الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَرِّبيها وخَلِّ عنك أُناساً
…
حَرَّمُوها يا مُهْجةَ المسْرورِ
قَرِّبيها كالتِّبْرِ صفراءَ لَوْناً
…
كاسُها كاللُّجيْنِ من بِلُّورِ
منها:
خمرة تترك الشحيحَ جَواداً
…
باحْتِساها كحاتِم المشْهورِ
وقوله:
عَذهِّب بما شئْتَ أيُّها القمرْ
…
إلَاّ الْجَفاء والصُّدودَ يا عُمَرْ
مَن قد حَوى الماء في الخدودِ كذا
…
نار بأحْشَاي حين تسْتعِرْ
رُمْتُ سَلْوَى هواك يا أمَلِي
…
من أين للقلبِ عنك مُصْطَبرْ
أنت الذي كالسِّهامِ لَحْظُك قد
…
رَمَى حَشايَ وما له وَتَرْ
بِنْتُ عن الرُّوح يا سِرَاجُ ضَنىً
…
كأنني يا مَلِيكُ مُحْتَضَرْ
نَهَى عن الحبِّ عاذِلِي سَفَهاً
…
فقلتُ ذا العَذْلُ يا فتى غَرَرْ
إنَّ حبيبي كالغُصْنِ قامتُه
…
له ثَنَايا كأنها دُرَرْ
بدرٌ كمثْلِ المُدامِ رِيقتُه
…
والقلبُ قاسٍ كأنه حَجَرْ
يَسْبى البَرايَا بنثورِ طَلْعتِه
…
وليس للخَصْرِ يَلْتقِي أثَرْ
بَلْبَلَ قلبي دَلالُه أبداً
…
وذاكَ شرطٌ في العِشقِ مُعْتَبَرْ
كلَّمني طَرْفُهُ ومُقلتُه
…
لذاكَ أصْمَى الحَشَا بها حَوَرْ
له كعَيْنٍ عَيْنٌ وحاجِبُه
…
نُونٌ وَفَاهُ مِيمٌ سَيَنْتَظِرْ
نعيمُ دُنْيَايَ حُسْنُ صُورَتِهِ
…
فوَصْفُها صَاحِ ليس يَنْحَصِرْ
يَحارُ كُلٌّ في وَصْفِ خِلْقتِه
…
وكم لَدَيْهِ محاسِنٌ أُخَرْ
وقوله ملتزماً واوين في أول البيت وآخره:
ووَادٍ به قد كان بالصَّحْبِ جَمْعُنا
…
ولكنَّهم للقلب بالْبُعْدِ قد كَوَوْا
ووَقَّد نارِي هَجْرُهم وبِعادُهم
…
وللجسمِ منِّي يا خليليَ قد شوَوْا
ووَاحَسْرةَ العُذَّالِ إنّي أعُدُّهمْ
…
كلاباً فمنهم لا أُبالِي إذا عَوَوْا
ووَرْقاءِ دَوْحٍ قد أثارتْ تَشَوُّقِي
…
تقوم بأحْشايَ وقلبِيَ قد ثَوَوْا
وَوْرِديَّةِ الخدَّيْنِ مَعْسولةِ اللَّمى
…
وعُشَّاقُها للسُّقْم مَن صَدِّها حَوَوْا
ووَسْناءِ طَرْفٍ كالغُصونِ اهْتزازها
…
أسانيدُ عِلْم السِّحرِ عن طَرْفِها رَوَوْا
ووَجْنتها يحْكِي دموعي احْمِرارُها
…
ورَضْوَى مع الأرْدافِ منها قد اسْتَوَوْا
وَاوات أصْداغٍ لها كعقاربٍ
…
وكم لَسعتْ قوماً على حُبِّها انْطَوَوْا
ووَالخَصْرِ منها ما تبدَّلْتُ غيرها
…
ولم أَكُ من قومٍ لسُلْوانها نَوَوْا
ووُدِّي لها من قبل آدم ثابِتٌ
…
ولستُ كأقْوام إلى غيرها هَوَوْا
وقد اقتفى أثر ابن زقاعة، في قوله:
ووَرْدِيِّ خَدٍ نَرْجِسيِّ لَواحِظٍ
…
مَشايخُ علم السِّحْرِ عن لَحْظِه رَوَوْا
ووضاوَاتُ صُدْغَيْهِ حَكيْن عقارِباً
…
من المسكِ فوق الجُلَّنارِ قد الءتوَوْا
ووَجْنتُهُ الحمرا تلوحُ كجمرةٍ
…
عليها قلوبُ العاشِقين قد انكَوَوْا
ووُدِّي له باقٍ ولستُ بسامعٍ
…
لقَوْلِ حَسُودٍ والعواذِلُ قد عَوَوْا
ووَاللهِ لا أسْلو ولو صرْتُ رِمَّةً
…
وكيف وأحْشايَ على حبِّه انطْوَوْا
الباب السابع
في غرائب نبهاء مصر
في غرائب نبهاء مصر، لا زالت محروسةً عن طوارق كل همٍ وأصر.
وهي أم الدنيا الولود، وكوكبها السعد الأكبر فلذا قوى بها طالع المولود.
تبرجت تبرج العقيلة دون ساتر، فأوقفت الناظر دون محاسنها وهو باهتٌ حائر.
فإن كان الهرمان نهدين في صدرها، فإن الخليج والعهد به منطقة في خصرها.
كل قطرٍ يشتاقها فهو يتمنى لو صدق فيها الخبر العيان، وكم هواءٍ صار لها رمالاً فهو إذا مر خط في رمل الكثبان.
وناهيك ببلدةٍ فضلها الله ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها.
وأسعد مطالع أنوائها، فاهتزت وربت مساقط أندائها.
إن بارت تجارةٌ فإليها تجلب، أو عزت نفيسةٌ فمنها تطلب.
فلذا ترغب النفوس في جوارها، وتنفسح الآراء بين أنجادها وأغوارها.
وقد جمعت ما ولد سام وحام، واشتد بها الالتحام والازدحام.
واحتوت الآن على جل أبناء يافث، من كل صنديد في عقد الملمات نافث.
فهي كرسي الأمراء والأعيان، وقرارة السادات الذين يكل عن حصر معاليهم نطاق البيان.
وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبثة عن أصالة الحلوم.
إلى الأبنية المحاذية للأفلاك، والمراقي التي كاد أهلها يسمعون تسبيح الأملاك.
وفيها المقاصر والقصور، والمقاعد التي عليها الحسن مقصور.
ومن محاسنها الزاهرة المناهج، البرك التي استوعبت رونق المباهج.
وخصوصاً إذا وفاها النيل حقها، ورأيت المناظر حولها وقد أحكمت نسقها.
فهناك تقول: ما أبهجها، ويقول القائل: ماأحقها.
انْظُر إلى بِرَكٍ في مصرٍ اتَّسَقَتْ
…
بها المناظرُ كالأهْداب للْبَصَرِ
كأنما هي والأبْصارُ تَرْمُقُها
…
كواكبٌ قد أدارُوها على القَمَرِ
وبالجملة فهي بالنيل تجر على البلاد الذيل والردن، ولها بذلك المزية التي ما نالها مدينةٌ من المدن.
وأحسن محاسنه عشياته المذهبات، التي لم تزل لأحزان القلوب مذهبات.
فمن رآه مال طرباً من غير مميل، وعرف سر قوله: ومما يزدهيني ضحك البدر في وجه النيل.
إلى غير ذلك من المعاهد والغيطان، والفرج التي تنسي الغريب الأوطان.
ومن عرف مقادير الأشيا، ونازل الأطلال والأحيا، عرف أن هذه البلدة واحدة بسيط الأرض، وحساب خيراتها الدارة لا ينفد إلى يوم الحساب والعرض.
وقد خرج منها واحدٌ بعد واحد، شهرة فضله كالشمس لا تنكر ولا تجحد.
فكأنه النير الأظهر، أو الجامع الأزهر.
خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفاس المعطرة.
فمنهم: شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي أول من عددت، وأجل من أعددت.
أقول فيه لا مبالغاً، ولست لأداء بعض حقه بالغا: لأن تطاول السماء وتفرع، وتشبر البسيطة وتذرع، وتزاحم أفلاك الكواكب بالمناكب، ويتعرض لإحصاء القطرات الهوامل، بالأنامل، ويدرك جوهر الشمس، باللمس، وتعارض زخرة البحر، بالنحر، أسهل من أن تحصى صفاته، أو أن تقرع لفكرٍ صفاته.
وهو الذي سار ذكره في العالم وانتشر، وخرج في إحاطته بالعلوم عن حد البشر.
وناهيك بمن لم يخل زماناً من فائدة، ولا مكاناً من عائدة.
وقد طال عمره، وما خمد جمره.
فهو كلما أسن، شحذ مرهف طبعه وسن.
مع سلامة نفسه في كل حالاته، وتوفر أمانيه من أسباب التحصيل وآلاته.
وقد جمع من الكتب ما لا يدخل في ديوان حاسب، مع الاستعداد الذاتي الذي يأبى أن يكون باكتساب كاسب.
فسرد آيات الفضائل وتلاها، وعن اقتناص شوارد الفنون ما تلاها.
وسلمت مباحث فضله عن المعارضة والجدل، وكان الثناء له وحده فإن ذكر غيره فكالرابع المعهود في البدل.
وصنف التصانيف التي تشهد بكل فضل، وحسبك منها عناية القاضي فإنها خيرٌ من شاهدي عدل.
وأما الأدب فقد امتزج بلحمه ودمه، وكان به وجوده بعد أن أشرف على عدمه.
فهو بدونه كالجسد بلا روح، واللفظ دون مشروح.
أو كالروض لا يجاد، والعاتق بلا نجاد.
فإذا شمر في البلاغة ساعده، نضا عن ساقه لخدمته ابن ساعدة.
فأما منشآته فلا يتصور عن الإتقان خروجها، وأما أشعاره فقد حرست بالشهب بروجها.
فإن ألم بها ماردٌ فاسترق، أتبعه طارقٌ فاحترق.
وآثاره كما عرفت طويلة الذيل، تعرف مقدارها شواهد الليل.
صقلتها تلك الفكرة المطيعة، وهي وإن كانت كثيرةً فصديقةٌ للطبيعة.
فهو في الإنشا فعل الأفاعيل، وأهمل الصادين: إبراهيم، وإسماعيل.
وهما إماما الصناعة، وهماما البراعة واليراعة.
بهما فخر من نطق بالضاد، وبسببهما حسدت الحروف الصاد.
وله كتاب الريحانة الذي ذيلت عليه، واقتبست نور الهدى بتوجه رغبتي إليه.
وما أنا بالنسبة لما أبدعه، ولما جئت به مما كان الأحرى بي أن لا أدعه، إلا كمن جارى الحصان بالأتان، وواجه الغزالة بالذبالة، وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصا.
ذاك لا يستحسنه الإدراك، حتى تصاد الشهب بالشباك، وتتقدم الفكة على السماك.
ولقد وصف كتابه بما أغناني عن وصفه، وهذه حالي معه إذا أردت التطرية أتيت ببدائع رصفه: فهذه ذخائر من خبايا الزوايا، فيما في الرجال من البقايا تنفس الدهر به عن نفحةٍ عنبرية، وهبت بها أنفاسٌ نديةٌ ندية، تنفس الروض في الأسحار، بأفواه العبير عن ثغور النور والأزهار.
من كل شذرةٍ تهزأ بقلائد العقيان، وكل زهرةٍ لها من السطور أفنان.
وكل فريدة يقر لها بالنفاسة الجميع، وكل منقبةٍ إذا وعى ذكرها السامع وعبق قيل:
أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ
ومما اقتضاني أن أثبته في وصفه، ما قاله البرهان الباعوني الشامي، في حق لسان الدين بن الخطيب والتنويه بقدره السامي، وقد رأى كتابه الريحانة، وهو به أشبه، وما أظن تقاربهما خفي أو اشتبه: صاحب كتاب الريحانة، آيةٌ من آيات الله سبحانه.
لوجه أدبه طلاقة، وللسانه ذلاقة، وللقلوب به علاقة، وفي خطه غلاقة.
قلت: وأي غلاقه يعرفها من عرف اصطلاحه بمطالعته، وينفتح له باب فهمها بتكرير مراجعته.
فليتأمل الناظر إليه، والمقبل عليه، ما فيه من الجواهر، والنجوم الزواهر، بل الآيات البواهر.
وليسبح الله تعجباً من قدرته جل وعلا، ومذاهبه التي عذب ماؤها النمير وحلا.
وليقل عند تأمل دره النظيم، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ". انتهى.
وله ديوان شعر وقفت عليه بخطه، فأثبته بخطي، ولم يمكني على ما في من الملال التجافي عنه والتخطي.
ويكفيك من شعرٍ لو سمعه النابغة ما نبغ، أو ابن صفوان لم يبلغ من صفاء وقته ما بلغ.
ولو جاراه الجعدي لاعترف بالخرس، أو الأسدي لانصرف عن صفة الفرس.
وأنا الآن قد قصرت النظر على آثاره، من نظامه ونثاره، وحسبي ذلك من منحة الحظ وإيثاره.
فما على من بلغ من التملي بآدابه أربا، أن ينبت جسمه بعد أن يصير تراباً أدبا.
وأسأل الله أن يجعله ممن فاز بالنجاة، ويهيىء له من خزائن فيوضاته رحمته المرتجاة.
وهنا أورد من نثره العالي ما جمع الحسن أجمع، وأتبعه من شعره الغالي بما لم تر أجود منه ولا تسمع.
فمن فصوله القصار، قوله: إن ساعداً زينته بسوار المنائح، يمرى لك ضروع الثناء والمدائح.
ولك وارف ظلال، تقيل فيها الآمال.
بها الألسن تقر، والأعين والقلوب تقر.
كم موقد نارٍ بها احترق، ومحسن سبح اللجج فيها غرق.
قال لي خليع: قبيحٌ مؤاجر، أحسن من مليحٍ خلف الستائر.
شتان بين درهم النقد، ودينار الوعد.
شجاعة الملوك صبرٌ وثبات، وشجاعة الجند إقدام وثبات.
الكيس يفتح الكيس.
في إغماض العين وإغماد اللسان عقاب العقلا، وبلسان السوط والسيف عقاب السفها.
لكل قلبٍ هوى، كما أن لكل داءٍ دوا.
فما اعتلال نسيم الصبا، إلا الحب زهور الربى.
إذا خلت قلوب الأكياس، خلت من السرور قلوب الأكياس.
لو هم الفلك الدوار برفعة ماجدٍ في الأبد، ما قدم الثور في منازله على الأسد.
من باع الجزع بالاصطبار، فله على الزمن الخيار.
ما سمي الزمن زمناً؛ إلا لأنه يقول لك اقعد.
هدايا الأنام تجارة، وقبولها منهم خسارة.
المعروف والصنيعة، عند الحر وديعة.
ربما كان أمر من الدا، روائح العقاقير وشرب الدوا، وطول جلوس العواد الثقلا.
قومٌ بلا روح في الصور والملابس، كالصور المنقوشة في الكنائس.
قد يحتجب الحر لقلة اليسار، كما احتجب البدر عند السرار.
إذا كان أعدى عدوك بين جنبيك، فصبرك عليه إحدى شجاعتيك.
اللبيب أدبه، فضته وذهبه.
إذا كانت الأراجيف ملاقيح الفتن، فانطلاق الألسن نتاج المحن.
لو كان هذا الوجود أصلاً ما ولد العدم، ومن يشابه أبه فما ظلم.
الحر لا يجازي كل من أسا، والأسد لا يفترس النسا.
الدنيا بإقبالها، والدولة بأقيالها.
ما كل وقتٍ يسعف بما تحب، فإذا أردت لبون فاحتلب.
بين القواد والرقباء لاح بعض إحسان، فعرفت أن الشمس تطلع بين قرني الشيطان.
من أبطأ رجاؤه، أسرع عناؤه.
ومن الخلف داؤه، فالترك دواؤه.
وكتب مقرظاً على كتاب مدين القوصوني في الطب، الذي سماه قاموس الأطباء: ما طرزت حلل الثنا، ورنقت رياض البراعة بثمراتٍ غضة الجنا، إلا لتكون لباساً لأبكار المحامد، ومرعاً لأفكار شاكرٍ وحامد.
فالحمد لمولى الحمد على ما أنعم من اللغات والبيان، وأحسن تبلقينها لأطفال الأرواح في مكاتب الأبدان.
وألهمها استخراج در المعاني من أصداف الحروف، لتنظم منها في الصدور، وتعلق في الآذان أبهى عقودٍ وشنوف.
وأزكى صلاةٍ وسلامٍ على أفصح من نطق بالضاد، فروى من عين فصاحته كل صاد.
وشفى بطلب هدايته مريض كل قلب، وهدى بمفردات حكمته كل ذي جهل مركب.
وعلى آله وأصحابه مدائن العلم والحكم، ورؤساء أطباء الأبدان والأديان من سائر الأمم.
لاسيما الأربعة الذين ترياقهم العتيق، وفاروقهم حافظ صحة مزاج الدين بكل ماضي الشفرتين رقيق.
ما دامت الدنيا دار الشفا، وصح مزاج الدهر من الأمراض واشتفى.
هذا، وإن أخي شقيق الروح وقرة العين، وصفوة الحياة ومن كفاية محبته علي فرض عين، لما أتحفني في قدومي للقاهرة بكتابه قاموس الأطباء وجدته الدرة الفاخرة، والروضة التي تفتحت فيها عيون أنواره الزاهية الزاهرة.
ظناً منه أني شعيب مدينته، وما أنا إلا سلمان بيته، بل اشعب موائد كرمه ومنته.
فإذا هو بردٌ محبر، وروضٌ وعقد كله جوهر.
وكتابٌ جميعه مفردات، ولغةٌ لو رآها الجوهري قال: هيهات العقيق هيهات.
أو الخليل بعينه، فداه بعينه.
أو جار الله لقال هذا هو الفائق، أو ابن البيطار ود لو طابقه مطابقة النعل بالنعل لما فيه من الدقائق.
أو صاحب القاموس لقال: هذا المجد، الذي ارتضع در العربية ما بين تهامة ونجد.
فلله در مصنفه فقد أرانا في الرجال بقايا، وفي الزوايا خبايا.
وأنار فكره ظلمة الجهل وقد وقد، وروى ظمآن الفكر فيما ورد ورد، وحقق ما قيل: من دق الباب ولج ومن جد وجد.
وقد قلت فيه ارتجالاً:
دهرٌ يجودُ بمثْلِهِ
…
أنْعِم به دَهْراً وَفِي
رَوَّى بكأسِ عَلومِه
…
وخِتامُه مِسْكٌ وفِي
وكتب إلى بعض إخوانه وقد توعك:
كفاك الله ما تخْشَى وغَطّى
…
عليك بظلِّ نِعْمتِه الظلِيلِ
أعز الله أنصار فياض الكرم والحسب، وحمى بعزته معالم العلوم والأدب.
وأبقاه محروساً من هجوم الخطوب، محفوظاً بسور منيع من إحاطة القلوب.
وأصوات حرس الدعاء مرفوعة، وسدته بحجاب الصنائع ممنوعة.
والدهر وإن كان ذا غير، ومن تفكر اعتبر، فكيف يتسلط عليه بآلامه، وهو لا يتسلط على آيادي إكرامه.
فإن هم به ونعمته متتابعة عليه، صدق قولهم: اتق شر من أحسنت إليه.
أتُهْدِي له الأيامُ سُقْماً وإنما
…
مَساعِيه في أعْناقِهِنَّ قَلائِدُ
على أنه إن اعتل فقد اعتل المجد والكمال، وإن مرض فقد مرضت الأماني والآمال، بل القلوب والأرواح، فإذا دعونا له دعونا لأنفسنا بالصلاح.
ورب مريضٍ لا يعاد، وإن كان لا يحرم الأجر مريض الفؤاد.
ولا أقول كما قيل:
يا ليت عِلَّتُه بي غيرَ أنَّ له
…
أجْرَ العليلِ وأنِّي غيرُ مَأْجُورِ
ولا كما قيل:
وَفَيْناك لو نُعْطَى الهوَى فيك والمُنَى
…
لكانتْ بك الشَّكوى وكان لك الأجْرُ
وقد سمعتُ بفَصْدِه للْبَاسَلِيق، وأنه قد بكى دماً عرقه العريق.
فهاك اعْتلالُك يبْكِي دَماً
…
وتَضْحكُ في جِسْمِك العافيَهْ
وكان قيل: عرق الصحة له في كل منبت شعرةٍ عينٌ باكية، تبكي بمدامع العرق على فراق العافية.
وإن ببكاء عرق الصحة أضحك الله ثغور مسرته، كما ضحكت تباشير الهنا بصحته.
وهنأ الله الوجود، بسلامة الكرم والجود.
فلا زال كوكب سعده طالعاً في سماء الإقبال، فإن لكل زمانٍ غرةٌ وهلال.
ومن فصلٍ له كتبه لبعض المغاربة يداعبه، وكان يقول بالظباء: مذهب مولاي تقديم الذكور على الإناث، وتطليق حور الجنان بالثلاث؛ لأن الرجل خيرٌ من المرأة بالاتفاق، فلذا تخلف عن الخلاق، وتقدم حيث الشقاق.
كما قلت له أولاً:
أديبٌ مَالَ عن حُبِّ الغَوانِي
…
وبالأحْداثِ أصبح ذا اكْتراثِ
وقال اخْتارَ ذا أهلُ المَعانِي
…
فغلَّبَتِ الذُّكورَ على الإناثِ
وما سواه على خلاف القياس، ولا يخلو مثله عن لبسٍ والتباس.
ومما خالف أهل المعاني، قول الأديب الأصفهاني:
وأيْرانِ تحت لِحافٍ خَطَرْ
والتغليب بابٌ واسع الموارد فلينظر الأديب في موارده، وليتسع في مصائده وأوابده.
وكتب إليه الأديب يوسف المغربي، سؤالاً أدبياً، وهو: أيها الأخ الشفيق الشقيق، والرفيق الرقيق.
والإمام الهمام، الهادي لسائله الأفهام، إذا اختلت في مهامه الأوهام.
إنني أشكل علي قول أبي منصور الثعالبي، في اليتيمة: اتفق لي في أيام الصبا معنىً بديع، حسبت أني لم أسبق إليه، وهو:
قلبِيَ وَجْداً مُشْتعِلْ
…
وبالهمُومِ مُشْتغِلْ
وقد كَسَتْنِي في الهَوى
…
مَلبِسَ الصَّبِّ الغَزِلْ
إنْسانةٌ فتَّانةٌ
…
بدرُ الدُّجَى منها خَجِلْ
إذا زَنَتْ عيْنِي بها
…
فبالدُّموعِ تغْتَسِلْ
هل استعارته لنظر الحبيب الزنا، مما يعد في الأدب معنىً حسنا، أو هو مما تجاوز الحد، فاستحق بالزنا الحد؟ فكتبت إليه مجيباً: أيها الأخ، قرة العين، وبدر هالة المجلس الذي هو لها زين.
إنه من المعاني القبيحة، المورثة للفضيحة.
وقد سبقه إليه ابن هندو في قوله:
يقولون لي ما بالُ عَيْنِك مُذ رأتْ
…
مَحاسِنَ هذا الظَّبْيِ أدْمُعُها هُطْلُ
فقلتُ زَنَتْ عيني بطَلْعةِ وجهِه
…
فكان لها مِن صَوْبِ أدْمُعِها غُسْلُ
وهو معنىً قبيح، واستعارةٌ بشعة، ألا يرى ما قيل في الذم:
أيها المُنْكِحُ بالعَيْ
…
نِ جَوارِي الأصْدقاءِ
وقول صر در، في قصيدته المشهورة وإن كان معنىً آخر:
يا عينُ مِثْلُ قَذاكِ رُؤْيةُ مَعْشَرٍ
…
عارٌ على دُنْياهُمُ والدِّينِ
نَجَسُ العُيونِ فمُذ رأتْهُمْ مُقْلتِي
…
طَهَّرْتُها فَنَزَحْتُ ماءَ عُيُونِي
وكيف يتأتى لهؤلاء ما قالوه، بعد قول يزيد بن معاوية في شعره المشهور:
وكيف ترى ليلَى بعَينٍ تَرى بها
…
سِواهَا وما طَهَّرْتَها بالمَدامِعِ
أُجِلّك يا ليلَى عن العَين إِنما
…
أراكِ بقلبٍ خاشعٍ لك خاضِعِ
ومنه أخذ العفيف التلمساني قوله:
قالوا أتبكي من بِقَلْبِك دَارُهُ
…
جَهِل العَواذِلُ دارُه بِجَمِيعِي
لم أبْكِه لكنْ لِرُؤْيةِ وَجهِه
…
طَهَّرْتُ أجفانِي بفَيْضِ دُموعِي
وقال ابن رشيق، في كتابه البدائع: قال أبو علي الفارسي: ليس العجب من توارد الثعالبي مع ابن هندو، وإنما العجب من قوله: لم أقدر أني سبقت إليه، وأبو الطيب يقول في الحمى:
إذا ما فارَقَتْنِي غَسَّلتْنِي
…
كأنا عاكِفانِ على حَرامِ
وهل هذا إلا ذاك بعينه، وأبو الطيب أحسن لفظاً، وأصح معنىً؛ لذكره ذكراً وأنثى يقع الزنا بينهما، خلاف ما ذكراه.
وفي نقله تقرير تركناه، خوف الملل والسآمة.
وهذا ما سنح للخاطر، والسلام.
قلت: ومن النقد على الثعالبي في هذه الأبيات أيضاً قوله: إنسانة؛ فإنها عاميةٌ مولدة، وإن أورده صاحب القاموس وتشكك فيه، والإنسان يقال للذكر والأنثى، كذا قاله الشهاب في حاشية التفسير.
وأما رجلة فقد ورد في شعر العرب، قال الشاعر:
كلُّ جارٍ ظَلَّ مُغْتبِطاً
…
غيرَ جيرانِي بني جَبَلَهْ
خَرَّقُوا جَيْبَ فَتاتهم
…
لم يُبالُوا حُرْمة الرَّجُلَهْ
كذا في الكامل.
وكتب إلى هذا المغربي يستدعيه:
ولما نَزَلْنَا منْزِلاً طلَّه النَّدَى
…
أنِيقاً وبُستاناً من النَّوْرِ حَالِيَا
أَجَدّ لنا طِيبُ المَكانِ وحُسْنهُ
…
مُنىً فتمَنَّيْنا فكنتَ الأمانِيَا
فيا غاية الأماني، وسلوة الحزين العاني.
قد دعانا الربيع بلسان النسيم، وصاحت القماري هلموا إلى النعيم المقيم.
وعيون الأزهار شاخصةٌ إلى الطريق، وقلوب الأغصان واقفةٌ لانتظار الرفيق الرقيق.
فبالله عليك إلا جعلت يومنا بك عيداً، وجددت لنا وللجديدين بك سروراً جديداً.
وكتب على قول الشاعر، في وصف حمام:
للهِ يومٌ بحَمّامٍ نَعِمْتُ بهِ
…
والماءُ من حَوْضِه ما بَيْننا جَارِ
كأنَّه فوق مِسْقَاةِ الرُّخَامِ ضُحىً
…
ماءٌ يسيِلُ على أثْوابِ قَصَّارِ
بأن قائله عيب فيه، حتى قال بعضهم:
وشاعرٍ أُوقِد الطَّبْعُ الذَّكِيُّ له
…
فكاد يحْرِقه مِن فَرْطِ لأَلَاءِ
أقام يُعْمِلُ أيَّاماً رَوِيَّتَه
…
وشَبَّهَ الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ
ثم قال: وقد يوجه بأن هذا الشاعر شبه الرخام في الحمام بشقة قصار بيضاء، جرى عليها الماء، ولم يرد تشبيه الماء، ولكن ما ذكر في الطرفين جاء بارداً، فأشار الشاعر إلى برودته بما ذكر.
قلت: وقوله: شبه الماء إلخ قد تلاعبت به الشعراء، وتظرفوا فيه، ونقلوه إلى معانٍ لطيفة، فمنهم الشهاب الحجازي، حيث قال:
أقول شَبِّهْ لنا جِيدَ الرَّشَا تَرَفاً
…
يا مُعْمِلَ الفِكْرِ في نظمٍ وإنْشاءِ
فظَلَّ يُعْمِل أيَّاماً قَرِيحَتَهُ
…
وشَبَّهَ الماءَ بعد الجهْدِ بالماءِ
ومنهم الصلاح الصفدي، حيث قال:
أقول شَبِّهْ لنا كأساً إذا مَزَجَ السَّ
…
اقِي طِلاهَا اهْتَدَى في لَيْلِهِ السَّارِي
فظَلَّ يُجْهِدُ أيَّاماً قَرِيحَتَهُ
…
وشَبَّهَ النارَ بعد الجَهْدِ بالنَّارِ
وله:
أتى الحبيبُ بوَجْهٍِ جَلَّ خالقُهُ
…
لَمَّا بَراه بلُطْفٍ فِتْنةَ الرَّائِي
فَلاح شَخْصُ عَذُولِي فوقَ وَجْنَتِهِ
…
فقلتُ شَبِّهْهُ لي في فَرْطِ لأْلَاءِ
فظَلَّ يُجْهِد أيَّاماً قَرِيحَتَهُ
…
وفَسَّر الماءَ بعد الجَهْدِ بالْماءِ
ومن نوادره ما ذكره في آخر كتابه الخبايا، قال: واتفق في عهدنا، أن قاضياً في بلاد الروم أخطأ في ثبوت شهر رمضان والعيد، خطأ ما مثله من مثله ببعيد.
فضج الناس واستغاثوا من حياته بمماته، ولم يسترح أحدٌ في ذلك الوقت غير الملائكة الكاتبين لحسناته.
إذ كسر طوق الهلال من جيد الدهر، ونقص من شهرٍ ما زاد في شهر.
وسرق العيد، واختلس برده الجديد.
كأن العيدَ أموالُ اليتَامى
فقتل جبين الهلال من غير غرة، وسلخ ذلك الشهر سلخاً بلعن من غره.
فلما اسودت الشمس كمداً بالكسوف، وتوارى القمر خلف مجنها خوف الحتوف، قال العيد: الله أكبر، على من طغى وتجبر.
وجاء شوال باكيا، ورفع رقعةً للمليك شاكيا:
قِصَّتي قد أتتْ إماماً هُمامَا
…
تشْتكي الظُّلْمَ حين صرتُ مُضامَا
رُقعةٌ في يدِ المَلِيك طَواهَا
…
ليَراها المليكُ في العزِّ دَامَا
أنا شَوَّالُك الفقيرُ الذي قد
…
خُصَّ بالعِيدِ والصَّلاةِ دَوَامَا
بعد شهرِ الصيامِ قد زُرْتُ قوماً
…
جائعاً أبْتغِي بهم إكْرامَا
ولِيَ العِيدُ حُلَّةٌ وهِلالِي
…
لِيَ طَوقٌ من فوق جِيدٍ تَسامَى
رمضانُ اعْتدَى عليَّ وأمْسَى
…
غاضِباً ذاك لا يخافُ مَلامَا
أخْتشِي ذَبْحَةً بنَصْلِ هِلالٍ
…
ثم سَلْخاً له وتَرْكِي المُقامَا
لا تُضَيِّع حَقِّي بشاهدِ زُورٍ
…
هو أعْمَى بَصِيرةٍ أو تَعامَى
جَبْهةَ الشَّاهِدِ اكْوِهَا فهْو وَسْمٌ
…
لِكَذُوبٍ عن زُورِهِ ما تَحامَى
إن كَيَّ الخُسوفِ للشمسِ ظُلْمٌ
…
وكذا الدهرُ لم يزَلْ ظَلَاّمَا
وكتب لرئيسٍ كان يمزح باليد: سيدي إن كان فيه دعابة؛ فراية مجده لم تر إلا في يمين عرابة.
وإن فرط منه للمحافظة باللطام، فلطمه لطمة ابن جدعان ويفتقر لطم كفٍ يفيض بالإحسان والإنعام.
ابن جدعان، هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، سيد قريش في الجاهلية، وفي داره حلف الفضول المشهور في السير.
وكان قد أسرف في جوده لما كبر فأخذت بنو تيم على يده، ومنعوه أن يعطي من ماله شيئاً، فكان يقول لمن أتاه: ادن مني. فإذا دنا منه لطمه، ثم يقول: اذهب فاطلب القصاص مني أو يرضيك رهطي.
فترضيه بنو تيم بما يريد، وفي ذلك يقول عبد الله بن قيس الرقيات:
والذي إن أشار نحْوَك لَطْماً
…
تَبِع اللَّطْمَ نائِلٌ وعَطاءُ
ونحو هذا ما يحكى عن بعض الأسخياء من الأمراء، أنه أفرط في الجود، فحجر عليه أهله، ومنعوه من أن يعطى شيئاً، فأنفذ إليه بعض الشعراء قصيدةً، فكتب إليه أن اذهب إلى القاضي، وادع علي بعشرين ألف درهم من جهة قرض، فأعترف لك، فإذا حبست وصلتك الدراهم من أهلي، فإنهم لا يدعوني أنام في الحبس.
ففعل ذلك، وأخذ الدراهم منهم.
ومن شعره المنتخب من ديوانه قوله من مقصورته النبوية، التي مطلعها:
أيا شقيقَ الرَّوْضِ حَيَّاه الْحَيَا
…
فاحْمَرَّ وردُ خَدِّه من الْحَيَا
لأنتَ تِرْبُ الغُصْنِ نَشْوانَ إذا
…
أدارت السُّحْبُ له خَمْرَ النَّدَى
وامْتلأتْ كاسُ الشَّقِيقِ سُحْرَةً
…
فاحْمَرَّ من خَجْلَتِه خَدُّ الطِّلَا
منها ف الغزل:
شِفاءٌ وَجْدِي لَثْمُ خالِ خَدِّه
…
والْحَبَّةُ السَّوْداءُ للدَّاءِ شِفَا
يتْركُنِي تَرْكَ الظلِيمِ ظَلْمُه
…
وهذه شِيمةُ آرامِ الْفَلَا
تعلَّمتْ منه الليالي غَدْرَها
…
فأنْجَزتْ باليأْسِ مِيعادَ الرَّجَا
ومن وصف السحاب في الروض:
غَمائمٌ لُعْسُ الشِّفاهِ ابْتسَمتْ
…
عن ثَغْرِ بارِقٍ إذا الثَّغْرُ بَكَا
تفُكُّ مِن مَحْلٍ وجَدْبٍ أسْرَهُ
…
وتنْثُرُ الدُّرَّ على هامِ الرُّبَى
يسُوقها الرعدُ بصوتٍ مُذْهَبٍ
…
من بَرْقِه وهْي بَطِيَّاتُ الخُطَا
ومن وصف المهمه:
لا يَلِجُ الطَّيْفُ إليه فَرَقاً
…
وفيه ليستْ تهتدي كُدْرُ القَطَا
بالتُّرْسِ تسْرِي الشمسُ فوق أُفْقِهِ
…
والصُّبْحُ يلْقاه بعَضْبٍ مُنْتضَى
ومن وصف المجرة:
مَجَرَّةٌ في شَفَقٍ كأنها
…
والزهرُ فيها ذاتُ مَنْظرٍ زَهَا
نَهْرٌ به كَفُّ الشَّمالِ نثَرتْ
…
وَرْداً ونَسْرِيناً جَنِيّاً قُطِفَا
منها:
على أغَرِّ أدْهَمٍ قد طلَعتْ
…
مِن وجهِه في ظُلْمةِ الليل ذُكَا
غُرَّتُه من تحت هُدْبِ شَعْرِهِ
…
طُرَّةُ صُبْحٍ تحت أذْيالِ الدُّجَا
من قول ابن نباتة في الغزل:
قلتُ وقد أبْدَى جَبِيناً واضحاً
…
وفوقه لَيْلَ دَلالٍ قد دَجَا
أفْدِي الذي جَبِينُه وشَعْرُهُ
…
طُرَّةُ صُبْحٍ تحت أذْيالِ الدُّجَى
أدْهَمَ قيِّدِ كُلِّ وَحْشٍ شارِدٍ
…
قبَّلَه الليلُ فكُلُّه لَمَى
معنىً متداول، قال المتنبي:
نَيْلُ المُنَى وحُكْمُ نَفْسِ المُرْسِلِ
وعُقْلَةُ الظَّبْيِ وحَتْفُ المُثْقَلِ
كأنه من عِلْمِه بالمَقْتَلِ
عَلَّمه بُقْراطث فَصْدَ الأكْحَلِ
وقد ألم المتنبي فيه بقول الطائي:
كَواعِبُ أتْرابٌ لِغَيْداءَ أصْبحتْ
…
وليس لها في الحُسْنِ شِكْلٌ ولا تِرْبُ
لها مَنْطِقٌ قَيْدُ النَّواظِرِ لم يزَلْ
…
يرُوحُ ويَغْدُو في خَفَارتِه الحُبُّ
وأول من استأثر هذا المعنى امرؤا القيس في قوله:
وقد أغْتدِي والطيرُ في وُكُناتِها
…
بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوَابِدِ هَيْكَلِ
منها:
نجائِبُ قد طفِقَتْ أخْفافُها
…
في الرَّملِ تُبْدِي لي ضمائرَ الثَّرَى
منها في المديح:
قد سترَ الجمالُ حُسْنَ وَجْهِهِ
…
صَوْناً لأبْكارِ العُقول والنُّهَى
من قول الرستمي:
بُدورٌ زَهَتْهُنَّ المَحاسِنُ أن يُرَى
…
لَهُنَّ نِقابٌ فالوُجوهُ سَوافِرُ
والرستمي أخذه من قول عمر بن أبي ربيعة:
ولما تنازَعْنَا الحديثَ وأسْفَرَتْ
…
وُجوهٌ زَهاهَا الحُسْنُ أن تَتَقنَّعَا
وهذا أحد التواجيه لبيت المعري:
ويا أَسِيرةَ حِجْلَيْها أرى سَفَهاً
…
حَمْلَ الحُلِيِّ بمَن أعْيَى على النَّظَرِ
فوقَف الحُسْنُ عليه حائِراً
…
مُتيَّماً وَلْهانَ في ذاك الْبَهَا
تَهْوَى الصَّبَا شَمائلَ اللُّطْفِ به
…
فلا تُداوِي سُقْمَها أيْدِي الأُسَا
إلاّ إذا ما لَمَستْ ضَرِيحَه
…
فكم سَقامٍ من تُرابِه اشْتفَى
سَرَى إلى السَّبْعِ الطِّباقِ جسمُه
…
في صُحْبةِ الرُّوحِ الأمينِ ورَقَى
إن قطَع الأفْلاكَ سُرْعَةً فلا
…
بُعْدَ فإن ذاتَه شمسُ الضُّحَى
حَوافِرُ البُراقِ مِن آثارِها
…
قد ظهرَتْ فيه أهِلَّةُ السَّمَا
يُغْنِي عن المدحِ رَفِيعُ قَدْرِهِ
…
فيُمْدَح المدحُ به وما دَرَى
كلُّ لِباسٍ للمديح قاصِرٌ
…
عنه يُحَلَّ رَحْلُه دون المَدَى
سال لُعابُ الشمسِ ممَّا تشْتهِي
…
لَذِيذَ هاتِيك المَعاني إذْ حَلَا
وقد استعمل ابن سناء الملك هذا، في قوله يهجو الشمس:
أنتِ عَجُوزٌ لِمْ تَبَهْرَجْتِ لِي
…
وقد بَدا منك لُعابٌ يَسِيلْ
فصاحةٌ ما الشِّعر منها بالغٌ
…
ببَحْرِه قطرةَ وَصْفِ ذِي صَفَا
لذلك قد قَطَّعَه الناسُ وقد
…
دارتْ به دَوائرُ القومِ الأُلَى
وما أحسن قوله في وصف المقصورة:
بين يَدَيْها ابنُ دُرَيدٍ حاجِبٌ
…
وألِفاتُ شِعْرِه مِثْلُ الْعَصَا
ذَيْلُ الدُّجَى بِعَرْفِها مُمَسَّكٌ
…
مُضَمِّخٌ خَلُوقُها بُرْدَ الضُحَى
ومن همزيته النبوية، التي أولها:
ما سُلَيْمَى ما هندُ ما أسْماءُ
…
أنتَ مَعنىً وكلُّها أسْماءُ
وهْو حِزْبِي ووِرْدُ كُلِّ لسانٍ
…
ولَكم أخْصَبَتْ به الشَّهْباءُ
ذاك حِزْبُ البحر الذي لا يُلاقِي
…
من يُدِمْ ذِكْرَه عَناً وبَلاءُ
منها:
وجَدُوه دُرّاً يَتِيماً تَرَبَّى
…
لم يُدْنِّسْهُ عُنْصُرٌ وهَبَاءُ
الهباء: الأجزاء التي تؤلف منها العناصر، كما في الفتوحات.
ذاك كَيْلا يكونَ مَنٌّ عَلَيْهِ
…
لأُصولٍ له إليْها اعْتِزاءُ
في حديث الراهب بحيرى، لما سأل أبا طالب: ما هذا منك؟ قال: ابني.
قال: هذا لا ينبغي أن يكون أبوه حياً.
فيه إشارةٌ إلى أن اليتم كمالٌ في حقه، وقد بين بأن الحكمة فيه أن لا يجب عليه طاعةٌ لغير الله، ولا يكون عليه ولايةٌ ولا منةٌ لغيره، ولا يتوجه عليه حقٌّ لمخلوق، ولا نسب لقطيعةٍ ولا عقوق.
كذا في شرح تائية السبكي، لابن الهيتمي.
منها:
خُلُقٌ للصَّبَا شَقِيقٌ فمِنْها
…
نَصْرُه والعِدَى لَها النَّكْباءُ
مُذْ أظَلَّ الزَّمانَ منه وُجودٌ
…
حسَدتْه الأزْمانُ والآناءُ
وعليه إذا غارَ من عينِ شَمْسٍ
…
ظَلَّلتْه سَحابةٌ وَطْفاءُ
وبه زَهْرةُ الحياةِ رَبِيعٌ
…
مُذ أظلَّت مَوْلُودَه الخَضْراءُ
وغدَتْ أرضُه سماءً بفَخْرٍ
…
فهْي خَضْراءُ ثُمَّ لا غَبْراءُ
وله الأرضُ مَسْجِدٌ فجميعُ
…
مَن عليها له به الاقْتِداءُ
وسُطورُ الصلاةِ حُجَّةِ دِينٍ
…
وبخَتْمِ النُّبُوَّةِ الإمْضاءُ
وبه شُرَّفَتْ فكانت طَهُوراً
…
وتساوَى البُلْدانُ والصَّحْراءُ
منها:
وله الضَّبُّ ناطِقٌ باعْترافٍ
…
ومن السَّعْدِ تنْطِقُ العَجْماءُ
مع ذَأ سَفَّه النِّفاقُ أُناساً
…
ما لِضَبٍ من حِقْدِهم نافِقاءُ
ليس فيهم سِوَى أَعِنَّةِ خَيْلٍ
…
وقَنَا الخَطِّ في الوغَى سُفَهاءُ
ومِراضُ القلوب قد قَصَدْتهم
…
سُمْرُهُ حين حَمَّتِ الهَيْجاءُ
ما سَقاهم إلاّ كُئوسَ المَنايَا
…
ربَّ داءٍ له المماتُ دَواءُ
هم ثِفالٌ إذا رَحَى الحرب دارتْ
…
وبنادِيهمُ همُ الأرْجاءُ
تُغْمَدُ البِيضُ في طُلاهمْ بفَتْكٍ
…
مُضَرٌ لُقِّبَتْ به الْحَمراءُ
هذا من الأسرار العجيبة في اللغة العربية، وهو الإشارة إلى حال اللفظ أو جهة وصفه، كقول ابن الرومي:
غارتْ عليهنَّ الثُّدِيُّ
…
هناك مِن مسِّ الغَلائِلْ
وإذا لبِسْنَ خَلاخِلاً
…
كَذَّبْن أسماءَ الخلاخِلْ
وقال الشريف الرضي:
وغَيَّر ألْوانَ الْقَنَا طولُ طَعْنهمْفبالحُمْرِ تُدْعَى اليومَ لا بالْقنَا السُّمْرِ
وقال:
سُمِّيتِ الغَبْراءُ في عَهْدِهمْ
…
حَمْراءَ من طُولِ قِطارِ الدَّمِ
وقال الغزي:
حيثُ القناةُ تُرَى قَناةً كاسْمِها
…
من نَضْحِ عَيْنِ الطَّعْنَة الرَّشَّاشِ
وقال ابن حازم:
جعلُوا الْقَنا أقْلامَهم وطُرُوسَهمْ
…
مُهَجَ العِدَى ومِدَادهنَّ دِماءَهَا
وأظُنَّ أن الأقْدَمِين لِذا رَأَوْا
…
أن يجعلوا خَطِّيَّةً أسْماءَهَا
وقال المتنبي في الدنيا:
شِيَمُ الْغانياتِ فيها فما أدْرِي
…
لِذا أنَّث اسمها النَّاسُ أوْ لَا
وقال الشاب الظريف:
أدُورُ لتَقْبِيلِ الثَّنايَا ولم أزَلْ
…
أجُودُ بنَفْسِي للنَّدامَى وأنْفاسِي
وأكْسُوا أكُفَّ الشُّهْبِ ثَوْباً مُذَهَّباً
…
فمِن أجْلِ هذا لَقّبُونِيَ بالْكاسِ
وقال الخفاجي:
ما السِرُّ سِرٌّ إذا أظْهَرْتَه لِفَتىً
…
سِواكَ والسِّرُّ لِلإخْفاءِ قد صُنِعَا
منها تتمة:
قد مَحاهمُ وطهَّر الأرْضَ منها
…
ومع السَّيْلِ لا يَقَرُّ الغُثاءُ
وبُطونُ الطَّيرِ أمْسَتْ قُبوراً
…
لِلْعدى إذ تُمزَّق الأشْلاءُ
ما سمِعْنا بالقبْرِ سار اشْتياقاً
…
لِيُوارِي سَوْآتِ مَن قد أسَاءُوا
رُبَّ من كان زِئْبَقاً فَرَّاراً
…
صار عَبْداً لِرِقِّه اسْتعساءُ
لم يَقِلْ والظِّلالُ صارتْ مِهاداً
…
فَوْقَه الآلُ بُرْدَةٌ سِيَراءُ
منها:
هو نُورٌ فما لَه قَطُّ ظِلٌّ
…
لَاحَ لولا بُرودُه والرِّداءُ
إن نَفَى ظُلْمةً عَياءُ جَمالٍ
…
فبِظِلٍ له يَعِزُّ البقاءُ
صِينَ عن أن يُجَرَّ في التُّرْبِ ذَيْلٌ
…
مِن ظِلالٍ له كما الأفْياءُ
فَرَشَ الناسُ ظِلَّهم واحْتَذَوْهُ
…
عندما قام للنّهارِ اسْتِواءُ
كيف يبْدُو ظِلٌّ لِشَمْسٍ تَعالَتْ
…
واسْتوَى الإسْتواءُ والإرْتقاءُ
أتُراه يُصانُ عَن حَرِّ جَوٍ
…
إذْ أظَلَّتْه سُحْبُه والْعَماءُ
أمْ عليه تَغارُ مِن عَيْنِ شَمْسٍ
…
مُدَّ مِن دونها عليه الْغِطاءُ
لم تَرَ العَيْنُ مِثْلَه فلهذا
…
يَنْمَحِي ظِلُّه إذا الناسُ فَاءُوا
لَبِسَ الظِّلُّ مِن نَواهُ حِداداً
…
فظِلالُ الورَى لِذَا سَوْداءُ
من هذا يعلم قدرته على الكلام وتصرفه، وبالجملة فلم أر أحداً مثله أطاعته ألفاظ الكلام وأحرفه.
وقد استعمل الظل في معنىً غير ما نظمه هنا من رباعية له:
ما جُرَّ لِظلِّ أحْمَدَ أذْيالُ
…
في الأرضِ كَرامةً كما قد قَالُوا
هَذا عَجَبٌ ويا لَه مِن عَجَبٍ
…
والناسُ بِظلِّه جميعاً قالُوا
لَيْلةٌ أنْجَبتْ وقد حَمَلْته
…
وبهذا ما أنْجَبتْ سَوْداءُ
جَنَّةٌ كلُّ بُقْعةٍ حَلَّ فيها
…
ليس فيها لَغْوٌ ولا شَحْناءُ
وأهالِي الجنانِ ليس ينامُو
…
ن لذا كان نَوْمُه الإغْفاءُ
يَقِظُ القلبِ فالجفونُ هُجودٌ
…
ومَحارِيبُ حاجِبَيْه قُباءُ
فُوهُ لم ينْفَتِحْ بغير سَدادٍ
…
لا تَمَطٍ له ولا ثَوْباءُ
الثوباء: التثاؤب.
قال ابن حجر في شرح الهمزية: جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حفظ من التثاؤب، بل جاء أن كل نبيٍ كذلك.
وذكر المترجم، في شرحه على الشفاء، عند قوله: ومن دلائل نبوته أن الذباب كان لا يقع على ما ظهر من جسده الشريف، ولا يقع على ثيابه، ما ملخصه: وهذا مما قاله ابن سبع أيضاً، إلا أنهم قالوا: لا يعلم من روى هذا.
وهذا مما أكرمه الله تعالى به؛ لأنه طهره من جميع الأقذار.
وقد نظم هذا في رباعية، وهي:
مِن أكْرَم مُرْسَل عظيم جَلَاّ
…
لم تَدْنُ ذُبابةٌ إذا ما حَلَاّ
هذا عَجَبٌ ولم يذُقْ ذو نَظَرٍ
…
في الموجُوداتِ مِن حُلاه أحْلَى
قال: وتظرف بعض الأعاجم ومراده به الملا جامي فقال: محمد رسول الله ليس فيه حرفٌ منقوط؛ لأن النقط يشبه الذباب، فصين اسمه ونعته عن النقط.
ونظمه فقال:
لقد ذُبَّ الذُّبابُ فليس يَعْلُو
…
رسولَ اللهِ محموداً مُحَمَّدْ
ونَقْطُ الحَرْفِ يُشْبِهُه بشكْلٍ
…
لذاك الخطُّ عنه قد تجَرَّدْ
صَمَّمُوا آراءَهم على الفَتْك فيهِ
…
فتَوارَتْ لخَوْفِه الآراءُ
ورأَوا نَفْيَه لِحَيٍ سِواهُمْ
…
ولكم أثْبَتَ المِراءَ انتِفاءُ
لم يُصِبْ نَصْبُهم مَكائدَ شَرٍ
…
وتَساوَى التَّحْذِيرُ والإغْراءُ
نَبْحُ كلبٍ بلَيْلةِ التِّمِّ بَدْراً
…
لم يُفِدْه إلَاّ الْعَنَا والعُواءُ
منها:
ولِغَيْظٍ على سُراقةَ عَضَّتْ
…
سُوقَ نَهْدٍ من تحتِه الدَّهْناءُ
وعلى أمِّ مَعْبَدٍ نَالَ حتى
…
بعُلاهَا تحدَّث الأحْياءُ
ورَفِيعَ العِمادِ أصْبَح لمَّا
…
أنْ حَوَى قَدْرَه الرَّفيعَ الْجَفاءُ
وبيُمْنٍ منه له الشَّاةُ دَرَّتْ
…
وهْي للهِ دَرُّها عَجْفاءُ
وطَعامٌ لجابرٍ إذْ أتاه
…
وبخَفْضِ الإضافةِ النَّعْماءُ
كطعامِ الجِنانِ من غيرِ قَطْعٍ
…
لجميعِ الأنامِ فيه اكْتفاءُ
وله في وصف تلك الذات، التي وصفها أشهى اللذات، من قصيدة طويلة:
تملَّك حَبَّاتِ القلوبِ لأجل ذا
…
دَعاهُ حَبِيباً كلُّ صَبٍ مُتَيَّمِ
ويوسُف لم يظْفَرْ بمَسْحةِ حُسْنِه
…
على أنه رَبُّ الجمالِ المُكرَّمِ
يقال: عليه مسحةٌ من كذا، أي أثر. قال:
على وَجْهِ مَيٍ مَسْحةٌ مِن مَلاحةٍ
وفي الحديث: " عليه مسحةٌ من ملكٍ "، وهي تعبيرٌ بليغ، وهو خاصٌ بالمدح.
فأين النِّساءُ القاطِعاتُ أَكُفَّها
…
وشَقُّ ابن مُزْنٍ صَدْرَه شَقَّ مُغْرَمِ
ودُرٌّ يَتِيمٌ لم يُهَذِّبْه كافِلٌ
…
وآدابُه ليست إلى الناس تَنْتمِي
يقول أنا الأمِّيُّ في اللَّوحِ ناظِرٌ
…
وفي مَكْتَبِ الأرْواحِ رَبِّي مُعَلِّمِي
منها:
إذا لاح في مَوْضُونَةِ السَّرْدِ خِلْتَهُ
…
خِضَمّاً تَرَدَّى بالغَدِير المُنَسَّم
أأعْداءُه خُشْبٌ مُسَنَّدةٌ ولم
…
تَحِنَّ حَنِينَ الجِذْعَ حين التَّألُّمِ
أم الصَّخْرُ إنَّ الصَّخْرَ سَلَّم إذْ بَدا
…
وما سَلَّمتْ تسْليمَ أخْرسَ أعْجَمِ
منها:
فسَلْ يوم بَدْر حين لاحَتْ نُجومُه
…
وشمسٌ بغَيْرِ النَّقْع لم تتثَلَّمِ
بكُلِّ كَمِيٍ كان في بَطْنِ أُمِّه
…
تعلَّم أن يُغْذَى ويُرْوَى من الدَّمِ
لم أسمع في هذا المعنى أبدع من قول أبي بكر الإشبيلي المعروف بالأبيض، في تهنئة بمولود:
أصاخَتِ الخيلُ آذاناً لِصَرْختِهِ
…
واهْتَزَّ كلُّ هِزَبْرِ عندما عَطَسَا
تعشَّقَ الدِّرْعَ مُذْ شُدَّتْ لَفائفُهُ
…
وأبْغَضَ المهْدَ لمّا أبْصَرَ الْفَرَسَا
تعلّمَ الرَّكْضَ أيَّامَ المخاضِ بِهِ
…
فما امْتطَى الخَيْلَ إلاّ وهْو قد فَرُسَا
وله من أخرى مستهلها:
يا ليْتنِي ثانٍ لِحادٍ حَداكْ
…
ورابعُ الكَهْفِ لِكَهْفٍ حَواكْ
وليت نَوْءَ الطَّرْفِ في رَوْضةٍ
…
أنتَ بها رَغْماً لِنَوْءِ السِّماكِ
أسْقِي بها مَثْواكَ يا مُنْيتِي
…
هل تُسْكَبُ العَبَراتُ إلا هُناكْ
يا ابْنَ الذبِيحَيْن وقد فُدِّيَا
…
ليت جميعَ الخلْقِ كانوا فِدَاكْ
فما اسْتحقّ العَنْبَرُ الرّطبُ أن
…
يُحرَق إلا حين حاكى ثَراكْ
ليت وُجوهاً لأعادِيكَ لو
…
أمْسَتْ نِعالاً حَاجِباها شِرضاكْ
لم تَحْكِكَ السُّحْبُ ولا البَحْرُ في
…
جُودٍ ولا فاز بما في لُهاكْ
فالبَرْقُ لم يَلْمعْ ولكنَّه
…
يضْحَكُ من وَابِلِ غَيْثٍ حَكاكْ
وله:
أيُغْلَبُ من له الأَمْلاكُ جُنْدٌ
…
ورَبُّ العَرْشِ قد أمْسَى مُعِينَا
وقَبْلَ جُيوشِه هُزِمَتْ قلوبٌ
…
برُعْبٍ خِلْتَه سَبَق المَنُونَا
ولو ثَبَتُوا لَفَرَّ الْهامُ منهمْ
…
وأرْوَاحٌ لهم كانتْ كَمِينَا
وله:
لِرَسُولِ الإلهِ أعْلَى مَقامٍ
…
ليس يَدْرِي به جميعُ الْكَلامِ
وله هِمَّةٌ وعَزْمٌ رفيعٌ
…
جَلَّ عن أن يُرْتَضَى بمِلْكِ الحُطامِ
فلذا لم يكُنْ له مِيراثٌ
…
غيرَ شَرْعٍ وغيرَ عِلْمٍ سَامِي
لو تكون الدُّنْيا له مِيراثاً
…
مِثْلَ ما كان في جميعِ الأنامِ
ما حَواهَا الصِّدِّيقُ في عَصَباتٍ
…
وذَوِي الفَرْضِ من أُلِي الأرْحامِ
وهْو حَيٌّ في قَبْرِه ورسولٌ
…
لم يُوَرِّثْ حَيّاً ذَوُو الأحْلامِ
فَدَكٌ قد قضَتْ عليْنا بهذا
…
وحديثُ العَبَّاسِ والأعْلامِ
فادْرِ هذا فإنه جَوْهَرٌ قد
…
حَفِظتْه خَزائنُ الأفْهامِ
لا يَغُرَّنَّك الذي قال قومٌ
…
حين ضَلُّوا في مَهْمَهِ الأوْهامِ
ومن أخرى:
فالجِذْعُ حَنَّ وأنَّ مِن جَزَعٍ
…
لِفِراقِ طه بَعْدَما خَطَبَا
وغَدا غِراساً في الجِنانِ له
…
ثَمَرٌ يَطِيبُ بِمَنْهَلٍ عَذُبَا
والمُشرِكون قَسَتْ قلوبُهُم
…
فطَغَوْا ولم يُصْغُوا لخيرٍ نَبَا
فغَدَوْا وهم خُشُبٌ مُسَنَّدةٌ
…
ستَراهمُ لِجَهَنَّمٍ حَطَبَا
وله:
لِوَالِدَيْ طه مَقامٌ عَلَا
…
في جَنَّةِ الخُلْدِ ودارِ الثَّوَابْ
وقَطْرةٌ من فَضَلاتٍ له
…
في الجَوْفِ تُنْجِي مِن ألِيمٍ العقابْ
فكيف أرْحامٌ له قد غَدَتْ
…
حامِلةً تَصْلَى بنارِ العذابْ
وله:
رُواةُ حَدِيثِ المصطفَى قد دعَا لهمْ
…
بنَضْرةِ وَجْهٍ في المَسَرَّةِ لا تُحَدّ
وإنِّيَ قِدْماً خادمٌ لحديثِهِ
…
يَرَاعِي بمِحرابٍ الطُّرُوسْ له سَجَدْ
فحَاشاهُ أن يَرْضَى بذِلَّةِ عَبْدِهِ
…
ويهْدِمَ بُنْياناً عليه قد اعْتَمَدْ
إليه اسْتِنادِي في جميعِ مَقاصِدِي
…
وما خاب مَن كان الرسولُ له سَنَدْ
وله في قصة عامرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم وأربد:
يا خُلَّبَ الْبَرْقِ الذي
…
كالنَّصْلِ قد قطَع العَلائِقْ
وَافَيْتَ أرْبَدَ بالرَّدَى
…
للهِ دَرُّك أيّ بَارِقْ
ما ذاك أوَّلَ شائِمٍ
…
لِلْبَرْقِ أرْدَتْهُ الصَّواعِقْ
وله:
بِمَسِّ أقْدامِ النَّبِيِّ قد حَوَتْ
…
طَيْبَةُ فخراً حَلَّ في أرْجائِهَا
أَخَالُها مذ فَنِيَتْ بحُبِّهِ
…
صَانَتْه لِلْغَيْرةِ في أحْشائِهَا
وله مضمناً:
وقالوا حَلَتْ بئرٌ بِرِيقِ مُحمَّدٍ
…
وكم عاد صَخْرٌ بعد ما مَسَّه رَطْبَا
ولو نال ماءُ البحرِ من فِيهِ قَطْرةً
…
لأصْبَحَ ماءُ البحرِ مِن رِيقِه عَذْبَا
لمجنون ليلى:
ولو تفلَتْ في البحرِ والبحرُ مالحٌ
…
لأصبحَ ماءُ البحرِ مِن رِيقِها عَذْبَا
وله:
ما زَلْزَلَةٌ لها سقوطُ الإِيوانْ
…
إذْ حان قُدُومُ فَخْرِ نوعِ الإنْسانْ
إلاّ لِمَسَرَّةٍ تَهُزُّ الأكْوانْ
…
إذْ بَشَّرها به اخْتِلاجُ الأعْيانْ
وله:
طه كَمُلَتْ صِفاتُه والخلُقُ
…
مُذْ زُيِّن في الوجودِ له النَّسَقُ
بحرٌ عَذُبَتْ مَوارِدُ الشُّرْبِ به
…
لولاه لَما اسْتُخْرِج منه العَلَقُ
وله:
نِيرانُ فارسَ انْطَفَتْ لمّا بَدَتْ
…
بُشْرَى النُّبُوَّةِ ساطِعاً بُرْهانُهَا
سجَدتْ لِنِيرانِ المَجُوسِ عِصابةٌ
…
سجَدتْ لأنْوارِ الهُدَى نِيرانُهَا
وله:
لَعَمْرُكَ جَبْهَةُ خيرِ الورَى
…
جِراحَتُها آيةٌ للبشَرْ
أرانا لها اللهُ حتى نَرَى
…
بها كيف كان انْشِقاقُ القَمَرْ
وله:
قَصَرْتُ مَدائِحِي والقَصْرُ مِنِّي
…
على طه وما لِلْقَصْرِ مَدُّ
إذا كان الثَّناءُ له جميلاً
…
هو الْحَمْدُ الذي في العُرْفِ حَدُّوا
ولم يُرَ منه أجْمَلُ طَرْف عَيْنٍ
…
فليس بِلائِقٍ لِسِوَاه حَمْدُ
وله:
خَلِيليَّ مُرَّا بِي على طَيْبَةَ التي
…
بها مَضْجَعُ المُختارِ طه المُقَرَّبُ
يفُوق ذَكِيَّ المِسْكِ عَرْفُ تُرابِها
…
فمِن شَمْسِه نادأك صَلِّ عَلَى النَّبِي
ألَمْ تَرَ أنِّي كُلَّما جِئْتُ طارِقاً
…
وَجَدْتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيَّبِ
وله:
لَعَمْرُكَ ما قلبُ النَّبِيِّ غَفَا ولَا
…
عيونٌ له في ظُلْمةِ الليلِ رَاقِدَهْ
تَهجَّدتِ الأجْفانُ في ظُلْمةِ الدُّجى
…
فبانتْ بِمحْرابِ الحَواجِبِ ساجِدَهْ
وله في وصف الصحابة مضمناً:
يُكبِّرُون إذا خاضُوا بُحُورَ رَدىً
…
وما لَهُمْ عن حِياضِ المَوْتِ تَهْلِيلُ
حياض: جمع حوض، وحياض الموت: المنية، استعارة منه، والتهليل: الانهزام والتكذيب، قال:
أمْضَى وأعْنَى في اللِّقاءِ لَقِيتَهُ
…
وأقَلُّ تَهْلِيلاً إذا ما أُحْجِمَا
ومن لطائف المتأخرين:
هَلُمَّ لوَصْلِ حَمَّامٍ بديعٍ
…
يفُوق رُخامُه زَهْرَ الرِّياضِ
لِبُعْدِك ماؤُه ما طاب قَلْباً
…
وأمْسَى من فِراقِك في الْحِياضِ
ومن تفاريق قصائده قوله:
على النَّهْرِ دِرْعٌ من نَسِيمٍ حَبابُهُ
…
له حَلَقٌ لمَّا رَمى وَبْلُه نَبْلَا
تكِلُّ سيوفُ الهندِ في لَحْظِ مُنْيَتِي
…
فتعْذُب والتَّعْذِيبُ في السيفِ إن كَلَاّ
منها:
إذا طالَبْتنِي بالحُتُوفِ عَزائِمي
…
أُماطِلُها حتى أُلاقِي لها أهْلَا
فيقْضِي اصْطِبارِي كلَّ دَيْنٍ على المُنَى
…
قضاءَ مَلِيٍ لم يكنْ يعرفُ المَطْلَا
وإن صِرْتُ حِلْسَ الدَّارِ رِزْقِي يزُورُني
…
فأصْطاد ما تَهْوَى الأمانِي من المِقْلَا
وقوله من قصيدة أولها:
بِتُّ أرْعَى النجومَ والإلْفُ رَاقِدْ
…
هل سميرُ الشِّهابِ غيرُ الفَراقِدْ
منها:
كلُّ زَرْعٍ زَرَعْتُه في شبابِي
…
فله مِنْجَلُ انْحِنائِيَ حَاصِدْ
أنا في الأرْضِ ضاربٌ كلَّ كَسْبٍ
…
مِثْلَ ضَرْبٍ لِواحدِ في وَاحِدْ
منها:
وبجِيدِ الأيامِ عند تَصابٍ
…
ليس غير الكُؤُوسِ فيها فَرائِدْ
وقوله:
وسَفْرِ مُنىً جازتْ بعَزْمِي ومالَها
…
قناطرُ إلَاّ العِيسَ في أبْحُرِ الآلِ
عَبَرْتُ بها دَاراً مُحِيلاً رُسُومُه
…
ألَحَّ عليه كُلُّ أسْحَمَ هَطَّالِ
إلى كعبةٍ أمْسَتْ تُزارُ ولم تَزُرْ
…
يطُوف رجائي حولَها مُنْذُ أحْوالِ
أقُول لها لمَّا تبَّدى لناظِرِي
…
تَمِيسُ عُلاهُ لي مَلابِسِ إجْلالِ
أتيْتُك من كلِّ الوسائِلِ مُحْرِماً
…
وألْبَسْتُ وَجْهَ الأرضِ سابِغَ أذْيالِ
وقوله:
وخِدْنٍ يرُوق الطَّرْفَ وَضَّاحُ وَجْهِهِ
…
وقد تَرْجَمتْ باليُمنِ عنه قَوابلُهْ
إذا غَصَّ بالسُّؤَّالِ نَادٍ يحُلُّه
…
يَسُوغُ بماءِ الجُودِ يصْفُو مُسائِلُهْ
وإن نَحَلتْ أقْلامُه لاشْتياقِها
…
إليه حَنَتْ منه عليها أنامِلُهْ
ويُزْهِر وَجْهُ الشمسِ غِبَّ لقائِه
…
وتصْفَرُّ من خوفِ الفِراقِ أَصائِلُهْ
فإن صَدَّنِي عنك الزمانُ لحادثٍ
…
فأيْن من الغَرْقانِ في البحرِ ساحِلُهْ
فإنك شمسٌ لا تُرَى السُّحْبُ عندها
…
فلا تُنْكِرَنْ إن لم يَلُحْ ثَمَّ آفِلُهْ
وقوله:
خَدُّ الربيع من الحَياءِ تَوَرَّدَا
…
خَجَلاً لِمَا أهْدَى إليه من النَّدَى
وبَنَفْسَجُ الكُثْبانِ أطْرقَ رأسُه
…
لَّما رأَى صُدْغَ الحبيبِ تجعَّدَا
وأرى الخريفَ اشْتَمَّ أنْفاسَ الشِّتَأ
…
فاصْفَرَّ مِنه خِيفَةً لمَّا بَدا
ورأَى جيوشَ سُيُولِه قد أقْبلَتْ
…
وعليه حُلَّةَ سُنْدُسٍ فتَجَرَّدَا
والسُّحْب تنْثُر لُؤْلُؤاً وغُصونُه
…
بأَكُفِّ أوراقٍ تُفَرِّقُ عَسْجَدَأ
والنَّجْمُ كحَّلَه الظلامُ بإثْمِدٍ
…
مُذْ خالَه في الجَوِّ طَرْفاً أرْمَدَا
رَوضٌ تبَسَّم للوُفودِ بمَبْسَمٍ
…
للرَّوضِ عَذْبِ المُجْتَنَى والمُجْتَدَى
ما ذَاقَ فيه السُّهْدَ إلَاّ ناظِرٌ
…
للنَّرْجِسِ الغَضِّ الشَّهِيِّ تَسَهَّدَا
وقوله من غزلية:
مُذ سَبانِي بدرٌ بقلبي مُقِيمٌ
…
صار جسْمِي كخَصْرِه في المِحَاقِ
حاكمٌ جُنْدُه المِلاحُ جميعاً
…
ذُو لِواءٍ من شَعْرِه الخَفَّاقِ
جامعٌ رِقَّةَ الحجازِ وسْحْرَ الشَّ
…
امِ حُسْناً في سِلْكِ لُطْفِ العِراقِ
سرَق الغُصْنُ لِنَهُ فلهذا
…
لَزِمَتْهُ جِنايَةُ السُّرَّاقِ
قام في جَنَّةِ الرِّياضِ بكأسٍ
…
فأباح المُدامَ بين الرِّفاقِ
بثلاثٍ مِنهُنَّ طَلَّق هَمِّى
…
دون ما رَجْعَةٍ لذاك الطَّلاقِ
في مجالٍ كالخَصْرِ فيه اخْتِصارٌ
…
دارَ فيه النُّدْمانُ مِثْلَ النِّطاقِ
ذُو عيونٍ لأجْلِها النَّرْجِسُ الغَضُّ
…
اصْفَرَّ وأمْسَى من جُمْلةِ العُشَّاقِ
ما رَثَتْ في الهوى لِسائِل دَمْعِي
…
تحسَبُ الدَّمْعَ خِلْقَةً في المَآقِي
وقوله:
قامتْ تجُرُّ ذُيولَ التِّيهِ والجَدَلِ
…
ووَجْنَةُ الشَّفَقِ احْمَرَّتْ من الخَجَلِ
خَمِيلةٌ بثِمارِ الحَلْيِ مُثْقَلةٌ
…
زُهورُها ما جَنَتْها رَاحةُ الأمَلِ
تَسِيرُ رُسْلُ الصَّبَا تَرْتادُها سَحَراً
…
في الْحَيِّ تعْثُر بين البِيضِ والأَسَلِ
صَباً على سُقْمِها يُشْفَى السَّقامُ بها
…
ورُبما صَحَّتِ الأجْسامُ بالعِلَلِ
تخافُ تَجْرَحُ وَجْناتِ الحبيبِ لِذَا
…
تخُوض مِن عَرَقِ الأنْداءِ في بَلَلِ
وقوله:
أتاركُ قلبي في لَظَى الوَجْدِ مَجْمَرَا
…
وطِيبَ ثَناءٍ فوقه فَاح عَنْبَرَا
ترفَّقْ فما ابْيَضَّتْ دموعِي بعدَكُمْ
…
ولكنَّها شَابَتْ وصبرِي تعَذَّرَا
فيَوْمِي كأيَّامِ القيامةِ طُولُه
…
وأرْضِيَ أمْسَتْ لْلأعادِي مَحْشَرَا
منها:
وغُصْن قَوامٍ كلُّ غُصْنٍ لحُسْنِه
…
بأوْراقِه من خَجْلةٍ قد تَسَتَّرا
وعَيْن له قد أهْدَتِ السُّقْمَ والهوَى
…
فأهْدَى إلى أجْفانِها طَرْفِيَ الْكَرَى
من مديحها:
إذا طَرَّزَ القِرْطاسَ وَشْيُ بنَانِهِ
…
تعَشَّق منه الطَّرْفُ خَدّاً مُعَذَّرَا
وما كان لَوْنُ التِّبْرِ أصْفَرَ إنَّما
…
لِخَوْف نَداهُ بالنَّدَى صار أصْفَرَا
وقوله:
مَسِيلُ الصبحِ طَمَّ على الكواكبْ
…
وقد ظمِئتْ إلى السَّيْرِ النَّجائِبْ
تقلَّص ذَيْلُ عَزْمِك في مَسِيرٍ
…
له طَيْفُ العُلَى خِدْنٌ مُصاحِبْ
بِوَرْيٍ أعْوجِيٍ قَبَّلَتْهُ
…
بغُرَّتِهِ الأهِلَّةُ والكواكبْ
جَرَتْ مِن خَلْفِهِ النَّسماتُ حتى
…
سَرَتْ مُعْتلةً فيه الجَنائِبْ
عليه مِن لَيالِ الوصلِ بُرْدٌ
…
وقد أهْدَتْ له الغِيدُ الذَّوائِبْ
إذا ما خَبَّ خِلْتَ الطَّيْفَ وَافَى
…
لِجُنْحِ الليلِ مِن خَوْفِ المُراقِبْ
مَعارِفُه كأهْدابٍ تَبدَّتْ
…
لِوَجْه الأرْضِ تَدْنُو كالْمَراقِبْ
عَلاهُ مُحدِّثٌ قد جَلَّ عنه
…
لجارِيه تمائمُ في التَّرائِبْ
بعَزْمٍ يَفْرَقُ الهِنْدِيُّ منه
…
مَضَاءً قصَّرتْ عنه القَواضِبْ
ورَأْيٍ زَفَّ بِكْرَ الفكرِ يَزْهُو
…
لِتخْطُبهَا المَعالِي والمراتِبْ
وقوله:
وباسِلِ نارٍ عَزْمُه تَقِدُ
…
كأنما حُمَّ خَوْفَه الأسَدُ
أخْلَاقُه للنَّدِيمِ ضامِنَةٌ
…
أن يُنْجِزَ الْجُودَ قبلَ ما يَعِدُ
تنْقُل عنه الكرامُ مَأْثُرَةً
…
حَدِيثُ عَلْيائِه لها سَنَدُ
وقوله:
زاد خَطُّ العِذارِ في الخَدِّ حُسْنَا
…
فهْو حَرْفٌ قد جاء فيه لِمَعْنَى
كلَّ حِينٍ داعِي الغرام يُنادِي
…
رَحِمَ اللهُ كلَّ قلبٍ مُعَنَّى
قُمْ خَلِيلِي نَبْكِي الديارَ سُحَيْراً
…
لا يكونُ الحَمَامُ أطْربَ مِنَّا
لا تَلُمْنِي إن ساء فيك ظُنونِي
…
كُلُّ مَن ضَنَّ بالأحِبَّةِ ظَنَّا
كم حَبِيبٍ إذا أردْتُ سُلُوّاً
…
عنه قال الدَّلالُ مَهْلاً تأَنَّى
وبَناتُ القلوب مُعْتِذراتٌ
…
شافِعاتٌ له إذا الليلُ جَنَّا
مُذْنِبٌ ليس يقْبَل العُذْرَ مِنِّي
…
وإذا ما جَنَى عليَّ تجَنَّى
كلُّ صَدٍ إن لم يكنْ عن مَلالٍ
…
فهْو وَصْلٌ به الرَّقِيبُ تَعَنَّى
إنما القلبُ دَارُه وهَواهُ
…
دَاخِلٌ فيه ليس يطلُب إذْنَا
عَلَّموا حَظِّيَ الصُّدودَ فَوَلَّى
…
واخْتَفيْنَا فالهَجْرُ يسألُ عَنَّا
لم تَذُقْ قَطْرةً من الوصلِ حِيناً
…
وشَرِبْنَا الوِصالَ دَنّاً فَدَنَّا
مِن قَضيبٍ يَميسُ في الرَّوْضِ تِيهاً
…
لِيُرِي الغُصْنَ كَيْفَما يَتَثَنَّى
أسْمَرُ الْقَدِّ منه ينْهزِم اللَّوْ
…
مُ إذا جاد في الصَّبابةِ طَعْنَا
وأرى المَنْزِلَ الخَرابَ إذا ما
…
حَلَّ فيه الأحْبابُ رَوْضاً أغَنَّا
وله، وهو معنىً بديع، في دعوة ضيف كريم:
مَوْلايَ دارِي والذي قد حَوَتْ
…
نَبْتٌ زَهَا من صَوْبِ أمْطارِهْ
وإنَّني عَبْدٌ له حارسٌ
…
بشُكْرِهِ رَوْضةَ آثارِهْ
إذا دَعَوْناه لأجل القِرَى
…
وأشْرَقتْ داري بأنْوارِهْ
قالُوا طُفَيْليّاً عجِبْنَا له
…
يُضيفُ رَبَّ الدارِ في دَارِهْ
قال: وكمت قلته لما أعجبني قول إبراهيم بن المدبر، الذي أنشده له في الأغاني:
سيِّدي كلُّ نِعْمةٍ هي عندي
…
فهْي بعضٌ مِن فَيْضِ تلك الأيادِي
فإذا زُرْتَنِي فإنِّي ضَيْفٌ
…
سَاكِنٌ مِن ذَراكَ أكْرَمَ نَادِي
فيَظُنُّونِيَ الطُّفَيْليَّ لَوْلَا
…
إرْثُ دَارِي مِن سالِفِ الأجْدادِ
وله في معنى قول كثير عزة:
لَئِنْ ساءَني أن نِلْتنِي بِمَسَبَّةٍ
…
لقد سَرَّنِي أنِّي خَطَرْتُ ببالِكِ
يسُرُّنِي شَتْمُك إذْ كنتُ قد
…
خَطَرْتُ في بَالِكَ دون اشْتِباهْ
يحلُوا لِيَ الشَّتْمُ إذْ مَرَّ لِي
…
اسمٌ على عَذْبِ اللَّمَى والشِّفَاهْ
إن ذكَرَ اسْمِي لَذَّ لي ذِكْرُه
…
كأنني قبَّلتُ بالوَهْمِ فَاهْ
فيه لطف؛ لأنه يمكن أن يخرج على أن في اسمه حرفاً شفوياً، وكذا في لقبه.
وقد استعمله ابن جرير، وكان اسمه محمداً، حيث قال:
أنا في غَيْرةٍ عليْك من اسْمِي
…
إنَّه دائِماً يُقبِّل فاكَا
وله في قول بعض معتزلة النحاة: عدل عمر تقديري، يريد غير محقق:
بِنُورِ المعاني أشْرَق اللفظُ فاكْتَسَى
…
بثَوْبَيْهِ من حُسْنٍ بَديعٍ بلا زُورِ
ففي عُمَرٍ من عالمِ الذَّرِّ عَدْلُه
…
إلى اسْمٍ سَرَى من أجْلِ ذا قيل تَقْدِيري
ومَن قال ذا التَّقدير غيرُ مُحَقَّقٍ
…
فقد سار في ظَلْمَاءِ جهلِ بلا نُورِ
وله:
زمانُ السُّوءِ إن وَافَى بِرَيْبٍ
…
صديقك والقريبُ له يَذِلُّ
شَكَتْ رُسْلَ المنايا لِي طُيورٌ
…
جَوارِحُ للسَّماءِ تظَلُّ تَعْلُو
فقلتُ سَلُوا الْقَوَادِمَ والخَوافِي
…
فلَوْلا رِيشُها ما طال نَبْلُ
هذا كقول الأرجاني:
يُعْطِينَ قتْلاها النُّسور جَوائِزاً
…
إذْ كُنَّ طِرْنَ بما كَسَتْهُ الأنْسُرُ
وله:
أتَدْرِي السَّواقِي ما تقولُ وقد غدتْ
…
تدُورُ وتَسْقي حين تعلُو وتنْزِلُ
تقول لك المَمْلُوءُ يعْلُو وكلُّ ما
…
تضَرَّع تَلْقاهُ مَدَى الدهرِ يسْفُلُ
تُريدُ الورى تهْوَى الغَنِيَّ ولم تزَلْ
…
تُعادِي فقيراً ما عليه مُعَوَّلُ
فلا تُظْهِرَنَّ الفقْرَ ما دُمْتَ بينهم
…
وأظْهِرْ غنىً عنهم فذلك أجْمَلُ
وله:
قد رأيْنا الملوكَ إن سار جيشٌ
…
كثَّبُوا الكُثْبَ في الفَلا المطْرُوقِ
فلذا سَنَّمُوا الترابَ على مَن
…
ماتَ رَمْزاً لِفَهْم معنىً دقيقِ
إن جيشَ الخُطُوب سار وهذِي
…
سلبُه فاسْلكُوا سَواءَ الطَّرِيقِ
وله:
مُذ فُتِحَتْ أبوابُ نادي العُلَى
…
فَتْحَ المُلاقِي لمعالِيهِ
ما صَرَّت الأبوابُ بل رَحَّبتْ
…
على مُرَجٍ لأيادِيهِ
كذلك الأقلامُ في طِرْسِهِ
…
صَرِيرُها شكرُ أَيادِيهِ
والماء يشكُ، بخريرٍ له
…
فِراقَه رَوْضةَ نَادِيهِ
وله:
يا حبَّذا نادٍ لنا
…
حُفَّ بأُنْسٍ وطَرَبْ
وخمرةٌ في كأسِها
…
يلعبُ بالنَّرْدِ الْحَبَبْ
فُصوص ألْماسٍ على
…
بِساطِ خَزٍ وذَهَبْ
وله:
سَبَح الحبيبُ بِبرْكةٍ
…
والقلبُ من وَلَهٍ يطيرُ
فخشِيتُ من ماءِ اللَّطا
…
فةِ فيه يشْربُه الغَدِيرُ
وتَشابُه الماءِ الرقي
…
قِ وجسمِه التَّرِفِ النَّضِيرِ
لولا الذَّوائبُ لم يكنْ
…
للنَّاظرين به شُعورُ
وله:
ما أقْصَرَ الليلَ الذي
…
كحَّل أنْوارَ الحَدَقْ
عانْقتُ فيه غُصُناً
…
مِن حُلَلٍ فيه وَرَقْ
إذ هَمَّ ثَغْرُ الصبحِ أنْ
…
يُقَبِّلَنْ خَدَّ الشَّفَقْ
ومما لا ينقضي منه الإعجاب، قوله من قصيدة:
مَرَرْتُ على رَبْعِ الأحِبَّةِ دارِساً
…
ففَاح به عَرْفُ الحديثِ المُتَمَّمِ
وذكَّرنا عهدَ الصَّبابةِ والصِّبا
…
هَدِيلُ حَمْامٍ في الرُّبَى مُترنِّمِ
فقلتُ لِخِلِّي عُجْ بنا ساعةً عسى
…
يُحدِّثنا رَسْمُ الهوى المُتقدِّمِ
فعُجْنَا له عَطْفاً على موضعٍ به
…
هَوانا فكان العَطْفُ عطفَ تَوهُّمِ
وعطف التوهم معروفٌ عند النحاة، وهو أن يجري في موضعٍ إعرابان، فيعرب بأحدهما، ويعطف عليه باعتبار الآخر، كما في قول الأخوص الرياحي:
بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى
…
ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جَائيَا
فإن لست يجر خبرها بالباء الزائدة كثيراً، فإذا نصب قد يعطف عليه مجرور نظراً إلى حالته الأخرى.
وأما عطف المنصوب على المجرور، فهو العطف على الموضع، وإياه عنى محاسن الشواء، في قوله:
هَاتِيكَ يا صاحِ رُبَا لَعْلَعِ
…
نَاشَدْتُك الله فعَرِّجْ مَعِي
وانْزِلْ بنا بين بُيوتِ النَّقَا
…
فإنها آهِلَةُ المَرْبَعِ
حتى نُطِيلَ اليوم وَقْفاً على السَّ
…
اكِنِ أو عَطْفاً على المَوْضِعِ
وهذه مقطعات له، على حروف المعجم:
مَدْحٌ بوَجْهِ كُدْيَةٍ
…
فيها كَمِينٌ لِلرَّجاءْ
مِثْلُ المُرَقْرِقِ في الصَّبُو
…
حِ يُسِرُّ حَسْواً في ارْتغاءْ
فيه مثلان قديمان.
وله:
يشْتكي الخَصْرُ رِدْفَه كلَّ حِينٍ
…
وأنِينِي يشْكُو من الرُّقَباءِ
فكِلانَا في حالَتَيْه مُعَنَّى
…
ذا عَياءٍ يشْكُو من الثُّقَلاءِ
وله:
لَئِن نكَسَّ الدهرُ حَظِّي فلِي
…
لطَائفُ في الغَيْبِ تُحْيِي الرَّجَاءْ
فرُبَّ شِهابٍ إذا نَكَّسُوه
…
يَزِيدُ اشْتعالاً ويعْلُو سَنَاءْ
وله:
قال لي الأيْرُ لا أُهَنِّيك إن
…
زارَك مَن قد هَويتَ في الظَّلْماءِ
وأنَا منك لا يُهَنِّىءُ عُضْوٌ
…
بالمَسَرَّاتِ سائرَ الأعْضاءِ
وله:
لا يكذبُ العاقلُ ما
…
أمْكنَهُ صِدْقٌ يجبْ
ففي المَعارِيضِ له
…
مَنْدُوحةٌ عن الكَذِبْ
وله:
وبلدةٍ سُكَّانُها في لَظَى
…
في الصَّيْفِ من حَرٍ لها ناصِبِ
ترى بها الماشي بُعَيْدَ الضُّحَى
…
مُنْتعِلاً نَعْلَ أبِي طالبِ
يشير إلى ما ذكر أهل السير، من أن أبا طالبٍ لم يهتد للإيمان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جواره، ولو أسلم لم يقبلوا جواره.
ولما قالوا له: إن أبا طالبٍ كان يحبك ويحيك فهل ينفعه ذلك؟ قال: " يخفف عنه فجعل له نعلٌ من نارٍ يغلي منه دماغه ".
رواه مسلم.
وله:
إذا شاب شَعْرُ المَرْءِ قَلَّ سُرورُه
…
وزَارتْه مِن وَفْدِ الهمومِ المَصائبُ
وشَابَ قَذَى الأكْدارِ صَفْوَ حَياتِهِ
…
فمِن أجْلِ هذا قِيل للمَرْءِ شائبُ
وله:
قد تسْتوِي في الحَرَكات الورَى
…
لكنْ لَدَى السَّبْقِ تَبِينُ الرُّتَبْ
كم طار صَقْرٌ وغُرابٌ مَعاً
…
لكنَّ ذا صَادَ وهذا هَرَبْ
وله:
قد خاب مَن كان في مُناهُ
…
مُقصِّرَ الجِدَّ في الطِّلابِ
فلا يَلُمْ غيرَ نَفْسِه مَن
…
قد أرْسَل الْبَازَ في ضَبابِ
وله:
ظَنَنْتُ الصَّبا لَمَّا على النهرِ قد جَرَتْ
…
وعَكْسُ ذُكاءٍ لاح فيه لِمُرْتَقِبْ
شِباكاً بها صار النَّسيم غَزالةً
…
ألَسْتَ تَراها دائماً فيه تضْطَرِبْ
وله:
على خَدِّه مُذْ لاح نَبْتُ عِذارِهِ
…
جرَتْ أدْمُعِي في الخدِّ ذاتَ صَبيبِ
إذا ما اسْتدارتْ دَارَةُ البَدْرِ حَوْلَه
…
فإنَّ وُقوعَ القَطْرِ غيرُ عَجِيبِ
وله:
لَحَى اللهُ أيَّاماً تُعادِي أُولِي النُّهَىوتُسْعِفُ لُؤْماً كلَّ غُفْلِ المَناقِبِ
تُقدِّم فيهنَّ الصِّغارَ كأنهم
…
إذا ذُكرِوا عَقْدَ الْبَنانِ لِحَاسِبِ
وله:
إنما هذه الحياةُ مَنامٌ
…
والأمانِي حُلْمٌ بها الْمَرْءُ صَبُّ
فلهذا تأْتِي على العكسِ مِمَّا
…
كَرِهَ النَّاسُ دائماً وأحَبُّوا
وله:
كُنِ ابنَ وَقْتٍ حاضرٍ تَجْنِي هَنا
…
ولا تفُكِّرْ في غَدٍ وما ذَهَبْ
وإن وجدتَ سُكراً فانْعَمْ به
…
ولا تَسَلْ عَمَّا جَرى على القَصَبْ
وله:
إذا ما غاب مَن أهْواهُ عَنِّي
…
فإنَّ لِقاءَه عندي كِتابُ
سَوادٌ في بياضٍ مِثْل عَيْنِي
…
به ألْقَى الأحِبَّةَ حين غَابُوا
وله:
لَمَّا بَدَا في صُدْغِه خَالُه
…
أذابَ قلبَ الصَّبِّ بالْحُبِّ
فانْظُرْ إلى الْحَبِّ على فَخِّه
…
ولا تَسَلْ عن طائرِ القَلْبِ
وله:
رَوضُ المُنَى أيْدِي الأماني به
…
كم قد جَرَتْ لي ثمرَاً مُسْتطَابْ
ما لَذَّةُ الدنيا إذا لم أكُن
…
أخْطِر فيها بِردَاءِ الشَّبابْ
وله:
مُذ رأًى النَّهْرُ بَرْقَهُ سَلَّ سَيْفاً
…
مُرْهَفَ الحَدِّ من قِرابِ السَّحابِ
نَسجتْ فوقه الرِّياحُ دُرُعاً
…
سَابغاتٍ قد سُمِّرَتْ بالحَبَابِ
وله في الرد على ابن القيم:
قالوا جَهَنَّمُ دارُ الخلدِ ساكنُها
…
إذا تَطاوَلَ دهرٌ أَخمَدَ اللَّهَبَا
أمَالِكٌ صار مِن عَجْزٍ لِذِي يَدِهِ
…
لا يسْتطيعُ لفقرٍ يشْتري الحَطبَا
وله:
سُكَّانُ مِصْر كالنِّيل ما عَرَفُوا
…
قَدْرَ شُيوخِ العلمِ والطَّلَبَهْ
فَجَيِّدٌ فيه والرَّدِيُّ سَوَا
…
كما اسْتَوَى الماءُ ثَمَّ والْخَشَبَهْ
وله:
كم أُناسٍ من الكرام تَوَلَّوْا
…
في نعيمٍ وطِيبِ عَيْش مُواتِي
قَطَفُوا وَردةَ الحياةِ سُروراً
…
ورَمُوا الشَّوْكَ في طريقِ الآتِي
وله:
وبُحَيْرةٍ بِفنائِها سَمَرُوا
…
واللَّهُو بالأحْزانِ قد شَمَتَا
وكأنما عَكْسُ الشُّموعِ بها
…
بَحْرٌ به المَرْجانُ قد نَبَتَا
وله:
أنا أصْبُو والتَّصَابِي حِلْيَةٌ
…
لكريمِ العِرْضِ في صَبْوَتِهِ
بعَفِيفِ الجَيْبِ لَدْنٍ ناعمٍ
…
لم يُعانِقْهُ سِوَى حُلَّتِهِ
وله:
لحديثِ النَّبيِّ بعد كلامِ اللَّ
…
هِ طِيبٌ يَحُثُّ شَوْقِي حَثِيثَا
مُسْتَجِدٌّ على مُرورِ الجَديدَيْ
…
نِ لِذَأ سُمِّيَ الحديثُ حَدِيثَا
وله:
غاب الحبيبُ وفؤادِي خافِقٌ
…
مُنْتظِرٌ لذلك المَعْنَى البَهِجْ
والنَّرْجِسُ الغَضُّ يُنادِي في الرُّبَى
…
أبْشِرْ بما سَرَّ بعيْني تخْتلِجْ
وله:
ذُؤابتُه قد اشْتفَتْ
…
مِن فَرَجٍ بلا حَرَجْ
بابُ استْهِ لِصَبْرِه
…
فاز بِمفْتاحِ الْفَرَجْ
وله:
وساحِر المنْطِقِ أظْهَر الطِّلَا
…
في مَجْلِسٍ يَسْعَى لِرؤْياهُ الْفَرَحْ
رَتَّبَ شَكْلاً للسُّرورِ مُنْتِجاً
…
الْجَرَّةَ الكُبْرى وصُغْراه الْقَدَحْ
وله:
إلى اللهِ أشْكُو الزَّمان الذي
…
يُرَيِّشُ حَالِي بنَتْفِ الجَنَاحْ
إذا سُمْتُه الصُّلْحَ قال اتَّئِدْ
…
فبيْني وبينك سُوقُ السِّلاحْ
وله:
إذا رُمْتَ أمْراً فكُنْ طالباً
…
برِفْقٍ ففي الرِّفْقِ نَيْلُ الصَّلاحْ
ففي الرِّفْفِ والصبرِ للمُرْتَجِي
…
لِقاحَ الصَّلاحِ جَناحُ النَّجاحْ
وله:
وزَانٍ بحُبِّ الزِّنا مُغْرَمٍ
…
أمَاطَ رِداءَ الْحَيَا واطَّرَحْ
يُقبِّلُ أولادهُنَّ الصِّغارَ
…
ومَن عَشِقَ الدَّنَّ بَاسَ الْقَدَحْ
وله:
إن الصديقَ مَن إذا دَعَوْتَهُ
…
لَبَّى الرَّجا بتَباشِيرِ الْفَرَحْ
وإن تنَحْنَحَ الذي دَعَوْتَه
…
لِحاجَةٍ مُلِمَّةٍ فقد تَنَح
وله:
كم من قريبٍ كِيلَا لِي شَرُّهُ
…
وخيرُه إن جاء أحْباب فخّ
وكم أخٍ يملأُ لي صَدْرَه
…
نَفثْةَ مَصْدُورٍ إذا قلتُ أَخْ
وله:
إذا رُمْتَ إكْسِيرَ نَصْرٍ فقُمْ
…
بسيْفَك واضْرِبْ رقابَ العِدَى
تصُبُّ عليهم حديدَ النِّصالِ
…
وتأخُذها في دَمٍ عَسْجَدَا
قال بعضهم: قول ابن نباتة السعدي لم يسبق إليه:
أبَوْا أن يُطِيعُوا السَّمْهَرِيَّة غِيرَةً
…
فصُبَّتْ عليهم كاللُّجَيْنِ الْقَواضِبُ
فعادتْ إلينا عَسْجَداً مِن دِمائِهمْ
…
ألا هكذا فلْيَكْسِبِ المجدَ كاسِبُ
ومنه أخذ الأَبيوردي قوله:
وللهِ دَرُّ السيفِ يجلُو بَياضُهُ
…
غَياهِبَ يومٍ قاتِمِ الجَوِّ أرْبَدَا
بمُعْتَرَكٍ تَلْقَى به الموتَ لُجَّةً
…
تَسِيلُ لُجَيْناً ثم تُغْمَدُ عَسْجَدَا
قال: قلت: انظر هذا مع قولي أولا.
وله:
رأيْتُك طَوْداً قد لَجأْتُ لِظلِّهِ
…
فلي مَعْقِلٌ منه إذا دهرِيَ اعْتَدَى
إذا قُمْتُ في نَادِيه أُنْشِدُ مِدْحَةً
…
أنا الطائرُ المَحْكِيُّ والآخَرُ الصَّدَى
وله:
رُقَى الفَقْرِ اسْمُه يدْعُوهُ دَاعٍ
…
ورُؤْيةُ وجهِه سَعْدُ السُّعود
دَعَانَأ نَحْو سُدَّتِه نَداهُ
…
خَرِيرُ الماءِ يدعُو للوُرودِ
وله:
ويومٍ غَدَأ بارِداً جَوُّهُ
…
بَدَا رَعْدُه من هَواً يَبْرُدُ
ترى لهبَ النارِ من بَرْدِهِ
…
بكَانُونهِ أبَداً ترعُدُ
من بدائع الصلاح الصفدي، قوله من رسالة: لو ترى أحدنا وقد أخذه النافض، ونحاه القر بعامله الرافع والزمهرير الخافض، لرأيت شخصاً قد ركبت أعضاؤه من الزئبق فما تستقر، وجفت لهواته يبساً فما تستدر.
لا يمد كفه ولو بايعه الناس على الخلافة، ولا يخرج يده ولو كان فقيراً إلى كيس ذهب أو نديماً إلى كأس سلافة.
يكاد لذلك البرد حتى الكلام يتجسد، ويتمنى الإنسان لو أنه تحت رخام الحمام يتوسد.
وله في مثلٍ معروف:
أهْوِنْ بسيِّد فِتْيَةٍ نال الغِنَى
…
بدَناءَةٍ مَنَعتْهُ فيهم رُشْدَهُ
وعليه جُلْجُلُ سَبَّةٍ ولآَمَةٍ
…
ستُشَدُّ لكن هل يُرَى مَن شَدَّهُ
وله:
كم جِئْتُه بِحاجَةٍ
…
ومالَه عندي يَدُ
فقال لي إلى غدٍ
…
والدهرُ كلُّه غَدُ
وله:
أيِسْنَا من هُدَى الهادِي
…
وإسْعافٍ وإسْعادِ
وصار زمانُنا أعْمَى
…
يُقدِّم كلَّ قَوَّادِ
وله:
قلتُ لِمْ تشتري الغلام كبيراً
…
وصِغارُ الغِلْمانِ لِلَّهْوِ عُدَّهْ
قال إنَّا لم نأْخُذِ اليومَ إلَاّ
…
مَن وجَدْنَا مَتاعَنا اليومَ عِنْدَهْ
وله:
شيخٌ بسَعْدٍ وبِنَحْسٍ له
…
كم قادَ أوْبَاشاً من السَّادَهْ
مَتاعُ زُهْدٍ وَسْطَ سُوقِ الرِّيَا
…
يُباعُ في حانوتِ سَجَّادَهْ
وله:
قد قلتُ إذ حَسَدُوا وما
…
في العَيْشِ إذْ حسَدوا رَغَدْ
خَسَّ الزَّمانُ وأهلُه
…
وطِباعُهم حتى الحَسَدْ
وله:
ما نعمةٌ تخْلُو من الحسدِ الذي
…
مِنْه تكَدَّر كلُّ وِرْدٍ قد وُرِدْ
وأرى الخمولَ مع التَّواضُعِ نِعْمةً
…
قد صانَها الرحمنُ من كَدَرِ الْحَسَدْ
وله؛ في قول العوام: الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم:
ناضرُ الوردِ قيل مِن عَرَقِ المُخْتَا
…
رِ قد لاح في حَدائِقِ خَدِّ
وَرْدُ خَدَّيْهِ قبلَ ذلك زَاهٍ
…
هل سمعتُم بالوَرْدِ من ماءِ وَرْدِ
وله:
فتَّح الوَردُ في الرِّياضِ صَباحاً
…
عندما قبَّل النسيمُ خُدودَهْ
بُلِّغَ الزَّعْفَرانُ فهْو لهذا
…
ضاحِكٌ شَقَّ من سُرُروٍ بُرودَهْ
وله، في قول أرباب الفلاحة: إن الحيات والهوام تهرب من شجر الرمان، ولذا يجعل بعض الطيور أوكارها فيه:
إذا هَبَّتْ صَبَا الأسْحارِ يوماً
…
وحَرَّكَتِ الذَّوائبَ في الخُدودِ
فَحيَّاتُ الذَّوائبِ في اضْطِرابٍ
…
وقد شَعَرتْ برُمَّانِ النُّهودِ
وله:
يسْمُو بخُلْقٍ ولِسانٍ حَلَا
…
مَن بِلِبانِ المجد قِدْماً غُذِي
فأدْوَأُ الدَّاءِ كما قد رَوَوْا
…
خُلْقٌ دَنِيٌّ ولسانٌ بَذِي
وله:
بَقِيَّةُ عُمْرِ حُرٍ مُدَّ فيها
…
يَتِمُّ بها المَسَرَّةُ والْفَخارُ
ألسْت ترى الرَّبيعَ يَرُوقَ مَرْأىً
…
وتأْتِي في الخريفِ له الثِّمارُ
وله:
رَوضةٌ جادَها الْحَيا بَلآلٍ
…
قلدتْه جواهرَ الأزْهارِ
ضاحِكاتٌ أطْفالُ أنْهارِها إذْ
…
إذْ وَعَدتْها نَسائمُ الأسْحارِ
قال: وقلت لما سمعت قول أبي بكر رضي الله عنه: من امتطى التغافل ملك زمام المروءة:
تَغافَلْ إذا رُمْتَ وُدَّ الورَى
…
يدُوم فتُصْبحُ لِلْعِزِّ جارَا
زِمامُ المُروءةِ في كَفِّ مَن
…
تَغافُلَه يمْتطِي حيثُ سَارَا
وله:
وَلَّى الشَّبابُ حَمِيداً حين وَرَّثَنِي
…
مَجْداً وشِعْراً يُحاكي زَاهِيَ الحِبَرِ
إن جاد طَبْعِي بشِعْرٍ راقَ رائِقُهُ
…
لا تُنْكرُوا رِقَّةً في نَسْمَةِ السَّحَرِ
وله:
أوْصافُ مولانا سَقَتْ
…
ظَمْآنَ سَمْعِي كَوْثَرَا
كجَنَّةٍ مَعْشوقةٍ
…
للناسِ قبلَ أن تُرَى
وله:
لي سيِّدٌ مُتواضِعٌ لِغُلامِهِ
…
وعلى سِواهُ مُسْرِفٌ في كِبْرِهِ
ينْقادُ للغِلْمانِ في خَلَواتِهِ
…
مِثْلَ السَّفِينِ زِمامُه في دُبْرِهِ
وله:
وسارقٍ يسْرِقُ شِعْرَ الورَى
…
ويُتْبِع المَنْظومَ بالنَّثْرِ
ما اقْتَبسَ الآياتِ إلَاّ لِمَا
…
يأْلَفهُ من سِرْقَةِ الشِّعْرِ
وله:
قالُوا لِشاعرِك الذي
…
أهْدَى مَدِيحاً حَطَّ قَدْرَكْ
جَدِّد وُضوءَك بعدَ ذا
…
إنْ كان هذا الشِّعْرُ شِعْرَكْ
وله:
كلُّ الأمورِ لم تزَلْ
…
تكْبُر من بَعْدِ صِغَرْ
إلَاّ مصائبَ الورَى
…
تصغُر من بَعْدِ كِبَرْ
وله:
ومُباحثٍ في العِلْمِ من نَفَرٍ
…
لا يُدْرِكون مَباحِثَ النَّظَرِ
أعْرَضْتُ عنه كأنه عَلَمٌ
…
وتركْتُه بمَباحِثِ البَقَرِ
العرب تقول: تركته بمباحث البقر، إذا لم يعرف مكانه، وتقول: تركته بملاحس البقر، إذا ترك بمكانٍ لا أنيس به، وملاحس البقر: المواضع التي تلحس فيها بقر الوحش أولادها.
وله:
في دَوْلةِ وَصْلِ مُنيَتِي والهَجْرِ
…
قد حُقَّ لذا وحَقِّ رَبِّي شُكْرِي
في الوصلِ حَلَتْ حياةُ نَفْسٍ وصَفَتْ
…
والهجرُ به يُطِيلُ رَبِّي عُمْرِي
ولي أنا من هذا:
رمضانُ جاء فمَرْحباً بقُدومِهِ
…
شهرٌ بلغْتق بفضْلِهِ المَأْمُولَا
وأُجِلُّ مِنَّتَه عليَّ بأن أرَى
…
عُمْرِي النَّفِيسَ يزيدُ فيه طولَا
وله:
إن يكنْ أخْلَقَ الشَّبابُ ورَثَّتْ
…
جِدَّتي والنَّشاطُ في كلِّ أمْرِ
كم لبِسْتُ الشبابَ غَضّاً جديداً
…
ساحِبَ الذَّيْلِ في مَواسِمِ عُمْرِي
وله:
مَعْلُومِيَ المعلومُ يا سيِّدي
…
يحْفظُه الدِّيوانُ والدَّفْتَرُ
كأنه هَمْزَةُ وَصْلٍ بهِ
…
يُرْسَم في الخَطِّ ولا يُذْكَرُ
وله:
قد كنتُ في كَنَفِ الخُمولِ مُنَعَّماً
…
والآن أتْعَبنِي الْعَنَأ لمَّا حَضَرْ
كالحَرْفِ فَرَّ من الْتقاءِ السَّاكنَيْ
…
نِ لعُسْرِ نُطْقٍ في التَّلفُّظِ فانْكَسَرْ
وله:
أصبحتُ مَن يُبْصِرُني طَرْفُهُ
…
بكلِّ ما أمْلِكُه يَدْرِي
كسُلْحُفَاةٍ من مِيَاهٍ بَدَتْ
…
بَيْتِي وما أحْوِي على ظَهْرِي
وله:
رأيتُك تُعْطِينا الهِباتِ كتارِكٍ
…
لَدَى أهْلِهِ مُسْتَوْدَعاتِ الذَّخائِرِ
ودائعُ في حِرْزٍ من الدهرِ سالمٍ
…
وما ضاع جُودٌ مُودَعٌ عند شاكِرِ
وله:
يقولون إِن المَدَّ في أثَرِ الجَزْرِ
…
لِنُورِ بَدْرِ العصرِ في ساحلِ البَحْرِ
فما بَالُ بَحْرِ الدَّمْعِ يزْدَادُ مَدُّهُإذا غاب بَدْرُ الحُسْنِ في ظُلْمةِ الهَجْرِ
وله:
صَرَف اللِّحاظَ عن الوُشَا
…
ةِ إلى الكَئِيب وما يَسُرُّهْ
أبداً يَميِلُ إليهمُ
…
مَيْلَ المريضِ لِمَا يضُرُّهْ
وله:
وطُوفانِ ليلٍ مُذْ طَفًَا فيه مَوْجُهُ
…
طَفَا زَبَدُ الدهرِ المُزَيِّنِ للْخَضْرَا
تفَجَّر سَيْلُ الصبحِ من سَدِّ شَرْقِهِ
…
فمِن أجْلِ ذا يُدْعَى الصباحُ بهِ فَجْرَا
وله:
غَطَّتْ بساعِدٍ كماءٍ يجْرِي
…
وَجْهاً يفُوق الوَرْدَ تبَّ القَطْرِ
كبدرِ تَمٍ عند نصفِ شَهْرِ
…
غاب وقد لاحَ عَمودُ الفَجْرِ
وله:
قُل لِرَقيبٍ قد أتى لِصِببْيَةٍ
…
أرَقّ مَعْنىً من نَسِيمِ السَّحَرِ
باللهِ قُمْ لا تقْطَعَنْ حديثَهمْ
…
وتعْترِضْ بين الصَّبا والزَّهْرِ
وله:
بكَر النَّدامَى للصَّبُوح ونَبَّهُوا
…
أوْتارَهم تدْعُو لهم ضِعْفَ السُّرورْ
فتمطَّتِ الأغْصانُ من نَفَسِ الصَّبا
…
وتثاءبَتْ في الأرضِ أفْواهُ الزُّهورْ
وله:
مُذ زار مَن أهْواه في رَوضةٍ
…
أرْشَفنِي ثَغْراً هو الخَمْرُ
قالت لِي الأرْدافُ مِن خَلْفِه:
…
اليومَ خَمْراً وغَداً أمْرُ
وله:
سرَق المَنام بطَرْفِه الْ
…
فَتَّانِ ذُو الحُسْنِ الغَزِيرِ
طِرَازُ حُسْنِ حاذِقٍ
…
طَرَّ القلوبَ من الصُّدورِ
وله:
وحَقِّكُمُ مَدِيحِي في عُلاكمْ
…
له نَشْرٌ ببُرْدِ الدهرِ عاطِرْ
وعَرْفُ العُودِ يُخْبِر مَن رَآهُ
…
بِطيبٍ فيه تنْقُله المَجامِرْ
وله:
رَقَّ مِسْكِيُّ حُلَّةٍ فوقَ جسمٍ
…
رَقَّ حتى لَكاد باللُّطْفِ يجْرِي
فيه طَرْفِي مُنَزَّهٌ حين أبْدَى
…
بُرْدَ ظِلٍ على مَعاطِفِ نَهْرِ
وله:
رعَى اللهُ عَصْراً غاب عنِّي عَواذِلِي
…
به فَسرقْتُ الوَصْلَ في غَفْلةِ الدهرِ
أصائِلُ وَصْلٍ بَرَّدتْ بنَسِيمِها
…
من الكَبِدِ المَلْهوفِ هاجِرَةَ الهَجْرِ
وله:
تعلَّق قلبي في الغرامِ بصُدْغِهِ
…
فعَطْفةُ ذاك الصُّدْغِ وَقْفةُ خايِرِ
تعلَّق قلبي ليس يدْرِي قَرارَهُ
…
كأنّ فؤادِي في مَخالِبِ طائِرِ
وله:
كيف سُلُوِّي إذا تبدَّى
…
بوَجْهِ مَعْشوقيَ العِذارُ
والحُسْنُ في وَجْنتيْهِ غَضٌّ
…
ما اخْتلَف الليلُ والنهارُ
وله:
دَعَوْتُك يا خليلي للحضُورِ
…
فلا تبْخَل بتعْجيلِ السُّرورِ
فعْمْرُ الالْتقاءِ غدا قصيراً
…
فطَوِّلْهُ بأوقاتِ البُكورِ
وله:
يا صاحِ والشوقُ اسْتَعَرْ
…
إن فَتَّق الجَفْنَ السَّهَرْ
رَفَّاهُ خَيْطُ مَدْمَعٍ
…
له من الهُدْبِ إبَرْ
وله:
ويمْنعُنِي تقْبيلَ خَدَّيْه أنني
…
أخافُ إذا ما أبْصَرتْه النَّواظِرُ
فعلمَني تقبيل رِجْليْه إذْ مَشَى
…
وقد قبَّلتْ أقْدامَهُنَّ الضفَّائِرُ
وله:
فرَش الرَّبيعُ لنا خَمائِلَ سُنْدُسٍ
…
مِن حولها غُدْرانُهُنَّ فَراوِزُ
ومشَى بها سارِي الصَّبا مُتَسَلِّلاً
…
وعليه أعْيُنُ نُورِه تَتَغامَزُ
وله:
مَحَا اللهُ أقْطاراً من الجُودِ أمْحلَتْ
…
وكم قادرٍ فيها عَن الحَمْدِ عاجِزُ
وعاقِرَ أرْضٍ ليس يُولَد نَبْتُها
…
وكم وَلَدتْ فيها المَنايَا المَفاوِزُ
وله:
وكم ناسٍ بِمَوْتِ أُصولِهم قد
…
رَقَوْا رُتَباً لها شَرَفٌ وعِزَّهْ
كدُودِ القَزِّ أمْسَى في قبورٍ
…
لصاحبِها بها حُلَلٌ وبِزَّهْ
وله:
مَلَكْتُ من القَنْعِ كَنْزَ الغِنَى
…
وقال اصْطبارِيَ مَن عَزَّ بَزّ
فإن عَزّ ذو الجْاهِ من كِبْرِه
…
فَجَاهُ القَناعةِ عندي أعَزّ
وله:
حسَدتُ كِتَابي حين لاقَى أحِبَّتِي
…
بِعارِضِ خَطٍ دَبَّ في خَدِّ قِرْطاسِ
فقال على الأقْدامِ تسعى وتبْتغِي
…
مَقامِي وقد أمْسَيْتُ أسْعَآ على رَاسِ
وله:
الخَلْقُ سَفْرٌ والزمانُ مَراحِلٌ
…
خَطَواتُه في سَيْرِهِ الأنْفاسُ
والمَقْصِدُ الأسْنَى لهم دارُ الْبَقَا
…
دخَلتْه من بابِ الفَناءِ الناسُ
وله:
مَن يبْغِ طُولَ العمرِ لم يضْجَرْ بما
…
ساق الزمانُ له فكدَّر حُسْنَهُ
مَن كان يخْتار الحياةَ وطُولَها
…
فعلى النَّوائِبِ فَلْيُوَطنْ نَفْسَهُ
وله:
إن غاب مَن أهْوَى فلي مُسامِرٌ
…
مِن الأماني لم يَغِبْ عن مَجْلِسي
نِعْمَ الرَّفِيقُ أمَلي إن لم يَجُد
…
بنَفْعِه فهْو لَعَمْرِي مُؤْنِسِي
وله:
لأشْعارِ مصر بالتَّوارِي سَخافَةٌ
…
وكم لاح تَجْنِيسٌ بها وهْو تَنْجِيسُ
يقولون في الألفاظِ مِنَّا حَلاوةٌ
…
فقلتُ ولكن ذاك حَشْوٌ وتَلْبِيسُ
وله:
أفئدة الخلقِ على حُكْمِهِ
…
له رَعايَا والسَّرِيرُ الْحَشَا
مَلَّكه الحُسْنُ قلوبَ الوَرى
…
واللهُ يُؤْتِي مُلْكَه مَن يَشَا
وله:
أيُّها الَّلائِمُ دَعْنِي واسْتَرِحْ
…
مِن خليعٍ هو للنُّصْحِ عَصَى
لا تلُم في اللَّهْوِ والسِّنُّ عَلَا
…
واقْرَعِ العُودَ ودَعْ قَرْعَ عَصَا
وله:
يا صاحِ تَوَقَّ من فَواتِ الفُرَصِ
…
لا تَهْنَأُ عِيشَةُ امْرِىءٍ ذِي غصَصِ
فالوُرْق وإن غَدَتْ بعَيْشٍ رَغَدٍ
…
تبْكي وتنُوحُ دائماً في الْقَفَصِ
وله:
دهرُ سُوءٍ فيه ارْتفاعُ لَئيمٍ
…
وبَنانٌ من المَكارِمِ تُنْفَضْ
فَيَدِي قد غَسلْتُها من نَداهُ
…
وفمُ الجَفْنِ بالدُّمُوعِ تَمَضْمَضْ
وله:
ومَوْلىً له بالمُرْدِ قلبٌ مُوَلَّعٌ
…
يُصَرِّح طَوْراً بالهوَى ويُعَرِّضُ
ومُذ قال إن الحبَّ عنديَ آفةٌ
…
خَشِيتُ عليه أن يَمَلَّ فيُحْمِضُ
وله:
رعَى اللهُ عَوَّاداً إذا زار نادياً
…
غَدا لِجُموحِ اللَّهْوِ في الحالِ رَائِضَا
رأى طَرَبَ النَّدْمانِ أسْقَمه الهوَى
…
فَجَسَّ له نَبْضاً من العُودِ نابِضَا
وله:
وقومٍ لِئامٍ ليس لي فيهمُ رِضاً
…
وما فيهمُ شَيءٌ على قُبْحِه يُرْضِي
أُسائِل عنهم كلَّ مَن قد لَقِيتُه
…
سُؤالَ طَبِيبٍ ليس يعلمُ بالنَّبْضِ
إنما يسأل عن القارورة والبراز، فهو كنايةٌ بديعةز وله:
نَثِيرُ اليَاسَمِينِ من فوقِ بَدْرٍ
…
لِمُحِبِّيه بالخَلاعةِ باسِطْ
فحَسبْناه شَمْعةً أوْقَدُوها
…
وعليها فَراشُ لَيْلٍ تَساقَطْ
وله:
للهِ ما ألْطَفَه من زامرٍ
…
ينْشَق من عَبَقِ الإنْبِساطْ
كأنَّ إسْرافيلَ قد وكَّلَه
…
لِيبْعثَ الأرْواحَ من فَرْطِ النَّشاطْ
وله:
قلتُ لمَّا عَذَّبوه فَغَدا
…
مَثَلاً يُسْرِعُ في خَيطِ اخْتلاطْ
عُذْرُ مَولايَ الذي جاء به
…
مِثْلُ ضَمِّ الاسْتِ من بعدِ الضُّراطْ
وله:
كم هِمَّةٍ عاليةٍ
…
في الجدِّ لم تُفَرِّطِ
لا تَرْتَضِي بوَسَطٍ
…
فالدُّونُ جارُ الوَسَطِ
وله:
كتب الربيعُ على طُرُوسِ رِياضِهِ
…
صُحُفاً من التَّوحيدِ ما فيها غَلَطْ
وحَدَا السحابُ إِلى الحدائق قُدْرَةً
…
نَقّاشُها في الرَّوْضِ نَقَّطَ ثم خَطّ
وله:
ومَوْلىً أمْطَرتْ كَفَّاه غَيْثاً
…
لَدَى الأزَماتِ فهْو على اشْتِراطِ
ومَن يُحْسِنْ وقد فات احْتِياجٌ
…
كمن يقْضِي الصَّلاةَ على الصِّراطِ
وله:
قيل فلانٌ يَدَّعِي كَرَماً
…
ورِفْعةً والزمانُ فيه غَلِطْ
فقلتُ مات الكِرامُ فهْو كمَنْ
…
وَجَد البيتَ خالِياً فضَرَطْ
وله:
أمَوْلايَ كم من دُعاءٍ إلى
…
نَداكَ دعاءَ مُلِحٍ مُلِظِّ
تَخِذْتُك كَهْفاً لِمَا أرْتجِي
…
فما نِلْتُ منك سوى يومِ حَظِّي
وله:
وسحابٍ فيه بَرْقٌ
…
بعُيونِ النَّوْرِ تُلْحَظْ
خِلْتُه لمَّا تَبَدَّى
…
حَبَشِيّاً يتلَمّظْ
وله:
المَدُّ بعد الجَزْرِ قالوا إنه
…
يأْتِي من البدرِ المُنِيرِ الطَّالِعِ
صَدَقُوا فبَدْرِي في مَطالِعِ حُسْنِهِ
…
قد أوْرَثَ الأجْفانَ مَدَّ مَدامِعِي
وله:
إذا لم ألْقَ في أمْرِي شَفِيعاً
…
فتَرْكِي ما أُرِيدُ أجَلُّ شَافِعْ
أأخْشَى ضِيقَ صَدْرٍ من لَئِيمٍ
…
وصَدْرُ البِيدِ والطُّرُقاتِ واسعْ
وله:
لَعَمْرُك ما طال الوُقوفُ على الحِمَى
…
لِحِيرةِ فكري من دُرُوسِ المَرابِعِ
ولكنْ تمَشَّتْ في ذَراهُ عُيونُنا
…
تجُرُّ على الأطْلالِ ذَيْلَ المَدَامِعِ
وله:
تَواضَعْ تكنْ ممَّا يَشِينُك سالِماً
…
فكم جَرَّ نَفْعاً لِلَّبِيبِ التَّواضُعُ
وللإسْمِ بالتَّصغير جَمْعُ سَلامةٍ
…
وإن كان فيه قبلَ ذاك مَوانِعُ
وله:
أذْهَب نَقْدَ العمرِ حتى انْحنَى
…
يطلُب في التُّرْبِ لِمَا ضَيَّعَا
كأنما نَكَّسَ رَأْساً له
…
يُعاقِبُ القلبَ الذي ما وَعَى
وله:
قد انْحنَى الشيخُ لعُظْمِ الذي
…
حُمِّلَ مِن ذَنْبٍ له قد سَعَى
كأنما سلَّم من فَرْحةٍ
…
على رسولِ الموتِ إذ وَدَّعَا
وله:
مِيعادُك الفارغُ إن ساعَدَهُ
…
قولهمُ مَن أجْدَبَ المَرْعَى انْتجَعْ
أشْفِقْ عليه كم كذا تجُرُّهُ
…
ما بين يَأْسٍ زاجِرٍ لي وطَمَعْ
وله:
قالُوا المَنَامُ لم يزَلْ
…
بكلِّ تَأْويلٍ يَقَعْ
على جَناحِ طائرٍ
…
فهْو إذا قُصَّ وَقَعْ
وله:
أصْبَحْتُ في خَلَفٍ كجِلْدٍ أجْرَبِ
…
وبِمُهْجتِي داءٌ دوائي ما ابْتَغَى
حَلِم الأدِيمُ فليس يُجْدِي دَبْغُه
…
حتى يعودَ الْقارِظان فيُدْبَغَا
وله:
لمَّا رأَى القلبُ أهْوالَ الزمانِ وما
…
في اليأْسِ مِن راحةٍ بعد الْعَنَا فَرَغَا
لم تُجْدِ شَكْوَايَ إلَاّ ذِلَّةً وعَنَا
…
وليس أوَّلُ فَحْلِ أثْقَلُوا فَرَغَا
وله:
لا أطمعُ اليومَ وقد أصبحتْ
…
للهِ عندي نِعَمٌ سَابِغَهْ
لِرَأْسِ أطْماعِي تَبِيتُ المُنَى
…
تَدْهُنُ من قارورةٍ فارِغَهْ
وله:
فَدَيْتُك إن النفسَ تأْنَفُ أن تَرَى
…
رجائيَ في باب امْرِىءٍ مُتكفِّفَا
وليس يتمُّ الجودُ للحُرِّ مُوسِراً
…
إذا لم يكنْ في عُسْرِه مُتعَفِّفَا
وله:
أقول لِلَّهْوِ والصَّهباء قد مَنَعتْ
…
صَفْواً على رَغْمِ أنْفٍ للخَلِيعِ عَفَا
أغاب إبْلِيسُ مِن هذا المُصابِ لنا
…
ما ذاك إلَاّ لِطُولِ العمر قد خَرِفَا
وله:
أيْرٌ ككلْبِ الدارِ لمَّا جَنَى
…
وصار في فِعْلِ الْخَنَا ذا شَغَفْ
يقُوم للطَّارِي عليه ولا
…
يقومُ للإلْفِ الذي قد عَرَفْ
وله:
سقى اللهُ رَوضاً قد نَعِمْنا بظِلِّه
…
ولا جارَ إلاّ نَهْرُه المُتدَفِّقُ
إذا ما تغنَّتْ وُرْقُه وطيورُه
…
غَدتْ طَرَباً أيْدِي المِياهِ تُصَفِّقُ
وله:
قد شِبْتُ وعُمْرُ صَبْوتِي عن طَوْقِي
…
ما شَبَّ وطِفْلُه بمَهْدِ الشَّوْقِ
في غُصْنِ نَقاً إذا بدا عُنْصُرُه
…
في ماءِ مَشارِبِي حَلَا في ذَوْقِي
وله:
مِن تحت هَمْزةِ صُدْغِه ألِفٌ
…
مِن عارِضَيْهِ تملكَّتْ رِقي
عابُوه في حَلْقٍ لها عَبَثاً
…
مع أنَّها من أحْرُفِ الحَلْقِ
وله:
هذه الدنيا مَمَرٌّ
…
فيه للداخلِ طُرْقُ
ليس بيْن الموتِ في الأوْ
…
طانِ والغُرْبةِ فَرْقُ
وله:
شُجاعٌ إذا قام في مَعْرَكٍ
…
يزِيدُ اشْتعالاً لَدَيْه العِراكُ
فكم دَارِعٍ صادَه في الوغَى
…
كأن الدُّرُوعَ عليه شِباكُ
وله:
لَعيدُ الزمانِ وعُرْسُ الفَلَكْ
…
زمانُ كِرامٍ أضاءَ الحَلَكْ
وإن زَمَاناً به قد وَلِيتَ
…
لما تَمَّ دهرٌ بِبَخْسِ الفَلَكْ
وله:
إذا لُحْتَ قالتْ عيونُ الورَى
…
أَذَا مَلِكٌ طالِعٌ أم مَلَكْ
أرى زمناً كنتَ فيه العَمِي
…
دَ عِرْسَ الكِرامِ وعيدَ الفَلَكْ
وله:
كِلَا جَانِبَيْ هَرْشَي طَرِيقٌ لسالِكٍ
…
إذا لم يكن يَرْضَ مُقاماً على ذُلِّ
فإن كنتُ مأكولاً فكُنْ خيرَ آكِلٍ
…
ولا تنْتهِبْنِي نِهْبَةَ الذئب للسَّخْلِ
وله:
فَدَيْتُ دِياراً للأحِبَّةِ لم تَزَلْ
…
على القلبِ للقلبِ المُتَيَّمِ مَنْزِلَا
فليت تُراباً مَسَّها قَدَمٌ لهم
…
أراه بأفْواهِ الجُفُونِ مُقَبَّلَا
وله:
أمَلِي مُذ سَعى لِطُرْقِ المَعالي
…
وله الحِرْصُ والغَناءُ دَلِيلُ
قال يَأْسِي له اسْتَرِحْ فهْي طُرْقٌ
…
ما على المُحْسِنين فيها سَبِيلُ
وله:
يُعْلِي مَقامَ المرءِ خِفَّةُ ظِلِّهِ
…
وترى الثَّقيلَ مُحَقَّراً مَمْلولَا
أوَ ما ترى المِيزانَ يُرْفَع كلَّما
…
قد خَفَّ فاحْذَرْ أن تكون ثَقِيلَا
وله:
رأَى في طريقِ الرُّشْد شَبَّتْ بهامَتِي
…
فأوْقَد فوق الرأسِ منِّي مَشَاعِلَا
يخُطُّ به راءً لَدَى كلِّ شَعْرةٍ
…
تُنَفِّر عني كلَّ مَن كان وَاصِلَا
وله:
ناديْتُ وقد هَجَرْتُمُ يا ليلى
…
مُذْ طُلْتِ هَدَدْتِ بالتَّجافِي حَيْلِي
والدَّمْعُ بمُقْلتي لِنَوْمِي أفْنَى
…
والذَّنْبُ لنائمٍ بطُرْقِ السَّيْلِ
وله:
بجُودِه تغرق الآمالُ حين تَرَى
…
مَوْجَ النَّدى سال في النَّادِي لِمن سَأَلَا
له مَوائِدُ إحْسانٍ إذَا بُسِطتْ
…
تدْعُو الثناءَ إليها دَعْوة الْجَفَلَى
دعوة الجفلى هي الدعوة العامة، يجفلون إليها، والنقري: خلافها، قال طرفة:
نحنُ في المَشْتاةِ نَدْعُو الْجَفَلَى
…
لا تَرَى الآدِبَ فينا ينْتَقِرْ
وله:
أرى كلَّ ذي عَيْبٍ ونَقْصٍ لقد عَلَا
…
على كلِّ حُرٍ بالفضائلِ كُمِّلَا
كذلك عاداتُ الزمانِ لأجْلِ ذا
…
صفاتُ عُيوبِ الخلقِ في الوَزْنِ أفْعَلَا
وله:
ما فتح الوردَ بَنانُ النَّدَى
…
ولا نَسِيمٌ سَحَراً ناسِمُ
قراضةَ التِّبْرِ بِفِيهِ احْتَسَى
…
فهْو لذا فَرِحٌ باسِمُ
وله:
قيل في اسْمِ السَّلامِ رُقْيَةُ رَاقٍ
…
للأَفاعِي قد حَرّمْتها الأنامُ
وأنا قد رأيتُ رُقْيةَ فَقْرِي
…
حين ألْقاكَ أن أقولَ السَّلامُ
وله:
إنِّي إذا ما الْهَمُّ وَافَى إلىَ
…
مَضاجِعٍ شَرَّدَ عنها المَنَامْ
خَادعْتُ أيَّامِي بشُربِ الطِّلَا
…
فخِدْعَةُ الأيامِ شُرْبُ المُدامْ
وله:
مَن كان في الدهرِ له مَكْسَبٌ
…
فلْيَجْعلِ العَقْلَ بَرِيدَ المَرامْ
لكلِّ شيءٍ صَنْعةٌ أُحْكِمتْ
…
وصنْعةُ العقلِ اخْتيارُ الكرامْ
وله:
كُن لِمَا لا ترجُو أشَدَّ رَجاءً
…
وارْجُ رَبَّاً للعالمين كَرِيمَا
إن مُوسَى راح يقْبِسُ ناراً
…
كلَّم اللهَ رَبَّه تكْلِيمَا
وله:
قالوا الزمانُ غَدا قَصِيراً هل مَضَتْ
…
بَرَكاتُه أوْ زادتِ الآلامُ
ما ذاك إلَاّ أنه قد فَرَّ مِن
…
خَوفٍ وقد جارَتْ به الأحْكامُ
وله:
يتَبادَلان بِلَا رِباً إذْ أحْكَمَا
…
عِنْدَ المَحبَّةِ أيَّمَا إحْكامٍ
قُبَلٌ فَماً لِفَمٍ وصَبٌّ دائمٌ
…
ما بَيْن ذَيْنِ كفَرْدَتَيْ بَنْكامِ
وله:
ومُولَّعٍ بالدَّبِّ كَيْ
…
يسْرِقَ لَيْلاً خاتِمَا
وقد حكَى الطَّيْفَ فما
…
يزُورُ إلَاّ نائما
وله:
أُغْلِقُ الجَفْنَ حين زار خَيالٌ
…
منك كي لا يَفِرَّ من أجْفانِي
فيظُنُّ العَذُولُ أنَّ مَنامِي
…
زَارَني والمنامُ ليس يَرَانِي
وله:
صَبرتُ لخَطْبِ زمانٍ دَهانِي
…
وأفْنَى الَّلآلِي شَيْدُ والِي المَبانِي
فشَالَتْ نَعامتُهم بالرَّدَى
…
وفَرَّخَ رُوعِي بوَكْرِ الجِنانِ
وله:
وكم فِتْيةٍ نَجَّيْتُ من نار فِتْنَةٍ
…
وأنْقَذْتُهم من ظُلْمةِ الحَدَثانِ
أضاعُوا حُقوقِي ثم غُرُّوا بِذِلَّتِي
…
كأنِّي لديْهم خالدُ بن سِنانِ
وله:
ولم أنْسَ إذْ أهدَى النَّسِيمُ تحيَّةً
…
رقصَتْ لها طَرَباً غصونُ الْبَانِ
والسُّحْبُ قد نَسَجتَ رِداءً أدْكَناً
…
والبَرْقُ مَكُّوكٌ من العِقْيانِ
وله:
مُذْ هَجَرْتُم هَجَر الطَّيْقُ ولِي
…
نَاظِرٌ لم يَدْرِ ما طَعْمُ الوَسَنْ
في هَواكم ألِفَ الْحُزْنَ فلو
…
لم يجدْه مات من فَرْطِ الْحَزَنْ
وله:
أيها السَّائلِي عن النومِ إنِّي
…
لم أذُقْه من بعد ساعةِ بَيْنِي
أتَظُنُّ المَنامَ يدخُل جَفْنِي
…
كيف هذا وحُسْنُه مِلءُ عَيْنِي
وله في معنى قول الحسن: من ركب الليل والنهارفإنه يسار به وإن كان مقيماً:
لا تَظُنَّنَّ ذَا حياةٍ مُقِيماً
…
وهْو في رِحْلةٍ له بيَقِينِ
مَن مَطاياهُ ليلُه ونهارٌ
…
سائرٌ للفناءِ في كلِّ حِينِ
وله:
إذا غبتَ يا شمسَ المكارمِ والنَّدَى
…
وأظْلَمَ من أُفْقِ التَّواصُلِ هِجْرانُ
في كلِّ طَرْفٍ من خَيالِك صُورةٌ
…
وفي كلِّ عَيْنٍ مثْلَما قيل إنْسانُ
وله:
العينُ تَوَدُّ في جميعِ الأزْمانْ
…
لو تُبْصر طَرْفَه المريض الفَتَّانْ
تشْكو سُهْدَ النَّاعِساتِ الأجْفانْ
…
فالنَّومُ كما يقال حَقّاً سُلْطانْ
وله:
قالوا لِيَ اصْبِرْ لفادِح الأحْزانِ
…
فالحُزْنُ وما يَسُرُّ كلٌّ فَانِي
فارْقُبْ فَرَجاً فقُلتُ إنِّيَ أخْشَى
…
يأْتي الفَرَجُ إليَّ لا يلْقانِي
وله:
زارَنا الوَرْدُ في أسَرِّ زَمانٍ
…
فقَرَيْناه بابْنةِ الزَّرْجُونِ
وبُعَيْدَ الرَّبيعِ أطْفالُ نَوْرٍ
…
لَعِبت والخيولُ قُضْبُ غُصونِ
وله مضمنا، فيمن علق على جبينه باقة نرجس:
على وَجْه من أحْبَبْتُ أبْصَرْتُ نَرْجِساً
…
غدا بَاهِتاً يرْنُو له بعُيونِهِ
فيا حَبَّذا بلدرٌ بقلبِيَ نازلٌ
…
كأنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقتْ في جَبِينِهِ
وله:
يا حابِسَ الكأسِ في يَدَيْهِ
…
أنْعِمْ بِرَدٍ لِشارِبِيهَا
فَحَبْسُها في يدَيْك ظُلْمٌ
…
شَيَّبَ رأسَ الحَبابِ فِيهَا
وله:
حُسْنُ لِباسِ الفتى يدُلُّ على
…
مُروءَةٍ طَبْعُه بها زَاهِي
فبِزَّةُ المرءِ في تَجَمُّلِهِ
…
عليْه عُنْوانُ نِعمةِ اللهِ
وله:
تَوَقَّ السُّؤالَ إذا ما حَجَجْتَ
…
وفي جامعٍ تعْبدُ اللهَ فِيهِ
فمَن يسْألِ الناسَ عند الكريمِ
…
سواءٌ لَديْه ومَن يشْتكِيهِ
وله:
لمَّا رأيتُ الوزيرَ بالدُّنْيَا
…
أجْمَعِها قام وهْو حَاوِيهَا
عَرفتُ أن الدنيا تقومُ على
…
قَرْنٍ لِثَوْرٍ بإذْن بَارِيهَا
وله:
مَدحْتُه يوماً فنِلْتُ الغِنَى
…
بالوعدِ والإحْسانِ مِن فِيهِ
فقال لي لمَّا تَقاضَيْتُه
…
كِذْبٌ بكِذْبٍ لا رِبَا فِيهِ
وله:
مَنْزِلٌ ضَيِّقٌ ولا حُسْنَ فيه
…
غيرُ تَهْوِينِ ضِيقِ قَبْرٍ كَرِيهِ
مثل حَبْسِ الأرْحامِ مَن يَنْجُ منه
…
ما رأيْناه قَطُّ يدخلُ فِيهِ
وله:
قدَّر اللهُ أن أعِيشَ فريداً
…
في ديارٍ أُساقُ كَرْهاً إليْهَا
وبقلْبِي مُخَدَّراتُ مَعانٍ
…
أُنْزِلَتْ آيةُ الحِجابِ عليْهَا
وله:
كلُّ الورى جُرْدٌ سَلُوقيَّةٌ
…
لِصَيْدِ رِزْقٍ أبداً تَنْوِي
ووثْبةُ الأرْنَبِ كم خَلَّفتْ
…
كَلْباً على حِرْمانِه يَعْوِي
وله:
مَوْلىً إذا ما جئْتُ أبْوابَهُ
…
وفَضْلُه أصْبح لي دَاعِيَا
ظَلَّ أميرُ الشَّوْقِ لي آمِراً
…
وحاجبُ الْهَيْبةِ لي ناهِيَا
وله:
أتَيْتُك يا مَوْلايَ أبْغِي زيارةً
…
تسُرُّ على رَغْمِ الأعادِي الأمانِيَا
فإن كنتَ لم تُصْبِحْ لِيَ اليومَ آذِناً
…
فقد أذِنَتْ لي هِمَّتِي بارْتِحالِيَا
وله:
دَارِ الْبَرِيَّةَ إن تُرِدْ
…
شَرَفاً ودَعْ عنك الْحَيَا
إن الرِّياسةَ كاسْمِها
…
فاسْمَعْ أوائِلُها رِيَا
ومن مفرداته التي أجراها مجرى الأمثال:
دَارِ الأنامَ صغيرَهم وكبيرَهم
…
مَن لم يُدارِ المُشْطَ ينْتِفْ لِحْيَتَهْ
أرْسِلْ إذا أرْسلْتَ خِلَاّ حاذِقاً
…
إنَّ الرسولَ تُرْجُمانُ العَقْلِ
يَطِيبُ عَيْشُ المرءِ في حَيِّهِ
…
إن ترك التَّدْبيرَ والإخْتيارَا
مَن يتَّبِعْ رَأيَ الأمانِي
…
لم يَنْجُ مِن مَطْلِ التَّوانِي
كفَى ناظِراً للعَبْدِ أنَّ عَدُوَّهُ
…
يكون على حالٍ بها يَغْضَبُ الرَّبُّ
مَن يَزْنِ في حُلْمٍ يكُنْ جَزاؤُه
…
في حُكْمِ أهل الشَّرْعِ يُجْلَد ظِلُّهُ
كلُّ الورى صائدٌ ولكنْ
…
يختلفُ الفَخُّ والشِّباكًُ
البَيْعُ بالنَّقْدِ خيرٌ
…
وأوَّلُ السَّوْمِ رِبْحُ
كم ناصحٍ وصَف الطريقَ لِمُدلِجٍ
…
ويَنامُ عن سَنَنِ الطَّريقِ الواضِحِ
ومن يقعُدْ على طُرُقِ الْقوافِي
…
تَمُرُّ عليه قافيةُ الهِجاءِ
لا تكُن مُمْسِكاً حَبابَ رَجاءٍ
…
فالأمانِي بَضَائِعُ الْحَمْقَى
ولا خيرَ في مُلْكٍ بغيرِ مُدَبِّرٍ
…
تفرَّقت الأغنامُ إذْ ذَهَب الرَّاعِي
تَسْبيحُ عِلْقٍ زارَهُ لائِطٌ
…
أبْرَدُ أم سَجَّادةُ الزَّانِيَهْ
كلُّ مَن قَصَّر عَمَّا
…
نالَه الناسُ يَعِيبُهْ
ما يطلُب المرءُ بغيرِ حاجةٍ
…
تدعُو إليها الحالُ فَقْرٌ حاضِرُ
بلُحومِ الأنامِ مَن يتغَذَّى
…
ذاق جُوعاً من النَّدَى والمَعالِي
إذا ما تَّيسعَ الخَرْقُ
…
فأعْطِ الثَّوبَ رَافِيهِ
يروغُ في مِشْيةٍ ثَعْلَبٌ
…
ولو مَشى في رَبَضٍ خَالِي
إن لم يكُنْ في منزلٍ مُؤْنِسٌ
…
ما الفَرْقُ بين البيتِ والقَبْرِ
أيها النَّافخُ يبْغِي أنَّه
…
يُطْفِىءُ الشمسَ لقد أتْعَبْتَ فَاكَا
لسانُ كلِّ عاقلٍ في قلبِه
…
وقلبُ كلِّ جاهلٍ في فِيهِ
إن نصَحْتَ الصديقَ فانْصَحْه سِرّاً
…
كلُّ نُصْحٍ بين المَلَا تَقْرِيعُ
يا مَن سقَى مِن حَنْظَل عَسَلاً
…
أرَقْتَ في غيرِ طائلٍ عَسَلَكْ
مَن صحِب الدهرَ طُولَ عُمْرِهْ
…
لم يَخْلُ من خَيْرِه وشَرِّهْ
إذا كنتَ في بَلْدِةٍ لم تُرِدْ
…
مُقامَك فيها فأنتَ الأسيرُ
مَن لا له حَبِيبُ
…
فإنَّه غَرِيبُ
خيرُ السِّلاح ما وَقَى
…
إن الرشادَ في التُّقَى
إنما أشْتَهي لقاءَ حَبِيبٍ
…
أو لبيبٍ يشْفي الفؤادَ كلامُهْ
قيل لا جُهْدَ بَلاءٍ نازلٍ
…
مثلُ جارِ السُّوءِ في دارِ المُقامَهْ
مَن يُهْدِ للناسِ ثمارَ الغنَى
…
أهْدَوْا إليه ثَمَرَ الشكرِ
إنَّ رِضَا المرءِ على نفسِهِ
…
دليلُ سُخْطِ الخَلْقِ والخالقِ
وإذا ما كنتَ يوماً مُخْطِئاً
…
فاعْتِرافٌ بالْخَطَا عَيْنُ الرِّضَأ
ربما كان سارقانِ على المْا
…
لِ حَفِيظانِ مثلَ رَبِّ المْالِ
مِن أفضلِ التَّصدُّقاتِ بِرَّا
…
جُهْدُ مُقِلٍ لفقِيرٍ سَرَّا
لقد قيل إن الكبرَ والعُجْبَ مِحْنَةٌ
…
وذاك بَلاءٌ ليس يرحمُ صاحِبَهْ
إذا جاد لْلقوم رَبُّ الطعام
…
فماذا يكونُ امْتنانُ الطُّفَيْلِي
قل لِمَن في الخيْر أبْدَى جُهْدَهُ
…
الضِّمارُ اليومَ والسَّبْقُ غَدَا
إن لم يكنْ بين القلوبِ تجاوُزٌ
…
كان الجِوارُ قَرَابةَ الْحِيطانِ
لا تَصْحبنْ إلَاّ امْرَءاً عاقلاً
…
ينفع في الدنيا وفي الآخِرهْ
رحم الله صاحباً لِيَ أهْدَى
…
عَيْبَ نَفْسي قد كنتُ لستُ أَراهُ
ومن نوادره منظومته في الأمثال، سماها ريحانة الندمان.
منها:
مَن ينتسِبْ إلى العظيمِ عُظِّمَا
…
فالْجَأْ إلى اللهِ تكُن مُكَرَّمَا
تُصانُ عن كَسْرٍ وعن إمَالَهْ
…
مُجاوِراً سَعْداً وخيرَ حَالَهْ
ورُبّما يُكْسَر لْلجوارِ
…
ويُؤْخَذُ الجارُ بظُلْمِ الْجارِ
في زمن فيه الفُحولُ صَرْعَى
…
اسْتَنَّنتِ الفِصالُ حَتَّى القَرْعَى
خُذْ عِظةً من الزمانِ كم وَعَظْ
…
إن السعيدَ مَنْ بغيرهِ اتَّعظْ
ليس الغَنِي إلَاّ إذا صَفَا الكَدَرْ
…
هل ينظُر الغَرِيقُ في البحرِ الدُّرَرْ
فامْدَدْ على قَدْرِ الكِساءِ رِجْلَكَا
…
واقْطَعْ على طُولِ القَوامِ ثَوْبَكَا
قد مات أمْسِ وتقَضَّى أمَدُهْ
…
واليومُ في النَّزْع ولم يُولَدْ غَدُهْ
اتْرُكْ فتىً أخلاقُه أخْلاقُ
…
دَواءُ ما لا تشْتهي الفِراقُ
كم آلِفٍ مَن لم يكُنْ قَرِينَهْ
…
ضَرورةً كصُحْبةِ السَّفِينَهْ
مَن خطب الشَرَّ تزوَّج النَّدَمْ
…
ويسْتوِي منه الوجودُ والعَدَمْ
مَن يزْرع العِتابَ يَحْصُدِ الفِراقْ
…
وغِيرةُ الْحَمْقاءِ مِفْتاحُ الطَّلاقْ
كم زارع لراقدٍ قد أكَلَا
…
ومُوقدٍ ناراً وغيرُه اصْطَلى
مَنْ مَوْتُه عِتْقٌ من الآفاتِ
…
فلْيُؤْثِرِ الموتَ على الحياةِ
ما الخَطْبُ إلاّ للجَلِيلِ طارِقُ
…
مِن الأعالي تنزلُ الصَّواعِقُ
مَن لا يَقِيكَ غائباً أُذْناهُ
…
ليس تَراكَ شاهداً عَيْناهُ
وَسِّعْ عليك كلَّ شيءٍ يتَّسِعْ
…
فإنه مَن صَارعَ الدنيا صُرِعَ
قد يُنبِىءُ اللفظُ عن الضَّميرِ
…
واللَّحْظُ عن لَفْظٍ بلا تَعْبِيرِ
مَن نَفْسُه لِذلَّةٍ تُسلِّمُهْ
…
لا أكْرَم الرحمنُ مَ، يُكَرِّمُهْ
رِضَا الأنامِ غايةٌ لا تُدْرَكُ
…
أرْضِ الإله للسَّدادِ تَمْلِكُ
إنَّ اقْتنَاءَ المجدِ والمَناقِبِ
…
تكونُ في الصبرِ على العَواقِبِ
إنَّ المِزاح مُلْقِحُ الأضْغانِ
…
وكاسِفٌ مَهابةَ الإنْسانِ
فَضْلُ الأيادِي في النَّدَى قُروضُ
…
ووُدُّها في شَرْعِه فُروض
لا يعدَمُ الكريمُ أن لا يُحْسَدَا
…
والمالُ مَكذوبٌ عليه أبَدَا
إذا تَلاقَى الخطْب والأقْدارُ
…
يصْطلِحُ الغَرِيقُ والتَّيَّارُ
يَتْعب مَن يُجاوِرُ الأعْلَى المَحَلَّ
…
أما تَرَى الْخَصْرَ النَّحِيلَ والكَفَلْ
ورُبَّ شِرِّيرٍ لِقَومٍ يُصْلِحُ
…
إنَّ الحديدَ بالحديدِ يُفْلَحُ
إنَّ الجبانَ حَتْفُه مِن فوقِه
…
والثَّوْرُ يحمى أنفَه برَوْقِهِ
لا يتْركُ الحزْمَ اللبيبُ الأكْيَسُ
…
أن تَرِدَ الماءَ بماءٍ أكْيَسُ
والْحِرْصُ في كلِّ زمانٍ عانِي
…
والحِرْصُ والحِرْمانُ تَوْءَمانِ
شَيبُ الشُّعورِ زُهْرُ النُّجومِ
…
تُنْبِتُه غمائمُ الغُمُومِ
إن لم يجُدْ بوَصْلِه الحبيبُ
…
اصْطَلح العاشقُ والرَّقيبُ
أعْطِ أخاك إن قَدَرْتَ تَمْرَهْ
…
فإن أبى قبولَها فَجَمْرَهْ
تُؤدِّب الأشْرافُ بالهجْرانِ
…
ولم تُؤدِّبْ قطُّ بالحرْمانش
لا تصْحبِ المجْدُودَ بعد الْياسِ
…
فرُبَّما أعْداك بالإفْلاسِ
السادات البكرية سادات الوجود، وأولياء النعم الذين عرفوا بالكرم والجود.
بيتٌ كبيت العتيق يزوره من لبى وأحرم، ومن نال لثم عتبة بابه فقد ظفر بالحجر المكرم.
ثبتت أوتاده وأطناهب، ووصلت بأسباب السماء أسبابه.
لا زحاف فيه إلا في بيوت حساده، ولا يطأ إلا على رقاب أضداده.
حرمٌ آمن ليس للحوادث عليه هجوم، ولا لشياطين البغي فيه استراقٌ فلذا تستريح شهبه من الرجوم.
فهو نور الكون قبل أن يخلق النيران، وقطب الدائرة قبل أن تؤمر الأفلاك بالدوران.
خالصة الله من عباده أهل الصلاح، وتراب نعالهم كحلٌ لعيون أهل الفلاح.
ما منهم إلا فتىً لثوب العز ساحب، وللوقار من الصبا مصاحب، فإذا استوى على كرسيه فملكٌ عليه من المهابة قبل الحاجب حاجب.
بحاارٌ ظمت وعلت القلل متعهدة صوب العهاد، فتوارت البحار خجلاً منها في منخفض الوهاد.
ففي جيد الدهر من مدائحهم عقودٌ وقلائد، ليس إلا كلماتها شذرات وقوافيها فوائد.
فمنهم: أحمد بن زين العابدين شهاب أفقهم الثاقب، الكثير المآثر والمناقب.
رايات مشاهده على الآفاق مجلوة، وآياتٌ محامده بألسنة الإطلاق متلوة.
فما فتحت المحابر أفواهها إلا لتنطق ألسنة الأقلام بما مدحته به الأنام، ولا حبر الحبر بياض العطروس بسواد السطور إلا ليشير إلى أن من جملة خدمه الليالي والأيام.
إذا بدا للعيون أدهشها عن التملي حجابه المنيع، وإذا قابله الورد احمرت خدوده إذ أخجل الروض منه الصنيع.
وقد عودته بسط الكف فواصله، فلو أراد قبضها لم تجبه أنامله.
محاسن شيمه خلفها المعالي تسير، ومواطىء هممه كف الثريا إليها تشير.
وإذا رقَى نَجْدَ المعالِي وَاطِئاً
…
ثَهْلان مَجْدٍ في ذَرَاهُ فارِعَا
لم يَحْكِه شَرَفاً ولا ظِلٌّ له
…
فلذا يُعَفِّر منه خَدَّا ضَارِعَا
وكان يسير سيل الملوك، ويقلد من الترفة بأزهى السلوك.
في عزةٍ أشهر من مثل، وعن الملوك فلا تسل.
وقد ولي قضاء مكة فانضم إلى كعبتها كعبة، وبسط يده في المواهب حتى صير كعباً لا يبلغ في الجود كعبه.
فلا ينتهي من محمدةٍ حتى تكل الخواطر، ولا يرجع عن مأثرةٍ حتى تنقطع عن السير المطي الخواطر.
وهو في الأدب روض توشى ببرده الأخضر من نباته، ونظم النوار قلائده من جيد الجداول في لباته.
وله أشعارٌ أنسق من لؤلؤ المزن في فم الأقاح، وأعبق من عبير ورد الخدود والتفاح.
فدونك منها ما يسحب به الأدب ذيولا، وتأمن زهرات رونقه تغيراً وذبولا.
فمنه قوله:
صَبٌّ جَفاهُ هجُوعُه
…
والآن زاد وُلُوعُهُ
كتمَ الهوَى عن قَوْمِهِ
…
فوَشَتْ عليه دُموعُهُ
قالوا الحبيبُ مُمََّنعٌ
…
أحْلَى الهوى مَمْنُوعُهُ
لو ذاق رَضْوَى بعضَ ما
…
يَلْقَى لَذابَ جميعُهُ
فهو القتيلُ بحُبِّه
…
مُلْقَى الغرامِ صَرِيعُهُ
شيخُ الهوى بل كَهْلُه
…
بل طِفْلُه ورَضِيعُهُ
وقوله:
وحَقِّ حُمْرةِ خَدٍ
…
تُثِير بالقلبِ حُمْرَهْ
تُطْفي لخَمْرةِ ثَغْرٍ
…
بيْضاء في الكأسِ خُمرَهْ
تجْلل لخَمْرةِ فضلٍ
…
تُزِيلُ بالشُّرْبِ خَمْرَهْ
ومن ألغازه:
غَزالةٌ في بُرْدِها رافِلَهْ
…
تقْتنِصُ الأُسْدَ مِن القافلَهْ
في حَرَمِ الأمْنِ وقد خِلتُها
…
قائمةً بالفَرْضِ وبالنَّافِلَهْ
قلتُ لها: رِقِّي، فقالت لِمَنْ
…
كأنها عن مَطْلَبِي غافِلَهْ
ثم انْثَنتْ تُلْغِز لي باسْمِها
…
لُغْزاً به أفكارُنا كافِلَهْ
ما اسمٌ خُماسِيٌّ وتصْحِيفُه
…
شِبْهُ بُدورٍ لم تكنْ آفِلَهْ
في سُنَّةِ المُختارِ خيرِ الورى
…
بَيانُه وهْي له شامِلَهْ
في سِنَةٍ نَبَّهَ مُسْتيقِظاً
…
وإن تَشَا في سَنَةٍ كامِلَهْ
ومن نثره جواب لغزٍ في حوراء: أجدت أيها الجهبذ الهمام، وحليت بجواهر زواهر الدرر أجياد الكرام.
واستجليت على منصة فكرتك حوراء الجنان، واستخليت بها في المقاصير الحسان.
فافتر ثغر حنكها للقياك، وروت لك رواية بشرٍ عن الضحاك.
فصابح الله صباحة وجهك بوجهها الحسن، ولا زالت تخدمك المعالي بأنضر فنن.
وله في أشهب، كتبه إلى ابن عمه الوارثي، وكان مالكياً: ما علمٌ مفرد مركب، وضع لحيوانٍ يركب؟ إن رفعت رأس زمامه، دل على اسم جمعٍ ناريٍ في التزامه.
وإن أتيت برأسه إلى أقدامه، فاستعذ بالله من سهامه.
مع أنه على حقيقة الانفراد، إمامٌ تزيد فيه اعتقاد.
وتقتدي بأمره ونهيه وعدله، وقد أقر العلماء بفضله.
خصوصاً أهل مذهبكم الشريف، ولا يحتاج إلى تعريف.
وله جواب لغزٍ أرسله إليه الوارثي: بقيت أيها العلامة المصون بلفظ الخالق، تكتحل بإثمد مدادك المكنون عيون الحقائق.
وتسعى لديك جواريها جارية ولو جازت قصبات السبق، مطيعةً لأمرك في حالها وماضيها ومضارعها لاستقبال الحق.
ينتظم منثورها لديك انتظام العقود، ويتشعب أريضها تشعب المغايرة في منهلها المورود.
لأنك الفرد الذي زاد الله شرفه، ورقى في مراقي الكمال شرفه.
وكتب إليه: ما قولكم في حرامٍ ورد بالنص، وهو حلالٌ لكل شخص.
ومن أعجب العجاب، أن تفتخ به أولو الألباب.
نزلت في شأنه آياتٌ بينات، وأقيم بوجه الحرمة فيه دلائل واضحات.
ولا حد على من قال بحله، مع أن حده ثابتٌ بصحيح نقله.
شهدت بتحريمه علماء الملل، واعترفوا بالحل ولا زلل.
إن حذفت آخره تراه من الأوتاد، ويطلبه الزهاد والعباد.
فأجابه بقوله:
دُمْتَ مولايَ بالمَعارِفِ تُولِي
…
صَحْبَك الفضلَ في بديعِ الكلامِ
وعجيبٌ في النَّصِّ شيءٌ حَرامٌ
…
وهو حِلٌّ وواجِبٌ في الحَرَامِ
وهو في الْحَدِّ قائمٌ حيث يَحْمِي
…
كلَّ مَن جاءَه لِحْفظِ الذِّمامِ
هو بالنَّصِّ جائزٌ وحَرامٌ
…
بل وحَاوٍ لسائِرِ الأحْكامِ
وهو أيْضاً حقيقةٌ ومَجازٌ
…
وطريقٌ لَنْيلْ كلِّ مَرامِ
فيه أيضاً ثَوابُ سَاعٍ إليهِ
…
بل وفيه وَسِيلةُ الإسْلامِ
هَبْكَ بالقلْبِ تُخْلِصُ الوُدَّ فيه
…
هو نزْرٌ فيما له من مُقامِ
أخوه: الأستاذ محمد صاحب الحال والقال، ومن أعجز بوصفه فصحاء المقال.
فهو معدن الفضل الذي خلص عياره، وبحر العلم الذي لا يقتحم بسفن الأفكار تياره.
خلق كما أرادته معاليه، وتمنته أيامه ولياليه.
فلو صور نفسه في الوجود، لم يزْدها على ما فيه من الكرم والجود.
فاشتهر شهرة الفجر الصادق في الظلام، وجده أبي بكر الصديق في أهل الإسلام.
وهو خليفة الذي أسرع الأجواد لمحالفته ولم يستقم أمر خلافته مع مخالفته.
فما انقطعت الأقلام في خدمة باريها إلا طمعاً في جنات مدحه فواظبت على الخمس، ولا رأى الهلال ما في نفسه من العوج إلا قال اعتذاراً له من أين لي وصولٌ إلى مطلع الشمس.
على أن رأس الشمس شاب لانتظاره، والأنجم كلها مقلٌ منتظرةً لمحةً من أنظاره.
وكان له نوادٍ غاصة، ومجالس عامة وخاصة.
يستخلص فيها من رقت طباعه، وامتد فيما يليق بمكالمته باعه.
فيصفي ألبابهم بمحصول خيره، ويسكن قلوبهم بيمن طيره، ويغنيهم ما عاشوا عن مخالطة غيره.
في حضرةٍ تستنطق محاسنها الخرس، ونازلها متهيءٌ من موسمٍ إلى عرس.
يتنسم في الطلوع والعبو عن عبير، ويثني المعاطف من الحبور في حبير.
الرَّوضُ ما قد قِيلَ في أيَّامِه
…
لا أنَّه وَرْدٌ ولا نَسْرِينُ
والمِسْكُ ما لَثَم الثَّرَى مِن ذِكْرِهِ
…
لا أنَّ كلَّ قَرارةٍ دَارِينُ
فامتلأت أرجاء الوجود بأرج صفاته الملكية، وخضعت الصناديد الصيد لعتبة عزه الملكية.
وشدت فحول الرجال، نحو سدته الرحال، وكحلت بثراه أعينها بلا منة الكحل والكحال.
وأصبح للآمال ركناً ركيناً، وكهفاً تأوي إليه العفاة مسكينا.
في خِلْعةِ الزَّاهِي لِمَن شامَهُ
…
صَحِيفَةٌ عُنْوانُها البِشْرُ
بطَلْعةٍ تمتْلِي العَيْنُ مِن
…
إجْلالِها والقلبُ والصدرُ
وكان في الأدب ممن سلم له المقاد، وله شعرٌ سلم من النقد فإن قائله أنقد النقاد.
إذا ما قال شِعْراً تَاهَ عُجْباً
…
به بين الخَلِيقةِ كلُّ شِعْرِ
ولِلأْقلامِ كم قَصَباتِ سَبْقٍ
…
حَواها في الرِّهان بيَوْمِ فَخْرِ
فلم تُدْرِكْ غُباراً منه عَيْنٌ
…
ولم تَلْحَقْ به خَطَواتُ فِكْرِ
فمن شعره قوله، من قصيدة أرسلها إلى شيخ الإسلام يحيى المنقاري، أولها:
أمِسْكيَّةُ الأنْفاسِ أم عَبْقَةُ النَّدِّ
…
وناسِمةُ الأزْهارِ أم نَفْحَةُ الوَرْدِ
ونَشْوانةُ الألْحاظِ أم رِئْم حاجِرٍوثَغْرُ الْقَوافِي الزُّهْرِ أم لُؤْلُؤُ العِقْدِ
ومائِسَةُ الأعْطافِ أم خُوطُ بَانَةٍ
…
ووَجْهُ الذي أهْواهُ أم قَمَرُ السَّعْدِ
أعَزُّ بني الْعَلْياءِ قَدْراً ورِفْعةً
…
ومَن فرَعَ الشَّمَّاءَ مِن رُتْبةِ المَجْدِ
ومُقْتَعِدٌ مِن صَهْوةِ المجدِ سَابِقاً
…
إذا ما دَنَا حَدُّ المُطَهَّمةِ الْجُرْدِ
ومُعْتقِلٌ لِلْعِزِّ صَعْدَة عَزْمِةٍ
…
أنَابِيبُها رَعَّافةٌ بِدَمِ الأُسْدِ
ومُرْسِلُ أرْسالِ العَطايَا مُبارِياً
…
بأيْسَرَها وُطْفَ الغمائِم في الرِّفْدِ
أيا مُفْتِيَ السُّلْطانِ إنَّك واحدٌ
…
كَمالاً وهذا لستُ أشْهدُه وَحْدِي
وأنت ومَ يَهْواك في ذِرْوةِ الْعُلَى
…
بفَخْرٍ ومن يَشْناكَ في وَهْدةِ الطَّرْدِ
وإنَّك والرحمنِ حِلْفَةَ صَادِقٍ
…
لأمْثَلُ مَن أُهْدِي له دُرَرَ الْحَمْدِ
فلا زال أهْل العلمِ يَحْيا بفَرْعِكُم
…
بفْضلِ إلهٍ فَيْضُه زادَ عن حَدِّ
رعَى اللهُ أيَّاماً مَضَيْنَ كأنَّنا
…
بها قد غَنِمْنا العَيْشَ في جَنَّةِ الخُلْدِ
تولَّيْتَ فيها مصرَ تُوسِعُ أهْلَها
…
نَوالاً يفُوق النِّيل في وَاسِعِ المَدِّ
وعَزَّزْتَ فيها الشَّرْعَ آيةَ عِزَّةٍ
…
بحَدِّ حُسامٍ سُلَّ بالعِزِّ عن حَدِّ
فيا مَن له وُدِّي من الناسِ كُلِّهم
…
ومَن هو لي من بَيْنهم غايةُ القَصْدِ
ومَن صِرْتُ في مَدْحِي عُلاهُ كأنَّني
…
حَمامةُ جَرْعَا فَوْق مَيَّالَةِ المُلْدِ
على أنَّني ما فُهْتُ يوماً لِماجِدٍ
…
سِواه بشِعْرٍ لا بقُرْبٍ ولا بُعْدِ
ولكنْ دَعانِي الشَّوقُ لَبَّيْتُ دَاعِياً
…
وهذا وما أُخْفِيه بعضُ الذي أُبْدِي
ألِيَّةَ مَحْنِيِّ الضُّلوعِ على الأَسَى
…
تَحارُ الأُسَا فيما بَراهُ مِن الوَجْدِ
له زَفَراتٌ من فؤادٍ تضرَّمَتْ
…
بها نارُ شَوْقٍ دُونَها النارُ في الوَقْدِ
لأَنْت الذي ما حَلَّ في القلبِ غيرُه
…
ولا حَال حالِي فيه عن ذلك الْعَهْدِ
ولم تَرَ عَيْنِي مثلَه بَعْدَه وهل
…
يَمِيلُ إلى غَوْرٍ فتىً عاش في نَجْدِ
وأعقبها بنثرٍ، صورته: اللهم إني أسألك بأسرار التنزيل التي فاقت البحر والنهر، ويسرت بمعالم تنزيلها المدارك لتسهيل السبيل كل سؤدد وفخر.
وقضيت بكشف معارفها عن كشاف عوارفها لمن أصبح عادلاً وابن عادل، فما أفتى مفتٍ إلا وانفهق من من قلبه ينبوع الحياة وحصل منه الكمال بكمال الفضائل.
وما أعرب عما أغرب بباسقات تبيانه إلا وكان الدر المنثور، وما أطنب بكل كلامٍ أطيب إلا بفتح الرحمن الكفيل له بتيسير الأمور.
أن تمد حضرة مولانا شيخ الإسلام، الذي أحيى الله تعالى بوجوده مآثر العلماء الأعلام.
نخبة أرباب العلوم، والمحلى لجيد الدهر بقلائد المنثور والمنظوم.
صاحب المقامات الحسنة في ترغيبه وترهيبه من فعله الحسن، بادي الإرشاد بتنبيه الغافلين فيما ظهر وبطن.
فالدرر المنيرة من مواهبه اللدنية، المتفق عند الثقاة على دلائله منهاج التوضيح من فتح رب البرية.
ما اختلف في فضله اثنان، بل ائتلف على حبه كل إنسان.
مرسل أوصافه مسلسلٌ بكل كمال، وحديث أفضاله متصلٌ بالخبر في الغدو والآصال.
ضياء مشكاة أفكاره مشارق الأنوار، ومصابيح آرائه مضيئةٌ بالعشي والإبكار، بتنوير الأبصار والبصائر، المختار من خلاصة أهل العناية فلا أشباه له ولا نظائر.
فالدر والغرر من كنز بحر علمه الرائق، الجامع المحيط بما يقصر عنه نهر الحقائق.
الحائز من البداية أسرار الهداية، صدر الشريعة منشرحٌ بنقاية الوقاية وغاية النهاية.
تنقيح عباراته يبدي درر بحاره، وتوضيح تلويح إشاراته يهدي إلى الإسعاف بمنتقى اللطائف.
مجمع بحري العلم والعمل، ورمز الحقائق الموصل إلى خزانة الفقه بفيض الأزل.
فجامع الفتاوى يضيء من جوهره لبه المنير، وفتاوى ابن نجيمٍ من بياته برسم بنانه الكاشف عن سرة السرير.
منار الدين وصاحب الاستقصاء لفصول البدائع، بحر الأصول في المعقول والمنقول بل جمع الجوامع.
منهاجه قويم، ونهجه مستقيم.
وكيف لا وهو العضد وحاوي التحرير، أبكار أفكاره المستقصر من لب اللباب عند كل خبير.
فالنقود والردود من أبحاثه حاصله، ومرقاة الوصول لذي الأصول واصلة.
صاحب التمهيد والتجريد بالهداية إلى مواقف المقاصد، والمقامات العلية في آداب البحث لذوي العقائد.
فكم له من محاوراتٍ يحصل بها الشفا، لبيان حكمة العين ممن كان في غموضها على شفا.
قوي الطالع سامي العماد، سيدٌ في مطالع السعد على أولي الطوالع الأمجاد.
له المحاكمات الشمسية في تهذيب جميل الفرائد، المنتظمة في سلك تقرير الملخص للفوائد.
ذي المناهج الوافية بتحفة المودود، وطالع نظام السعد الذي هو أسنى المطالب في تحقيق المقصود.
عباراته الشافية مراح الأرواح، المشرقة بسناء الإيجاز التعريف الفائض للمصباح عز الموالي فالمنسوب إليه عزي الأفاضل، الآتي بما لم تأت به الأوائل.
لا غرو أنه مغني اللبيب، وتحفة الغريب.
ألفاظه الكافية في تسهيل الصلاة والعوائد، وموارده الصافية لكل وارد لتحصيل خلاصة القواعد.
ما قطر الندى إلا من بحر علمه البسيط، وجمع جوامع فوائده وافٍ محيط.
المنهل العذب لوارديه، والكافي الشافي لمريدي الارتشاف وطالبيه.
عصام الدنيا والدين، فوائده الضيائية عمدة أهل التمكين.
مجيب الندا لراجي همع عوارفه، ومجلي ظلمات الردى بإشراق نجمه السعيد في سماء معارفه.
عين أنموذج الكمالات، فكم أبدى كل ملحةٍ من عباب فكره الجامع لأشتات المكرمات.
عرائس أبار معانيه متحلية بشذور الذهب الخالص، المفضل بالدر النفيس الذي هو بعض ما فيه من الخصائص.
فما عقود الجمان لعروس الأفراح إلا كالمثل السائر، وما مصاح الإصباح على زهر الربيع إلا دون أسرار بلاغته في الضياء لكل ناظر.
فكل مطولٍ أو أطول في بيان فضائله مختصر، ودلائل شمائله لائحةٌ لكل منشٍ أراد الإطناب في مدحه البديع فاقتصر.
فما كل فصيحٍ وإن نطق بلسان العرب، وارتقى بمحاسن الصفات وتهذيب الأسماء واللغات أعلى مراتب الأدب، إلا قطرةٌ من عبابها الذي ليس له نهاية، وشذرةٌ من عقد صحاحها الجوهري اللامع سناؤه لأبصار ذوي الفضل والدراية.
ومجمل القول فيه أنه عين أرباب الفضائل، وتاج مصادر العرفان وصدر الأفاضل.
لا زال صاحب الحماسة والسماحة، وقوله المغرب في نقد الشعر المطرب مرجعاً لأهل البلاغة والفصاحة.
أما بعد؛ فإن الله تعالى عز وجل لما علم ما وهبكم من الكمالات السنية، واختار لكم من المقامات الزكية، خالط أرواح العلماء بمحبتكم، وجعل قوام أمزجتها مزيد مودتكم، حتى لقد كادت أشباحهم تسابق النسور إلى أعتاب عزتكم.
خدمةً ومحبةً، وتوجهات قلوبهم لم تزل ملازمةً لأبواب سعادتكم شغفاً ورغبة.
وعند المحب بما يعلم الله تعالى من الشوق، ما هو فوق الطوق.
ما هبت شمالٌ وصبا، إلا مال إليها وصبا.
على أن ملاك هذا الأمر كله سر التوالف بالعوارف المؤكدة، المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:" الأرواح جنودٌ مجندة ".
ولده زين العابدين هذا الأستاذ في العباد، كمصر حرسها الله تعالى في البلاد.
فكما هي محتويةٌ على العالم الأكثر، فهو وله الفضل منطوٍ على العالم الأكبر.
وإذا حققت فما هي إلا عبارةٌ عن ناديه، وما أصابع نيلها إلا من فضل أياديه.
محامده تخلدها أقلام الأقدار، بمداد الليل في قرطاس النهار.
وترسمها حداة القطار، في مسالك الأقطار، وبتذهيب الأسفار.
وزمانه هدية الفلك، ولطفه ينبىء عن خلق الملك.
وناديه فائدة كل فؤاد، وجاره أمنع من جار أبي دؤاد.
ألسنة الثناء بفضله منطلقة، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة.
وأياديه لا تزال تنشىء غض الأمل المقتبل، وأياديه عاليةٌ على الأيدي فلم يعلها من شيء إلا القبل.
فما قبلت له الأفواه كفاً، إلا لرؤيتها بحراً تطلب منه رشفا.
سقى اللهُ بَحْراً منه بالنَّيْل لم يزَلْ
…
يَفِيضُ لِرَاجِيةِ نَدىً ورَغائِبَا
وحَيَّي زماناً فيه غُرَّةُ وَجْهِه
…
تَحيَّةَ صَوْبِ المُزْنِ يَرْوِي السَّحائبَا
وكان قبل أن يشرف الشام بحلول قدمه، ويحييها بيمن طالعه الذي أضحت سعود الفلك من جملة خدمه.
لم تزل أخباره حظ القلوب والمسامع، وآثاره حلية الأفواه ورونق المجامع.
فتشتاق النفوس إليه شوقه لإسداء الجميل، وتشتهي لقاه شهوته سبق عطائه التأميل.
إلى أن عزم على زيارة القدس الشريف، وحلها فكسا بقاعها حلة الابتهاج والتشريف.
ثم عن له النهوض إلى دمشق لرؤية معاهدها، والتملي حيناً بمشاهدة مشاهدها.
فجرت بهذا العزم ذيل الفرح، وتسربلت برداء الجذل والمرح.
وودت أن يركب النجم السيار، ويمتطي الفلك الدوار.
لتقرب حركته، وتعود عليها وعلى أهلها بركته.
فابتدرت الفصحاء من أهاليها، تخطبه بفرائد الآثار من لآليها.
وكنت ممن تطفل باستدعائه، وفكره مصروفٌ إلى ثنائه ودعائه.
فكتبت إليه، أسبغ الله نعمه عليه:
أوْرَتْ يدُ البَرْقِ في الرُّبَى زَنْدَا
…
فَمِجْمَرُ النَّوْرِ ضوَّع النَّدَّا
ونام مِن نَبْتِها رَضِيعُ نَدَى
…
تهُزُّ أيْدِي الصَّبا له مَهْدَا
والطَّلُ في زَهْرةٍ يُضاحِكُها
…
لآلِىءُ ضِمْنَ مُدْهَنٍ يَنْدَى
وجدولُ الماءِ في مُفاضَتِهِ
…
قد سَردتْ دِرْعَه الصَّبا سَرْدَا
وما أرتْنا الجِنانُ حُلَّتَها
…
حتى أرتْنا في جِيدِها عِقْدَا
فحبَّذا طَلْعةُ الربيع وقد
…
ألْبَست الأرضَ وَشْيَها بُرْدَا
وحبَّذا الشامُ أرضَ مُؤْتلَفٍ
…
تُنْبِتُ حُبَّ القلوب والوُدَّا
إن أهْدَتِ الوردَ زَاهياً خَدّاً
…
أطْلَعتِ البَانَ مائِساً قَدَّا
من كلِّ قَيْدِ العيونِ مُمْتلِىءٍ
…
لُطْفاً عن النَّدِّ حُسْنُه نَدَّا
ترْتَع منه الأحْداقُ في نُزَهٍ
…
لا يبلُغُ الوصفُ ضَبْطَهَا عَدَّا
فانْتهِزِ العيشَ يا نديمُ فقد
…
وفَتْ لك الشامُ بالمُنَى وَعْدَا
انْظُر ترى الوقتَ صافياً وعَلَى
…
تَتِمَّةِ الحَظِّ آخِذاً عَهْدَا
ففي التَّباشِير أن يُزِّينَها
…
زَيْنُ العبادِ الذي حَوَى المَجْدَا
أجَلُّ مَن ينطِق اللسانُ به
…
شُكْراً وأوْلَى كلِّ الورى حَمْدَا
قد اسْترَقَّ النُّهَى بأنْعُمِهِ
…
فكلُّ حُرٍ أضْحَى له عَبْدَا
ما حَلَّ إلَاّ حَلَّ النَّدَى معَه
…
وأثمر الدهرُ للمُنَى سَعْدَا
مُذْ قِيل يَنْوِي للشَّامِ مُرْتَحَلاً
…
كادتْ إليهِ تسْعَى بنا وَجْدَا
وهَيَّأتْ في الثَّرَى لِمَوْطِئِه الْ
…
أعْيُنُ فَرْشاً ومَرَّغَتْ خَدَّا
فكُلُّنا رامِقُ البَشِيرِ لكيْ
…
نَبْذُل أرْواحَنا له نَقْدَا
النور وهو منير، والماء وهو نمير.
والروض وهو ناضر، والسحاب وهو ماطر.
والمراد وهو مريع، والزمان وهو ربيع.
أمثالٌ أوردت وأشباه، والمقصود أنت بلا ريبٍ واشتباه.
أنتَ المُرادُ ولا مُرادَ سِواكَا
…
فجميعُ ما نَهْوَى يكون فِداكَا
فأما النور فنور وجهك المضيء، وأما الماء فماء رونقك الوضيء.
وأما الروض فروض شئيمك وأخلاقك، وأما السحاب فسحاب إنعامك وإغداقك.
وأما المراد فمراد جبرك الذي تنعطف إليه القلوب، وأما الزمان فزمان خيرك الذي يتم به المطلوب.
وإذا كنت والمُنَى فيك
…
فما حاجةُ الورَى لْلأمانِي
وقد بلغنا خبر الحركة، المقرونة باليمن والبركة، فمرْحباً بالأماني والأمان، وسَقْياً ورَعْياً لهذا الزمان.
وذلك بمجرد بشارة، ومحض عبارةٍ في إشارة.
وأما خبر الوصول والحصول، فموجب الذهول للعقول، فلا ندري عنده ما نقول.
وبالجملة فحسبنا منك لحظة، ودعنا نوجم فلا نلفظ بلفظة.
فالله تعالى لا يحرمنا منها، ويصرف جميع العوائق والموانع عنها.
فلعمري إنها النعمة التي لا نقوم بشكرها، وما زلنا من حين الترعرع في طيب ذكرها.
والدعاء.
ثم ورد دمشق فدخلها في يومٍ أخذ زينته بزينه، ولم يبق ذو جسمٍ إلا والبشرى ملءُ قلبه والمهابة ملء عينه.
فأشرقت بنوره أرجاؤها، وامتد به أملها ورجاؤها.
وهرعت إليه أبناؤها من وجوه ناسها، يردون حضرةً احتوت من المحاسن على أنواعها وأجناسها.
فيتفاءلون بتلك الطلعة التي تقرأ منها نسخة الحسن، وتلمع في أساريرها أشعة النجاح واليمن.
فيبشرهم بابتسامه، قبل أن يبشرهم بكلامه.
ويحييهم بالنجح بإشارته، قبل أن يترجم لهم بعبارته.
فيشاهدون حظاً أقبل في معرض الكمال، وطالع سعدٍ قد طلع عليهم بنيل الآمال.
وكنت أنا ممن سارع إليه، أسرع من الكرم لطرفيه.
فاستخلصني لولائه اللازم واللازب، وربطني بإحسانه المتراكم المتراكب.
فما توانت لي في قصده مدة الإقامة قدم، ولم يعطل لي مذ شاهدته في ثنائه قلم.
وهو، حجب الله تعالى العيون عن كماله، وجعل اتفاق اليمن مقروناً بيمينه وانتظام الشمل معقوداً بشماله.
سَقانا به اللهُ وَبْل الْحَيا
…
فإنَّا إذا ما دَعَيْنَا سُقِينَا
ثم انصرف والأهواء معه، والثناء يملأ سمعه.
والأبصار على مرآه تزدحم، والأفواه على تقبيل يديه تقتحم.
فالله يعضده بتوفيقه، ويجعل السعد حزبه ورفيقه.
وقد وصلتني منه نسخة كتابٍ إثر وصوله، تقضيني الوفود عليه، والمثول لديه، وها هي:
هل تناسَى عَهْدَ المَودَّةِ أهْلُهُ
…
أو حَلِيفُ الجَوَى تَجافاه خِلُّهْ
والهوَى الكامِنُ الذي مَلَك اللُّبَّ
…
وما حالَ عن فؤادِي مَحَلهْ
أتُراه يَرْعى اللهُ طِيبَ عَهْدِ لَيالٍ
…
بحَبيبٍ يُجلُّنا ونُجِلهْ
ما أراها إلاّ كطَيْفِ خَيالٍ
…
مَرَّ بي مُسْرِعاً وما شِيمَ مِثْلُهْ
إن أبهى ما نطق به لسان اليراع، وأشهى ما تشنفت بدرره الأسماع، سلامٌ يخجل الربى في أويقات البكور، ويزري بما تحملته الصبا من نشر الزهور.
أرق من دمعة المشتاق، وأصفى من الصهباء بما تضمنه من مكارم الأخلاق.
وأشجى من لوعة العشاق، ريثما تطاولت الأعناق للعناق.
وتحياتٌ زكية، ومحبةٌ صادقةٌ صديقية.
أتحف بها ترجمان أهل الأدب، والبالغ أقصى غايات الكمالات في كل ما دأب.
المنطيق الذي أعجزت فصاحته كل لسن، ذا التحقيق الذي هو بكل براعةٍ قمن.
والذي يهدي برائع عبارته طيب الوصل بعد الهجران، ويلفى من براعاته روضاً أينعت منه الأزاهر بفينان وأفنان.
كأنما مخانق الدرر خلصت من ترائب الآرام فألقيت في حدائق محاوراته، والحور العين برزت في غرر تلميحاته بتلميحات مطارحاته.
لوذعي الفكرة الوقادة، ألمعي الفطنة المستجادة.
من فاق قساً وأعجز المتنبي، حبيبنا السيد أمين المحبي.
كان الله ظهيرا، وفي كل الأمور نصيرا.
وبعد: فإنا لله الحمد والثنا، في صحةٍ وعافية وأرغد عيشٍ وأهنا.
غير أنا ملوعوا الجوانح، متعلقةٌ آمالنا بالمطامع والمطامح.
لورودكم لهذه الديار، والتملي بطلعتكم الحميدة المرأى والآثار.
فنرجو من فيض فضل الله الغزير، أن يهيء لكم التأهب لهذه الديار إنه على كل شيء قدير.
فكتبت إلى جنابه:
كيف يَنْسَى عَهْدَ المَوَّدةِ خِلُّهْ
…
وهْو عن كلِّ ما سِوِى اللهِ شُغْلُهْ
يَرْتجِي به الرِّضا وحَقِيقٌ
…
بانْتماءٍ إليه يَنْجَحُ سُؤْلُهْ
يا رَعى اللهُ مَن بعَهْدِ هَواهُ
…
لِيَ منه الإسْعادُ والعِزُّ كُلهْ
بُغْيتِي منه أن أُمَرِّغَ خَدِّي
…
بثَرَى نَعْلِه الرفيعِ مَحَلُّهْ
فإذا أسْعَفتْ حُظوظِي فمِثْلِي
…
مَن يُباهِي الأيَّامَ بالفَضْلِ مِثْلُهْ
حضرة الأستاذ الذي حياتي بعهده مرتبطة، ونفسي بما يشتهيه مغتبطة.
إن لم أكن عنده، فقد استخلصني عبده.
فأنا أينما كنت، ما نقضت عهده ولا خنت.
نعم كان الواجب من رعى ذمته، أن أكون في بابه حليف خدمته.
فأسعى إلى سدته حبواً على القدم، وأستنهض في خطابه السان عوضاً عن القلم.
ثم لا أرضى له بباعي القصير، وعبارتي الموسومة بالعجز والتقصير.
حتى أكون استعرت ألسنةً تنطق حمداً وشكراً، واستنجدت أفئدةً توسع ثناءً وذكرا.
فكأن القول ذو سعة، والمغالاة هنا سنة متبعة.
وقد كان في حكم ما أولانيه الأستاذ من اعتنائه بشاني، واستدنائه لمكاني.
تبصراً منه بصلته، ورغبةً في مراعاة وصلته، أن أدع جميع المآرب جانبا، وأكون لجميع المشاهد سوى مشاهدته مجانبا.
لكن عدم الإمكان ثبطني عن هذا الغرض، وعاقني عن أداء هذا الواجب المفترض.
فأقمت معتكفاً على دعاءٍ أتخذه في أوقاتي ورداً، ولا أخلو من أماني لقاء الأستاذ التي أسقى بها على ظمأٍ بردا.
مقبلا بشفاه الأجفان مواطي نعاله، ذاكراً ما أسده لي من كرائم خصاله وجمائل فعاله.
وإذا لاحظت شخصه الممثل، وتصورت وده الموثل، أستقيم وأنحني، وأذكر أيام الحمى ثم أنثني.
وكانت لي حاجةٌ في ذمة زماني، ومأربةٌ بقيت في عهدة الأماني.
وهو ورود كتابٍ من الأستاذ يحل عقدة لساني في بيان ما أجد لبعده، ويتلافى في بعض رمقٍ ما كنت أحسبه يبقى من بعده.
حتى طلع كتابه فكان غيثاً كفى صيبه دعوة المستسقي، وماءً زلالاً روى بوروده ظمأ المستقي.
فكان أحسن من طلوع السعد، وأحلى من إنجاز الوعد.
فاتخذته مرتع ناظري، ومنتعش خاطري.
ونقلي إذا شربت، وداعيني إذا طربت، ومحدثي إذا خلوت، وعروسي إذا جلوت.
بل كان لي حظ الأماني من الزمان، وتوقيع النجاة من اليأس والحرمان.
فالله تعالى يبقى يداً وشته وحشته، ويديم راحةً مسته وجسته.
ثم فكرت في الجواب، وأنا متجرٍ جادة الصواب، فرأيت إن لم أجب، فما أديت ما يجب.
فأقدمت إقدام مذعور، وقدمت مقدمة معذور.
قائلاً: هذا ما انتهى إليه في العبارة جدي، وأنا على يقينٍ بأن هذا الشرط ليس من حدي.
على أنني لو أوتيت جوامع الكلم، لست ممن تخيل حصر كرام أوصاف الأستاذ أو علم.
ولا ممن قال له اليم الملتهم، أنا مدادك الملتطم، وقال مكنونه أنا درك المنتظم.
وأرجو من الأستاذ الصفح عن هذه الفرطة، والعفو عن الجناية التي ورطتني هذه الورطة.
فمثله من يقبل الأعذار، ويقوم بوجوده عن ذنب الزمان الاعتذار.
وأما مثولي بين يده، ووصولي بعد هذه المدة لديه، فبيني وبينه شهر الصبر، وأعزم لأحصل بمشيئة الله موسم الجبر.
وقد نويت أني لا أفارق تلك الحضرة، أو يفارق الآس الخضرة.
حقق الله سبحانه رجائي، وأمدني بإمدادات الأستاذ في علانيتي ونجوائي.
وفلان أحسن الله بقاه، وحفظه من كل سوءٍ ووقاه، شوقني بخبره إلى نظره، وبسلامه إلى كلامه.
فأنا أهدي إلى جنابه سلاماً كسلام أصحاب اليمين، وأودعه القلب على الثقة من أمين، إنه أمين، وعن الود لا يمين.
ولما تعلقت إرادة الله تعالى بمسيري إلى القاهرة المعزية، كان أول من اجتليت بها طلعته الزاهية الزهية.
فأنخت الراحلة في حماه، واقتصرت من أهاليها على التوسل برحماه.
فنزلت من النيل وساكنيه بمجمع البحرين، ونظرت إلى وجهه وإلى البدر فرأيت القمرين.
وفاتحته بقولي:
حَسْبُ مصرٍ فَخْراً على البُلْدانِ
…
وهْي أُمُّ الدنيا بشَيْخِ الزَّمانِ
سيِّدٌ أشْتفِي بتُرْبَةِ نَعْلَيْ
…
هِ إذا كت تقرَّحتْ أجْفانِي
وألحقتها بهذه القصيدة:
نُجْلُ العيونِ من الكَواعِبْ
…
أوْقَعْنَ قلبي في المَتاعِبْ
بأبِي غَوانٍ للنهَى
…
تُدْعَى السَّوالِبَ والنَّواهِبْ
الغَارِساتُ الْبَانِ في
…
خَلَل الرَّوادِفِ والتَّرائِبْ
والمُطْلِعاتُ البَدْرِ ما
…
بيْن السَّوالِفِ والْحَواجِبْ
هُنَّ الْقَواضِي بالرَّدَى
…
لَمَّا يُجَرِّدْنَ القَواضِبْ
من كلِّ رُودٍ إن بَدَتْ
…
تَخْفَى لطَلْعتِها الكواكبْ
تخْتالُ في مَرَحِ الصِّبَا
…
رَيَّا المَسارِبِ والمَساحِبْ
وتكادُ مِن لُطْفِ الأدِي
…
مِ تَسِيل مِن كلِّ الجوانبْ
ما أنْكَرتْ عهد الهوى
…
لكنْ تُسامِح في الرَّغائِبْ
وإذا أرادتْ طُول لَهْ
…
فِ الصَّبِّ أرسلَتِ الذَّوائِبْ
أبُثَيْنُ هل من عَطْفةٍ
…
لِمُولَّهٍ قَلِقِ الرَّكائبْ
حَمَّلْتِه ما لا يقُو
…
مُ بحَمْلِه الصُّمُّ الرَّواسِبْ
وأبَحْتِه لِعَنَا التَّغَرُّ
…
بِ فاغْتدَى إحْدَى الغَرائِبْ
رِفْقاً أيا قلبي بِقَلْ
…
بي في مَ إغْضاءُ المُجانِبْ
هَلَاّ أذِنْتِ بزَوْرَةٍ
…
لِلطَّيِفِ في جُنْحِ الغيَاهِبْ
فيروزُ مُضْنىً أقْلقَتْ
…
فيه فَلا الْبِيد النَّوادِبْ
ولقد رَعَيْتِ وما وَعَيْ
…
تِ عُهودَ هاتِيكَ المَلاعِبْ
أيَّامَ لم يَجْنِ الدَّلا
…
لُ على الهَوى غَلَطَ المُعاتِبْ
والعَيْشُ وَضَّاحُ السَّنَا
…
والدهرُ سَمْحٌ بالمطالِبْ
حتى اسْتحالَ وكُدِّرتْ
…
تلك المَوارِدُ والمشارِبْ
ونأَيتُ عنك ولِي حَشاً
…
لم يَدْرِ ما مَضَضُ النَّوائِبْ
أسْرِي وحُبِّي سائِقِي
…
أيَّانَ شاءَ مِن المَذاهِبْ
وأخُطُّ نُونَاتِ المُنَى
…
بِمنَاسِمِ الغُرِّ النَّجائِبْ
ورَجاءُ زَيْنِ العابدي
…
نَ وَسِيلَتِي لِحمَى المَآرِبْ
ذاك الهُمامُ أجَلُّ مَن
…
تسْعَى لِسُدَّتهِ الرَّكائِبْ
شَهْمٌ أحاط بكلِّ مَنْ
…
قَبةٍ بها تَسْموُ المَناقِبْ
مُتناسِقُ الأخْلاقِ بَا
…
دِي البِشْرِ فَيَّاضُ المواهِبْ
كم رَغْبَةٍ عَرَضتْ به
…
ما أعْرَضتْ عنها الرَّغائِبْ
فترُوض رَوْضَ فضائلٍ
…
بالْجُودِ مُخْضَرَّ الجَوانِبْ
يحْبُوكَ مِن ثَمَرِ المُنَى
…
غَضَّ الْجَنَى دَانِي الأطايِبْ
وشمائلاً عَطَّرْنَ أرْ
…
دِيَةَ الشَّمائِلْ والجَنائِبْ
كالغَيْثِ بَرَّاقُ المخَا
…
ثِل وهْو مُنْهَمِرُ الصَّوائِبْ
نِعَمٌ بها يُنْشِي النَّدَى
…
والرَّوْضُ تُنْشِيهِ السَّحائِبْ
ولَكَمْ له من نائلٍ
…
شَمِل الأقاربَ والأجانبْ
كالشَّمْسِ في كَبِدِ السَّمَا
…
تغْشَى المَشارِقَ والمَغارِبْ
مَوْلايَ أنت وأنتَ أنْ
…
تَ نِتاجُ مَفْخَرَةِ الحَقائِبْ
يا نَجْلَ صِدِّيقِ النَّبيِّ
…
وفَرْعَ زَهْراءِ المَناسِبْ
لك مِن أُصولِك رُتْبةٌ
…
فَخَرَتْ على كلِّ المَراتِبْ
وهمُ الذين تَبَوَّءُوا
…
في المجدِ هَاماتِ الثَّواقِبْ
نَطق الكتابُ بِمَدْحِهمْ
…
واسْتفْتحتْ بهم الكتائِبْ
فمدائحُ الأقوامِ غَيْ
…
رِهُمُ تُعَدُّ مِن المَثالِبْ
وعَلَ عِداهُم في الورَى
…
رَصَدانِ للقَدَرِ المُحارِبْ
ما اسْتَيْقَظُوا إلَاّ رَما
…
هُم بالمتاعبِ والمصاعِبْ
وإذا غَفَوْا أمَرَ الحُلو
…
مِ فَجَرَّدتْ لهمُ القَواضِبْ
مَوْلَاي يا مَن أرْتَجِي
…
هـ إذا تعسَّرتِ المَطالِبْ
طَوَّقْتنِي نِعَماً بها
…
أثْقلْتَ ظَهْرِي والمنَاكِبْ
فَلأشْكُرنَّك شُكْرَ مَن
…
جَعَلَ الثَّنا أسْنَى الرَّواتِبْ
وإليك غانِيةً تَها
…
دَى في مُصَنْدَلة الجَلائِبْ
فاسْتَجْلِ منها حُسْنَ مُنْ
…
عَطَفٍ لأسْرابِ السَّرائِبْ
واسْلَمْ كما سَلِمتْ صِفا
…
تُ عُلاكَ من كُلِّ المعائِبْ
تزْهُو بِمِدْحتِك الورَى
…
بيْن الأعاجِمِ والأعارِبْ
ولك الأمانِي غَضَّةٌ
…
والدهرُ مأمونُ العَواقِبْ
وكنت في أثناء الإقامة سافرت إلى رشيد، ثم عدت إليه بالرغبة، وما عدلت عنه للرهبة.
عود من عرف فضله، واستطاب ظله، ولم يحمد مباينته، ولا استوفق مجانبته.
فطاب العود والإبدا، ورجوت أن يروي تلك النوادي الأندا.
فإنه إذا كان أول من عرف تعبدي فجوده لعنان ثنائي ثاني، وإذا كان لي من ذراه مرابع فلي من خطابه مثالث ومثاني.
فرأيته في الثانية كالأولى، وحاله على أجمل ما عوده الله وأولى.
فالله يجريه على عادته الحسنى التي هي جبلةٌ نفيسة في نفسه، ويجعل كل يومٍ من أيامه مبشراً بالخير عن غده وزائداً فيه على أمسه.
فخاطبته مرتجلاً بقولي:
يا مَن هواهُم آخذٌ بأعِنَّتِي
…
وهمُ لقلبي في الورَى المَطْلوبُ
ذَنبُ الفِراقِ وقد ظفِرْتُ بقُرْبكم
…
فعلَى يَدَيْهِ من الزمانِ أتوبُ
وأخلق بمن جنح إلى الاعتراف والإقرار، ونزع عن التمادي والإصرار، أن تكون توبته مقبولة، وإنابته صحيحة غير معلولة.
وشتان بين المتورط الناصر لورطته، وبين النازع الراجع عن غلطته.
وقد اسْتطار إلى المعالِي مُدْرِكاً
…
مَن أنْهَضَتْه لنَحْوِه العَلْياءُ
طلَب النَّباهةَ في ذَراهُ فما لَهُ
…
إلَاّ لَدَيْه تأمُّلٌ ورَجاءُ
فكساني حلة فخارٍ وتجمل، وحملني من آلائه ما لم يبق لي معه تحمل.
واحتاز فؤادي أجمعه، بأن لم يجعل لأحد علي يداً معه.
فأنا عرافٌ بأن صرف الفكر لغيره عبثٌ ولهو، فإذا سجد يراعي لمدح سواه فسجدته سجدة سهو.
وقد أخذت عنه من فضلٍ يراعه الموشى للأوراق، ومحاسن بدائع التي تخفى خجلاً منها الشموس عند الإشراق، ما يضيق عن إحاطة وصفه نطاق الأرقام، وتنصضب عنده ليقة المحابر وتحفى أقدام الأقلام.
فمن ذلك كتابٌ كتبه إلى رئيس المنجمين، نادرة الفلك الدوار، وقطب فلك التحقيق الذي عليه المدار، المولى أحمد بن لطفي، حرس الله مهجته، وأدام رونقه، وبهجته:
الحمد لله أسمى الأسماء، العالم بمواقع النجوم والأنواء، الرحمن المتفضل بجلائل الآلاء، الرحيم بدقائق الإمدادات من الدرجات العلى.
والصلاة والسلام والتحية والثنا، على مركز دوائر الاهتدا، المنزل عليه:" والنجم إذا هوى " صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما طلع نجمٌ وما ركبٌ سرى.
والدعاء للدولة العثمانية، والسيرة العمرية، مواظبٌ من السلالة الصديقية، والحضرة الزينية، على ترادف الآنا.
وبعد: فقد اعتبرت كيوان في مراقي الاعتلا، وتوسمت برجيس في إشراق السنا وعلو السنا، وبهرام في سلطنة قهره المنيع الذري، والنير الشمسي عند خط الاستواء، وعروس الدوران الزهرة الزهرا، والقمر المنزل لتقدير الاهتدا، فرأيت جميعها ممتثلاً أمر ربه الأعلى، مسخرةً لخدمة هذا الرئيس فرادى وثنا، مذعنةً له يصرف سعودها ويصرف نحوسها كيف يشا.
فتثليث سعدها ينظر إليه من تربيع، وتسديس طالعها يطالعه من تسديس.
فلن تحول الدوائر الكثيفة، ولم تحجب ذوي الظلال الوريفة، بينه والعلى كيف شاء وارتضى، فهو أولى بأن ينشد ويقصد:
وقد عرفتْك فما بالها
…
تراها تَراك ولا تنْزلُ
ولو بِتُّما عند قَدْرَيْكما
…
لَبِتَّا وأعْلَاكُما الأسْفَلُ
وإذا فتح الله على هذا العالم الأصغر بإلهام الفراسة، وفتق له رتق الخاطر من الكياسة، لم ينطق عن الهوى، وكأنما هو وحيٌ يوحى.
ولما قدر الله تعالى بالقران السعيد، واستقام سير هذا الرئيس على سمت سيرنا ونظرنا إلى طابع هذا الرئيس من تسديس، ولحظ مقامنا الرفيع من تربيع، نظرنا له خصائص سلك فيها طرقا، وإن لم يأت بها غيره تخلقا أتى بها هو خلقا.
ونظرنا علمه الذي يطالع الغيب من وراء سترٍ رقيق، ويطلع على الضمائر من مكان لا سحيق.
فيرى بفضل حسه وقياسه، ما لا يراه حاذقٌ بإحساسه.
فقلنا: سبوح قدوس من شمسٍ تخجل شمس السنا، وتضاءل لها تضاؤل الإما، وتعلم أن ليس لها إلا المشاركة في الأسما.
وقد رأينا به العالم في واحد، وعلمنا أن الدهر للناس ناقد.
وأنه قد سعى أحمد سعى، وخدمه الجد ثم عاد إلى المحل الأعظم، والسدة العليا والمقام الأعصم.
فوصل وصول حبيبٍ غائب، ووقع وقوع غيثٍ صائب.
فاستقبلته دولةٌ كان فارقها ولم تفارقه، ولم نقل إنه وافقها ولم توافقه.
وقد علم أن المحبة التفاتاتٌ إلى متوجهه، وتشوقاً إلى ورود أنباء تنبي عن مكتنهه.
فمنها ما يفيد تجديد العهود السالفة، وما يفيد المودات المستقبلة الآنفة.
وقد علم الداني والقاصي، والطائع والعاصي، فضل جدنا الأعلى، ومجدنا الأسمى، وتمسك الماضين من سلاطين بني عثمان بولائنا واعتقادنا.
فشاع ذلك وذاع، وملأ الربوع والرباع، وعلمته الملوك والرعاع.
وخصوصاً هو، فإنه ملأ باعتقادنا صدره، وعلم خبر مددنا وخبره.
ثم إن سلطاننا الآن قان الدوران، وشهنشاه الزمان.
من حاز فضيلتي العلم والعمل، وبلغ من مزايا الدنيا والآخرة أقصى ما يمتد إليه الأمل.
ومما صح عنه بتواتر النقل، وشواهد العقل، محبة العلماء والفضلا، وإيثار النبهاء والنبلا.
وله فؤادٌ أنتم جنانه، ولسانٌ أنتم ترجمانه، ورأيٌ وأنتم قهرمانه، ومجلسٌ خاصٌّ وأنتم حاضرته وقطانه.
والملك يشتغل أحياناً في أن ينص، فيعذر أن لا يعم أو يخص.
والرئيس قد تمكن من المكانة حتى صار شمس مطالعه، ومنتهى مطامعه.
ولنا والحالة هذه به وصلةٌ تأكدت أسبابها، وتوثقت أطنابها.
تبعثه على نجاز متعلقات أغراضنا من ذلك المقام الأشم من مذكرات، تفضي إلى مكاتبات، ومودات تسفر عن إمدادات.
ولم ننبهكم أننا نبهنا غافلا، ولا استطلعنا آفلا.
لكنها الذكرى تنفع المؤمنين، لا كمكن لبث بضع سنين.
وهذه طلبةٌ لم نؤهل سواكم لأمثالها، ولا أطلعناه على مثالها.
بل ثقتنا بكم حملتنا على أن نطلعكم على تلك السريرة، فالأسرار عند الأخيار ذخيرة.
ولما بلغتنا مبالغكم العلية، قلنا نهنيكم بالدرجات السنية:
أُعْطِيَتِ القوسُ مَن بَرَاهَا
…
وبُوِّىءَ الدارَ مَن بَناهَا
ألْقتْ عَصاها ثم اسْتقرَّتْ
…
مِن بَعْدِ ما أبْعدَتْ نَواهَا
مِنَصَّةٌ ما رقَى عليها
…
مَن نال أمْثالَها شِفاهَا
فما لها كافِىءٌ سِواهُ
…
وما لَه كافىءٌ سِواهَا
يا مَن دَعَتْه العُلَى فَلَبَّى
…
وما تَوانَى وما تَلاهَا
هُنَّيتَ بالقَدْرِ والمَزايَا
…
وما سِواهَا وما وَراهَا
ومن شعره هذه المقصورة:
أساءَ فَأحْسَن فيما أسَا
…
لأنِّي أرى حالتيْه سَوَا
وواصَلنِي هَجْرُه والسُّهادُ
…
وهاجَرني وَصْلُه والكَرَى
وأنَّى تُسِيىءُ حِسانُ الوُجوهِ
…
حِسانُ القُدُودِ حِسانُ الرُّوَا
ومَن يَكُ مِثْلِي قصيرَ اللِّسانِ
…
فلِمْ لا يكون طويلَ الأسَى
وهيْهات أذكُر إلَاّ الجميلَ
…
وكيف أقولُ اسْتحال الضِّيَا
وهل يُحْسِن الفعلَ إلَاّ المَلِيحُ
…
وهَلْ يُذْهِب الداءَ إلَاّ الدَّوَا
كَلِفْتُ به عَرَبيَّ اللِّسا
…
نِ والوَجْهِ والأدبِ المُنْتقَى
ولكنَّه جَرْكَسِيُّ النِّجارِ
…
له ألْفُ خالٍ بأرْضِ الكفَا
إذا قال نَظَّمَ عِقْدَ البَيانِ
…
وإنْ جال فتَّتَ صُمَّ الصَّفَا
وإنْ صَال سُلَّتْ مُتونُ الظُّبَا
…
وإن خال كَلَّتْ جُفونُ الظِّبَا
وإن مَالَ قلتُ لِخُوطِ النَّقَا
…
إليكَ فلسْتَ بِخُوطِ النَّقَا
ألسْتَ تَرَى صَعَداتِ الرُّبَى
…
تَخِرُّ له سُجَّداً وهْي لَا
تُحرَّكُ أنت بهَبِّ الهَوَا
…
وذاك يُحرِّك منِّي الْهَوَى
ويهْتَزُّ عن ثَمَراتش الْجَنَا
…
وتهْتَزُّ عن ثَمَراتِ المُنَى
وأنتَ تَميدُ بريحِ الصَّبَا
…
وذاك يَمِيلُ برَوحِ الصِّبَا
وذلك يُورِق سُودَ الشُّعُورِ
…
وأوراقُ مِثْلِك جَزْلُ الغَضَا
وهيْهات هيْهات منك الْجفَا
…
وهيهات هيهات منه الوَفَا
ويبْعُدُ أن يجْتلِيكَ العِيانُ
…
تَولَّدُ منه صُنوفُ الصَّفَأ
ويا مَن رأَى طَيْفَهُ في المَنامِ
…
وإن كان زُوراً كمَنْ لا يَرَى
ويا سَعْدَ مَن باتَ في صَدْرِهِ
…
إلى الصُّبْحِ من أُولَيَاتِ الْعِشَا
يُغازِل منه عُيونَ الْمَهَا
…
مُتَرْجمةً بحديثِ الْهَوَى
ويجْنِي بِفِيهِ تُفَاحَ الخُدُودِ
…
وإن رام غيرَ جَنَاها جَنَى
يُقبِّلُه مِائَتَيْ قُبْلةٍ
…
دُوَيْنَ اللِّثامِ وفوقَ اللِّثَى
ويَرْشُفُ من ثَغْرِه قَرْقَفاً
…
يُسمُّون ضَرَّتَها بالسُّلَا
وينْظِمُ في الجِيدِ تِقْصارةً
…
فَرائِدَ مِن لَثْمِهش أو ثُنَا
يُعانِقُ منه قَضِيبَ الْقَوامِ
…
ويرشُفُ منه زُلالَ اللَّمَى
يُبلُّ بماءِ الشَّتِيتِ الشَّنِيبِ
…
ظَمَا كَبِدٍ أبداً في ظَمَا
فطَوْراً يمُصُّ كَمَصِّ الكُؤُوسِ
…
وطَوْراً بِرَشْفٍ كرَشْفِ الطِّلَا
يُباشِرُه مِن وراءِ الْقَمِيصِ
…
مُباشَرةً مِثْلَ طَيْفٍ الخِبَا
إذا ما وَلَي جِسْمُه جِسْمَهُ
…
فقد قابَلتْ بَرْدَ طُوبَى لَظَى
ويهْصِرُه مِعْطَفاً مِعْطَفاً
…
لِذَاتِ اليَمينِ وذاتِ الشِّمَا
ويُفْرِشُه زَنْدَ يُمْنَى يَدَيْهِ
…
ويجْعَل يُسْراه مِثْلَ الْغِطَا
فَماً لِفَمٍ مثلَ زَقِّ الْحَمامِ
…
وهيْهات يُشْبِه زَقَّ الْحَمَا
وصَدْراً لِصَدْرٍ ومن هَا هُنا
…
يَلَذُّ العِناقُ إلى ههُنَا
فثَمَّ احْتدَامُ وَطِيسِ الْغَرامِ
…
وثَمَّ مُثارُ لَهِيبِ الْحَشَا
وثَمَّ اغْتنامُ لذيذِ الوصالِ
…
وثَمَّ تَشاكِي أليمِ الْجَفَا
وبالصُّعَداءِ ووَضْعِ اليَدَيْنِ
…
على الكَبِديْنِ ترَى الاشْتِكَا
وبِالْعَضُديْن يَطِيبُ الْعِناقُ
…
وبالشَّفَتيْن يُبَثُّ الْجَوَى
وبالْقَمريْن فَرَعْنا الظّلامَ
…
وبالعُمَريْن عَرَفْنَا الْهُدَى
وبالْحَسنَيْن وتلك الْبَتوُلِ
…
وحَيْدرةٍ ثُمَّ أهْلِ الْعِبَا
أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا
…
ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى
أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً
…
تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى
أولئك ما مَفْخَرٌ في الدُّنَا
…
ولم يبْلُغوهُ ولا مُعْتلَى
أولئكمُ قد رَقَوْا مُرْتَقىً
…
تعالَى فما بَعْدَه مُرْتَقَى
أولئك آباؤُنا الأقْدَمُونَ
…
وأخْوالُنا وأُولاكَ الأُلَى
تُخومُ الجبالِ وزُهْرُ النُّجُومِ
…
مُتونُ الظُّبَا ورَوَاسِي الرُّبَى
بَنُوهم بَنُو بِنْتِ أبْنَائِهم
…
ونحن كذا أو بَنُونَا كذَا
وهل تَلِدُ النُّجْبُ إلَاّ النَّجِيبَ
…
وهل تُنْتَجُ اللَّيْثَ إلَاّ اللُّبَا
أولئكمُ آلُ بَيْتِ النَّبيِّ
…
نَبِيِّ الهدى وإمام التُّقَى
أولئكمُ نَسْلُ خَيْرِ الأنامِ
…
رئيسِ النَّبِيِّينَ والمُصْطَفى
منها:
وكيف تقول انْتَهى في الرُّقِيِّ
…
ولا حَدَّ ثَمَّ ولا مُنْتَهَى
ولكنه بلغَ المُسْتوَى
…
ولم أدْرِ ما بلَغ المُتسْتَوَى
وكَلَّمه وكَلامُ الإْلهِ
…
كصَلْصَلةِ الماءِ فوقَ الصَّفَا
وأوْحَى إليه وأوْحَى إليه
…
يُفِيدُ السِّرارَ وما مِن مَدَى
وثمَّ أمورٌ تُشِيب الوَلِيدَ
…
وترْجِع بالأشْيَبِ القَهْقَرَى
ولا تَقْفُ ما ثُمَّ لا تَمْشِ في
…
ولا تُعْدُوَنْ عن وصابِرْ عَلَى
ومَهْما أمَرْنا امْتثِلْ أمْرَنَا
…
وغُضَّ جُفونَك عن أمْرِنَا
فتلك شَناشِنُ أهلِ النُّهَى
…
فقُم بشَناشِنش أهلِ النَّهَآ
ولا تَعْدُ شُكْرَك إن كنتَ لا
…
تقومُ بحَمْدِك حَدَّ الكَفَا
وعن بابِنَا وإلى بابِنَا
…
وفي بابِنَا وفي بابِنَا وإلى بابِنَا
فنحن العِيانُ ونحن الْكِيانُ
…
ونحن الأنامُ ونحن الورَى
عَلَا جَدِّنا من عُلَا جَدِّنا
…
فيا سَعْدَنا ثم يا سَعْدَنا
ومن غزلياته قوله:
أبداً إليك يَحِنُّ قلبي
…
فعلى مَ تُؤذيني بعَتْبِ
يا قاسِيَ القلبِ الذي
…
فيه أذَبْتُ صَمِيمَ لُبِّي
أمْ أيُّ أمرٍ فيك أوْ
…
جَبَ طُولَ أعْراضِي وسَلْبِي
لا سامَح اللهُ الهوَى
…
فلَكْمْ يُصَوِّبني ويُصْبِي
يدعُو القلوبَ إلى هَوا
…
هُ فأيُّ قلبٍ لا يُلَبِّي
يا أيها التَّيَّاهُ في
…
زَهْوِ الهوى رِفْقاً بِصَبِّ
يُذْرِي الدُّموعَ ولا دُمُو
…
عَ تسِيلُ غيرَ مُذابِ قلبِي
يا جسمَ نَاسُوتِي ويا
…
رُوحِي ويا دائِي وطبِّي
أغْرَاك وَاشِيك الرَّقِي
…
بُ بطُولِ إعْراضِي وحَرْبِي
لا كان مَن أغْراكَ يا
…
مَوْلاي في قَتْلِ المُحِبِّ
فارْفُقْ بقلبٍ فيك يَقْ
…
لِبُه الهوَى جَنْباً لِجَنْبِ
وابْقِ على رَمَقِي فما
…
يَدْرِي بحالي غير رَبِّي
أنا والهوَى فَرَسَا رِها
…
نٍ فيك والأشْواقُ تُنْبِي
تاللهِ ما قال العِدَى
…
يا مُنيتِي بُهْتانُ كِذْبِ
لم يَجْرِ مِنِّي غير دَمْ
…
عٍ فاض من عَيْنِي بسَكْبِ
يا أُمَّةً للحُسْنِ فِي
…
هَا وَجْهُك الوَضَّاحُ نُبِّي
إن دام هذا الهجرُ والْ
…
إعْراضُ عنه والتَّأبِّي
في ذِمَّةِ اللهِ التَّقا
…
ضِي منك يومَ العَرْضِ حَسْبِي
وقوله:
أما وانْعِطافِ الغُصْنِ مِن هَيَفِ القَدِّ
…
وماءِ الْحَيَا والروضِ من جَنَّةِ الخُلدِ
وأقْداحِ أحْداقٍ تُدارُ بخَمْرةٍ
…
مُنَزَّهةٍ وَصْفاً عن الرَّسْمِ والحَدِّ
أما والهَوى العُذْرِيِّ والصِّدْقَ إنَّهُ
…
مُقيمٌ على تلك الصَّبابةِ والوَجْدِ
بأنَّ غرامِي والعَفافَ تخَلَّفَا
…
بلَغْتُهما قبلَ السُّكونِ إلى المَهْدِ
وأنِّي أيا ذات الجمالِ تعبُّدِي
…
بدِين الهوى التَّحْقيق مُعْتَقدٌ عندِي
ومِن حَضْرةِ الإطْلاقِ كنتُ فتىً على
…
يَقِينٍ بأنِّي مُطْلَقُ الحبِّ في القَصْدِ
فَنائِي به عَيْنُ البَقاءِ وغَيْبتِي
…
حُضورِي وغَيِّي في عَوَالِمِه رُشْدِي
وذُلِّي به عِزٌّ وأوْجُ سيادتي
…
إذا ما دَعانِي مَن هَويِتُ بيا عَبْدِي
فلا تعْترِضْ مَن هامَ في الحبِّ وافْترِضْ
…
عليك له التَّسْليمَ تسْلَمْ من الطَّرْدِ
وإنِّيَ زَيْنُ العابدين ووالدِي
…
محمَّدُ نَجْلُ الزَّيْنِ والصادقُ الوَعْدِ
بصِدِّيقِ خير المُرْسَلِين وسِبْطِه
…
بلَغْنا من الأنْسابِ واسِطةَ العِقْدِ
ببابِ عَرِيضِ الجْاهِ أعْظمِ شافِعٍ
…
وأكْرَمِ مَن أعْطَى وجادَ بما يُجْدِي
مَرَدُّ جميعِ الكائناتِ بأسْرِها
…
ومَعْنَى كمالِ الفضلِ من ذِرْوَةِ المجدِ
مَدَى الدهرِ ما شمسُ المعارفِ أشْرقتْ
…
مع الآلِ والصَّحْبِ الأئمَّةِ للرُّشْدِ
وما أقْسمَ الصَّبُّ المَشُوقُ بقولِهِ
…
أما وانْعِطافِ الغُصْنِ من هَيَفِ القَدِّ
وقوله:
شَرَّدْتَ من مُقْلتِي رُقادِي
…
كحَّلْتني مِرْودَ السُّهادِ
باتَتْ عِداك اللِّئامُ مِثْلِي
…
ليس بَياتِي على مُرادِي
بِتُّ كما تشْتهِي الأعادِي
…
وُقِيتَ ما تشْتهي الأعادِي
بِتُّ ويُسْرايَ تحت خَدِّي
…
وأخْتُها مِن على فؤادِي
كأنهم مَهَّدُوا فِراشِي
…
على كَوادِي شَوْكِ القَتادِ
كأنَّني عند وَضْع جَنْبِي
…
بِتُّ على نِيَّةِ الجهادِ
أبْكِي بما يخْلُف الغَوَادِي
…
إن قشَّعتْ سُحْبَها الغَوادِي
وقوله من خمرية:
ورَوْضٍ حَلَلْنا سُوحَه ساعةَ الفَجْرِ
…
ورِيحُ الصَّبا في صَوْبِ صَيِّبه تَسْرِي
وأضْحَتْ عيونُ المُزْنِ تبكي فأضْحكتْ
…
زُهورَ الرُّبَى منه فأهْدتْ شَذَا العِطْرِ
وصار شَقِيقُ الأُقْحُوانِ بِمجْمَرٍ
…
فأوْقَدَ نَدّاً فَوْجُه طَيِّبُ النشْرِ
وأصْبَح صَوْتُ العَنْدَلِيبِ مُخَبِّراً
…
هَلَمُّوا إلى دَاعِ الصَّبُوح بلا عُذْرِ
ودُوروا مع النُّدْمانِ في حَانِ دُورِهم
…
إذا جُلِيَتْ بِنْتُ المُدامِ من الخِدْرِ
وفُضُّوا خِتامَ الدَّنِّ عنها لكي يُرَى
…
على ساقِها مِن كأسِها عَنْدَمٌ يجْرِي
قديمةُ عَصْرٍ وهْي عَذْراءُ إذْ بَدَتْ
…
تُخَبِّرُ عمَّا كان في سالفِ الدَّهْرِ
لقد أعْجَزتْ عن وَصْفِها كلَّ ناطقٍ
…
لِسِرٍ بها قد قام يسْرِي من السِّرِّ
فنُورٌ ولا نارٌ وكأسٌ ولا طِلاً
…
شُئونٌ بها هامَ الكَلِيمُ مع الخِضْرِ
فمِن طِبِّها عيسى بنُ مريمَ قد شَفَى
…
لِمَن شَفَّه داءُ السَّقامِ بلا نُكْرِ
وأهْدَى لنا هادِي الهُدَى من سَنائِها
…
فهامَ بها السَّاداتُ نَسْلُ أبي بكرِ
فصارُوا جميعاً مِن ألَسْتُ بِرَبِّكم
…
نَشاوَى سُكارَى هائمين إلى الحَشْرِ
فخُذْ وَصْفَها منِّي وعنِّي فإنني
…
خبيرٌ بأوْصافِ المُعتَّقةِ البِكْرِ
فمَرِّيخُها في زُهْرَةِ الكأسِ إذْ بَدَتْ
…
يُرِيكَ ضياء الشمسِ كالكوكب الدُّرِّي
ودَوْرُ هلالِ البدرِ يُشْبِهُ جَامَها
…
وفيها حَبَابُ الدُّرِّ كالأنْجُمِ الزُّهْرِ
فهاك بها صِرْفاً وإن شئتَ مَزْجَها
…
فمِن رِيقِ ساقٍ فهْو للسُّقْمِ قد يُبْرِي
فدُونَكَها واقْبَلْ مَقالةَ صادقٍ
…
ومَن جَدُّه الصِّديقُ في الغارِ للطُّهْرِ
تسَمَّى بزَيْن العابدين وسِبْطُ مَن
…
هو الشافِعُ المَقْبولُ للناسِ في الحَشْرِ
عليه صلاةُ اللهِ ثم سلامُه
…
كذا الآلُ والأصحابُ مَن هم أُولُوا الفَخْرِ
وله:
نحن قومٌ تُبيدُنا الأعْيُنُ السُّ
…
ودُ على أنَّنا نُبِيدُ الأسُودَا
تتَّقِي بَأْسَنا الصَّناديدُ الصِّ
…
يدُ ونَخْشَى من الحِسانِ الصُّدُودَا
ولنا رُتْبةُ السيادةِ لكنْ
…
صَيَّرتْنا لها انْقياداً عَبِيدَا
إن نَثَرْنا تساقَط اللُّؤْلُؤث الرَّطْ
…
بُ فنَظَّمْنَه لَهُنَّ عُقودَا
أو نَظَمْنا أوْصافَهُنَّ أنا
…
شِيدَ أعَدْنَا بها لَبيداً بَلِيدَا
ما عَرَفْنا التَّقْليدَ مُنْذُ رأيْنا
…
هُنَّ يَمْنَحْنَ دُرَّنا التَّقْلِيدَا
خُطَباء مَصاقِعٌ فإذا قُلْ
…
نَ أمَلْنَا لهنَّ أُذْناً وجِيدَا
ثم نَعْيَى فلا نُعِيدُ ولا نُبْ
…
دِي وَقاراً لهنَّ قَوْلاً مُفِيدَا
تَتحانَى لنا الظُّهورُ فإن لُحْ
…
نَ غدَا ذلك الرُّكوعُ سُجودَا
شَحَذتْ مُرْهفاتِنا الأعْيُنُ النُّجْ
…
لُ فصَيَّرْنَهُنَّ بِيضاً وسُودَا
وتمايَلْنَ والرِّماحُ بأيْدِي
…
نا فقَصَّدْنَهُنَّ عُوداً عُودَا
وتَلَايَنَُّّ في الحرير فأدْمَيْ
…
نَ قُلوباً لنا تُليِنُ الحديدَا
وتَهادَيْنَ بالدَّلالِ فكم شِمْ
…
تُ بإدْلالِهشنَّ صيداً صِيدَا
وتمايَلْنَ مثلَ ما انْعطَف المُرَّا
…
نُ لكنَّهنَّ أحْلى قُدودَا
وتَبَرَّجْن فاجْتليْتُ حُلا
…
هُنَّ ومَيَّزْتُهُنَّ رُوداً رُودَا
ثم أهْوَيْتُ نحوَ واسِطةِ العِقْ
…
دِ فقالتْ أرَى قِراناً سَعِيدَا
فَتَرَشَّفْتُ ثَغْرضها الْقَرْقَفَ الحُلْ
…
وَوعانقْتُ قَدَّها الأُمْلُودَا
وبلغْتُ الذي على مِثْلهِ أعْ
…
ذِرُ مِن حُسَّدِي اللسانَ الحَسُودَا
وأنا ابنُ الصِّدِّيقِ جَدِّي ثانيَ اثْ
…
نَيْنِ في الغارِ فالجُدودَ الْجُدودَا
فالرِّضَا عنهمُ ومنهمْ وفيهمْ
…
وعليهمْ لهمْ بهمْ تَأْكِيَدا
وله:
قُمْ فإن الصَّباحَ للتَّنْفيسِ
…
ودَوَاعِيه قد سَرَتْ في النفوسِ
ونسيمُ الصَّبا رسولٌ إلى الرَّوْ
…
ضِ بِطَلٍ كَلْؤْلُؤٍ مَغروُسِ
والشَّحارِيرُ كالمَزاميرِ تشْدُو
…
كقُسُوسٍ تَدُقُّ بالنَّاقوسِ
فاجْتَلِ الرّاحَ للنَّدامَى سُحَيْراً
…
لترَى البدرَ طالعاً بشُموسِ
وأدِرْها بدُورَ حَانِ التَّصابي
…
من مُدامٍ عَتِيقةٍ خَنْدَرِيسِ
عانِسٌ وهْي في الحقيقةِ عَذْرا
…
ءُ عجوزٌ حديثُها في رَسيسِ
تتلظَّى غَيْظاً فتثنتجُ بِشْراً
…
حين أضْحَتْ تلُوحُ ضِمْنَ كُؤُوسِ
هي داءُ الهمومِ فاعْجَبْ لداءٍ
…
جالبِ الرِّيِّ مُذْهِبٍ لِلْبُوسِ
حدَّثتْنا من قبلِ أنْ يُخْلَقَ الكَرْ
…
مُ حديثَ التَّنْويعِ والتَّجْنيسِ
نارُ أُنْسِ الكَلِيمِ فاخْلَعْ نِعالاً
…
في حِماها مَعْ كلِّ مَولىً رئيسِ
فاز قومٌ بنُورِها وهُداها
…
وعن النُّورِ ضَلَّ رَأْيُ المَجُوسِ
كسَناها يهْدِي شَذَاها إلى الْحَا
…
نِ مُشِيراً لا عِطْرَ بعدَ عَرُوسِ
عاطِنِيها يَاقُوتةً بعدَ وَقْدٍ
…
كضياءِ المرِّيخِ في الحِنْدِيسِ
وهْي مِرْآةُ وَجْنتيْك لهذا
…
شَفَقُ الخَدِّ ظاهرٌ في الكُؤُوسِ
هاتِها بين فِتْيةٍ كبُدورٍ
…
كهلالِ البَنانِ كي يجِلّ بُوسِي
خمرةٌ شَأْنها تحلُّ بمْعنا
…
ها خَبايا كنوزِ ما في النُّفوسِ
بالَغتْ في صفاتِها القومُ ما ضا
…
ق اتِّساقاً به مَجالُ الدُّروسِ
بمَعانٍ تُشِير كالْحَدَقِ النُّجْ
…
لِ بَياناً بسِحرِ رَمْزِ الطُّروسِ
فاقْتَفيْنا آثارَهم مَعْ قُصورٍ
…
وانْتظمْنا في سِلْكِ كلِّ رئيسِ
فهْي بِكْرُ البَكْرِيِّ زَيْنُ عِبا
…
دٍ سِبْطُ مُخْتارِ صفوةِ القُدُّوسِ
فعليه الصلاةُ ما سار رَكْبٌ
…
لِحِماهُ من فوقِ بُزَّلِ عِيسِ
وعلى آلهِ الكرامِ وصَحْبٍ
…
قد تعالَوا به رئيسَ الرُّءُوسِ
وله:
بينما أذْكُر الْقَا
…
سِي وما منه أُقاسِي
عَنَّ لي أن أشْربَ الرَّا
…
حَ وأن أجْلُوَ كاسِي
فتَماشيتُ إلى الدَّيْ
…
رِ برَيْحانٍ وآسِ
وبشَمَّاسٍ يُدير الْ
…
كاسَ من غيرِ شِماسِ
ونَدِيم يذكُر النَّا
…
سُ به العهدَ النَّواسِ
ومُغَنٍ يُذْهِل الْحَا
…
سِي عن الخَمْسِ الحَواسِ
قَرَنَ الخَمْسَ إلى تِسْ
…
عٍ سُداسِي وخُماسِي
صُورةٌ جَمَّلَها اللَّ
…
هُ على كلِّ الأناسِي
صُورةٌ جاءتْ من الحُسْت
…
نِ على غيرِ قِياسِ
وإذا احْتال النِّطاسِيُّ
…
لها كَلَّ النِّطاسِي
أحْمَرُ الخدِّ كَحِيلُ الطَّ
…
رْفِ وَرْدِيُّ اللِّباسِ
فاتِرُ الطَّرْفِ وقد يَنْ
…
عَسُ من غيرِ نُعاسِ
غُصْنُ بَانٍ خَنِثُ الْ
…
أعْطافِ مَيَّاسٌ مُواسِ
يجبرُ اللهُ به كَسْ
…
رَ الأسَى من غيرِ بَاسِ
يتلافَىالْبائِسَ الْعا
…
نِي به من غيرِ بَاسِ
يَمْلأُ الْجاماتِ من
…
إسْفَنْطِه مَلْءَ الْعِساسِ
فسَبَأْتُ الخمرَ مِن دَيَّ
…
ارِهَا أبْلينآسِ
وبذَلتُ العقلَ في الرَّا
…
حِ له رأساً بِرَاسِ
فَبِيَ اسْتَوْثِقْ ولا تُلْ
…
قِ حِبالِي ومَراسِي
ثم لا تَنْوِ مُناوَا
…
تِي ولا تقصِدْ مِراسِي
فأنا الفَرْعُ الذي وُطِّ
…
دَ جَذْمِي وأسَاسِي
وأنا الغُصْنُ الذي طَا
…
ب نبَاتِي وغِراسِي
وأنا الناسُ وما كُلُّ
…
أُناسٍ بأناسي
أنا لَيْنٌ حُلْوٌ هَيْ
…
نٌ بَعِيدُ الغَوْرِ حَاسِي
أنا لا قَاسٍ ول
…
كنِّي إذا خُوشِنْتُ قاسِ
رفَعوني فأنا رَأْ
…
سِي كذاك الطَّودِ رَاسِ
وعلى الجُودِيِّ في السَّا
…
لِفِ ما تُلْقَى المَراسِي
ولِجَدِّي يُذْعنِ الْقا
…
سِي مِن شُمِّ الرَّواسِي
أنا زَيْنُ الْعابِدِينض بْ
…
نُ أبي بَكرِ المُواسِي
ومن موشحاته البديعة، قوله معارضاً ابن سناء الملك، في موشح له:
انْظُروا تَعْدِيلَ قاماتِ الغُصونِ
…
هذه بَانَهْ وهذِي خَيْزُرانَهْ
وَحِّدُواالرحمنَ ذا العرشِ المجيدِ
وأمِيطُوا اللَّبْسَ من خَلْقٍ جَديدِ
وانْظُروا تَورِيدَ تُفَّاحِ الْخُدودِ
واعْجَبُوا مِن حُسْنِ تَلْوينِ العُيونِ
…
تِلْكمُ حَانَهْ وهاتيكم كِنانَهْ
بِأَبي مُرُّ الجفَا بالدُّرِّ حَالِي
قَدْرُه قد حَطَّ مِن قَدْرِ العَوالِي
مَطْلبِي مِن ثَغْرِه كَنْزُ الَّلآلِي
رَصَّع المَرْجانَ بالدُّرِّ المَصُونِ
…
كلّ مَرْجانَهْ بأعْلَاها جُمَانَهْ
حَبَّذا مَن خَلْقُه الغُصْنُ الْوَضِيُّ
حبَّذا مَن خُلْقُه الغَضُّ الرَّضِيُّ
حبَّذا مَن جِسْمُه الْبَضُّ الطَّرِيُّ
حَبَّذا منه وُعُودٌ مِن جُفونِ
…
غيرِ خَوَّانَهْ مَوَدَّاتِ الأمانَهْ
أيُّها الَّلاحِي أما لِلْعَذْلِ عُذْرُ
سَلِّمِ الأمرَ فإن الأمرَ أمْرُ
ودَعِ الإنْكارَ فالإنكارُ نُكْرُ
كيف تلْحانِي على زَاهِي جَبِينِ
…
قَدُّه زَانَهْ وفُوهُ أُقحُوانَهْ
كيف تَلْحَى فيه زَيْنَ الْعابِدينَا
كيف تَلْحَى فيه كَنْزَ الطَّالِبِينَا
كيف تَلْحَى فيه نَجْلَ الصَّادِقِينَا
إنما عَذْلُك قلبي في شُجُونِ
…
مِثْلُ صَفْوانَهْ هَوَتْ من أُسْطُوانَهْ
أنا لي مَجْدٌ ولي جَدٌّ عَتِيقُ
ابنُ صِدِّيقٍ صَدُوقٌ وصَدِيقُ
ورَقِيقٌ أنا والشِّعْرُ رَقِيقُ
وجَوَارِي قُصَّدِي قُبُّ البُطونِ
…
كلُّ خَمْصانَهْ بألْفَيْ بَهْرمانَهْ
وصلاةُ اللهِ والتَّسْليمُ تَتْرَى
لِلنَّبِيِّ المُجتبَى كَنْزاً وذُخْرَا
والرِّضَا عن صحبهِ دُنْيَا وأُخْرَى
مَن له اللهُ بجبريلَ الأمينِ
…
زاد سُلطانَهْ وقَوى عُنْفُوَانَهْ
ومن مقاطيعه قوله:
لا تسألِ الناسَ مُعادَاتِهمْ
…
إن كنتَ لا تَرْضَى مُعاداتِهمْ
وعِفَّ عن شُرْبِ شَراباتِهمْ
…
مَن يسْألِ الناسَ شَراباً تُهِمْ
وله:
ولي حِلْمُ مَيّالٍ عن البَطْشِ قادرٍ
…
على العَفْوِ لم يخطُر سِواه بِبَالِهِ
إذا سَمحتْ بالمالِ يوماً يَمِينُه
…
أسَرَّ عَطايَا جُودِه عن شِمالِهِ
وقوله:
هي الألْحاظُ فاحْذَرْها وإلَاّ
…
دَهَتْك بَوابِلِ النَّبْلِ الهَتُونِ
إذا قلتُ ارْحَمِينِي قال قلبي
…
وهل في العِشْقِ يا أُمِّي ارْحمينِي
ومن أبياته المفردة:
الناس خوفَ الذُّلِّ في ذِلَّةٍ
…
وخَشْيةَ أن يَتْعبُوا في تَعَبِ
وله:
الناسُ مثلُ الناسِ لكنَّهم
…
طِباعُهم تُنْكرِها النَّاسُ
أحمد الوارثي الصديقي رأس حمله الحديث والفرقان، وشهاب الملة الذي لا يمكن أن يرى الفلك نظيره في ألف قران.
اشتهرت أحاديث فضائله فأصبحت رونق السير والأسمار، وظهرت أعلام علمه فلا تخفى إلا على أكمه لا يعرف الشموس والأقمار.
فكان له في الشهرة الفضل المقدم، وأقر له مع التأخر السابق الأقدم.
فرجع العلماء إليه رجوع الحديث إلى قتادة، وصدق الخبر الخبر فيما ألفه من الخير المحض واعتاده.
فلو تقدم عصره نزلت آي القرآن شواهد بفضله وآثاره، أو لحق الصديق الأكبر لقال: هذا وراثي بصدقه وإيثاره.
وهو من الأدب في مرتبة سنامه وكاهله، تحوم الآراء حول مراده فترتوي من مناهله.
وله نظمٌ ونثركما انتظمت الأنوار، بعد ما انتثرت عليها الأمطار، أو كما انتظمت الأطوار، بعد ما انتثرت من تشتت المآرب والأوطار.
فمن ذلك قوله:
ماذا تقولين فيمَن شَفَّه سَقَمٌ
…
مِن فَرْطِ حبِّك حتى صار حَيْرانَا
قد لَاذَ في الحبِّ حتى صار مُكْتئباً
…
والعشقُ أضْرَم فيه اليومَ نِيرانَا
هل يشْتفي منك بالثَّغْرِ الرَّحِيق إذاً
…
أو تتْركيه على الأدْنانِ نَدْمانَا
وقوله:
وإنِّي لَصَبٌّ بالقوافِي ومَدْحِها
…
ويبلُغ بي حَدَّ السرويرِ بَليغُهَا
وأطْيَبُ أوْقاتي من الدهرِ ليلةٌ
…
تُرِيع القوافِي خاطرِي وأُرِيعُهَأ
وكم بلَغتْ بي هِمَّتِي بُعْدَ غَايةٍ
…
يَعِزُّ على الشِّعْرَى الْعبُورِ بُلُوغُهَا
فما سَرَّني إلَاّ كلامٌ أُسِيغُه
…
بِمَسْمَع واعٍ أو مَعانٍ أَصُوغُهَا
وكتب إلى بعض وزراء مصر:
يا أيُّها المَوْلَى الوزيرُ ومَن له
…
مِنَنٌ حَلَلْنَ من الزَّمانِ وَثاقِي
مَن شاكِرٌ عنَّي يدَيْك فإنَّنِي
…
مِن عُظْمِ ما أوْلَيْتَ ضاق نِطاقِي
مِنَنٌ تَحِفُّ على يديْك وإنما
…
ثَقُلَتْ مَواهِبُها على الأعْناقِ
وله فيمن اسمه بدر:
سَمَّوه بَدْراً وذاك لَمَّا
…
أن فاقَ في حُسْنِه وتَمَّا
وأجْمَع الناسُ مذ رَأَوْهُ
…
بأنَّهُ اسمٌ على مُسَمَّى
وله:
وكم للهِ مِن نِعَمٍ
…
يعُمُّ الكونَ مَاطِرُهَا
تُذكِّرُنا أوائِلُها
…
بما تُولِي أوَاخِرُهَا
وله:
رُمْتُ حالَ الوَصْلِ أنِّي
…
لا أرَى للوصلِ آخِرْ
فَحُرِمْتُ الوصلَ رَأْساً
…
زاد بي الوجدُ فَحاذِرْ
ولده: محمد إياسي الزكن، عريٌّ عن العي واللكن.
رحب ذرعه، ودل على كرم أصله فرعه.
فهو قريع فخامةٍ وجلالة، ووارث الفضل لا عن كلالة.
ويرجع مع الأصل الأصيل، إلى أدبٍ لوصفه في فن الفضائل تفريع وتأصيل.
وقد وقفت على ديوانه، الذي سماه نزهة الأبصار، وروض الأزهار، فجردت من أحاسن أبياته، ما استحسنته لتوشية الطروس بإثباته.
فمن ذلك قوله:
حبيبي في التَّلطُّفِ بي يُحاكِي
…
مُطاوَعة الأَراكةِ للنَّسِيمِ
نديمٌ قد تملَّكني رَقِيقاً
…
وإنِّي عبدُ رِقٍ للنَّدِيمِ
يُعاطِينِي الحديثَ وخَمْرَ ثَغْرٍ
…
فَأسْكَر بالحديثِ وبالْقديمِ
وإن رام السُّلُوَّ فإن قلبي
…
صحيحُ الوُدِّ في جَسَدٍ سقيمِ
أقمتُ بحُبِّه ومَضَى عَذُولِي
…
فلا اجْتَمع المُسافِرُ بالمُقيمِ
وقوله في الغزل:
أُفَدِّي غزالي الذي غَزَا لِي
…
بسَيْفِ لَحْظٍ وما رَثَى لِي
هَزَّتْه رِيحُ الصَّبا سُحَيراً
…
فمَاسَ كالغُصْنِ في دَلالِ
وقام يجْلُو شمسَ الْحُمَيَّا
…
من رِيقِ فِيهِ شُهْدِي حَلا لِي
وجاء يهْتزُّ مثلَ غُصْنٍ
…
وقد سَقاني وقد مَلَا لِي
فصرتُ أشكُو النَّوَى إليه
…
وما نَوَى لي من المَلالِ
وقلتُ باللهِ يا حبيبي
…
انْظُرْ لِحالِي قد صار حَالِي
يا بدرَ تِمٍ بأُفْقِ سَعْدٍ
…
يا مُشْترِي القلبِ بالوِصالِ
حمَّلْتني في هواك ما لا
…
أفْدِيك خِلِّي بكُلِّ مَالِي
ومُرْسَلُ الدمعِ سال فَيْضاً
…
والقلبُ واللهِ ليس سَالِي
ومَقْصِدي أن أراك يوماً
…
ماذا على الدهرِ لو صَفَا لِي
يا قامةَ الغُصْنِ في اعْتدالٍ
…
يا طَلْعَة البدرِ في الكمالِ
لا عِشْتُ إن لم أكُنْ مُحِبّاً
…
أحْفَظُ وُدِّي ولا أُبالِي
وأرْتضِي في هَواك هَتْكِي
…
وأُنْفِقُ الرُّوَح ثم مَالِي
وله:
رُبَّ ساقٍ خَمْرةً مِن ثَغرِهِ
…
وثَناياهُ كدُرٍ أو حَبَبْ
أوْرَثَ العقلَ خَبالاً عندما
…
أن تَبدَّى لي بكأسٍ مِن ذَهَبْ
مَذْهبي فيه طِرازٌ مُذْهَبٌ
…
واصْطبارِي في هَواه قد ذَهَبْ
لَيِّنُ الأعطافِ قَاسٍ قلبُه
…
واللَّمَى يحْكِي ضَرِيباً أو ضَرَبْ
عَارِضاهُ أنْبتَبَا آساً وفي
…
وَجْنتَيْهِ أصبحَ الوَرْدُ عَجَبْ
وقوله:
ألِفُ الْقَوامِ ولامُ عارضِ مَن سَبَا
…
عقلي ومِيمُ الثَّغْرِ مَعْ صادِ المُقَلْ
إن جُمِّعُوا وغَدَوْا نَصِيبي مَرَّةً
…
من فيه ذاك شِفاءُ قلبي مِن عِلَلْ
فيه توليدٌ لطيف، وهذا النوع مما تظرف فيه الأدباء، ومنه قول بعضهم:
كأنَّ مُقلتَه صادٌ وحاجبَه
…
نونٌ وموضِعَ تَقْبِيلي له مِيمُ
فصِرْتُ أعْشَقُ من عِشْقي له صَنمَاً
…
وعاشِقُ الصَّنَم الإنْسِيِّ مَرْحُومُ
قال الزكي بن أبي الإصبع، في تحرير التحبير: إن أغرب ما سمعت في التوليد:
كأنَّ عِذَارَهُ في الخَدِّ لَامٌ
…
ومَبْسِمَه الشَّهِيَّ العَذْبَ صادُ
وطُرَّةَ شَعْرِه ليلٌ بَهِيمٌ
…
فلا عَجَبٌ إذا سُرِق الرُّقادُ
فإنه ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد، لفظة لص، وولد من معناها تشبيه الطرة بالليل وذكل سرقة النوم، فحصل توليدٌ وإغرابٌ وإدماج.
وأستحسن أنا فيه قول بعضهم:
تاللهِ ما لِمُعذِّبي في حُسْنِه
…
شَبَهٌ فأيُّ حَشاً عليه لم يَهِمْ
لَامُ العِذارِ وميمُ مَبْسمِه على
…
ما أدَّعِي من حُسْنِه بُرْهانُ لَمْ
ولابن جابرٍ الأندلس، معتذراً عمن لم يسلم:
لا تَعْتِبَنَّ على تَرْكِ السَّلامِ فقد
…
جاءَتْك أحْرُفُه كَتْباً بلا قَلَمِ
فالسِّيُن مِن طُرَّتِي والَّلامُ مَعْ ألِفٍ
…
مِن عارِضِيَّ وهذا المِيمُ مِيمُ فَمِي
وللوارثي:
أقْبَلَ المَحبوبُ يوماً
…
خاَطِراً نَحْوَ الْمُعَنَّى
مُفْرداً في الحُسْنِ فاعْجَبْ
…
منه فَرْداً يتَثنَّى
غصبه من قول ابن نباتة:
فريدٌ وهْوَ فَتَّانُ التَّثَنِّي
…
فيالَلَّهِ من فَرْدٍ تَثَنَّى
ومثله لابن العفيف:
هو لا شَكَّ واحدُ النَّاسِ في الحُسْ
…
نِ وإن كان قَدُّهُ يتَثَنَّى
وله:
بأبِي أفْدِي غَزالاً
…
مُكْثِراً للهَجْرِ والْبَيْنِ
عَارِضَاه صَيَّرانِي
…
هِمْتُ من وَجْدِي بلا مَيْنِ
من قول البدر الدماميني:
لَامَا عِذارَيْكَ هما أوْقَعَا
…
قَلْبَ المُحِبِّ الصَّبِّ في الْحَيْنِ
فَجُدْ له بالوَصْلِ واسْمَحْ له
…
ففِيكَ قد هامَ بِلَا مَيْنِ
أبو الإسعاد يوسف الوفائي أحد السادات بني وفا، الذين اربى قدرهم على أهل الدنيا وأوفى.
تميزوا في الأولياء تميز الملوك في الأجناد، وجردوا عزمهم فكان فرنده النقي وغمده تبسيم الأجياد.
سقى عهودهم بالماء الطاهر، وتحلوا بحليتي الباطن والظاهر.
فإذا اقتسم الفضل وشرف الخصال، فللناس منهما الأسماء ولهم الأفعال.
وإن ذكر المدح والثنا، فكلهم يعرفون في الوصف الجميل بالكنى.
فليت شعري بأي وصفٍ أصفهم، ولو جمعت جيوش البلاغة لم أكن أنصفهم:
ولولا أنَّ في الأشْياءِ ما لَا
…
يُنالُ بكَدِّ نَفْسٍ واجْتهادِ
كتبتُ ثَناءَهم بسَوادِ عَيْني
…
مَخَافَةَ أن يُدَنَّسَ بالمِدادِ
وأبو الإسعاد هذا رونق منتسبهم العالي، وبهجة منتداهم الذي أطلع ثمر المعالي.
جمال عصره، ويوسف مصره.
عطف سماحه مياس، ونيل كفه جارٍ بغير مقياس.
فهو في الروض إذا ذوى ناضر العود، ولدى الحوض وإن خوى أسعد السعود.
ولعين الرجاء نزهةٌ في روض مساعيه الخصيبة الرحاب، ولآثاره عليه ثناءٌ كثناء الرياض على غر السحاب.
فتتشوق النفوس إلى تلك الشيم، تشوق الجدب إلى فيض الديم.
والجود حسن السادة الكرام، كالحسن يدعو الناس إلى الغرام.
فلله ما وهبه العز من تجمله به وتحليه، وتبرجه بآرائه وتجليه.
بوجهٍ لا يحاسنه شيءٌ في الإشراق، ومعالٍ من ادعاها لزمته جناية السراق.
فهو يثير بشيم اللطف، وينيل بالديم الوطف.
ويهتز للأدب عطف بانه، ويضطرب لمجتديه كأنما نادمه ابن بانة.
وله من رائق النظام، ما هو كالثريا في الانتظام.
فمنه قوله:
لَحِيِّ أهلِ الْوَفَاءِ سِرْ بِي
…
فإن فيه غَزَالَ سِرْبِ
مِلْ بي إلى نَحْوِهم وعُجْ بِي
…
سَلِمْتَ مِن فِتْنةٍ وعُجْبِ
قومٌ بهم ما حَيِيتُ دَائِي
…
وهم دَوَائِي وعَيْنُ طِبِّي
وهم شموسُ العُلَى افْتخاراً
…
بفَيْضِ كَسْبٍ وفَيْضِ وَهْبِ
وهم سحَابُ الرَّجَا مَطِيراً
…
إذا اشْتكَى الدَّهرُ عَهْدَ جَدْبِ
ولَاحَ سِرُّ الوفاءِ منهم
…
عَوْناً إذا سامَ دَفْعَ كَرْبِ
فهم عِياذِي وهم مَلاذِي
…
لكلِّ هَوْلٍ وكلِّ خَطْبِ
وليس لي عنهُمُ غَنَاءٌ
…
وهكذا حَالةُ الْمُحِبِّ
وقد رَضَوا لي سَلْبِي سِواهُمْ
…
فاشْهَدْ مَقامَ الرِّضا وسَلْ بِي
لا نِلْتُ مِن قُرْبِكم وِصالاً
…
إن لم أمُتْ فيكمُ بحُبِّي
غَمَرْتُمونِي بكلِّ فَضْلٍ
…
وقد عَمَرْتُم رُبوعَ قلبِي
وهكذا تفعلُ الْمَوالِي
…
إذا رَعَوْا ذِمَّةً لِصَبِّ
وقوله:
قَسَماً بكم يا سادتي وغَرامِي
…
ما حُلْتُ عن عَهدِي لكم وذِمامِي
وأنا المُقيمُ لكم على عَهْدِ الوفَا
…
وعلى هَواكُم تَنْقضِي أيَّامِي
غيري يُغَيِّرُه الجَفاءُ عن الهوى
…
فيَمِيلُ نحوَ مَلامةِ اللُّوَّامِ
وأنا الذي لو مُتُّ فيكم لم أحُلْ
…
عنكمْ ولا يَثْنِي المَلامُ زِمامِ
يا سادتِي عَطْفاً على عَبْدٍ لكم
…
فعَسَاكمُ تحْنُوا على الْخُدّامِ
فالقلبُ في نِيرانِ تَبْرِيحِ الجَوَى
…
يَصْلَى وجَفْنِي مِن جَفاكُمْ دَامِي
أرْضَعْتُموني دائماً ثَدْيَ الرِّضَا
…
ويَشُقُّ من بَعْدِ الرِّضاعِ فِطامِي
فعلى مَ أظْهَرْتُم إهانةَ عَبْدِكم
…
مِن بَعْدِ ذاك العِزِّ والإكْرامِ
ما زَلَّ بي قَدَمٌ وإن زَلَّتْ فكَمْ
…
غُفِرتْ لَدَيْكم زَلَّةُ الأقدامِ
قَسَماً بفضْلِكُمُ عَليَّ وإنه
…
لِذَوِي المَعارِفِ أعظمُ الأقْسَامِ
بسِواكمُ ما لِلْفُؤادِ تَعَلُّقٌ
…
أنتم مَرامِي دونَ كُلِّ مَرامِ
يا عَاذِلِي ذَرْنِي فإني كُلَّما
…
زِدْتَ الْمَلامَ عليَّ زادَ هُيامِي
كيف التَّسَلِّي عن هَواهُم بَعْدَمَا
…
سَكَنَ الهوى في مُهْجَتِي وعِظامِي
مَن رامَ فَضْلاً يَأْتِهِمْ مُتأدِّباً
…
يَحْظَى بهم ويفوزُ بالإكْرامِ
إنِّي لأَطْرَبُ من مَدِيحِ صِفاتِهمْ
…
فأمِيلُ نَشْواناً بغير مُدَامِ
إنْ أعْرضُوا فأنا الصَّبُورُ وإن أبَوْا
…
فأنا الشَّكورُ بِخُلَّتِي وغَرامِي
شُرِّفْتُ حين غَدَوْتُ مِن خُدّامِهمْ
…
ورَقِيتُ في الإسْعادِ خيرَ مَقامِ
ومن مطولاته قوله:
حَيِّهِمْ إن جِئْتَهم يا سَعْدُ حَيّ
…
فهمُ أهلُ الوفَا في كلِّ حَيّ
عِشْ بهمْ صَبّاً ومُتْ في حُبِّهمْ
…
مَن يَمُتْ في حُبِّ حَيٍ فهْو حَيّ
هُم مُلوكُ الأرضِ سَاداتَ الورَى
…
فاَرْوِ عنهم واطْوِ ذِكْرَ الْغَيْرِ طَيّ
لم يزَلْ إحْسانُهم يغْمُرُنا
…
مُطْلَقاً بالفَيْضِ في نَشْرٍ وطَيّ
كم كذا ألْطَافُهم تَأْتِي بما
…
فيه لِلْقَلْبِ شِفاءٌ ودَوِيّ
لَفْظُهم والجودُ ذَا فيه شِفَا
…
لِذَوِي السُّقْمِ وذا فيه رَوِيّ
مِن كِلَا هذين لا أبْرَحُ لي
…
سَكْرَةٌ فارْوِ لهم عن سَكْرَتَيّ
أنا منهمْ لم أزَلْ مُكْتسِباً
…
كُلّ ما يُنْسَبُ في الخيرِ إلَيّ
فسَناهُم لَامِعٌ في فِكْرَتِي
…
ونَداهُم هَامِعٌ في رَاحَتَيّ
طَرَقَتْنِي نَفْحة مِن سِرِّهم
…
فكَسَا ضَوْءُ سَناهَا أصْغَرَيّ
صَيَّرتْني مُنْشِئاً مُرْتَجِلاً
…
كلُّ ما أطلُبه في قَبْضَتَيّ
أسْعَدَ اللهُ بهم فِكرِي فلا
…
يعْترِيِني قِصَرٌ في سَاعِدَيّ
وَاجِبٌ عنديَ أنْ أسْعَى علَى
…
بَصَرِي حَقّاً لهم لا قَدَمَيّ
يا لِسانِي أدِمِ المَدْحَ لهم
…
دائمَ الدهرِ ويا فكرِي تَهَيّ
أنا واللهِ مُحِبٌّ لكمُ
…
صَدِّقُوني ليس بعدَ اللهِ شَيّ
مُخْتَفٍ حُبُّكمُ في مُهْجتِي
…
عن جميعِ الخَلْقِ إلَاّ مَلَكَيّ
لا يخفى أنه أراد المعارضة لابن الفارض، ولكنه بحكم عارض المحبة بقي تحت ذيل العارض، وبيت الفارضي:
كان لولا أدْمُعِي أسْتغْفِرُ اللَّ
…
هَ يَخْفَى حُبُّكم عَن مَلَكَيّ
مُذ مَنَحْتُم بِوَفاً دون جَفاً
…
فلذا أنْسَيْتُمونِي أبَوَيّ
وسَقانِي كَفُّكم كأسَ نَدىً
…
مِن رَحِيقٍ بَرْدُه وَسْطَ حَشَيّ
دام مِنِّي المَدْحُ يأْتِيكُم علَى
…
سائق الأظْعانِ يَطْوِي الْبِيدَ طَيّ
عبد الرحيم الشعراني خلاصة جيله، الواجب أمر تعظيمه وتبجيله.
وآل بيته الأخيار، رونق السير وطلاوة الأخبار.
لهم نفوسٌ بالأسرار الروحانية عارفات، إذا كان لغيرهم منها عارفةٌ فلهم منهم عارفات.
فما زالوا يطلعون من أخلافهم، ما يبقى به ذكر أسلافهم.
وهذا الحبر العالم، زين الله به منهم المعاهد والمعالم.
فنال حفلا به السعد اكتمل، وابتسم بمرآه ثغر المنى وامتد خطو الأمل.
وهاجر إلى الروم لأمرٍ دعاه، فحمد عند أهل المشاهدة مسعاه.
فأقام بها راتعاً من الجلالة في نضرها ولدنها، إلى ان انتقل من ظهرها إلى بطنها.
يملأ الصدور انشراحا، ويعم الأرجاء أفراحا.
ولا يألو وليه شكر منه الجسيم، كما شكر عارفة الروض لسان النسيم بوقارٍ كما تشتهيه العيون، ونصحٍ كما تقتضيه الظنون.
يلهب الوجد الذي خمد، ويذيب الدمع الذي جمد.
ووعظٍ يقيم الحرج، على الشيخ أبي الفرج.
وله أشعارٌ مشتملة على حكم ووعظ، يتمتع بها القلب قبل اللفظ.
فمنها قوله في عقد كلاٍم ينقل عن كسرى، كاتب به قيصر جواباً عن مكاتبة:
كَاتَبَ في السَّبِق كسرى قَيْصَرُ
…
بما اسْتقامَ مُلْككُم والظَّفَرُ
فقال قد دامَ لنا الْولاءُ
…
بخَمْسةٍ طاب بها الْهَناءُ
إن اسْتَشَرْنا فَذَوِي العُقولِ
…
وإن نُوَلِّي فذَوِي الأُصولِ
وليس في وَعْدٍ ولا وَعِيدِ
…
نُخالِفُ القولَ على التَّأْبِيدِ
وإن نُعاقِبْ فعلى قَدْرِ السَّبَبْ
…
مِن الذُّنوبِ لا على قَدْرِ الغَضَبْ
ولا نُقَدِّمُ الشبابَ مُطْلَقَا
…
على الشيوخِ في وَلاءٍ أُطْلِقَا
وله في التوسل:
يا سيِّدَ الرُّسْلِ ومَن جُودُهُ
…
لكلِّ خَلْقِ اللهِ مُسْترسِلُ
أنتَ الذي خَصَّك رَبِّي بما
…
لم يُحْصِه المِزْبَرُ والمِقْوَلُ
وإنِّني عبدُك مَنْ جُرْمُهُ
…
لفِكْرِ ذي اللُّبِّ غَدَا يُذْهِلُ
قد جئتُ أبْغِي توبةً يَنْمَحِي
…
عنِّي بها الوِزْرُ الذي يُثْقِلُ
والسَّتْرَ في دِيني وأهْلِي ومَن
…
يَحْوِيه بَيْتي أو بهِ يَنْزِلُ
فأنتَ بابُ اللهِ أيُّ امْرِىءٍ
…
أتاه مِن غيرِك لا يَدْخُلُ
هذا البيت مضمن من قصيدة الشمس البكري، التي أولها:
ما أرْسَلَ الرحمنُ أو يُرْسِلُ
…
مِن رحمةٍ تصْعَدُ أو تَنْزِلُ
في مَلَكوتِ اللهِ أو مُلْكِهِ
…
مِن كلِّ ما يخْتَصُّ أو يَشْمَلُ
إلَاّ وطه المُصطَفى عبدُه
…
نَبِيُّهُ مُخْتارهُ المُرْسَلُ
وَاسِطةٌ فيها وأصْلٌ لها
…
يعْلَم هذا كلُّ مَن يعقِلُ
ولده: أبو السعود
هذا سعد السعود، الذي لو مس عوداً يابساً لعاد الماء في العود، حتى ينور خضرا، ويثمر غضاً نضرا.
ولد في طالع السخا، وغذي في بحبوحة الرخا.
ومارس المعارف ممارسةً كشفت له عن وجوه الحقائق، وأظفرته بفوائدها الجلائل، وفرائدها الدقائق.
فقدمه في العلم راسخة عالية، والمسامع بمحامده مقرطةٌ حالية.
وكانت أوقاته مقسمةً بين عارفةٍ ينيلها، وملمةٍ يزيلها، وفائدةٍ يبديها، وصنيعةٍ يسديها.
ومجلسه أوله ثناء جميل، وآخره دعاءٌ جزيل، وبينها ترحيبٌ وتأهيل.
ففخره يتقلده جيد الدهر وليته، وذكره يأرج له مسرى النسيم وهبته.
وله أدبٌ يتنافس فيه بلا تطرية مادح، وشعرٌ ورى فيه زنده ولم يقدح فيه قادح.
فمنه قوله مخمساً:
يا حادِيَ العِيسِ إن حَفَّتْ بك الْكُرَبُ
…
الْحقْ هُدِيتَ برَكْبٍ ساقَهُ الطَّرَبُ
وقُلْ لِصَبٍ غَدَا بالشوقِ ينْتحِبُ
…
لِمَهْبِطِ الوَحْي حَقّاً ترحَلُ النُّجُبُ
وعندَ هذا المُرَجَّى ينْتهِي الطَّلبُ
أعْنِي الرسولَ الذي قد شَرَّفَ الأُمَمَا
…
ونال سائِلُهُ فوقَ الوَرَى قسمَا
يَلْقَى العُفاةَ بما يَرْجُون مُبْتسِمَا
…
به تحُطُّ رِحالُ السَّائلين فَمَا
لِسائِلِ الدَّمْعِ ما يَقْضِيهِ ما يَجِبُ
إن رُمْتَ كشفَ العَنَا والحَوبِ والنُّوَبِ
…
كذا الخَلاصَ مِن الأكْدارِ والنَّصَبِ
وأن تكونَ سعيداً غيرَ مُكتئِبِ
…
قِفْ وِقْفَةَ الذُّلِّ والإطْراقِ ذا أدبِ
فعندَ حَضْرتِهِ يُسْتَلْزَمُ الأدبُ
يا مَن بِهِمَّتِه قد صار مُنطلِقَا
…
وسكَّن الرُّوحَ منه بعدَ ما فَرَقَا
ذاك الحبيبُ الذي مِن صَفْوةٍ خُلِقَا
…
له الملاحةُ خَلْقاً والنَّدَى خُلُقَا
والثَّغْرُ مُبْتَسِمٌ والكفُّ مُنْسكِبُ
إنْ أزْمةٌ أوْهَنتْ قلبي كذا جسدِي
…
أو كُرْبةٌ فَرَّقتْ جُنْدِي كذا جَلَدِي
فليس لي نَاصِرٌ إلَاّك يا سَنَدِي
…
يا سيِّدي يا رسولَ اللهِ خُذْ بيَدِي
فأنتَ حَسْبِي ومنكم يُعْرَفُ الحَسَبُ
سري الدين محمد الدروري المعروف بابن الصائغ ماجدٌ سرى، وفاضلٌ بكل مدحٍ حري.
قد ضربت البراعة رواقها بناديه، ولم يزل داعي البلاغة من كثبٍ يناديه.
مضى حيث يرتد العضب الصقيل وهو كهام، وبلغت هممه حيث تقصر عن مداركها خطا الأوهام.
فقعد حيث كيوان بإزائه، وعقد له الفلك ذوائب جوزائه.
إنَّ السَّرِيَّ إذا سَرَى فبنفسِه
…
وابنُ السَّرِيِّ إذا سَرَى أسْرَاهُمَا
فهو ظرف علم، ووعاء حلم، ومن عرف حاله من الإيثار عرف الحلي كيف يصاغ، والسلاف الرائق في الأفواه كيف يساغ.
هو امْرؤٌ لا يصُوغُ الحَلْيَ تعملُه
…
كَفَّاهُ لكنَّ فَاهُ صائغُ الكَلِمِ
وقد أوتي من حلاوة الأخلاق والبيان، ما يزرع حب الحب في الصميم من الجنان.
فنظمه جارٍ في بداعة الأسلوب على غير مثال، ونثره حقه أن يجعل كل فقرةٍ منه مثلاً من الأمثال.
جميع الأمثال منه تطرب، ولكونها لا تلحقه تضرب.
فمن نظمه قوله من قصيدةٍ، أولها:
رَعَى الله عَهْداً بالغَرامِ تقدَّمَا
…
أراه بثَوْبِ الدهرِ وَشْياً مُنَمْنَمَا
وحَيَّى الْحَيَا منِّي ديارَ أحِبَّتِي
…
وإن كان رَبْعُ الوُدِّ منهم تَهَدَّمَا
وإن كان وُدَّا في الْحَقيقةِ غيرَ أنْ
…
عَشِقْتُ وأوْهَمْتُ الحِجَى فتوَهَّمَا
إلى كم أُضِيعُ العمرَ في أيْنَ هم غَدَوْا
…
وحتَّى مَ يُسْليِنِي لعلَّ وأيْنَمَا
أُطالِبُ دهرِي أن يجودَ بقُرْبهم
…
فما زادَ بالبُطْلانِ إلَاّ تَبَرُّمَا
وناشَدْتُه إلَاّ مُقاسمةَ الأذَى
…
وصَفْوَ الليالي فاسْتقالَ وأقْسَمَا
وما ضَرَّهم لو أن بَرْقَ الْتقائِهمْ
…
أضاءَ إذا لَيْلُ القَطِيعةِ أظْلَمَا
تبدَّتْ لِيَ الأيَّامُ في زِيِّ بَأْسِهِمْوسَلَّتْ بِكَفِّ الغَدْرِ للقَتْلِ مِخْذَمَا
وضحك مَشِيبي أنَّ عصرَ شَبِيبتِي
…
يُودِّع جسماً ما أراه مُسَلِّمَا
هبَطْتُ إلى أرضِ المَذَلَّةِ بالذي
…
تَخِذْتُ لِصَرْحِ العِزِّ مَرْقىً وسُلَّمَا
مما يتناسب معه قول الفاضل:
وقيل اهْبِطُوا مِصْرَ وأيُّ فَضِيلةٍ
…
لِمِصْرَ وبَاغِي الرِّزْقِ في مصرَ يَهْبِطُ
وممَّا دَهانِي أنْ بَلِيتُ بأغْيَدٍ
…
إذا إسْكارَ العقولِ تَبَسَّمَا
وإمَّا رَنَا واهْتزَّ غُصْنُ قَوَامِهِ
…
فوَيْلُ الْمَهَا منه وتَعْساً على الدُّمَى
تَمَايَلَ وَسْنانَ الجُفونِ وما احْتسَى
…
مُداماً وأصْمَانَا وما راشَ أسْهُمَا
ووَلَاّه سُلطانُ الجمالِ نُفوسَنا
…
ألستَ ترَى دِيباجَ خَدَّيْهِ مُعْلَمَا
وما هو إلَاّ لَانَ عِطْفَيْه جَانِباً
…
فيَسْمَحُ لي في زَوْرَةٍ ثم يَنْدَمَا
زَرعتُ بلَحْظِي الوردَ في رَوْضِ خَدِّهِ
…
أما آنَ أن يُجْنَى بِفِيَّ أمَا أمَا
وهَبْهُ حَمَى وَرْدِيَّهُ بِعذَارِهِ
…
فمَنْعُ فَمِ العُشَّاقِ ذاك اللِّمَى لِمَا
اللمى، مثلثة اللام: سمرةٌ في الشفة، لمى، كرضى: اسودت شفته، وهو ألمى، وهي لمياء. هذه عبارة القاموس.
وأكثر ما يستعمله الشعراء، خصوصاً المولدون، في معنى الريق، ومما ينبغي أن ينبه عليه، أنه إذا وقع مع لم يستوجب أن يختار منه المكسور اللام، لقصد الموازنة، كما وقع هنا، وكما وقع في البيت الفارضي:
صَدٌّ حَمَى ظَمَئِي لِمَاكَ لِمَاذَا
فإن الموازنة بين الكلمات أمرٌ مستحسن عند النقاد البصيرين بموارد الكلام، فقد ذكر ابن جنى، عند الكلام على قول المتنبي:
بَلِيتُ بِلَى الأطْلالِ إن لم أقِفْ بها
…
وُقوفَ شَحِيحٍ ضاع في التُّرْبِ خَاتِمُهْ
أنه قرأ البيت على المتنبي، ونطق بالتاء مفتوحة، فقال له المتنبي: اكسر التاء.
فقال له أبو الفتح: أليس الفتح أفصح؟ فقال: ألا تنظر إلى حركات ما قبل الميم يعني في القصيدة كيف تجد الجميع مكسوراً.
فعلم مراد المتنبي، وأثنى عليه.
وأدل دليلٍ على التزام الموازنة قضية الازدواج المذكور، مع أن فيه عدولاً عن الأصل لأجل الموازنة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المتبرجات في العيد:" ارجعن مأزوراتٍ غير مأجوراتٍ "، وقوله في عوذته للحسن والحسين:" أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطانٍ وهامةٍ، ومن شر كل عينٍ لامةٍ "، والاصل في مازورات موزورات لا شتقاقه من الوزر كما ان الاصل في لامة ملمة، لأنها فاعل من ألمت.
وقالت العرب: الغدايا والعشايا. والأصل في الغدايا: الغدوات، وقالوا: هناني الشيء ومراني. والأهل في مراني: أمراني. وليس تغيير مبانيها إلا للقصد المذكور، ولهذا إذا استعملت شيئاً من هذه الألفاظ مفردة رددتها إلى أصولها.
ومن منشآته قوله من كتاب: سيدي الذي سكن فؤادي، وسلب رقادي، واستأثر بودادي، وقصر على محبته والنزوع إلى رؤيته سويداي وسوادي.
فيا من ملك زمام العلوم، من كل منطوقٍ ومفهوم، وساعده التوفيق، على أن جمع بين التحقيق والتدقيق.
وإذا هُما اجْتمعَأ لنفسٍ مَرَّةً
…
بلَغتْ مِن العَلْياءِ كلَّ مَكانِ
أعيذ طبعك ذلك الغواص المواج، وصدرك ذلك البحر الثجاج، وفهمك ذلك السراج الوهاج، من أن ترضى بأن أصبر على الظما، وأن أبقى في ظلمة الهجر والنوى.
ولم تغث مسرح بصيرتي بنوء، ومطمح نظري ببعض ضوء.
وهو حفظه الله تعالى يعلم أن من مداده أمدادي، ومن سنا طبعه الوقاد هدايتي ورشادي.
وعلمه محيطٌ بما في احتباس القطر من ضجر النفوس، وبما في خفاء الشمس من الوحشة والعبوس.
وأنا أشكو تعطشي إليه، وأعرض حال وحشتي من بعده عليه.
فهو حفظه الله تعالى إذا شاء أثلج بخطابه الأحشا، وأنا بكتابه ناظرٌ أصبح لغيثه أعشى.
ومما ينسب إليه، في توجيه بيتٍ لأبي تمام، وهو:
زَارَ الْخَيالُ له لا بَلْ أزَارَكَهُ
…
فِكْرٌ إذا قامَ فِكْرُ الخَلْقِ لم يَنَمِ
قال: عاب الآمدي هذا، فقال: وإذا زاره بالفكر وقد زار فلا معنى للاستدراك، وحاصل ما اعتذر به أن الاستدراك صحيح؛ لأنه إذا قال: زار الخيال له لا بل أزار، احتمل زيادة الاختيار من غير بعث باعثٍ، واحتمل وقوع الزيارة عن حمل حامل، فأزال هذا الإبهام بقوله: لا بل أزاركه فكر.
وقوله: لم ينم لم يرد حقيقة النوم، بل كما يقال: فلان لم ينم عن هذا الأمر.
وقال: إذا نام فكر الخلق، يعني آخر الليل، ولم يقل: أوله؛ لأنه إنما أنه يسهره، وإنما يقوم في آخره تهويماً بتطرقه.
وقيل: وجه احترازه أن الخيال لا يطرق في العادة إلا مع وجود النوم، وهذا إنما يكون في آخر الليل، مع استمرار النوم وطول زمانه.
وقال أبو الطيب:
لا الحُلْمُ جاد به ولا بمِثالِه
…
لولا ادِّكارُ وَداعِه وزِيالِهِ
إنَّ المُعِيدَ لنا الْمَنامُ خَيالَه
…
كانتْ إعادتهُ خَيالَ خَيالِهِ
يقول: المتمثل والمتخيل له في اليقظة إعادة خياله في المنام، كأن الخيال الذي في النوم خيال الخيال الذي تصور في اليقظة.
وأظهر من هذا قول أبي تمام المتقدم، وإنما أخذه من قول جران العود:
حَيَّيْتُ طَيْفَك مِن زَوْرٍ ألَمَّ بِهِ
…
حَدِيثُ نَفْسِك عنه وهْو مَشْغُولُ
فقوله: وهو مشغول، أي لم يزرك على الحقيقة، فبنى من قوله: ما زارك طيف الخيال وقوله: حديث نفسك قوله: ولكنك الفكر أزاركه.
وقال الكميت:
ولمَّا انْتهيْتُ وَجَدْتُ الْخَيالَ
…
أمَانِيَّ نَفْسي وأفْكارَهَا
عبد البر الفيومي جواب أقاليم، ومبدي صور تعاليم.
زاحم العلماء بالركب، وانتضى إليهم كل مركب.
ينتجع الأفكار، ويعتمد التذكار.
ويباحث ويثابر، ويتأبطه اليراع والمحابر.
ويحتفل بتحصيل الذخائر ويعتني، وسعيه البر لا يفتر عن مطلبٍ ولا يني.
فبذل الطريف والتلاد، وتقلب في أعطاف البلاد.
حتى استقر بالروم فاخضرت أكنافه، وتجملت أنواع بره وأصنافه.
فبللغ من الفضل موارده، وجمع أوابده وشوارده.
والتقط نفائس دره، وارتضع حلائب دره.
وبها كانت رحلته إلى دار البقا، وصحيفة عمره بادية الجلاء والنقا.
وهو روضةٌ بالفضل أنيقة، كتب الدهر له بتمليك الأدب وثيقة.
وله من حسن البداهة والبيان، ما يسحب على سحبان ذيل النسيان.
وقد أوردت من شعره ما تستغني به عن مجاجة الريق، وتستكفي به عن صرف الرحيق، الذي شغل الزجاجة والإبريق.
فمنه قوله:
حبيبٌ له جسمي وقلبيَ رَاغِبٌ
…
ولي منه هَجْرٌ وهْو للوَصْلِ رَاهِبُ
له مِن غرامي في فؤادِيَ أعْيُنٌ
…
ولي مِن جَفاه والتَّباعُدِ حاجِبُ
نَزِيلُ الْحَشَا لم يَرْعَ مَثْوىً به نَشَا
…
وكيف انْتِشَا والوَجْدُ للصَّبِّ ناصِبُ
وِلمْ طَبْعُه لم يكسب الْخَفضَ بُرْهَةً
…
مِن الْجَفْنِ والوَلْهانُ للكسرِ كاسِبُ
له في عُيوني مِن رَقيبيَ حارسٌ
…
ومن خاطِري خِلٌّ وَفِيٌّ وصاحبُ
قوله: له من غرامي أحسن منه قول الخفاجي:
تنازَع فيه الشوقَ قلبي وناظرِي
…
فأثَّر فيه الطَّرْفُ والقلبُ ناصِبُ
وتنْظُره من قلبيَ الصَّبِّ أعْيُنٌ
…
عليها لِمَحْنِيِّ الضُّلوعِ حَواجِبُ
ومن تشبيهاته قوله:
رأيتُ يوماً عَجَباً
…
فيا لَهُ مِن عَجَبِ
النُّورَ مُبْيَضّاً على
…
مُحْمرِّ لَوْنِ القُضُبِ
كخَيْمةٍ مِن فِضَّةٍ
…
على عَمُودٍ ذَهَبِ
ومنه قوله أيضاً:
انْظُرْ إلى الزَّهرِ النَّضِيرِ العَسْجَدِ
…
يدعُو إلى لَهْوٍ كوَجْهِ الأغْيَدِ
فالوردُ في الرَّوضاتِ مُحْمَرٌّ على
…
أغْصانِه الخُضْرِ الحِسانِ المُيَّدِ
مُلاءَةٌ مِن ذَهَبٍ مَنْشورَةٌ
…
من تحتِها قَوائِمُ الزَّبَرْجَدِ
ومن غزلياته قوله:
قام يَرْنُو بطَرْفِهِ حَوَرُ
…
منه كلُّ الأنامِ قد سُحِرُوا
قام مِن نَوْمِه على كسلٍ
…
جَفْنُه بالنُّعاسِ مُنْكَسِرُ
كسَّر الجسمَ والفؤادَ فهل
…
لِلْقتيلِ المُهانِ مُنْتصِرُ
أطْلَع مِن جَيْبِه لِعاشقِه
…
هَالَة البَدْرِ ثَوْبُه العَطِرُ
سلَب العقْلَ مِن فَتىً دَنِفٍ
…
مالَه مُذْ رآهُ مُصْطَبَرُ
حائرٌ مُغرَمٌ به قَلِقٌ
…
لم يطِبْ بعدَه له سَمَرُ
خَصْرُه طَبْعُه فإن بَلَى الثَّوْ
…
ب عليه فضِمْنُه قَمَرُ
أصل هذا قول الأمير أبي المطاع بن ناصر الدولة:
تَرَى الثِّيابَ مِن الْكَتَّانِ يَلْمَحُها
…
نُورٌ من البَدْرِ أحْياناً فيُبْلِيَها
فكيف تُنْكِر أن تَبْلَى مَعاجِرُهُ
…
والبدرُ في كلِّ وقتٍ طالعٌ فيهَا
وقد أخذه من قول ابن طباطبا:
لا تَعْجَبُوا من بِلَى غِلالتِهِ
…
قد زَرَّ أزْرَارَه على الْقَمَرِ
وأخذه الرضي الموسوي، فقال من قصيدة:
كيف لا تَبْلَى غِلالَتُهُ
…
وهْو بَدْرٌ وهْي كَتَّانُ
وللقمر خاصيةٌ في قرض الكتان؛ ولذلك قال من ذكر عيوب القمر: يهدم العمر، ويحل الدين، ويوجب أجرة المنزل، ويسخن الماء، ويفسد اللحم، ويشجب اللون، ويقرض الكتان، ويضل الساري، لأنه يخفي الكواكب، ويعين السارق، ويفضح العاشق الطارق.
ومما يحسن له قوله:
ألْقَى ذُؤابتَه فكانتْ حَيَّةً
…
تسْعَى إلى إضْعافِ رِدْفٍ خَارِجِي
وحَمَى مِن اللَّثْمَ الخُدَيْدَ بعَقْرَبٍ
…
مَلْوِيَّةٍ من فوق جَمْرةِ مَارِجِ
أخذ الأول من قول العسيلي:
دَبَّتْ له ذُؤابةٌ
…
كحَيَّةٍ مِن خَلْفِهِ
تَحْمِي ضَعِيفَ خَصْرِهِ
…
مِن خَارِجِيّ رِدْفِه
واستعمله الفيومي في أبياتٍ أخر، ومحل الشاهد منها:
ويحْمِي خَارِجِيَّ الرِّدْفِ منه
…
بحَيَّاتٍ له ذاتِ اعْوِجاجِ
قلت: والنسبة في خارجيٍ للمبالغة كدؤادي.
قال ابن جنى، في سر الصناعة: وسموا كل ما فاق حسنه، وفاوق نظائره خارجياً، قال طفيل:
وعارضْتُها رَهْواً على مُتتابِعٍ
…
شدِيدِ القُصَيْرَى خَارِجِيٍ مُحَنَّبِ
انتهى.
وبهذا يتم حسن قول ابن النبيه:
خُذُوا حِذْرَكم مِن خَارِجيِّ عِذَارِهِ
…
فقد جاء زَحْفاً في كثيبته الخَصْرَا
وله، وفيه التزام لطيف:
مِن عَالَمِ الذَّرِّ لي إلْفٌ ومعرفة
…
به فهل جائزٌ في الحُبِّ يُنْكِرنِي
أبيتُ أذْكُره جُنْحَ الظَّلام فهلْ
…
في ساعةٍ من لَيالِي الدهر يذْكُرنِي
صَبْراً فأيُّ فَتىً أرْضَى بحُكْم رَشاً
…
يَذُمُّنِي في الهوى يوماً ويشْكرنِي
كما رَضيتُ بوَصْلٍ منه لي وقِلىً
…
والحُبُّ والوَجْدُُ يُصْحِينِي ويُسْكِرنِي
وله:
تَبَدَّى مَلِيكُ الْحُسْنِ في مَجْلِس البَسْطِبِقَدٍ كغُصْنِ الْبانِ أو ألِفِ الْخَطِّ
وأبْدَى على شَرْطِ المَحبَّةِ حُجَّةً
…
مُسلَّمةً أحكامُها قَطُّ ما تُخْطِي
ومِن شَرْطِه في الخَدِّ قُبْلةُ عاشقٍ
…
فكان مِدادُ الْحُسنِ في ذلك الشَّرْطِ
اختلسه من قول ابن حجة، في قصيدة قالها في مدح حماة:
وقد جاء شَرْطُ الْبَيْنِ أنِّي أَغِيبُ عن
…
حِمَاهَأ فقد أدْمَى فُؤادِيَ بالشَّرْطِ
وله:
بدرٌ من التُّرْكِ في ثوبٍ من الشَّفَقِ
…
قد حَلَّ من رَوضةِ الأزْهارِ في أُفقِ
عجِبتُ من أبيضٍ في أسودٍ حَلكٍ
…
ولا عجيبَ فحُسْنُ البدرِ في الغَسَقِ
يدُورُ بالرَّاح كالتِّبْرِ المُذابةِ في
…
كأسٍ كدُرٍ نَضِيرٍ أبيضٍ يَقَقِ
فبات يشْفِي ويسْقِي من مُدامتِه
…
إلى الصباحِ فأحْيَتْ مَيِّتَ الرَّمَقِ
وقد بَدَا سيفُ فَجْرِ الصبحِ مُرْتقياً
…
أفْعَى الدَّياجِي ففَرَّتْ عنه من فَرَقِ
وله:
نَكْهَةٌ قد شَمَمْت من ذاتِ حُسْنٍ
…
تلك مَكِّيَّةٌ وذِي تُرْكيَّهْ
وَجْنةٌ عُطِّرتْ بنُقْطةِ خَالٍ
…
تلك وَرْدِيَّةٌ وذي مِسْكيَّهْ
شاكَلتْ مُقْلتاهُ قَامةَ خَدٍ
…
تلك قَتَّالَةٌ وذِي فَتْكِيَّهْ
مثل قول ابن شمس الدين البصير، نزيل الخانقاه السرياقوسية:
قلتُ لمَّا أدارَ مِسْكاً وخَمْراً
…
ذُو دَلالٍ وأعْيُنٍ سَحَّارَهْ
لكَ واللهِ نَكْهَةٌ ورُضابٌ
…
تلك عَطَّارَةٌ وذِي خَمَّارَهْ
ورأى في بروسة الحمام الخلقي، الذي يقال له: قبلجه، وهو ماء حارٌ يخرج من تحت جبلٍ عالٍ، فقال:
وماءٍ له طَبْعُ الحرارةِ خِلْقَةً
…
مِن الجبلِ الصَّلْدِ العظيمِ لقد سَلَكْ
إلى كلِّ حَوضٍ مُسْتديرٍ مُوَسَّعٍ
…
تراه مَدارَ الماءِ مَلْعبةَ السَّمَكْ
تدُور به الوِلْدانُ طالعةً وقد
…
تغِيبُ كشأنِ النَّيِّراتِ من الفَلَكْ
وقال، وهو معنىً حسن:
وحَوْضٍ كبير مستديرٍ وماءُه
…
حَرارتُه بالطَّبْعِ للبردِ دافِعَهْ
أحاطتْ به الأقمارُ مِن كلِّ جانبٍ
…
ومِن أُفْقِه شمسُ المَحَاسنِ طالِعَهْ
ومن لطائفه قوله:
ولي حبيبٌ قد سالَماهُ
…
عذبا وطَرْفَاهُ سَالماهُ
فيا خليلي عُذْراً لصَبٍ
…
جُوداً وإلَاّ فَسالِماهُ
فالطَّرْفُ هَامٍ من التَّجافِي
…
طُولَ الليالي قد سالَ مَاهُ
وسَاكِنُ القلبِ مُذْ رَآهُ
…
يَهِيمُ بالوَجْدِ سالَ مَا هُو
الأول: ساء، بالهمزة مقصورٌ للشعر، ولماه: ريقه، فاعله، وإساءته: منعه لوارده.
والثاني: ماضٍ، والألف للتثنية.
والثالث: أمرٌ لاثنين.
والرابع: من الإسالة، والماء قصر للضرورة.
والخامس: من السؤال، سهلت الهمزة ضرورةً وما سؤالٌ على سبيل تجاهل العارف.
وقد عارض بهذه الأبيات أبيات أحمد السنفي، المعروف بقعود وزاد عليه التصريع.
وأبيات السنفي:
يا صاحِبَيَّ اتْرُكَا مُعَنىً
…
أو فاعْذُلاهُ وعارِضَاهُ
فما تُطِيقانِ رُشْدَ غَاوٍ
…
بما يُلاقِي وَعَى رِضَاهُ
سَبَى حشَاهُ والعقلَ منه
…
عَيْنَا غَزالٍ وعَارِضَاهُ
يا جَمْعَ مَن صَيَّرَ التَّصابِي
…
في الحُسْنِ عَاراً بالعارِ ضَاهُوا
ومن مقاطيعه قوله:
لقد كرَّم الرحمن وَجْهَ مُعَذِّبي
…
بِعَشَّاقةِ حُسْنٍ وهْي زِينَةُ خَدِّهِ
فتجْذِبُ حَبَّات القلوبِ لِحُبِّه
…
بحَبَّةِ مِسْكٍ أذْفَرٍ عند صَدِّهِ
وله:
لمَّا بَدَا حولَ وَرْدِ الخَدِّ آسُ رُباً
…
نَبَاتُه في رياضِ الحُسْنِ قد طَلَعَا
لم يَرْضَ تَقْبِيلَه يوماً ولا عَجَبٌ
…
فما خَراجٌ على غيرِ الذي زَرَعَا
وقوله:
فِكْرِي وعقلي عندكم وبكُمْ
…
قد صِرْتُ في شُغْلٍ وفي سُكْرِ
فاعْجَبْ لمَن كتبتْ أنَامِلُه
…
خَطّاً بلا عَقْلٍ ولا فِكْرِ
وقوله في معناه:
قد قِيلَ إنَّ المالَ عقلُ الفتى
…
به له التَّصْرِيفُ في النَّقْلِ
فقلتُ لا تعجَبْ فكم في الورَى
…
مِن عاقلٍ أضْحَى بلا عَقْلِ
وقوله:
ومُذْ رامَ الهلالُ وقد تَعَدَّى
…
مُشابَهةً له من غيرِ قَابِلْ
أجابَ قَلَمْتُ مِن ظُفْرِي شَبِيهاً
…
له وطَرَحْتُه فوقَ الْمَزابِلْ
تناوله من قول التقي الفارسكوري:
وما في البدرِ مَعْنىً منه إلَاّ
…
قُلامة ظُفْرِه مِثْل الْهِلالِ
والتقي أخذه من قول ابن المعتز:
ولاح ضَوْءُ هِلالٍ كاد يفضحُنا
…
مثل القُلَامةِ قد قُدَّتْ من الظُّفُرِ
وابن المعتز أخذه من قول بعض العرب:
كأنَّ ابنَ لَيْلتِها جانحاً
…
فَسِيطٌ لَدَى الأُفْقِ مِن خِنْصَرِ
وابن الليلة الهلال، والفسيط، بفتح الفاء وكسر السين المهملة: قلامة الظفر.
ويروى: كأن ابن مزنتها، ومعناه حين انقشعت عنه السحابة بدا كقلامة الظفر.
وهنا فائدة، ذكرها ابن الأثير، في المثل السائر، قال: واعلم أن من التشبيه ضرباً يسمى الطرد والعكس، وهو: أن يجعل المشبه به مشبها، والمشبه مشبهاً به، وبعضهم يسميه غلبة الفروع على الأصول، ولا تجد شيئاً من ذلك إلا والغرض به المبالغة، فمما جاء من ذلك قول عبد الله بن المعتز وأنشد البيت ألا ترى إليه كيف جعل الأصل فرعاً، والفرع أصلاً، وذلك أن العادة أن تشبه القلامة بالهلال، وإنما فعل ذلك مبالغة وإيذاناً بأنه لما صار ذلك مشهوراً متعارفاً حسن عكس القضية فيه.
قلت: فبيت التقي والفيومي جاريان على الأصل، والثانيان على العكس.
وله:
جاء المَليحُ بأسودٍ في أبيضٍ
…
مِن قَهْوةٍ تَرْوِي عن المِسْكِ الذَّكِي
فنظَرْتُها ونظرتُ حُسْنَ عُيونِهِ
…
والفَرْقُ فيه احْتار ذو عقل ذَكِي
كأنه نظر إلى قول الجمال العصامي:
فِنْجانُ قَهْوةِ ذا المَلِيحِ وعَيْنُه الْ
…
كَحْلاءُ حَارَتْ فيهما الألْبَابُ
فسَوادُها كسوَادِها وبيَاضُها
…
كبَياضِها ودُخانُها الأهْدابُ
وله في الدولاب:
إنما الدُّولابُ في دَوْرِهِ
…
يَهُمُّ من شَوْقٍ وأشْجَانِ
ينُوحُ حُزْناً ويُرَى باكِياً
…
بأعْيُنٍ تَهْمِي على الْبَانِ
قريبٌ من قول ابن عبد السلام المصري:
ورَوْضة دُولابُها دائرٌ
…
مُوَلَّهٌ مِن فَرْطِ أشْجانِهْ
فكلُّه مِن وَجْدِه أعْيُنٌ
…
تبْكِي على فُرْقةِ أغْصانِهْ
وهذا المعنى كثير، وقد تقدم ما يغني عن ذكره.
وله في دولاب العيد:
دولابُ عِيدٍ دار بالمُنْحنَى
…
لِطَلْعةٍ قامتُها ناضِرَهْ
يَرْوِي لنا عن فَلَك نَاضِرٍ
…
والشمسُ ما زالتْ به دَائِرهْ
وله:
شَبَّابَةٌ قامتْ بمَوْصُولِها
…
وعَيْنُها جَارِيةٌ بَاكِيَهْ
تُشِيرُ بالعَيْنِ إلى ذِي جَوىً
…
بأنَّها مِن وَجْدِها شَاكِيَهْ
مثله لابن الأزهري:
يا حُسْنَها شَبَّابة لم ينْقطِعْ
…
مَوْصولُها عِندي وذاك تَرَنمُ
بالرَّمْزِ تُفْهِمني إشاراتِ الورَى
…
أوَمَا تَرَاهَأ بالعُيونِ تَكلَّمُ
شبابة، بالتشديد: قصبة الزمر المعروفة، مولدة.
قال المشد:
ومُطْرِبٍ قد رأيْنا في أَنامِلِهِ
…
شَبَّابةً لِسُرورِ النفسِ أهَّلَهَا
كأنه عاشقٌ وَافَتْ حبيبتُه
…
فضَمَّها بيَدَيْه ثم قَبَّلَهَا
ولشافع:
شَغَفَتْنَا شَبَّابةٌ بِهَواهَا
…
كلّ ما يُنْسَبُ الكئيبُ إلَيْهَا
كيف والمُحْسِنُ المُقوِّلُ فيها
…
آخِذٌ أمْرَها بكِلْتا يَدَيْهَا
والمقول: الزامر، والعجم تقول له: قوال.
وهل:
ليلُ هَجْرٍ مَكانه سَنَةٌ
…
أو مَسِيرٌ ناءَتْ مَراحِلُهُ
صُبْحُه كالمَدِينِ مَاطَلَهُ
…
رَبُّ دَيْنٍ غَدَا يُماطِلُهُ
أحسن منه قول ابن الجزري:
وليلٍ كأنَّ الصُّبْح فيه مَآرِبٌ
…
نُؤَمِّلُ أن تُقْضَى وخِلٌّ نُصادِقُهْ
وله في بعض المحتجبين:
أتَيْتُ بابَ كبيرٍ عند نَائِبةٍ
…
وجَدْتُه مُغْلَقاً قلتُ الفَتَى فَطِنُ
فقال لي صاحبي ما الرَّأْيُ قلتُ له
…
رَأْيُ ابنِ عُبْدُوسَ رَأْيٌ كامِلٌ حَسَنُ
رأي ابن عبدوس قوله
لنا قاضٍ له خُلُقُ
…
أقَلُّ صِفاتِه الْفَرَقُ
إذا جِئْناه يحْجُبنا
…
فنَلْعنُه ونفْتَرِقُ
وقد اقتدت الأدباء بهذا الرأي كثيراً، فمنهم ابن الخصال في قوله:
جئْناك للْحاجةِ المَمْطولِ صاحبُها
…
وأنت تَنْعَمُ والإخوانُ في بُوسِ
وقد وقفْنا طَوِيلاً عند بَابِكُمُ
…
ثم انْصَرَفْنا على رَأْيِ ابنِ عُبْدُوسِ
ولمحمد بن بدر الدين القوصوني مثله من فصل: الرأي الصواب، في المتواري بالحجاب، رأي ابن عبدوس، وما سواه رأيٌ منحوس، بل عذابٌ وبوس.
وله في الخضوع:
يا مَن له مُهْجتِي رِقٌّ ولِي شَرَفٌ
…
بأنَّنِي عبدُه جَهْرِي وإسْرَارِي
عَتَقْت قلبيَ من زَيْغٍ ومن زَلَلٍ
…
وعِتْقُ ذِي سَفَهٍ فيما بَقِي سَارِي
مَنَنْتَ باللُّطْفِ في الأُولى ولا عَجَبٌ
…
أن تعْتِقَ الجسمَ في الأُخرى من النارِ
منه قول البدر القرافي:
منك البَداءةُ بالإحْسانِ حَاصِلَةٌ
…
مَلَّكْتنِي الرِّقَّ فضلاً منك لي سارِي
ألْهَمْتنِي بعدَه عِتْقاً لتُكْرِمَنِي
…
فاخْتِمْ بخيرٍ به عِتْقِي من النارِ
وللحافظ ابن حجر:
يا رَبِّ أعْضَاء السُّجُّودِ عَتَقْتَها
…
من فضلِك الوافِي وأنتَ الْوَاقِي
والعِتْقُ يَسْرِي في الغِنَى يا ذا الْغِنَى
…
فامْنُنْ علَى الْفانِي بعِتْقِ الْباقِي
والأصل فيه قول ذي الرمة، قال الشريشي: وهو آخر شعرٍ قاله:
يا رَبِّ قد أسْرَفتْ نَفْسِي وقد عَلِمَتْ
…
عِلْماً يَقيناً لقد أحْصَيْتَ آثارِي
يا مُخْرِجَ الرُّوحِ من نفسِي إذا احْتُضِرتْ
…
وفارِجَ الكَرْبِ زَحْزِحْنِي عن النارِ
وله من فصل في معرض شكاية من الزمن: قد كان الفضل في المراقي، من نصل عيون الدهر هو الراقي، والترقي في الأدب به التوقي من النصب والوصب، وكل هذا ذهب، وانحصر الدواء في الفضة والذهب.
فالمفلحون بخبايا النقود قعود، والمفلسون في زوايا الخمول رقود.
فدع فضل العلم والنسب، واسع أن يكون لك من المال خير نشب.
فقد كان الأدب وديعةً واسترد، وصار الدرهم مرهماً ولبرء ساعةٍ استعد.
ومن هذا القبيل قول زين الدين الجزري من مقامةٍ له: قد كان شراب الأصول يداوي العليل، والآن ليس في غير الدينار شفاءٌ للغليل.
ألم تسمع أن الدراهم، لجروح العدم مراهم! وقد استردت الأيام، ودائع المكارم والكرام! يس الحمصي العليمي نزيل القاهرة منتمى بدع الفنون، ومنتدى نزه العيون.
الذي بعث نفساً عاطراً إلى الإحسان، وأثبته عقداً نفيساً في جيد الكواعب الحسان.
يتناول المعاني والألفاظ من مدىً قريب، وإن مد باعه فمن سحابٍ وإن اغترف فمن قليب.
وحواشيه حواشي خدود، لا حواشي برود، وتخريجات أصداغٍ على وجنات، أو سوالف على خدود غانيات.
وله أشعار تحل لها عقد الحبى، وتهتز لها النفوس كما يهتز تحت القطر الربى.
وكان عهده قد جمع نضارة الورد إلى بقاء الآس، وافتر عن رقة المدامة في نقاء الكاس.
وهو يرجع إلى شيمٍ دمثة، وهممٍ على الخير منبعثة.
طالما هبت منه على طلبته نسمة المنى، فنبهت من أفواههم زهرة الثنا.
وقد أثبت له ما إذا تلي وصف نفسه، وأطلع نهار طرسه شمسه.
فمنه قوله:
في لَحْظِه سِحْرٌ فلم أرَ صَارِماً
…
في غِمْدِه يَفْرِي سِواهُ فمن يَرَى
عَجَباً لغُصْنِ الْبانِ مَن أعْطافُه
…
فوقَ الكثيب لبَدْرِ تِمٍ أثْمَرَا
صَبَّرتُ عنه القلبَ فهو بصَبْرِهِ
…
مَيْتٌ عسَى يَرْثِي لِمَيْتٍ صُبِّرَا
وحدِيثُ دمعِي مُرسَلٌ لمَّا غَدَا
…
منه الصُّدودُ مُسَلْسَلاً يا ما جَرَى
فالرأسُ مُشْتعِلٌ بشَيْبِ صُدودِهِ
…
والعَظْمُ أضْحَى وَاهِياً وقد انْبرَى
والقَلبُ من مُوسَى لِحاظٍ قد غدَتْ
…
مَرْضى كَلِيمٍ وهْو لن يتغيَّرَا
إن رَامَ مَرْأىً مِن بَدِيع جمالِهِ
…
جعَل الجوابَ له وحَقِّي لن تَرَى
واللَّحْظُ مِنّي حين أبْصر خَدَّهُ
…
فيه الربيعُ جَرَى عليه جَعْفَرَا
يا ذا الذي قد زَارَ طيف خَيالهِ
…
وأتى بَخِيلاً ما تأهَّل لِلْقِرَى
بالطَّيْفِ قد مَنَّيْت لكنْ بالأذى
…
أتْبَعْتَه فسلَلْتَ من عينِي الْكَرَى
ما زار إلَاّكي يُعاتبَني على
…
نَوْمِي فيُفْنِيهِ ويجْنَحُ للسُّرَى
ولَرُبَّ ليلٍ طال حتى إنَّني
…
قد قلتُ لو كان الصباحُ لأسْفَرَا
لكنْ ذكرتُ بطُولِه وسَوادِهِ
…
شَعْرَ الحِسانِ فطاب لي أن أسْهَرَا
قوله: في لحظة صدر الأبيات من قول بعضهم:
كلُّ السيوفِ قَوَاطعٌ إن جُرِّدتْ
…
وحُسامُ لَحْظِك قاطعٌ في غِمْدِهِ
وقوله: يا ذا الذي إلى آخر الأبيات الثلاثة، هو معنى بيتي صردر:
زار الخَيالُ بَخيلاً مثل مُرْسِلِهِ
…
فما شَفانِيَ منه الضَّمُّ والْقُبَلُ
ما زارنِي قطُّ إلَاّ كيْ يُعاتِبني
…
عَلَى الرُّقادِ فيُفْنِيه ويَرْتحِلُ
وهو مسبوقٌ إليه أيضاً، في قول بعضهم:
طيفُ خَيالِ هَاجِرِي
…
ألَمَّ بي فما وَقَفْ
عاتَبَنِي على الْكَرَى
…
ثُمَّ نَفَاهُ وانْصَرَفْ
قلت: وهو إن تجارى مع غيره في ميدان تلك التحاسين، ف " قل هو الله أحدٌ " شريفة وليست من رجال " يس ".
محمد الحموي نزيل القاهرة هو بين العلماء صاحب وجاهة، تستعير أولو الأخطار لدى الأزمة همته وجاهه.
لين المهتصر والعود، أملس العرض مصقول شبا الوعود.
تصدر تصدر الجهبذ النحرير، وأغنى الطلاب بما أبداه على المغنى من التقرير والتحرير، فأصبح الكل من أهل الإفادة، يتقربون إليه بالتلمذ والاستفادة.
وكان فرد العلم في عصره، لا بل العلم الفرد بين مشايخ مصره.
مع ذاتٍ بهية مطبوعة، وأداة فواكهها الحموية غير مقطوعة ولا ممنوعة.
وقد أوردت له ما يبتهج ابتهاج الربيع ببرده، ويروق روق الريق في حلاوته وبرده.
فمنه قوله، من قصيدة أولها:
أوُجُوهُ غِيدٍ أم حِسانُ رُبوعِ
…
وعيونُ آرامٍ تَزِيدُ وُلوعِي
أم نَشْرُ زَهْرٍ ضاعَ فامْتلأَ الرُّبَى
…
عِطْراً عَبِيراً أم رياضُ ربيعِ
والماءُ قد صَقَل النَّسِيمُ مُتُونَهُ
…
أم في جَداوِلِه مُتونُ دُروعِ
والطَّلُّ قد زانَ الشَّقِيقَ بلُؤْلُؤٍ
…
أم وَجْنةٌ مَطْلولةٌ بدُموعِ
والقُضْبُ مِن لُطْفِ النسيمِ تَمايَلَتْ
…
خَجَلاً فأبْدَتْ ذِلَّتِي وخُضوعِي
والبدرُ أشرقَ في ثَنِيَّاتِ الدُّجَى
…
سَهَراً وبُرْدُ الليلِ في تَوْشِيعِ
سَفَرَ اللِّثَامَ فَلاح في وَجنَاتِه
…
وَرْدُ الخدودِ فحارَ فيه بَدِيعِي
سَاجِي اللَّواحِظِ فاتِكٌ بجُفونِه
…
ذو خِبْرةٍ في صَنْعةِ التَّقْطيعِ
ما نَمَّ مِسْكُ عِذارِه في خَدِّه
…
إلَاّ لِيُظْهِر عُذْرَ كلِّ خَلِيعِ
والثَّغْرُ قد حازَ العُذَيْبَ وبَارِقاً
…
وجَوَاهِراً للدُّرِّ غيرَ مُضِيعِ
يا قلبُ خَلِّ هَوى الحسانِ وخَلِّنِي
…
مِن ذِكْرِ أحْبابٍ وذكرِ رُبوعِ
واقْطَعْ أقاويلَ الْوُشاةِ فقَطْعُها
…
سَبَبٌ لِوُصْلةِ حَبْلِنا المقْطوعِ
ومن دره المكنون، بديعيةٌ على قافية النون، مستهلها:
هَجْرِي عليَّ ولِي وَصْلٌ بأحْيَانِي
…
أمَاتنِي الهَجْرُ جاءَ الوَصْلُ أحْيانِي
قوله: أماتني من قول ابن الفصيح، صاحب السراجية في الفرائض:
زارَ الحبيبُ فَحَيَّى
…
بِحُسْنِ ذاك الْمُحَيَّا
مِن صَدِّه كنتُ مَيْتاً
…
مِن وَصْلِه عُدْتُ حَيَّا
السيد أحمد الحموي جميع السادة منه في المنزلة، منزلة الكتاب من البسملة.
وهو في المجد متعادل الوصفين، وفي السؤدد متكافىء الطرفين.
صحيح المنتسب من القدم، فضلٌ كله من الفرق إلى القدم.
فأصله عريقٌ وطبعه شريف، وروضه وريقٌ وظله وريف.
تملا من لطفه، وسال الوقار على عطفه.
فكأنما أخلاقه رضعت در النعيم، فجاءت والحمد لله كالصحة في جسم السقيم.
فتدرج على درج النجح بأرجاء الرجا، وابتهج بمطلعه السعد المتألق بلألاء اللألا.
مطوياً على نشر الكرم الفائق المستفيض، متبلجاً بأضواء المكارم الغر وأنوار الأيادي البيض.
فألسنة الثناء بفضله منطلقة، وأيدي الرجاء بحبله معتلقة.
وهو في ظلٍ من الأمن مديد، ورأيٍ بحل المشكلات سديد.
فكم من فضلٍ افاد، وأدبٍ أحياه وقد باد.
وله في الأدب ومضافاته، رتبةٌ يعرف مقدارها من مؤلفاته فيه ومصنفاته.
وشعره كمسعول الأماني في شباب الزمان، ومعتنق قدود الغواني في ظل الأمن والأمان.
أوردت منه ما يعطر أنفاس النسائم في الهبوب، فهو إن لم يكن كثنائه العطر فكنفس المحبوب.
فمنه قوله من قصيدة:
ورَقِيقِ خَصْرٍ بالنُّحولِ مُمَنْطَقٍ
…
قد رُيِّشَتْ بالهُدْبِ لي أجفْانُهُ
غُصْنٌ على دِعْصٍ يميلُ مع الصَّبَا
…
سَكْرانُ من خَمْرِ الصِّبا نَشْوانُهُ
مَكْحُولُ أطْرافِ الجفونِ غَضِيضُها
…
قد خُضِّبتْ بدمِ القلوبِ بَنانُهُ
ما السِّحْرُ إلَاّ ما حَوَتْهُ جُفونُهُ
…
والطِّيبُ إلَاّ ما حَوَتْ أرْدانُهُ
ما الوردُ إلَاّ مَا حَوَتْه خُدُودُه
…
وعِذارُه رَيْحانُه سُوسَانُهُ
ما الصَّعْدةُ السَّمْراءُ تُشْبِهُ قَدَّهُ
…
كلَاّ ولا غُصن النَّقَا فَيْنَانُهُ
سلطانُ حُسْنٍ بالجمالِ مُتَوَّجٌ
…
شَاكِي السِّلاحِ سِهامُه أجْفانُهُ
قد حجَّبُوه بالأسِنَّةِ والظُّبَا
…
كالبدرِ حُجِّب بالغَمامِ عيِانُهُ
فهو العزيزُ ومِصْرُه قلبُ الشَّجِي
…
وسَوادُ ناظِره به إيوانُهُ
مَبْذولُ ما فوقَ اللِّثامِ لِنَاظرٍ
…
مَمْنوعُ ما تحت الإزارِ مُصانُهُ
قد زَارَنِي والليل قُلِّص ذَيْلُه
…
والصبحُ قد طعَن الظلامَ سِنانُهُ
والوُرْقُ تبْكِيه وتنْدُب فَقْدَهُ
…
والدِّيكُ صاح وقد علَتْ أحْزَانُهُ
في منزلٍ عَمَّ السرورُ رِحابَهُ
…
والعُودُ يُفْصِح بالسرورِ لِسانُهُ
والوَرْدُ والمَنْثورُ يَعْبَقُ نَشْرُه
…
والنَّدُّ يسْطَع إذْ عَلاهُ دُخانُهُ
وحَديثُنا قِطَعُ الرِّياض لِظِلِّها
…
أنْدَا الرَّبيع وما أطَلَّ زَمانُهُ
جاذَبْتُه هُدْبَ الحديثِ مُوَرِّياً
…
عن فَرْطِ شَوقٍ قد زكَتْ نِيرانُهُ
فأتاحَ ما تحتَ اللِّثامِ لناظرِي
…
وأباحَنِي الثَّغْرَ النَّضِيدَ جُمانُهُ
فلَثَمْتُه ورشَفتُ رِيقَةَ ثَغْرِهِ
…
وسَقيْتُ قلباً شَفَّنِي خَفَقانُهُ
وضَممْتُه وهَصَرْتُ بَانَةَ قَدِّهِ
…
وعَفَفْتُ عَمَّا ضَمَّهُ هِمْيانُهُ
وغَفَرْتُ ذَنْبَ الدهرِ ممَّا قد جَنَى
…
وشكَرْتُ قَوْلاً عَمَّنِي إحْسَانُهُ
ومن بدائعه قوله في معذر:
لاح العِذارُ بِخَدِّ نَحْوِيٍ لنا
…
كالَّلامِ أكَّدتِ الغرامَ وَفاءَا
فسألتُ ما هذا السَّوادُ أجابَنِي
…
حَرْفٌ لمعنىً بالمحَاسِنِ جاءَا
وأحسن منه قول الشهاب:
بلَامِ عِذارِه قد زا
…
دَهُ رَبُّ الورَى حُسْنَا
وعادتُهم إذا ما زِي
…
دَ حَرْفٌ زادَ في المعنَى
ولام التأكيد وقعت في قول ابن نباتة:
لامُ العِذَارِ أطالتْ فيك تَسْهيدِي
…
كأنَّها لِغَرامِي لامُ تَوْكِيدِ
ومثلها لام التعليل، كما في قول ابن الحنائي الرومي:
ولائمٍ لامَ في حُبِّي لِذِي غَنَجٍ
…
لمَّا رأَى في حَواشِي خَدِّه لَامَا
فقلتُ ذِي لامُ تعْليلٍ بوَجْنتهِ
…
تُبِين عِلَّةَ مَن في حُبِّه هَامَا
ولام الاستغاثة، كما في قول ابن رشيق:
خَطَّ العِذَارُ له لَاماً بِعَارِضِهِ
…
مِن أجْلِها تسْتغيثُ الناسُ بالَّلامِ
واللام الموطئة للقسم كما في قول الخفاجي:
غَزالٌ نَقَدْتُ له طاعتِي
…
وعَجَّلْتُ للوَصْلِ ذاك السَّلَمْ
وأقْسمتُ لا بُدَّ مِن وَصْلِهِ
…
وبالهَجْرِ والوَصْلِ يأْتِي القَسَمْ
ولامُ العِذَارِ على خَدِّهِ
…
لَعَمْرِي مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمْ
واللام الجارة كما في قول ابن الجابي وقد تقدم:
في خَدِّه لامٌ تَجُرُّ إلى الهوَى
…
فالقلبُ مَجْرورٌ بتلك الَّلامِ
ولام الابتداء، كما في قول أبي الحسن علي بن الحسن الأندلسي:
قال العَذُولُ الْتَحَى فقلتُ له
…
حُسْنٌ جَدِيدٌ قَضى بتجْدِيدِ
أما تَرَى عَارِضَيْه فوقَهما
…
لَامُ ابْتداءٍ ولامُ تَوْكِيدِ
ولام كي، في قول ابن نباتة:
ومُسْتَتِرٍ من سَنَا وَجْهِهِ
…
بشَمْسٍ لها ذلك الصُّدْغُ فَيّ
كَوَى الْقَلْبَ مِنِّي بلَامِ العِذَارِ
…
فعرَّفني أنَّها لامُ كَيْ
والبيت الأول كثيراً ما يشكل فهمه، وتبينه أنه أراد بسناء الوجه البياض، وبالشمس الحمرة.
وعكس ابن غالبٍ وأبعد وأبدع في ذم العذار، فقال:
سأصْنَعُ في ذَمِّ العِذارِ بَدائِعاً
…
فمن شاء يقْضِي بالدَّليلِ كما أقْضِي
ألا إنَّه كالَّلامِ واللامُ شَأْنُها
…
إذا الْتصَقتْ بالإسمِ آلَ إلى الخَفْضِ
فاجعله محتملاً لما شئت من الذم إن وجهت الخفض بانخفاضه للعمل المطلوب منه، وإن شئت انخفاضه انخفاض حاله.
وقد رد عليه شرف الدين المناوي، بقوله:
بَلَى إنها لامُ ابْتداءِ مَحبَّةٍ
…
أو اللامُ للتأكيدِ ليستْ بذِي الخَفْضِ
فلو أبْصَرَتْ عيْناك ذاك الذي بَدَا
…
على خَدِّه الوَرْدِيِّ كنتَ إذاً تَقْضِي
وللسيد المترجم:
تبَدَّى ذا العِذارُ شَبِيهَ لَامٍ
…
على وَرْدٍ بهِ زهَتِ الخدودُ
غَدَتْ كلُّ البَرَايَا فيه سَكْرَى
…
لَدَى لامِيَّةِ الْوَرْدِي شُهودُ
مثله لبعضهم:
هوَيْتُه عَجَمِيّاً فوق وَجْنَتِهِ
…
لاميَّةٌ عَوَّذْتها أحْرُفُ القَسَمِ
في وَصْفِه ألْسُنُ الأقْلام قد نَطقتْ
…
وطال شَرْحِي في لاميَّةِ العَجَمِ
وله:
بأبِي وغيرِ أبِي عِذارٌ سائلٌ
…
كالمِسْكِ سالَ على بَياضِ الْعَاجِ
أبداً أدِينُ بحُبِّه وبمدْحِه
…
فلْيَلْحَنِي اللَاّحي ويهْجُو الْهَاجِي
وله في غلام يشرب الدخان:
وبديع حُسْنٍ بالدُّخانِ مُولَّعٍ
…
ومِن الغَداةِ إلى العَشِيَّةِ يَشْرَبُهْ
يُبْدِي الدُّخانُ بوجْهه سِتْراً لنا
…
فتخالُ بَدْراً والغَمامُ يُحجِّبُهْ
مثله لابن الجزري:
كأنما دُخانُ غلْيُونِهِ
…
لمَّا بَدَا من ثَغْرِه الدُّرِّي
غَيْمٌ نَشَا من شَفِقٍ أحْمَرٍ
…
مُحْتَجبٍ غَطَّى سَنَا الْبَدْرِ
وكتب لشخصٍ من أهالي مكة، في صدر كتاب:
سلامٌ كنَشْرِ الرَّوْضِ أو نَفْحةِ المِسْكِتَسِيرُ به أيْدِي الصَّبَا في دُجَى الحُلْكِ
بَلِيلة أذْيالٍ بدَمْعِ تَشَوُّقٍ
…
إلى خِيرَةِ البيتِ المُعظَّمِ بالنُّسْكِ
يخُصُّ حبيباً أبْعَدَتْهُ يدُ النَّوَى
…
وكان قريباً قُربَ جِيدٍ إلى السِّلْكِ
وكتب إلى الأستاذ زين العابدين البكري وقد انقطع عن مجلسه أياماً بسبب كثرة الأوحال من المطر:
لقد مَنع المَسِيرَ إلى حِماكُمْ
…
تَوَالِي الغَيْثِ من ثَدْيِ السَّحابِ
وأوْحالٌ بها الطُّرقاتُ سُدَّتْ
…
فما أسْطِيعُ مَشْياً لِلذَّهابِ
وقالوا رحمةٌ للناسِ عَمَّتْ
…
ولكنْ لي بها فَرْطُ العذابِ
فيا رَبَّاهُ حتى الغَيْثُ خَصْمِي
…
يُمانِعُنِي دُنُوِّي واقْترابِي
فعَجِّلْ بانْحِباسِ الغَيْثِ كَيْما
…
أرَى ذاك الجمالَ بِلَا حِجَابِ
من الأمثال مطر مصر يضرب للشيء النافع، يتضرر به؛ لأن من عيوب مصر أنها لا تمطر، فإذا أمطرت كرهت أهلها ذلك أشد كراهةٍ؛ لما يقع فيها من الأوحال، قال الله تعالى:" وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته " يعني المطر، فهذه رحمةٌ مجللة لهذا الخلق، وهم لها كارهون، وهي لهم غير موافقة، ولا تزكو عليها ثمارهم.
قال بعض الشعراء:
وما خيرُ قومٍ تُجْدِبُ الأرضُ عندهم
…
بما فِيهِ خِصْبُ العالَمين من الْقَطْرِ
إذا بُشِّرُوا بالغَيْثِ رِيعَتْ قلوبُهمكما رِيعَ في الظَّلْماءِ سِرْبُ الْقَطَا الكُدْرِ
ومما يحسن موقعه في منع المطر عن الزيارة قول الشهاب مضمناً:
أقولُ لِوَابلٍ عن دارِ حِبِّي
…
أعَاقَ وقد بَدَا منه انْسِجامُ
سلامُ اللهِ يا مَطَرٌ عليها
…
وليس عليك يا مَطَرُ السَّلامُ
وكتب جحظة إلى ابن المعتز: كنت على المسير إلى الأمير، فانقطع شريان الغمام، فقطعني عن خدمته.
فكتب إليه: لئن فاتني السرور بك لم يفتني بكلامك.
وقوله: شريان الغمام، من أحسن الكلام.
ورأى تاريخ المقري، المسمى بنفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، فكتب إليه:
مِن الغُصْنِ الرَّطِيبِ هَصَرْتَ غُصْناً
…
ومن أثْمارِه أصْبَحْتَ جَانِي
كَساهُ اللهُ من ورقٍ بُرُوداً
…
مُطرَّزة بأزْهارِ الجِنانِ
وكتب لبعض إخوانه يطلب منه كتاب قلائد العقيان:
يا سيِّداً حاز خَصْلَ الفضلِ من كُتُبٍ
…
بجدِّ عَزْمٍ وجَدٍ طاهر النَّسَبِ
مِن القَلائِد جِيدِي عامِلٌ أبداً
…
فابْعَثْ بها كي تُحَلِّي جِيدَ ذِي أدَبِ
قَصْدِي المروُ عليها مُسْرِعاً عَجِلاً
…
كما يمُرُّ نسيمُ الرَّوضِ بالْعَذَبِ
وله يعتذر عن ترك التغزل:
وقائلةٍ لِمْ لا تَغَزَّلُ في الظِّبَا
…
وطَبْعُك مِن ماءِ اللَّطافةِ قد رَوِي
فقلتُ لها قَدْرِي تَسَامَى عن الذي
…
تَرُومِي لِشُغْلِي بالعلومِ وما رُوِي
وله في الشباب والشيب:
ليلُ الشبابِ نجومُ الشَّيْبِ فيه بَدَتْ
…
فأحْرقتْ مِن شَياطينِ الهوَى زُمَرَا
بدَتْ وأدْهَمُ لَهْوِي جَدَّ في مَرَحٍ
…
فقيَّدتْهُ بِعقْدٍ يُشْبِهُ الدُّرَرَا
معنى الأول ألم فيه بقول أبي طالب بن يعمر.
نجومُ شَيْبِيَ في ليلِ الشبابِ بَدَتْ
…
فبَصَّرتْ عينَ قلبِي مَنْهَج الدِّينِ
فصِرْنَ راجِمةً شَيْطَان مَعْصِيَتِي
…
إنَّ النُّجُومَ رَجُومٌ للشَّياطِينِ
ومن فوائده ما كتبه على البيت المشهور:
فَرَّقْنَ بين مَحَاجرِ ومَعَاجِرٍ
…
وجمَعْنَ بين بَنَفْسَجٍ وشَقائِقِ
قال: أجاب عنه البدر الدماميني، وصاحب التبيان، والبيت ثالث بيتين قبله، وهما:
أنا الفِداءُ لظَبْيةٍ أحْداقُها
…
مَوصُولةٌ مِن حُسْنِها بحدائِقِ
لمَّا الْتقيْنا للوَداعِ وأعْرَبتْ
…
عَبَراتُنا عنَّا بدَمْعٍ ناطقِ
فَرَّقْنَ.....الخ
وقد وجدت البدر أتى البيوت من أبوابها وأزال بنور قريحته ما أظلم من غيهب رحابها أما صاحب التبيان وإن كان من أئمة البيان، المشار إليهم بالبنان، فقد وقف من وراء البيوت، وهو من الحزن كظيم، وتأخر عنها وهو من الحياء سقيم، وراش سهام قريحته فأبعد المرمى، ولم يصب لحماً ولا عظماً.
ولله در القائل:
نَزَلُوا بمكة في قبائلِ مُكْثِرٍ
…
ونزلت بالبَيْداءِ أبْعَدَ مَنْزِلِ
فأتى بمعانٍ لا يخطبها خاطب، بل مما يحطبها في ليل سطورها الحاطب، وجهز بنات فكره بما لا يستروح لنشره؛ وليت شعري ما كان أغناه عن هذا الجواب وقصده، وما أكثر ما يهز المعاطف ولكن ببرده.
وها نحن نذكر نص الجوابين، ليظهر لك ما قلناه بغير مين، ونذكر ما ظهر لنا من الجواب، الذي هو أمس رحماً بضوءٍ من الآداب.
قال البدر: الظاهر أن الشاعر قصد أن عبراته في حال الوداع حجبت نظره عن رؤية الظبية الموصوفة، وحالت بينهما، فحصل بذلك تفريق العبرات المذكورة بين محاجره التي كان ينظر منها، وبين المعاجر التي كان ينظر إليها.
وقد وصف بعض الشعراء الدمع بكونه حائلاً بين العين والرؤية، كقول بعضهم:
وحالتْ دموعُ العَيْن بيني وبينه
…
كأن دموعَ العين تعْشَقه مَعِي
وقال ابن منهال، أحد شعراء إفريقية:
إذا بَدَا حَالَ دَمْعِي دون رُؤْيتِه
…
يَغارُ منِّي عليه فهْو بُرْقُعُهُ
وقول أبي الحسين بن سقر، شاعر المرية، في دولة بني عبد المؤمن:
وقَفَتْ وَقْفَةَ الوَداعِ وقالتْ
…
ليت شِعْرِي متى يكون الرُّجوعُ
فبكيْنا خوفَ الفِراقِ فحالَتْ
…
بيْننا قبلَ أن نَبِينَ الدُّموعُ
وأما دمعها هي، فإنه إذا اختلط بكحل عينها، أشبه البنفسج من حيث اللون؛ وباعتبار جريانه على الوجنات حصل الجمع بين البنفسج وهو الدمع المذكور، وبين الشقائق وهي الخدود.
وقد شبه بعض الأدباء البنفسج بالكحل الممتزج بالدمع، حيث قال:
بَنَفْسَجٌ حُمِيَتْ أزْهارُه فحكَى
…
كُحْلاً تشرَّب دَمْعاً يومَ تَشْتيتِ
فلا بدع إذن في تشبيه الدمع، الذي هذه حالته بالبنفسج، ووجه الشبه ما قلناه.
والملخص أن العبرات التي جرت من هذين في حالة التوديع، أوجبت حالةً اختص بها القائل، وهي التفريق المذكور، وحالةً تختص بالمقول، وهي الجمع على الصفة المذكورة، وهذا كله ظاهرٌ، متجهٌ، لا يرد عليه شيءٌ، إلا أن الشاعر لم يصرح في نظمه بأن المتغزل فيها كانت مكحولةً، حتى يشبه دمعها الممتزج مع الكحل بالبنفسج.
وجوابه أن يقال: أحال الأمر في ذلك على ما يقتضيه الذوق السليم، وأشار إلى ذلك بالتشبيه المذكور، فيتلطف له في هذا القدر.
هذا كلامه، وأما الطيبي فإنه قال: يحتمل أن المراد بالبنفسج والشقائق عارض الرجل وخد المرأة، ويحتمل أنها حين الوداع مزقت جلدها، ولطمت خدها، أي جمعت بين أثر اللطم، وهو شبيهٌ بالبنفسج، وبين لون الخد، وهو شبيهٌ بالشقائق، لكن الثاني أولى؛ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند طريان الخضرة، وليس في الشعر ما يدل على شباب الخضرة. انتهى.
قال الدماميني: قلت: إنما أنشد في التبيان البيتين الأخيرين، ولم يتكلم على معنى التفريق بين المحاجر والمعاجر في الاحتمال الأول، ولم يتقدم في هذه الأبيات الثلاثة ما يصلح أن يكوم معاد الضمير في فرقن، وجمعن غير العبرات، وعليه فلا معنى لشيءٍ من الاحتمالين اللذين أبداهما الطيبي، وإنما غره في جعل الضمير للنسوة المودعات كونه لم يظفر بالبيت الأول، وغلا فلو وقف عليه لتبين أن العبرات هي مرجع الضمير قطعاً؛ فإنه لا وجه بعد ذلك لنسبة التفريق والجمع للنسوة التي لم يجر لهن ذكرٌ.
إلى هنا كلامه؛ فإنك تراه كيف بين جهات الخلل في كلام صاحب التبيان، بما لا يمتري فيه من ذوي الفطرة إنسان.
وهذا ما ظهر لنا من الجواب، الجاري على منهج الصواب، فنقول: إن المفلقين من الشعراء، والمصاقع من البلغاء، قد تغالوا في وصف الدمع بما تبتهج به النفوس، ويروق السمع، فأخرجوه عما هو معهود ومأهول، وجعلوه متصل الجري دائم الهمول، من غير فترةٍ في وقتٍ دون وقت، وادعوا فيه أنه كالمطر حتى سقوا به الديار الآنسة، والأطلال الدارسة، إلى غير ذلك من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق، وادعوا أيضاً أن الدموع تبدلت بالدم، ومنه قول أبي تمام:
وأجْرَى لها الإشْفاقُ دَمْعاً مُوَرَّداً
…
مِن الدَّمِ يجْرِي فوقَ خَدٍ مُوَرَّدِ
ومن هذا اتضح باب تشبيه الدمع بالعقيق والمرجان والياقوت، بمجرد حمرة اللون.
ولما غلب استعمال الشعراء للدمع بالدم، وتداولت الأسماع وروده عليها، وألفت وقوعه فيها، صار حقيقةً عرفيةً عند الخاص والعام، وصار هو الأصل والدمع فرعاً عليه، حتى ادعى الشاعر أن المحبوبة أنكرت دمعه، وطالبته بالحجة والعذر عن بياضه، فقال:
وقائلةٍ ما بالُ دَمْعِك أبْيَضاً
…
فقلتُ لها يا عَزُّ هذا الذي بَقِي
ألم تعْلمي أن البُكا طال عُمْرهُ
…
فشابتْ دُموعِي مثْلَما شابَ مَفْرِقِي
وقال الآخر:
قالُوا ودَمْعِي قد صَفَا لِفِراقِهمْ
…
إنَّا عَهِدنا منك دَمْعاً أحمرَا
فأجَبْتُهم إن الصَّبابةَ عُمِّرتْ
…
فيكم وشابَ الدَّمْعُ لَمَّا عُمِّرَا
وقال بعضهم في الدمع الأسود:
وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أسْوداً
…
وجسمُك مُصْفَرَّاً وأنتَ نَحِيلُ
فقلتُ لها أفْنَى جَفاكِ مدامِعِي
…
وهذا سَوادُ المقْلتيْنِ يَسِيلُ
وقال الآخر في الدمع الأخضر:
وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أخْضَرا
…
فقلتُ لها هل تفْهمين إشارَتِي
ألم تعْلمِي أن الدُّموعَ تجفَّفتْ
…
فأجْرَيتُها يا مُنْيَتِي من مَرَارتِي
وقال الآخر في الدمع الأصفر:
وقائلةٍ ما بالُ دمعِك أصْفرَا
…
فقلتُ لها ما حالَ عن أصْلِ مائِهِ
ولكنَّ خَدِّي اصْفَرَّ من سَقَمِ الهَوى
…
فسالَ به واللونُ لَوْنُ إنائِهِ
إذا تقرر هذا، فنقول: الظاهر أن هذا الشاعر قصد أن عبراته هو اتصفت في حالة التوديع، وذلك المهيع الفظيع، الموجب لنحول الجسد، وحلول الكمد، وكسوف البال، وتغير الحال، وترادف الزفرات، وتتابع العبرات، واضطراب القلب، واضطرام الصدر، وانتهاب الصبر، بوصفين: أحدهما؛ أنها لفرط انصبابها، وتلاحق تساكبها، صارت حجاباً مانعاً، وستراً حائلاً بينه وبين رؤية ما هو بمرأى ومسمعٍ منه، فبهذا الاعتبار صح الحكم عليها بأنها فرقت بين محاجره التي كان ينظر منها، ومعاجر المحبوبة التي ينظر إليها، وهذا وصفٌ ممكن.
والثاني؛ أن عبراته اتصفت بلونين متقابلين، وذلك أنه لفرط بكائه، وحزنه وعنائه، في تلك الحالة الحويلة، التي تخدع العقل وتسحره، وتملك اللب وتقهره، وتغلب القلب وتبهره، فاضت عبراته تارةً دماً أحمر، يشبه الشقائق في لونها، وهذا قريبٌ من الإمكان، على ما قيل: إن أصل الدموع الدم، وتارةً دماً مشرباً بزرقةٍ يشبه البنفسج في لونه؛ وهذا بعيدٌ من الإمكان عادةً، لأن مادة البكاء إنما تكون من فضولٍ تصعدت إلى الدماغ من الرطوبات المنفصلة عن هذا الجسم، وليس في لونها زرقة، ولكن هذا من المبالغات الشعرية، التي لا تنخرط في سلك التحقيق؛ لكونها مقبولةً عندهم، بل كلما زاد الشاعر في ادعاء غير الممكن كان الشعر مستحسناً، حتى قيل: لو صدق الشعر لما استحسن.
غير أن هذا وإن كان بعيداً عن الإمكان، يقربه أن حالة التوديع توجب تغيراً في سحنة الوجه، بحيث يتراءى أن فيه زرقةً، فإذا فاضت عليه العبرات، تلونت بلونه؛ لكونه جوهراً شفافاً، يتلون بلون إنائه.
وهذا له مساسٌ بمقاصد الشعراء وتخيلات البلغاء، خصوصاً والدمع قد تغالوا فيه، حتى أخرجوه عن سعة دائرة الإمكان، إلى أوسع مكان، ألا ترى إلى ما تخيله بعض الشعراء، في وصفه بالزرقة حيث قال مخبراً عن محبوبته:
قالتْ وقد نظَرتْ لزُرْقةِ أدْمُعِي
…
أكَذَا يكون بكاءُ صَبٍ شَيِّقِ
فأجَبْتُها قد مات في جَفْنِي الكْرَى
…
فَجرَت دُموعِي في الحِدَادِ الأزْرَقِ
إذا تقرر هذا، ظهر لك صحة الحكم على عبراته بأنها جمعت بين البنفسج، وهو الدمع الموصوف بما ذكر، والشقائق، وهي الدمع الذي استحال دماً، فأشبه الشقائق في لونها، من غير نظرٍ إلى عبرات المحبوبة التي لم يكن في سياق الأبيات ما يدل على أنها كانت مكحولةً، كما اعترف هو به، وتكلف لها جواباً لا يسمن ولا يغني من جوعٍ.
على أن الدمع المشرب بالكحل لا يحسن أن يشبه بالبنفسج، كما هو ظاهر، فإن البنفسج، إنما يشبه ما فيه زرقةٌ لا سواد.
وهذا وجهٌ جميل، له من اللطافة ما ترى، وأنت إذا تابعت النظر يوشك أن يلوح لك وجهٌ آخر.
تاج العارفين بن عبد العال تاج مفرق عصره، وغرة جبين مصره.
من بيتٍ علمه منسجم الغمائم، عم نفعهم العالم، من منذ تتوجوا بالعمائم.
وقد نبغ هو كما شاءت معاليه، فازدانت به أيامه ولياليه.
مهابة تقدم لحظته، وبراعةً تتقد لفظته، ولطفاً ملىء به جسمه، وصفاءً قام به وسمه.
فمناقبه غررٌ على أوجه الأيام تسيل، وشرفه لا يلحقه السابق ولا الرسيل.
وله شعرٌ وإنشاء رائقان، وفي معارج اللطافة إلى فلك القبول راقيان.
وقد جئتك منهما بما تشتم به نفساً ينسي السوسن المبلول، وتنفح منه نفحاً يهدي لك نور الربى المطلول.
فمن ذلك ما كتبه إلى عبد الرحمن المرشدي، مفتي مكة:
أذَكرْتَ رَبْعاً من أُمَيْمةَ أقْفَرَا
…
فأسَلْتَ دمعاً ذا شُعاعٍ أحْمَرَا
أم شاقَك الغادُون عنك بسُحْرَةٍ
…
لمَّا سَرَوا وتَيَمَّمُوا أُمَّ القُرَى
زَمُّوا المَطِيَّ وأعْنَقُوا في سَيْرِهم
…
لِلّهِ دمعِي خَلْفَهم يا ما جَرَى
ما قُطِّرتْ في السَّيْرِ أجْمالٌ لهم
…
إلَاّ ودمعي في الرِّكابِ تقطَّرَا
فكأنَّ ظَهْرَ الْبِيدِ بَطْنُ صَحِيفةٍ
…
وقِطارُها فيه يُحاكِي الأسْطُرَا
وكأنها بهَوادِجٍ قد رُفِّعتْ
…
سُفُنٌ ودمعُ الصَّبِّ يحكي الأبْحُرَا
رحَلُوا وما عادُوا على مُضْناهمُ
…
وَاهاً لحَظِّي ليت كنتُ مُؤَخَّرَا
إن كان جسمي في الدِّيارِ مُخَلَّفاً
…
فالقلبُ منهم حيث قالُوا أهْجَرَا
أظْهرْتُ صبرِي عنهمُ مُتجلِّداً
…
وكتَمْتُ وَجْدِي فيهمُ مُتسترَا
وغدا العَذُولُ يقول لي مِن بعدِهم
…
بَادٍ هواك صَبَرْتَ أم لم تصْبرَا
أقسمتُ إن جادَ الزمانُ بِمطْلبِي
…
وسَلكْتُ رَبْعاً بالمنَاسِكِ عُمِّرَا
وشهدِتُ بَدْرَ الحيِّ بعد أُفُولِهِ
…
مُذْ لاح مِن أفُقِ السعادةِ مُقْمِرَا
أدَّيْتُ خدمةَ سيِّدٍ سَنَدٍ غَدَا
…
مُفْتِي الأنامِ وِراثةً بين الوَرَى
وكتبت إليه أيضاً:
مَلَكتْ سَوْرةُ الرَّحِيلِ عِنانِي
…
وأهاجتْ سَواكِنَ الأشْجانِ
أتمنَّى أسْرِي وهل يملِك السَّيْ
…
رَ طَرِيحُ النِّدَا أسِيرُ التَّدانِي
يا خليليَّ وَقْفةٌ بالمُصَلَّى
…
تُجْدِ حَمْدَ السُّرَى ودَرْكَ الأمانِي
فاعْطِفا وانْزِلا وبُثَّا سَلامِي
…
لِوَجِيهِ العُلَى فريدِ المَعانِي
أنا بيْن لَوْعةٍ عَلِم اللَّ
…
هُ وشَوْقِي له بِطُولِ الزَّمانِ
أيْنَ منِّي الحَنِينُ من ذاتِ طَوْقٍ
…
سَلَبَتْها النَّوَى غُصونَ الْبَانِ
لو تُطِيقُ النِّياقُ شوقِي لما حَنَّ
…
تْ خُضوعاً مِن تُرْبِها أجْفانِي
وبقلبِي من الوَجِيبِ إليهِ
…
مِثْلَما بالنِّياقِ مِن دَمَلانِ
فَوَعَيْشِ الصِّبا وحيِّ التَّصابِي
…
ولَيالِي الرِّضَا وأُنْسِ التَّدانِي
إنَّ قَصْدِي لُقْياك لكنْ قِيادِي
…
بيَدٍ ليس لي بها مِن يَدَانِ
فأجابه بقوله:
يا خليليَّ بالصَّفا أسْعِدَانِي
…
وبوَصْلٍ من الإياسِ عِدانِي
واحْمِلَا بعضَ ما أُلاقِي وبُثَّا
…
حالَ صَبٍ مُتيَّمِ القلبِ عَانِي
جسمُه في جِيادَ والقلبُ منه
…
في قُرَى مصرَ دائمُ الخَفَقَانِ
لم يزَلْ شَيَّقاً وَلُوعاً دَواماً
…
شَاخِصَ الطَّرْفِ سَاهِرَ الأجْفانِ
يرقُبُ النَّجْمَ لَيْلَه وإذا أصْ
…
بحَ أضْحَى مُناشِدَ الرُّكْبانِ
هل رأيتمُ أو هل سمعتمُ حَدِيثاً
…
عن قديمِ الإخَا عظيمِ المعانِي
هو تاجٌ لِلْعارفين الذي قد
…
نالَ إرْثاً عَوَارِفَ العِرْفانِ
خُصَّ بالعِلْمِ والرِّياسةِ والوُدِّ
…
وهَذِي مَواهبُ الرحمنِ
فهو كنزٌ ومَجْمَعٌ لعُلومٍ
…
قد حَواها بغايةِ الإتْقانِ
وهو صَدْرُ الشريعةِ المَشْرَعُ العَذْ
…
بُ البَسِيطُ الْمُحِيطِ والبُرْهانِ
دام فينا مُبَلَّغاً ما يُرَجَّى
…
من مُرادٍ ورِفْعةٍ وأمانِي
ما تغَنَّى على الرِّياضِ هَزارٌ
…
رَقَّص الغُصْنَ في رُبَا البُسْتانِ
وكتب إليه أيضاً:
اليومُ مثلُ العامِ حتى أرَى
…
وَجْهَك والساعةُ كالشَّهرِ
إن أبهى ما تجملت به السطور والطروس، وأشهى ما استعذبته الأنفس وتطلبته النفوس، دعاءٌ على مر الدهور لا ينقضي، وابتهالٌ بأكف الضراعة للإجابة مقتضي، أن يديم على صفحات الوجوه شامة دهرها، وواحد وقتها، وعالم عصرها.
المستجمع لمكارم الأخلاق والشيم، والمنفرد بمزاياها عند الخلق والأمم.
المشتهر عند العرب والعجم بأنه ملك من العلم زمامه، وجعل العكوف عليه لزامه.
فانقاد إليه انقياد الجواد، وجرى في ميدانه بحسن السبق والفكر الوقاد.
عالم الغرب والشرق، ومزيل ما تعارض من المسائل بحسن الجمع والفرق.
الجامع بين رياستي العلم والعمل، والمانع بإخلاص السريرة من لحوق عوارض العلل.
كنز العلوم والكشف، بحر الهداية الذي ارتوى منه بالعب والرشف.
صدر الشريعة الغرا، وشيخ حرم الله بالإفتاء والإقرا.
من لا يمكن حصر وصفه بالتفصيل، فإن الإطناب فيه طويل، وإنما أحيل على ما قيل:
أنت الذي وَقَفَ الثَّناءُ بسُوقِهِ
…
وجَرَى النَّدَى بعُروقِهِ قبلَ الدَّمِ
عبد الجواد بن شعيب الخوانكي شاعرٌ متسع الباع، معتدل الطباع في الانطباع.
فهو ليس بالناسك البارد، ولا الفاتك المارد.
ولا بالمتعفر المتقشف، ولا بالخليع المتكشف.
يشوب الحصافة بالفصاحة، ويزين اللباقة باللياقة.
ويجمع بين الجد المقبول والهزل المطلوب، ويستشف عما يقر العيون ويسر القلوب.
وقد أوردت له ما محله الخلد، وإذا نقدته علمت أن قائله من نقد البلد.
فمن ذلك قوله:
وَيْلاهُ يهْجُرني عَمْداً بلا سَبَبِ
…
وفي مَحَبَّتهِ الأمثالُ تُضْرَبُ بي
ليت الصَّبابةَ ما كانتْ ولا خُلِقتْ
…
فإن آخرَها يُفْضي إلى العَطَبِ
شهراً ثلاثين يوماً لا أراكَ ولا
…
عَيْنِي رأتْك فقلبي زائدُ الوَصَبِ
ولا تخُطُّ كتاباً منك تُخْبِرُنِي
…
أعَنْ رِضىً كان هذا الصَّدُّ أم غَضَبِ
ولا يمُرُّ خيالٌ منك في حُلُمِي
…
فأطْمئِنُّ وهذا غايةُ العَجَبِ
وكيف يسْرِي خَيالٌ والكَرَى مَنعتْ
…
بَناتُ نَعْشٍ به في أعْيُنِ الشُّهُبِ
كأنه كان جِنِّيّاً يُسارِقُنِي
…
فأحْرقَتْه فما أبْقتْ سِوَى اللَّهَبِ
وقوله:
سِرْبُ جِنَّانٍ في جِنَانٍ وبِي
…
يمْشِي مع الغِزْلَانِ في رَبْرَبِ
يرْتَعُ في النَّرْجِسِ أو يرْتَقِي
…
حَبَّةَ قلبِي بَدَلَ الزَّرْنَبِ
تَرْفُل بالسُّنْدُسِ أعْطافُه
…
أعْطافُ غُصْنِ الْبانةِ المُخْضَبِ
في صَنْعةِ السِّحْرِ لأجْفانِه
…
أشْياءُ عن هاروتَ لم تُكْتَبِ
قد عقَد النَّوْمَ وغَلَّ الكَرَى
…
مِنِّي ولا تسَلْ ما حَلَّ بي
حُلْوُ الْجَنَى مُرُّ الْجَفَا قُرْطُه
…
عَرَّفنِي مَنْزِلة الكَوْكَبِ
وَرْدُ الرُّبَى يُقْطَفُ من خَدِّه
…
والشُّهْدُ من مَعْسُولِه الأشْنَبِ
أسْكَرنِي منه عُذَيْبُ اللَّمَى
…
لو لم يكنْ ذا بَارِقٍ خُلَّبِ
أطْمَعنِي في وَصْلِه مَرَّةً
…
وقال يا أطْمَعُ من أشْعَبِ
قوله: والشهد مبتدأٌ خبره الجملة، فلا يرد أن القطف في العسل غير لغوي، على أنه يمكن فيه ارتكاب التجوز، فيستعمل فيه كما استعمل في قطف الزهر، وأصله من قطف الكرم.
ومن صنائعه قوله:
ومن عَجَبٍ سَفْكُ الجُفونِ دماءَنَا
…
وعَهْدِيَ أن السيفَ يقطَعُ لا الغِمْدُ
وأعْجَبُ من هذا تُشَقُّ قلوبُنا
…
ولا أوْضَحَتْ عَظْماً ولا خُدِشَ الجِلْدُ
وأعْجَبُ من هذيْن تَجْنِي تَعَمُّداً
…
ويُقْضَى لها أن لا قِصاصَ ولا حَدُّ
وأعْجَبُ من تلك العجائبِ أنَّنِي
…
بقْتلِيَ رَاضٍ وهْو يغضبُ من بَعْدُ
وأعْجَبُ منها مرَّتيْن شِكايتِي
…
وهل يملِكُ الشَّكْوَى من السَّيِّدِ العَبْدُ
وأعْجَبُ منها مرَّتيْن ومَرَّةً
…
يَصُدُّ فيدْعُوني لِطاعتهِ الصَّدُّ
وأعْجَبُ من أضْعافِها قَوْلُ عَاذِلِي
…
تسَلَّ ألَا لو كان في عَاذِلٍ رُشْدُ
وأعْجَبُ شيءٍ مُطْلَقاً أنه اجترَى
…
ولم يَدْرِ مَن أهْوَى أزينبُ أم دَعْدُ
أما والذي أبكى وأضْحَك لم يكُنْ
…
لِيُخْلَق لولا خَدُّه الآسُ والوَرْدُ
ومن شعره قوله من قصيدة، أولها:
يا رَبَّة الْخَلْخالِ والقُرْطِ
…
والمِطْرفِ الموْشِيِّ والمِرْطِ
عَطْفاً فإنِّي لم أحِدْ يوماً
…
عن حِفْظِ ذاك العهدِ والشَّرْطِ
قِفِي انْظُرِي ما حَلَّ بي إنِّي
…
قد ضَرَب الأمْثالَ بي رَهْطِي
وغادةٍ بَيْضاءَ مِعْناقٍ
…
قَوامُها كالأسْمَرِ الخَطِّي
لها رُضابٌ ولها ظَلٌ
…
كالشُّهدِ مَمْزوجاً بإسْفَنْطِ
رأيتُها في رَوْضةٍ يَوْماً
…
تخْتالُ بين الأثْلِ والخَمْطِ
فقلتُ ناشَدْتُك إلَاّ ما
…
عَجِلْتِ لي من وَصْلهِ قِسْطِي
فوجَّهتْ وَجْهَ الرِّضَا نَحْوي
…
وأعْرَضتْ عن وِجهةِ السُّخْطِ
وقوله:
ما اصْطَفى قلبيَ إلَاّ مُصْطَفى
…
هُوَ حَسْبي من حبيبٍ وكَفَى
أسْعَدَ اللهُ تعالى طالِعاً
…
حَلَّ فيه وأراه الشَّرَفَا
ما عليه لو سَقانِي رِيقَهُ
…
إنه الشُّهْدُ وفي الشُّهْدِ شِفَا
إنْ وَفَى الدهرُ به في ليلةٍ
…
فهْو عندي دائماً أهلُ الْوَفَا
وكتب إلى صديقٍ له:
قُلْ للذي أنا ثابتٌ في حُبِّه
…
وهَواهُ وهْو مُبَدِّلٌ مِيثَاقِي
إنِّي لأرْضَى أن تُنَوِّه بي ولو
…
في آخِرِ القِرْطاسِ بالإلْحاقِ
وله في الدخان:
هل آيةٌ جاءتْ بتحْريمِهِ
…
أو هل حديثٌ نَبَويٌّ وَرَدْ
فقُم إلى الغابَةِ وانْهَضْ لها
…
لا يقْرَبُ الْغابةَ إلَاّ أسَدْ
عبد الباقي الإسحاقي شاعرٌ تجاوز في الرقة الحد، فكأنما تكون من سحر الجفن ورقة الخد.
فشعره عليه رونقٌ باهرٌ من الحسن، وهو أفعل في القلوب من التفتير في الجفون الوسن.
باختراع المعاني ذو صبابة، يرمي الغرض البعيد عن قوس الإصابة.
وقد جاء في هذه الخطة أمةً وحده، فلم يجهل أحدٌ من أهل العصر رسمه وحده.
فابن نباتة لم ينل حلاوة معانيه، وابن سكرة عزبت عنه عذوبة مبانيه.
وقد أوردت له ما تتعاير على رونقه دراري البحور، وتتمايل له طرباً أغصان القدود المثمرة بثمار النحور.
فمن ذلك قوله:
تمشَّتْ لنا تُخْجِلُ الكَوْكَبَا
…
فناديتُها مَرْحَباً مَرْحَبَا
غزالةُ إنْسٍ لها طَلْعةٌ
…
إذا خالَها الصَّبُّ حَقّاً صَبَا
أدارتْ بحَضْرتِنا قَهوةً
…
وطافتْ بكأسِ الطِّلَا مُذْهَبَا
رَنَتْ ورَمتْنِي بألْحاظِها
…
وقد أذْكرتْنِي عهدَ الصِّبَا
فلو أنَّ نَظْرتها كالظِّبَا
…
لَهَانَ ولكنْ كحَدِّ الظُّبَا
وغَنَّتْ لنا فطرِبْنَا لها
…
فيا حُسْنَ ذاك الذي أطْرَبَا
غَزالِيَّةٌ آنَسَتْ صَبَّها
…
وأنْسَتْ مَحبَّتُها زَيْنَبَا
فَهِمْنَا فَهِمْنا غَراماً بها
…
وعن حالتِي حُبُّها أعْرَبَا
وصبَّرتُ قلباً غَدَا هائماً
…
وقد كاد في الحُبِّ أن يَذْهَبَا
ففيه مَديحِيَ عَذْباً يُرَى
…
وفي غيرِها المدحُ لن يَعْذُبَا
سأجعلُ في وَصْفِها نُبْذَةَ
…
وأركبُ في حُبِّها أشْهَبَا
مدحتُ فقَصَّر قلبي المديحَ
…
وكان مُرادِيَ أسْتَوْعِبَا
وإنِّيَ في وَصلِها سيِّدي
…
تَرانِيَ بين الورَى أشْعَبَا
فباللهِ يا نَسْمةَ الْبانِ إنْ
…
حَفَفْتِ على حَيِّ ذاك الرُّبى
وجُزْتِ رِياضاً بها غَادتِي
…
فهاتِ لنا عن حُلاهَا نَبَا
أيا عاذِلِي في هَواها اتَّئِدْ
…
حديثُك عنديَ مثلُ الْهَبَا
سقى اللهُ رَوْضاً به سَادتِي
…
من الوَبْلِ غَيْثاً به صَيِّبَا
لأنِّيَ باقٍ على عهدِهمْ
…
أرَى حُبَّهم مَذْهَباً مُذْهَبَا
وقوله:
أذْكَرْتِ أيَّتُها الحمامةُ غِيدَا
…
ومَعاهِداً سلَفتْ لنا وعُهودَا
وصَدَحْتِ فوق أراكةٍ فصَدَعْتِ قلْ
…
بَ شَجٍ وحين صعَدْتِ ذا الأُمْلودَا
ذكَّرْتِ أشْجاناً لنا ومَعاهِداً
…
وصَفاً تقضَّى طارِفاً وتَلِيدَا
هذا على أن الغرامَ إذا زكَا
…
ظَلَّ الشَّجِي يتوقَّعُ التَّغْرِيدَا
للهِ أيامٌ نعِمْتُ بها وقد
…
عقَد الغَمامُ على الغصونِ بُنودَا
حيث الشَّجِي طَوْراً يُخَمِّشُ كاعِباً
…
ومن الجَوى طَوْراً يُخَمِّشُ رُودَا
حيثُ الشَّمالُ يُحرِّكُ العَذَباتِ إذْ
…
يخْطُو ويخطِر في الرِّياضِ وبِيدَا
حيثُ المَثانِي والمَثالثُ هذه
…
تَرْنُو وذِي تُشْجِي تُحرِّكُ عُودَا
هذا ومَعْ أنَّا ولو طفَحَت كُؤو
…
سُ الرَّاحِ واشْتعل المُدامُ وَقُودَا
ما حرَّكتْ مِنَّا الشَّمُولُ سِوَى الرُّؤو
…
سِ كذا الشَّمالُ تُحرِّكُ الأُمْلُودَا
أتَؤُوبُ هاتِيك اللُّوْيلاتُ التي
…
فيها نظَمْتُ لآلئاً وعُقودا
ولَرُبَّ خِلٍ حاز أنْواعَ الذَّكا
…
ولِذَا غَدَا في المَكْرُماتِ فريدَا
سَامَرْتُه وجَنَوْتُ من ألْفاظِه
…
ما يُخْجِلُ الصَّهْباءَ والعُنْقودَا
وجَلَا عليَّ عَرائِساً من فِكْرِه
…
حَسُنتْ طُلاً ومَعاطِفاً وقُدودَا
وأفادنِي وأفَدْتُه والخِلُّ يح
…
مَدُ أن يُفادَ مَعانِياً ويُفِيدَا
فالعقلُ نَامٍ والعَفافُ بحالِه
…
ومُجِيدُ فِكْرتِنا اسْتمرَّ مُجِيدَا
يا عبدُ فابْقِ على اصْطباحِك واغْتبا
…
قِك واصْحَبَنَّ العَهْدَ والمَعْهودَا
ومن مطرباته قوله:
رقص المجلسُ أُنْسَا
…
فاجعلِ الجَرَّةَ كأْسَا
واسْقنِي بالزِّقِّ والطَّا
…
سِ فإنِّي طِبْتُ نَفْسَا
وأقِمْ للَّهْوِ واللَّذَّ
…
اتِ في حَانِيَ عِرْسَا
قد غَرسْنا زَهْرَ حُبٍ
…
فَجَنَيْنَا منه غَرْسَا
فأمْلَ لِي حتى ترَى الأعْ
…
رابَ في المَنْطِقِ خُرْسَا
لا ولا تقْنَعْ بذا حَتَّ
…
ى تَرَى النُّدْمانَ خُرْسَا
ما بهم قَطُّ حَراكٌ
…
لا ولا تسْمَعُ هَمْسَا
حَبَّذا بِكْرٌ عَرُوسٌ
…
قد حَكَتْ في اللَّونِ وَرْسَا
هي عَذْراءُ عجوزٌ
…
لم تكُنْ تَنْفُضُ لَمْسَا
وعجيبٌ لعَرُوسٍ
…
أدْرَكَتْ قُسّاً ورَسَّا
وهي لِي سِتٌّ ولكنْ
…
ملكتْ مِنِّيَ خَمْسَا
قولهم: ستي بمعنى سيدتي خطأ، وهي عامية مبتذلة، ذكره ابن الأعرابي، وتأوله ابن الأنباري، فقال: يريدون يا ست جهاتي. وتبعه في القاموس، فقال: وستي للمرأة، أي يا ست جهاتي؛ كناية عن تملكها له، ولا يخفى أنه تكلفٌ وتمحل.
وإليه أشار بهاء الدين زهير:
برُوحِي مَن أُسَمِّيها بِسِتّي
…
فتنْظُرُني النُّحاةُ بعَيْنِ مَقْتِ
يرَوْنَ بأنَّني قد قلتُ لَحْناً
…
وكيف وإنَّني لَزُهَيْرُ وَقْتِي
ولكن غادةٌ ملَكتٌ جِهاتِي
…
فلا لَحْنٌ إذا ما قلتُ سِتِّي
كيف لا وتُرِينِي
…
في دُجَأ الظَّلْماءِ شَمْسَا
وتُقِيمُ المَيْتَ حَيّاً
…
بعدَ ما جاوَرَ رَمْسَا
فاتَّخَذْناها إلى الخَلْ
…
وةِ في المجلسِ عِرْسَا
واصْطَفيْناها إلى جَيْ
…
شِ هُمومِ القَلْبِ تُرْسَا
واتَّقَينا بظُباهَا
…
في الْوَغَى جِنّاً وإنْسَا
هاتِها من يَدِ ظَبْيٍ
…
يُكْسِبُ النُّدْمانَ أُنْسَا
وإذا عَزَّتْ سَقَى مِن
…
لَحْظِه الأدْعَجِ نَطْسَا
فيه أضْحَى القلبُ مُغْرىً
…
مِثْلَما أصبح أمْسَى
فإلى اللّذَّاتِ أشْكُو
…
زَمَناً لِلَّهْو أنْسَى
صار فيه القلبُ صَخْراً
…
وغدا المَضْجَعُ حَبْسَا
ولقد عَمَّ مَعالي
…
مَ الذَّكَا نَوْعاً وجِنْسَا
ما ابنُ إسْحاقَ بأزْكَى
…
منك أنفاساً ونَفْسَا
إن تأسَّيْتَ تَسلَّيْ
…
تَ فحَبْرٌ من تَأَسَّى
وله في الغزل:
يُحرِّكني إليك هَوىً مُطاعُ
…
فأحمِلُ فيك ما لا يُسْتطاعُ
وأركبُ مَرْكَباً في الحبِّ صَعْباً
…
تضِيق به الأماكنُ والبِقاعُ
فلِلْعَبَراتِ في الخدِّ انْدِفاقٌ
…
وللزَّفَراتِ في الصَّدْرِ انْدِفاعُ
وفي هذِي رُمِيتُ بكلِّ بَلْوَى
…
تدَاوَل ذكْرَها الرَّهَجُ الرَّعاعُ
وبَلْوَى الدهرِ تنزِل كلَّ يومٍ
…
بكلِّ فتىً له في السَّبْقِ بَاعُ
تطاوَل في المَكارِمِ منه طَولاً
…
له في عالَمِ الغيبِ اطِّلاعُ
فما ذَنْبي سوى أنِّي مُحِبُّ
…
وفي كَبدِي من الحبِّ انْصِدَاعُ
ولي فضلُ التَّقدُّمِ في انْقطاعٍ
…
إليك وليس لي عنك انْقِطاعُ
أضعْتَ مَودَّتِي ونسِيتَ عهدي
…
وعهدي في المَحبَّةِ لا يُباعُ
وكنتُ قنعْتُ بالكتْمانِ فيكم
…
فأمَّا اليوم فانْكَشف القِناعُ
وكنتُ إذا سمعتُ لكم حديثاً
…
يُحرِّكني من الوَجْدِ السَّماعُ
فإن تعْطِفْ على عبدٍ مُضاعٍ
…
فإنِّي ذلك العبدُ المُضاعُ
وقد طلَّقْتُ سَلْوتَكم ثلاثاً
…
طلاقاً ليس لي فيه ارْتجاعُ
على أني سأُنْشِد عند بَيْعي
…
أضاعُوني وأيَّ فتىً أضَاعُوا
ومن مطرباته قوله:
امْلَ لي الكاسَ تَماماً
…
واسْقِنِي جَاماً فجَامَا
واجْعلِ الدُّرَّةَ كأساً
…
وخُذِ التِّبْرَ مُدامَا
تمِّمِ الكأسَ فإنَّ الْ
…
كاسَ ما كان تَمامَا
واتَّخِذْها سُلَّما لِلَّ
…
هو يسْمُو أن يُسامَى
وتوهَّمْ أنها الحِلُّ
…
وإن كانتْ حَرامَا
ثم أزْهَى موضعٍ في الرَّ
…
وضِ فاخْتَرْه مُقامَا
وإذا ما شئتَ أنْ تسْ
…
كرَ فاسْتَدْعِ النَّدامَى
ولْيَكُنْ خمْرُك عَا
…
دِيّاً وساقِيك غُلامَا
يمْلأُ الكاساتِ والألْ
…
حانَ بُرْءاً وسَقامَا
يملأُ القلبَ سروراً
…
وانبِساطاً وغَرامَا
عابِثاً بالغُصْنِ أعْطا
…
فاً وبالزَّهْرِ ابْتِسامَا
ومُحَلَّى بالطِّلا جِي
…
داً وبالْعارِضِ لَامَا
وترَى منه القَوامَ الْ
…
غُصْنَ والغُصْنَ الْقَوامَا
وترى الأغْصانَ إجْ
…
لالاً له هِيباً قِيامَا
اسْقِني بالكُوبِ والكَا
…
سِ فُرادَى وتُوَامَا
ثم بالطّاسِ إلى أنْ
…
تتَراءَى الْهامُ هَامَا
ثم بالْجَرَّةِ فالْجَرَّ
…
ةِ حتَّى أتَرامَى
اسْقِني حينَئِذٍ بالزِّ
…
قِّ حتى لا كَلامَا
ثم بادَّنِّ فتلك الْ
…
غايةُ القُصْوَى تمامَا
ثم خُذْ عنِّيَ ما شِئْ
…
تَ ولا تخْشَ أثامَا
والْتَقِطْ مِنِّي الجُمانَ الْ
…
فَرْدَ نَثْراً ونِظامَا
وإذا لم يكُنِ الطَّا
…
فِحُ بالكأسِ هُمامَا
فاغْدُ واعْذِرْ وإذا رَا
…
مَ خِطاباً قُلْ سَلامَا
أبو السرور الهوي روض أدبٍ أزهاره لا تعرف ذوا، وله شعرٌ لطيف لمرض الشجون دوا.
سلك من شعاب الفضل أقوم سبيل، وكرع من حياضه أعذب سلسبيل.
فأطلع شعره أبهى من السرور، وألطف من الزلال على الكبد المحرور.
وكان في عنفوان شبابه، ورواء أخدانه وأحبابه، حليف هوىً ولهو، وأليف وجدٍ وزهو.
بين ندمانٍ طلعوا في أفق الحسن شموسا، وذللوا من مطايا الطرب حرونا وشموسا.
ولما رأى تلك الشموس هوت، ونجوم الآمال قد خوت، أعرض عن هواه، وداوى داء عشقه بدواه.
وتحقق بالانقياد لمنهج الصواب، ونادى منادي الغيب فسمع الجواب.
ولم يزل موفقا لإحراز مراضيه، وحال مستقبله خيرٌ من ماضيه.
إلى أن انتقل إلى رحمة علام الغيوب، بريء الساحة من درن العيوب.
فمن شعره، قوله من نبوية، مستهلها:
حتَّى م يُقْصِيني بِعادِي
…
عن حَيّ حَيِّ حِمَى سُعادِ
وإلى متى يَثْنِي عَزَا
…
ئمَ هِمَّتِي طولُ التَّمادِي
وعلى مَ ذا شَرٌّ يَرُو
…
جُ وكلُّ خيرٍ في كَسادِ
ولَج النَّهارُ اللَّيْلَ في
…
فَوْدِي وفي ظُلَمِ الغَوادِي
ما آن إمْساكٌ بَدَا
…
خَيْطُ البياضِ من السَّوادِ
ما آن للسَّفَرِ الطوي
…
لِ من التُّقَى تحْصِيلُ زادِ
ما آن يا ذاتَ الْجِها
…
تِ السِّتِّ لي جَمْع انْفِرادِ
رَفْعُ النِّقابِ لينْجَلِي
…
مَرْأَى وُجودِي عن مُرادِي
ما آن أن تتذكَّرِي الْ
…
عهدَ القديمَ من الوِدادِ
ما آن أن تتعرَّفِي
…
طالَ التنكُّرُ في بِعادِي
أوَّاهُ قد كُشِفَ الحجا
…
بُ وخاب في نَظَرِي سَوادِي
والرَّكْبُ سار على الجِيا
…
دِ بمن تزَوَّدَ خيرَ زادِ
وقطعْتُ عُمْرِي في المَسِي
…
رِ ولا بَرِحْتُ ببَطْنِ وَادِ
ولقد ضلِلْتُ وليس لي
…
إلَاّ دليلُ الخيرِ هادِي
ذُو الجاهِ والباعِ الطوي
…
لِ إذا تقاصَرتِ الأيادِي
المُصْطَفى المُخْتارُ صَفْ
…
وةُ مُجْتَبِيهِ من العبادِ
مَاحِي الضَّلالةِ بالبنَا
…
نِ وبالبيَانِ وبالفؤادِ
شمسُ النُّبُوةِ في الشُّرو
…
قِ وفي الغروبِ وذا اعْتقادِي
يا أحمدُ المحمودُ في التَّ
…
نْزِيلِ يا عالِي العِمادِ
العَجْزُ عن إدْراكِ دَرْ
…
كِك غايةٌ في الاعْتقادِ
يا واحداً جَمع المَحا
…
سِنَ كُلَّهُنَّ على انْفِرادِ
يا كَنزَ إكسِيرِ الوِدا
…
دِ لقلبِ أعْيانِ الأعادِي
بذُنوبِ أهلِ الأرْضِ جِئْ
…
ك مُسْلِماً ولك انْقيادِي
وبك استغَثْتُ وأنتَ أكْ
…
رمُ أن يَرُدَّ نَدَاك صَادِي
والعفوُ أوسعُ من ذنُو
…
بي والرَّجا مَحْضُ اعْتقادِي
يا سَيِّداه ويا نَبِيَّ
…
اهُ ويا غَوْثَ المُنادِي
زَنْدُ الرَّجا والخوفِ أَوْ
…
دعَ مُهْجتِي وَرْىَ الزِّنادِ
إنِّي أنا المُضْطَرُّ والْ
…
مُضْطَرُّ مقبولُ الجِيادِ
إن النَّوائبَ شَتَّتَتْ
…
شَمْلِي بأهْوالٍ شِدادِ
إنِّي إلى المعروفِ أشْ
…
وَقُ في الْوَفَا مِن طِيبِ زَادِ
وإذا بسَطْتَ الكَفَّ جُو
…
داً كَفَّ من عُدْمِ الأعادِي
مَهْداً تبيَّنْت السُّرو
…
رَ وفي الصِّبا حُزْنُ الفُؤادِ
أجِزِ الجوائزَ بالقَبُو
…
لِ فإنه أقْصَى مُرادِي
فعَليْك ما ضَجَّ الْحجِي
…
جُ وسار بالرُّكْبانِ حَادِي
أزْكَى الصلاةِ مع السلا
…
مِ مِن السَّلامِ بلا نَفادِ
والآلِ والصَّحْبِ الذي
…
ن قَضَوا جِهاداً في الْجِهادِ
ما أحْسَنَ اللهُ الخِتَا
…
مَ لحُسْنِ إصْلاحِ المَبادِي
ومن مقطعاته قوله:
رَامَ رِئمُ الحِمَى يُقَبِّلُ ظَبْياً
…
فتلقَّى وُقوعَها في فِيهِ
فانْثَنَى نافِراً وألْفَتَ جِيداً
…
وعَجِيبٌ نِفارُه مِن أخِيهِ
وقوله:
إخْوانُ هذا الزمانِ لمَّا
…
تفرَّقتْ منهمُ القلوبُ
توهَّمُوا أنهمُ أَصابُوا
…
وما دَرَوا أنهمُ أُصِيبُوا
محمد بن حجازي الرقباوي شاعر مكثار، إلا أنه مأمون كبوةٍ وعثار.
دخل الحجاز واليمن، واتصل بولاتهما الذين ابتهج بهم الزمن.
فأطال في مدحهم وأطاب، وملأ ذخائر أنعمهم الجمة الوطاب.
ولله تعالى بقايا من عباده في بلاده، خلقهم لينعش بهم العاثر، ويحيى بمكارمهم المعالي والمآثر.
فمن مدائحه في الشريف زيد، صاحب مكة، قوله من حاثية عارض بها الفتح بن النحاس، مطلعها:
كلُّ صَبٍ مالَه في الخَدِّ سَفْحُ
…
لم يَرُقْ في عينهِ نَجْدٌ وسَفْحُ
ومتى يعلُو بشأنٍ في الهوى
…
وله شأنٌ به فيه يَشِحُّ
إنَّما الدمعُ دليلٌ ظاهرٌ
…
إن يكنْ للحبِّ مَتْنٌ فهْو شَرْحُ
والذي يصْبُو لأغْصانِ النَّقَا
…
لم يكنْ عنها بغير الطَّرْفِ يَصْحُو
يستْحِي من أن يُوافِيها الْحَيا
…
وهْو أوْفَى مِنَّةً والغَيْمَ يَمْحُو
كيف يسْتسْقِي لها ماءَ السَّما
…
وله جَفْنٌ متى شاء يَسِحُّ
رَوضةٌ لِلْغِيدِ كانتْ مَلْعباً
…
وهي في لَبَّةِ جِيدِ الشرقِ وَضْحُ
كلما نقَّطَها قَطْرُ النَّدَى
…
رَشَف الطَّلَّ بها رَنْدٌ وطَلْحُ
وإذا مَرَّتْ بها رِيحُ الصَّبا
…
سَحَراً أرَّجَها بالمِسْكِ نَفْحُ
وتغنَّتْ فوقها وُرْق الحِمَى
…
ولِدَاعِي بُلْبلِ الأشواقِ صَدْحُ
رُبَّ خَودٍ ذاتِ لَحْظٍ فاتِنٍ
…
فاتِكٍ بالكَسْرِ والسَّقْمِ يَصِحُّ
بَضَّةٍ قد غُمِستْ في حُسْنِها
…
ولها في لُجَجِ الإحْسانِ سَبْحُ
أتُراها اسْتَعْذَبتْ يومَ النَوَى
…
لِعَذابِي كأسَ بَيْنٍ وهْوَ مِلْحُ
ما لَها لا عَبَثَ الدهرُ بها
…
لا تَرَى الهِجْرانَ يكْفِي وهْو ذَبْحُ
كنتُ أشكُو صَدَّها مِن قبلِ أن
…
تنْتوِي والآن عندي فيه شُحُّ
يا نَوارُ اصْطنعِينِي باللِّقَا
…
فلَكمْ قالَيْتُ مَن في العشقِ يَلْحُو
إن تكُونِي شِمْت في ليل الصِّبا
…
بَارِقاً فهْو لرَوْضِ الحُلْمِ فَتْحُ
كم جلَيْتِ الشمسَ في غَرْبيَّةٍ
…
وسَمَحْتِ وجَناحُ الفَوْدِ جُنْحُ
فاجْعلِيه شافِعاً فيما بَدَا
…
أيُّ لَيْلٍ ما لَه يا بَدْرُ صُبْحُ
ولقد أعلمُ حَقّاً لم يكنْ
…
منكِ عن ذَنْبِ ظُهورِ الشَّيْبِ صَفْحُ
كم أُدارِي فيك عُذَّالِي وكم
…
ساءَنِي فيك على التَّبْريحِ كَشْحُ
وإذا فعل الغوانِي هكذا
…
كلُّ ذي سُكْرٍ بهم لاشَكَّ يَصْحُو
سأذُودنََّ فؤادِي رَاغِباً
…
عن هوَى مَن جِدُّه بالصِّدْقِ مَزْحُ
يا خليليَّ اعْذِرا بِي إنَّ لي
…
نارَ وَجْدٍ ما لها بالعشق لَفْحُ
خَلِّيانِي والذي ألْقاهُ مِن
…
زَنْدِ شوقي مالَه بالغِيدِ قَدْحُ
أنا عن ألْحاظِهم في مَعْزِلٍ
…
وحَدِيثي ظاهرٌ وهْو الأصَحُّ
قد نَسِينَا ما حَفِظْنا منهمُ
…
ورأيْنا أن بعضَ العَذْلِ نُصْحُ
لا أرَى العَيْشَ صَفَا ما لم أعِشْ
…
وفؤادِي من حُروفِ اللَّهْوِ مَمْحُو
وعن التَّشْبِيبِ ما أغْنَى ولي
…
في عُلَا زيدِ العُلَى شكرٌ ومَدْحُ
قامِعُ الأقْرانِ في يومِ الوَغَى
…
تحت ظِلِّ السَّمْرِ والحربُ تَفِحُّ
أبيضُ الوَجْهِ إذا النَّقْعُ دجَا
…
وَاضِحُ البِشْرِ إذا الفرسانُ كُلْحُ
كم له يومَ فخَارٍ مُنْتَمىً
…
ولِوَقْعِ البِيضِ بالْهاماتِ رَضْحُ
صبَّح الإقبال حرباً ولَكَم
…
شرَّقتْ من خَيْلهِ حربٌ وصُبحُ
يومَ أرْوَى بقَدِيحِ المُصْطلى
…
قَدْحَ زَنْدٍ وَرْيُه بالفَوْزِ قِدْحُ
وعلى العُمْرةِ أرْبتْ يَدُهُ
…
وله في يومِها عَفْوٌ وصَفْحُ
أذْكَر الصَّفّيْن إذْ ذاك بها
…
يومَ صِفِّينَ وللْخَيْليْن ضَبْحُ
ولَغَا عني ضَلالاً بعد ما
…
طاشَ من تَصْحيفه في فِيهِ صَفْحُ
ولَكَمْ سارَع بالخيْلِ على
…
حَرَمِ اللهِ وللأَعْمارِ دَلْحُ
مانعُ الْجارِ فلو لَاذَ الدُّجى
…
بعَواليه لمَا جَلاّه صُبْحُ
ولو انَّ الشمسَ تحْكِي نُورَه
…
ما عَلاها في ظلامِ الليلِ جُنْحُ
وَاهِبُ الأرْواحِ في يومِ الوَغَى
…
لأَعادِيهِ الأُلَى بالمالِ شَحُّوا
ولقد كان أبُوه هكذا
…
ولِمَاءِ الوَرْدِ بعد الوردِ نَضْحُ
أشْغلَتْ هَيْبتُه فِكْرَ العِدَى
…
فهمُ في غَمْرةِ الإشْفاقِ طَرْحُ
لو رَأَوْه في الكَرى لانْتبهُوا
…
ولهم من خَوْفهِ بالرُّعْبِ قَزْحُ
وإذا شَامُوا بُروقاً أيْقنُوا
…
أنَّ أعناقَهمُ بالبِيضِ مُسْحُ
وإنِ انْقضَّتْ نجومٌ في الهَوَا
…
زَعمُوا أن مُطارَ الشهْبِ رُزْحُ
بأبِي أفْدِيك يا بحرَ النَّدَى
…
يا مُضِيءَ الرَّأْيِ إن أظلمَ قَدْحُ
يا عَقِيدَ الخيلِ يومَ المُلْتقَى
…
يا سَديدَ البَأْسِ والأقْرانُ طُلْحُ
يا عَرِيضَ الْجاهِ يا حامِي الحِمَى
…
يا مَلاذَ الكونِ إن لم يُغْنِ كَدْحُ
يا جَمِيمَ الفضلِ والسَّيفُ له
…
بفَدادِينِ الطُّلَا حَصْدٌ ومَسْحُ
خُذْ حَدِيثِي واسْتَمِعْ قَوْلِي فما
…
كلُّ مَن قال قَرِيضاً فيه صُحُّ
هاك نَظْمَ الدُّرِّ من مَعْدِنِهِ
…
رائقَ المعنَى له بالمَدْحِ مَدْحُ
واجْتَلِ الأبْكارَ في نُورِ الْوفَا
…
واخْتَبِرها فهْي بالعِرْفانِ فُصْحُ
ضَمِن الدهرُ لها التَّخْلِيدَ في
…
صَفَحاتِ الكَوْنِ والأيَّامُ فُسْحُ
وهْي كالجُرْدِ السَّلاهِيبِ لها
…
بمجَالِ الشُّكْرِ في عَلْياك مَرْحُ
حاصَرتْ ما شاد فَتْحٌ قبلَها
…
وتلَتْ نَصْرٌ مِن اللهِ وفَتْحُ
أحْرَزَ السَّبْقَ ولكن فُتُّهُ
…
بك يا ابنَ الطُّهْرِ والآياتُ وُضْحُ
لا يرُوقُ المَدْحُ إلَاّ في الأُلَى
…
لهمُ الأنْسابُ كالأحْسابِ رُجْحُ
أين مَن جَدَّاهُ طه المُصْطَفى
…
وعَلِيُّ المُرْتضَى مِمَّن يُزَحُّ
بَرزَ القالُ لها من مَنْطِقِي
…
لك بالإيرادِ والإسْعادِ سُنْحُ
وأنا منك أيا خَيْرَ الورَى
…
لم يكُنْ صَوْنِي كما قيل أبَحُّ
ولقد أغْنَيتْنِي عن مَطْلَبِي
…
منك بَدْءاً ونَظِيرِي لا يُلِحُّ
لو درَى النَّحَّاسُ أنِّي بعدَه
…
أصْنَعُ الإبْرِيزَ لم يَمْسَسْه قَرْحُ
أشكُر الأيامَ قد رَوَّيْتنِي
…
وينَابِيعِي بأفْضالِك طُفْحُ
لا أرَى الغُرْبَة ألْوَتْ سَاعِدي
…
ولِبَاعِي بنَداك الجَمِّ سَبْحُ
طَالِعِي بالسَّعْدِ وَضَّاحُ الحِجَى
…
بك في بُرْجِ الْهَنا والرَّجْوُ ضِحُّ
ولقد بلَّغْتَنِي كُلَّ المُنَى
…
بأحاديثَ لها في النفسِ سَرْحُ
نِعمةٌ منك علينا لم تَزَلْ
…
يقْتفِي آثارَها فَوْزٌ ورِبْحُ
دُمْتَ يا شمسَ الهُدَى ما ابْتسَمتْ
…
بك أفْواهُ الدجى وافْتَرَّ صُبْحُ
ما هَمتْ عَيْنُ الغَوادِي وبَدَا
…
بك في وَجْهِ الزمانِ الغَضِّ رَشْحُ
محمد الطيلوني بعيد غور المدح، واري زناد القدح.
مكانته في البداهة لا تزحم، وحجته البالغة لا تدحض ولا تفحم.
فاز بمقاد الانتقاد، وأمسك عنان الافتنان، فما كلت له شفرة كلام، ولا برئت صحائفه من وقيعة أقلام.
ولا صفا له ضمير، ولا بات ليلةً إلا وله المركروه سمير.
والطبع كالزرع، لا يزكو حتى يصادف ثرىً طيبا، ومن التوفيق مطراً صيبا.
ومن الأخلاق آفاقاً صافية، ومن المكارم أبراداً ضافية.
فإذا لم ير إلا المكاره، حاد عن انطباعه وهو كاره.
فيتخذ الذم عادة، ويراه أشهى من حياةٍ معادة.
وكان يعادي القاضي عمر المغربي ويهاجيه، وكلٌّ منهما يسامر بريد خياله في ذم الآخر ويناجيه.
والقاضي هذا شيخ بن أهرام الزمان، أعمر من نصر بن دهمان.
مُعَمَّرٌ كأنه
…
صالَح صَرْفَ النُّوَبِ
قد انْقضَى الدهرُ وما
…
كان به من عَجَبِ
والناسُ جِسْمٌ واحدٌ
…
وذاك عَجْبُ الذَّنَبِ
ارتشف الكبر وارتضع، حتى إذا قيل استحكم اتضع.
ولبس خلعة العجب والمآثم، فهو كالنعش لم يلبس خلعةً إلا وفي الحي نوائح ومآتم.
فمما وقفت عليه مما دار بينهما، هذه الرسالة، كتبها إليه الطيلوني: سلامي على من استعار الليل من سواد خلقته، واستفاد طويس الشؤم من صورته، واكتسب النحسان من نحوسته، وانكدرت النجوم من عبوسته.
لا زال مكتسياً تفاصيل الخزي والخذلان، متردياً أردية الذلة والصغار والهوان.
ما نبحت كلاب المغرب، واستهانت عند من يهجو ويضرب.
وبعد، فإن سألت عني أيها الخامل، الذي لو قدر على حمل الذكور لكنت أول حامل.
فإني بحمد الله من العزة والعافية في أعلى رواق، ممدوحٌ بألسنة الوزراء فمن دونهم بالاتفاق.
في عيشةٍ راضية مرضية، ونعمةٍ سابغة سنية.
لا أرقع قميصا، ولا أبيت خميصا، ولا أستعمل خبيصا.
ولا رهنت منذ عمري جوخةً ولا صوفا، ولا تطفلت على خوان أنتظر فيه لحمةً أو رغيفا.
وإني بخيرٍ كما لا تحبون، وأرجو من الله ما لا ترجون.
وأسأل الله تعالى أن لا تكونوا كذلك، وأن يوقعك في أضيق المسالك والمهالك.
ومما أقرع به سمعك أعاره الله الصمم، وألم بعينيك وفيك العمى والبكم.
أني كنت أضربت عن هجوك صفحا، وطويت على إشهار مثالبك كشحا.
ورميتك ورائي ظهريا، وجعلتك نسياً منسيا، وإن كنت جئت شيئاً فريا.
وقد سمعت أنه بلغ بك من الحسد والجهالة، أن لفقت من هذيانك وسرقاتك رسالة.
وتعرضت فيها لذكر من لست له على بال، ولا تجول بخلده إلا إذا تغوط أو بال.
وتوصلت ببعض المعاتيه، الغارقين في بحر الهيام والتيه.
ليوصلها لصاحب الدولة، أدام الله له العزة والصولة.
فحين رمقها مزقها كل ممزق، وتحقق أنك أكذب من المخرق.
وكانت سبباً لسقوط نحسك، وازدياد عكسك وبخسك.
فكنت كما قيل: كالجادع بيده مارن أنفه، والباحث على حتفه بظلفه.
ولعمري قد تحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى.
وإذا حان أجل البعير، حام حول البير.
يا سالكاً بين الأسِنَّةِ والظُّبَا
…
إنّي أشُمُّ عليك رائحةَ الدَّمِ
وحيث أبيت إلا الإصرار، وأوقعت نفسك كالفراش في النار.
وعبست وبسرت، وأدبرت واستكبرت.
حينئذٍ أرسلت لك في هذا الكتاب بعض جوابك، وتعلم أنه ينزل الألم والجوى بك.
فصواعقه لك محرقة خوارق، وزواجره على رأسك يا سندال كالمطارق.
ارتجالي الاختراع، مربع الأسجاع.
مرتب على حروف المعجم، فاسمع يا خامل الذكر وافهم.
يا خط البهائي، يا حزان النشائي، يا إفلاس البيائي، يا تهمة التنائي.
يا خروف أبي الطيب، يا يوم الزمهرير والصيب، يا خجلة العروس الثيب، يا ضرطة الغني المتهيب.
يا أضحوكة الغنيات، يا حامل رزمة المغنيات، يا ثابت السجلات، خذ ما أتى واستعد لما هو آت.
يا من لباسه رث، وحديثه غث، وتطفيله وجره بالكد والحث، ودأبه الانكباب في الأرض للبحث.
يا ظلمة الليل إذا سجى، يا من لا يهاب ولا يرتجى، يا فاقد اللب والحجى، لا بلغت بك النوق النجا.
يا كثير النباح، يا خائباً في الغدو والرواح، كأنك ثورٌ دائرٌ في الطواح، ملأت الجهات من البكا والنواح.
يا أسود سالخ، يا عفونة المسالخ، يا عصارة الكامخ، يا غضاضة الرامخ يا زلعة القيح والدود، يا كثير الآباء والجدود، يا قدار في ثمود، يا عاقر ناقة أخي هود.
يا حانة النباذ، يا خندق بغداذ، يا من يضم الأفخاذ، على الغرمول من الالتذاذ.
يا مرتع الأيور، يا منبع الفساد والفجور، يا يوم المفلس المهجور، يا خزانة الإفك والزور.
يا است القزاز، يا فروة الأجذم النزاز، يا نقاعة الخراز، يا حبة الصيف على الخباز.
يا أقرع الراس، يا نتن الأنفاس، يا حمار التراس، يا بغل ابن قلقاس.
يا دستمان الفراش، يا ثوب النباش، يا جوخة قرواش، يا عمامة خطيب بهواش.
يا صنة اللصوص، يا مبغض يا منقوص، يا من جحد النصوص، وأنكر ما في الفصوص.
يا تارك السنة والفرض، يا من سعى بالفساد في الأرض، وتعرض للأعراض بالقرض، وتفرغ من العرض وامتلأ من العرض.
يا منديل اللواط، يا بيت الوطواط، يا سائل اللعاب والمخاط، يا مكواة الخياط.
يا عين الجاحظ، يا تمتمة اللافظ، يا سليب الحدس والملاحظ.
يا بخر السبع، يا كشر الضبع، يا ثامن السبع، يا مرحاض الربع.
يا خليج المدابغ، يا أشيخان المصابغ، يا ميلغة الوالغ، يا ماء الحوراء ورابغ.
يا عريض القفا والأكتاف، يا زنبيل العلاف، يا خرج شوعة الصراف، يا من لم يحسن الفرق بين المنجم والعراف.
يا ساعة الفراق، يا أوسع من العراق، يا شيبة بولاق، يا حليف الشقا والشقاق.
يا دكان السماك، يا ثقالة الأراك، سعد من لا يراك، وخاب من قربك وأدناك.
يا عش القمل، يا خشكليشة الدمل، يا ماء الشتاء المسيل، يا جامع ابن غراب المعطل.
يا قفة المجذوم، يا عرق المحموم، يا صباح القرد والبوم، أنت بعينه الفاسق المحروم.
يا بول الخصيان، يا رجيع الرهبان، يا مائدة العميان، يا مخزن الصديد والصنان.
يا مهبط الدواهي، يا من خالف الأوامر والنواهي، وجد في التلاهي، وتبع الغي والملاهي.
يا سمير البلوى، يا كثير الشكوى، يا أثقل من رضوى، إلى كم تسقي جحرك ولا يروى.
يا صريع الدلا، يا من هو لا إلى هؤلاء ولا إلى، أينما تتوجه لا، ولم تزل مكباً على.
يا خدن البغي والغي، يا جلدة الجرح والكي، يا زغمة القي، يا باقل الفهاهة والعي، فلا أنت ميتٌ ولا حي.
وها قد نفدت الحروف، ولم تنفد معايبك يا خروف.
وقد حذا فيها حذو أبي بكر الخوارزمي، في رسالته التي كتبها إلى البديهي ومن جملتها: يا غداة الفراق، وكتاب الطلاق.
يا موت الحبيب، وطلعة الرقيب.
يا يوم الأربعاء في آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر.
يا خراجاً بلا غلة، ودواءً بلا علة.
يا أثقل من المكتب على الصبيان، ومن كرا الدرا على السكان.
يا أبغض من لم ولم، ومن لا بعد نعم.
يا بغلة أبي دلامة، وحمار طياب، وطيلسان ابن حرب، وضرطة وهب.
يا نظرة الذل إلى البغيض، يا شرب الخمر على الحشف، يا وكف البيت الشتوي في كانون.
يا ليلة الغربة، وجواب الغلظة.
يا كمد المغموم، ودهشة المصبور.
يا نظرة العنين إلى البكر وقد عجز عنها، واستشعر مخائل الغضب منها.
يا قرع الغريم الباب، ومعه جريدة الحساب.
يا وجه المانع وقفا المحروم، يا شخص الظالم في عين المظلوم.
يا ألأم من اللؤم، وأشأم من الشؤم، وأقل من المعدوم.
يا غم الدين، ووجع العين، ويوم البين.
يا أوحش من زوال النعمة بعد كفرها، وأقبح من ارتجاع الصنيعة بعد شكرها.
يا أثقل من منادمة الطفيلي على الندما، مقترح في الغدا، متشبه في العشا.
مجمشٌ للساقي، مناظرٌ للباقي.
يا أثقل من الحق عليك، يا طول الحجاب، وعبوس البواب.
يا مهاجرة الصديق، ويا سوء القضا، وجهد البلا، ودرك الشقا، وشماتة الأعدا.
وحسد الأقرباء، وطوارق الأرض والسماء.
وملازمة الغرما، وعربدة الجلسا، وخيانة الشركا.
وغش الأصدقاء، وملاحظة الثقلاء، ومسألة البخلاء، ومحادثة البغضاء، ومشاتمة السفهاء، ونصرة الضعفاء، وعداوة الأمراء، ومزاحمة السعداء، يا كرب الدواء.
يا من لو كان اللؤم يلد كان أباه، ولو كان يولد كان أخاه، ولو شارك شريكاً لما عداه.
يا بيع المتاع الكاسد، وجوار الجار الحاسد.
يا ليلة المسافر، في كانون الآخر.
يا خيبة من رأى السراب فظنه شراباً، وندامة من نظر إلى الخطأ فتوهمه صوابا.
يا من هو دليلٌ على أن الله تعالى جوادٌ حين أطعم مثله، وحين رزقه من بره فضله.
يا من هو حجة الملحد على الموحد، في قوله:" الذي أحسن كل شيءٍ خلقه ".
يا من احتماله أصعب من عد الرمل، ومن عدد النمل، والصبر عليه أشقَّ من الصعود إلى السما، والنظر إليه أبشع من النظر إلى نباش قبور الشهدا.
وهذا الباب طويل الذيل، وقد بالغ فيه الأدباء وكثروا، ولم أر أجمع ولا أبلغ من قول الشهاب الخفاجي:
يا سُخْرةَ الشيخِ بلا أُجْرَهْ
…
وفَسْوةَ المَبْطونِ في السُّحْرَهْ
ويا كِرا الدارِ على مُفْلِسٍ
…
وسَلْحةَ المَطْرودِ في وَعْرَهْ
وضَرْطَة السلطانِ في مَوْكبٍ
…
به وُفودٌ تطلُب النُّضْرَهْ
وضَيْعة الهِمْيانِ من عائلٍ
…
قُبَيْل عِيدٍ أعْوَزَ الفِطْرَهْ
ونَظْرةَ المَخْمورِ عَبْداً له
…
قد كسَّر الأقْدَاح والْجَرَّهْ
وحَسْرةَ العِلْقِ إذا أقْبلَتْ
…
لِحْيتُه في آخِر الشَّعْرَهْ
وحَكَّةَ المَقْطوعِ كَفاً له
…
ودُمَّلاً يخرُج في الشَّعْرَهْ
ونَظْرةَ الخِنْزِيرِ من خَارِىءٍ
…
يَرْمِيه لَمَّا جاع بالصَّخْرَهْ
ويا قَفَا المَهْزومِ من فارسٍ
…
أدْرَكَه في ساحةٍ قَفْرَهْ
وبَهْتةَ السَّكْرانِ من هَاجمٍ
…
في ليلةٍ مُظْلمةٍ قِرَّهْ
ويا نَعِيّاً جاءَ عن واحِدٍ
…
إلى عَجُوزٍ ما لَها أُسْرَهْ
ووَحْدةَ الحُرَّةِ في ليلةٍ
…
مات بها الزَّوْجُ لَدَى الضَّرَّهْ
وحُجَّةَ المُعْتزِليِّ الذي
…
يسْمعُ نَصّاً ناقِضاً أمْرَهْ
وطَلْعةَ الزِّنْدِيقِ في مَسْجدٍ
…
يخافُ مِن جِيرانِه هُجْرَهْ
ووَجْهَ تِمْساحٍ لَدىَ ساحلٍ
…
أتاه غَرْقانُ رأى بَرَّهْ
وُعرَّةً قد خَرِبتْ فوقَه
…
ذُبابةُ الذُّلِّ غدا غُرَّهْ
ومَن غدا في النَّظَرِ ابنَ الأُلَى
…
في عَيْنِ إبْلِيسَ بهم قُرَّهْ
كم تَدَّعِي الفضلَ ولا تَرْعوِي
…
تُعِيد ما قال ذَوُو الخِبْرَهْ
فهْو على تكْريرِ أقْوالِهم
…
كالجَملِ المَشْغول بالْجَرَّهْ
يا أيها الفَخَّار من أجْلِ ما
…
طَوَّل رَبٌّ خَالِقٌ عُمْرَهْ
هَل تصدُق الأمْثالُ في قَوْلِها
…
ما كُلُّ يومٍ تسْلَمُ الْجَرَّهْ
يا جُعَلَ الجهلِ إلى كم تُرَى
…
مُدَحْرِجاً في طَرَفِ البَعْرَهْ
وقد خرجت عن الصدد في شهوةٍ أطعتها، وصرفت حصة عمرٍ للاشتغال بما لا يعني استبدلت بها السخف لما بعتها.
إذ ليس من شرط كتابي بذاءة، وأخشى من الذم أن أقف حذاءه.
فإني كالدواء أستخرج الأذى، إذا كان غيري كالكأس يستبقى القذى.
وأسأله سبحانه وطالما بلغ السائل منه سؤالاً ومأمولا، متاباً صادقاً على موضع الندم محمولا.
عثمان التلاوي هضبة فضلٍ يقصر عنها المتطاول، وذروة معالٍ لا تنالها الثريا بيد المتناول.
تصدر لإفادة العلوم، وصير المجهول منها في مرتبة المعلوم.
فأطاعه أبيها وشامسها، وانجلى بنور فهمه غامضها وطامسها.
وله أدبٌ كالبحر الزاخر، وشعرٌ كالحلي الفاخر.
فمنه قوله من قصيدة في الغزل، أولها:
مَن مُنْجِدِي من غَزالٍ فَرَّ من كِلَلِ
…
وأسْلَم الفكرَ بعد الوصلِ لْلأمَلِ
إذا انْثنَى فغُصونُ الْبانِ مُطْرقةٌ
…
وإن رَنَا فظِباءُ البَرِّ في شُغُلِ
يفْتَرُّ عن جَوْهَريْ عِقْدٍ وعن بَرَدٍ
…
فالبدرُ في وَجَلٍ والشمسُ في خَجَلِ
ما إن رأيْنا لهذا الظَّبْيِ من شَبَهٍ
…
إلَاّ هِلالاً أرابَ الشمسَ في الْحَمَلِ
يسْطُو شُجاعاً فمنه الصَّبُّ في خَبَلٍ
…
يرْنُو غَزالاً فمنه القلبُ في جَذَلِ
سَلْماً وحَرْباً أرانا من شَمائلهِ
…
يا مَا أُمَيْلِحَ ما منه علَيَّ ولِي
وقوله من أخرى، مستهلها:
أبَتْ هِمَّتي إلَاّ التَّزايُد في الوُدِّمَدَى الدهرِ للأحْبابِ في القُرْبِ والبُعْدِ
أُلامُ على فَرْطِ المَحبَّةِ في الهوى
…
وأُعْذَل أن كانتْ حُتوفِيَ في وَجْدِي
سَرَتْ بي دَواعِي الحُبِّ سَيْراً لَو انَّه
…
تكلَّفَه شُمُّ الشَّوامِخِ والصُّلْدِ
لَشقَّ من التَّبْريح طَوْد رعاده
…
وألقَى مَقالِيدَ المَحبةِ والوُدِّ
فلي شِيمةٌ لم يُبْرزِ الدهرُ مِثْلَها
…
إذا ما اعْتراها العَذْلُ يكْبُو ولا يُجْدِي
وله:
ألا ليت أُمِّي لم تلِدْني ولم أكُنْ
…
تُراباً ولا شيئاً مع الخَلْقِ أُذْكَرُ
فلا عُمْرَ مَصْروفٌ بخيرٍ وطاعةٍ
…
ولا عِرْضَ مُبْيَضٌّ به المرءُ يُشْكَرُ
ولا رَبُّ أحْسابِي يُصَانُ بلا أذَى
…
ولا فِعْلُ معروفٍ مع الناسِ يُثْمِرُ
الأمير عثمان المنفلوطي أميرٌ باهر السنا، أهل المدح والثنا.
رقيق شملة الشمائل، طويل نجاد السيف رحب الحمائل.
يمضي مضاء المشرفي بيمينه، وترف له البشرى في مسعاته رفيف البشر في جبينه.
جمع من المعالي كل تليد وطارف، وهو إلى إسداء المعروف أحن من شارف فينوي كما طش عارضٌ حنان، ويطرب كما حن صادحٌ مرنان.
فهو إنسانٌ منظور إليه بإحسانه، له موقعٌ من الناظر في جوف إنسانه.
فلو قيل قدره من الطود أجل، نادى الصدى من شوامخه أجل.
وَقُورٌ إذا فاضتْ أَيادِيه للورَى
…
كطَوْدٍ تَسامَى واحْتبَى بالجَداولِ
فألْقَى عَصا التَّسْيار إذْ بلَغ الْعُلَى
…
وما قُرِعتْ تلك العصَا في مَحافِلِ
وهو ممدوح الفتح بن النحاس، الذي يقول فيه من قصيدة:
هو والفضائلُ دِيمَةٌ وحديقةٌ
…
والناسُ عَيْنٌ نَحْوه ونِيام
والحِلْمُ رَوْض خُلْقُه أنْوارُه
…
والآخَرُون الرِّمْثُ والقُلَاّمُ
والجودُ بحرٌ وهْو دُرُّ يَتِمِيهِ
…
والمجدُ بَيْتٌ وهْو فيه قِوامُ
وله من الكلام ما يزين صفوف الطروس بحسن روائه، ويدعو بلسان الحال إلى أن تكون أمراء الشعر تحت لوائه.
فمنه قوله، من قصيدة في الغزل:
ما القلبُ يَا رَّبَة الخَلْخَالِ والخْالِ
…
مِن الصَّبابةِ لو طال الْمَدَى خَالِي
طاوَعْتُ فيك الهوَى حتى عصَيْتُ أبِي
…
ولا رَكنْتُ إلى عَمٍ ولا خَالِ
يا ظَبْيةً ما رَعَتْ عهدَ الوفا ورَعَتْ
…
حُشاشةَ القلبِ إني زاد بَلْبَالِي
لِمْ تَرْفَعي خَبَراً في الحُبِّ مُبْتدَأً
…
ولِمْ تُجريِّ القِلَى نَصْباً على الْحالِ
يا صاحبِي إنَّها في مُهْجتِي حَكَمتْ
…
فلا أَمِيلُ إلى أقْوالِ عُذَّالِي
السيد أحمد بن القاضي شمس الدين المنصوري سيدٌ له الفضل نسب، إلا أنه صديان جدوى ونشب.
فزحزحه الدهر عن بلده، وأبانه عن معاهد سبده ولبده.
فطار بين سمع الأرض وبصرها، لا يدري ما يطأ من حجرها ومدرها.
إلى أن استقر آخراً بمركز التخت العثماني، مؤملاً أن ينال من باب المراد كل الأماني.
فما أم وجهة، إلا قابلت بالحرمان وجهه.
حتى فل ماله، وقل مناله.
وتفلست لهاه، وتقلست لهاه.
وبقي في الغربة إلى أن تخلصت منه الظنون، ومن مات في قبضة الذل فقد أحسنت إليه المنون.
وكان أنشأ سبع مقاماتٍ أطنب فيها وأطرب، وحاول طريقة من تقدمه فأعجب وأغرب.
وذكر فيها مبتدأ حاله، وما لقيه من النصب في إقامته وترحاله.
بعباراتٍ تعطف القلوب القاسية، وتزعزع الجبال الراسية.
وعرضها على أقوامٍ يكاد يندى من أياديهم السحاب الجهام، فمنعه سوء بخته عن رشاشةٍ يبل بها صدأ الأوهام.
فمما انتخبته من مقامته السادسة: قال أبو الحسن المصري: إني نشأت بمصر السعيدة، حامداً ربي على أيامها الحميدة.
قرير العين، كثير العين.
ليس لي حرفة ولا حيلة، إلا تتبع آثار ذوي الصنائع الجليلة.
فجديت في الطلب، وما أخطأت الأدب.
حتى علوت ذروة كل صناعة، وحويت رأس مال كل بضاعة.
فما رأيت من كل ذلك إلا النقصان، وما استفدت من المتاجر إلا الخسران.
وكان من جملة ما خدمت أساتيذه، وتتبعت دلائله وأسانيده.
الفنون الأدبية، والعلوم الفقهية.
حتى صار لي ملكةٌ في الأخذ من الأسانيد والدلائل، وقدرةٌ على كتب الحواشي وتحرير الرسائل.
خصوصاً فن الكتابة والإنشا، إذ بهما يكون للمرء ما يشا.
ثم خلج في خلدي الرحلة إلى بلاد الروم، لأتمم بها طلب العلوم.
فلما من الله تعالى علي بدخولها، واجتمعت بعلمائها وفحولها.
فإذا هم غارقون في بحور النعم، معروفون بالجود والكرم.
وكنت في بعض الأيام، أتردد على صدورها العظام.
تارةً بما استطعت من قصيدةٍ نظمها بديع، وأخرى برسالةٍ عقود ترتيبها مرصعة بالدر الصنيع.
وكان دأبي تتبع آثار المتقدمين، لأن ما قدموه لا يتهم ككلام المتأخرين.
ومن العادة، أن أهل كل صناعة، يكرمون القادم عليهم من أهلها بحسب الاستطاعة.
فأكرموني بحسب استطاعتهم، وجادوا علي بقدر مروءتهم.
فأعطوني مدرسة، كانت عاقبتها علي فقرا ومنحسة.
فكنت أكثر الأيام، لا أذوق الطعام.
وغالب الأوقات، أحرم الأقوات.
حتى نفد مالي، وتبدد حالي.
وجار علي الزمان، بالذل والهوان.
فبعت كتبي، وأنفقت ذهبي.
كلما عرفت حالي تنكر، وعند ابتداء خروجي من عندهم لم يبق عندهم مني خبر.
ففي يوم من الأيام كنت أكابد الجوع، وأصبر قلبي المسكين الموجوع.
إذ مررت بباب بعض الأكابر، وكان يعرفني من مصر وأنا أبيع الجواهر.
فناداني: ألست الجوهري؟ قلت: نعم، أنا الحسني المصري.
فقال: يا من حضر، الحذر، كل الحذر، من حوادث الدهر فإنه ليس مأمون الخطر.
يعز الذليل، ويذل العزيز، ويحط الجليل.
يخفض المرفوع، ويغير الموضوع.
ثم التفت إلي التفات الشفيق، وقال: إن كلام الشاعر بالتصديق حقيق.
فيما ذكر من الأبيات، في شأن بعض الحكايات.
رواية عن تاجر، أنه التقط شيئاً من الجواهر.
وانتخب منها درة، تساوي بدرة.
فبينما هو سائرٌ في بعض القرى، إذ سقطت الدرة في الثرى.
ومكثت سنةً مكملة، في تلك المزبلة.
فالتقطها أحد الأكارين، وباعها بدرهمين.
فلما بلغ خبرها إلى الشاعر، الأديب الماهر.
أنشد وقال، هذا المقال:
رأيتُ بسُوقٍ دُرَّةً ذاتَ قيمةِ
…
يُنادَى عليها بين قَوْمٍ أخِسَّةِ
أبِيعتْ بِبَخْسِ السِّعْرِ من غيرِ أهْلِها
…
فأصْبحتُ من غَيْظِي بهَمٍ وحَسْرةِ
عجِبْتُ لِمَا شاهدْتُه من عجائبٍ
…
وقلتُ لهم بَيْتاً به خيرُ حكمةِ
أيا دُرَّةً بين المَزابِل أُلْقِيَتْ
…
وجَوْهرةٍ بِيعتْ بأرْخصِ قِيمةِ
فلما سمع الحاضرون كلامه، أظهروا الملامة، ووقفوا أمامه.
وقالوا: لقد بالغت في وصفه، وأطنبت في نعت حاله ورصفه.
فقال: من كان أديباً فليساجله، ويناقشه ويعامله.
فما منهم إلا سأل وأجبته، وخاطبته الخطاب الوسط وما رهبته.
فلما سمع مني صاحب الدار، أجوبتي الحاضرة عن أسئلة أولئك الحضار.
وعدني بوعدٍ حسن، وأنا في انتظاره إلى هذا الزمن.
فخرجت محتاجاً إلى ذرةٍ من درهم في صره، أو لقمةٍ من بره.
فعجب القوم من مدحٍ يوجب الإحسان، وحرمانٍ يقتضي ذم ذلك الإنسان.
محمد خفاجي الزيات غرةٌ في ناصية الدهور، وابتسام في فم الزهور.
له أخلاق من لب اللباب، كما تبسم فم الكأس عن الحباب.
فالراح بسلسلها ممزوجة، والرياض على منوالها منسوجة.
وقد خلص كلامه من التهجين، كما تسل الشعر من العجين.
أثبت له ما تظل الأفكار لحلاوة تعبيراته شائقة، كالشهد لأجل حلاوةٍ رغبت إليه كل ذائقة.
فمنه قوله في الغزل:
هامَ الفؤادُ وقد صَبَا بغَزالِ
…
فضَح الغَزالةَ والغرامُ غَزا لِي
سحَر العُيونَ ففي مَ عذَّب خاطرِي
…
وسَبا القلوبَ ففي مَ غيَّر حالِي
رفَع السَّقامُ لخَصْرِه بعضَ الذي
…
يلْقى فقابلَه بنَصْبِ الْحالِ
ما لِلْعَذُولِ إذا جَفَا بدرُ الدجى
…
أو مَاسَ بالقَدِّ القويمِ ومَالِي
أفْدِيه وهْو أجلُّ شيءٍ يُفْتَدى
…
بالرُّوحِ منِّي لا أقُول بمَالِي
يا تارِكي بصُدودِه غَرَضَ الضَّنَى
…
هَلَاّ رثَيْتَ لجسمِ صَبٍ بَالِي
يَرْضى ولو بالطَّيْفِ تُرْسِلُه له
…
في غَفْلةِ الرُّقَباء جُنْحَ ليالِي
وقوله، من قصيدة أولها:
رأَى ناظِري وَجْهاً يَرِقُّ أدِيمُهُ
…
فأجْرى به دَمْعاً وقال أُدِيمُهُ
وشاهَدَه في صفحةِ الخَدِّ لُؤْلُؤاً
…
تَخالَط منه بالعَقِيقِ يَتِيمُهُ
وأبْدَى حديثاً من قديمٍ مُعَلَّلاً
…
فصَحَّ وبالأسْقامِ راح كَلِيمُهُ
رَوَاه عن الزُّهْرِيِّ نْعمانُ خَدِّه
…
وحَسَّنه من عارِضَيْه نَمِيمُهُ
وبي لَوْعةٌ من صَدِّه ونِفارِهِ
…
يَوَدُّ لها طُولَ الزمانِ سَلِيمُهُ
لعلَّ له في مَوْقفِ الحشرِ والْجَزَا
…
يطُول به المُضْنَى المُعَنَّى لُزُومُهُ
وهيْهات ضاع الصبرُ عند لِقائِه
…
وضاع به في الحيِّ عِطْراً شَمِيمُهُ
ووَيْلاه من قَدٍ إذا هَزَّ عِطْفَه
…
فما عَطْفُهُ يُرْجَى وإنِّي عَدِيمُهُ
إذا رُحْتُ أشكو فالصَّدَى يشْتكي معي
…
مُحالٌ لما أُبْدِي كأني غَرِيمُهُ
كأنَّ النَّوَى لمَّا تخيَّل خَيْبتِي
…
بمَن شَفَّنِي هاجتْ إليَّ جَحِيمُهُ
إذا راح دَمْعِي يُشْبِهُ الدُّرَّ نَثْرُه
…
شَجانِيَ مِن ثَغْرِ الحبيبِ نَظِيمُهُ
يحيى الشامي أريبٌ جلت مزاياه، فكم من خبايا معانٍ في زواياه.
ذكره كالزهر مفتر الكمامة، وخلقه كالروض جادته الغمامة.
وكان مع طبعه المنقاد، ولطفه الذي يهب العين الرقاد.
منفرداً انفراد البدر، متوحداً كليلة القدر.
كأنه سهمٌ رشق عن قوس القضا، يضيق في عين تصوره رحب الفضا.
وله شعرٌ رقيق المعاني، أثبت منه ما تتأنق برونقه المعاني.
فمنه قوله، من قصيدة مستهلها:
أمَا لأسيرِ الحبِّ فَادٍ من الأسْرِ
…
ليرْبَحَ في المِسْكينِ شَيئاً من الأجرِ
أما لِلْهوى شرعٌ وللحبِّ حاكمٌ
…
فيسألَ عن حالِي وينْظُرَ في أمْرِي
رهينُ فؤادِي في يَدَيْ مَن أُحِبُّه
…
على غيرِ دَيْنٍ في الهوى مُفْلِس الصَّبْرِ
وباع الْكَرَى إنْسانُ عَيْنِي بنَظْرةٍ
…
فما رَبحَ المغرورُ بل عاد بالخُسْرِ
يُطالِبُني العُذَّالُ بالعُذْرِ والهوى
…
ولا عُذْرَ لي إلَاّ الهوى والهوى عُذْرِي
وأبْكِي عن من يُشْبِهُ الصَّخْرَ قلبُه
…
كما كانتِ الخَنْساءُ تبْكِي على صَخْرِ
فلا نَظَرتْ عيني خِلافَ حَبِيبَها
…
وإن زاد في الإعْراضِ والصَّدِّ والهَجْرِ
وبالقلبِ منِّي والْجَوانِحِ كلِّها
…
مَلِيحٌ يفُوق البدرَ في ليلةِ البَدْرِ
بديعُ جمالٍ قد تطابقَ حُسْنُه
…
حَوَى ثِقَلَ الأرْدافِ مَعْ خِفَّةِ الخَصْرِ
إذا الْتفَّ في بُرْدٍ وفاح عَبِيرُه
…
فما شئْتَ قُلْ في اللَّفِّ وفي النَّشْرِ
أحانةُ خَمْرٍ أم سهامٌ رَواشِقُ
…
قلوَب الْبَرايا أم ضُروبٌ من السِّحْرِ
ولمّا عَرَتْنِي سَكْرةٌ من لِحاظِهِ
…
وصِرْتُ صَرِيعاً لا أُفِيقُ من السُّكْرِ
تدَاوَيْتُ مِن ألْحاظِه برُضابِهِ
…
كما يتداوَى شاربُ الخمرِ بالْخَمْرِ
وسكَّن نارِي ضَمُّهُ لجَوانِحِي
…
وأجْفانُه أعْدَتْ فؤادِيَ بالسُّكْرِ
وكان الهوى حُلْواً لَذِيذاً بوَصْلِهِ
…
فغيَّر ذاك الحُلْوَ طعمُ النَّوَى الْمُرِّ
شهاب الدين الديربي المالكي أحد السيارة في فلك الفضل، الموفي على أقرانه وله القول الفصل.
قد ظهرت دلائل نبله، ورمى عن قوسه فأصاب لب الصواب بنبله.
فأصبحت مآثره مدونة، وصحائفه بعنوان الخير معنونة.
والفضْل في مِدْحتِه قائلٌ
…
هذا لَعَمْري قد غدا مالِكي
فمن شعره قوله من قصيدة يمدح بها المفتي يحيى بن زكريا، وهو قاضٍ بمصر، وأولها:
أوُرْقُ الرَّوْضِ تصْدَحُ أم تغَنَّى
…
هَزَارُ الأُنْسِ بالإقْبالِ هَنَّا
على قُضْبانِ بَاناتٍ ووَرْدٍ
…
بألْحانٍ فُرادَى ثم مَثْنى
أم الوَرْدُ البَهِيُّ زَهَا بنَوْرٍ
…
سَناهُ عن سَنَا الأقمارِ أغْنَى
أم ابْتَسم الزمانُ فَلاحَ بَرْقٌ
…
فأبْكَى في رَوابي الأرضِ مُزْنَا
وصفَّقتِ الرياحُ على أَكُفٍ
…
من الأوْراقِ حتى قد دَهِشنَا
وشُحْرورُ الرِّياضِ بها يُناغِي
…
بأنْواعِ الغِناء به سُرِرْنَا
وقام على الغُصونِ خطيبُ أُنْسٍ
…
يُذكِّرُنا بما كُنَّا سَمِعْنَا
ويَرْوِي من أحاديثٍ صحاحٍ
…
حَدِيثاً صَحَّ إسْناداً ومَتْنَا
بأن الحَبْر يحيى قام يُحْيِي
…
رُسوماً للشَّرِيعةِ كُنَّ مُتْنَا
قلت: هذا الشاعر إن لم يكن من العوالي، فربما ينظم السبج مع اللآلي.
على أنه قد يُذْكَر في في البَيْن من يُجْعَل عُوذَةً تقِي شَرَّ العَيْن أبو بكر بن شهاب الدين قعود ماجدٌ قامت له البراعة على قدم، وبنى بصائب فكره من رسم البلاغة ما انهدم عجنت طينته بماء عوارف المعارف، فأضحى يجر على أبناء عصره أردية الفخر سابغة المطارف.
وقد تأدب وفاق، ولم يحتج في ترويج حظه إلى حروفٍ وأوفاق.
وله شعرٌ كأنه بنيانٌ مرصوص، وهو بمزية الوصف في حسن السبك عامٌّ مخصوص.
فمنه قوله:
إذا النفسُ سادَتْ في المعالِي طَرِيقها
…
وليس عَظِيمُ الخَطْبِ عنها يَعُوقُها
فلَهْفاً على نَفْسٍ إذا رُمْتُ عِزَّةً
…
لها ذَلَّ حَوْزِ المطالِب سُوقُهَا
رَمَتْ حَظَّها الأيَّامُ بالأسْهُمِ التي
…
مُحالٌ لَعَمْرِي أن يعيشَ رَشِيقُها
لقد قدّم الجَهْلُ الليالي وإنَّه
…
لَمِن أعْظمِ البَلْوَى التي لا نُطِيقُهَا
ولكنَّ حَسْبَ الحَبْر أنَّ عُلومَه
…
تلُوحُ بآفاقِ الكمالِ بُرُوقُهَا
سليم الشاعر رجلٌ سليم الضمير، ذو باطن أصفى من الماء النمير.
جم الفائدة والآثار، طافح الشعر والنثار.
كيله هيل، ونهره سيل.
يجمع الغث والسمين، ويخلط الورد بالياسمين.
وقد جئتك من منتخباته اللطاف، بقطعةٍ كباكورة الثمار جنية القطاف.
وهي قوله:
سَبَى مُهْجتِي ظَبْيٌ كَحيلُ النَّواظِرِ
…
بديعُ جمالٍ حازَ حُسْنَ النَّواضِرِ
فيا مُهْجتِي حَاكِي السَّعِير وشَابِهي
…
بجسمِي ضَنَى خَيْط الرَّبابِ ونَاظرِي
ويا كبدِي هَوْلَ الغرامِ تَجاسَرِي
…
عليه كَقلبِي في هَواه وخاطرِي
برُوحِيَ مَن نَاهِيَّ أصْبَح آمِرِي
…
به وبِغَيٍ عاذلي فيه عاذِرِي
وبي لِلمَاهُ أو لَمامِ دُنُوِّهِ
…
تلَهُّفُ حَيْرانٍ ولَفْتةُ حائِرِ
يجُور عل ضَعْفِي كما يحكُم الهوى
…
بعادلِ قَدٍ منه في الحُكْمِ جائِرِ
غرامِي صحيحٌ والرَّجا منه مُعْضِلٌ
…
ومُرْسَلُ دمعِي منه جُرْحُ مَحَاجِرِي
فقُرَّةُ عيني عنه عن حَسَنٍ رَوَتْ
…
وعن صِلَةٍ لم تَرْوِ قَطُّ وجَابِرِ
يَبيتُ ومنه الطَّرْفُ غَافٍ وغافلٌ
…
وما الجَفْنُ منِّي غيرَ سَاهٍ وسَاهِرِ
نَفَى النومَ عنِّي حين أعْرَض نافِراً
…
فبِي منه أوْدَى صُنْعُ نَافٍ ونَافِرِ
غَدَا جَازِماً بالهَجْرِ للنَّومِ رافعاً
…
وناصبَ صَدٍ كاسِراً منه خَاطِرِي
مَدِيدٌ تَجَنِّيهِ سريعٌ صُدودُه
…
طويلُ جَفاً من صَدِّه المُتَواتِرِ
تهتَّكْتُ فيه والهوى لم يزَلْ به
…
ولو تُعْظِم الأحْجاءُ هَتْكَ السَّرائِر
متى يَنْمَحِي منِّي وأُصْبِحُ تارِكاً
…
مَخافاتِ لَهْوٍ عُمْرُه غيرُ عامِرِ
سليمان الدلجي صاحب طبعٍ فياض، وشعرٍ كأنوار الرياض.
تتنافس بهاء آدابه، والشعر طريقته المثلى ودابه.
فمن شعره قوله:
حَسْبُ المُتَيَّمِ ما يلْقاه من ألَمِ
…
وما يُقاسِيه من وَجْدٍ ومن سَقَمِ
مُسَلْسِلاً دَمْعَه يَرْوِيه مُنْسكِباً
…
ما بين مُخْتلِفٍ منه ومُلْتئِمِ
ودَأْبُه حَمْلُ أعْباءِ المَلامِ على
…
دِينِ الغَرامِ ولو أشْفَى على العَدَمِ
في كلِّ وقتٍ له وَاشٍ يُرَوِّعُه
…
وكاشِحٌ عاذِلٌ عند الطريق عَمِي
لا لَهْوَ عن قَامةٍ أو مُقْلةٍ سَحَرتْ
…
منها رِماحٌ وأسْيافٌ تُرِيقُ دَمِي
أخْشَى عليها وإنّي خائفٌ وَجِلٌ
…
مِن العِداةِ ومِن تَزْوِيرِ قَوْلهمِ
بالقلبِ مَسْكنه لكنَّما جَزَعِي
…
إعْراضُه عن مُحِبٍ ثابتِ الْقَدَمِ
فذُو الصَّبابةِ لا يُصْغِي لِعاذِلِه
…
إن المُحِبَّ عن العُذَّالِ في صَمَمِ
فحسْبُه الله لا يَبْرَحْ أسِيرَ هوىً
…
ومُدَّةَ الدهرِ والأيام لم تَنَمِ
علي الصوفي فتى تورعٍ وتصوف، لم يكن له إلى غير الخوف تشوف.
فهو صادق العزمة، مستغاثٌ به في الأزمة.
بعيد القدم، من مخاضات الندم.
أوتي بسطةً في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم.
وله كلماتٌ في الحكم باهرة اللمعان، بمثلها تحل أضغان وترحل أظعان.
وشعره آخذٌ بأطراف المعارف، ماحٍ بأنوار البراهين شبه الزخارف.
أثبت منه قطعةً تنور القلب وتشرح الصدر، وتدل على أن قائلها في المعرفة علي الهمة والقدر.
وهي قوله:
ومِن عَجَبِي أن الذين أُحِبُّهمْ
…
أرَاهم بعَيْن القلبِ طُولَ المدَى مَعِي
وتنْظُرهم عَيْني وهم في سَوادِها
…
ويشْتاقُهم قلبي وهُم بين أضْلُعِي
جعلتُ لهم حتى الدَّوام حُشاشَتِي
…
وعن غيرِهم أصْلاً قطعتُ مَطامِعِي
شكَوْتُ لقاضِي الحُبِّ جَوْرَ أحِبَّتِي
…
جَفَوْنِي وقالوا أنت في الحُبِّ مُدَّعِي
فخُذْ قِصَّتي واحكُمْ عليَّ ومنهمُ
…
فإنِّي عليهم خائفٌ كيف أدَّعِي
وعندي شُهودٌ أربعٌ يشْهدون لي
…
سَقامِي ووَجْدِي واشْتياقِي وأدْمُعِي
وإن طلَبُوا منِّي حُقوقَ هَواهمُ
…
أقول فقيرٌ لا عليَّ ولا مَعِي
وإن سَجنُونِي في سُجونِ هَواهُمُ
…
دخلتُ عليهم بالنَّبِيّ المُشَفَّعِ
محمد بن سلطان الحافظ الرشيدي الأفق الفاتح عن ضوء النهار، والروض النافح عن أرج الأزهار.
استقل بالفائدة الجديدة، واستبدل بالآراء السديدة.
فله في الجد همةٌ لا تني، وعزيمةٌ إذا انثنت الجبال لا تنثني.
أمنت بحمد الله غوائله، وحدثت عن حسن اواخره أوائله.
وله في القريض، باعٌ طويل عريض، وروض بلاغته مخصب أريض.
فمن شعره قوله، في نظم أسماء الأنبياء، المصرح بهم في الكتاب العزيز:
أتَى في كتابِ اللهِ أسْماءُ جُمْلةٍ
…
من الأنْبياءِ المُتَّقِين ذَوِي الفَخْرِ
فأبْدَيْتُ إحْصاءً بنَظْمٍ لِعَدِّهمْ
…
بأسْمائِهم أحْلَى مَذاقاً من القَطْرِ
ولم أرَ قبْلي مَن أتى بنِظامِهمْ
…
فهاك عَرُوساً أُبْرِزتْ لك من خِدْرِ
ولم ألْتزِمْ تَرْتيبَهم في وُجودِهمْ
…
فقدَّمتُ خيرَ الخلقِ أحمدَ في الذِّكْرِ
فقلتُ وإنِّي سائلٌ مُتوسِّلٌ
…
إلى اللهِ في أن يرفعَ الوِزْرَ عن ظَهْرِي
محمدٌ المُهْدَى إلى الناسِ رَحمةً
…
وآدَمُ إدْريسٌ ونُوحٌ على الإثْرِ
وهودٌ أخو عادٍ وصالحٌ الذي
…
أتَى بالهُدَى من ربِّه لِذَوِي الحِجْرِ
كذلك إبراهيمُ ذُو الصُّحُفِ الذي
…
عليه ثَناءُ اللهِ في مُحْكَمِ الذِّكْرِ
ولُوطٌ وإسْماعيلُ إسْحاقُ بعدَه
…
أتى نَجْلُه يعقوبُ كالكوكبِ الدُّرِّي
شُعَيبٌ ومُوسَى ثم هارونُ صِنْوُهُ
…
عليهم سلامُ اللهِ في السِّرِّ والْجَهْرِ
ويونسُ إلْياسٌ وذُو الكِفْلِ كلُّهم
…
من المُخْلَصِين الدَّائِمين على الشُّكْرِ
وداوُدُ ذُو الأيْدِ سُلَيمان بَعْدَه
…
وأيُّوبُ مَن قد فاقَ بالأجْرِ والصَّبْرِ
ويوسُف لكنَّ المُسَمَّى بغَافِرٍ
…
به الخُلْفُ تحْكِيه الرُّوَاةُ بلا نُكْرِ
فقيل ابنُ يعقوبٍ وقد قيل غيرُه
…
من الأنْبياءِ المُرْسَلِين ذَوِي الإصْرِ
كذا زكريَّاءُ المُبشَّر بالنِّدَا
…
ويحيى وعيسى فاعْتبِرْ يا أخا الفِكْرِ
كذا يَسعٌ ثم الْعُزَيْرُ بتَوْبةٍ
…
فسَلْ توبةً من مالِك الخلقِ والأمْرِ
فقيل ابنُ إبراهيم أو هُوَ غيرُه
…
من الأنبياءِ الطاهِرين أُولِي الصَّبْرِ
فهذا الذي في الذِّكْرِ جاء مُصَرَّحاً
…
به دُمْتَ مَسْعوداً إلى آخِر الدَّهْرِ
فجُمْلتُهم يا صاحِ عشرون ثم زِدْ
…
ثمانيةً نِلْتَ الشَّفاعةَ في الحَشْرِ
به أرْتَجِي عَفْواً لِذَنْبٍ جَنَيْتُه
…
عسى العُسْرُ يأتي بعدَه أجْملُ اليُسْرِ
وتنْفَكُّ أقْفالُ القُيودِ بأسْرها
…
وتُفْتَح أبْوابُ القَبُولِ بلا قَسْرِ
عليهم صلاةُ اللهِ ثم سلامُه
…
يَدُومانِ أحْقاباً إلى أمَدِ الدَّهْرِ
قوله: ويوسف به الخلف في الخميس نقلاً عن الكامل، قيل: موسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم.
وأم موسى يوخانذ.
واسم امرأته صفوراً ابنة شعيب النبي.
وكان فرعون مصر في ايامه قابوس بن مصعب بن معاوية، صاحب يوسف الثاني.
وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد فرعون يوسف الأول. انتهى.
وقال في محلٍ آخر: وقيل: كان الملك في أيام يوسف فرعون موسى وهو مصعب ابن الريان، أو ابن الوليد، بن مصعب.
عاش أربعمائة سنة، وبقي إلى زمان موسى، بدليل قوله تعالى:" ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ".
والمشهور أن فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، من بقايا عاد، والآية من قبيل الخطاب للأبناء بأحوال الآباء.
وقوله وذو الكفل في نبوته خلاف، قال البيضاوي: في سورة ص: ذو الكفل ابن عم يسع أو بشر بن أيوب، واختلف في نبوته. انتهى.
ولم يحك هذا في سورة الأنبياء، بل قال: إلياس أو يوشع أو زكريا.
وحكمة تأخيره على القول بأنه زكريا؛ لأن الله تعالى ذكره بعد ذي النون، بقوله تعالى:" وزكريا إذ نادى ربه "، فهذا يبعد القول بأنه زكريا.
وقال الجلال المحلى، في سورة ص: اختلف نبوته، قيل: كفل مائة نبيٍ فرت إليه من القتل. انتهى.
ويدلك على أن القول بنبوته ضعيف، قول الجلال المحلى أيضاً، في سورة الأنبياء: وسمي ذا الكفل، لأنه تكفل بصيام جميع نهاره، وقيام جميع ليله، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب، فوفى بجميع ذلك، وقيل: لم يكن نبياً. انتهى.
وإيراده له بقيل، مع تأخيره إشارة إلى الضعف.
وفي تاريخ ابن الشحنة: وبعث الله تعالى ولد أيوب بشراً، وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام. انتهى.
فهو والمؤيد، صاحب حماة، جازمان بأن ذا الكفل ابن أيوب، بعثه الله بعد أبيه.
وقوله: كذلك إسماعيل فيه الخلاف المذكور في الأنعام: قيل غير ابن إبراهيم، والصحيح أنه ابنه؛ وإنما أخر في الذكر لأنه أبو العرب، ولم يكن أباً لبني إسرائيل، وإنما كان إسحاق بن إبراهيم، فلما ذكر إسحاق عد الأنبياء من أولاده، ثم عاد إلى ذكر إسماعيل.
وفي تفسير اللباب: إشماويل بالعربية: إسماعيل، وهو متأخر عن أولاد إبراهيم بزمان طويل، وهو الذي داود وبقي إلى زمان شعيب بن غيفا، صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته، وشعيب بن ذي مهدم، وإليه الإشارة بقوله عز وجل:" وكم قصمنا من قريةٍ كانت ظالمةً "، أي بقتلهم شعيباً هذا.
محمد بن موسى الحسيني الجمازي معدودٌ من سراة الجحافل، مرموقٌ في السادة الذين زينوا المحافل.
تتعطر أودية الشرف من رياه، وتتقطر مياه الترف من محياه.
فيبدي عن ماء النعيم رواؤه، ويزيل الصدى عن الأكباد الهيم إرواؤه.
وله شعر كنسبة عالي، محله الغرة من جبهة المعالي.
فمنه قوله لتمثال النعل الشريف:
لِتْمثالِ النِّعالِ بلا ارْتيابِ
…
فضائلُ أدْهشتْ أهلَ الحسابِ
فيا شوقِي لِما وَطِئتْه رِجْلٌ
…
علَتْ فوق العُلَى ودَنَتْ كقَابِ
تُشرِّف لَاثِميها ثم تَشْفِي
…
من الأوْصابِ بالقَصْدِ الصَّوابِ
فخُذْها عُدَّةً من كلِّ هَوْلٍ
…
تَراهُ لم يكن لك في حِسابِ
وتبْقَى ما حَيِيتَ عظيمَ جَاهٍ
…
وعِزٍ في أمانٍ مُسْتطابِ
حَمَدْتُ اللهَ إذْ نظَرتْ عُيوني
…
لها أشْكالَ حُسْنِ وانْتخابِ
ومَرْجِعُها مع التَّكْرارِ فَرْدٌ
…
إذا خَفَّفْتَ مع كَشْفِ النِّقابِ
فجازَى الله مُهْديِها إليْنا
…
جزاءَ الخيرِ مع حُسْنِ المَآبِ
وقوله فيه أيضاً:
لمَّا رأيتُ مِثالَ نَعْلِ المُصطفَى
…
المُسْنَدَ الوَضْعِ الصَّحيحَ مُعَرَّفَا
مِن حَضْرةِ الأعْلامِ زاد تشوُّقِي
…
وتشَوُّقِي فازدَدْتُ منه تَرَشُّفَا
مُذ باشَرتْ قَدَمَ الحبيبِ تشَرَّفتْ
…
فانْحُ الشِّفاء بلَثْمِها تَجِدِ الشِّفَا
يا طَالَمَا مَرَّ اللُّغُوبُ من الأذَى
…
وأضَرَّ بالجسم الضَّعِيفِ تعسُّفَا
وأصَابني داءُ الشَّقيقةِ مُؤْلِماً
…
وبقِيتُ ممَّا نالني مُتخوِّفَا
فمسحتُ وَجْهِي بالمِثالِ تبرُّكا
…
فشُفِيتُ مِن وَقْتِي وكنتُ على شَفَا
وظفِرتُ بالمطلوبِ من بَرَكاته
…
ووجدتُ فيه ما أُرِيدُ مع الصَّفَا
لِمْ لا وصاحبُه أتانا رحمةً
…
الهاشميُّ الأبْطَحِيُّ المُقْتفَى
صلَّى عليه اللهُ جل جلاله
…
مع آلهِ الغُرِّ الكرامِ ذوِي الوفَا
أحسن ما قيل في هذا المعرض قول بعضهم:
مُذ شاهدتْ عَيْنَاي شكلَ نِعالِهِ
…
خطَرتْ عليَّ خوَاطرٌ بمِثالِهِ
فغدَوْتُ مشغولَ الفؤادِ مُفَكِّراً
…
مُتَمَنيِّاً أنِّي شِراكُ نِعالِهِ
حتى أُلامِسَ أَخْمَصَيْهِ مُلاطِفاً
…
قَدَماً لمن كشَف الدُّجَى بجَمالِهِ
يا عَيْنُ إن شَطَّ الحبيبُ ولم أجِدْ
…
سَبَباً إلى تَقْرِيبِه ووِصالِهِ
فلقد قنِعْتُ برُؤْيتِي آثارَهُ
…
فأُمَرِّغُ الخدَّيْن في أطْلالِهِ
وأصل هذا قول علاء الدين بن سلام:
يا عينُ إن بَعُدَ الحبيبُ ودارُهُ
…
ونَأتْ مَراتِعُه وشَطَّ مَزارُهُ
فلقد ظفرْتِ من الزَّمانِ بطائلٍ
…
إن لم تَرَيْه فهذه آثارُهُ
ومثله قول لسان الدين بن الخطيب التلمساني:
إن بان مَنْزِلُه وشَطَّ مَزارُهُ
…
قامتْ مَقامَ عِيانِه أخْبارُهُ
قَسِّمْ زمانَك عَبْرةً أو عِبْرةً
…
هذا ثَراهُ وهذه آثارُهُ
ولهذا الشاعر معاصرٌ اسمه محمد بن ضيف الله، ويعرف بالترابي، رشيدي التربة، له في وصف التمثال الشريف:
لِمَن قد مَسَّ شكلَ نِعالِ طه
…
جَزِيلُ الخيرِ في يومِ الثوابِ
وفي الدنيا يكونُ بخير عَيْشٍ
…
وعِزٍ بالهَناءِ بلا ارْتيابِ
فبادِرْ والْثِمِ الآثارَ منها
…
لَقصْد الفَوْزِ في يومِ الحسابِ
فنعمَ القَصْدُ أشْرفُ شَكْلِ نَعْلٍ
…
لقد وُضِعتْ على وَجْهِ التَّرابِ
والذي جرى في ميدان هذا التماثل فلم يلحق الشهاب الخفاجي، حيث قال:
لَعَمْرُك نَعْلُ المصطفى بَركاتُها
…
يُشاهِدُها كلُّ امْرِىءٍ كان ذا عقلِ
ولو أن في وُسعِي زِمامَ تصرُّفِي
…
جعلتُ لها جَفْنِي مِثالاً بلا مِثْلِ
وكان أَدِيمُ الوَجْهِ فوق أدِيمها
…
يَقيِها غُباراً من تُرابٍ ومن رَمْلِ
أُفَصِّل من دِيباجَتيْهِ وِقايةً
…
تُمَدُّ عليها حَذْوُكَ النَّعْلَ بالنَّعْلِ
وقال:
وحَقِّك تِمْثالُ النِّعَالِ مُكَرَّمٌ
…
به اعْترفَ العقلُ المُدقِّقُ والفضلُ
ونَعْلٌ لأقْدامٍ يَلِينُ لها الصَّفَا
…
أيَقْسُو عليها القلبُ ممَّن له عَقْلُ
تفاءَلتُ مِن تَقْبِيلها أنَّنا بها
…
على كلِّ ذي قَدْرٍ رفيعٍ غَداً نَعْلُو
موسى القلبيبي الأزهري كاملٌ في صنعة التأديب، لفظه الأزهري تهذيب التهذب.
أحسن ما شاء في النظم والإنشا، وأفاض قليبه فملا الدلو وبل الرشا.
ينادي الأدب إلى طاعته فلا يتوقف، ويلقي عصا سحره المصري فتتلقف.
فمما اخترته من شعره المعسول، هذه القطعة من موشح قاله في التوسل بجاه الرسول.
وقد كان أصابه رمد، فزال عنه بلطف القادر الصمد:
يا إلهي بكريمِ الكُرَمَا
…
طاهرِ الأنْفاسْ
ألْطفِ الخلْقِ رحيمِ الرُّحَمَا
…
سيِّدِ الأكْياسْ
عَبْدُك المُختار من أُمِّ القُرَى
…
لقيامِ الدِّينْ
الحبيبُ المُجْتَبَى عالِي الذُّرَى
…
صاحبُ التَّمكينْ
عَرْشُ سِرِّ الله ما بين الوَرَى
…
شامِخُ العِرْنِينْ
رافعُ الخطب إذا مادَهَمَا
…
دَافِعُ الأدناسْ
أعلمُ الناسِ بما قد قَدِما
…
قبل عصرِ الْياسْ
نُقْطةُ التَّفْضِيلِ في الدَّوْرِ القديمْ
…
مَظْهرُ اللَاّهوتْ
ظاهرُ التَّفْضيل مِن قبْلِ الْكَلِيمْ
…
باطنُ النَّاسُوتْ
مُفْصِحُ التَّعْبِير عن أهلِ الرَّقِيمْ
…
قامِعُ الطَّاغُوتْ
تُرْجُمانُ الطِّلْسَمِ الغَيْبِيّ ما
…
قال ربُّ النَّاسْ
جاء جبريلُ به ممَّن سَمَا
…
لجلاءِ الْباسْ
الرسولُ المُقْتَفى ممَّن مَضَى
…
مَهْبِطُ الأسْرارْ
الصِّراطُ المُسْتقِيمُ المُرْتضَى
…
صاحبُ المِقْدارْ
شاهرُ السيفِ القويمِ المُنْتضَى
…
مَاحِقُ الأغْيارْ
كالِىءُ الإسلامِ حتى أن سَمَا
…
كاسِرُ الأرْجاسْ
شافعُ الخَلْقِ إذا اشْتدَّ الظَّمَا
…
صافِعُ الوَسْواسْ
قد توسَّلْتُ به أرْجُو الفَرَجْ
…
فامْحُ آثامِي
وأزِلّ عنِّي عَنائِي والحَرَجْ
…
واجْلُ إجْرامِي
وبلُطْفٍ منك بَرِّدْ مَا وَهَجْ
…
واشْفِ أسْقامِي
وتلطَّفْ يا إلهي كَرَمَا
…
بضَعِيفِ الرَّاسْ
وأغِثْنِي وأعذْنِي كلَّما
…
وَسْوَسَ الخَنَّاسْ
صلواتُ وَاصِلاتٌ كلَّما
…
دارتِ الأفْلاكْ
وسلامُ ورِضاً قَدْرُ ما
…
سبَّحت أمْلَاكْ
لحبيبٍ ونَبِيٍ قد حَمَى
…
مِن عَمَى الإشْراكْ
وعلى آلٍ وصَحْبٍ رحما
…
عِتْرة الْعَبَّاسْ
ما غُصَيْنٌ في رياضٍ قد سَمَا
…
وبلُطْفٍ مَاسْ
محمد المنوفي القاضي أديبٌ جيد التعبير، متقن التوشية والتحبير.
والقاهرة أفقه الذي به أستهل، ومحل عيشه الذي شب فيه واكتهل.
ثم ولي القضاء مراراً عدة، وتردد في نصب المناصب إلى أن استوفى المدة.
وله شعر أطربت به قصب اليراعة، وابتهجت برونقه رياض البراعة.
فمنه قوله من قصيدة في المدح، أولها:
لئن ضاق ذَرْعِي أو تغيَّر حالِي
…
وعَطَّل منِّي الدهرُ ما هو حَالِي
وأفْردنِي صِفْرَ اليديْن ونَاشَنِي
…
بِمِخْلَبِه إلا شَفْى وفَرَّق بالِي
فخيرُ الورَى ذُخْرِي وكَهْفِي وعُدَّتِي
…
يُخلِّصُنِي منه بغيرِ سُؤالِ
فهِمَّتُه زُهْرُ الكواكِب دُونَها
…
ومجلسُه السَّامِي مَحِطُّ رِحالِي
منها:
إذا خَطَّ طِرْسٍ رأيتَ جواهراً
…
تَنظَّمُ في سِمْطَيْ حَياً وجَمالِ
وإن قال لم يتْرُك مَقالاً لقائلٍ
…
وإن صالَ جالَ القِرْنُ كلَّ مَجالِ
ولا عَجَبٌ من سَيْبِ سُحْبِ نَوالِهِ
…
ومَبْسِمِه الأسْنَى وحُسْنِ فِعالِ
ولكنْ عجيبٌ لا تَرَى بك وَحْشةً
…
وأنتَ بدُنْيانا عَدِيمُ مِثالِ
وكتب يهنيه بعيد النحر:
تَهَنَّ بعيد النَّحْرِ يا واحدَ الدَّهْرِ
…
ودُم في الْهنا والعزِّ والمجدِ والنصْرِ
تُقلدنا فيه قلائدَ أنْعُمٍ
…
وأحسنُ ما تبْدُو القلائدُ في النَّحْرِ
فهذا زمانُ الأمْنِ واليُمْنِ والمُنَى
…
وهذا زمانُ المدحِ والحمدِ والشكرِ
ولمَّا حَطَطْتُ الرَّحْلَ دون عِراصِهِ
…
أخذتُ أمانَ الدهرِ من نُوَبِ الدهرِ
وما عَتْبُه إلَاّ بأني وَصفتْهُ
…
وشبَّهتُه بالبدرِ والليثِ والبحرِ
ومن يكُنِ الرحمنُ خَلَّد مُلْكَه
…
وأثنَى عليه الله في مُحْكَمِ الذِّكْرِ
يَحِقُّ له أن يبسُط الكَفَّ بالْعَطَا
…
وينصُرَ مكسوراً من الفقرِ بالجَبْرِ
قوله: تقلدنا فيه قلائد البيت، لما رأيته منسوباً إليه، استكثرت معناه البديع عليه.
ثم ظفرت به في أشعار بلدية ابن نباتة، فعرفت أن التضمين ما فاته.
ولابن نباتة بيتٌ قبله، وهو:
تَهَنَّ بِعيد النحرِ وابْقَ مُمتَّعاً
…
بأمثالهِ سامِي العلى نافِذ الأمْرِ
وأصله قول زكي الدين بن أبي الإصبع، وفيه الاستتباع،
تخيَّل أن القِرْنَ وَافاهُ سائلاً
…
فقابلَه طَلْقَ الأسِرَّةِ ذا بِشْرِ
ونادَى فِرِنْدَ السيفِ دُونَك نَحْرَهُ
…
فأحْسَنُ ما تُهْدَى الَّآلِي إلى النَّحرِ
وفي منشآت ابن نباتة: وصل المثال الأعظم فقبل المملوك الأرض أمامه مراراً، واسترسل سماء النعمة مدراراً.
وعارض بقطرات مدحه البحر، وتقلد في هذا العيد قلادة الكرم وأحسن ما كانت القلادة في النحر.
محمد بن معتوق المنوفي القاضي فاضلٌ قال من الفضل بظلٍ وريف، وكاملٌ حل من الكمال بين خصب وريف.
حسن اللفظ وجوده، وبيض وجه البلاغة بما سوده.
وله شعر ألذ من غمزات الألحاظ المراض، وأشهى من تلفت الظباء بعد الإعراض.
أنشدني له بعض المصريين قوله:
رمى رِيمُ النَّقا من أرْض رَامَهْ
…
بلَحْظٍ في الْحَشَا يُذْكِي ضِرامَهْ
فما ثُعَلٌ برامِيَةٍ نِبالاً
…
إذا ما استَلَّ من لَحْظٍ حُسامَهْ
شُعورِي ضَلَّ في داجِي شُعورٍ
…
تُظلِّلُ وَجهَه من فوقِ هَامَهْ
ألا فاعجَب لِظلٍ فوق شَمْسٍ
…
وبدرٍ قد أظلَّتْه غمامَهْ
وخِشْفٍ بالشَّمائِل والمَزايَا
…
تراه يَصِيدُ مِن غَابٍ أُسامَهْ
يمُرُّ مُسلِّماً صبٌّ عليه
…
فلا يَرْضَى لعاشِقه سَلامَهْ
ويقتُل مَن يهَيمُ به مَلُوماً
…
وليس عليه في قتْلٍ مَلامهْ
منها:
أَخا الغزْلانِ رفْقاً بالمعَنَّى
…
فمِن مَعْنَاك قد حَلَّى نظامهْ
يُسامِي فكرُه الْعَيُّوقَ حتَّى
…
يُسامِرَه ويُسْمِعه كلامَهْ
علي بن موسى الأبيض قمر ذكاءٍ يلذ على طلعته السمر، وربيع فضلٍ يطيب منه النور والثمر.
رأيته بمكة فرأيت شخصاً بحلية التقى متحليا، ومن هجنة الرياء متخليا.
وهو ذو بيضاء نقية، فيه من نزقة الشباب بقية.
وله شعر أعده من وساوس فكره، إلا أني لم أر بداً من ذكره.
فمنه قوله، من قصيدة في الغزل:
سَبتْني بحُسْنِ البَها والكَحَلْ
…
إلى أن بَدَا الشيبُ عندي وحَلّ
وفتَّشْتُ قلبي وجسمي فلمْ
…
أجِدْ فيهما لسِواها مَحَلّ
وحالفْتُ سُهْدِيَ جُنْحَ الدُّجَى
…
وخالفتُ يا صاحِ نَوْمَ المُقَلْ
أيا عاذلِي دَعْ مَلامِي ولا
…
تسَلْ عن غرامِي بها لا تَسَلْ
أنا الْوالِهُ الصَّبُّ لا غَرْوَ أن
…
لبِسْتُ ثيابَ التَّصابِي حُلَلْ
رعَى اللهُ دهراً بها قد مَضَى
…
بوَصْلٍ ومنها سُقِيتُ الْعَلَلْ
وفيها صَفا باللِّقا خاطرِي
…
وزالتْ كُروبِي بها والعِلَلْ
وماسَتْ بأعْطافها وانْثَنتْ
…
دَلالاً بقَدٍ يفُوق الأسَلْ
وطافتْ بكأسِ الطِّلا في الدُّجَى
…
كبدرٍ بِبُرجِ السُّعودِ اكْتَمَلْ
وقالتْ ألا أيها المُجْتَبى
…
تَهَيَّ إلى الوَصْلِ وانْفِ المَلَلْ
سكِرتُ سكِرْتُ ووَقْتِي صَفَا
…
ونَجْمِي بسَعْدِ السُّعودِ اتَّصَلْ
ونِلْتُ المُنَى حين وَاصَلْتُها
…
ومَصَّيْتُ ثَغْراً يُحاكِي العَسَلْ
ونزَّهْتُ طَرْفِيَ في وَجْنةٍ
…
غدا الوردُ مِن حُسْنِها في خَجَلْ
وهِمتُ بأقداحِ أحْداقِها
…
وتَيَّمنِي غَزْوُها والغَزَلْ
فللهِ من أعْيُنٍ جَرَّدتْ
…
سِهاماً وكم جَنْدَلتْ من بَطَلْ
رَنَتْ لي بها بعدَ ما أنْشدَتْ
…
على عُودِها نَغْمةً مِن رَمَلْ
وأطْيارُ أُنْسِيَ قد غَرَّدتْ
…
بمُعْربِ لَحْنٍ غَرِيبِ الْمَثَلْ
وَلِعْتُ بها وخلَعتُ السِّوَى
…
وسَمْسَمَنِي رِدْفُها والكَفَلْ
فوُقِّيت في الحبِّ شرَّ العِدَى
…
وفي كلِّ حالٍ بلغْت الأمَلْ
محمد بن عمر الخوانكي أديبٌ خبره متمتع الأسماع، وعشرته سلوى الأماني وحظ الأطماع.
لقيته بالروم والحال حالي، والعيش من كدر الأيام خالي.
وأنا وإياه حليفا صبا، وأليفا شمولٍ وصبا.
لم يشب مسك عارضينا بعارض، ولم يدر كافور التجارب منا في عارض.
فكنت أتمتع من لفظه بما ينعش كل خافٍ خافت، ومن معناه بما يحرك كل هافٍ هافت.
حتى غار القضا فأغار، واسترد مني ما كان أعار.
فانفصم ذلك العقد الثمين، وتفرقنا ذات الشمال وذات اليمين.
ثم رأيته بدمشق في سنة مائةٍ وألف، وقد عرض البياض لعارضه، كما صرح لي بعد معارضة.
وصرنا في بردٍ من الشيب منهج، بعد أن كنا في بردٍ من العيش مبهج.
فمما استتم السؤال عن كيفية الحال، حتى خاطبته على سبيل الارتجال:
لا تَعِيبَنَّ صُفْرةَ اللَّونِ منِّي
…
واحْمِرارَ الدموعِ في أجفْانِي
فبَياضُ المَشِيبِ يُنْبِىءُ أنِّي
…
غَيَّرتْنِي تَلوُّناتُ الزمانِ
فأملى علي من فصوله القصار، قوله: الموت الأحمر في الحظ الأسود، والعدو الأزرق في بني الأصفر، والشيب الأبيض في عدم العيش الأخضر.
وهذا كما تراه يعارض قول الحريري في المقامة الثالثة عشرة: فمذ اغبر العيش الأخضر، وازور المحبوب الأصفر، اسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر.
وقوله: العدو الأزرق يعني الشديد العداوة، أو الأزرق العين، يريد الروم؛ لأن أكثرهم زرق العيون، فبنو الأصفر على الأول بنو الذهب؛ وهم الدنانير، وعلى الثاني الروم.
ومن الأول تعرف أن الحريري عبر بالمحبوب، فلحظ جانب مدحه، كما فعل في المقامة الدينارية، حيث مدحه فقال:
أكْرِمْ به أصْفَرَ راقتْ صُفْرَتُهْ
إلى أن قال:
وحُبِّبَتْ إلى القلوبِ غُرَّتُهْ
وأما هو فعبر بالعدو، ولاحظ جانب ذمه تبعاً للحريري، حيث ذمه، فقال:
تَبّاً له من خادِعٍ مُماذِقِ
…
أصْفَرَ ذي وَجْهيْن كالمُنافقِ
والموت الأحمر هو موت الفجاءة، وقيل: هو الموت الشديد، وهو القتل بالسيف، وذلك لما يحدث عن القتل من الدم، وقد يكنى عن الأمر المستصعب بالموت الأحمر، ويقال: سنةٌ حمراء، أي شديدة، وقيل: الموت الأحمر الفقر.
وفي الحواشي الفنارية على المطول: الموت الأحمر يروي بالتوصيف وبالإضافة، فالأحمر على الثاني بالزاي المعجمة، قيل: هو حيوان بحري يشق موته، والظاهر أنه على الثاني، وعلى الأول بها أيضاً من الحمازة، وهي الشدة، وقيل: هو عليه بالراء المهملة، فيراد به موت الشهداء، والأول أقرب كما لا يخفى. انتهى.
وجرى بيني وبينه ذكر بلوغ الأربعين من العمر، فقال: كيف ترى حالك، وقد بلغت الأشد؟ فقلت: قد فارقت الشدة، وبلغت الأشد، فأنا قد عدمت معه السداد فمن لي بالأسد.
ما يُرجِّي من أرْذَلِ العمرِ شَيْخٌ
…
مِن بلوغِ الأشُدِّ يلْقَى الأشَدَّا
وأنشدني من لفظه لنفسه قوله مضمنا:
ولا أخْتشِي إن مَسَّنِي ضُرُّ حادثٍ
…
إذا كان عُقْباهُ ارْتفاعِي من الخَفْضِ
ولا الدهرَ مهما إن أطال له يَداً
…
فتلك يَدٌ جَسَّ الزمانُ بها نَبْضِي
فإن عِشْتُ أدركتُ المَرامَ وإن أمُتْ
…
وأسْرعَ أرْبابُ الودائعِ للقَبْضِ
ولم تُشْفَ من ماء الحياةِ غَلائِلِي
…
فللهِ مِيراثُ السمواتِ والأرضِ
محمد المعروف بالصائغ الدمياطي صائغ القول صوغ الإبريز، ورب السبق في البراعة والتبريز.
اتفق على فضله الجمع، وتغاير على محاسنه البصر والسمع.
وقد ورد علي بالقاهرة وخاطري بنوادر التحف متولع، وناظري لأطارف الملح متطلع.
فصادفت فيه المؤمل، ولعمري إنه كاملٌ مكمل.
فامتزجت أنا وإياه على التآلف والتعطف، ولم أر مثله في كثرة التحبب والتلطف.
وها أنذا شاكرٌ من ألطافه ما قل وما جل، والمودة فيما بيننا خالصةٌ لله عز وجل.
وقد تناولت من أناشيده نثير الجمان، وأحمد الله على أن جمعني وإياه الزمان.
فمما أتحفني به هذه القصيدة، مدح بها الأستاذ زين العابدين البكري:
رفعتْ بأطْرافٍ رِطابِ
…
عن وجهها طَرفَ النِّقابِ
فعجبتُ كيف البدرُ يجْ
…
لُو الشمسَ عن صَدَأِ السحابِ
ورَنَتْ بمُقْلتِها التي
…
هي فِتْنتِي وبها عذابِي
فرأيتُ خمرَ الْجَفْنِ أسْ
…
رعَ للمدَارِك بالذَّهابِ
والسِّحرَ سِحْرَ العَيْن لا
…
سِحْرَ العزيمةِ والكتابِ
وتبسَّمتْ عن أشْنَبٍ
…
يفْتَرُّ عن عَجَبِ عُجَابِ
دُرٌّ ترصَّع في الشَّقِي
…
قِ الغَضِّ بالشُّهْدِ المُذابِ
والوردُ صان الثَّلجَ خَشْ
…
يةَ أن يسيلَ من الرُّضابِ
والأُقْحُوانةُ كيف تَنْ
…
بُتُ في اليَواقيتِ العِذابِ
وكأنه كأسٌ تَلوَّ
…
نَ بالرَّحِيقِ وبالحُبابِ
ونظرتُ آيةَ خَدِّها
…
فقرأتُ عنوانَ الكتابِ
وعلمتُ أنّ الموتَ دُو
…
نَ وُرودِ مَبْسِمِها الشَّرابِ
رَيّانةُ الأعْطافِ مِن
…
ماءِ اللَّطافةِ والشبابِ
صَلْدِيَّةُ الأحشاءِ حَاشا
…
هَا ترِقُّ لذي تَبابِ
تَزْهُو إذا رأتِ الصَّرِي
…
عَ مُعفَّراً فوق الترابِ
تزهو بخاتمِها وخِنْ
…
صَرِها المُقَمَّعِ بالخِضابِ
وتظَلُّ عابسةً كما
…
يلْهُو المُفكِّرُ بالحسابِ
إن أنْسَ لا أنْسى مَقا
…
مَ رَحِيلها وعَداكَ مَا بِي
زَمُّوا المَطِيَّ وزمَّلُوا
…
حُمْرَ الهَوادِجِ والقِبابِ
رحَلُوا فعزَّ القلبُ مِن
…
صَدْرِي وما حُلَّتْ ثيابِي
يا لائِمِي في الْحُبِّ دَعْ
…
عَذْلِي فليس عليك عَابِي
هَبْنِي ضَلِلْتُ فما عليْ
…
كَ إلى الهدايةِ مِن حسابِ
مَن لي بأن أُدْعَى حَلِي
…
فَ صَبابةٍ ولَقَى تَصابِي
أنا لَذَّ لي ذُلُّ الهوى
…
وأرى خَطايَ به صوابي
والعِزُّ يخدمُ ساحتِي
…
والسَّعْدُ مُرْتبَطٌ ببابِي
بمديح زيْن العابدي
…
نَ الْحَبرِ محفوظِ الجَنابِ
ابنِ الْفَواتِحِ والخَوا
…
تِم والْعَواصمِ والمَتابِ
وابنِ الخلافةِ والإنا
…
فةِ والإمامةِ والمَآبِ
فَرْدُ الوجودِ ومَظْهرُ التَّ
…
كْمِيلِ فَيَّاحُ الرِّحابِ
طَلْقُ الْجَبِين إذا تصدَّ
…
رَ للخُطوبِ أو الخِطابِ
سهلُ الخلائقِ للعُفا
…
ةِ وللعِدَى صَعْبُ الحِجابِ
مِن بَأْسِه تَجِدُ الملو
…
كَ الصِّيدَ مُرْتعِدِي الإهابِ
إن تَلْقَهُ تَلْقَ المُؤَمَّ
…
لَ للمَثُوبةِ والوِثابِ
وإذا نظرْتَ الوجْه مِنْ
…
هـ تَرَ الجمالةَ في المَهابِ
وإذا اسْتمحْتَ يَمِينَهُ
…
حُزْتَ اليَسارَ بلا حسابِ
وإذا اسْتَغَثْتَ بجَاهِهِ
…
فتُغاثُ منه بمُسْتَجَابِ
طابتْ عناصِرُه وطا
…
بَ الأصلُ منه بمُسْتَطابِ
سَعِدتْ به الأيامُ وابْ
…
تهجَ الزمانُ على الحِقابِ
وعَلَتْ به رُتَبُ العُلَى
…
فوق الثَّوابتِ بالثَّوابِ
وبذِكْرِه تَرْتاح أفْ
…
ئدةُ المَحامِدِ والمَحابِ
مِن عُصْبةٍ طابتْ أَرُو
…
مَتُهم بفخرٍ وانْتخابِ
قومٌ لهم شَرَفٌ وحَقِّ
…
اللهِ في أُمِّ الكتابِ
حُبِّي بَنِي الصِّدِّيقِ دُخْ
…
رِي للقيامةِ واحْتسابِي
وبِه أرومُ الفَوْزَ في الدُّ
…
نْيَا وفي يومِ الحسابِ
وهُنا وعُمْرِ أبيك قد
…
نَوَّخْتُ راحلةَ الطِّلابِ
وجعلتُ مَدْحِي في بَنِي الصِّ
…
دِّيقِ ما قد عِشْتُ دَابِي
وأنشدني من لفظه لنفسه، قال: وهو مما قلته في الرؤية:
كأنما الشمسُ في الإشراقِ طالعةً
…
خَوْدٌ تَرِفُّ على أرْضٍ من الذهبِ
وإن تدلَّتْ لنَحْوِ الغربِ مائلةً
…
تجُرُّ من خَلْفِها ذيلاً من اللَّهَبِ
وأنشدني قوله:
للهِ قومٌ عهِدتُ حُبَّهمُ
…
فرضاً عليَّ الغرامُ قد كتَبَا
كأنما القلبُ عند ذكرِهمُ
…
طَيْرٌ أحَسَّ الوُقوعَ فاضْطَربَا
وقوله:
أذِلُّ لِعزَّتِه يُعْجَبُ
…
وأرْضَى فيُغْضِبُه فاعْجَبُوا
وأسألُه العَفْوَ عمَّا جَنَى
…
عليَّ كأنِّي أنا المُذْنِبُ
وقوله:
بالرُّوحِ أفْدِي عِذَاراً
…
أبانَ للناسِ عُذْرِي
أقول مِتُّ غرامَا
…
يقول يا ليتَ شِعْرِي
وقوله:
تعلَّقتْ بك آمالي وأطْمعنِي
…
فيك الوُثوقُ بأنِّي لم أُضَعِ
فجُدْ بإنْجازِ وَعْدِ كي أفوزَ ولا
…
تُمِتْ رجائِيَ بين الياسِ والطَّمَعِ
وقوله:
أرى الدنيا وإن رفَعتْ
…
لأعْلَى ذِرْوة الفَلَكِ
سترْمِي مَن يُغَرُّ بها
…
لأدْنَى هُوَّةِ الدَّرَكِ
فإن نصَبتْ حَبائِلَها
…
فخَفْ من حَبَّةِ الشَّرَكِ
وقوله:
مَن كان باللهِ لا يُبالِي
…
إن أكثرُوا اللَّوْمَ أو أقَلُّوا
ومَن يكن همُّه سِواهُ
…
فإنما حَظُّه الأَقَلُّ
وقوله:
لَاثَ على رأسِه عِمامَهْ
…
فنال منه الجمالُ آمالَهْ
كأنه وهْو تحتَها قمرٌ
…
دائرةٌ فوق رأسِها هالَهْ
وقوله:
هُمُ هُمُ إن نأَوْا عنِّي وإن قَرُبُوا
…
أحِبَّتِي حبُّهم منِّي كحُرِّ دَمِي
فلا أقَرَّتْ يدي كأساً ولا جذَبتْ
…
سيفاً ولا لعِبتْ بالرُّمْحِ والقلمِ
ولا أسالتْ شَآبيبَ النَّدَى كرَماً
…
إن كنتُ وَجَّهْتُ وَجْهِي نحوَ غيرِهِمِ
وقوله في كاتب:
أكْرِمْ به كاتباً أفْدِيه بي وأبي
…
وثَغْرُه عن ثَمِينِ الدُّرِّ يبْتسِمُ
كأنه الشمسُ والقِرْطاسُ في يَدِه
…
بدرٌ ومِنْطقة الْجَوْزَا له قَلَمُ
وقوله:
برُوحِي وأهلِي زَوْرة مِن مُمَنَّعٍ
…
عليه تفَانتْ أنْفُسٌ وعيونُ
فبات يُرِيني الغُصْنَ كيف انْعطافُه
…
وبِتُّ أُرِيهِ الهَصْر كيف يكونُ
ومِن دُونِه بِيضُ الصَّوارِم والْقَنَا
…
قِبابٌ وأسْتارُ الجمالِ حُصونُ
ولكنَّها الأقْدارُ تُسْعِفُ مَن تَشَا
…
فيُدْرِكُ ما لم تحْتسِبْهُ ظُنونُ
وقوله:
أَسْعَدُ الناسِ مَن يرَى
…
مِنَحَ الحقِّ في المِحَنْ
والرِّضَا منه بالقَضا
…
يُذْهِبُ الهمَّ والْحَزَنْ
وله في تعزية بين الوفا، ونقلتهما من خطه:
يَعِزُّ على لسانِي أن أُعَزِّي
…
بساداتٍ همُ رَوْحُ الزَّمانِ
وما فُقِدُوا من الدنيا لشيءٍ
…
سِوَى أن زَيَّنُوا غُرَفَ الْجِنانِ
مصطفى بن فتح الله النحاس لقيته بمصر شاباً ورده نبعي، وكلأه ربعي.
وغصن شبابه لدن، وجنة نزهاته عدن.
وسألته عن مسقط رأسه، فقال: دمشق البلدة التي لجيرتها على صفحات البدور مراسم، ولترائب تربها عقودٌ من درر المباسم.
وهو ممن تميز في الأدب أو كاد، وللرجاء فيه مواعد إذا وفت قيل: تفوق أو زاد.
وقد أهدى إلي من نظمه هائية، هاهيه:
أما والغِيدِ تخْطِر في حُلاهَا
…
وتطلُع كالأهِلَّةِ في سَناهَا
وباناتِ القُدودِ إذا أبانَتْ
…
برَوْضاتِ الخدودِ ضُحَى جَناهَا
وتْغريدِ الصَّوادِحِ في الرَّاوَابِي
…
تبُثُّ من الجَوانحِ لي هَواهَا
ومَا فَعَل الغرامُ بقلبِ صَبّ
…
يصُبُّ الدمعَ صُبْحاً أو مَساهَا
ومُرْسَلِ فَتْرَةٍ لم يَنْبُ فَتْكاً
…
وآيةِ حَسْرةٍ قلبي تَلاهَا
وأوْقاتٍ خلعتُ مع العَذارَى
…
عِذارَ العُذْرِ مُعْتنِقاً سبِاهَا
لقد أَصبحتُ أمْرَحُ في الأمانِي
…
وأنْسَرِحُ انْسِراحاً في رُباهَا
وأصْبُو للعيونِ النُّجْلِ عُمْرِي
…
وإن هي أغْمَدتْ قلبِي ظُبَاهَا
وأرْتشِفُ المَباسِمَ والثَّنايَا
…
وأنْتشِقُ المَناسِمَ مِن شَذاهَا
ولي قلبٌ بلَاعِجَةٍ تَلظَّى
…
وعَيْنٌ دَأْبُها أبداً بُكاهَا
وظَبْيٍ في سُوَيْدايَ رَتُوعٍ
…
تحلَّى بالمَلاحةِ وارْتداهَا
كأن عِذَارَهُ زَرَدٌ نَظِيمٌ
…
على خَدَّيْه مِن قُبَلِي حَماهَا
رمَى عَمْداً بأسْهُمِ ناظِرَيْهِ
…
أصابَ مَقاتِلي لمَّا رَماهَا
رَشاً إن شاء يسْتلِبُ الْبَرايَا
…
وإن ما شاء رَدَّ لها حِجَاهَا
ومَن وَجنَاتُه سَرقتْ لِحاظِي
…
فجازاها القطِيعةَ مِن كَراهَا
دَرَى أنِّي أحِنُّ إلى لِقاهُ
…
فعذَّب مُهْجتِي وعليَّ تَاهَا
ولمَّا أن نأَى خلَّصْتُ مَدْحِي
…
لخيرِ عصابةٍ من آل طه
منها:
إليك أخا الفضائلِ والمَعالي
…
مَطايَا المجدِ قد حَثَّتْ سُراهَا
لك الْباعُ الطويلُ يُرَى مَدِيداً
…
ليبْسُطَ وافرَ العلمِ انْتباهَا
رَتَعْنا في رياضِك وانْتهلْنا
…
مَناهِلَ قلبُ عبدِك ما سَلاهَا
أألْسِنةَ الْيَراعِ له اسْتَمِدِّي
…
بَدائِعَ مِن مدائحَ لا تَناهَى
ويا سُودَ المَراعفِ ضَرِّجِي من
…
طُروسِ مَدِيحه الْبِيض الْجِباهَا
ويا صُحُفَ المَديحِ نَشَرْتِ عَرْفاً
…
له في الخافِقيْن زَكَا صَباهَا
ويا نُدْمانَ رَوضتِه أقيمُوا
…
بجامعِ فضلِه في مُشْتهاهَا
ويا مَن مِن مَآثرِه اسْتزادُوا
…
فلمْ يصِلُوا لغايةِ مُنْتهاهَا
ألم يَدْرُوا بما الأستاذُ أوْلَى
…
من الآلاءِ إذ شكَر الإلهَا
فهل بحرٌ يُرامُ له حدودٌ
…
أم الجوزاءُ يُدْرَك مُرْتقاهَا
وهل بالفَرْقَدَيْن يُرَى اقْتِرانٌ
…
لغير عُلاه إذ هو قد تَباهَى
له الشُّعَرَاءُ رَقَّتْ واسْتُرِقَّتْ
…
وقد نشَرتْ بِمدْحتِه لِواهَا
مَدَحْتُك مُغْضِياً والعُذْرُ أنِّي
…
أراك تُقِيلُ عَثْرَة مُصْطفاهَا
وتُغْضِي الْجَفنَ عن عَيْبٍ تَراهُ
…
وتُسْبِلُ ذَيْلَ سِتْرِك عن خَطاهَا
ومَن لي أن أكونَ لذاك أهْلاً
…
وأجْلُو عن ضِيَا عَيْنِي قَذاهَا
وأن أضَعَ النِّعالَ كعَبْدِ رِقٍ
…
وأجْعَلَ كُحْلَ أجْفانِي ثَراهَا
ولستُ بشاعرٍ لكن أُرَجِّي
…
من الشعراءِ فيْضاً مِن نَداهَا
وإنك سيدُ الشعراءِ حَقّاً
…
لك البُلَغاءُ قد ألْقَتْ عَصاهَا
وإني إن جعلتُ البحرَ نِقْساً
…
لِتَعْدادِ المَدائحِ ما كفاهَا
كذاك إذا نظَمْتُ الدِّرْعَ عِقْداً
…
وإن بالَغْتُ لا أُحْصِي ثَناهَا
كمُلتَ مَفاخراً وعلَوتَ ذَاتاً
…
جُعِلتُ لذاتِك العُلْيَا فِداهَا
فلا زالتْ لك الأمجادُ تَسْعَى
…
على الأيامِ باسِطةً جِباهَا
السيد عبد الرحمن الجيزي الطباطبي هو من نخبة سراة الأشراف، محله من قريش الروابي المشرفة أتم الإشراف.
ورث الشرف جامعاً عن جامع، وازدهت برونق سيادته مواطن ومجامع.
وقد جمعتني وإياه الأقدار، في أوقاتٍ أمنت فيها بفضل صحبته وصمة الأكدار.
فعرفت وفور فضله، وشهدت كرم ذاته المنبي عن كرم أصله.
وكتب يستجيز ذلك بهذه الرسالة، فأجبته سائلاً أن يحفظ الله به حشاشة النفاسة والبسالة.
وهذه رسالته: حمداً لمن افترض على كل مسلم محبة أهل البيت، ورفع ذكرهم " في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه " بيتاً بعد بيت.
ومنح أمينهم حقيقة السعادة وسهل طريقه إليها ومجازه، وخلع عليه من حلل السيادة خلع إنعامه وجعل مزيد النعم على شكره إجازة.
وصلاةً وسلاماً على من آتاه الله جوامع الكلم وزاده مثوبةً وقربا، وعلى عترته الذين لا يكمل إيمان المرء إلا بحبهم وشاهده:" قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ".
وعلى آله وأصحابه الألى هذبوا السنة الشريفة فكم خبرٍ منها جا، وكشفوا النقاب عن وجه فضل ذريته واتخذوا ودهم تأليفا ومنهاجا.
فلله در تلك البنوة، الذين كفلتهم في حجرها النبوة.
فهم للخير نجوم الهدى، ولا يتولى ولادتهم إلا شمس المعارف والاهتدا.
وحسبهم فخراً أن لا صلاة كاملة إلا بالصلاة عليهم، وهاك ما رواه البيهقي عن الإمام الشافعي وهو نص مذهبه فيهم:
يا آلَ بيْتِ رسولِ اللهِ حبُّكمُ
…
فَرضٌ من اللهِ في القرآنِ أنْزَلَهُ
كفاكُمُ من عظيمِ القَدْرِ أنَّكمُ
…
مَن لم يُصَلِّ عليكمْ لا صلاةَ لَهُ
جعلهم الله بركةً وذخراً، وملاذاً دنيا وأخرى.
وأقامهم مقام جدهم في رفع العذاب، فوجودهم أمانٌ في الأرض من الخسف والمسخ والإرعاب والإرهاب.
وكم من حديثٍ في هذا المعنى ورد عن صادق الوعد الأمين المأمون، وناهيك حديث:" النجوم أمانٌ لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض، فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون ".
وحديث: " مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوحٍ في قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق ".
فمن أخذ بهديهم ومحاسن شيمهم نجا من لجج ظلمات المخالفة وبالفائزين لحق ورقى الدرجات العلى بجنات النعيم، ومن تخلف عما ذكر غرق في بحر الكفران وهو في نار الجحيم.
ولقد سبك الدماميني هذا المعنى، وأتى بنص الحديث ضمنا:
لستُ أخْشَى يا آلَ أحمدَ ذَنْباً
…
مع حُبِّي لكم وحسنُ اعْتقادِي
يا بِحارَ النَّدَى أأخْشَى وأنتم
…
سُفُنٌ للنَّجاةِ يومَ المَعادِ
ومن خيرهم حبرٌ على أسرار العلوم أمين، وبحرٌ يتدفق بعجائب نظمه ونثره فإذا رمت الإفصاح عن حصر ذلك أمين.
وبرٌّ يطوق أعناق المشارق والمغارب بنفائس درر عقده الثمين، وكشاف أسرار البلاغة بحسن تأويلٍ يظهر الغث من السمين.
بل هو رياض أدبٍ أينعت من ينابيع بديع ثمراته الأوراق، وسقت جداول مداد مديد كلمه أغصان روضات قلمه فأخرجت من كل الثمرات ما حلا ورق وراق.
فهو الإمام ابن الهمام الذي لا يعلم فضيلة تحقيقه وتدقيقه إلا الأعلم، والخليل الذي نثر لآلىء البيان ونظم.
فأهلاً به من مؤرخ أخيرٍ تتلفت إليه وجوه الأعصر الأول، وبخٍ بخ لبراعته التي يبيض سوادها صحف الأيام والدول.
من نحا نحو منطقه، وارتضع ثدي معاني بيان بلاغته، كان في اللغة جوهري تنكيتها، بصحاح عبارات يحار من بلاغتها سكيتها وابن سكيتها.
يتحدث لسان يراع براعته المخضب بمداد المعاني فلا يمين، ويقسم أنه يبرز دقائقه فيبر تكذيباً لمن قال: فليس لمخضوب البيان يمين.
صدر الشريعة بل بحرها الذي يلتقط من ساحل الشام دره، شيخ الطريقة بل برها الذي يجيد صنائع المعروف فعلى الحقيقة لله دره.
صاحب إتقان جامعٌ نافعٌ لأهل الرواية بدايته، ومغرب معرب عن أصول الهداية نهايته.
محمدي الخصال الثابت غراس أصله في طينة المجد السامي، الثابت المتصل بطيبة ونجدٍ محتده الشامي.
وحسبك ما جمع من الفضل والفصل، ونجابة الفرع الدال على عراقة الأصل.
كيف لا وهو قطب دائرة الأفلاك العلوية، ومطلع شموس أملاك الدوحة النبوية، وعين أعيان خواص خلاصة البدعة المحمدية، وخير خيار الأخيار من السلافة المصطفوية.
أشرف مولى بمناصب حكمه اتصل سند حديثه بالإمام الحاكم، فإذا ما نظر في الأحكام الشرعية كان في الفصل أعدل حاكم، وأجل عالم عامل ولا نكتم شهادة الله " ومن يكتمها فإنه آثم ".
وماذا أقول في البيت الذي عمرته بالذكر الحميد أبناؤه، وغمرته بالذكر الحكيم أبناؤه.
فتبارك من أظهر من أهله هذا السيد وجعل أغاريب البلاغة لألفاظه مذعنةً طائعة، وأعاجيب صياغة الألسنة عاصيةً سواه وله مطاوعة، وأبرز إبريز المعاني عن ذهنه السليم فأشبه مطبوعه طابعه.
فلقد صنف تاريخا وأبدع في تصنيفه، وألف شتات الفضائل وجمع شمل ذكر علماء عصره في تأليفه.
فجاء بحراً طويلاً مبسوطا بمداد أمداده ذكر السادة العلماء، محيطاً بكامل أسمائهم، ووافر أنسابهم.
حتى صار بأسانيدهم علماً حاوياً لكل قولٍ محرر وجيز، شاملاً لخلاصة المعنى بموجز ألفاظٍ تعرف القادر منه بالتعجيز.
لم لا، وقد تكلم فيه عن نكاتٍ يكاد المسموع منها لإشراقه أن يرى، وأتى بجوامع الكلم فكان الصيد كل الصيد في جوف الفرا.
يدل على صحة إخبار مؤلفه عن علماء العصر طرا، أنه من أهل البيت أولي العلم والمجد وصاحب البيت أدرى.
وينبه البحث باقتدار جامعه على تحقيق خبريته بمواقع الأخبار وتسهيل صعابها، أنه ورث علم هذه الصناعة عن أصله المكي وأهل مكة أعرف بشعابها.
فلله من مؤرخ أحرز بالجمع عن الأواخر ما أحرز بالسمع عن الأوائل، وأبرز للجمع عن الأوائل أخاير الذخائر من فضائل الأفاضل.
فصوص حكمه مشتملةٌ على أحسن الإشارات، وفتوحات حقائقه جاءت بالتلويحات إلى أفضل المقامات.
فكم فيه من تنبيهٍ على كل معنى مستصفى، ومحكمٍ من أحكام الأحكام يهدي تحصيل الشفا من استشفى.
وفصيحٍ من القول في إصلاح النطق، يقرب إلى أدب الكتاب، ومهذبٍ من اللفظ الفائق يقطف من روض المديح زهر الآداب.
حتى رصع قلائد العقيان في نحر البلاغة مجملا، ونظم عقد درر الصحيحين وغرر الصحاح من نثره ونظمه مفصلا.
ففي أبيات شعره قصور مشيدة، وفقر رسائله كل فقرةٍ منها معدودةٌ بقصيدة.
وفي عنوان توفيقه قوت قلوب العارفين، وفي محكم إراشاده إحياء علوم الدين.
فكسا الله مؤلفه من حلل العلوم ثياباً غير أخلاق، وجعله مجيزاً لكلٍ طالبٍ مروياته بمحاسن الإسناد ومكارم الأخلاق.
وبلغه من الآمال والأماني أوفاها وأقصاها، ومد أمد مدته حتى لا يحصرها إلا الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها.
لما قد نفعني الله بوجوده، وزاده من فضله وجوده.
محروسة مصر القاهرة تشرفت، وبحلول ركابه تزخرفت.
وفاح في رباها من روض بهجته نور نشرها الأريج، ورويت من رؤيته بصوب صوابه فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج.
وبإشراق كوكب محياه في أفقها وافق الخبر الخبر، وأين السمع من المشافهة ومشاهدة النظر.
أحببت أن أخدمه بأبياتٍ طريحة، عنكبوتية النسج من جهة القريحة القريحة.
وأطلب فيها الإجازة بجميع مروياته، إن كان يراني أهلاً لتلقي مستنداته.
لأني لم أكن من فرسان هذا المضمار، ولا أهلاً لمعانقة أبكار الأفكار.
فلهذا صرت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، وأقول: سلوك طريق الأدب مع مثل هذا الأستاذ أولى وأحرى.
لأن مقامه عالي الذرى، وأين الثريا من الثرى.
إلى أن رأيت بعض الإخوان ملأوا الأفواه في مدحه بدرر نثارهم، ونصبوا على مدارج سماع ذكرهم بيوت أشعارهم.
وظفروا من كنوز المناهج بالسعد المنتظر، ونثروا على عقود جواهره اللآلي والدرر.
وقصدوه وهو الغني من هذه الصناعة وهم بالنسبة إليه الفقراء البائسون، فتلقاهم بالقبول وفاح عليهم من رحيق ختام كلامه مسكٌ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وأنزلهم منازلهم في مجالس حكمه، وخلع على أعطافهم من حلل نثره ونظمه.
فحملوا على عواتق شكرهم لواء الحمد الأزهر، وخفقت أعلام مدائحهم بثناء الفخر الأبهر.
وهم يقولون في دقائق معارفه " إن هذا إلا سحرٌ يؤثر "، وإن فضله كالشمس لا ينكر، وإن ذكره الرفيع أبى الله أن لا يذكر.
ثم وردوا علي واحداً بعد واحد، وطلبوا مني أن أستخرج من أبكار الفكر، بنات ذهنٍ مكللاً جيدها بعقود جواهر الفقر.
فقلت: لساني يعجز في ترجمته عن بلوغ قدره، ولو قال مهما قال لم يقم بواجب حقه طول عمره.
فقالوا: لا سبيل إلا أن تصيغ درر المعاني، عقداً نضيداً يبهر منه لب المعاني.
وألزموني الحجة، ولم أر للمندوحة محجة.
وقد شرعت فيما راموه، وجادت القريحة بما طلبوه.
وقفيت مقاطيع هي عن الغاية كاسمها، وأبياتاً خاويةً ما تساوى الوقوف على رسمها.
ولكن على عجزي وقدرته، وقلي وكثرته.
أطمع في عفوه أنه ينضد لها من إبريز فضله سلكا، ويقابل أعمى الحظ الذي " عبس وتولى "" وما يدريك لعله يزكى ".
وأسأله الصفح عند تصفحها، واستحضار الحلم ساعة يلمحها.
وأن يمن عليها بالقبول، والستر الجميل المقبول.
وهذه هي هدية العبد المولى، إلى السيد الأمين المولى.
أمتع الله تعالى بفضائله التي تزري بالروض النضر، وتملأ أذن السامع وعين المنتظر:
بَنُو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثِلُ
…
أكارمُ أهلِ البيت أينَ المُماثِلُ
هم الناسُ في صِدْقِ المَقالِ لأنهم
…
إذا صَدَعُوا بالحقِّ لم يَبْقَ باطلُ
وهم رحمةٌ للعالَمِين وعِصْمةٌ
…
وقد بَرْهَنتْ عمَّا أقولُ الدَّلائلُ
وهم خيرُ خلقِ الله في الأرضِ نِعْمةً
…
هُداةٌ لمن فيها أمانٌ مُواصِلُ
ومِن بيْتهم جاءَ الكتابُ مُفصَّلا
…
وشَرْعُ رسولِ الله بالحقِّ فاصِلُ
أئمَّةُ هَدْيٍ هَذَّب الدِّينَ منهمُ
…
إلى أُمَمِ الإسلامِ قومٌ أفاضلُ
خُذُوا عنهمُ الحِلْمَ الشريفَ وحدِّثوا
…
إلى فضل أهلِ البيت تُعْزَى الفضائلُ
لقد عظَّم الرحمنُ في الدهرِ قَدْرَهم
…
وأثْنَتْ عليهم بالفَلاحِ الأماثِلُ
حُماةٌ سراةٌ لا يُضامُ نَزِيلُهم
…
إذا ضَيَّعتْ عهدَ الجِوارِ القبائلُ
سَمَتْ بمَعانيهم علومٌ رفيعةٌ
…
وطالتْ بهم في الأكْرَمِين الطَّوائلُ
ومِن خَيْرِهم حَبْرٌ حَوَى كلَّ سُؤدَدٍ
…
حَسِيبٌ نَسِيبٌ أوْصلَتْه الحَمائِلُ
أمِينُهمُ السامِي الفخارِ رَشيدُهم
…
سَرِيُّهمُ الشَّامِي النِّجار الحُلاحِلُ
خِيارُ الكرامِ الشُّمِّ من آل هاشمٍ
…
خُلاصةُ أهلِ البيتِ نعْمَ التَّناسُلُ
لفاطمةَ الزَّهْرا البَتُولِ انْتسابُهُ
…
عَلِيُّ حُسَيْنِيٌّ له الأصْلُ كَافِلُ
شريفٌ عفيفٌ مُسْتغَاثٌ مُهذَّبٌ
…
كريمُ السَّجايا حازمُ الرَّأْيِ عاقلُ
أصيل له مجْدٌ رفيعٌ مُوثَّلٌ
…
عَرِيقٌ زَكَتْ أخلاقُه والشمائلُ
هو السيدُ المحفوظُ من كلِّ زَلَّةٍ
…
وشاهدُه في الذّكُرِ يتْلُوه فاضلُ
أبَى الله إلَاّ أن يكونَ مُطهَّراً
…
فأذْهَبَ عنه الرِّجْسَ والفضلُ شاملُ
لقد آنَسَ الله البلادَ وأهلَها
…
وطابتْ به في الأرضِ مصرُ المناهِلُ
وأشْرقتِ الآفاق من نُورِ فضلهِ
…
وسارتْ به للسَّاِلكين رسائلُ
وشاهَد أهلُ الحقِّ فيه عنايةً
…
تَسامتْ بها أفْعالُه والعَوامِلُ
تملَّك غاياتِ العلوم فلم يزَلْ
…
ضَلِيعاً بأعْباءِ الهُدى منه كاهِلُ
عَطوفٌ رؤوفٌ ذو حنانٍ ورحمةٍ
…
تشَرَّف بالتوفيقِ منه المُواصِلُ
إمامُ الهدَى غَيْثُ النَّدَى مُذْهِبُ الرَّدَى
…
عن الناسِ إن صالتْ عليهم صَوائِلُ
مُجَلِّي عَماياتِ الضَّلالِ بهمَّةٍ
…
مُؤيَّدَةٍ يُصْمِي بها من يُجادِلُ
ومُرْشِدُ أرْبابِ القلوبِ إلى الهدى
…
بأفْضلِ رُشْدٍ منه تُشْفَى الغلائِلُ
ومُسْقِي النَّدامَى من سُلافةِ سِرِّهِ
…
شَراباً طَهُوراً للعقولِ يُثامِلُ
فقاصِدُ سامِي سُوحِه غيرُ خائبٍ
…
يبُثُّ الثَّنا لا يعْترِيه تَشاغُلُ
وفي نَفَحاتِ الأُنْسِ عَيْنُ حَقيقَةٍ
…
فمن أمَّه نالَ الذي هو آمِلُ
تراهُ إذا يمَّمْتَه مُتهلِّلاً
…
بأنْواعِ تَرْحابٍ لها البِشْرُ باذِلُ
هو البحرُ إن حَدَّثْتَ عن مُعْجباتِه
…
ضَعُفْتَ عن اسْتيعابِ ما أنت ناقلُ
فأمْواجُه نحوٌ وصرفٌ ومنطقٌ
…
ولُجَّتُه التاريخُ والشعرُ ساحلُ
إذا صاغ شِعْراً جاء دُرّاً مُنضَّداً
…
وخالصُ إبريز المَعانِي سَلاسِلُ
هُمامٌ له في كلِّ فَنٍ مُؤلَّفٌ
…
بأوْضح معنىً ليس فيه تداخُلُ
وألَّف تاريخاً هَمَى جُودُ مُزْنِه
…
على عُلَماءِ العصرِ كالغَيثِ هَاطِلُ
وأوْدَعَ سِرَّ الجَمْع في طَيِّ نَشْرِه
…
ففَاحتْ برَوضاتِ العلومِ الْمَنادِلُ
لقد صار كَهْفاً للمشايخ شامِخاً
…
بسَاحتِه للطَّالِبين مَنازِلُ
وأفْصَح عن فَرْقٍ وجَمْعٍ وهيئةٍ
…
به فزَهتْ غَداوتُه والأصائِلُ
وأعْربَ عن أسْمائهم وصِفاتِهم
…
وأنْسابهم والأخْذِ عمَّن يُخالِلُ
وقد صَرَّحَ الأثْباتُ عن خُبْرِه بما
…
يُحدِّث عن صِدْق الذي هو قائلُ
ومن أعْجَبِ الأشياءِ صِحَّةُ نَقْلِه
…
ولم يَرَهُم طُرّاً فكيف التَّواصُلُ
وقد حارتِ الأشْياخُ في حُسْنِ صُنْعِهِ
…
وكلٌّ لميثاقِ المَودَّةِ حامِلُ
ولَاذَتْ به أهلُ الْعَروُضِ لأنه
…
خبيرٌ بما قد دَوَّنتْه الأوائِلُ
عَلِيمٌ بأقْسامِ الكلامِ مُؤرِّخٌ
…
أمينٌ شريفٌ صادقُ الوعدِ عادلُ
له شَرَفٌ يسْمُو السِّمَاكيْن رِفْعةً
…
وأوْصافُ صدقٍ حار فيها المجادِلُ
إمام له في كلِّ عِلْمٍ مَكانةٌ
…
بصحَّةِ إسْنادٍ عن الثَّبْتِ ناقلُ
وحَسْبُك في تحقيقِ ما أنا ذاكرٌ
…
فعَن مثلِه في الناسِ تُرْوَى المسائلُ
جميلُ المُحيَّا في نَضارةِ وجهِه
…
مَشارِقُ منها تسْتضيءُ المحافِلُ
حَمِيد المَساعِي قد تَسامَى مَقامُه
…
محمدٌ المحمودُ فيما يُحاوِلُ
بِدايتُه في كلِّ علمٍ نهايةٌ
…
وما هُنَّ عن نَهْج الحقيقةِ عادلُ
أمينٌ على الأسرارِ من دُرِّ كَنْزِه
…
أتَى خيرَ ما دَلَّتْ عليه الدَّلائلُ
ولا عَيْبَ فيه غير أنَّ سَبِيلَه
…
لِسالِكه فيه الهدى والوَسائِلُ
خِيارُ ولاةِ الأمرِ أعدلُ حاكمٍ
…
يُقِيمُ حُدودَ اللهِ والحالُ حائِلُ
وَقُورٌ صَبُورٌ قلتُ فيه مُؤرِّخاً
…
وَلِيٌّ تَقِيٌّ وافِرُ العِلْمِ كاملُ
فيا رَبِّ زِدْهُ نِعْمةً وسعادةً
…
وبَلِّغْهُ ما يرجُو وما هو آملُ
وصُنْهُ من الأسْوَا وحَصِّنْه بالهدى
…
وأيِّدْه بالتَّوفيقِ ما دَرَّ وَابِلُ
وقائلُها الجِيزِيُّ مولايَ جَازِهِ
…
بفضل فمنك الجُودُ للعبدِ واصلُ
يُرَجِّي من المولَى الأمينِ إجازةً
…
بما جاز أن يَرِْيه فالشَّرْطُ حاصلُ
ومن فضلهِ يرجو قبولَ قَريضِهِ
…
فقد حَاكَهُ واللُّبُّ بالشُّغْلِ ذاهِلُ
سَمِيُّ ابنِ عَوْفٍ للطَّباطِبةِ انْتمَى
…
وعُنْصُرُهم للمصطفَى الطُّهْرِ آيِلُ
ثِمالِ الْيتامَى الأوَّلِ الآخِرِ الذي
…
به افْتخرتْ آباؤُه والقبائلُ
عليه صلاةُ اللهِ ما صَيِّبٌ هَمَى
…
وأزْكَى سلامٍ مِن سَلامٍ يُواصلُ
وآلٍ وصَحْبٍ ما بَدَا قَوْلُ قائلٍ
…
بنو المصطفَى أصلُ الوجودِ الأماثلُ
وهذا آخر ما انتظم في سلك القصور من مقاطيع أشعارٍ تشعر بعجز مؤلفها، وارتسم في صك العثور على خبايا مختلفها ومؤتلفها.
وانتخبته القريحة من بنات فكره العاجز، وذهنه الذي بينه وبين الوصول إلى هذه الصناعة حاجز.
ومن بضاعته مزجاة، لفظ لفظة وقيل: ما أنقاه، وسكت ونكث عليه أن فاه.
فلذلك ترهبت بنات فكره إما من الخوف فطلبت صفحا، وإما من الكساد فلبست من المداد مسحا.
ولكن إذا نظر إليها المولى بعين الرضا وسمع معانيهان جلت سعود السعود ورقى الدراري ذرى مبانيها.
فعسى أن يوسم مرابعها بالوسمي ذلك الولي، ويجلي سواد حظها بنور فهمه الجلي.
ويلحظها بلحظةٍ من لحظاته، ويعيد النظر في وهن عباراته، ويعودها بعائد صلاته.
ويعيرها لمعةً من سواطع بديع جماله، ويتصدق عليها من زكاة أقواله.
فإنها فقيرةٌ من فقر السجع نظما ونثرا، تاليةٌ و " سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً ".
فرحم الله امرأً تطلع على عيبٍ فيها فستر، وآمن خوفها بحسن القبول والنظر، وعمل بقول أمير المؤمنين الشهاب ابن حجر:
يا سيِّداً طالِعْهُ
…
إنْ راقَ مَعْناه فعُدْ
وافْتَحْ له بابَ الرِّضا
…
وإن تَجِدْ عَيْباً فَسُدّ
وها لسان اليراع يقول، راجياً حسن القبول:
يا مَن دُعِي بيْن الورَى
…
بأمينِ أسْرارِ الجليلْ
انْظُر إليها بالرِّضا
…
ثم اصْفَح الصَّفْحَ الجميلْ
وقد آن للقلم أن يخلع ما اسود من بروده، ويرفع رأسه من ركوعه وسجوده.
وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وشيعته ومحبيه وحزبه.
وهذا جوابي إليه: أحمد من يجيز آمله، ويجيب بالقبول سائله وأنا سائله، به أعتضد وآمله.
عليه أعتمد مستخيراً به وهو لا يندم مستخيره، ومستجيراً بعفوه وهو لا يخيب مستجيره.
وأصلي على نبيه صاحب الرسالة المؤبدة، ومشرع الملة الباقية على الدهر والطريقة المؤيدة.
أطهر الخلائق عنصرا، وأكرمهم خبرا ومخبرا.
الباني بيوتاً علت شرفاتها، والناهج طرقاً سعدت غاياتها.
وعلى آله خير آله، وأصحابه السعدا في المبدأ والمآل.
ما روى راوٍ حديث فضلهم الحسن، وسعدت ببث محامدهم ألوا الفصاحة واللسن.
وبعد؛ فلما تشرفت برؤية من كنت أود قربه، وأتخذ ولاه قربةً وأكرم بها من قربة.
السيد الذي ابتهجت ببراعته الدنيا، ونزلت سيارة محاسنه بين السند فالعليا.
عبد الرحمن الجيزي وفر الله من كل فضيلةٍ حظه، ولا أعدمه تتابع الزيادة ما أدار في نفيسه لحظه.
تنتهي كليته حيث ينتهي ذكره، ويأتيه مناه فوق ما يناجيه فكره.
وبقي ما بقيت الخضراء تظله، والغبراء تقله، والآراء تحترمه وتجله.
فأعاد لي الدهر برؤيته الأثر عينا، ووفت لي الأيام بلقياه في ذمتها دينا.
ورأيت ما رأى النبي من زيد الخيل وحبيبٌ من أبي سعيد، فأنا إذا شاهدت طلعته أستفيد من العلى وأستزيد، ويزيد في إذا رأيته للثناء خلقٌ جديد.
فأستجلي أخلاقاً عذبة المذاق، وطباعاً مفصحة عن كرم أعراق.
إلى لطافةٍ تؤلف بين الوحشة والإيناس، وسيرة نظرت بها في سيرة ابن سيد الناس:
فإن يَكُ مِن جِدٍ أتاهُ فإنَّه
…
تَوارَثُه آباءُ آبائِه قَبْلُ
وهل يُنْبِتَ الْخَطِّيَّ إلَاّ وَشِيجُهُ
…
وتُغْرَسُ إلَاّ في مَنابِتِها النَّخْلُ
وناهيك بشرف بيتٍ أسباب السيادة عمده، وفخرٍ لا يستوفى على أمد الأزمنة أمده.
وقبيلٍ كريمةٍ فصيلته وشعوبه، ومحتدٍ كالرمح مطردةٍ أنابيبه وكعوبه.
ضربت عليه السيادة سرادقها، وتفوح الشرف هام فروعها وباسقها.
متصل خبرها المرفوع صحت أسانيده، ومرسل سيرها المقطوع به سلسلة رجاله الثقات وصناديده.
فيا لها من سلسلةٍ إذا تحركت أخبارها في المحافل، علم أنها سلسلة قومٍ يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
ولعمري إن هذا السيد العظيم، حل من هذه النسبة الشريفة في صميم الصميم.
فله بين السادة، صدر الوسادة.
ومحله في الرجاجة، محل الرونق من الصباحة.
رقي من الفضائل ذراها، وتمسك من المحامد بأوثق عراها.
وخطب عرائس الكرم والوفاء، فبنى عليها بالبنين والرفاه.
وهو في البراعة واليراعة أمثل القوم، بل هو المنفرد فيهما من عهد نشأته سقاها عهد الغمام وإلى اليوم.
أحرز القصب إذ دأب، فكان أقل محرزاته أكثر الأدب.
يفسح للبيان مجالا، ويوضح منه غرراً وأحجالا.
ويشتار من جناه عسلا، ويهز من قناه أسلا.
فإذا نسب انتسبت إليه الرقة، وفاز من اللطاقة بمرتبةٍ للنهى مسترقة.
وإذا مدح اقتضب بعض صفاتٍ منه، ونعتها بنعوتٍ من الكمال تخبر عنه.
وقد اتحدت معه اتحاد روحٍ بشبح، وتمتعت من مفاكهته بملح تطرفتها وسبح.
مراعياً من حق النسبة ذمةً وإلا، وليس في محاسن تودده ما يستنثى بإلا.
فشرفني لا زال شرف السادة شادخاً في يمينه، وقلم البراعة راكعاً وساجداً في محراب يمينه.
برسالةٍ أخملت الخمائل، وعلمت الصبا لطف الشمائل.
عرضها في حلي البيان، ونقشها في فص الزمان، ليختم بها الإحسان.
وضمنها قصيدةً في مدح السادة الطهر، ألمع فيها بمناقب كالشمس وقت الظهر.
فما ترك في بيت، توهماً للوٍ وليت.
كيف وهم ممن لهم البيت والمقام، وإذا أخذ أحدهم القرطاس تسابقت إليه الدوي والأقلام.
ولما اجتليت تلك البكر، أعملت في محاكاتها الفكر.
فأدركني عن لحاقها التقصير، وعلمت أنه لا يجارى بحرها الطويل فعمدت إلى البحر القصير.
وإني وإن قصرت فما قصرت، وإن اختصرت فلغصن تلك الشجرة اهتصرت.
وغاية البليغ أن يعترف بالقصور في هذا الشان، ويعلم أن مدح بني المصطفى شرف المكان والزمان:
حَقّاً بنُو المصطفىْ الأماثلْ
…
ما إنْ لهم في العُلَى مُماثِلْ
أهلُ الثنا عند كلِّ مُثْنٍ
…
أخبارُهم بَهْجةُ المَحافلْ
أسماؤُهم للعُلَى حُروزٌ
…
من أجْلِ ذا كلُّها حَمائِلْ
أقمارُ حُسْنٍ تُضِيءُ لكنْ
…
لها قلوبُ الورَى مَنازِلْ
إن أعْوَزَ الآملين أمْرٌ
…
كانوا لها أنْفعَ الوسائلْ
من كلِّ طَلْقِ الجَبِينِ سَمْحٍ
…
تُثْقِل نَعماؤُه الكَواهِلْ
يُحاربُ العُسْرَ منه شَهْمٌ
…
على العدى بالنَّوالِ صائِلْ
والكلُّ فَضْلٌ بلا انْتهاءٍ
…
والفضلُ ما أنْتَج الفضائلْ
منهم حَسِيبُ الزمانِ فَرْدٌ
…
أرْبَى على السادةِ الأوائِلْ
مُمْتَدُّ باعٍ إلى المَعالِي
…
وفي بُرودِ الكمال رَافِلْ
من كاملِ المُنْتقَى لَدَيْهِ
…
في ثَنْيِ بُرْدَيْهِ ألفُ كامِلْ
ذو منطقٍ لو يرُوم قُسٌّ
…
يحْكِيه أعْيَى فصار باقِلْ
يُبْدِي إذا نظَّم القوافِي
…
سِحْراً به تَمَّ أمرُ بابِلْ
يَراعُه إن سَقاهُ نِقْساً
…
فالطِّرْسُ يُغْنِي عن الخمائِلْ
والعَنْبَرُ الرَّطْبُ من لَهاهُ
…
يقْذِفُه البحرُ للسواحِلْ