الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الحادي عشر الحلف بغير الله والتوسل والاستغاثة بالمخلوق]
في بيان حكم الحلف بغير الله
والتوسل والاستغاثة بالمخلوق (ا) الحلف بغير الله: الحلف: هو اليمين - وهي توكيد الحكم بذكر مُعظَّم على وجه الخصوص. والتعظيم: حق لله تعالى فلا يجوز الحلف بغيره، فقد أجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بأسمائه وصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره (1) والحلف بغير الله شرك لما روى ابن عمر رضى الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (2) وهو شرك أصغر. إلا إذا كان المحلوف به معظَّما عند الحالف إلى درجة عبادته له فهذا شرك أكبر. كما هو الحال اليوم عند عُبَّاد القبور، فإنهم يخافون من يعظمون من أصحاب القبور أكثر من خوفهم من الله وتعظيمه، بحيث إذا طلب من أحدهم أن يحلف
(1) حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ص 303.
(2)
رواه أحمد والترمذي والحاكم.
بالولي الذي يعظمه لم يحلف به إلا إذا كان صادقا، وإذا طلب منه أن يحلف بالله حلف به وإن كان كاذبا.
فالحلف تعظيم للمحلوف به لا يليق إلا بالله، ويجب توقير اليمين بالله، فلا يكثر منها - قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] أي لا تحلفوا إلا عند الحاجة وفي حالة الصدق والبر - لأن كثرة الحلف أو الكذب فيها يدلان على الاستخفاف بالله وعدم التعظيم له، وهذا ينافي كمال التوحيد، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» وجاء فيه: «ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إِلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه» (1) . فقد شدد الوعيد على كثرة الحلف مما يدل على تحريمه احتراما لاسم الله تعالى وتعظيما له سبحانه. وكذلك يحرم الحلف بالله كاذبا وهي
(1) رواه الطبراني بسند صحيح.
الغموس (1) وقد وصف الله المنافقين بأنهم يحلفون على الكذب وهم يعلمون.
فنخلص من ذلك:
1 -
تحريم الحلف بغير الله تعالى: كالحلف بالأمانة أو الكعبة أو بالنبي لمجد وأن ذلك شرك.
2 -
تحريم الحلف بالله كاذبا متعمدا وهي الغموس.
3 -
تحريم كثرة الحلف بالله ولو كان صادقا إذا لم تدع إليه حاجة، لأن هذا استخفاف بالله سبحانه.
4 -
جواز الحلف بالله إذا كان صادقا وعند الحاجة.
(ب) التوسل بالمخلوق إلى الله تعالى: التوسل: وهو التقرب إلى الشيء والتوصل إليه والوسيلة: القربة، قال الله تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] أي: القربة إليه سبحانه بطاعته واتباع مرضاته.
(1) هي التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، وهي التي يحلفها على أمر ماض كاذبا عالما.
والتوسل قسمان: القسم الأول: توسل مشروع وهو أنواع: 1 - النوع الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، كما أمر تعالى بذلك في قوله:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]
2 -
النوع الثاني: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان والأعمال الصالحة: التي قام بها المتوسل، كما قال تعالى عن أهل الإيمان:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] وكما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فسدت عليهم باب الغار، فلم يستطيعوا الخروج، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، ففرج الله عنهم (1) فخرجوا يمشون.
(1) هذا مضمون الحديث وهو متفق عليه.
3 -
النوع الثالث: التوسل إلى الله تعالى بتوحيده، كما توسل يونس عليه السلام:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ} [الأنبياء: 87]
4 -
النوع الرابع: التوسل إلى الله تعالى بإظهار الضعف والحاجة والافتقار إلى الله، كما قال أيوب عليه السلام:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]
5 -
النوع الخامس: التوسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء، وكما كان الصحابة إذا أجدبوا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، ولما توفي صاروا يطلبون من عمه العباس رضي الله عنه فيدعو لهم (1) .
6 -
النوع السادس: التوسل إلى الله بالاعتراف بالذنب: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]
(1) رواه البخاري.
القسم الثاني: توسل غير مشروع: وهو التوسل بطلب الدعاء والشفاعة من الأموات، والتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بذوات المخلوقين أو حقهم، وتفصيل ذلك كما يلي:
1 -
طلب الدعاء من الأموات لا يجوز: لأن الميت لا يقدر على الدعاء، كما كان يقدر عليه في الحياة، وطلب الشفاعة من الأموات لا يجوز، لأن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من الصحابة والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيا، كالعباس وكيزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره ولا عند غيره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، وقد قال عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا، فجعلوا هذا بدلا من ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.
وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به يعني (1) . لو كان حائزا. فتركهم لذلك دليل على عدم جواز التوسل بالأموات، لا بدعائهم ولا بشفاعتهم، فلو كان طلب الدعاء منه والاستشفاع به حيا وميتا، سواء لم يعدلوا عنه إلى غيره ممن هو دونه.
2 -
التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاه غيره لا يجوز: والحديث الذي فيه: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي. فإن جاهي عند الله عظيم» حديث مكذوب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها. ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث (2) وما دام لم يصح فيه دليل فهو لا يجوز، لأن العبادات لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح. 3 - التوسل بذوات المخلوقين لا يجوز: لأنه إن كان الباء للقسم فهو إقسام به على الله تعالى،
(1) مجموع الفتاوى (1 / 318) .
(2)
مجموع الفتاوى (10 / 319) .
وإذا كان الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز وهو شرك كما في الحديث، فكيف بالإقسام بالمخلوق على الخالق جلّ وعلا. وإن كانت الباء للسببية، فالله سبحانه لم يجعل السؤال بالمخلوق سببا للإجابة، ولم يشرعه لعباده.
4 -
والتوسل بحق المخلوق لا يجوز لأمرين: الأول: أن الله سبحانه لا يجب عليه حق لأحد، وإنما هو الذي يتفضل سبحانه على المخلوق بذلك، كما قال تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] فكون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق فضل وإنعام، وليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق.
الثاني: أن هذا الحق الذي تفضل الله به على عبده هو حق خاص به لا علاقة لغيره به، فإذا توسل به غير مستحقه كان متوسلا بأمر أجنبي لا علاقة له به، وهذا لا يجديه شيئا.
وأما الحديث الذي فيه: «أسألك بحق السائلين» فهو حديث لم يثبت، لأن في إسناده عطية العوفي وهو ضعيف مجمع على ضعفه، كما قال بعض المحدثين. وما كان كذلك فإنه لا يحتج به في هذه المسألة المهمة من أمور العقيدة، ثم إنه ليس فيه توسل بحق شخص معين، وإنما فيه التوسل بحق السائلين عموما وحق السائلين الإجابة كما وعدهم الله بذلك، وهو حق أوجبه على نفسه لهم لم يوجبه عليه أحد، فهو توسل بوعده الصادق لا بحق المخلوق.
(ج) حكم الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق: الاستعانة: طلب العون والمؤازرة في الأمر.
والاستغاثة: طلب الغوث وهو إزالة الشدة.
فالاستعانة والاستغاثة بالمخلوق على نوعين: النوع الأول: الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه، وهذا جائز. قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]
النوع الثاني: الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله: كالاستعانة بالأموات، والاستغاثة بالأحياء، والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله من شفاء المرضى وتفريج الكربات ودفع الضر - فهذا النوع غير جائز، وهو شرك أكبر - وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله» (1) كره صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه. وإن كان مما يقدر عليه في حياته حماية لجناب التوحيد وسدّا لذرائع الشرك، وأدبا وتواضعا لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يستغاث به بعد مماته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله (2) وإذا كان هذا لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى.
(1) رواه الطبراني - ضعيف.
(2)
فتح المجيد ص196 - 197.