الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهْدَى لنحوِي عَرُوبَ نَظْمٍ
…
تزْهُو من الحسنِ في غلائِلْ
أعْيَتْ على القائلين حتى
…
لم يَبْقَ قولٌ بها لقائلْ
مولايَ دُمْ في الورَى تُحَلِّي
…
بالدُّرِّ جِيدَ المُنَى العَواطِلْ
واعْذِرْ مُشَتَّ الخيالِ صَبَّاً
…
بالرَّغْم من أرضِ مصرَ راحِلْ
لولاك ما جادَ منه فكرٌ
…
لم يحْتمِلْ مِنَّةَ الصَّياقِلْ
واسْلَمْ مَدَى الدهرِ في نعيمٍ
…
يبْقَى ببُقْياكَ غير زائلْ
وقد أمرتني أن أجيبك وأجيزك، وأوزان بمثقال كلمي الحديد إبريزك.
فتحيرت بين أمرين أمرين، ووقع ذهني السقيم بين داءين مضرين.
إن فعلت ما أمرتني به فما أنا من رجاله، ومن أنا حتى أحرز شوطاً في مجاله.
كيف والميلاد قريب، والسن قد أخذت من الصنب بنصيب.
والرؤية ما تنقع الغلة، والرواية دون القلة.
وإن منعت أسأت الأدب، وفوت من حسن الطاعة الأرب.
ثم ترجح عندي الامتثال، وأجبت سائلاً منه تعالى توفيقي لصالح الأعمال.
وأجزتك بجميع ما تجوز لي روايته، وتصح عني درايته.
من مسموعٍ ومأثور، ومنظومٍ ومنثور.
وإجازةٍ ومناولةٍ، ومطارحةٍ ومراسلةٍ، وقنلٍ وتصنيفٍ، وتنضيدٍ وتفويف.
ولي بحمد الله رواياتٌ كثيرة، وأسانيد كالشمس راد الضحى منيرة.
وأما مشايخي فلو كنت من شرح أحوالهم أنتصف، لقلت إن صحيفة العمر تضيق فيهم عما أصف.
فذكرتهم سرداً لأن مثلي مقنوعٌ منه باليسير، ومعذور في قصر الباع وضعف المسير.
وأي نسبٍ بيني اليوم وبين زخرف الكلام، وإجالة جياد الأقلام، في أوصاف الأعلام.
بعد أن حال الجريض، بين الإنشاء والقريض، وشغل الجسم المريض.
واستولى الكسل، ونسلت الشعرات البيض كأنها الأسل.
تروع بمرط الحيات سرب الحياة، وتطرق بذوات الغرر والشيات عند البيات.
والشيب الموت العاجل، وإذا ابيض زرعٌ صبحته المناجل، والمعتبر الآجل.
وأسأل الله تعالى مفيض الآلاء أن يستعملني وإياك فيما يرضيه، ويلطف بنا وبالمسلمين فيما يجريه من أحكامٍ ويقضيه.
ويجعلنا ممن ختم له بالحسنى، ويقربنا ممن جعل لهم المقام الأسنى.
وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الباب الثامن
في تحائف أذكياء المغرب
العُذر في تأخير هذا الباب واضح، كما أن فضلَ من ذكرتُه فيه لفضل غيرهمِ فاضِح.
فإن شمسَ الأدب عندهم إيداعُها، وإن كان من نُوِر أسِرَّتهِم ظهورُها وابتداعُها ولهذا قيل:
الغربُ خيرٌ وعند ساكنِه
…
أمانةٌ تقتضِي تقدُّمَهُ
فالشرقُ مِن نَيَّريْهِ عندهُم
…
يُودِع دِينارَه ودِرْهَمَهُ
وقد ذكرتُ من أهلهِ طائفةً ملأُوا بمَحاسنهم ما بين المغرب والمَشْرِق، ونَوَّرُوا ما بين البَسيطة والسّما بنورِهم المُشْرِق.
فمنهم:
علي بن الأَوْجَلِيِّ
هُو من قَلْب سَلْطنةِ أوْجَلةَ الصَّمِيم، وراعِي عَرارِها الفائِح نَشْرُه والشَّمِيم.
صاحبُ القول المُعْجِب المُغْرِب، الذي لم يَضُمَّ مثلَه المشرقُ والمغرب.
كان نازعَهُ المُلْكَ ابنَ عَمٍّ له تغلَّب عليه، وكاد بقُّوَّةِ مالِهِ وأخْيالِه يسُوق الحَتْفَ إليه.
فخرَج من دارِ مُلْكِه تَتراماه البلادُ تَرامِيَ الكُرةِ بالصَّوْلجان، وتزهُو به زَهُوَ الأيَّامِ بالنَّوْرُوزِ والمِهْرَجان.
يُفاوِحُ زهرَ الرُّبَى مَسْراه، ويُنافِح نسيمَ الصَّبا في مَجراه.
فإذا حَلَّ بنَادٍ اسْتقبلتْه الهَشاشة، وفُرِش له بين الذِّمَاء والحُشاشة.
فمن أوْجلةَ الغَرْب إلى مصرَ إلى دِمَشْق إلى حلَب، وبها حَطَّ رَحْلَه على وَفْقِ ما اقْتَرح وطلَب.
قال العُرْضِيُّ: فكتب إليه من كلمة طائيَّة:
بُرُوقٌ أطالتْ من سَلاسِلها السَّقْطَا
…
فها مِجْمَرُ النُّوَّارِ قد ضَوَّع القُسْطَا
وفرَّخ في كَانُونِ قلبي سَمَنْدَلُ اشْ
…
تياقِي لجيرانٍ أناخُوا بذي الأرْطا
سقى الْبارِقُ النَّجْدِيُّ لا بارقُ الحِمَىوحَيَّي الْحَيَا من أَدْمُعِي الدُّرَّةَ الْوُسْطَى
مَرابِعُ للغِزْلانِ كانتْ فأصبحتْ
…
مَراتِعَها تَرْعَى بها الأثْلَ والخَمْطَا
يذُودُون عن رِئْمٍ هناك مُشَرَّدٍ
…
ومِن عادة الآرام تعْطُو ولا تُعْطَى
ولم أنْسَ إذْ عاطَيْتهُ أكْؤُسَ الهوى
…
وبات يُعاطِيني رُضاباً بلِ اسْفَنْطَا
وقام بلالُ الخالِ في صُبحِ جِيدهِ
…
يُراعِي ثُرَيَّا قَرَّطُوه بها قُرْطَا
بجِيدٍ مَسَحْتُ الدَّمْعَ فهو ابنُ مُقْلَةٍ
…
تَناوَل طُوماراً وأعْجَمَه نَقْطَا
لقد طَرَّزَ الرَّيْحانُ صَفْحَة خَدِّه
…
طِرازاً على يَاقُوتِ وَجْنتِه اخْتَطَّا
ثلاثٌ غدَتْ أمْضى شَباً من شَبا الْقَضَا
…
وأجْرَى من الأقْدارِ في الحُكْمِ بل أسْطَى
لَواحِظُ مَن أهْوَى وسيفُ ابنِ طالبٍ
…
وأقْلامُ مولانا عليَّ إذا خَطَّا
قد انْعَقدتْ للكاتِبين أناملٌ
…
على أن باديه بباديه ذي الأَنْطَا
ومَن رام في دُنْياه شَقَّ عَصاهُمُ
…
فذاك الذي رام القَتادةَ والخَرْطا
رَبيبُ سَرِيرِ المُلْكِ دُرَّةُ تَاجِهِ
…
ومُوسَى زمانٍ ناصرٌ يُضْعِف القِبْطَا
سقَى مِن يَراع العِلْم كلَّ قريحةٍ
…
كما أن موسى مِن عصاه سَقَى السِّبْطَا
لقد أطْلَعْتُه الغربُ شمسَ مَعارفٍ
…
بأعْتابِه رَحْل الأفاضِل قد حَطَّا
أمولايَ فكرِي مثلُ جسمِيَ صائمٌ
…
عن الشِّعْرِ مذ رَبْعُ الحبيبِ به شَطَّا
ولكنه لمَّا اسْتَهَلَّ هِلالُكم
…
وكان له عِيدا سَلا الرَّبْعَ والشَّحْطَا
وهاتيك أقلامي بدَتْ بمَدِيحكم
…
وقد يظْهر التَّنْويرُ في الشَّمْعِ إن قُطَّا
ورِفْعةُ ذِكْراكم بِشعْرِي توثَّبتْ
…
فَعَفْواً لقد يُكْسَى شبابُ الفتى وَخْطاَ
فأجاب، وتأخَّر الجواب إلى العيد، فضمَّنه تهنئةً به، فقال:
غَدا لفُراتَ الرِّيق عارِضُه شَطَّا
…
فباهَى مَقامات الْحرِيري وإسْفَنطَا
وأنْبتَ في نار الخُدُودِ شَقائقاً
…
وكيف ترى في النارِ نبْتاً ولو خَمْطَا
وراعَى بِلَحْظِ الخدِّ بَاناً وقال لا
…
تقولُوا مُراعاةُ النظيرِ من الإِبْطَا
وسَالِفُه مَعْ ظَلْمِه بجهالةٍ
…
يقول صِفُونِي بالشُّعورِ وما أخْطَا
غزالٌ ولكن كيف ينْشَط طَرْفُه
…
لقتْلِيَ وهُو الفاترُ الكاسِلُ الأَبْطَا
على خَدِّه خالٌ به عُرِفَ الهوى
…
ومن نُقْطِ شكلِ الحرفِ قد تعْرِفُ الخَطَا
وفي ثَغْرِه الأحْلَى وفي صَلْدِه أرَى
…
مُداماً مُصَفىًّ كالزُّلالةِ والحَوْطَا
الحوط: لَوح من الذَّهب مكتوبٌ تضَعُه المرأة على صدرها.
بروُحي فتىً أفْنَى بقتلِيَ رَهْطَهُ
…
ومَعْ قَوْلهم بالقتلِ أكْرمهم رَهْطَا
قَضَوا بِتلافِي في شريعةِ قَدِّهِ
…
وكيف وفي الشَّهباءِ أقْضَى الورَى الأحْطَا
هو السِّيدُ العُرْضِيُّ أعني محمداً
…
إمام الهدى بل والنَّدَى العالِمُ الأَعْطَا
أخو العلم بالمعقول أمّا ذكاؤُه
…
فباهَى به اليُونانَ والرُّومَ والقِبْطَا
وذو الحِفْظِ للمنقولِ أمّا نُصوصُه
…
ففاق بها مَن حَصَّل الفِقْه والحلْطَا
الحلط: كتاب في مذهب الإمام مالك، رحمه الله تعالى.
به الجهلُ وَلَّى والعلومُ بِحَلْقِه
…
كأمْواجِ بحرٍ قد تكنَّفتِ الشَّطَّا
بحيث تَرَى جَوْزَ العلوم ونَسْرَها
…
تلاها كخَود إثْرَها جَرَّتِ المِرْطَا
وكان كثيراً ما يَلْهَج بذكرِ أوْجَلَةَ مُنْتَجَعِ شبابِه، ومُرْتَبَعِ أحْبابِه.
فأنشدني هذين البيتَيْن، فأعجبتْني رِقَّتُهما، ولم أدْرِ هل هما له أم لا فخمَّسْتُهما وهما والتَّخْميس:
بشَمْعَةِ كافورٍ من الجيدِ قد أضَتْ
…
لَيالٍ برَيعانِ الشَّبابِ قد انقضَتْ
فلو قلت ما يُبْكِيك قلتُ كما قَضَتْ
…
لَيالٍ وأيّامٌ تقضَّتْ أو انْقضَتْ
فسالتْ لنا من ذِكرِهنّ دموعُ
رعَى الُله عَيْشاً قد قطَعْناه غِرَّةً
…
بدارٍ يُناغي طَيْرها القلب سُحْرَةً
أدِرْ خمرةً وأنْشِدْ لتُطْفِيءَ جَمرة
…
ألا هل لنا عَوْدٌ من الدهر مَرَّةً
وهل إلى وَصْلِ البلادِ رُجوعُ
ومن خَرائِد مِدَحِه، وفرائدِ سُبَحِه، ما امتدح به حضرةَ الأخ العزيز، يعني أبا الْوَفَا
تراءتْ لعينِي وهْي بالشَّعْرِ تُحْجَبُ
…
فخِلْتُ شُعاعَ الشمسِ يعلوه كوكبُ
مَهاةٌ رعَتْ حَبَّ القلوبِ فما لها
…
تَرُوعُ نِفاراً وهْي للإنْسِ تُنْسَبُ
وكلَّمتِ الأحْشَا بمُوسَى لِحاظِها
…
فأصبحتُ منها خائفاً أترقَّبُ
وعذَّب قلبي دَلُّها بنعِيمِها
…
ولم أدْرِ أنِّي بالنعيم أُعَذَّبُ
وأبدلْتُ دمعَ العينِ في الخدِّ جوهراً
…
ألم تَرَهُ بالهُدْبِ قد صار يُثْقَبُ
وبي ساحرُ الأجفانِ أمَّا قَوامُه
…
فلَدْنٌ وأما ثَغرُه فهو كوكبُ
أعَدْ نَظَراً في خدِّه وعِذارِه
…
ترى عَسْجداً باللازَوْرَدِ يُكَتَّبُ
فَوَجْنتُه والثغْرُ نارٌ وكوكبٌ
…
وطَلْعَتُه والشَّعْر صبحٌ ومغربُ
كأن بها النِّسْرِينَ أقداحُ فِضةٍ
…
بِتبْرِ المُحَيَّا للمُحَيَّا تُذَهِّبُ
كأن بها الرِّيحانَ نقش أناملٍ
…
تُطرَّفُ بالِمسْكِ الذّكِي وتخضَبُ
كأن بها سَيْبَ الِمياه مَسائلٌ
…
يُقرِّرُها العُرْضِيُّ والناسُ تكتُبُ
إمامٌ وأعْنِيه المُسمّى أبا الوفا
…
على أنه في العلمِ بحرٌ يُشَعَّبُ
فَقِيٌه أُصُولِي مَنْطِقي مُتكلِّمٌ
…
بَيانِي عَرُوضِيُّ وصُوفِيٌّ مُعْرِبُ
له الْبَاعُ في التفسيرِ ضاهَى ابنَ عاَدِلٍ
…
وحيث روَى الأخبارَ تدْعوه يَحْصُبُ
إذا انْسابَ في تَقْريرِ نَصٍ تَرادَفتْ
…
له فِكَرٌ كالوحْي أو هِيَ أقْربُ
أقام صلاةَ العلمِ في مسجدِ الذَّكا
…
ومِنْبَرُه الإدْراكُ والفهمُ يَخْطُبُ
فصَانَ عن الجَهْليْن كُلَّ ثَنَّيةٍ
…
وكيف يفوُهُ الجهلَ والعلمَ يطْلبُ
وما كلُّ مَن ألقَى النُّصُوصَ مُحقِّقٌ
…
ولا مَن نَضَا سيفَ الدّرايةِ يضْرِبُ
جليلٌ له وَجْهٌ تهلَّل بالْحَيا
…
كما انْهَلَّ من كَفَّيْه بالجُودِ صَيِّبُ
وغَيْثٌ له في كلِّ أُفْقٍِ مَواهِبٌ
…
تكادُ بها الأرضُ الجَدِيبةُ تُخْصِبُ
أيا عالمَ الشَّهْبَاءِ يا كاملَ الورَى
…
كما أنْت من كلِّ الكمالِ مُركَّبُ
لك الُله يا مولايَ من عالمٍ غَدَا
…
يَلينُ ويَسْطو فهْو يُرْجَى ويُرْهَبُ
توفَّرْتَ جُوداً واسْتفضْتَ مَكارماً
…
فأيْقَنْتُ أن الشُّهْبَ بالغَيْثِ تُسْكَبُ
وحرَّكْتَ من اسمِ المكارمِ ساكناً
…
لأنك بالأفْعالِ للفضلِ تَنْصِبُ
سَجِيَّةُ آباءٍ كرامٍ وَرِثتْهَا
…
وفِقْهٌ به للشافعيَّةِ مَذْهَبُ
ونَحْوٌ به للفارِسِيِّ تَرَجُّلٌ
…
ونُطْقٌ به للمَنطقيٍّ تأدُّبُ
فدُمْ كاملَ العَلْيا فسَعْدُك مُشْرِقٌ
…
وعَزْمُك منصورٌ وجَدُّك أغْلَبُ
وشَانيكَ مَفْقُودٌ وأنت مُؤيَّدٌ
…
وبابُك مقصودٌ وأنت مُحَبَّبُ
ومما امْتدح به واسِطَة قِلادةِ العِلْم الشريف، المرحوم الشِّهابِيّ أحمد بن النّقِيب، طاب ثَراه:
قُمْ زَوِّجِ ابنَ غَمامٍ بنتَ زَرْجُونِ
…
واجْعَلْ شُهودَك من وَرْدٍ ونِسْرِينِ
فخاطِبُ الطيرِ نادَى في مَنابرهِ
…
حَيَّ على الرَّاحِ ما بين الرَّياحينِ
والرِّيحُ جرَّتْ على الأغصانِ إذ نصبتْ
…
ذَيْلاً فأعْرَب عن مَدٍّ وعن لِين
والرَّوضُ زَفَّ عروسَ الزَّهْرِ في حُلَلٍ
…
قد أُبْرِزتْ بين تَدْبيجٍ وتلْوينِ
والطَّلُّ يكتُب في طِرْسِ الرِّياضِ فهل
…
أبْصَرْتََ خَطَّاً بلا حَدْس وتخْمينِ
فاستجلِ بِكْرَ مُدامٍ زانَها حَبَبٌ
…
كَلُؤْلُؤٍ من نَفِيسِ الدُّرِّ مكْنُونِ
معْ غادةٍ لو بَدَا كافورُ مَبْسَمِها
…
للشمسِ لاحْتجبتْ في عَنْبرِ الْجُونِ
قد رَفَّ ماءُ الْحَيا في نارِ وَجْنتِها
…
كالوَرْدِ رُشَّ عليه ماءُ نِسْرينِ
تظلَّمتْ مُقلتاها وهْي ظالمةٌ
…
فطَرْفُها فاتِنٌ في شكلِ مَفْتونِ
بِي غادةٌ قَدُّها كالزَّهْرِ في تَرَفٍ
…
والبدرِ في شَرَفٍ والغُصْنِ في لينِ
سَنَّتْ لِحاظاً رأتْ قتلى فَرِيضتَها
…
فمِتُّ منها بمفْروضٍ ومَسْنونِ
أرجو لِقاها وأخْشى صَدَّها أبداً
…
فلم أزَلْ بين مسرورٍ ومَحزُونِ
يا نَسمْةً علَّلَتْ قلبي بصحَّتِها
…
إذ حدّثتْ عن صَبَا جِيرانِ جَيْرونِ
ما للذي سلَبتْ عقلي محاسنُه
…
أضْحَى يُحذَّرني من حيث يُغْرِينِي
وما لِبدرِ سَناءٍ فاق واضِحُهُ
…
أضَلَّنِي بالذي قد كان يَهْدينِي
هَبْ أنكم قد نَصحتُم كيف أقْبلهُ
…
والبُعْدُ يَقْتلني والقربُ يُحْيينِي
منها في المديح:
شهابُ أُفقِ سماءِ السُّحبِ تحسَبُه
…
شُهْباً تُكَفُّ به أيدِي الشياطينِ
ومما امتدح به المنلا المدعو: بحاج حسين البَغدادِي، ّوهو رجل ذو ذَوق:
نَبَّهَ الوَسْنانَ تَغْريدُ الحمامْ
…
في ذُرَى الدَّوْحِ وقد فاح الخُزامْ
ويَدُ الصبحِ من الأُفقِِ بَدتْ
…
بِمياهِ الضوءِ في شكلِ الظَّلامْ
وروَى في الأَيْكِ أخبارَ الهوى
…
بُلْبُلٌ عن عَنْدَليبٍ عن إمامْ
فيه أن العندليب هو البلبل، ولا معنى لرواية الشخص عن نفسه، إلا أن يُحمل على أشخاصِ نوعٍ واحد، روى بعضُها عن بعض، كما هو واقع في أشخاص النوع الإنسانِيّ.
ولَوى الظلُّ على خَدِّ الضُّحَى
…
سالِفاً حامَ على الأصْداغِ سَامْ
وانْتضَى في الجوِّ سيفَ البَرقِ من
…
غِمْدِه المَرْقوم من وَدَقِ الغَمامْ
فتَسايَرْ مَعْ نجومِ الصبحِ في
…
فَلَكِ اللهوِ وخُذْ واعْطِ المُدامْ
لَهَفَتْ فهي هواءٌ وصفَتْ
…
فهي ماءٌ أشعِلتْ فهْي ضِرَامْ
قابَلَ الساقي بها وَجْنَتَهُ
…
ليُرِينَا أنها منها تُقامْ
يَقْرُب منه قولُ يزيد:
دَعَوتُ بماءٍ في إناءٍ فجاءَنِي
…
غلامٌ بها صِرْفاً فأوْسَعْتُه زَجْرَا
فقال: هي الماءُ الْقَراحُ وإنما
…
تجلّى له خَدِّي فأوْهَمك الخَمْرَا
وأحْسَنُ مِنه قولُ ديكُ الجِنِّ:
مُشَعْشَعٌَ مِن كَفِّ ظَبْيٍ كأنَّما
…
تَناوَلها مِن خَدِّه فأدارَها
عجباً فيها قرأنا عبساً
…
في احتساها وهي منّا في ابْتسامْ
من قول الناشِيء:
تأتيكَ ضاحكةً وأنتَ عبوسُ
وما أحسن ما ختم القصيدة بقوله في الدعاء للممدوح:
وابقَ ما الرّوضُ تلت أزهارُه
…
سُورةَ الفَتْحِ على سَمْعِ الكِمامْ
قوله: " ولوى الظل " البيت من قول ابن النّبِيه:
تبسَّم ثَغْرُ الرَّوضِ عن شَنَبِ القَطْرِ
…
ودَبَّ عِذارُ الظِّلِّ في وَجْنةِ النَّهْرِ
ومما امتدح به بعض البغداديين الأعيان:
أَلسُهْدِ عيني في الهوى إغْفاءُ
…
أم هل لنارِ جَوانحِي إطْفاءُ
يا مُتلفي بِسهامِ مُقْلتِه التي
…
فيها الدَّواءُ ومِن دَواها الدَّاءُ
أنْتَ الطَّبِيبُ وأنت دائي فاشْفِ ما
…
عمِلتْ بقلبي المُقْلةُ الوَطْفاءُ
أمُعنِّفِي في حُبِّ بدرٍ مُشْرِقٍ
…
قسَماً لأنتَ العاذِلُ العَوَّاءُ
ومِن الجهالةِ أن تُعنِّف من يَرى
…
أنَّ المَلامَ على الهوى إغْرَاء
بي مَن إذا ما لاح فالبدرُ انْجَلَى
…
وإذا مَشَى فالصَّعْدَةُ السَّمْراء
إن ضَلَّ قلبُ الصَّبِّ فيه بشَعْرِه
…
فلقد هَوَتْهُ الطَّلْعةُ الغَرَّاءُ
يسْعَى بِراحٍ في زُجاجتِه التي
…
جَمَدَ النُّضارُ بها وقامَ الْماءُ
أصلُ المِصْراع الأخير للمُتنبِّي، إِّلا أنه غيَّر بعضَ كلماتِهِ، وتصرَّف فيه تصرُّفاً حسناً على سبيل التَّضْمين، وسلَخه عن مَعْناه الأصْلِيّ.
وبيتُ المتنبِّي هو قوله:
وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلْدَةٍ
…
سال النُّضارُ بها وقام الماءُ
رَاحٌ يطوف بها الحسانُ لذاك قد
…
صَلَّتْ لِقِبْلةِ دَنِّها النُّدَماءُ
رَقَّتْ ورَقَّ الكأسُ فامْتزجَا فلمْ
…
تُعْلَمْ وحَقِّك أيُّها الصَّهْباءُ
أصلُه قولُ الصَّاحب ابن عَبَّاد:
رَقَّ الزُّجاجُ ورَقَّتِ الخَمْرُ
…
وتشابَها فتشاكَلَ الأمْرُ
فكأنَّما خمرٌ ولا قَدَحٌ
…
وكأنما قَدَحٌ ولا خمرُ
ومنها في المديح:
قد قُلْتُ فيك بَدِيعَ شِعْرٍ فاق أن
…
تَرْقَى إلى حُجُراتِهِ الشُّعَراءُ
ولم يزل صاحبُ الترجمة مُقِيماً بحلب نحوَ العام، يمدح عُيونَ أعيْانها، ويسْتَدِرُّ برِقَّةِ شِعره رقيقَ لُبانِها.
حتى رَمَتْه قِسِيُّ الأقْدار، إلى أرضِ العراق وَجوْبِ هاتيك القِفار.
ونزل منها بدارِ السَّلام بغداد، وتزَوَّدَ من مَقامات الأولياء هناك أَطيبَ زاد.
ثم منها إلى البصرة، وورَد من أميرها ابنِ أفْراسياب أكْرمَ حَضْرة.
فَلِقيهُ بمديح غِبَّ مَدِيح، وروَى عنه خَبر واصِل بن عطاء خَبَرَاً مُسَلْسَلاً صَحيح.
هذا ويدُ التَّأْميل تَعْرُك آذانَ عَزْمتِه، وتُوقِظ نارَ وَقْدٍ في ليل الاْغتراب من هِمَّته.
والمرءُ ما أرْضى أمانِيه
…
ينْقاد من لَغَبِ إلى جَهْدِ
وتقول له بلسان الحال: أَحْدِث سَفَراً تُحْدِث رِزْقاً، ولم يَجْنِ ثمرةَ المأمول مَن لم يجْعل ثَنيَّاتِ الفَيافي لها دَرجاتٍ ومَرْقَى.
فطار طَيَرانَ الرُّخِّ إلى رُقْعةِ خُراسان، فحوَّم بالنُّزُولِ على أصْفَهان، التي هي حضرة شاه العجم الآن.
فما أحقَّه بقول الشاعر:
خليفةُ الخِضْرِ من يَرْبَعْ على وطَنٍ
…
يوماً فإن ظُهورَ الْعِيسِ أوْطاني
وما أظُنُّ النُّوَى تَرْضَى بما صنعتْ
…
حتى تُبَلِّغَني أقْصَى خُراسانِ
وقد شرح ما عاناه من التَّمرُّغ في عَطَن الاغْتراب، وتقسُّم حاله بين الاكْتئاب والاضْطِراب، في قافِيَة قافِيَة، حيث يقول:
لا وبَرْدِ اللَّمَى وحَرِّ الفِراقِ
…
ما لقبي من لَسْعةِ البَيْنِ رَاقِي
كيف يخْفى حَلِيفُ بَيْنٍ وشَوْقٍ
…
صَيَّر الجَفْنَ دائمَ الإغْراقِ
يا زماناً مع اسْمِنا في خلافٍ
…
ومع اسْمٍ نَقيضِه في وِفاقِ
أراد أن اسمَه عليّ، ونقيض اسمه دَنِيّ، والدهر شأنهُ عنادُ الأعالي ووُدُّ الأدانِي، أو أن الدهرَ بَخَس حَقَّ أوِّلِ من تسمَّى بهذا الاسم، أعني الإمامَ عليَّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهَه، وأسْعَدَ أضدادَه من معاوية وغيرِه، فصفَتْ لهم الخلافة، ودرَّت لهم أخْلافُ الإمامة، فيكون مَشْرَباً تشيُّعِيَّاً، كما قال الملك الأفضل نورُالدين عليّ بن السلطان صلاح الدين يوسف، لمَّا وَلِيَ دِمَشْقَ بعد أبيه، فلم تطُلْ مُدَّتُه، ثم حضر إليه عمُّه الملك العادل أبو بكر، وأخوه الملك العزيز عثمان، فأخْرَجاه من مُلْكِه بدِمَشْق إلى صَرْخَد، ثم جَهَّزاه إلى سُمَيسَاط، فكتب إلى الإمام الناصر ببغداد: