الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(174) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها، فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها ="ما يأكلون في بطونهم" - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة، (1) وما أخذوا عليه من الأجر ="إلا النار" - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها، كما قال تعالى ذكره:(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[سورة النساء: 10] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر"النار" وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر"ما يوردهم، أو يدخلهم". وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2499-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار"، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر.
* * *
فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال:"ما يأكلون في بطونهم"؟
قيل: قد تقول العرب:"جُعت في غير بطني، وشَبعتُ في غير بطني"، فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال:"فعل فُلان هذا نفسُه". وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى. (2)
(1) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا.
(2)
انظر ما سلف 2: 272، وهذا الجزء 3: 159-160.
وأما قوله:"ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة"، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا:(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) الآيتين [سورة المؤمنون: 107-108] .
* * *
وأما قوله:"ولا يُزكِّيهم"، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، (1)"ولهم عذاب أليم"، يعني: مُوجع (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى"، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر"العذاب" و"المغفرة"، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (3) وكذلك بينا وجه"اشتروا الضلالة بالهدى" باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته. (4)
* * *
(1) انظر ما سلف 1: 573-574، وهذا الجزء 3:88.
(2)
انظر ما سلف 1: 283. ثم 2: 140، 377، 506، 540.
(3)
انظر ما سلف فهارس مباحث العربية.
(4)
انظر ما سلف 1: 311-315.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.
* ذكر من قال ذلك:
2500-
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
2501-
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم عليها.
2502-
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بشر، عن الحسن في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار.
2503-
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر =، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه:"فما أصبرهم على النار"، ما أجرأهم.
2504-
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فما أصبرهم على النار"، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
2505-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، ما أعملهم بالباطل.
2506-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
واختلفوا في تأويل"ما" التي في قوله:"فما أصبرهم على النار". فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟ (1)
* ذكر من قال ذلك:
2507-
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما أصبرَهم على النار"، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟
2508-
حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء:"فما أصبرهم على النار" قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟
2509-
حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال:"فما أصبرُهم"، رفعًا. قال: يقال للرجل:"ما أصبرك"، ما الذي فعل بك هذا؟
2510-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟
* * *
(1) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 64.
وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!
* ذكر من قال ذلك:
2511-
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما أصبرهم على النار" قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار!
وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. (1)
* * *
فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى:"أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة"، فما أشد جراءتهم -بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره:(قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)[سورة عبس: 17] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
* * *
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار -والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب:"ما أصبرَ فلانًا على الله"، بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! (2) وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا
(1) انظر ما سلف رقم: 2501، 2502.
(2)
انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 103.