المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرد على السيوطي - أدلة معتقد أبي حنيفة في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام

[الملا على القاري]

الفصل: ‌الرد على السيوطي

‌الرَّد على السُّيُوطِيّ

وَالْعجب من الشَّيْخ جلال الدّين السُّيُوطِيّ مَعَ إحاطته بِهَذِهِ الْآثَار الَّتِي كَادَت أَن تكون متواترة فِي الْأَخْبَار أَنه عدل عَن مُتَابعَة هَذِه الْحجَّة وموافقة سَائِر الْأَئِمَّة وَتبع جمَاعَة من الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين وَأورد أَدِلَّة واهية فِي نظر الْفُضَلَاء المعتبرين

مِنْهَا أَن الله سُبْحَانَهُ أحيى بِهِ أَبَوَيْهِ حَتَّى آمنا بِهِ مستدلا بِمَا أخرجه ابْن شاهين فِي النَّاسِخ والمنسوخ والخطيب الْبَغْدَادِيّ فِي السَّابِق واللاحق وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْن عَسَاكِر كِلَاهُمَا فِي غرائب مَالك بِسَنَد ضَعِيف عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت

حج بِنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حجَّة الْوَدَاع فَمر بِي على عقبَة الْحجُون وَهُوَ باك حَزِين مُغْتَم فَنزل فَمَكثَ عني طَويلا ثمَّ عَاد إِلَيّ وَهُوَ فَرح فَتَبَسَّمَ فَقلت لَهُ فَقَالَ ذهبت لقبر أُمِّي فَسَأَلت الله أَن يُحْيِيهَا فآمنت بِي وردهَا الله عز وَجل

ص: 85

وَهَذَا الحَدِيث ضَعِيف بِاتِّفَاق الْمُحدثين كَمَا اعْترف بِهِ السُّيُوطِيّ وَقَالَ ابْن كثير

إِنَّه مُنكر جدا وَرُوَاته مَجْهُولُونَ

فَقَوْل الشَّيْخ ابْن حجر الْمَكِّيّ فِي شرح الهمزية هُوَ حَدِيث صَحِيح صَححهُ غير وَاحِد من الْحفاظ مَرْدُود عَلَيْهِ بل كذب صَرِيح وعيب قَبِيح مسْقط للعدالة وموهن للرواية لِأَن السُّيُوطِيّ مَعَ جلالته وَكَمَال إحاطته ومبالغته فِي رسائل مُتعَدِّدَة من تصنيفاته ذكر الِاتِّفَاق على ضعف هَذَا الحَدِيث فَلَو كَانَ لَهُ طَرِيق وَاحِد صَحِيح لذكره فِي معرض التَّرْجِيح

ص: 87

وَمن الْمَعْلُوم أَن بعده لم يحدث غير وَاحِد من الْمُحدثين الَّذين يَصح كَونهم من المصححين وَمن ادّعى فَعَلَيهِ الْبَيَان فِي معرض الميدان

هَذَا وَقد قَالَ الْحَافِظ ابْن دحْيَة كَمَا نَقله الْعِمَاد ابْن كثير عَنهُ

إِن هَذَا الحَدِيث مَوْضُوع يردهُ الْقُرْآن وَالْإِجْمَاع قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار} انْتهى

وَالْمعْنَى أَنه ثَبت كفرهما بِمَا سبق من دلَالَة الْآيَة السَّابِقَة المنضمة إِلَى رِوَايَة السّنة المتقوية بِإِجْمَاع الْأمة مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار} أَي لَيست التَّوْبَة صَحِيحَة مِمَّن مَاتَ وَهُوَ كَافِر لِأَن الْمُعْتَبر هُوَ الْإِيمَان الْغَيْبِيِّ لقَوْله تَعَالَى {فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا}

وَالْحَاصِل انه لم يثبت إحياؤهما وإيمانهما وَالدَّلِيل على انتفائهما عدم استشهارهما عِنْد الصَّحَابَة لَا سِيمَا والواقعة فِي حجَّة الْوَدَاع والخلق الْكثير فِي خدمته بِلَا نزاع مَعَ منافاته للقواعد الشَّرْعِيَّة من عدم قبُول الْإِيمَان بعد مُشَاهدَة الْأَحْوَال الغيبية بِالْإِجْمَاع

ص: 88

ثمَّ دَعْوَى الخصوصية يحْتَاج إِلَى إِثْبَات الْأَدِلَّة القوية فَمن ادّعى هَذَا الدِّيوَان فَعَلَيهِ الْبَيَان

وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْقُدْرَةِ الإلهية وقابلية الخصوصية للحضرة النَّبَوِيَّة فَأمر لَا يُنكره أحد من أهل الْملَّة الحنيفية وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي إِثْبَات هَذَا المرام بالأدلة على وَجه النظام لَا بالإحتمال الَّذِي لَا يصلح للاستدلال خُصُوصا فِي مُعَارضَة نُصُوص الْأَقْوَال

وَأما قَول الْقُرْطُبِيّ فَلَيْسَ إحياؤهم يمْتَنع عقلا وَلَا شرعا فَلَا شُبْهَة فِي إِمْكَانه أصلا وفرعا وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي ثُبُوته أَولا ونفيه ثَانِيًا

وَبِهَذَا ينْدَفع مَا أوردهُ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف بِسَنَد فِيهِ جمَاعَة مَجْهُولُونَ

إِن الله أحيى لَهُ أَبَاهُ وَأمه فَآمَنا بِهِ

ثمَّ قَالَ بعد إِيرَاده

الله قَادر على كل شَيْء وَلَيْسَ تعجز رَحمته وَقدرته عَن شَيْء وَنبيه صلى الله عليه وسلم أهل أَن يَخُصُّهُ بِمَا شَاءَ من فَضله وَأَن

ص: 89

ينعم بِمَا شَاءَ من كرامته

قلت وَلَو صَحَّ هَذَا الْإِحْيَاء لأظهره صلى الله عليه وسلم على الْأَعْدَاء فضلا عَن الأحباء من أكَابِر الصَّحَابَة وَلم يكتف بِذكرِهِ لعَائِشَة من بَين أحبابه

على أَن رِوَايَة عَائِشَة رضي الله عنها لَو صحت لانتشر عَنْهَا إِلَى التَّابِعين وَغَيرهم وشاعت فَإِنَّهُ لَو صَحَّ إحْيَاء أَبَوَيْهِ وإيمانهما لَكَانَ من آظهر معجزاته وأكبر كراماته صلى الله عليه وسلم

فَتبين من هَذَا أَن هَذَا من مَوْضُوعَات الرفضة وَإِنَّمَا نسبوا الحَدِيث إِلَى عَائِشَة تبعيدا عَن الظَّن بوضعهم وتأكيدا للقضية فِي ثِقَة إثباتهم

وَأغْرب الْقُرْطُبِيّ حَيْثُ قَالَ

لَا تعَارض بَين حَدِيث الْإِحْيَاء وَحَدِيث النَّهْي عَن الاسْتِغْفَار لَهما بِدَلِيل حَدِيث عَائِشَة رضي الله عنها أَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع وَلذَلِك جعله ابْن شاهين نَاسِخا لما ذكر من الْأَخْبَار انْتهى

وَلَا يخفى وَجه الغرابة فَإِن الحَدِيث إِذا كَانَ ضَعِيفا بِاتِّفَاق الْمُحدثين وموضوعا عِنْد الْمُحَقِّقين ومخالفا للْكتاب عِنْد الْمُفَسّرين كَيفَ يصلح أَن يكون مُعَارضا لحَدِيث مُسلم فِي الصَّحِيح ومناقضا لما سبق مِمَّا كَاد أَن يكون متواترا فِي التَّصْرِيح أَو كَيفَ يُمكن أَن يكون نَاسِخا والنسخ لَا يجوز فِي الْأَخْبَار عِنْد عُلَمَاء الْأَعْلَام وَإِنَّمَا هُوَ من

ص: 90

مختصات الْإِنْشَاء وَالْأَحْكَام وَإِلَّا فَيلْزم الْخلف فِي أخباره وَيتَوَجَّهُ البداء فِي آثاره وَهُوَ متعال عَن ذَلِك علوا كَبِيرا

وَمِنْهَا قَول السُّيُوطِيّ إنَّهُمَا مَاتَا قبل الْبعْثَة وإنهما كَانَا من أَصْحَاب الفترة

وَهَذَا كَمَا لَا يخفى مُعَارضَة لما ثَبت فِي الْكتاب وَالسّنة ومناقضة لما صرح بإشتراكهما فِيمَا سبق من صَاحب النُّبُوَّة فَمَا ذكره من تَطْوِيل الْبَحْث وتكثير الْأَدِلَّة غير مُفِيد لَهُ فِي هَذِه الْقَضِيَّة مَعَ ظُهُور التَّنَاقُض فِي كَلَامه لتَحْصِيل مرامه فَإِنَّهُمَا لَو كَانَا من أهل الفترة لما احْتَاجَ إِلَى الْإِحْيَاء وَالْإِيمَان بِالنُّبُوَّةِ بِنَاء على أَنَّهُمَا من أهل النجَاة فِي الْفطْرَة

ثمَّ هَذِه الْمَسْأَلَة فِيهَا خلاف الْمُعْتَزلَة وَأكْثر أهل السّنة حَتَّى قَالَ بعض الْمُحَقِّقين لَا يُوجد صَاحب الفترة إِلَّا من ولد فِي مفازة خَالِيَة عَن سَماع بعثة صَاحب النُّبُوَّة بِالْكُلِّيَّةِ على خلاف فِي أَنه هَل هُوَ مُكَلّف بِالْعقلِ تَوْحِيد الرب وشكر نعْمَته وَوُجُوب النّظر فِي صَنعته أم لَا

وَمِمَّا يتَفَرَّع عَلَيْهِ مَا ذكره الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيب

أما من لم تبلغه الدعْوَة فَلَا يجوز قَتله قبل أَن يدعى إِلَى الْإِسْلَام فَإِن قتل قبل أَن يدعى إِلَى الْإِسْلَام وَجب فِي قَتله الدِّيَة وَالْكَفَّارَة وَعند أبي حنيفَة رضي الله عنه لَا يجب الضَّمَان بقتْله

ص: 91

وَقَالَ الْغَزالِيّ فِي الْبَسِيط

من لم تبلغه الدعْوَة يضمن بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَة لَا بِالْقصاصِ على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ مُسلما على التَّحْقِيق وَإِنَّمَا هُوَ فِي معنى الْمُسلم قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة لِأَنَّهُ مَوْلُود على الفترة وَلم يظْهر مِنْهُ عناد انْتهى

وَلَا يخفى مَا فِيهِ من الدّلَالَة على أَن أهل الفترة هُوَ الَّذِي يكون على اصل الْفطْرَة من التَّوْحِيد وَلم يظْهر مِنْهُ من الْكفْر مَا يُنَافِي التفريد كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله سُبْحَانَهُ {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله}

وكما ورد فِي حَدِيث

كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه الحَدِيث

وَفِيه دَلِيل على أَن كل مَوْلُود فِي حَال عقله وَكَمَال حَالَة إِذا خلي

ص: 92

هُوَ من طبعه اخْتَار التَّوْحِيد لله فِي الذَّات والتفريد لَهُ فِي الصِّفَات كَمَا يدل عَلَيْهِ قصَّة الْمِيثَاق الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق على مَا هُوَ مُقَرر فِي مَحَله الْأَلْيَق

وَلِهَذَا قَالَ الإِمَام فَخر الدّين

من مَاتَ مُشْركًا فَهُوَ فِي النَّار وَإِن مَاتَ قبل الْبعْثَة لِأَن الْمُشْركين كَانُوا قد غيروا الحنيفية دين إِبْرَاهِيم واستبدلوا بهَا الشّرك وارتكبوه وَلَيْسَ مَعَهم حجَّة وَلم يزل مَعْلُوما من دين الرُّسُل كلهم من أَوَّلهمْ إِلَى آخِرهم قبح الشّرك والوعيد عَلَيْهِ فِي النَّار وأخبار عقوبات الله لأَهله متدوالة بَين الْأُمَم قرنا بعد قرن فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة على الْمُشْركين فِي كل وَقت وَحين وَلَو لم يكن إِلَّا مَا فطر الله عباده عَلَيْهِ من تَوْحِيد ربوبية وَأَنه يَسْتَحِيل فِي كل فطْرَة وعقل أَن يكون مَعَه إِلَه آخر وَإِن كَانَ سُبْحَانَهُ لَا يعذب بِمُقْتَضى هَذِه الْفطْرَة وَحدهَا فَلم تزل دَعْوَة الرُّسُل إِلَى التَّوْحِيد فِي الأَرْض مَعْلُومَة لأَهْلهَا فالمشرك مُسْتَحقّ للعذاب فِي النَّار لمُخَالفَته دَعْوَى الرُّسُل وَهُوَ مخلد فِيهَا دَائِما كخلود أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة انْتهى

ص: 93

وَلَا يخفى أَن مَا ورد عَنهُ صلى الله عليه وسلم فِي حق بعض أَرْبَاب الفترة من التعذيب يدل دلَالَة صَرِيحَة للرَّدّ على مَا عَلَيْهِ بعض الشَّافِعِيَّة من أَن أهل الفترة لَا يُعَذبُونَ مُطلقًا قَالَ

وَأَصله أَنه عِنْدهم محجوح عَلَيْهِ بعقله وَعِنْدنَا هُوَ غير محجوج عَلَيْهِ قبل بُلُوغ الدعْوَة إِلَيْهِ

وَمِنْهَا قَول السُّيُوطِيّ

إِنَّه ورد فِي أهل الفترة أَحَادِيث أَنهم يمْتَحنُونَ يَوْم الْقِيَامَة بِأَن ترفع لَهُم نَار فَيُقَال لَهُم ادخلوها فيدخلها من كَانَ فِي علم الله سعيدا لَو أدْرك الْعَمَل وَيمْتَنع من دُخُولهَا من كَانَ فِي علم الله شقيا لَو أدْرك الْعَمَل فَيَقُول تبارك وتعالى إيَّايَ عصيتم فَكيف برسلي بِالْغَيْبِ

ص: 94

وَلَا يخفى أَن هَذَا على تَقْدِير صِحَّته وقوته لمعارضة مُخَالفَته

ص: 96

وَإِنَّمَا يكون فِيمَن مَاتَ من أهل الفترة وَلم يعلم حَاله من إِحْدَاث الشّرك أَو التَّوْحِيد على الْفطْرَة وَأما من ثَبت كفره بِالْكتاب وَالسّنة واتفاق الْأَئِمَّة فَلَا وَجه لإدخاله فِي أَصْحَاب الأمتحان للطاعة كورقة بن نَوْفَل وَقس بن سَاعِدَة وَغَيرهمَا مِمَّن ثَبت توحيدهما وَلَا نَحْو صَاحب المحجن

ص: 97

وَغَيره مِمَّن ثَبت شركهما

وَأغْرب من هَذَا أَنه اسْتدلَّ بقول الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي فِي بعض كتبه الظَّن بآله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي الَّذين مَاتُوا قبل الْبعْثَة أَنهم يطيعون عِنْد الامتحان إِكْرَاما لَهُ صلى الله عليه وسلم لتقر بهم عينه انْتهى

وَوجه الغرابة أَن هَذِه الْقَضِيَّة بالطريقة الظنية فِي أهل الفترة الْحَقِيقِيَّة المبهمية لَا تفِيد فِي الْمَسْأَلَة العينية

وَكَذَا من العجيب مَا نسب إِلَى الْعَسْقَلَانِي فِي قَوْله

ص: 98

وَنحن نرجو أَن يدْخل عبد الْمطلب وَآل بَيته فِي جملَة من يدْخل طَائِعا فينجو إِلَّا ابا طَالب فَإِنَّهُ أدْرك الْبعْثَة وَلم يُؤمن وَثَبت فِي الصَّحِيح أَنه فِي ضحضاح من نَار انْتهى

وَلَا يخفى أَن إِدْخَال عبد الْمطلب فِي الْقِصَّة خَارج عَن الصِّحَّة لما ورد فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا

أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طَالب عِنْد مَوته وَعِنْده أَبُو جهل وَابْن أبي أُميَّة قائلين أترغب عَن مِلَّة عبد الْمطلب فَلم يزل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يعرضهَا عَلَيْهِ ويعيدانه بِتِلْكَ الْمقَالة حَتَّى قَالَ أَبُو طَالب آخر مَا كَلمهمْ أَنا على مِلَّة عبد الْمطلب وأبى أَن يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله فَنزل {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء}

فَهَذَا يَقْتَضِي أَن عبد الْمطلب مَاتَ على الشّرك بِلَا شكّ

وَمِمَّا يقويه ويؤكده مَا فِي مُسْند الْبَزَّار وَكتاب النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما

أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لفاطمة رضي الله عنها وَقد عزت قوما من

ص: 99

الْأَنْصَار عَن ميتهم لَعَلَّك بلغت مَعَهم الكدى فَقَالَ لَو كنت بلغت مَعَهم الكدى مَا رَأَيْت الْجنَّة حَتَّى يَرَاهَا جد أَبِيك

ص: 100

وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا إِلَّا أَنه لم يذكر فِيهِ حَتَّى يَرَاهَا جد أَبِيك

وَفِي هَذَا تهديد شَدِيد ووعيد أكبر على مرتكب الْمعْصِيَة وَلَو كَانَ صَاحبهَا من أَعلَى أهل بَيت النُّبُوَّة

وَأما مَا ورد فِي قَوْله

(أَنا النَّبِي لَا كذب

أَنا ابْن عبد الْمطلب)

ص: 101

فَمَحْمُول على أَنه لَيْسَ من بَاب الافتخار فِي الانتساب بالأباء الْكفَّار بل لإِظْهَار الجلادة والشجاعة والاشتهار كَمَا بَينته فِي شرح الشَّمَائِل لِلتِّرْمِذِي

وَأما مَا حَكَاهُ ابْن سيد النَّاس أَن الله أَحْيَاهُ بعد بَعثه النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى آمن بِهِ ثمَّ مَاتَ فَهُوَ مَرْدُود لِأَنَّهُ لَا دَلِيل عَلَيْهِ من حَدِيث ضَعِيف وَلَا غَيره وَإِنَّمَا حكوه عَن بعض الشِّيعَة وخلافهم غير مُعْتَبر عِنْد أهل السّنة

وَكَذَا قَول الْقُرْطُبِيّ على مَا ذكره الْعِمَاد ابْن كثير عَنهُ فِي تَفْسِيره إِن الله أحيى ابا طَالب حَتَّى آمن بَاطِل مَوْضُوع بِإِجْمَاع أهل الحَدِيث ومخالف لمَذْهَب الْحق

ص: 102

على أَنه سبق أَنه لَا ينفع الْإِيمَان بعد العيان بل أَقُول لَا يتَصَوَّر هَذَا الْبَيَان إِذْ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} وَلَا خلف فِي إخْبَاره سُبْحَانَهُ

وَمِنْهَا قَول السُّيُوطِيّ

وَإِن ابْن جرير ذكر فِي تَفْسِيره عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فِي قَوْله تَعَالَى {ولسوف يعطيك رَبك فترضى} قَالَ من رضى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَن لَا يدْخل أحد من أهل بَيته النَّار

وَفِيه أَن هَذَا قَول صَحَابِيّ من قبل رَأْيه وعَلى تَسْلِيم صِحَّته ودلالته فَأهل بَيته لَا يتَنَاوَل أَقَاربه الْمُتَقَدِّمين من الْكفَّار بِالْإِجْمَاع

نعم يُفِيد أَن من كَانَ نسبه ثَابتا إِلَى صَاحب النُّبُوَّة يُرْجَى لَهُ حسن الخاتمة وَحُصُول الشَّفَاعَة أَو توفيق التَّوْبَة عَن الْمعْصِيَة إِذا كَانَ من أهل الْملَّة لما أخرجه أَبُو سعيد فِي شرف النُّبُوَّة والملا فِي السِّيرَة عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

سَأَلت رَبِّي أَن لَا يدْخل النَّار أحدا من أهل بَيْتِي فَأَعْطَانِي

ص: 103

ذَلِك

على أَنه يُمكن أَن يُقَال المُرَاد بِالنَّفْيِ دُخُول الْآبَاء فَيكون بِشَارَة إِلَى موت أهل الْبَيْت على الْإِسْلَام ودخولهم دَار السَّلَام وَلَو كَانَ بعد مُضِيّ الْأَيَّام

وَأما مَا أخرج تَمام الرَّازِيّ فِي فَوَائده بِسَنَد ضَعِيف عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة شفعت لأبي وَأمي وَعمي أبي طَالب وَأَخ لي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة أَي

ص: 104

بالرضاعة كَمَا فِي رِوَايَة فَهُوَ حجَّة لنا لَا علينا لإدراجه أَبَوَيْهِ مَعَ عَمه أبي طَالب الْمجمع على كفره فَالْحَدِيث إِن ثَبت فَهُوَ مَحْمُول على مَا ورد فِي الصَّحِيح من تَخْفيف الْعَذَاب عَنْهُم بِشَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

ثمَّ أغرب السُّيُوطِيّ فِي قَوْله

وَمِمَّا يرشح مَا نَحن فِيهِ مَا أخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا عَن ابي هُرَيْرَة رضي الله عنه مَرْفُوعا قَالَ سَأَلت رَبِّي ابناء الْعشْرين من أمتِي فوهبهم لي

ثمَّ قَالَ

ص: 105

وَمِمَّا يَنْضَم إِلَى ذَلِك وَإِن لم يكن صَرِيحًا فِي الْحق مَا أخرجه الديلمي عَن ابْن عمر رضي الله عنهما مَرْفُوعا أول من أشفع يَوْم الْقِيَامَة أهل بَيْتِي ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب الحَدِيث

فَذكر هَذَا وَأَمْثَاله مِمَّا لَا يُنَاسب حَاله إِذْ الْكَلَام لَيْسَ فِي أهل بَيته من أهل الْإِسْلَام

وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم عِنْد حَدِيث إِن أبي واباك فِي النَّار فِيهِ

وَإِن من مَاتَ كَافِرًا فَهُوَ فِي النَّار لَا تَنْفَعهُ قرَابَة الْأَقْرَبين

ص: 106

وَتعقبه السُّهيْلي بِمَا ظَاهره من الْبطلَان البديهي وَهُوَ قَوْله

لَيْسَ لنا أَن نقُول ذَلِك فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاء بسب الْأَمْوَات وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله} وَلَعَلَّه يَصح مَا جَاءَ أَنه صلى الله عليه وسلم سَأَلَ الله سُبْحَانَهُ فأحيى لَهُ أَبَوَيْهِ وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَوق هَذَا وَلَا يعجز الله سُبْحَانَهُ شَيْئا

ثمَّ أورد قَول النَّوَوِيّ

ص: 107

إِن من مَاتَ فِي الفترة على مَا كَانَت عَلَيْهِ الْعَرَب من عبَادَة الْأَوْثَان فَهُوَ فِي النَّار وَلَيْسَ هَذَا من التعذيب قبل بُلُوغ الدعْوَة لِأَنَّهُ بلغتهم دَعْوَة إِبْرَاهِيم وَغَيره من الرُّسُل انْتهى

وَهُوَ فِي غَايَة من الْبَهَاء كشمس الضُّحَى وَبدر الدجى لَكِن مَعَ هَذَا تعقبه بِمَا هُوَ كالبهاء فِي الْهَوَاء من المناقشة فِي الْعبارَة على توهم المناقضة بَين كَلَام النَّوَوِيّ مُعْتَرضًا عَلَيْهِ بقوله

إِن من بلغته الدعْوَة لَا يكون من أهل الفترة

وَرَفعه سهل فَإِن مُرَاد النَّوَوِيّ من أهل الفترة من كَانَ قبل بعثة نَبينَا صلى الله عليه وسلم الْمعبر بالجاهلية

وَمِنْهَا قَول السُّيُوطِيّ

إنَّهُمَا لم يثبت شرك عَنْهُمَا بل كَانَا على الحنيفية دين جدهما إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام

ص: 108

قلت وَهَذَا يُعَارضهُ مَا صَحَّ فِي صَحِيح مُسلم عَنهُ عليه الصلاة والسلام كَمَا سبق عَلَيْهِ الْكَلَام

وَهَذَا المسلك ذهبت إِلَيْهِ طَائِفَة مِنْهُم الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ فَقَالَ فِي كِتَابه أسرار التَّنْزِيل مَا نَصه

قيل إِن آزر لم يكن وَالِد إِبْرَاهِيم عليه السلام بل كَانَ عَمه وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوه مِنْهَا أَن آبَاء الْأَنْبِيَاء عليهم السلام مَا كَانُوا كفَّارًا وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {الَّذِي يراك حِين تقوم وتقلبك فِي الساجدين} قيل مَعْنَاهُ أَنه كَانَ ينْقل نوره من ساجد إِلَى ساجد فَبِهَذَا التصدير فالآية دَالَّة على أَن جَمِيع آبَاء مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَانُوا مُسلمين وَحِينَئِذٍ يجب الْقطع بِأَن وَالِد إِبْرَاهِيم عليه السلام مَا كَانَ من الْكَافرين إِنَّمَا ذَاك عَمه

أقْصَى مَا فِي الْبَاب أَن يحمل قَوْله تَعَالَى {وتقلبك فِي الساجدين} على وُجُوه أُخْرَى وَإِذا وَردت الرِّوَايَة بِالْكُلِّ وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا وَجب حمل الْآيَة على الْكل وَمَتى صَحَّ ذَلِك ثَبت أَن وَالِد إِبْرَاهِيم عليه السلام مَا كَانَ من عَبدة الْأَوْثَان

ثمَّ قَالَ

وَمِمَّا يدل على أَن آبَاء مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مَا كَانُوا مُشْرِكين قَوْله صلى الله عليه وسلم لم

ص: 109

أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إِلَى أَرْحَام الطاهرات وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} فَوَجَبَ أَن لَا يكون من أجداده مُشْركًا

قَالَ السُّيُوطِيّ

هَذَا كَلَام الإِمَام فَخر الدّين بِحُرُوفِهِ وناهيك بِهِ إِمَامَة وجلالة فَإِنَّهُ إِمَام أهل السّنة فِي زَمَانه والقائم بِالرَّدِّ على الْفرق المبتدعة والناصر لمذاهب الأشاعرة فِي عصره وَهُوَ الْعَالم الْمَبْعُوث على رَأس المئة السَّادِسَة ليجدد لهَذِهِ الْأمة أَمر دينهَا انْتهى

وَلَا يخفى مَعَ مُعَارضَة كَلَامه لما سبق من الْكتاب وَالسّنة وأتفاق الْأَئِمَّة وَمَا هُوَ صَرِيح فِي صَحِيح مُسلم من كَلَام صَاحب النُّبُوَّة أَنه قَالَ تَعَالَى فِي كَلَامه الْقَدِيم مَا يدل على كفر أبي إِبْرَاهِيم وَالْأَصْل فِي حمل الْكَلَام على الْحَقِيقَة وَلَا يعدل عَنهُ إِلَى الْمجَاز إِلَّا حَال الضَّرُورَة عِنْد دَلِيل صَرِيح وَنقل صَحِيح يضْطَر مِنْهُ إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز

فبمجرد قَول إخباري تاريخي يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ كَمَا عبر عَنهُ

ص: 110

ب قيل إِن آزر لم يكن وَالِد إِبْرَاهِيم عليه السلام بل كَانَ عَمه كَيفَ يعدل عَن آيَات مصرحة فِيهَا إِثْبَات الْأُبُوَّة

مِنْهَا قَوْله تَعَالَى

{وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ آزر}

وَهُوَ عطف بَيَان أَو بدل بِنَاء على أَنه لقب لَهُ أونعت بلسانهم وَنَحْو ذَلِك

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى

{مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا للْمُشْرِكين وَلَو كَانُوا أولي قربى من بعد مَا تبين لَهُم أَنهم أَصْحَاب الْجَحِيم وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه} وَفِي قِرَاءَة شَاذَّة (أَبَاهُ)

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن إِبْرَاهِيم {يَا أَبَت} مكررا

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {قد كَانَت لكم أُسْوَة حَسَنَة فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذين مَعَه إِذْ قَالُوا لقومهم إِنَّا بُرَآء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء أبدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده إِلَّا قَول إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَن لَك وَمَا أملك لَك من الله من شَيْء}

ص: 111

)

وَأَقُول زِيَادَة على ذَلِك وَهُوَ أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ مُبينًا للْكتاب وممهدا الطَّرِيق الصَّوَاب فَلَو كَانَ المُرَاد بِأبي إِبْرَاهِيم عَمه لبينه وَلَو فِي حَدِيث للأصحاب ليحملوا الْأَب على عَمه بطرِيق الْمجَاز فِي هَذَا الْبَاب

ثمَّ دَعْوَة أَن آبَاء الْأَنْبِيَاء عليهم السلام لم يَكُونُوا كفَّارًا تحْتَاج إِلَى برهَان وَاضح وَدَلِيل لائح فاستدلاله بقوله تَعَالَى {وتقلبك فِي الساجدين} بِنَاء على قيل فِي غَايَة من السُّقُوط كَمَا يعلم من قَول سَائِر الْمُفَسّرين فِي الْآيَة

فقد ذكر الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره فِي تفاسيرهم أَن معنى الْآيَة وترددك فِي تصفح أَحْوَال المتهجدين كَمَا رُوِيَ أَنه لما نسخ فرض قيام اللَّيْل طَاف تِلْكَ اللَّيْلَة بيُوت أَصْحَابه لينْظر مَا يصنعون حرصا على كَثْرَة طاعاتهم فَوَجَدَهَا كبيوت الزنابير لما سمع لَهَا من دندنتهم بِذكر الله تَعَالَى

وَنقل الإِمَام أَبُو حَيَّان فِي الْبَحْر عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {وتقلبك فِي الساجدين} أَن الرافضة هم الْقَائِلُونَ إِن آبَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانُوا

ص: 112