الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله صلى الله عليه وسلم: "تعرف إِلَى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة
"
المعنى: أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته، فقد تعرف بذلك إِلَى الله وكان بينه وبينه معرفة، فعرفه ربه في الشدة وعرف له عمله في الرخاء، فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة.
وهذه أيضاً معرفة خاصة تقتضي القرب من الله عز وجل، ومحبته لعبده، وإجابته لدعائه، وليس المراد بها المعرفة العامة فإن الله لا يخفى عليه حال أحد من خلقه، كما قال تعالى:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16].
وهذا التعرف الخاص هو المشار إِلَيْهِ في الحديث الإلهي.
"وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ -إلى أن قال-: وَلَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"(1).
اجتمع الفضيل بشعوانة العابدة فسألها الدعاء، فقالت: يا فضيل، وما بينك وبينه؟ ما إن دعوته أجابك: فشهق الفضيل شهقة خرَّ مغشيًّا عليه.
وقال أبو جعفر السائح: أتى الحسن إِلَى حبيب أبي محمد هاربًا من الحَجَّاج، فَقَالَ: يا أبا محمد احفظني من الشرط، هم عَلَى إثري.
فَقَالَ: استحييت لك يا أبا سعيد، أليس بينك وبينه من الثقة ما تدعوه فيسترك من هؤلاء؟! ادخل البيت فدخل الشرط عَلَى إثره فلم يروه.
(1) تقدم تخريجه.
فذكروا ذلك للحجاج فَقَالَ: بل كان في بيته إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه.
ومتى حصل هذا التعرف الخاص للعبد حصل للعبد معرفة خاصة بربه توجب له الأنس به والحياء منه، وهذه معرفة خاصة غير معرفة المؤمنين العامة.
ومدار العارفين كلهم عَلَى هذه المعرفة وهذا التعرف، وإشاراتهم تومئ إِلَى هذا.
سمع أبو سليمان رجلاً يقول: سهرت البارحة في ذكر النساء، فَقَالَ: ويحك، أما تستحي منه، يراك ساهرًا في ذكر غيره؟! ولكن كيف تستحي ممن لا تعرف؟!.
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: أَحَبّ ألا أموت حتى أعرف مولاي. وليس معرفته الإقرار به ولكن المعرفة الَّذِي إذا عرفته استحييت منه.
وهذه المعرفة الخاصة والتعرف الخاص [توجب] طمأنينة العبد بربه وثقته به في إنجائه من كل شدة وكرب وتوجب استجابة الرب دعاء عبده.
لما اختفى الحسن البصري من الحجاج قِيلَ لَهُ: لو خرجت من البصرة فإنا نخاف أن يدل عليك، فبكى ثم قال: أخرج من مصري وأهلي وإخواني؟ إن معرفتي بربي وبنعمته عليّ [تدلني] عَلَى أنَّه سينجيي ويخصلني منه إن شاء الله تعالى؟ فما ضرَّه الحجاج بشيء، ولقد كان يكرمه بعد ذلك إكرامًا شديدًا ويحسن ذكره.
وقال رجل لمعروف: ما الَّذِي هيجك عَلَى الانقطاع والعبادة [و][*] ذكر الموت والبرزخ والجنة والنار؟ فَقَالَ معروف: أى شيء هذا، إن مَلِكًا هذا كله بيده، إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.
ومما يبين هذا ويوضحه الحديث الذي خرجه "الترمذي"(1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) برقم (3382) وقال: هنا حديث غريب.
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة : كذا بالمطبوع (و)، ولعل الأليق بالمعنى حذفها، والله أعلم
من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء".
وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (1) وابن أبي حاتم (2) وابن جرير (3) وغيرهم من حديث يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه:
قال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه السلام كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144].
وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فَقَالَ الله تعالى:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91].
وقال رشدين بن سعد: قال رجل لأبي الدرداء أوصني، فَقَالَ: اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء.
وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعّاءً في السراء ونزلت به ضراء فدعا الله عز وجل، فقالت الملائكة. صوت معروف
…
فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعّاءٍ في السراء فنزلت به ضراء، فدعا الله عز وجل قالت
(1) في "الفرج بعد الشدة"(ص 25).
(2)
كما في تفسير ابن كثير (4/ 21).
(3)
في تفسيره (24/ 64) وفي إسناده يزيد الرقاشي وهو متروك.
الملائكة: صوت ليس بمعروف، فلا يشفعون له.
وحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار (1)(وأطبقت)(*) عليهم الصخرة يشهد لهذا أيضًا؛ فإنهم فُرِّجَ عنهم بدعائهم لله بما كان سبق منهم من الأعمال الصالحة الخالصة في حال الرخاء: من بر الوالدين، وترك الفجور، وأداء الأمانة الخفية.
فإذا علم أن التعرف إِلَى الله في الرخاء يوجب معرفة الله لعبده في الشدة، فلا شدة يلقاها المؤمن في الدُّنْيَا أعظم من شدة الموت، وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إِلَى خير، وإن كان مصيره إِلَى خير، فهي آخر شدة يلقاها.
فالواجب عَلَى العبد الاستعداد للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة والمبادرة إِلَى ذلك، فإنَّه لا يدري المرء متى تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار.
وذكر الأعمال الصالحة عند الموت مما يحسن ظن المؤمن بربه، ويهون عليه شدة الموت ويقوي رجاءه.
قال بعضهم: كانوا يستحبون أن يكون للمرء خبيئة من عمل صالح، ليكون أهون عليه عند نزول الموت أو كما قال.
وكانوا يستحبون أن يموت (الرجل)(**) عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام.
وقال النخعي: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه.
قال أبو عبد الرحمن السُّلمى في مرضه: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان؟!.
ولما احتُضِر أبو بكر بن عياش وبكوا عليه قال: لا تبكوا، فإني ختمت
(1) تقدم تخريجه.
(*) وانطبقت: نسخة".
(**) المرء: "نسخة".
القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة.
ورُوي عنه أنَّه قال لابنه: أترى أن الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة؟.
وقال بعض السَّلف لابنه عند موته ورآه يبكي: لا تبك فما أتى أبوك فاحشة قط.
وختم آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجى للموت ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك، لا إله إلا الله. ثم قضى رحمه الله.
وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند موته: سيدي، لذه الساعة خبأتك، ولهذا اليوم اقتنيتك حقق حسن ظني بك.
وقال ابن عقيل عند موته وقد بكى النسوة: قد وَقَّعْتُ عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنأ بلقائه.
ولما هجم القرامطة عَلَى الحُجَّاج وقتلوهم في الطواف، وكان علي بن باكويه الصوفي يطوف فلم يقطع (الطواف)(*) والسيوف تأخذه حتى وقع، فأنشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم
…
كفتيةِ الكهف لا يدرون كم لبِثُوا
تالله لو حلف الأحباب أنهم
…
موتى من البين يوم البين ما حنثوا
فمن أطاع الله واتقاه وحفظ حدوده في حياته تولاه الله عند وفاته، وتوفاه عَلَى الإيمان، وثبته بالقول الثابت في القبر عند سؤال الملكين، ودفع عنه عذاب القبر، وآنس وحشته في تلك الوحدة والظلمة.
قال بعض السَّلف: إذا كان الله معك عند دخول القبر، فلا بأس عليك ولا وحشة.
ورؤي بعض العُلَمَاء الصالحين في النوم بعد موته، فسئل عن حاله فَقَالَ:
(*) طوافه: "نسخة".
يؤنسني ربي عز وجل.
فمن كان الله أنيسه في خلواته في الدُّنْيَا، فإنَّه يرجى أن يكون أنيسه في ظلمات اللحود إذا فارق الدُّنْيَا وتخلى عنها، وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
فيا رب كن لي مؤنسًا يوم وحشتي
…
فإني (بما)(*) أنزلته لمصدق
وما ضرني أني إِلَى الله صائر
…
ومن هو من أهلي أبر وأرفق
وكذلك أهوال القيامة وأفزاعها وشدائدها، إذا تولى الله عبده المطيع له في الدُّنْيَا، أنجاه من ذلك كله.
قال قتادة في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قال: من الكرب عند الموت ومن أفزاع يوم القيامة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس [رضي الله عنهما] في هذه الآية: ننجيه من كل كرب في الدُّنْيَا والآخرة (1).
وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف: 13] قال: يُبَشَّر في ذلك عند موته، وفي قبره ويوم يبعث، فإنَّه لفي الجنة وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه.
وقال ثابت البناني في هذه الآية: بلغنا أن المؤمن حيث يبعثه الله من قبره يتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدُّنْيَا فيقولان له: لا تخف ولا تحزن، فيؤمِّن الله خوفه ويقر الله عينه، فما من عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا وهي للمؤمن قرة عين، لما هداه الله ولما كان يعمل في الدُّنْيَا. خرج ذلك كله ابن أبي حاتم وغيره.
وأما من لم يتعرف إِلَى الله في الرخاء، فليس له من يعرفه في الشدة لا في الدُّنْيَا ولا في الآخرة.
وشواهد هذا مشاهدة حالهم في الدُّنْيَا، وحالهم في الآخرة أشد، وما لهم من ولي ولا نصير.
(1) أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(28/ 89).
(*) لما: "نسخة".