الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الخامس في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم]
في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم
ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم ما المراد بالصحابة، وما الذي يجب اعتقاده فيهم؟
الصحابة جمع صحابي: وهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنَاَ به ومات على ذلك، والذي يجب اعتقاده فيهم أنهم أفضل الأمة وخير القرون لسبقهم واختصاصهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه وتحمل الشريعة عنه وتبليغها لمن بعدهم، وقد أثنى الله عليهم في محكم كتابه، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]
ففي هذه الآيات أن الله سبحانه أثنى على المهاجرين والأنصار، ووصفهم بالسبق إلى الخيرات، وأخبر أنه قد رضي عنهم، وأعد لهم الجنات، ووصفهم بالتراحم فيما بينهم والشدة على الكفار، ووصفهم بكثرة الركوع والسجود وصلاح القلوب، وأنهم يعرفون بسيما الطاعة والإيمان، وأن الله اختارهم لصحبة نبيه ليغيظ بهم أعداءه الكفار، كما وصف المهاجرين بترك
أوطانهم وأموالهم من أجل الله ونصرة دينه وابتغاء فضله ورضوانه، وأنهم صادقون في ذلك. ووصف الأنصار بأنهم أهل دار الهجرة والنصرة والإيمان الصادق ووصفهم بمحبة إخوانهم المهاجرين وإيثارهم على أنفسهم ومواساتهم لهم وسلامتهم من الشح، وبذلك حازوا على الفلاح. هذه بعض فضائلهم العامة، وهناك فضائل خاصة ومراتب يفضل بها بعضهم بعضا. رضي الله عنهم وذلك بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة.
فأفضل الصحابة الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة - وهم هؤلاء الأربعة وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، ويَفْضُلُ المهاجرون على الأنصار، وأهل بدر وأهل الرضوان، ويَفضُل من أسلم قبل الفتح وقاتل على من أسلم بعد الفتح.
2 -
مذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بين الصحابة من القتال والفتنة: سبب الفتنة: تآمر اليهودُ على الإسلام وأهله فدسوا ماكرا خبيثا تظاهر بالإسلام كذبا وزورا هو عبد الله بن سبأ من يهود اليمن، فأخذ هذا اليهودي ينفث حقده وسمومه ضد الخليفة الثالث من الخلفاء الراشدين: عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ويختلق التهُم ضده. فالتف حوله من انخدع به من قاصري النظر وضعاف الإيمان ومحبي الفتنة، وانتهت المؤامرة بقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه مظلوما، وعلى أثر مقتله حصل الاختلاف بين المسلمين وشبت الفتنة بتحريض من اليهودي وأتباعه وحصل القتال بين الصحابة عن اجتهاد منهم.
قال شارح الطحاوية: إن أصل الرفض إنما يحدثه منافق زنديق، قصده إبطال دين الإسلام والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلام أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره وخبثه، كما
فعل بولس بدين النصرانية، فأظهر التنسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله، ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي والنصر له ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك عليّا فطلب قتله فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في التاريخ.
قال شيح الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فلما قتل عثمان رضي الله عنه تفرقت القلوب وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار وذل الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزا عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ وأفضل من بقي، لكن كانت القلوب متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير ودخل في الفرقة والفتنة أقوام، وكان ما كان (1) .
(1) مجموع الفتاوى (25 / 304 - 305) .
وقال أيضا مبينا عذر المتقاتلين من الصحابة في قتال علي ومعاوية: ومعاوية لم يدع الخلافة ولم يبايع له بها حين قاتل عليا ولم يقاتل على أنه خليفة ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه: ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال ولا يعلو. بل لما رأى علي رضي الله عنه أصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد. وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة، وهم (أي معاوية ومن معه) قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلوميِن، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماَ باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا. وعلي لا يمكنه دفعهم كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف.
ومذهب أهل السنة والجماعة في الاختلاف الذي حصل والفتنة التي وقعت من جرائها الحروب بين الصحابة يتلخص في أمرين:
الأمر الأول: أنهم يمسكون عن الكلام فيما حصل بين الصحابة، ويكفون عن البحث فيه، لأن طريق السلامة هو السكوت عن مثل هذا، ويقولون؛ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]
الأمر الثاني: الإجابة عن الآثار المروية في مساوئهم وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآثار منها ما هو كذب قد افتراه أعداؤهم ليشوهوا سمعتهم.
الوجه الثاني: أن هذه الآثار منها ما قد زيد ونقص فيه وغُيّر عن وجهه الصحيح ودخله الكذب، فهو محرف لا يلتفت إليه.
الوجه الثالث: أن ما صح من هذه الآثار - وهو
القليل، هم فيه معذورون، لأنهم إما مجتهدون مصيبون. وإما مجتهدون مخطئون - فهو من موارد الاجتهاد الذي إن أصاب المجتهد فيه فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور. لما في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» (1) .
الوجه الرابع: أنهم بشر يجوز على أفرادهم الخطأ، فهم ليسوا معصومين من الذنوب بالنسبة للأفراد - لكن ما يقع منهم فله مكفرات عديدة منها:
1 -
أن يكون قد تاب منه - والتوبة تمحو السيئة مهما كانت. كما جاءت به الأدلة.
2 -
أن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم - إن صدر، قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]
(1) في الصحيحين من عمرو بن العاص رضي الله عنه.
3 -
أنهم تضاعف لهم الحسنات أكثر من غيرهم ولا يساويهم أحد في الفضل، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به أفضل من جبل أحد ذهبا إذا تصدق به غيرهم» (1) رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفر لهم بالتوبة ويرفع لهم درجاتهم ويغفر لهم بحسنات ماحية أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالى:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ - لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ - لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35] وقال تعالى:
(1) في الحديث المتفق عليه.
وقد اتخذ أعداء الله ما وقع بين الصحابة وقت الفتنة من الاختلاف والاقتتال سببا للوقيعة بهم والنيل من كرامتهم، وقد جرى على هذا المخطط الخبيث بعض الكتاب المعاصرين الذين يعرفون بما لا يعرفون فجعلوا أنفسهم حكما بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَوِّبون بعضهم ويخطئون بعضهم بلا دليل، بل بالجهل واتباع الهوى وترديد ما يقوله المغرضون والحاقدون من المستشرقين وأذنابهم - حتى شككوا بعض ناشئة المسلمين ممن ثقافتهم ضحلة بتاريخ أمتهم المجيدة، وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون، لينفذوا بالتالي إلى الطعن في
(1) انظر مجموع الفتاوي (15 / 69) .
الإسلام وتفريق كلمة المسلمين، وإلقاء البغض في قلوب آخر هذه الأمة لأولها بدلَا من الاقتداء بالسلف الصالح والعمل بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]