المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ] ِ وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَمَنْ - بداية المجتهد ونهاية المقتصد - جـ ٤

[ابن رشد الحفيد]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الْإِجَارَاتِ] [

- ‌الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِ الْإِجَارَاتِ وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ]

- ‌[الْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الْإِجَارَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْجُعْلِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِرَاضِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي مَحِل القراض]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَسَائِلِ الشُّرُوطِ في القراض]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الْقِرَاضِ]

- ‌[كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ]

- ‌[كِتَابُ الشَّرِكَةِ] [

- ‌الرُّكْنُ الْأَوَّلُ مَحِل شركة العنان مِنَ الْأَمْوَالِ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّانِي كَيْفِيَّةُ اقْتِسَامِ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا في شركة العنان]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْعَمَلِ في شركة العنان]

- ‌[كِتَابُ الشُّفْعَةِ] [

- ‌الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الشُّفْعَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِسْمَةِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْقَسْمِ الثَّانِي وَهُوَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي الْقَوْلُ فِي أَحْكَام القسمة]

- ‌[كِتَابُ الرُّهُونِ] [

- ‌الْقَوْلُ فِي أَرْكَان الرهن]

- ‌[الْقَوْلُ فِي شُّرُوطِ الرهن]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَام الرهن]

- ‌[كِتَابُ الْحَجْرِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي أَصْنَافِ الْمَحْجُورِينَ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي مَتَّى يَخْرُجُونَ مِنَ الْحَجْرِ وَمَتَى يُحْجَرُ عَلَيْهِمْ وَبِأَيِّ شُرُوطٍ يَخْرُجُونَ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ أَفْعَالِهِمْ فِي الرَّدِّ وَالْإِجَازَةِ]

- ‌[كِتَابُ التَّفْلِيسِ]

- ‌[كِتَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[كِتَابُ الْكَفَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَوَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْوَكَالَةِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي أَرْكَانِ الوكالة]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الوكالة]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مُخَالَفَةِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ]

- ‌[كِتَابُ اللُّقَطَةِ] [

- ‌الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي أَرْكَانِ اللُّقَطَةِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَحْكَامِ اللُّقَطَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي اللَّقِيطِ]

- ‌[كِتَابُ الْوَدِيعَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْعَارِيَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْغَصْبِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي ضَّمَانِ المغصوب]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي الطَّوَارِئِ على الْمَغْصُوبِ بالزِيَادَةٍ أو النقْصَان]

- ‌[كِتَابُ الِاسْتِحْقَاقِ]

- ‌[كِتَابُ الْهِبَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْوَصَايَا] [

- ‌الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الْقَوْلُ فِي أَرْكَانِ الوصايا]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ الوصايا]

- ‌[كِتَابُ الْفَرَائِضِ]

- ‌[مِيرَاثُ الصُّلْبِ]

- ‌[مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ]

- ‌[مِيرَاثُ الْأَبِ وَالْأُمِّ]

- ‌[مِيرَاثُ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ]

- ‌[مِيرَاثُ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ]

- ‌[مِيرَاثُ الْجَدِّ]

- ‌[مِيرَاثُ الْجَدَّاتِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْحَجْبِ]

- ‌[حُكْمُ الرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفَرَائِضِ]

- ‌[هَلْ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ أَوِ الْمُرْتَدَّ]

- ‌[تَوْرِيثُ الْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا]

- ‌[تَوْرِيثُ الْحُمَلَاءِ]

- ‌[تَوَارُثُ الْمَفْقُودِينَ]

- ‌[مِيرَاثُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدِ الزِّنَى]

- ‌[النَّسَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِيرَاثِ]

- ‌[هَلْ يُلْحَقُ أَوْلَادُ الزِّنَى بِآبَائِهِمْ]

- ‌[مِيرَاثُ الْقَاتِلِ]

- ‌[بَابٌ فِي الْوَلَاءِ]

- ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ]

- ‌[كِتَابُ الْكِتَابَةِ] [

- ‌أَرْكَانُ الْكِتَابَةِ]

- ‌[أَحْكَامُ الْكِتَابَةِ]

- ‌[شُرُوطُ الْكِتَابَةِ]

- ‌[كِتَابُ التَّدْبِيرِ]

- ‌[كِتَابُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِنَايَاتِ]

- ‌[كِتَابُ الْقِصَاصِ] [

- ‌الْقِسْمُ الْأَوَّلُ النَّظَرُ فِي مُوجِبِ الْقِصَاصِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي النَّظَرُ فِي الْوَاجِبِ فِي الْقِصَاصِ]

- ‌[كِتَابُ الْجِرَاحِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ فِي النُّفُوسِ]

- ‌[كِتَابُ الدِّيَاتِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ] [

- ‌وَالْأَشْيَاءُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ] [

- ‌الْقَوْلُ فِي دِيَاتِ الشِّجَاجِ]

- ‌[كِتَابُ الْقَسَامَةِ]

- ‌[كِتَابٌ فِي أَحْكَامِ الزِّنَى]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَدِّ الزِّنَى]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي أَصْنَافِ الزُّنَاةِ وَعُقُوبَاتِهِمْ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ مَا تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الْفَاحِشَةُ]

- ‌[كِتَابُ الْقَذْفِ]

- ‌[بَابٌ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ]

- ‌[كِتَابُ السَّرِقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْحِرَابَةِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي النَّظَرِ فِي الْحِرَابَةِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي النَّظَرِ فِي الْمُحَارِبِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحَارِبِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ ما تسقطه التوبة عَنْ المحارب]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ بِمَاذَا تَثْبُتُ الحرابة]

- ‌[كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ مَا يَقْضِي بِهِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْقَضَاءُ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الشَّهَادَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْأَيْمَانِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ النُّكُولُ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْإِقْرَارِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مَعْرِفَةِ مَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ أَوْ لَهُ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَضَاءِ]

- ‌[الْبَابُ السَّادِسُ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ]

الفصل: ‌ ‌[كِتَابُ الْعِتْقِ] ِ وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَمَنْ

[كِتَابُ الْعِتْقِ]

ِ وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِيمَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ وَمَنْ لَا يَصِحُّ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ (أَعْنِي: بِالشَّرْعِ) ، وَفِي أَلْفَاظِ الْعِتْقِ، وَفِي الْإِيمَانِ بِهِ، وَفِي أَحْكَامِهِ وَفِي الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ. وَنَحْنُ فَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ أَكْثَرُهَا بِالْمَسْمُوعِ.

; فَأَمَّا مَنْ يَصِحُّ عِتْقُهُ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُ الْمَالِكِ التَّامِّ الْمُلْكِ الصَّحِيحِ الرَّشِيدِ الْقَوِيِّ الْجِسْمِ الْغَنِيِّ غَيْرِ الْعَدِيمِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي عِتْقِ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَفِي عِتْقِ الْمَرِيضِ وَحُكْمِهِ.

فَأَمَّا مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ عِتْقِهِ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ: مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ.

وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ: وَذَلِكَ جَائِزٌ حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرَى التَّحْجِيرَ مِنْهُمْ، وَقَدْ يَتَخَرَّجُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْجَوَازُ قِيَاسًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الرَّهْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِ الرَّاهِنِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ.

وَعُمْدَةُ مَنْ مَنَعَ عِتْقَهُ أَنَّ مَالَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مُسْتَحَقٌّ لِلْغُرَمَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي بِهَا يَحْجُرُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفَ وَالْأَحْكَامُ يَجِبُ أَنْ تُوجَدَ مَعَ وُجُودِ عِلَلِهَا، وَتَحْجِيرُ الْحَاكِمِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ وَاجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِلَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِوُقُوعِهِ.

وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَيُحْبِلَهَا وَلَا يَرُدَّ شَيْئًا مِمَّا أَنْفَقَهُ مِنْ مَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ حَتَّى يَضْرِبَ الْحَاكِمُ عَلَى يَدَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِهِ هَذَا الْحُكْمَ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

وَلَا خِلَافَ عِنْدِ الْجَمِيعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرُ الْمُحْتَلِمِ مَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْمَحْجُورُ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عِتْقُهُ لِشَيْءٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ إِلَّا مَالِكًا وَأَكْثَرَ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ أَجَازُوا عِتْقَهُ لِأُمِّ وَلَدِهِ.

وَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ عِتْقَهُ إِنْ صَحَّ وَقَعَ وَإِنْ مَاتَ كَانَ مِنَ الثُّلُثِ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ مِثْلُ عِتْقِ الصَّحِيحِ.

وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ، الْحَدِيثُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

; وَأَمَّا مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الْعِتْقُ كَرْهًا فَهُمْ ثَلَاثَةٌ: مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ قِسْمَيْهِ، وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا وَهُمَا مَنْ مَلَكَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ.

ص: 149

فَأَمَّا مَنْ بَعَّضَ الْعِتْقَ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْ وَقَعَ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا الْجُزْءُ الْمُعْتَقُ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ يَمْلِكُ الْعَبْدَ كُلَّهُ وَلَكِنْ بَعَّضَ عِتْقَهُ اخْتِيَارًا مِنْهُ.

فَأَمَّا الْعَبْدُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُعْتِقُ أَحَدُهُمَا حَظَّهُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ ذَلِكَ.

فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ، فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى شَرِيكِهِ وَعَتَقَ الْكُلَّ عَلَيْهِ وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَبَقِيَ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ عَبْدًا وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْعَبْدِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِلسَّيِّدِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ حَظَّهُ مِنْهُ وَهُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَعْتَقَ حَظَّهُ مِنْهُ الْأَوَّلُ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَجَمَاعَةُ الْكُوفِيِّينَ، إِلَّا أَنَّ ابْنَ شُبْرُمَةَ، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى جَعَلَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعْتِقِ بِمَا سَعَى فِيهِ مَتَى أَيْسَرَ.

وَأَمَّا شَرِيكُ الْمُعْتِقِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعْتِقَ أَوْ يُقَوِّمَ نَصِيبَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِشَرِيكِ الْمُوسِرِ ثَلَاثَةُ خِيَارَاتٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتِقَ كَمَا أَعْتَقَ شَرِيكُهُ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ.

وَالْخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ تُقَوَّمَ عَلَيْهِ حِصَّتُهُ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُكَلَّفَ الْعَبْدُ السَّعْيَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا وَلِلسَّيِّدِ الْمُعْتِقِ عَبْدَهُ عِنْدَهُ إِذَا قَوَّمَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ نَصِيبَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْعَى فِيهِ وَيَكُونَ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُعْتِقِ.

وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَدْلِ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» .

وَعُمْدَةُ مُحَمَّدٍ، وَأَبِي يُوسُفَ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدِهِ فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» . وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ خَرَّجَهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَوْلٌ فِي تَرْجِيحِ حَدِيثِهِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ.

فَمِمَّا وَهَّنَتْ بِهِ الْكُوفِيَّةُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ شَكَّ فِي الزِّيَادَةِ الْمُعَارِضَةِ فِيهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَهُوَ قَوْلُهُ:

ص: 150

«وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» ، فَهَلْ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام، أَمْ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ، وَإِنَّ فِي أَلْفَاظِهِ أَيْضًا بَيْنَ رُوَاتِهِ اضْطِرَابًا.

وَمِمَّا وَهَّنَ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ قَتَادَةَ فِيهِ عَلَى قَتَادَةَ فِي ذِكْرِ السِّعَايَةِ.

وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَاعْتَمَدَتِ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَزِمَ السَّيِّدَ التَّقْوِيمُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لِلضَّرَرِ الَّذِي أَدْخَلَهُ عَلَى شَرِيكِهِ وَالْعَبْدُ لَمْ يُدْخِلْ ضَرَرًا فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.

وَعُمْدَةُ الْكُوفِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَقٌّ شَرْعِيٌّ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهُ، فَإِذَا كَانَ الشَّرِيكُ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا عَتَقَ الْكُلَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ وَفِيهِ مَعَ هَذَا رَفْعُ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَى الشَّرِيكِ وَلَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْعَبْدِ، وَرُبَّمَا أَتَوْا بِقِيَاسٍ شَبَهِيٍّ، وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْعِتْقُ يُوجَدُ مِنْهُ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَقَعُ بِالِاخْتِيَارِ، وَهُوَ إِعْتَاقُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ ابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ.

وَنَوْعٌ يَقَعُ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَهُوَ أَنْ يَعْتِقَ عَلَى السَّيِّدِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ بِالشَّرِيعَةِ مِلْكُهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعِتْقُ بِالسَّعْيِ كَذَلِكَ. فَالَّذِي بِالِاخْتِيَارِ مِنْهُ هُوَ الْكِتَابَةُ. وَالَّذِي هُوَ دَاخِلٌ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ هُوَ السَّعْيُ.

وَاخْتَلَفَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا هَلْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْحُكْمِ أَوْ بِالسِّرَايَةِ؟ أَعْنِي: أَنَّهُ يَسْرِي وُجُوبُ عِتْقِهِ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْعِتْقِ، فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: يَعْتِقُ بِالسَّرَايَةِ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: بِالْحُكْمِ.

وَاحْتَجَّتِ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا بِالسَّرَايَةِ لَسَرَى مَعَ الْعَدَمِ وَالْيُسْرِ. وَاحْتَجَّتِ الشَّافِعِيَّةُ بِاللَّازِمِ عَنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ» ، فَقَالُوا: مَا يَجِبُ تَقْوِيمُهُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ إِتْلَافِهِ فَإِذَنْ بِنَفْسِ الْعِتْقِ أَتْلَفَ حَظَّ صَاحِبِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَقْوِيمُهُ فِي وَقْتِ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ حَاكِمٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَفَذَ الْعِتْقُ وَهَذَا بَيِّنٌ.

وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا خِلَافٌ شَاذٌّ، فَقِيلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: إِنَّهُ جَعَلَ حِصَّةَ الشَّرِيكِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَقِيلَ عَنْ رَبِيعَةَ فِيمَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي عَبْدٍ: أَنَّ الْعِتْقَ بَاطِلٌ.

وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُقَوَّمُ عَلَى الْمُعْسِرِ الْكُلُّ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيمَا أَعْتَقَ. وَقَالَ قَوْمٌ بِوُجُوبِ التَّقْوِيمِ عَلَى الْمُعْتِقِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا وَيَتْبَعُهُ شَرِيكُهُ، وَسَقَطَ الْعُسْرُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَهَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الْأَحَادِيثِ، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الْأَحَادِيثُ.

وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ مِنْ هَذَا فِي فَرْعٍ وَهُوَ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَأُخِّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِإِسْقَاطِ التَّقْوِيمِ حَتَّى أَيْسَرَ، فَقِيلَ: يُقَوَّمُ، وَقِيلَ: لَا يُقَوَّمُ.

وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْآثَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ بِاخْتِيَارِهِ شِقْصًا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ عَبْدٍ: أَنَّهُ يُعْتَقُ

ص: 151

عَلَيْهِ الْبَاقِي إِنْ كَانَ مُوسِرًا إِلَّا إِذَا مَلَكَهُ بِوَجْهٍ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِمِيرَاثٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْيُسْرِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: فِي حَالِ الْيُسْرِ بِالسِّعَايَةِ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا.

وَإِذَا مَلَكَ السَّيِّدُ جَمِيعَ الْعَبْدِ فَأَعْتَقَ بَعْضَهَ، فَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُونَ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ كُلُّهُ، وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: يُعْتَقُ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي عُتِقَ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَحَمَّادٍ.

وَعُمْدَةُ اسْتِدْلَالِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فِي إِعْتَاقِ نَصِيبِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ لِحُرْمَةِ الْعِتْقِ كَانَ أَحْرَى أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ.

وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِتْقِ عَلَى الْمُبَعِّضِ لِلْعِتْقِ هُوَ الضَّرَرُ الدَّاخِلُ عَلَى شَرِيكِهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِلْكًا لَهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ ضَرَرٌ.

فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هَلْ عِلَّةُ هَذَا الْحُكْمِ حُرْمَةُ الْعِتْقِ، (أَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهِ تَبْعِيضٌ) ، أَوْ مَضَرَّةُ الشَّرِيكِ؟

وَاحْتَجَّتِ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِتْقَهُ.

وَمِنْ عُمْدَةِ الْجُمْهُورِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ فَتَمَّمَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عِتْقَهُ، وَقَالَ: " لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيكٌ» ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَصَارَتْ عِلَّتُهُمْ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا أَوْلَى مِنَ الْمُسْتَنْبَطَةِ.

فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ وَتَعَارُضُ الْقِيَاسِ.

وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ الَّذِي يَكُونُ بِالْمُثْلَةِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ: مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ أَعْتَقَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُعْتِقُ عَلَيْهِ، وَشَذَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِ غَيْرِهِ أَعْتَقَ عَلَيْهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُضَمَّنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ.

فَمَالِكٌ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ اعْتَمَدَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ زِنْبَاعًا وَجَدَ غُلَامًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ، فَقَطَعَ ذَكَرَهُ وَجَدَعَ أَنْفَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ» .

ص: 152

وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ عِتْقُهُ» قَالُوا: فَلَمْ يَلْزَمِ الْعِتْقُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا نُدِبَ إِلَيْهِ. وَلَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ هُوَ أَنَّهُ لَا يُكْرِهُ السَّيِّدَ عَلَى عِتْقِ عَبْدِهِ إِلَّا مَا خَصَّصَهُ الدَّلِيلُ.

وَأَحَادِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا، فَلَمْ تَبْلُغْ مِنَ الْقُوَّةِ أَنْ يُخَصَّصَ بِهَا مِثْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

وَأَمَّا هَلْ يَعْتِقُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَحَدٌ مِنْ قَرَابَتِهِ، وَإِنْ عَتَقَ فَمَنْ يَعْتِقُ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ بِالْقَرَابَةِ إِلَّا دَاوُدَ وَأَصْحَابَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَنْ يُعْتِقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ قِبَلِ قُرْبَى.

وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْعِتْقِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُعْتَقُ مِمَّنْ لَا يُعْتَقُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ أَبُوهُ وَوَلَدُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَعْتِقُ عَلَى الرَّجُلِ ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: أُصُولُهُ (وَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ وَالْأُمَّهَاتُ، وَآبَاؤُهُمْ وَأُمَّهَاتُهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْإِنْسَانِ وِلَادَةٌ) .

وَالثَّانِي: فُرُوعُهُ (وَهُمُ: الْأَبْنَاءُ وَالْبَنَاتُ وَوَلَدُهُمْ مهمَا سَفُلُوا، َسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَدُ الْبَنِينَ وَوَلَدُ الْبَنَاتِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَنْ لِلرَّجُلِ عَلَيْهِ وِلَادَةٌ بِغَيْرِ تَوَسُّطٍ أَوْ بِتَوَسُّطِ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) .

وَالثَّالِثُ: الْفُرُوعُ الْمُشَارِكَةُ لَهُ فِي أَصْلِهِ الْقَرِيبِ (وَهُمُ: الْإِخْوَةُ، وَسَوَاءٌ أَكَانُوا لِأَبٍ وَأُمٍّ، أَوْ لِأَبٍ فَقَطْ، أَوْ لِأُمٍّ فَقَطْ; وَاقْتَصَرَ مِنْ هَذَا الْعَمُودِ عَلَى الْقَرِيبِ فَقَطْ، فَلَمْ يُوجِبْ عِتْقَ بَنِي الْإِخْوَةِ) .

وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْعَمُودَيْنِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَخَالَفَهُ فِي الْإِخْوَةِ فَلَمْ يُوجِبْ عِتْقَهُمْ.

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَأَوْجَبَ عِتْقَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ بِالنَّسَبِ كَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَبَنَاتِ الْأَخِ، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِمَّنْ هُوَ مِنَ الْإِنْسَانِ ذُو مَحْرَمٍ.

وَسَبَبُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الظَّاهِرِ مَعَ الْجُمْهُورِ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«لَا يَجْزِي وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمْ.

فَقَالَ: الْجُمْهُورُ: يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ.

وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: الْمَفْهُومُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ وَلَا عِتْقُهُ إِذَا اشْتَرَاهُ، قَالُوا: لِأَنَّ إِضَافَةَ عِتْقِهِ إِلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِهِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوا صَوَابًا، لَكَانَ اللَّفْظُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَعْتِقَ عَلَيْهِ.

ص: 153

وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ فَهُوَ حُرٌّ» وَكَأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

وَقَاسَ مَالِكٌ الْإِخْوَةَ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ، وَلَمْ يُلْحِقْهُمْ بِهِمُ الشَّافِعِيُّ وَاعْتَمَدَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فَقَطْ، وَقَاسَ الْأَبْنَاءَ عَلَى الْآبَاءِ.

وَقَدْ رَامَتِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ تَحْتَجَّ لِمَذْهَبِهَا بِأَنَّ الْبُنُوَّةَ صِفَةٌ هِيَ ضِدُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَجْتَمِعُ مَعَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] وَهَذِهِ الْعُبُودِيَّةُ هِيَ مَعْنًى غَيْرِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةَ مَعْقُولَةٌ وَبُنُوَّةٌ مَعْقُولَةٌ. وَالْعُبُودِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ وَلِلْوِلَايَةِ هِيَ عُبُودِيَّةٌ بِالشَّرْعِ لَا بِالطَّبْعِ (أَعْنِي: بِالْوَضْعِ) لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ كَمَا يَقُولُونَ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ.

وَإِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبُنُوَّةَ تُسَاوِي الْأُبُوَّةَ فِي جِنْسِ الْوُجُودِ أَوْ فِي نَوْعِهِ (أَعْنِي: أَنَّ الْمَوْجُودَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبٌ وَالْآخَرُ ابْنٌ هُمَا مُتَقَارِبَانِ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ جِنْسٍ وَاحِدٍ) ، وَمَا دُونَ اللَّهِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَلَيْسَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ سُبْحَانَهُ فِي جِنْسٍ قَرِيبٍ وَلَا بَعِيدٍ، بَلِ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا غَايَةُ التَّفَاوُتِ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي هَاهُنَا شَيْءٌ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ نِسْبَةُ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ، بَلْ إِنْ كَانَ نِسْبَةُ الْمَوْجُودَاتِ إِلَيْهِ نِسْبَةَ الْعَبْدِ إِلَى السَّيِّدِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مِنْ نِسْبَةِ الِابْنِ إِلَى الْأَبِ ; لِأَنَّ التَّبَاعُدَ الَّذِي بَيْنَ السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ فِي الْمَرْتَبَةِ أَشَدُّ مِنَ التَّبَاعُدِ الَّذِي بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ، وَعَلَى الْحَقِيقَةِ فَلَا شَبَهَ بَيْنَ النِّسْبَتَيْنِ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْجُودَاتِ نِسْبَةٌ أَشَدُّ تَبَاعُدًا مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ (أَعْنِي: تَبَاعُدَ طَرَفَيْهِمَا فِي الشَّرَفِ وَالْخِسَّةِ) ضُرِبَ الْمِثَالُ بِهَا (أَعْنِي: نِسْبَةَ الْعَبْدِ لِلسَّيِّدِ) ، وَمَنْ لَحَظَ الْمَحَبَّةَ الَّتِي بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ وَالشَّفَقَةَ أَجَازَ أَنْ يَقُولَ فِي النَّاسِ إِنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ عَلَى ظَاهِرِ شَرِيعَةِ عِيسَى.

فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعِتْقِ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ فِي مَسْأَلَةٍ مَشْهُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالسَّمَاعِ.

وَذَلِكَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَعْتَقَ عَبِيدًا لَهُ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ.

فَقَالَ: مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمَا وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: إِذَا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمْ قُسِّمُوا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَعُتِقَ مِنْهُمْ جُزْءٌ بِالْقُرْعَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْوَصِيَّةِ بِعِتْقِهِمْ.

وَخَالَفَ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ مَالِكًا فِي الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ فِي الْمَرَضِ، فَقَالَا جَمِيعًا: إِنَّمَا الْقُرْعَةُ فِي الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا حُكْمُ الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ فَهُوَ كَحُكْمِ الْمُدَبَّرِ.

وَلَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُدَبَّرِينَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا ضَاقَ عَنْهُمُ الثُّلُثُ أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حَظِّهِ مِنَ الثُّلُثِ.

ص: 154

وَقَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْعِتْقِ الْمُبَتَّلِ: إِذَا ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُثُ أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ ثُلُثُهُ.

وَقَالَ الْغَيْرُ: بَلْ يُعْتَقُ مِنَ الْجَمِيعِ ثُلُثُهُ.

فَقَوْمٌ مِنْ هَؤُلَاءِ اعْتَبَرُوا فِي ثُلُثِ الْجَمِيعِ الْقِيمَةَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَوْمٌ اعْتَبَرُوا الْعَدَدَ.

فَعِنْدَ مَالِكٍ إِذَا كَانُوا سِتَّةَ أَعْبُدٍ مَثَلًا عُتِقَ مِنْهُمُ الثُّلُثُ بِالْقِيمَةِ كَانَ الْحَاصِلُ فِي ذَلِكَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ أَيْضًا بِالْقُرْعَةِ بَعْدَ أَنْ يُجْبَرُوا عَلَى الْقِسْمَةِ أَثْلَاثًا، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلِ الْمُعْتَبَرُ الْعَدَدُ، فَإِنْ كَانُوا سِتَّةً عُتِقَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَإِنْ كَانُوا مَثَلًا سَبْعَةً عُتِقَ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَثُلُثٌ.

فَعُمْدَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ مَا رَوَاهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا، وَأَرْسَلَهُ مَالِكٌ.

وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ رَدِّ الْآثَارِ الَّتِي تَأْتِي بِطُرُقِ الْآحَادِ إِذَا خَالَفَتْهَا الْأُصُولُ الثَّابِتَةُ بِالتَّوَاتُرِ.

وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ السَّيِّدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْعِتْقَ تَامًّا، فَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَنَفَذَ بِإِجْمَاعٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ الْجَائِزِ فَعَلَ السَّيِّدِ فِيهِ، وَهَذَا الْأَصْلُ لَيْسَ بَيِّنًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: إِنَّهُ إِذَا أُعْتِقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الثُّلُثُ دَخَلَ الضَّرَرُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَالْعَبِيدِ الْمُعْتَقِينَ، وَقَدْ أَلْزَمَ الشَّرْعُ مُبَعِّضَ الْعِتْقِ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يُمْكِنُ هَاهُنَا أَنْ يُتَمَّمَ عَلَيْهِ جَمْعٌ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ لَكِنْ مَتَى اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ دُونَ الْعَدَدِ أَفْضَتْ إِلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَدَدُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَكَانَ الْجُزْءُ الْمُعْتَقُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْمَعَ فِي أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَصْلُهُ حَقُّ النَّاسِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي مَالِ الْعَبْدِ إِذَا أُعْتِقَ لِمَنْ يَكُونُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمَالُ لِلسَّيِّدِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَالُهُ تَبَعٌ لَهُ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَبِالثَّانِي قَالَ: ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ.

وَالْحُجَّةُ لَهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ مَالَهُ» .

وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْعِتْقِ، فَإِنَّ مِنْهَا صَرِيحًا وَمِنْهَا كِنَايَةً عِنْدَ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ.

أَمَّا الْأَلْفَاظُ الصَّرِيحَةُ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ عَتِيقٌ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْ هَذِهِ، فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُلْزِمُ السَّيِّدَ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. .

ص: 155

وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكَ، أَوْ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ، فَهَذِهِ يَنْوِي فِيهَا سَيِّدُ الْعَبْدِ، هَلْ أَرَادَ بِهِ الْعِتْقَ أَمْ لَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ؟

وَمِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي هَذَا الْبَابِ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: يَا بُنَيَّ، أَوْ قَالَ: يَا أَبِي، أَوْ يَا أُمِّي، فَقَالَ قَوْمٌ وَهُمُ الْجُمْهُورُ: لَا عِتْقَ يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَشَذَّ زُفَرُ فَقَالَ: لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي، عُتِقَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَلِلسَّيِّدِ ثَلَاثُونَ سَنَةً.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: مَا أَنْتَ إِلَّا حُرٌّ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ وَهُمُ الْأَكْثَرُ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حُرٌّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْ نَادَى عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِاسْمِهِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ عَبْدٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْأَوَّلَ، فَقِيلَ يُعْتَقَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَقِيلَ يَنْوِي.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ فَهُوَ حُرٌّ دُونَ الْأُمِّ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَعْتَقَ أَمَةً وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا حُرَّانِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ الْعِتْقِ بِالْمَشِيئَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَالطَّلَاقِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ كَالطَّلَاقِ (أَعْنِي: قَوْلَ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) .

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ بِشَرْطِ الْمِلْكِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يَقَعُ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» .

وَحُجَّةُ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ تَشْبِيهُهُمْ إِيَّاهُ بِالْيَمِينِ. وَأَلْفَاظُ هَذَا الْبَابِ شَبِيهَةٌ بِأَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، وَشُرُوطُهُ كَشُرُوطِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَيْمَانُ فِيهِ تَشَبِيهُهُ بِأَيْمَانِ الطَّلَاقِ.

وَأَمَّا أَحْكَامُهُ فَكَثِيرَةٌ:

مِنْهَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْأَبْنَاءَ تَابِعُونَ فِي الْعِتْقِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلْأُمِّ، وَشَذَّ قَوْمٌ فَقَالُوا: إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ عَرَبِيًّا.

وَمِنْهَا: اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعِتْقِ إِلَى أَجَلٍ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إِنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَلَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: لَهُ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْخِدْمَةِ عَلَى الْمُعْتَقِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بَعْدَ الْعِتْقِ وَقَبْلَ الْعِتْقِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ ; لِأَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ لَمْ يَمْلِكْ عِتْقَهُ، وَقَالَ: إِنْ بَاعَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ (أَعْنِي: مِنْ مَالِ الْبَائِعِ إِذَا بَاعَهُ) ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ. وَفُرُوعُ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ.

ص: 156