرتُ وقامَا

وللشهاب المنصوري:

ومَن ذهَبتْ بلُحْمتِه اللَّيالِي

أيُمْكِنُ أن يكون له قِيامُ

قيام الثوب، في كلام العامة: ما يقابل لحمته.

وذكرت هنا، ما حكاه أرباب السير، عن الصاحب إسماعيل بن عباد، أنه لما كان ببغداد، قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام، وتحفز تحفزاً أراه به ضعف حركته، وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه، وأقامه، وقال: نعين القاضي على حقوق إخوانه.

فخجل القاضي، واعتذر إليه.

وبخط السيد محمد كبريت: كتبت إلى سدته العلية، يعني الخطيب:

يا أيُّها المولى الذي فاق الورَى

بِبيَان مَنْطقِه البديعِ الزّينِ

هاتِ افْتِنا في زيدٍ المخْفوضِ في

ما قامَ إلَاّ زيدٍ المسْكِينِ

فكتب مجيباً:

يا مَن بِشَمْسِ عُلومه زال الكرَى

فعَدا بمصْباحِ الهُدى كالعينِ

إنِّي أقولُ جَوابُكم وبيَ الجَوى

في فَرْدِ بَيْتٍ زان في العَيْنَيْنِ

زيدٌ تُصُوِّرَ جَرُّه بإضافةٍ

لْلآلِ وهْو العهدُ للإثْنَينِ

حاكته أيادي الوداد بأنامل الإخلاص، وسبكتها في قوالب الاتحاد فما حاكتها سبائك الخلاص.

إلى الحضرة التي يحق لي أن أحن إليها وأشتاق، ويليق بي أن أطير مع حمائم البطائق لأفد عليها لو أن ذلك مما يطاق.

تهدلت أغصان دوحة رياسته، وتهللت جباه جلالته ونفاسته.

حبٌ موثوقٌ بالعرى، وقلبٌ منبوذٌ بالعرا.

ص: 108

أأتَّخِذُ العراقَ هَوىً وداراً

ومَن أهواهُ في أرضِ الشَّآمِ

بيد أن له في سعة الفضل رجا، وفي اجتماع الشمل ما تحار فيه عقول ألي الحجى.

ولا يزال يتذكر سويعاتٍ مرت ما كان أحلاها، وأويقات ليس في يده إلا أنه يتمناها.

فيا ما كان أحسْنه زماناً

ويا ما كان أطْيَبَه ويا مَا

وبعد كل حالٍ فسلامة المولى هي منتهى الطلب، إذا كان في صحةٍ فما أنا إلا فيها أتقلب.

غرس الدين بن محمد الخليلي إمام العصر بروضة النبي، والمقدم في حلبة البيان على رغم المخال والأبي.

بلغ من الوجاهة مبلغاً تفرد فيه، وقالت له الأيام حسب أملك ويكفيه.

ما شئت من جدٍ يعجز النجم عن لحاقه، وأدب لو بلغه البدر ما شين قط بمحاقه.

اقتنص بشرك بديهته متمنعات الأوابد الشوارد، وفجر من بلاغته وبراعته حياضاً عذبة المناهل والموارد.

وله تآليف سلك فيها الطريقة السوية، وجنح برأيه إلى أحسن الروية.

وشعره إن لم يكن كقدره في أعلى الدرج، فهو من خير الأمور المأمون قائله من الحرج.

فمنه قوله في مدح القهوة:

دَعِ الصَّهباءَ واشرب صِرْفَ قِشْرِ

مُشعْشَعةً تدور بكفِّ بَدْرِ

وإن شئْتَ الشفا بادِر سَرِيعاً

إلى حانٍ لها قد حان بَدْرِي

فما الياقوتُ في لونٍ نَضِيرٍ

وما لَوْنُ النُّضارِ ولونُ تِبْرِ

دَعِ الفاروقَ إن رُمْتَ التَّداوِي

وخُذْها فهْي للأسْقامِ تُبْرِي

كأنَّ حَبابَها الْمَنظومَ عِقْدٌ

من الياقوت يُجْلَى فوق نَحْرِ

سأسْعَى نحوَ مَرْوَتِها أُلَبِّي

ليصْفُو بالصَّفَا صَدْرِي ونَحْرِي

نَدِمتُ نَدامةَ الكُسَعِي عليها

لِما قد فات من أيَّامِ عُمْرِي

سأُدْمِنُ شُرْبَها ما دمتُ حَيّاً

ولا أصْغِي إلى زَيدٍ وعمرِو

وأجْلُو عَيْنَ أغْيارِي وهَمِّي

بصَافِيها سُحَيْراً قبل فَجْرِ

هي الرَّاحُ المُرِيحُ لكلِّ رُوحٍ

ولم تُمْزَج ولم تُوجَد بعَصْرِ

وكلُّ مُخالفٍ فيها فإنِّي

أُسَفِّهُ قولَه من أهلِ عَصْرِي

فقُل إن قال ساقِيها المُفَدَّى

جَباً يا مَرْحباً واشْكُرْ لشُكْرِ

وخُذْها من يديْهِ في حُضورٍ

مع السَّاقي المَليحِ بغير سُكْرِ

فلا غَوْلٌ ولا تَأْثِيمَ فيها

وليستْ مُزَّةً بل طعمَ تَمْرِ

وإن غالَى المُحِبُّ وقال أشهد

أُجِيبُ نَعم إذا ما كان تمرِي

ولولا مِدْحَتِي للبُنِّ قَبْلاً

لَعُدْتُ له بهَجْوٍ ثم هَجْرِ

لِيُبْس طِباعِه وسَوادِ قلبٍ

له فهْو الحَرِيُّ بكلِّ هُجْرِ

ومن لطائفه قوله مخاطباً الوزير الأعظم مصطفى باشا، يحثه على إزالة الخصيان من المسجد النبوي:

يا مصطَفى بالمصطَفى العَدْنَانِ

وبآيِ قُرآنٍ عظيمِ الشَّانِ

لا تجْعَلَنَّ على المدينةِ أسْوداً

شيخاً على حَرَمِ النبِي العَدْنانِي

وكذلك الحُبْشانُ أيضاً منهمُ

فهُمُ همُ لا خيرَ في الحُبْشانِ

بل جاء في خبَرٍ رَواه بعضُهم

ها لفظُهُ لا خيرَ في السُّودَانِ

قومٌ لهم طَبْعٌ شَدِيدٌ زَائدٌ

لا يشْبعون من الحُطامِ الْفَانِي

لولا المَخافةُ منكمُ لأتاكمُ

شاكُونَ من هَمٍ ومن أحْزانِ

وإذا أرَدْتُمْ أنَّكم تسْتيْقِنُوا

أحْوالَهم من غيرِ ما بُهْتانِ

فلْتسألوا حَنَفِي أفندي عنهمُ

يُخْبِرْكُمُ عن خُلْسةِ الغِرْبانِ

ما كلُّ ما يُدْرَى يُقالُ وأنتمُ

أدْرَى بَطيْشِ السادةِ الخِصْيانِ

يسْتنْزِلون لأَخْذِ ما قد جاءَ من

صَدقاتِ خيرٍ للفقيرِ الْعَانِي

فَيصيبُ أهل الفضلِ من صَدَقاتِكُمْ

ما ساءَهم من أسْهُمِ الحِرْمانِ

ص: 109

فانْظُر لنا شَيْخاً نَقِيباً صَالِحاً

مُسْتَنْزِهاً عن ذَا الحطامِ الْفانِي

إن لم يَجُزْ إلا خَصِيّاً أسْوداً

فاخْصُوا لنا شَيْخاً من البِيضانِ

يا وَيْحَكم إن لم تُراعُوا حَقَّنا

يومَ الحسابِ بحَضْرةِ الدَّيَّانِ

يوماً تكونُوا مثْلَنا ما إنْ لكمْ

في الناسِ من أمرٍ ومن سلطانِ

هَذِي نصيحةُ غَرْسِكم في رَوضةٍ الْ

هادِي إلى الإسلامِ والإيمانِ

يدعُو لسُلْطانِ الورى ولمصطفَى

سيفِ الإلهِ وعاضِدِ السلطانِ

وذكر القاضي أحمد بن عيسى المرشدي، في تذكرته: ورد علينا في أثناء عام خمسٍ وأربعين وألف الشيخ الأوحد الأكمل غرس الدين المقدسي، الخطيب والإمام بالروضة المشرفة، على صاحبها الصلاة والسلام، ولو يوافه أهل مكة، فقال معرضا:

علماءُ مكةَ جاوَزُوا الأفْلَاكا

عِزَّاً وحُقَّ لهم لعَمْرِيَ ذَاكَا

لولا الريِّاسةُ في رُءُوسِ نُفوسِهمْ

كانوا وحقِّك كُلُّهم أمْلاكَا

وقال أيضاً:

جِيرانُ مكةَ جِيرانُ الإلهِ لِذَا

لا يَعْبَأُون بمَن قد غاب أو حَضَرَا

لولا الطَّبِيعةُ عاقَتْهم لَكان لهمإسْراءُ رُوحٍ بِسرِّ رُوحٍ بِسرِّ السِّرِّ قد ظَفِرَا

فقال بعض السادة الأشراف، المتصل محتدهم الزاكي بالمغيرة عبد مناف، فخر الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السما، أكرم به نسباً ومنتمى، على طريق الجواب عن الأولين:

للهِ دَرُّكَ من أديبٍ بارعٍ

بذَكائِه ما يُعْجِزُ الإدْراكَا

أحْسَنْتَ إذ أتْحَفْتنا ببَدائعٍ

بَهَرتْ وإن جادتْ فدون مَداكَا

فَجَهابِذُ البيتِ الحرامِ مُذِيعةٌ

بِأرِيجِ مَدْحٍ من بَدِيِعِ ثَناكَا

وهمُ الجَحاجِحُ والذين سَمَوْا بمَن

خَرَم السَّما واسْتخْدم الأمْلاكَا

لا غَرْوَ أن جَازُوا الأَثِيرَ بفضْلِهمْ

وعَلَوا بحَقِّ جَوازِه الأفْلاكَا

وعن الثانيين:

يا مُفْلِقاً لم يزَلْ في كلِّ غامِضةٍ

يُبْدِي بها فَلَقاً بالحقِّ قد ظَهَرَا

وبَحْرَ عِلْمٍ تَحلَّى من فَرائِدِه

جِيدُ البَلاغةِ عِقْداً يفْضَحُ الدُّرَرَا

أتيْتَ حقّاً وعينُ الفضلِ شاهدةٌ

وأنتَ إنْسانُها الرَّائِي بغير مِرَا

لكنْ إليك اعتذاراً منهمُ فذَوُو الْ

أفْضالِ يعْذِر مَن قد جاء مُعْتذِرَا

لم يتركُوك لإهْمالٍ ومَنْقَصَةٍ

لكن حَجَبْتَهم فالذنبُ منك يُرَى

وأجابه أيضاً القاضي تاج الدين المالكي، بقوله:

جيرانُ مكةَ غَرْس الدَّين أيْنَع في

قُلوبِهم باسِقاً يهْدِي الهُدَى ثَمَرَا

سَقَوْه من أنْهُرِ الإخْلاصِ صَافِيهَا

فاخْضَلَّ يُطْلِع من أكْمامِها زَهَرَا

ومن يكُن رَوْضُ غَرْسِ الدِّين مُهْجَتَهُ

أسْرَى وفازَ بسِرِّ السِّرِّحين سَرَى

به قد اتَّحَدُوا إذْ كان بَيْنَهمُ

تَواصُلٌ مَعْنَوِيٌّ مِن ألَسْتُ جَرَى

فحيثُ دارتْ كؤوسُ الاتِّحادِ على الْ

أرْواحِ مَا اعْتَبَرُوا الأشْباحَ والصُّوَرَا

فأجاب الغرس معتذراً:

يا شَهْمَ مكةَ يا تاجَ الرُّءُوسِ بها

يا عُنْصُرَ الفضلِ قد بَكَّتَّ مَن عَذَرَا

يا حَبْرَ عِلْمٍ يزيدُ الطَّالِبين بها

يا بَحْرَ فضلٍ به نَسْتخْرِجُ الدُّرَرَا

يا رَبَّ حِذْقٍ غَدا رَبُّ البَيانِ له

عَبْداً وألْقَى عَصا التَّسْليمِ مُفْتقِرَا

يا ألْمَعِيّاً أضاءتْ من لَوامِعِهِ

مَشارِقُ الذِّهْنِ بالذَّوْقِ الذي بَهَرَا

يا لَوْذَعِيّاً بلا عِيٍ يُمازِجُه

أعْيَى وأفْحَم كُلاً قال أو شَعَرَا

ص: 110

يا رَبَّ ظَرْفٍ ولُطْفٍ كَسَّرا خَطَأً

أغْصانَ غَرْسِي على بُعْدِ وما شَعَرَا

هل تَرْفِيَنَّ الذي أخْلَقْتَ من حُلَلِي

أو تقْبَلَنَّ الذي يأْتِيكَ مُعْتذِرَا

فأجابه القاضي بقوله:

كَلَّلْتَ إكْلِيلَ تاجِي بالثَّنَا دُرَرَا

لمَّا بعثْتَ بِعقْدِ المدحِ مُعْتذِرَا

مُضمّخاً طِيبَ شُكْرٍ عَرْفُ نَفْحتهِ

كرَوضِ غَرْسِكَ حَيَّتْه الصَّبَا سَحَرَا

غَرْسٌ روَى حين رَوَّى الفضلُ مَنْبِته

للسَّمْعِ نَوَّارُه عن طِيبهِ خَبَرَا

غَرْسٌ من المَبْدإ الفَيَّاضِ قد سُقِيَتْ

أعْراقُه فسَمَا يهْدِي الهُدَى ثَمَرَا

إنِّي عَقَدْتُ وقد عَرَّضْتَ مُعْترِضاً

لِعِرْضِ قومٍ ثناهُم لم يزَلْ عَطِرَا

هذا إلى ما هُوَ الأحْرَى بنَا وبهِ

إذا اقْتَفيْنا طريقَ القَوْمِ والأثَرَا

فخِرْقَةُ الفَقْرِ إن لم يُوفِ لَابِسُها

بشَرْطِها نَبَذَتْه كاسِياً بِعَرَا

عَوْداً لبَدْءٍ فمِمَّ الاعْتذارُ ولم

تُقِرَّ إذْ قلتَ بَكَّتَّ الذي عَذَرَا

وقلتَ في حَقِّ مَن جَازَى وعَرَّض لم

يشعُروا أغْصانُ غَرْسِي مُخطِياً كَسَرَا

قد حَصْحَصَ الحقُّ فاعلمْ أنَّما كُسِرتْ

أغْصانُ غَرْسِ الذي أخْطَا وما شَعَرَا

أقْرِرْ بذنْبِك ثم اطْلُبْ تَجاوُزَهمْ

عنه فَجحْدُكَ ذنبٌ غيرَ ما غَبَرَا

قضى بما جَرَتِ الأقْلامُ منك بما

جَرَى به القلمُ المَحْتومُ حين جَرَى

يَكْبُو الجَوادُ ومَن يَعْثرْ يُقَلْ كَرَماً

فنسألُ اللهَ غُفْرانَاً لمن عَثَرَا

وقال المرشدي أيضاً: كان غرس الدين كتب إلى مولانا القاضي تاج الدين أبياتاً، ذكرني فيها مجرداً عن الناصب والجازم، بأن قال:

وأحمدُ المُرْشِدِي في ذاك قد حَضَرا

ثم اعتذر مني، فكتبت إليه ستة أبيات، وأردت أكملها، فأكملها السيد أحمد بن مسعود ستةً أخرى، وبعثها إليه، وهي:

غَرَسْنا لغَرْسِ الدين في قلبنا الوُدَّا

فأطْلَع من أكْمامِ أفواهِنا الوَرْدا

فعطَّر لمَّا أن جَنَتْه يدُ الوَفَا

وضَاعَ فأذْكَى عَرْفُه العَنْبَرَ الوَرْدَا

سَقَيْناه من عَذْبِ التَّصافِي زُلالَه

وما كَدَّرتْ مِنَّا له جَفْوَةٌ وُدَّا

رعَى اللهُ مَن يَرْعَى أخاه إذا هَفَا

ويوُسِعُه مِن أن يُقابِلَه حَمْدَا

وذلك غَرْسُ الدِّين لا زال بَاسِقاً

برَوْضةِ مَن يسْقِي غَرائِسَهُ المَيْدَا

ويذكُر عَهْداً أحْكَمَتْ في قُلوبِنَا

أَوَاخِيه أيْدِي الوُدِّ أكْرِمْ به عَهْدَا

إمامٌ سَمَا فوق السِّماكِ بأَخْمَصٍ

وجاوَزه حتى شَئَا الأيْنَ والحَدَّا

وناظِمُ أشْتاتِ العلومِ بنَثْرِه

فيَنْظِمه في جِيدِ أهلِ الحِجَى عِقْدَا

وكاشِفُ ليلِ الجَهْلِ من صُبْحِ عِلْمِه

بشمسٍ فتكْسُوه أشِعَّتُها بُرْدَا

أتيْتَ بفَضْلٍ فاسْتحقَّيْتَ شاهداً

لأحمدَ فاسْتَوْلَيْتَ عنِّي به مجدَا

وأظْهَرْتَ بالإفْضالِ ما كنت مُضْمِراً

فكنتَ به أحْرَى وكنتَ به أجْدَى

ولا عَجَبٌ سَبْقُ الجِيادِ لأنها

مُعَوَّدةٌ بالسَّبْقِ إن كُلِّفَتْ شَدَّا

فأجابهما بقوله:

أقول وقد غَلَّبْتُ خيرَكما جَدَّا

وقاعدةُ التغْليبِ معروفةٌ جِدَّا

حَمَدْتُ إلهي أن غَرَسْتَ لنا الوُدَّا

أيا أحْمدُ السَّامِي سِمَاكَ السَّما حَمْدَا

فأيْنَعَ غَرْسِي بعد ما كان ذَاوِياً

وأطْلَع عن أكْمامِه الزَّهْرَ والوَرْدَا

ص: 111

وإن دامتِ السُّقْيا له مِن وِصالِكُمْ

سيُثْمِر في رَوضِ الرَّسولِ لكم وُدَّا

هنيئاً لغَرْسٍ صار أحمدُ ساقياً

له من عُيونِ الوُدِّ كأسَ الصَّفا وِرْدَا

فظَلَّ يُراعِي عَهْدَه في مَغِيبهِ

ويبْنِي له في بيتِ مَحْتِدِه عِقْدَا

وذكَّره عَهْداً أَواخِيه أَحْكمتْ

يَدُ الوُدِّ في أرْواحِنا العَقْدَ والشَّدَّا

فعُذْراً لأنِّي قادمٌ وتَراهُمُ

يقُولون في الأمْثالِ والحقُّ لا يُعْدَى

لِكلِّ غَرِيبٍ قادِمٍ دَهْشَةُ اللِّقا

بها يَدْرَأُ الحُذَّاقُ عن رَبِّها الحَدَّا

وهَبْنا تَجاوَزْنَا الحدودَ ألَسْتُمُ

تُقِيلون مَن أخْطَا ومَن قد جَنَى عَمْدَا

إذا لم تكونُوا هكذا فتخلّقُوا

بأخْلاقِ مَوْلىً يملِك الغَيَّ والرُشْدَا

لَعَمْرِيَ لو كنتُ البليغَ خِطابُهُ

وأخْطَبَ مِن قُسِّ الإِيادِيِّ مَن عُدَّا

ورُمْتُ بأن أُحْصِي فضائل أحْمَدٍ

لما اسْتوْعبتْ نفسِي فضائِلَه عَدَّا

هو ابنُ الرَّسولِ المُصْطَفى وذَوِي الصَّفَابني حَسَنِ الحُسْنَى الذين سَمَوْا مَجْدَا

لهم حُرْمةٌ يَعْنُو لها كلُّ مُسْلمٍ

بها أخَذ المولى عليْنا لهم عَهْدَا

فللهِ آدابٌ بغيرِ تَطبُّعٍ

ولكنّ مِن سِرِّ الرَّسولِ بها مُدَّا

وأدَّبني ربي له منه قِسْمَةٌ

بفَرْضٍ وبالتَّعْصِيبِ من إرْثِه مدَّا

وللهِ شِعْرٌ جاوَز الشعر رِقَّةً

وجاوَز للشِّعْرَى العَبُورِ بما أبْدَى

ولا عَجَبٌ من ذاك عندي ورَبُّه

بعِزَّتِه قد جاوَز الأيْنَ والحَدَّا

وناظمُ عِقْدِ المَكْرُماتِ بكفِّه

وينْثُره جُوداً فيُحْيِي به فَقْدَا

وقد كان منك الفضلُ قِدْماً ومَقْدَماً

بسابِقةٍ تسْتوجِب السَّعْيَ والوُدَّا

فأظْهَرْتُ بالأبْياتِ ما كان مُدْغَماً

ويمَّمْتُ بالإخْفاء بيتاً حَوَى عَوْدَا

فشِمْتُ به تاجاً على الرأسِ مُشْرِقاً

فعانَقْتُه حُبّاً وهِمْتُ به وجْدَا

وداخَلنِي منه حَياءٌ ودَهشَةٌ

لِمَا كان من وَهمٍ فأوْرَثنا حِقْدَا

وقابلْتُه بالرُّحْبِ والبِشْرِ فَرْحَةً

ولم نَرَ منه حين حان اللِّقَا صَدَّا

ولا عَجَبٌ سَبْقُ الجِادِ فإنها

مُعَوِّدةٌ بالسَّبْقِ ما كُلِّفَتْ شَدَّا

ولَسْتُ بحمِصيٍ كما قال باهِتٌ

ولكنْ خَلِيليٌّ اسْتَهْدَى

وجَدِّي من الآباءِ فيما رُوِى أبو

سعيدٍ هو الخُدْرِيُّ أكْرِمْ به جَدَّا

وذاك من الأنصارِ أنْصارِ جَدِّكُمْ

رسولٌ به نِلْنَا عُلَا الجَدِّ والجِدَّا

عليه صلاةُ اللهِ ثم سلامُه

وآلٍ وصَحْبٍ والمُحِبُّ لهم جِدَّا

أَجِدِّكَ هذا القَدْحُ فيمَن يُحِبُّكمْ

ويَحْمَدُكم مَدْحاً ويمْدَحُكم حَمْدَا

وما أصْلَتتْ كَفَّاكَ يا مُصْلِتاً على الْ

أعادِي سَيْفاً بَاتِراً ماضِياً حَدَّا

فحسْبيَ عِلْمُ اللهِ واللهُ عُدَّتِيوذِمَّةُ خَيْرِ الرُّسْلِ تكْفِي مَن اسْتَعْدَى

ومن شعره قوله، من أبيات كتبها في صدر رسالة، إلى يوسف العسيلي القدسي:

يا مَن إليه تشَوُّقِي وتَشَوُّقِي

قلبي يُحَدِّثني بأنَّك مُتْلِفِي

هل قد عَرفْتَ بأنَّني لك مُصْطَفٍ

رُوحِي فِداكَ عَرَفْتَ أم لم تَعْرِفِ

ولقد أقول لِلَائِمي في حُبِّكمْ

أيُلامُ مَن يهْوَى الجمالَ اليُوسُفِي

ص: 112

إن جئْتني مِصْراً فقد أسعَفْتَني

يا خَيْبَةَ المَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ

ما حَبَّني بالصِّدقِ شَخْصٌ غيرَكم

حَقّاً وكيف يُحِبُّ مَن لم يَعْرِفِ

أوْفُوا لوَعدِي سُرْعةً من فضلِكمْ

كَرَماً فإنِّي ذلك الخِلُّ الوَفِي

لو قد وَهبْتُ مُبَشِّرِي بقُدومِكمْ

رُوحِي وحَقِّ جَمالكم لم أُنْصِفِ

ولقد كَلِفْتُ بحُبِّ أصْلِكمُ لِذا

كَلَفي بكم خُلُقٌ بغيرِ تَكَلُّفِ

ومن مقطعاته قوله:

مَن يطلُبِ الإنْصافَ في عصرِنا

فذاك من حُمْقٍ به مُنْكَشِفْ

كيف وعَيْنُ الشرْعِ مَقْلُوعَة

وشَمْسُه في أُفْقِه تَنْكَسِفْ

مثله لعبد البر الفيومي:

مَن رَام في ذا العصرِ إنْصافَهُ

والشَّرْع من حُكَّامِه لم يُصِبْ

قُضَاتُه قد قلَعُوا عَيْنَه

فشَرُّهم من نَقْصِهم مُنْتصِبْ

وقوله:

إذا رأيتَ وَلِيّاً

مُغْرىً بِحرْصٍ وبُخْلِ

فليس ذاك وَلِيّاً

للرَّبِّ بل عَبْدُ جَهْلِ

وقوله:

إني لأَعْجَبُ مِمَّا

صار الزَّمانُ إلَيْهِ

إذْ ما بكيْتُ لدهرٍ

إلَاّ بكيْتُ عَليْهِ

هذا كالاختصار لقول ابن المعتز:

عَجَباً للزَّمانِ في حَالتَيْهِ

وبَلاءٍ دُفِعْتُ منه إلَيْهِ

رُبَّ يَوْمٍ بَكيْتُ منه فلمَّا

صِرْتُ في غيرهِ بَكَيْتُ علَيْهِ

السيد محمد بن عبد الله الهشير بكبريت مفرد قائمٌ بجمع، وله خبرٌ حلية فمٍ وسمع.

أكثر من الرحلة والانتقال، وتحمل بنحلة أهل الحال الأعباء الثقال.

طالباً نشيدة حقٍ يعقلها، وصيقلاً يفتح عن مرآته الصدئة ويصقلها.

ثم رجع إلى وطنه واقام بها معتزلا، وقد تبوأ من رياسة العلم محلاً ومنزلا.

وألف تآليف أحسن فيها ما شا، وأتى فيها من الغرائب بما مازج سلافة طربٍ وانتشا.

فتنبه له حزبٌ رموه بشرر الانتقاد، وزعموا أنه قد أساء الاعتقاد.

ونسبوا إليه كلماتٍ هو من اعتقاد ظاهرها بري، وأنا ما أتحققه إلا من كل سوءٍ عري.

ومثل هذا فيه لا يقدح، فما زالت الأشراف تهجى وتمدح.

وداعية ذلك ما قاله ابن معصوم، من أنه لم يكن له في سائر العلوم، رسوخ قدم معلوم.

قال: وأخبرني الوالد بسماعه عنه، أن أستاذه خالف في تعليمه النظام، فنقله من الأجرومية إلى الكشاف، وأبدله النشاف من الارتشاف.

انتهى.

قلت: وهو في الأدب ممن سلم له أهله، وله شعرٌ يعرف منه منطبع القول وسهله.

فمنه قوله:

هَبُوا أنَّ ذاك الحسنَ عَنِّي مُحَجَّبٌ

أليس بِرَيَّاهُ سَرَتْ نَسْمةُ الصَّبَا

إذا رُمْتَ أن تُبْدِي مَصُوناتِ خِدْرِهِ

فحدِّثْ بذاك الحيِّ عن ذلك الخِبَا

وقوله:

أرى مُطالَعَتي في الكُتْبِ ما نفَعتْ

لعل وجهَك يُغْنِينِي عن الكُتُبِ

فمن رأَى وَجْهَك الباهِي وطَلْعتَهُ

فإنَّه في غِنىً عن كلٍ مُكْتَتَبِ

وقوله:

وإذا جلستَ إلى الرجالِ وأشْرقتْ

في جَوِّ باطِنك المَعاني الشُّرَّدُ

فاحْذَرْ مُناظَرةَ الجَهُولِ فرُبما

تَغْتاظُ أنت ويسْتفيد فيحسُدُ

وقوله مضمنا:

ما لي ولِلْمَجْدِ والأيَّامُ عابِسةٌ

والخَطُّ طُولَ الدهرِ في عَتَبِ

ما أصْعَب الشَّيْءَ تَرْجُوه فَتُحْرَمُه

لاسِيَّما بعد طولِ الجُهْدِ والتَّعَبِ

وقوله:

يُنازِعني شَوْقِي إلى الهنْدِ تارةً

وأُخْرَى لأرْضِ الرُّومِ والشَّوْقُ لا يُجْدِي

وما الهندُ من قَصْدِي ولكنْ بِسُوحِها

رأَى قَصدَه فيها الفؤادُ من الوَجْدِ

وقوله:

يا مَن يُؤمِّل راحةً من دهرهِ

صَبْراً على ما رُمْتَ من أمْرٍ عَسِرْ

فكُنِ اسْمَ فعلٍ لا يُؤثِّر عامِلٌ

فيه وإلَاّ فالضَّمِيرَ المُسْتترْ

وقوله:

يا لائِمي في حُبِّ مَنْ

عَزَّتْ عليَّ رُبُوعُهُ

ص: 113

خَفِّضْ عليك وخَلِّنِي

أحْلَى الهوَى مَمْنُوعُهُ

وقوله:

كم من يَدٍ قبَّلْتُها

ولو اسْتطعْتُ قَطَْعتُها

وَكم من يدٍ قبَّلْتُها لِتَقِيَّةٍ

وكان مُرادِي قَطْعَها لو أُمَكَّنُ

وقوله مضمناً:

يا من يقول بأنَّ طَع

مَ لَمَى الحَبائِبِ لم يَرُقْ

وغَدا يُعنِّف في الهوى

دَع عنك تَعنِيفي وذُقْ

وقوله، مورياً في المولى عشاقي:

قد قلتُ للمجدِ مَن تَهوى تُواصِلُه

فكلُّنا لك ذو وَجدٍ وأشْواقِ

فقال لي بِلسانٍ غيرِ مُعتذِرٍ

لا أشْتَهِي أن أُوافى غير عُشَّاقِي

وقوله:

ليست على الحُرِّ الكريمِ مَشَقَّةٌ

بأضَرّ من أن لا يَرَى أمثالَهُ

ذاك الغريبُ وإن يكُنْ في أهلِه

وَارَحْمتاهُ له لِمَا قد نَالَهُ

وقوله

مَن قال لا في حاجةٍ

مَطلوبةٍ فما ظَلَمْ

وإنما الظالمُ مَن

يقول لَا بعد نَعَمْ

وأنشد لنفسه في رحلته مضمنا:

فارقْتُ مكةَ والأشواقُ تجْذِبُنِي

لها ويمَّمْتُ طه مَعْدِنَ الكَرَمِ

فهل دَرَى البَيْتُ أنِّي بعد فُرْقَتِه

ما سِرْتُ من حَرَمٍ إلَاّ إلى حَرَمِ

وسبقه إليه العمادي، في قوله:

فارقتُ طَيْبةَ مَشغُوفاً بطَيِّبِها

وجئتُ مكةَ في وَجْدٍ وفي ألَمِ

فهل درَى البيتُ أنِّي بعدَ رُؤْيتِه

ما سِرْتُ من حَرَمٍ إلَاّ إلى حَرَمِ

وله يفتخر:

نشأتُ بفضلِ اللهِ في ظِلِّ دَوْحَةٍ

سَمَتْ بنَبيٍ كنتُ من بعضِ عِتْرَتِهْ

فإن شئْتُ في سَفْحِ العَوالِي وإن أشَا

بدارِ الذي طابتْ وطالَتْ بِهْجْرتِهْ

فهاتيكَ دارٌ للحبيبِ وهذه

بها مَنْزَهِي يا صاحِ من حل حُجْرَتِهْ

وقال في تفضيل العالية:

أراك تُغالِي في العَوالِي وفي قُبَا

وأنت على وَهْمِ الخيالِ تُعَوِّلُ

إلى كَمْ تُرَى تَهْوَى الذي أنت سائرٌ

إلى غيرهِ إذْ أنت عنه تحوَّلُ

فكُن سائراً في لَا مُقامَ فإنما

تَقلَّب في شَأْنٍ لشَأْنٍ وتَرْحَلُ

العالية: أرضٌ ذات رياض فائقة.

قال في الوفا: هي من المدينة ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها، على ميل فأكثر، وأقصاها عمارة على ثلاثة أميال وأربعة إلى ثمانية أو ستة، على الخلاف في ذلك. اننتهى.

ووجه التسمية جلي؛ لأن السيول تنحدر من تلك النواحي العالية، إلى سوافل المدينة، فعلى ذلك يقال: نزلنا من العوالي إلى المدينة، وطلعنا إلى العوالي.

وله في مدحها قطعٌ كثيرة غير هذه، فمنها قوله:

فَضْلُ العَوالِي بَيِّنٌ ولأهْلِها

فضلٌ قديمٌ نُورُه يَتهلَّلُ

مَن لم يقُل إنَّ الفضيلةَ طَنَّبَتْ

أرْضَ العَوالِي وهْو حَقٌّ يُقْبَلُ

إنِّي قَضَيْتُ بفضْلِها وأقولُ في

وَادِي قبَا الفضلُ الذي لا يُجْهَلُ

وقوله:

إذا كنتُ في أرضِ العَوالِي تشوَّفَتْ

لأرضِ قُبَا نَفْسِي وفيها المُؤمَّلُ

ولو كنتُ فيها قالت النفسُ ليت لي

بأرض العَوالي يا خليلِيَ مَنْزِلُ

فيا ليتَ أنِّي كنتُ شَخْصيْن فيهما

وما ليْتَ في التَّحْقِيق إلَاّ تَعَلُّلُ

وله من أبيات، قالها بالروم، يتشوق إلى معاهده:

ما أطْيَبَ الأيامَ فيها تَنْقضِي

والعَيْنُ قد قرَّتْ بوصلِ حَبِيبهَا

ما العيشُ إلَاّ في حِمَاهَا ليت لي

مَأْوىً ولو في سَفْحِها ورَحِيبهَا

وله في الشام:

وما الشَّام إلَاّ في البلادِ كشَامَةٍ

وأقْمارُ وَادِيه الشَّمِيم تِمامُ

فحَيَّى مُحيَّاها الإلهُ وزَانَه

ولا زالَ بَرْقُ الحُسْنِ فيه يُشَامُ

ومن روائعه قوله:

الحمدُ للهِ على ما أرَى

من ضَيْعَتِي ما بين هذا الوَرَى

ص: 114

صَيَّرني الدهرُ إلى حالةٍ

يَرْثِي لها الشَّامِتُ مِمَّا يَرَى

بُدِّلْتُ من بعد الرَّخَا شِدَّةً

وبعد خُبْزِ البيتِ خُبْزَ الشِّرَا

وبعد سُكْنَى منزلٍ مُبْهجٍ

سكنْتُ بيْتاً من بيوتِ الكِرَا

ولو تحقَّقتُ الذي نالَنِي

لارْتفَع الشَّكُّ وزَال المِرَا

أحمد بن عبد الله بن أبي اللطف البري البر الوصول، الزاكي الفروع والأصول.

إذا قام على أريكة منبر، شهد ببلاغته العالم من فاجر ومن بر.

فلو رآه سحبان لا ستحيى من أن يقول أما بعد، أو سمع ابن نباتة خطبه قال: هذا سعدٌ لم ينله بنو سعد.

مع خطٍ يحسن ويروق، ولفظٍ تومض في حبره للمعنى الأصيل بروق.

وهو عالي الإسناد ولا نظير له في العوالي، وأدبه مما تحلت به العصر القريبة وخلت عن مثله العصر الخوالي.

وقد أوردت من شعره ما يتأرج في الآفاق شذىً طيبه، وتجتلى في ذروة الثناء بلاغة خطيبه.

فمنه قوله من قصيدة أولها:

قامتْ تُرِيكَ البدر إذ تخْطُرُ

عَذْراءُ مَن هام بها يُعْذَرُ

بديعةُ الأوصافِ عُذْرِيَّةٌ

يَغار منها الظَّبْيُ والجُؤْذُرُ

أَخالُ ذاك الخال في خَدِّها

فَتِيتَ مِسْكٍ شَابهُ عَنْبَرُ

إذا تبدَّتْ وَدَّ بدرُ الدُّجَى

لو كان بالسُّحْبِ إذاً يُسْتَرُ

عادت بها أعْيادُ عَصْرِ الصِّبا

عَصْراً به تَفْتخرُ الأعْصُرُ

أيَّامَ كان الأُنْسُ في قَبْضتِي

يُصْغِي لما أنْهَى وما آمُرُ

وكنتُ في اللَّذَّاتِ مُسْتَرْسِلاً

والعَيْشُ غَضٌّ غُصْنُه أخْضَرُ

أجُرُّ ذَيْلَ اللَّهْوِ لا أرْعَوِي

ظَنّاً بأن الغُصْنَ لا يُهْصَرُ

فلم أُفِقْ مذ كنتُ في عشْقتِي

إنِّي على العُرْف بها المُنْكَرُ

حتى أناخَ الشَّيْبُ في لِمَّتِي

والشيبُ ضيفُ صار يُسْتَنْكَرُ

فقلتُ للنفسِ أَلا فارْعَوِي

فقد أنَاخَ الصَّارِخُ المُنْذِرُ

وكان القاضي تاج الدين المالكي، توجه إلى المدينة، في سنة أربع وخمسين وألف، فمدح أهلها بهذه الأبيات:

يا ساكِني طَيْبةَ فَخْراً فقدْ

طابتْ فروعٌ منكمُ والأصولْ

وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ

كأنما المقصودُ منها الشُّمُولْ

تُصْفُونَ مَحْضَ الوُدِّ مَن جاءكم

فما عسى مادحُكم أن يقولْ

ولْيَهْنِكُمْ ما قد خُصِصْتُم به

فيا لَها خصيصة لا تزُولْ

جاوَرْتُمُ المختارَ خيرَ الورَى

وفُزْتُمُ في سُوحِه بالحُلولْ

فأجابه البري بقوله:

أعْظِم بأهل الركْنِ مِن سادةٍ

في مَوْقِع العَلْياءِ جَرُّوا الذُّيولْ

جِيرانِ بيتِ اللهِ مَن قَدْرُهمْ

تَحارُ في دَرْك مَداه العُقولْ

بمكَّة حَلُّوا فحَلَّوا بها

جِيدَ المَعالِي حِلْيَةً لا تزُولْ

مَن مثْلُهم والفضلُ حقّاً لهم

ومنهمُ التاجُ إمامُ النُّقول

رئيسُ هذا العصرِ مِن جِلَّةٍ

سَمادِعٍ غُرٍ كِرامٍ فحُولْ

أخْلاقُه كالرَّوْضِ مِن لُطْفِها

ولُطْفُها تخجلُ منه الشَّمُولْ

أكْرِمْ به إذْ قال مِن أجْلِنا

طابتْ فروعٌ منكمُ والأُصولْ

وآيةُ الأنْصارِ فيكم سَرَتْ

لكنَّني بالإذْنِ منكم أقولْ

يا نُخْبةَ الأنْصارِ منكُم لنا

حتى شهِدْتُم وَصْفكُم لا يحُولْ

وأنتمُ جِيرانُ ذاك الحِمَى

والآن أنْتُمْ في جِوارِ الرَّسولْ

جمعتُمُ فضلاً إلى فَضْلِكمْ

فَسُدْتُمُ الناسَ وحَقّ المَقولْ

فاللهُ ربُ العرشِ سبحانه

يُولِيكمُ الحُسْنَى وحُسْنَ القَبُولْ

ص: 115

حتى تُوافُوا القَصْدَ في نِعْمةٍ

تَتْرَى وعمرٍ في سُرورٍ يَطُولْ

ودولةُ الأفْضالِ تَسْمُو بكمْ

وتَزْدِهِي طَوْراً وطَوْراً تصُولْ

ما غَرَّدت وَرقاءُ في روضةٍ

غَنَّا وغنَّت حين طاب الدُّخولْ

ومن لطيف ما وقع له مع القاضي تاج الدين المذكور، أنه رأى في المنام في العام المذكور، الذي زار فيه تاج الدين، كأنه في مجلس درسه بالروضة الشريفة، وإذا بالتاج داخل من باب السلام، وهو قاصدٌ الحضرة النبوية، فلما قضى الوطر من التحية والزيارة، جاء إلى المجلس وقعد، فأنشد البري بيتين بديهاً، وهما:

أمَوْلايَ تاجَ الدِّين لا زِلْتَ ذا عُلاً

على الْهامِ والأوْهامُ ليست لِذٍي فِطَنْ

إذا كُنتُمُ في مجلسٍ كان أهلُه

بأجْمَعِهم خُرْساً وأنت لك اللَّسَنْ

ثم انتبه وقد حفظهما، ثم لم تكن إلا نحو عشرة أيام من هذه الرؤيا، حتى وصل التاج، وكان دخوله المسجد الشريف من باب السلام، والبري في مجلس درسه، على الصفة التي كانت في الرؤيا.

ثم لم يلبث أن جاء إلى المجلس، فتلقاه، وجلس في الموضع الذي جلس فيه، وأشار باستمرار القراءة، فأنشده البري البيتين، ثم أخبره بالرؤيا، فقضى العجب، واستبشر، ثم بعد قيامه من المجلس أنشده معتذرا ومتشكرا:

لئن كان قَدْرِي مِثْلَما قلتَ عندما

تَواضَعْتَ إذ أطْبَقْت كُتْبَكَ في الْوَسَنْ

فقد صحَّ بالأحْرَى اتِّصافُك بالذي

وَصَفْتَ به المملوكَ من ظَنِّكَ الْحَسَنْ

لأني وإن أحْرَزْتُ ذلك إنني

لَدَيْك أخو صَمْتٍ وأنت لَكَ اللَّسَنْ

إبراهيم بن عبد الرحمن الخياري هو للفضل خليل، ومقامه كمقام أبيه جليل.

فهما من خيار الخيار، وبهما باهت مدينة النبي المختار.

وكان أبوه سقى الله عهده، ووطأ في الفردوس مهده، علم علمٍ وفضل، وموطن رأيٍ أسد وقولٍ فصل.

فلم يختر دار القرار، حتى وافاه توفية الصلحاء الأبرار.

فطلع في جبهة الدهر غرة، يملأ عين بني الفضل قرة.

وقعد مقعده بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى.

تؤثره الرتب على غيره، وتتباهى المعالي بحسن سيره.

ونظراءه بنباهته تعترف، وكأنه بحرٌ منه الألباب تغترف.

ثم عند لأمرٍ دعاه إلى الرحلة، فشد إلى جهة الروم رحله.

ولا مطمح إلا منةٌ من الله تصوب، وعنايةٌ يسترد بها حق مغصوب.

فورد دمشق، وأقام بها قليلا، ثم دخل الروم فنال بها حظاً جليلا.

وأدرك أمانيه على العجل، وبرىء الدهر عنده مما كان فيه من الوجل.

ثم قدم دمشق فهوت إليه القلوب مقبسةً من سناه، وتنافست الألسنة في إحراز مدحه وثناه.

وكنت ممن أسرع إليه، وأوقفت أملي في الاستفادة عليه.

فلزمته لزوم الظل للشبح، وأخذت عنه طرفاً من الطرف والسبح.

سمعت القول الذاهب مذهب الطيف الوارد، وذقت الأرى الذائب خلال الجامد، من برد المفتر البارد.

ثم رحل على مصر إلى دياره، وألقى بها بعد هنيئةٍ عصا تسياره.

في حظٍ قد اكتمل، واطلاعٍ على أخاير الذخائر اشتمل.

لكنه لم يستدرك ما فاته، حتى قدر الله تعالى وفاته.

فلا برحت سحب الرحمة تحيي قبره وتجوده، حتى تتروى من ثراه تهائمه ونجوده.

وقد أثبت من شعره بدائع تقتنى، وروائع بها على حسن الأسلوب يعتنى.

فمن ذلك قوله من قصيدة، أولها:

زارتْ على غَفْلةٍ من غيرِ مِيعادِ

جَيْداءُ تسحبُ تِيهاً خيرَ أبْرَادِ

كالشمسِ إن وضَحتْ والبدرِ إن لَمَحَتْ

والوَرْدِ إن سمَحتْ في خَدِّها نَادِي

حَوْراءُ ما حلَّلتْ لي نَظْرةً حَرُمَتْ

لكنْ أذابتْ بَحرِّ الهَجْرِ أكْبادِي

يا وَيْحَ قلبي بها كم ذاق مِن حُرَقٍ

حتى لقد شَيَّبَتْ بالْبُعْدِ أفْوادِي

أبْكِي وأكتُم دمعي كاتماً لأَسىً

نِيرانُه في الْحَشَا آلَتْ لإِيقَادِ

يا صاحِبَيَّ إذا ما رُمْتُما سَكَنِي

عُوجَا قليلاً كذا عن أيْمَنِ الوَادِي

أو رُمْتُما شَرْحَ حالِي في الهَوى فلقد

غُذِيتُ دَرَّ الهوى من قبْل مِيلادِي

ص: 116

وصَادِحُ الْبَيْنِ إن يَخْفَى فلا عَجَبٌ

صَوادِحُ البَيْنِ وَهْناً شَجْوُها بَادِي

يا ضَرَّةَ الشمسِ يا مَن لا شَبِيه لها

حُبِّيكِ أعْذَبُ من عَذْبٍ إلى صَادِي

فإن يكنْ عَزَّ وَصْلٌ أو بَخِلْتِ به

فعَلِلينا ولو طَيْفاً بِمِيعادِ

وقوله، مشطراً ومعجزاً قصيدة البهاء زهير، المنسوبة لابن الفارض:

غيرِي على السُّلْوانِ قادِرْ

إن رام هِجْرانَ الْجَآذِرْ

وأنَا الْوَفِيُّ بعَهْدِهِ

وسِوايَ في العُشَّاقِ غَادِرْ

لي في الغَرامِ سَرِيرةٌ

أكْنَنْتُها وَسْطَ الضَّمائِرْ

ومحبّةٌ أسْررتُها

واللهُ أعلم بالسرائِرْ

ومُشَبّهٍ بالغُصْنِ قَلَّ

تَصَبُّرِي إذْ قيلَ نَافِرْ

قَدِّي وقلبُك في الهوى

بِي لا يزالُ عليه طائِرْ

حُلْوُ الحديثِ وإنها

لَمَحاسِنٌ تَسْبِي النَّواظِرْ

حالٍ يَمُرُّوإنها

لَحَلاوةٌ شَقَّتْ مَرائِرْ

أشْكُو وأشكُر فِعْلَهُ

بُعْداً ولَمَّا يَدْنُ زَائِرْ

حالان لي أرْضاهُما

فاعْجَبْ لشاكٍ منه شاكرْ

لا تُنْكرِوا خَفَقانَ قَلْ

بي إن بَدَا بدرُ الدَّاجِرْ

كَلَاّ ولا تشْتِيتَ لُبِّ

ي والحبيبُ لَدَيَّ حاضِرْ

ما القلبُ إلاّ دارَهُ

فلذاك بالأشواقِ عامِرْ

ورُبُوعُه فلأجلِ ذا

ضُرِبتْ له فيها البَشائِرْ

يا تاركِي في حُبِّه

كهلالِ شَكٍ في المَناظِرْ

ومُصيِّري بين الورَى

مَثَلاً من الأمثالِ سائِرْ

أبَداً حديثِي ليس بالْ

مَتْرُوكِ عند ذَوِي البصَائِرْ

كَلَاّ وشَرْعِي ليس بالْ

مَنْسوخِ إلَاّ في الدفاتِرْ

يا ليلُ مالَك آخِرٌ

فتظَلُّ تَرْقُبْه النَّواظِرْ

لا فيك وَصْلُ مُعَذِّبِي

يُرْجَى ولا للشوقِ آخِرْ

يا ليلُ طُلْ يا شَوْقُ دُمْ

إنِّي إلى المحبوبِ سائِرْ

يا ليلُ أقْصِرْ أو فطُلْ

إنِّي على الحاليْن صابِرْ

لي فيك أجْرُ مُجاهدٍ

أضْحَى لجيشِ الحبِّ ناصِرْ

وثوابُ غازٍ فاتِكٍ

إنْ صَحَّ أنَّ الليلَ كافِرْ

طَرْفِي وطَرْفُ النَّجْمِ في

بَاهِي جمالِك ظَلَّ حائِرْ

والقلبُ والعَيْنانِ في

كَ كِلاهُما سَاهٍ وساهِرْ

يَهْنِيك بَدْرُك حاضرٌ

مَالَتْ لبَهْجتِه الخَواطِرْ

قد لاح بَدْرُك مُشْرِقاً

يا ليتَ بَدْرِي كان حَاضِرْ

حتى يَبيِن لناظرِي

مَن منهما بَاهٍ وبَاهِرْ

ويشيعَ بين مَعاشِرِي

مَن منهما زَاهٍ وزاهِرْ

بَدْرِي أرقُّ محاسِناً

إذْ حُسْنُه للعقلِ سَاحِرْ

كالليلِ أرْسَلَ شَعْرَه

والفَرْقُ مثل الصبح ظاهِرْ

ملكَ الجمالَ بأسْرِهِ

كُلُّ المِلاحِ له عَساكِرْ

سلطانُ حُسْنٍ قد سَما

بحُسام ألْحاظٍ فَواتِرْ

لا السُّمْرُ تَذْكَر عِنْدَها

كَلَاّ ولا البِيضُ البَواتِرْ

قد نُفِّذتْ بين الوَرى

منه النَّواهِي والأوَامِرْ

ما مَخْلَصٌ من فَتْكِهِ

بظُبَا اللَّواحِظِ والنَّواظِر

إلاّ امْتداحَ مُحَمَّدٍ

خيرِ الأوائلِ والأواخِر

وله مشطراً ومعجزاً نونية ابن سناء الملك:

من ذا الذي مِن مُقْلَتيْه يَقِينِي

فهي التي بسِهامِها تُصْمِينِي

ص: 117

يا مَن يظنُّ الشِّرْك في حُبِّي له

هذا الذي أخْلَصْتُ فيه يَقيِنِي

رِيمٌ له فِعْل الرُّماةِ وإنما

يُصْمِي فؤادَ المدنَفِ المحزُونِ

في القلب مَوْقِعُ سَهْمِه لكنه

يَرمِي بقَوْسَيْ حاجبٍ وعُيونِ

يَبْرى نِبالاً من فُتور لِحَاظِهِ

ويريشُها بالهُدْبِ للتَّمْكِينِ

ويُحيلُها بَارِي النُّفوس بحُكْمِهِ

في القلبِ حَالةَ رَمْيها تَبْرِينِي

يمشي فيدعوه القَضيبُ سَرَقْتَنِي

قَدِّي فملْتَ ولا كَمَيْلِ غصُونِ

وإذا بَدَا فالبدرُ قال ظَلَمْتَنِي

وإذا رَنا قال الغَزالُ عُيُونِي

ألِفُ ابنُ مُقْلَةَ في الكتابةِ قَدُّهُ

حاشَا فَعاذِلُه سَمَا باللِّينِ

والثَّغْرُ مِيمٌ كلُّنا صَادٍ له

والصُّدْغُ مثلُ الواوِ في التَّحْسِينِ

وعلى الْجَبِينِ بِشَعْرِه سِينٌ بَدَتْ

سلَب العُقولَ بطُرَّةٍ وجَبِينِ

قد أدْرَكتْ في الحُسْنِ غايتَه لذا

حارَ ابنُ مُقْلَةَ عند تلك السِّينِ

والْعَيْنُ مثلُ العَيْنِ لكنْ هذه

نَجْلاءُ فاقتْ عيْنَ حُورِ العِينِ

ولئن تبدَّتْ تلك مَن هي هذه

كُحِلتْ بحُسْنِ وَقاحةٍ ومُجُونِ

سبحان مَن خلقَ العيونَ بقَوْلِ كُنْ

فبدَتْ لسَلْبِ نُفوسِنا في الحِيْنِ

وتبادَرت أمْرَ الإله مُطِيعَةً

فتكوَّنتْ في أحْسَنِ التَّكْوينِ

سُودٌ رُقودٌ ما كُحِلْنَ ولا بها

وَسَنٌ فَيَدْعوها لِفعْلِ سُكُونِ

زُرْقٌ شُهِرْنَ وما ألَمَّ بِجَفْنِها

نَوْمٌ ولكنْ قَصْدُها تَسْبينِي

يا لَلرِّجالِ ويا لَها مِن فِتْنةٍ

كم أَوْقَفَتْنِي في مَواقِفَ هُونِ

حتى شَهِدْتُ بَديِعَ حِكْمةِ خالقٍ

في وَضْعِ ذاك النَّقْطِ فَوْقَ النُّونِ

في ثَغْرِه شُهْدٌ وتحت شِفاهِهِ

بَرَدٌ أكادُ أُذِيبُه بأنِينِي

وعلى الثَّنايا الدُّرُّ وَاشَغَفِي بها

خَمْرٌ جَرَتْ من لُؤْلُؤٍ مَكْنُونِ

كم قيل إن شِئْتَ الدُّجَى فغَدائِري

فاقتْ على حَلَكِ اللَّيالِي الْجُونِ

وإذا طلبْتَ البدرَ فانْظُر طَلْعتِي

وإذا أرَدْتَ الصُّبْحَ فهْو جَبِينِي

وإذا أرَدْتَ الرَّوْضَ فهْو بوَجْنَتِي

مُتَنضِّدٌ مُتناسِبُ التَّكْوينِ

يزْهُو بأبْيَضِه وأحْمَرِه لِذَا

كم فيه من وَرْدٍ ومن نَسْرِينِ

أنا لا أُرِيدُ تَنَزُّهاً في روضةٍ

حازتْ جميعَ الحُسْنِ بالتَّعْيينِ

بل إن بَدَا حِبِّي فحالِي أنني

نَظَرِي إلى وَجْنَاتِه يكْفينِي

لاقَيْتُه يوماً فقال أَما تَرَى

ظَبْيَ الْفَلَا قد زاد في التَّفْنِينِ

والشَّمْسَ ظلَّتْ أن تُحاكِي فاسْتَمِعْ

ما قد جرى منهم لقد ظَلَمُونِي

طمِع الغزالُ بأن يُعارِضَ مُقْلَتِي

حاشَا وكلَاّ أن يكون قَرِيني

والغُصْنُ ظَنَّ بأن قَدِّي مِثْلُه

والبردُ أيضاً رامَ أن يَحْكِينِي

فأجَبْتُ إن فَعَلَا فقد فُضِحا ولا

يَصِلان منك لِظَاهِرٍ وكَمِينِ

كَلَاّ فغَفْراً للذي فَعلا فلا

يُؤْذِيك فِعْلُهما ولا يُؤْذِيني

فافْتَرَّ مُبْتسِماً وأوْعَد باللِّقا

وَهْناً فقَرَّتْ باللقاءِ عُيُونِي

وثَنَى لنا عِطْفاً وجاد بوَصْلِهِ

يوماً ولا ثِقَةً بوَعْدِ ضَنِينِ

اللهُ أكبرُ مِن قَساوةِ قَلْبِه

أنَّى يَميلُ لِمُدْنَفٍ مِسْكِينِ

ص: 118

يقْسُو فلا عَطْفٌ يُميِلُ غَصُونَهُ

مع ما يُرَى في عِطْفِه مِن لِينِ

علَّمْتُه بابَ المُضافِ تفاؤُلاً

بوِصاله وطَمِعْتُ أن يُدْنيني

فغَدَا يُعامِلني بضِدٍ مُذْ بدا

ورَقِيبُه يُغْرِيه بالتَّنْوِينِ

وله في الغزل:

تَعطَّفْ بِمُضْنىً عليلِ المَقالْ

ودَعْ عنك هذا الْجَفَا والمِطالْ

أَما قد عَلِمْتَ بأني امْرُؤٌ

أُحِبُّ الجميلَ وأهْوَى الجمالْ

وأغْشَى المَغانِي إذا ما حَوَتْ

لَطِيفَ البَنانِ حَلِيفَ الدَّلَالْ

بسَهْمِ اللِّحاظِ إذا ما رَنَا

أصاب فؤادِيَ دُون النِّصالْ

ووَرْدِيِّ خَدٍ إذا لاح لا

هَمَى الطَّرْفُ منِّي بمثْلِ الّلآلْ

ووجهٍ يُبِيدُ سَناهُ البدورَ

إذا ما تَبدَّى بجُنْحِ اللَّيَالْ

فصُبْحُ الجَبِينِ وليلُ الشُّعورِ

بهذا الهُدَى وبهذا الضَّلَالْ

وجسمٍ حكَى الماءَ في رِقَّةٍ

عليه من الثَّغْرِ مِثْل الظِّلالْ

فخُذ ما صَفا لك مِن وُدِّهِ

ولا تخْشَ عَاراً ولا أن يُقالْ

فما كُلُّ وَقْتٍ يُبِيحُ الزَّمانُ

لِقَدٍ عَاطِلٍ هُوَ بالحُسْنِ حَالْ

ولا الدهرُ في كلِّ ساعاتِه

يُغِيثُ الفقيرَ ببَذْلِ النَّوَالْ

وإن لاح فاجْتَلِ أنْوارَهُ

فما كلُّ يومٍ يلُوح الهِلَالْ

ولا تُمْهِلَنْ لَذَّةً أمْكَنتْ

وباكِرْ صَبُوحَك قبَل الزَّوالْ

ولهذا الشيخ ولدٌ اسمه: أحمد نبيلٌ نبيه، قائمٌ في وقتنا مقام جده وأبيه.

وكنت قبل دخولي الحجاز سمعت بفضله، وبلوغه في المعالي مرتبة أصله.

فسجدت لله شكراً، وما زلت أجدد له ذكراً.

وأنا أشوق إليه من المحب إلى حبيبه، وأحن إليه من حنين المريض إلى طبيبه.

حتى لمحته بالمدينة لمحةً كشرب الطائر الوجل، أو قبسة القابس العجل.

لم تزل بها علة، ولا تروت بها غلة.

وقد بلغني أنه الآن هو المشار إليه ثمة بالبنان، الحائز قصب السبق في ميدان البيان.

أشرقت في سماء المجد مطالعه، ولم تتهيأ إلا لتحصيل الكمال مطامعه.

فالله يعيذه من عين كماله، ويجعل أمامه مطاياه إلى آماله.

ولم يبلغني له شعرٌ أنمق به الكتاب وأوشيه، وإذا بلغني لم آل من أني أذهبه به وأحشيه.

إبراهيم بن محمد بن أبي الحرم فاضلٌ بلغ من المعالي مرتقاها، وله معارف تستقبلها النفوس بالقبول وتتلقاها.

فمناطق الشكر له فصيحة اللسان، ومواهب الله تعالى به معهودة الإحسان.

لم يزل في عيشٍ موشاةٍ حواشيه بسوابغ الكرم، وهو في ظلال حرمة نبيه آمنٌ من حرام الحرم.

إلى أن انتقل إلى الدار الآخرة، فلا زالت تحيي قبره سحابة الرحمة الزاخرة.

وقد أوردت له من درره ما ألف نظمه بالشذر في عنق فتاة رود، فإذ نظرت رأيت أي سوالفٍ وخدود، عنت بين اللوى فزرود.

فمن ذلك قوله فيمن لبس بياضاً:

لَمَّا بَدَا مُبْيَضّا

والقلبُ مُشْتاقاً إلَيْهِ

ناديتُ هذا قاتلِي

والرَّايةُ الْبَيْضَا عليْهِ

وقوله:

صَادَفْتُه يجْلُو فَماً حَشْوُهُ

شُهْدٌ ودُرٌّ وعَقِيقُ المُدامْ

وقلتُ يا مولايَ هل مَشْرَبٌ

مِن رِيقِك العَذْبِ لِحَرِّ الغَرامْ

فقال جَوْرٌ منك أنت الذي

تُدْعَى بإبراهيمَ طولَ الدَّوامْ

والنارُ بَرْداً وسلاماً غَدَتْ

عليك ماذا الحَرُّ قلتُ السَّلامْ

وقوله:

جاء يسْعَى إلى الصلاةِ مَلِيحٌ

يُخْجِلُ البدرَ في لَيالِي السُّعُودِ

فتمنَّيْتُ أنَّ وَجْهِيَ أرْضٌ

حين أوْمَا بَوجْهِه للسُّجودِ

قلت: ذكرت هنا ما يحكى عن بعض الظرفاء، أنه مر بغلامٍ جميل، فعثرت فرسٌ في طينٍ، أصاب وجه الغلام منه نزرٌ، فقال الظريف:" يا ليتني كنت تراباً "، فسمعه بعض المارين، فقال للغلام: ما يقول هذا؟

ص: 119

فقال: " ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ".

وقال السيد محمد كبريت، في كتابه نصر من الله وفتح قريب، في معرض كلامٍ: جرت عادة الفعال لما يريد في خلقه، أن كل بلدةٍ في الغالب تكون عوناً لغريبها، حتى على ساكنها، وعلى الخصوص المدينة المنورة.

وكان المرحوم العلامة الشيخ إبراهيم بن أبي الحرم يقول: ليس من الرأي تعظيم الوارد إلى هذه الدار، إلا بحسب ما يقتضيه الحال، فإنه بتعظيمه يطأ غيره، ثم يتمرد على معظمه، فيطأه كذلك، وتكون إساءته عليه أكثر، وعلى الخصوص من لفظته القرى، وألف النوال والقرى، وقد اتفق لي شيءٌ من ذلك فكتب إلي بعض أصحابي في خصوص هذا المعنى:

يا أهْلَ طَيْبةَ لا زالتْ شمَائلُكم

بلُطْفِها في الوَرى مَأْمونَة الْعَتَبِ

لكنْ رِعايتُكم للغُرْبِ تحْمِلُهمْ

على تَجاوُزِهمْ لِلْحَدِّ في الأدبِ

فكان الجواب عن ذلك بلسان الحال:

مَوْلايَ إنَّ صُروفَ الدهرِ قد حَكَمتْ

وأعْوَزَتْ أن يَذِلَّ الرأسُ للذَّنَبِ

كم مِن مُقَبِّلِ كَفٍ لو تمكَّن مِن

قَطْعٍ لها كان مِمَّن فازَ بالأرَبِ

الأمير أبو بكر بن علي الأحسائي أمير كلام، وصاحب نفثات أقلام.

نما في منبت النجابة، ودعا الأمل فأجابه.

تحرسه عينٌ من الله واقية، وتحفظه آثارٌ أبد الآباد باقية.

وله علمٌ وعقل، وضبطٌ لشوارد الفنون ونقل.

إلى مفخرةٍ يتوشح بردائها، ومأثرةٍ يترشح لابتدائها.

وقد فاز من الأدب بأوفر حصة، وغدت سمته به صفةً مختصة.

وله شعر تتأرج في روض المعارف زهراته، وتجتني من أغصان السطور ثمراته.

فمنه قوله، من قصيدة يمدح بها الشريف زيد بن محسن:

عَزَّتْ بِعِزِّ مَقامِك العَلْيَاءُ

وعليك فَضّتْ عِقْدَها الْجَوزَاءُ

فالبدرُ كأسٌ والشموسُ عُقارُها

فاشْرَبْ بكأسٍ شمسُه الصَّهْباءُ

وحَبابُها نُجُمُ السَّما فكأنَّها

ذاتٌ وذاك بشكْلِه الأسْماءُ

وأتْك بِكراً قبَل فَضِّ خِتامِها

يقْتادُها رَاوُوقُها وذُكاءُ

خضعْت لعِزِّك فاسْتقِمْ في عَرْشِها

يا ظاهراً لا يعْتريِه خَفاءُ

وانْصُبْ لِوَاءَ الحمد مُنْتَشِرَ الثَّنَا

قد ضُوِّعتْ بعَبِيرِه الأرْجاءُ

يسْعَى بظلِّ أمَانِهِ بين الورَى

ذُو البَأْسِ والأمْجادُ والضُّعَفاءُ

فالدهرُ سَيْفُك فاتَّخِذْه مُجَرّداً

مُتوشّحاً بالنصرِ وهْو رِدَاءُ

وعُلاكَ قد شهِد العَدُوُّ بفضْلِه

والفضلُ ما شهدتْ به الأعْدَاءُ

وحِمَاكَ أَمْنُ الْخائفين تَؤُمُّه

ششمُّ الأُنوفِ القادةُ الأكْفاءُ

ولقد حَظِيتَ من الإلهِ بنَظْرةٍ

أرْدَتْ مُريد الكَيْدِ وهْو هَباءُ

وحُبِيتَ منه بما تقاعَسُ دُونَه

هِمَمُ الملوكِ الصِّيدِ والعُظَماءُ

فالله أظْهَرَ ذا الْجَنابَ بِنَصِّه

فالخلقُ أرضٌ والشريفُ سَماءُ

لو قيل لي مَن ذا أرَدْتَ أجَبْتُهمْ

أوَ غَيْرَ زَيْدٍ تَمْدَحُ الشعَراءُ

وإذا أُدِير حديثه في مَحْفَلٍ

فلِمَسْمعِي مِن طِيبِ ذاك غذاءُ

مَلِكٌ إذا وعَد الجميلَ وَفَى به

وإذا تَوَعَّدَ شأنُه الإغْضاءُ

فبِسَعْدِه أهْدَى الزمانُ إلى الورَى

كأساً هَنِيّاً ليس فيه عَناءُ

فالله يُبْقِي مُلْكَه السَّامي الذي

قد كَلَّلَتْه بنُورِها الزَّهْراءُ

وكتب إلى الشيخ الإمام عيسى بن محمد الجعفري الثعالبي، نزيل مكة، مادحاً بقوله:

يا مَن سَما فوقَ السِّماكِ مَقامُهُ

ولقد يَراك الكلُّ أنتَ إمامُهُ

حُزْتَ الفضائلَ والكمالَ بأَسْرِهِ

وعَلَوْتَ قَدْراً فيك تمَّ نِظامُهُ

لو قيل مَن حازَ العلومَ جميعَها

لأقول أنت المِسْكُ فيه خِتامُهُ

ص: 120

كم صُنْتَ مِن بكْرِ العلومِ خَرائداً

عن غيرِ كُفْءٍ لم يجبْ إكْرامُهُ

فاعلمْ بأنِّي غيرُ كُفْءٍ لائقٍ

إن لم يكنْ ذا الفضلُ منك تمامُهُ

ثم أتبعه بنثرٍ، صورته: لما أضاء نور المحبة في قناديل القلوب، صفت مرآة الحقيقة فظهر المطلوب.

فاتضحت الرسوم الطامسة، وبانت الطرق الدارسة.

فاكتحلت عين القريحة، فسالت في نهر النطق، فأثمرت بالمسطور، وهو المقدور.

وأما المقام فهو أعلى من ذلك وأجل، وليس يدري ذلك إلا من وهل.

وأما العبد فهو مقرٌّ أنه قد قصرت به الركائب عن بلوغ ذلك، وأعاقته عقبات الأسباب عن سلوك هذه المسالك.

لكن حيث إن ثياب الستر من فضلكم على أمثاله مسبولة، فيرجو أن يهيىء الله له في ضمن الامتثال مطلوبه ومأموله.

فأجابه بقوله:

لِلّهِ دَرُّك يا فريد مَحامِدٍ

أربَى على البدرِ التّمامِ تمامُهُ

قد صُغتَ من سِرِّ البراعةِ مُفْرَداً

فاق الفرائدَ نَثْرُه ونظامُهُ

وكَسَوْتَه من جَزْلِ لفظِك سابِغاً

وُشِيتْ بكلِّ لَطيفةٍ أكْمامُهُ

وجَلَوتَه يخْتالُ تِيهاً آمِناً

مِن أن يُشابَه في الوجودِ قَوامُهُ

أعْرَبْتَ فيه عن اعْتقادٍ خالصٍ

ومَكِين وُدٍ أُحْكِمتْ أحْكامهُ

وصَبَوْت ذا شُكْرٍ بِبثِّ قصيدةٍ

وبفَصِّ خاتمه العَلِي أسْوامُهُ

أهْلاً به فَرْداً أتى من مُفْرَدٍ

وحَبَا به ضيفاً يجلُّ مقامُهُ

حَتْما عليَّ ولازماً تبْجِيلُه

فَوْراً وحَقّاً واجباً إكْرامهُ

لكنْ على قَدْري فلستُ بكُفءِ مَن

وَطِئتْ على هامِ العلَى أقْدامهُ

وإليكَها عَذْرَا على مَهَلٍ أتَتْ

خَجْلَى لمْحتدِك العزيز مَرامُه

فاصْفَحْ بفضلِك عن صَحِيفةِ نَقْصِها

فالفضلُ مُؤتمٌّ وأنت إمامُهُ

واسْحَبْ رداءَ المجدِ غير مُدافعٍ

فلأنتَ عُنْصُرُه وأنت خِتامهُ

ثم أتبعه بنثر، صورته: هذه دام جدك في صعود، ومجدك في سعود عجرفةٌ أبرزها فاتر الفكر الأعرج، وقاصر الذهن البهرج.

تتعثر في مروط الخجل والوجل، وتتعارض لما بها من الخطأ والخطل.

أتت سوح حضرتك الرحراحة الأرجا، وأملت أن تفوز من كمال صفحك عن زيفها بتحقق الرجا.

فقابل إقبالها بالقبول والإغضا، وألحظها غير مأمورٍ بعين التقريب والرضا.

فإنك مأوى الفضل ومخيمه، ومفتتحه ومختتمه.

ولولا نافذ أمرك المطاع، وواجب تعظيمك المتمكن في الأفئدة والأسماع؛ لما تراءى لراءٍ عجرها ولا بجرها، ولا بان لسامع خبرها ولا مخبرها.

ولكن عند الأكابر تلتمس وجوه المعاذير، ولدى أعيان الأفاضل يرتجى الصفح عن التقصير.

والسلام.

أحمد بن محمد مكي فاضلٌ توقد ذكاه، وتألق شهابه وذكاه.

فبزغ واضح الغرة والجبين، ورفع عمود الصبح المبين.

وكسي نصاحة الفصاحة، وتفتق عن رونق البشر والصباحة.

فلله براعةً ملك، وطريق إجادةٍ سلك.

قرت بها عيون أودائه، وملئت غيظاً صدور أعدائه.

وكان للقلوب فيه ظنٌّ جميل، وللمعالي رجاءٌ وتاميل.

إلا أن الأيام لم تفسح له مدى، فاقتطفت زهرة حياته في باكورتها يد الردى.

وقد أثبت من بواكير طبعه المطبوع، ما يدل على نبله دلالة الماء على نظافة الينبوع.

فمن ذلك هذه الأبيات، كتب بها إلى الأستاذ زين العابدين الصديقي:

لُؤْلُؤُ الثَّغْرِ المُنَضَّدْ

فيه جِريْالٌ مُبَرَّدْ

بَسمَتْ عنه ثَنايَا

رَشأٍ أحْوَى وأغْيَدْ

أم رياضٌ عِقْدُ دُرِّ الْ

مُزْنِ فيها قد تَبدَّدْ

أم نجومٌ مُزْهِراتٌ

مِن سَناها النُّورُ يُوقَدْ

أم نَسِيمُ الصبح أبْدَى

طَيِّب النَّشْرِ من الوَرْد

لا ولكنْ ذا قَرِيضٌ

لإمامٍ قد تفَرَّدْ

سيِّدٍ حَبْرٍ هُمامٍ

أوْحَدٍ من نَسْلِ أَوْحَدْ

مَن له حَالٌ وقَالٌ

بِهِما الساداتُ تشْهدْ

ص: 121

وله في المجدِ شَأْوٌ

دونه النجمُ وفَرْقَدْ

نَجْلُ أقْطابٍ كِرامٍ

لهمُ غاياتُ سُؤْدَدْ

كم كراماتٍ شهِدْنَا

مالَها حَصْرٌ ولا عَدّ

يعجِزُ الواصفُ عنها

منهمُ جاءتْ بلا حَد

مَلأَتْ شرقاً وغرباً

وبدَتْ في كلِّ مَشْهَدْ

عَبِقَ الكونَ ثَناهُم

كعَبِيرِ المِسْكِ والنَّدّ

وحكى لي صاحبنا الفاضل مصطفى بن فتح الله، قال: كنت بالمدينة نظمت قصيدةً في الغزل، فلامني عليها بعض الناس، وبلغ ابن مكي ذلك، فأتى إلى منزلي ليروحني، فلم يجدني، فكتب:

أتيتُك من شوقِي إليك مُسَلِّماً

وقد صار قلبي في وِدادِك ذا شُغْلِ

فمِن سُوءِ حَظِّي ما تَمَلَّيْتُ ساعةً

بمَرْآكَ يا رَبَّ الفصَاحةِ والنُّبْلِ

فلا عَتْبَ لي إلَاّ عليه فإنه

على نَيْلِ ما أهْواه في الدهرِ ذُو بُخْلِ

فيا مَن له طبعٌ أرَقُّ من الصَّبا

لقد ساءَني ما قد لَقِيتَ من العَذْلِ

فلا تسْتمِعْ قولاً لِواشٍ وناصِحٍ

ولا تَرْعَوِي عن حُبِّ ذِي الأعْيُنِ النُّجْلِ

فما أنتَ في حُبِّ الْجَآذِرِ أوَّلاً

أشَاعَ الهوى أسْرارَه يا أخا الفَضْلِ

بِذا قد قضَى شَرْعُ الغَرامِ بأهْلِه

فنصْبرُ في حُكْمِ الغرامِ على القَتْلِ

إذا ما رَنَا مَن يُشْبِهُ الظَّبْيَ لَفْتَةً

ومَاسَ كغُصْنٍ فوق دِعْصٍ من الرَّمْلِ

وأظْهَر وَرْداً في شَقائِقِ خَدِّه

وسار يجُرُّ الذَّيْلَ تِيهاً على مَهْلِ

وفاح شَذَا مِسْكٍ على الْخَالِ عَمَّهُ

مَحاسِنُ أوْصافٍ تَجِلُّ عن المِثْلِ

وأبْسَمَ عن دُرٍ تنظَّم في طُلىً

ألَذُّ وأحْلَى رَشْفُها من جَنَى النَّحْلِ

فأيُّ فُؤادٍ ليس يصْبُو لِحُسْنِه

ويشْتاق من ذاك الغَزالِ إلى الوَصْلِ

ألا أيُّها العُذَّالُ إنَّ بَنِي الهَوى

رَأُوا اللَّوْمَ في حُبِّ الحِسانِ من الجهلِ

ففي مَعْرَكِ الأحْداقِ والمُهَج انْظُروا

ولُومُوا ولِجُّوا بعد ذلك في العَذْلِ

تَبارَك مَن حَبَّ الجمالَ وأهْلَه

ومَن خلَق الإنْسانَ في أحْسَن الشَّكْلِ

إليك أخا الأفْضالِ سارتْ شَقائقٌ

مُداعِبَةٌ تَرُوْيِك بالجِدِّ والهَزْلِ

فكُن فاتِحاً بابَ الرِّضَا لقبولها

وأصْلِحْ مَعانيها من القولِ والفِعْلِ

ودُمْتَ قَرِيرَ العَيْنِ في حِفْظِ ربِّنا

ونَسْمعُ ما تَرْوِي ونكتُب ما تُمْلِي

فكتب إليه مجيباً:

يا أحمداً حاز المَكارمَ كُلَّها

ويا فاضلاً مِن دونِه كُلُّ ذِي فَضْلِ

ويا ماجداً يسْمُو على كلِّ ماجدٍ

ويا مَن غدَا في الفَضْلِ مُمْتنِعَ المِثْلِ

ويا نَجْلَ مَكِّيِّ الهُمامِ الذي له

فضائلُ إنْ أعْدَدْتُها فهْي كالوَبْلِ

على كلِّ حالٍ لستُ أُحْصِي ثَناكُما

ولكنَّ بعضَ القولِ يكفي عن الكُلِّ

بنفسِي أُفَدِّي منك لَفْظاً كلُؤْلُؤٍ

وشِعْراً رقيقاً صار ذِكْراه لي نَقْلِي

بعثْتَ بِخَوْدٍ يُخْجل البدرَ حُسْنُها

عَقِيلةَ أتْرابٍ بها صِرْتُ ذا شُغْلِ

سُلافِيَّةُ الألْفاظِ شَمْسيَّةُ السَّنَا

مُدامِيَّةُ الأَلْمَى لحالش الشَجِي تُمْلِي

فأفْرشْتُها خَدِّي وأوْسَدْتها يَدِي

وصيَّرْتُها مِنِّي بمنزلةِ الخِلِّ

وبِتُّ أُعاطِيها ثَنايَ مُعظِّما

عليْك وجادتْ عند ذلك بالوَصْلِ

وقبَّلْتُها ألْفاً وضِعْفَها

فحيَّاك ربُّ العرشِ يا زَاكِيَ الأصْلِ

ص: 122

ذكرتُ بها عهدَ الصَّبابةِ والهوى

وكنتُ تَناسيْتُ المَحبَّةَ بالفِعْلِ

زَهَتْ بك يا قُسَّ الفصاحةِ طَيْبَةٌ

فدُمْتُ قَرِيرَ العيْنِ مُجْتمِعَ الشَّمْلِ

وقد زُرْتَ عَبْداً صادقاً في وِدادِهِ

وشأنُ المَوالِي هكذا يا مُنَى السُّؤْلِ

ولكنْ على حَظّي العِتابُ فإنه

على جَمْعِ شَمْلِي بالأحِبَّةِ ذُو بُخْلِ

وأعْلَمتْنِي أن قد شَفِقْتَ عليَّ مِن

مَقالةِ عُذَّالٍ وليسوا ذَوِي عَدْلِ

أبُثُّك حَالِي يا أخا الوُدِّ والوفا

وَدَهْرِيَ أشْكُو وهْو منِّيَ في حِلِّ

رَمانِي زماني بالصَّبابة والهوى

وذلك تقْديرُ الذي جَلَّ عن مِثْلِ

وقد كان ظنِّي الوصلُ مِن فَاتِنِي الذي

تحكَّم في بعضِي هَواه وفي كُلِّي

فعامَلنِي من غَيْرِ ذنبٍ بهَجْرِه

فيا سيِّدي هل يستحقُّ الجَفَا مِثْلِي

فمِن أجْلِ ذا قد ضاق صَدْرِيَ منهمُ

ولم أتَجَرَّعْ بعدَ ذا غُصَصَ العَذْلِ

على أنني لا أرْتضي الذُّلَّ في الهوى

وإن كان أَوْلَى لي التَّحَمُّلُ للِذُّلِّ

ولكنْ أمَرْتَ العبدَ يصْبِرُ للْقضَا

فصَبْراً على أحْكامِ ذي الأعْيُنِ النُّجْلِ

ودُمْ راقياً أَوْجَ الفضائلِ باقياً

وتخْدُمك العَلْياءُ في الجِدِّ والهَزْلِ

ومما وقفت عليه، معزواً إليه قوله:

إيَّاك والبَغْيَ لا تَرْضَى به أبداً

واتْرُكْ هوَى النفسِ تنْجُو مِن بَلا عَادِ

وكُن بنفسِك مشْغولاً تُهذِّبُها

فالنفسُ أعْدَى عَدُوٍ ذاتُ إفْسادِ

ولا تكُنْ بمَساوِي الناسِ مُشْتغِلاً

وراقِبِ الناسَ في خافٍ وفي بَادِي

قد قال واصفُهم حَقّاً أخُو فِطَنٍ

ممَّن يُجِيد فَصِيحَ النُّطْقِ بالضَّادِ

الناسُ أحْلامُهم شَتَّى وإن جُبِلوا

على تَشابُهِ أرْواحٍ وأجْسادِ

للخيرِ والشَّرِّ أهلٌ وُكِّلُوا بهما

كلٌّ له مِن دَواعِي نَفْسِه هَادِي

وقوله:

في طَيْبةَ كان لنا صاحبٌ

تظنُّه النفسُ شَقِيقاً لَهَا

مَنَحْتُه صَفْوةَ الإخَأ

وخِلتُه يمنَحُ أمْثالَهَا

فقابَل الوُدَّ بهَجْرٍ بلا

دَاعٍ له تُوِب فَتْح اللَّهَا

وكم عُقُودٍ للْوفَا بيْننا

أطاع شانِينَا وقد حَلَّهَا

فقلتُ يا نفسُ دَعِيهِ فذَا

مثلُ الذي نقضَتْ غَزْلَهَا

أحمد بن محمد علي المدرس لقيته بدمشق في خدمة قاضي القدس المولى خليل أجل من ولي القضا، وأعظم من ينقضي الدهر وليس لمدحه انقضا.

وله عنده المنزلة المجلاة بالإنعام، والرتبة المشمولة بالإكرام بين الخاص والعام وكنت أعشق هذا الفاضل على السماع، فصغر الخبر الخبر به عند الاجتماع وطالما اقتطفت من أزاهر بستانه فاكهةً جنية، فتناولت الآن من صنعة بنانه تحفاً عن الإطراء في مدحها غنية.

وهو كما بلغني قد بلغ مبلغ الرجال، وهو في سن الأطفال، وتميز بين أقرانه بالمزية التي تستدعى لها الاعتناء والاحتفال.

بجدٍ لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وجهدٍ لم يخل دقيقة ولا جليلةً إلا استقصاها.

وقد فرحت به فرحةً أنستني كل فرحة، وباعدت بيني وبين كل مساءة وترحة.

ثم اجتمعت به في القاهرة، فأشرقت علي بها فضائله الزاهرة.

وتحققت من وده حالاً لم يلحقها انتقال، ولم يشنها اختلال، وتألفاً هو الفعل لم يدخله من شوائب النقص اعتلال.

فالله يجعل تلك من الأحوال اللازمة، ويعصم هذا من الحروف الجازمة.

فمما تناولت من شعره قوله:

قَرِّبي الراحَ من حِمانَا وُدورِي

بين غِيدٍ بها حِسَانٍ بُدورِ

قَرِّبيها فهْي الدواءُ لِما قد

حلَّ من دَائها بجسْمي الأسيرِ

ص: 123