المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله - نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - جـ ٣

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌فقوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك

- ‌قوله: "يحفظك

- ‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله تجده أمامك" وفي رواية أخرى: "تجاهك

- ‌قوله صلى الله عليه وسلم: "تعرف إِلَى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة

- ‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله

- ‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استعنت فاستعن بالله

- ‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "جف القلم بما هو كائن" وفي الرواية الأخرى: "رفعت الأقلام وجفت الكتب" وفي الرواية الأخرى: "وجفت الصحف

- ‌وقوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا: "فلو أنَّ الخلق جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه

- ‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أنَّ في الصبر عَلَى ما تكره خيرًا كثيرًا

- ‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أنَّ النصر مع الصبر

- ‌فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن النصر مع الصبر

- ‌قوله صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ الفرج مع الكرب

- ‌قوله صلى الله عليه وسلم: "إن مع العسر يسرًا

- ‌فصل

الفصل: ‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله

‌وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله

"

أمر بإفراد الله عز وجل بالسؤال ونهي في سؤال غيره من الخلق، وقد أمر الله تعالى بسؤاله، فَقَالَ:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].

وفي "الترمذي"(1) عن ابن مسعود مرفوعًا:

"سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسأل".

وفيه (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من لا يسأل الله يغضب عليه".

وفيه أيضاً (3): "إن الله يحب الملحين في الدعاء".

(1) برقم (3571) وقال: هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث وقد خولف في روايته.

وحماد بن واقد هذا هو الصغار ليس بالحافظ وهو عندنا شيخ بصري.

وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل عن حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح. اهـ.

(2)

برقم (3373) وقال الترمذي: وروى وكيع وغير واحد عن أبي المليح هذا الحديث، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو المليح اسمه: صبيح، سمعت محمدًا يقوله وقال: يقال له الفارسي.

(3)

ليس هذا الحديث في سنن الترمذي، ولم يعزه للترمذي غير ابن رجب، وقد أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(4/ 452)، وابن عدى في "الكامل"(7/ 163) كلاهما من طريق بقية عن يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعًا.

وأخرجه الطبراني في الدعاء (20)، والبيهقي في الشعب (1108) والقضاعي في مسند الشهاب (1069) كلهم من طريق بقية عن الأوزاعي به إسقاط يوسف بن السفر من السند.

قال العقيلي عن يوسف بن السفر: يحدت بمناكير ثم ذكر هذا الحديث له.

وقال ابن عدي يعد أن ذكر تجريح الأئمة له: وهذا كان بقية يرويه أحيانًا عن=

ص: 121

وفي حديث آخر:

"ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع"(1).

وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، وفي النهي عن سؤال الخلق أحاديث كثيرة صحيحة.

وفي حديث (ابن مسعود)(*) مرفوعًا:

=الأوزاعي نفسه، فسقط يوسف لضعفه، وربما قال: ثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي، وربما كناه فيقول: عن أبي الفيض، عن الأوزاعي وكل ذلك يضعفه، لأنّ الحديث يرويه يوسف عن الأوزاعي.

ثم قال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي رواها يوسف عن الأوزاعي بواطيل كلها.

وقال البيهقي بعد أن ساق الحديث وفيه تصريح بقية بالتحديث عن الأوزاعي: هكذا قال: ثنا الأوزاعي، وهو خطأ.

وسئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث كما في العلل لابنه (2/ 199) برقم (2087) من رواية بقية عن الأوزاعي فَقَالَ: هذا حديث منكر، نرى أن بقية دلسه عن ضعيف عن الأوزاعي.

وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"(2/ 95) برقم (715) عن هذا الحديث: تفرد به يوسف بن السفر عن الأوزاعي، وهو متروك، وكان بقية ربما دلسه.

(1)

أخرجه الترمذي (3682)، وابن حبان (866، 894، 895)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 53). قال الترمذي: هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه عن أنس. ثم ساق الترمذي حديث ثابت البناني المرسل برقم (3683) وقال: وهذا أصح من حديث قطن عن جعفر بن سليمان. وقال ابن عدى عن قطن بن نسير: بصري يسرق الحديث ويوصله. قال ابن عدي: وحدثناه البغوي، ثنا القواريري، ثنا جعفر، عن ثابت عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، فَقَالَ رجل للقواريري: إن لي شيخًا يحدث به عن جعفر عن ثابت، عن أنس، فَقَالَ القواريرى: باطل، وهذا كما

قال.

وقال ابن حبان (895): أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى بخبر غريب، واستدرك الشيخ محمد بن ناصر/ العجمي -حفظه الله- في تخريجه للحديث لنفس الرسالة هذه ص67 عَلَى المطبوع من كتاب الكامل لابن عدي، فجعل رواية القواريري مرسلة ثم قال: والتصويب من تهذيب التهذيب (8/ 382)، والميزان (3/ 391).

تنبيه! سقط هذا الحديث من نسخة الترمذي المطبوعة بتحقيق إبراهيم عطوة، وخرجته من النسخة المشروحة المسماة بـ "تحفة الأحوذي".

(*) هكذا في "الأصل"، وفي التخريج "مسعود بن عمرو".

ص: 122

"لا يزال العبد يسأل. وهو غني حتى يخلق وجهه فما يكون له عند الله وجه"(1)

وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه عَلَى أن لا يسألوا الناس شيئًا (2)، منهم: أبو بكر الصديق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحدًا أن يناوله.

واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلا وشرعًا وذلك من وجوه متعددة منها: أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة.

سئل يوسف بن الحسين ما بال المحبين يتلذذون بذلهم في المحبة؟

فأنشد:

ذل الفتى في الحب مكرمة

وخضوعه لحبيبه شرف

وهذا الذل وهذه المحبة لا تصلح إلا لله وحده وهذا هو حقيقة العبادة التي يختص بها الإله الحق.

كان الإمام أحمد رحمه الله يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك (فصنه)(*) عن المسألة لغيرك.

وقال أبو الخير الأقطع: كنت بمكة سنة فأصابتني فاقة وضر، فكنت كلما

(1) أخرجه البزار (919) والطبراني (20/ ص 333 برقم 790) من حديث مسعود بن عمرو، وذكره الهيثمي في "المجمع" (3/ 96) وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام. وأورد هذا الحديث ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/ 282) وقال: وهذا الحديث منكر.

وله شاهد من حديث عمر أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 164) قال أبو نعيم: ثابت من حديث حمزة، غريب من حديث صفوان، تفرد به عنه عبد الله بن أبي جعفر وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي.

(2)

أخرجه مسلم (1043) من حديث عوف بن مالك.

(*) كتب في هامش الأصل: فصن وجهي. وكتب فوقه: دعاء لطيف.

ص: 123

أردت أن أخرج إِلَى المسألة هتف بي هاتف يقول: الوجه الَّذِي يسجد لي تبذله لغيري؟

وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله

بدلاً وإن نال الغنى بسؤال

وإذا السؤال مع النوال وزنته

رجح السؤال وخف كل نوال

فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً

فابذله للمتكرم المفضال

ولهذا المعنى كان عقوبة من أكثر المسألة بغير حاجة أن يأتي يوم القيامة وليس عَلَى وجهه مزعة لحم، كما ثبت ذلك في "الصحيحين"(1) لأنّه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدُّنْيَا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي فيصير عظمًا بغير لحم ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي، فلا يبقى له عند الله وجاهة.

ومنها أن في سؤال الله عبودية عظيمة؛ لأنها إظهار للافتقار إِلَيْهِ، واعتراف بقدرته عَلَى قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم؛ لأنّ المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها، فكيف يقدر عَلَى ذلك لغيره؟ وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس هو بقادر.

ويشهد لهذا المعنى الحديث الَّذِي في "صحيح مسلم"(2) عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

«يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا (غمس) (*) فِي الْبَحْرَ» .

وفى الترمذي (3) وغيره زيادة في هذا الحديث وهي:

(1) أخرجه البخاري (1474)، ومسلم (1040).

(2)

برقم (2577).

(*) أدخل: "نسخة"، وهو الموافق لما في صحيح مسلم المطبوع.

(3)

(2495) وقال: هذا حديث حسن. وروى بعضهم هذا الحديث عن شهر بن حوشب عن معدي كرب عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

ص: 124

"ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ وَاجِدٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدَ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَأِنَّمَا أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ".

فكيف يسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر؟ إن هذا لأعجب العجب!

قال بعض السَّلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدُّنْيَا وهو (يملكها)(*) فكيف أسألها من لا يملكها؟! يعني: المخلوق.

وحصل لبعض السَّلف ضيق في معيشته حتى هم أن يطلب من بعض إخوانه، فرأى في منامه قائلا يقول:

أيحسن بالحرِّ المريد

إذا وجد عند الله ما يريد

أن يميل بقلبه إِلَى العبيد

فاستيقظ وهو من أغنى الناس قلبًا.

وقال بعض السَّلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة: "يقول الله عز وجل: (أَيُؤَمَّلُ)(**) غَيْرِي لِلشَّدَائِدِ؟! وَالشَّدَائِدُ بِيَدِي وَأَنَا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَيُرْجَى غَيْرِي وَيُطْرَقُ بَابُهُ بِالْبُكْرَاتِ؟! وَبِيَدِي مَفَاتِيحُ الْخَزَائِنِ، وَبَابِي مَفْتُوحٌ لِمَنْ دَعَانِي، مَنْ ذَا الَّذِي أَمَّلَنِي لِنَائِبَةٍ فَقَطَعْتُ بِهِ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي رَجَانِي لِعِظَمٍ فَقَطَعْتُ رَجَاءِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي طَرَقَ بَابِي فَلَمْ أَفْتَحْهُ لَهُ؟

أَنَا غَايَةُ الْآمَالِ، فَكَيْفَ تَنْقَطِعُ الْآمَالُ دُونِي؟!

أَبَخِيلٌ أَنَا؟ فَيُبَخِّلُنِي عَبْدِي! أَلَيْسَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْكَرْمُ وَالْفَضْلُ كُلُّهُ لِي؟! فَمَا يَمْنَعُ الْمُؤَمِّلِينَ أَنْ يُؤَمِّلُونِي، لَوْ جَمَعْتُ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ أَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا أَعْطَيْتُ الْجَمِيعَ وَبَلَّغْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمَلَهُ، لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي عُضْوَ ذَرَّةٍ.

(*) نسخة: " مالكها".

(**) نسخة: "يُؤَمَّلُ".

ص: 125

وكيف ينقص ملك أنا قيِّمه؟؟ فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني وتوثّب عَلَى محارمي".

ومنها: أن الله يحب أن يسأل، ويغضب عَلَى من لا يسأله فإنَّه يريد من عباده أن يرغبوا إِلَيْهِ ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إِلَيْهِ، ويحب الملحين في الدعاء.

والمخلوق غالبًا يكره أن يُسأل لفقره وعجزه.

قال ابن السَّمَّاك: لا تسأل من يفر منك من أن تسأله، واسأل من أمرك أن تسأله.

وقال أبو العتاهية:

الله يَغضبُ إنْ تَرَكتَ سُؤالهُ

وبُنيَّ آدَمَ حِينَ يُسألُ يَغضبُ

فاجعل سؤالك للإله فإنما

في فضل نعمة ربنا نتقلب

كان يحيى بن معاذ يقول: يا من يغضب عَلَى من لا يسأله لا تمنع من قد سألك.

وأنشد بعض الأعراب:

أيا مالك لا تسأل الناس والتمس

يكفيك فضل الله فالله أوسع

ولو يسأل الناس التراب لأوشكوا

إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

ومنها: "أن الله -تعالى- يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من داع فأستجيب له؟ "(1).

وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

فأي وقت دعاه العبد وجده سميعًا قريبًا مجيبًا ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق فإنَّه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إِلَيْهِ في أغلب الأوقات.

(1) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758).

ص: 126

قال طاوس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إِلَى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إِلَى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك.

وقال وهب بن منبه لبعض العُلَمَاء: ألم أخبر أنك تأتي الملوك وأبناء الملوك تحمل إليهم علمك؟! ويحك تآتي من يغلق عليك بابه، ويظهر لك فقره ويواري عنك غناه! وتَدَعُ من يفتح لك بابه بنصف الليل وبنصف النهار ويظهر لك غناه؟ ويقول: ادعني استجب لك؟!.

ورأى ميمون بن مهران الناس مجتمعين عَلَى باب بعض الأمراء فَقَالَ: من كانت له حاجة إِلَى سلطان فحجبه فإن بيوت الرحمن مُفتحة، فليأت مسجدًا فليصل ركعتين ثم ليسأل حاجته.

وكان بكر المزني يقول: من مثلك يا ابن آدم؟! متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان.

وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إِلَى بعض المخلوقين، فَقَالَ له: أنا لا أترك بابًا مفتوحًا، وأذهب إِلَى باب مغلق.

وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

وأفنية الملوك محجبات

وباب الله مبذول الفناء

وقال آخر:

قل للذين تحصنوا عن سائل

بمنازل من دونها حجّاب

إن حال دون لقائكم بوابكم

فالله ليس لبابه بوّاب

ولبعض العُلَمَاء:

لا تجلس بباب من

يأبى عليك دخول داره

وتقول حاجتي إِلَيْهِ

يعوقها إن لم أداره

واتركه واقصد ربها

تقضى ورب الدار كاره

ص: 127

وخرَّج ابن أبي الدُّنْيَا (1) من حديثِ أبي عبَيدةَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ "أنَّ رجلاً جاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بَني فُلانٍ أغاروا عليَّ فذهبُوا بابنِي وإبلِي. فقالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ آلَ محمَّدٍ كذا وكذا أهلَ بيتٍ ما لهُم مدٌّ منْ طعامٍ أو صاعٍ، فاسألِ اللَّهَ عز وجل.

فرجعَ إلى امرأتهِ، فقالت: ما قالَ لكَ؟ فأخبرَهَا، فقالتْ: نِعْمَ ما رَدَّ عليكَ. فما لبثَ أن ردَّ اللَّهُ عليه ابنَه وإبلَهُ أوفرَ ما كانتْ.

فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرَهُ فصعدَ المنبرَ فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليهِ، وأمرَ الناسَ بمسألةِ اللَّهِ عز وجل والرغبة إليهِ، وقرأَ عليهِمْ:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

وسأل رجل ثابتًا البناني أن يشفع له إِلَى قاض في قضاء حاجة له، فقام ثابت معه، فكان كلما مر بمسجد في طريقه دخل فصلى فيه ودعا، فما وصل إِلَى مجلس القاضي إلا وقد قام منه، فعاتبه طالب الحاجة في ذلك فَقَالَ: ما كنت إلا في حاجتك. فقضى الله حاجته، ولم يحتج إِلَى القاضي.

وكان إِسْحَاقَ بْنِ عَبَّادٍ الْبَصْرِيِّ نَائِمًا، فَرَأَى فِي مَنَامِي قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: أَغِثِ الْمَلْهُوفَ. فاسْتَيْقَظَ فَسَأَلَ: هَلْ فِي جِيرَانِهِ مُحْتَاجٌ؟ قَالُوا: مَا نَدْرِي؟ ثُمَّ نَامُ فَأَتَاهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا، فَقَالَ لَهُ: أَتَنَامُ وَلَمْ تُغِثِ الْمَلْهُوفَ؟ فَقَامَ وَأَخَذَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةَ دِرْهَمٍ، وَرَكِبَ بَغْلَه فخرج إِلَى البَصْرَةِ حَتَّى وَقَفَ بِهِ عَلَى بَابِ مَسْجِد يُصَلَّى فِيهِ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي فَلَمَّا أحَسَّ بِهِ انْصَرَفَ فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ؟ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟! مَا أَخْرَجَتْكَ؟ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ كَانَ رَأْسُ مَالِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَذَهَبَتْ مِنْ يَدَيَّ وَلَزِمَنِي دَيْنُ مِائَتَا دِرْهَمٍ. فَأَخْرَجَ لَهُ الدَّرَاهِمَ وَقَالَ: هَذِهِ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ خُذْهَا. فَأَخَذَهَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: لَا.

قَالَ لَهُ: أَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبَّادٍ، فَإِنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ فَأْتِنِي فَإِنَّ مَنْزِلِي فِي مَوْضِعِ كَذَا.

(1) في الفرج بعد الشدة (10)، وفي القناعة والتعفف (54).

ص: 128

فَقَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللهُ إِنْ نَابَتْنَا نَائِبَةٌ فَزِعْنَا إِلَى مَنْ أَخْرَجَكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أصبحنا ذات يوم فقالت أمي لأبي: والله ما في بيتك شيء يأكله ذو كبد. فقام فتوضأ ولبس ثيابه ثم صلّى في بيته، قال: فالتفتت إليّ أمي، فقالت: إن أباك ليس يزيد عَلَى ما ترى، فاخرج أنت. فخرجت، فخطر ببالي صديق لنا تمّار فجئت إِلَى سوقه، فلما رآني صاح بي وذهب بي إِلَى منزله وأطعمني، ثم أخرج لي صرة فيها ثلاثون دينارًا من غير أن أذكر له شيئًا من حالنا إلا ابتداء منه. وقال: اقرأ عَلَى أبيك السلام، وقل له: إنا جعلنا له شركًا في كل شيء من (تجرنا)(*) وهذا نصيبه منه.

وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدًا فَقَالَ لي أهلي:

ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تجمل عليهم ما لا طاقة لهم به؟ قال: فتوضأت، وكان لي صديق لا يزال يقسم عَلَيَّ بالله إن يكن لي حاجة أن أعلمه بها ولا أكتمها عنه فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد فذكر ما رُوي عن أبي جعفر قال: من عرض له حاجة إِلَى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل.

فدخلت المسجد وصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ عَلَيَّ النوم، فرأيت في منامي أنَّه قيل: يا شقيق، أتدل العباد عَلَى الله ثم تنساه! فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة ثم انصرفت إِلَى المنزل، فوجدت الَّذِي أردت أن أقصده قد حركه الله وأجرى لأهلي عَلَى يديه ما أغناهم.

وعن إبراهيم بن أدهم أنَّه خرج إِلَى الغزو مع أصحابه، وأنهم تناهدوا فوضع كل واحد منهم دينارًا، ففكر فيمن يقصد من إخوانه ويستقرض منه ثم استفاق فبكى وقال: واسوءتاه أطلب من العبيد، وأترك مولاهم فيقول لي: من

(*) متجرنا: "نسخة".

ص: 129

كان أحق أن تطلب منه: أنا أو عبدي؟ فتوضأ وصلى ركعتين وخرّ ساجدًا، وقال: يا رب، قد عَلِمْتَ ما كان مني وذلك بخطئي وجهلي فإن عاقبتني عليه فأنا أهل لذلك، وإن عفوت عني فأنت أهل لذلك وقد عرفت حاجتي فاقضها برحمتك. ثم رفع رأسه فإذا هو بنحو أربعمائة دينار فتناول منها دينارًا واحدًا وذهب.

وعن أصبغ بن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثًا لم نطعم شيئًا، فخرجت إِلَيَّ ابنتي الصغيرة وقالت: يا أبة، الجوع! فأتيت الميضأة فتوضأت وصليت ركعتين وألهمتُ دعاء دعوت به وفي آخره:

"اللهم افتح عَلَيّ منك رزقًا لا تجعل لأحد عليّ فيه منة، ولا لك علي في الآخرة فيه تبعة، برحمتك يا أرحم الراحمين". ثم انصرفت إِلَى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قد قامت إِلَيّ وقالت: يا أبة جاء عمي الساعة بهذه الصرة من الدراهم وحمَّال عليه دقيق، وحمَّال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرئوا أخي السلام، وقولوا له: إذا احتجت إِلَى شيء فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك.

قال أصبغ: والله ما كان لي أخ قط ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله عَلَى كل شيء قدير!.

وعن الحكم بن موسى قال: أصبحت يومًا، فقالت لي المرأة: ليس عندنا دقيق ولا خبز! فخرجت ولا أقدر عَلَى شيء، فقلت في الشارع:"اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تعلم أنَّه لا دقيق لي ولا خبزًا -وقال: ولا دراهم- فأتنا بذلك". فلقيني رجل، فَقَالَ: خبزًا تريد أو دقيقًا؟

فقلت له: أحدهما ثم مشيت نهاري أجمع لا أقدر عَلَى شيء فرجعت فقدّم أهلي إِلَيَّ خبزًا، ولحمًا واسعًا، فقلت: من أين هذا لكم؟ قالوا: من الَّذِي وجهت به. فَسَكَتُّ.

وعن الأوزاعي قال: رأيت رجلاً في الطواف وهو متعلق بأستار الكعبة وهو

ص: 130

يقول: يا رب، إني فقير كما ترى، وصبيتي قد عروا كما ترى، وناقتي قد عجفت كما ترى، فما ترى يا من ترى ولا يُرى؟

فإذا بصوت من خلفه: يا عاصم، يا عاصم، الحق عمك! فقد هلك بالطائف وقد خلف ألف نعجة، وثلاثمائة ناقة وأربعمائة دينار، وأربعه أعبد، وثلاثة أسياف يمانية، فامض فخذها فليس له وارث غيرك.

قال: فقلت: يا عاصم، إن الَّذِي دعوت لقد كان قريبًا منك.

قال: يا هذا، أما سمعت قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].

والآثار والحكايات في هذا المعنى كثيرة جدًّا يطول الكتاب بذكرها، وهي موجودة في مثل "كتاب الفرج بعد الشدة" و"كتاب مجابي الدعوة" لابن أبي الدُّنْيَا، وفي "كتاب المستصرخين بالله عند نزول البلاء" للقاضي أبي الوليد بن الصغار، و"كتاب المستغيثين بالله عند نزول البلاء" للحافظ أبي القاسم ابن بشكوال الأندلسيين وفي غيرها من كتب الزهد والرقائق والتواريخ وغيرها.

وروى الشيخ أبو الفرج في "تاريخه الكبير" بإسناده عن الحسن بن سفيان الفسوي الحافظ أنَّه كان مقيمًا بمصر مع جماعة من أصحابه يكتبون الحديث، فاحتاجوا فباعوا ما معهم حتى لم يبق لهم ما يباع، وبقوا ثلاثة أيام جياعًا لا يجدون شيئًا يكون وأصبحوا في اليوم الرابع وقد عزموا عَلَى المسألة لشدة الضرورة، فاقترعوا عَلَى من يسأل لهم، فخرجت القرعة عَلَى الحسن بن سفيان قال: فتحيرت ودهشت ولم تسامحني نفسي بالمسألة، فعدلت إِلَى زاوية المسجد أصلي ركعتين طويلتين وأدعو الله عز وجل لكشف الضر وسياقة الفرج، فلم أفرغ من الصلاة حتى دخل المسجد رجل معه خادم في يده منديل، فَقَالَ: من منكم الحسن بن سفيان؟ فرفعت رأسي من السجود وقلت: أنا.

فَقَالَ: إن الأمير ابن طولون يقرئكم السلام والتحية، ويعتذر إليكم في الغفلة عن تفقد أحوالكم والتقصير الواقع في رعاية حقوقكم، وقد بعث إليكم

ص: 131

بما يكفي نفقة الوقت، وهو زائر لكم غدًا ومعتذرًا إليكم بلفظه ووضع (في يد)(*) كل واحد منا صرة فيها مائة دينار، قال: فتعجبنا وسألناه عن السبب، قال: إنه كان اليوم نائمًا فرأى فارسًا في الهواء يقول له: قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه؛ فإنهم منذ ثلاثة أيام جياع في المسجد الفلاني!

فَقَالَ له: من أنت؟ قال: أنا رضوان صاحب الجنة. قال الحسن: فشكرنا الله عز وجل وأصبحنا أحوالنا وسافرنا تلك الليلة من مصر خشية أن يزورنا الأمير، فيطلع الناس عَلَى أسرارنا فيكون ذلك سبب ارتفاع اسم، وانبساط جاه، ويتصل ذلك بنوع من الرياء والسمعة.

وروى أيضاً بإسناد له عن محمد بن هارون الروياني أنَّه اجتمع هو ومحمد ابن نصر المروزي ومحمد بن علويه الورَّاق ومحمد بن إسحاق بن خزيمة

فذكر معنى هذه الحكاية وأن المصلي والداعي كان هو ابن خزيمة، وبإسناد آخر أن الأربعة كانوا محمد بن جرير، ومحمد بن نصر، ومحمد بن خزيمة، ومحمد بن هارون.

(*) بين يدي: "نسخة".

ص: 132