الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لجميعِ الناسِ. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل «قُرآناً» أي: كائناً لهؤلاءِ خاصةً لِما تقدَّم في المعنى. الثالث: أَنْ يتعلَّقَ ب «تَنْزِيلٌ» وهذا إذا لم يُجْعَلْ «من الرحمنِ» صفةً له؛ لأنَّك إنْ جَعَلْتَ «من الرحمن» صفةً له فقد أَعْمَلْتَ المصدرَ الموصوفَ، وإذا لم يكن «كتابٌ» خبراً عنه ولا بَدَلاً منه؛ لئلا يَلْزَمَ الإِخبارُ عن الموصولِ أو البدلِ منه قبلَ تمامِ صلتِه. ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرف وعديلِه لم يُبالِ بشيءٍ من ذلك. وأمَّا إذا جَعَلْتَ «من الرحمن» متعلِّقاً به و «كتاب» فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك؛ لأنه مِنْ تتمَّاته وليس بأجنبيّ، وهذا الموضعُ ممَّا يُظْهِرُ حُسْنَ علمِ الإِعرابِ، ويُدَرِّبُكَ في كثيرٍ من أبوابِه.
قوله: {بَشِيراً وَنَذِيراً} : يجوزُ أَنْ يكونا نعتَيْن ل «قُرْآناً» ، وأَنْ يكونا حالَيْنِ: إمَّا مِنْ «كتاب» ، وإمَّا مِنْ «آياته» ، وإمَّا من الضميرِ المَنْوِيِّ في «قُرْآناً» . وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعتِ ل «كتاب» أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو بشيرٌ ونذيرٌ.
قوله: {في أَكِنَّةٍ} : قال الزمخشري: «فإنْ قُلْتَ: هَلَاّ قيل: على قلوبِنا أكنَّةٌ كما قيل: وفي آذاننا وَقْرٌ، ليكونَ الكلامُ على نَمَطٍ واحد. قلت: هو على نَمَطٍ واحدٍ؛ لأنَّه لا فَرْقَ في المعنى بين قولِك: قلوبُنا في أكنَّةٍ، وعلى قلوبِنا أكنَّةٌ، والدليلُ عليه قولُه تعالى:{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 2
5]
، ولو قيل: جَعَلْنا قلوبَهم في أكنَّةٍ لم يختلفِ المعنى، وترى المطابيعَ منهم لا يَرَوْن الطباقَ والملاحظةَ إلَاّ في المعاني» . قال الشيخ:«و» في «هنا
أَبْلَغُ مِنْ» على «لأنَّهم قَصَدوا الإِفراطَ في عَدَمِ القبول بحُصول قلوبِهِم في أكنَّةٍ احتوَتْ عليها احتواءَ الظرفِ على المظروفِ، فلا يمكنُ أَنْ يَصِلَ إليها شيءٌ، كما تقول:» المالُ في الكيس «بخلافِ قولِك:» على المالِ كيسٌ «، فإنَّه لا يَدُلُّ على الحصر وعدمِ الوصولِ دلالةَ الوعاءِ، وأمَّا» وجعلنا «فهو من إخبار اللَّهِ تعالى فلا يَحْتاجُ إلى مبالغةٍ» . وتقدَّمَ تفسيرُ الأَكنَّة والوقر. /
وقرأ طلحة بكسر الواوِ وتقدَّم الفرقُ بينهما.
قوله: «ممَّا تَدْعُوْنا» مِنْ في «ممَّا» وفي «ومِنْ بَيْنِنا» لابتداءِ الغايةِ فالمعنى: أنَّ الحجابَ ابتدأ مِنَّا وابتدأ منك، فالمسافةُ المتوسطةُ لجهتِنا وجهتِك مُسْتوعبةٌ لا فراغَ فيها، فلو لم تَأْت «مِنْ» لكان المعنى: أنَّ حجاباً حاصلٌ وسطَ الجهتين، والمقصودُ المبالغَةُ بالتبايُنِ المُفْرِط، فلذلك جيْءَ ب «مِنْ» قاله الزمخشري. وقال أبو البقاءِ:«هو محمولٌ على المعنى؛ لأنَّ المعنى: في أكنَّةٍ محجوبةٍ عن سماعِ ما تَدْعُونا إليه، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل» أكنَّة «؛ لأنَّ الأكنَّةَ الأغشيةُ، وليسَتِ الأغشيةُ ممَّا يُدْعَوْنَ إليه» .
قوله: {قُلْ} : قرأ ابنُ وثَّاب والأعمش «قال» فعلاً ماضياً خبراً عن الرسولِ. والرسمُ يَحْتَملهما، وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأنبياءِ وآخرِ المؤمنين. وقرأ الأعمشُ والنخعيُّ «يُوْحِي» بكسر الحاء أي: اللَّهُ تعالى.
قوله: «فاسْتَقِيموا إليه» عُدِّيَ ب «إلى» لتضمُّنِه معنى تَوَجَّهوا، والمعنى: وَجِّهوا استقامتَكم إليه.
قوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} : قيل: غيرُ منقوص، وأنشدوا لذي الإِصبع العدواني:
3946 -
إني لَعَمْرُكَ ما بابي بذي غَلقٍ
…
على الصديقِ ولا خَيْري بمَمْنُوْنِ
وقيل: مقطوعٌ، مِنْ مَنَنْتُ الحَبْلَ أي: قطعْتُه، وأنشدوا:
3947 -
فَضْلَ الجوادِ على الخيلِ البِطاءِ فلا
…
يُعْطِي بذلك مَمْنُوْناً ولا نَزِقا
وقيل: غيرُ ممنونٍ، مِن المَنِّ؛ لأنَّ عطاءَ اللَّهِ تعالى لا يَمُنُّ به، إنما يَمُنُّ المخلوقُ.
قوله: {وَتَجْعَلُونَ} : عطفٌ على «لَتَكْفُرون» فهو داخلٌ في حَيِّزِ الاستفهام.
قوله: {وَجَعَلَ} : مستأنف. ولا يجوز عَطْفُه على صلةِ الموصولِ للفصلِ بينهما بأجنبيّ، وهو قولُه:«وتَجْعلون» فإنه معطوفٌ على «لَتَكْفرون» كما تقدَّم.
قوله: {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} تقديرُه: في تمامِ أربعةِ أيام باليومَيْن المتقدِّمين.
وقال الزجاج: «في تتمةِ أربعةِ أيام» يريدُ بالتتمَّةِ اليومينِ. وقال الزمخشري: «في أربعة أيام فَذْلَكَةٌ لمدةِ خَلْقِ اللَّهِ الأرضَ وما فيها، كأنه قال: كلُّ ذلك في أربعةِ أيامٍ كاملةٍ مستويةٍ بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ» . قلت: وهذا كقولِك: بَنَيْتُ بيتي في يومٍ، وأكْمَلْتُه في يومَيْن. أي: بالأول. وقال أبو البقاء: «أي: في تمامِ أربعةِ أيامٍ، ولولا هذا التقديرُ لكانَتِ الأيامُ ثمانيةً، يومان في الأول، وهو قوله:{خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} ، ويومان في الآخِر، وهو قوله:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [وأربعة في الوسط، وهو قولُه {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} ] .
قوله:» سواءً «العامَّةُ على النصبِ، وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: استَوتْ استواءً، قاله مكي وأبو البقاء. والثاني: أنه حالٌ مِنْ» ها «في» أقواتها «أو مِنْ» ها «في» فيها «العائدةِ على الأرض أو من الأرض، قاله أبو البقاء.
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى: إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ، لا وصفُ الأرضِ بذلك، وعلى هذا جاء التفسيرُ. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ» سَواءٍ «بالجرِّ صفةً للمضافِ أو المضافِ إليه. وقال السدي وقتادة: سواءً معناه: سواءً لمن
سألَ عن الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه، وأرادَ العِبْرَةَ فيه، فإنه يَجِدُه كما قال تعالى، إلَاّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء، فإنهم قالوا: معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين.
وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد» سَواءٍ «بالخفضِ على ما تقدَّمَ، وأبو جعفرٍ بالرفع، وفيه وجهان، أحدهما: أنه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ. وقال مكي:» هو مرفوعٌ بالابتداء «، وخبرُه» للسائلين «. وفيه نظرٌ: من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ مُسَوِّغٍ، ثم قال:» بمعنى مُسْتوياتٍ، لمن سأل فقال: في كم خُلِقَتْ؟ وقيل: للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى «.
قوله:» للسَّائلين «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه متعلقٌ ب» سواء «بمعنى: مُسْتويات للسائلين. الثاني: أنه متعلِّقٌ ب» قَدَّر «أي: قَدَّر فيها أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين. الثالث: أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ كأنه قيل: هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل: في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها؟
والدُّخان: ما ارتفع مِنْ لَهَبِ النار، ويُسْتعار لِما يُرى مِنْ بخارِ الأرضِ عند جَدْبِها. وقياسُ جَمْعِه في القلةِ: أَدْخِنة، وفي الكثرة: دِخْنان نحو
غُراب وأَغْرِبة وغِربان، وشذُّوا في جَمْعِه على دواخِن. قيل: هو جمعُ داخِنة تقديراً على سبيلِ الإِسناد المجازيِّ. ومثله: عُثان وعَواثِن.
قوله: «وهي دُخانٌ» من باب التشبيهِ الصُّوري؛ لأن صورتِها صورةُ الدخان في رأي العَيْنِ.
قوله: «أَتَيْنا» قرأ العامَّةُ «ائْتِيا» أمراً من الإِتْيان، «قالتا أَتَيْنا» منه أيضاً. وقرأ ابنُ عباس وابنُ جبير ومجاهدٌ:«آتِيا قالتا آتَيْنا» بالمدِّ فيهما. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من المُؤَاتاة، وهي الموافَقَةُ أي: ليوافِقْ كلٌّ منكما الأخرى لِما يليقُ بها، وإليه ذهب الرازي والزمخشري. فوزنُ «آتِيا» فاعِلا كقاتِلا، و «آتَيْنا» وزنُه فاعَلْنا كقاتَلْنا. / والثاني: أنَّه من الإِيْتاء بمعنى الإِعطاء، فوزنُ آتِيا أَفْعِلا كأَكْرِما، ووزن آتَيْنا أَفْعَلْنا كأَكْرَمْنا. فعلى الأول يكونُ قد حَذَفَ مفعولاً، وعلى الثاني يكونُ قد حَذَفَ مفعولَيْن إذ التقدير: أَعْطِيا الطاعةَ مِنْ أنفسكما مَنْ أَمَرَكما. قالتا: أَعْطَيْناه الطاعة.
وقد مَنَع أبو الفضل الرازيُّ الوجهَ الثاني. فقال: «آتَيْنا» بالمَدِّ على فاعَلْنا من المُؤاتاة، بمعنى سارَعْنا، على حَذْفِ المفعولِ به، ولا تكونُ من الإِيتاء الذي هو الإِعطاءُ لبُعْدِ حَذْفِ مفعولَيْه «. قلت: وهذا هو الذي مَنَعَ الزمخشريِّ أَنْ يَجْعَلَه من الإِيتاء.
قوله» طَوْعاً أو كَرْهاً «مصدران في موضعِ الحال أي: طائِعتين
أو مُكْرَهَتَيْن. وقرأ الأعمشُ» كُرْهاً «بالضم. وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في النساء.
قوله:» قالتا «أي: قالَتِ السماء والأرض. وقال ابنُ عطية:» أراد الفرقتَيْن المذكورتَيْن. جَعَلَ السماواتِ سماءً، والأرضين أرضاً، وهو نحوُ قولِ الشاعر:
3948 -
ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قومي
…
وقومِك قد تبايَنَتا انْقِطاعا
عَبَّر عنهما ب «تَباينتا» . قال الشيخ: «وليس كما ذَكَر؛ لأنه لم يتقدَّمْ إلَاّ ذِكْرُ الأرضِ مفردةً والسماءِ مفردةً، فلذلك حَسُن التعبيرُ بالتثنيةِ. وأمَّا البيتُ فكأنه قال: حَبْلَيْ قومي وقومِك، وأنَّثَ في» تبايَنَتا «على المعنى لأنه عنى بالحبالِ المودَّة» .
قوله: «طائِعِين» في مجيئِه مجيءَ جَمْعِ المذكرِين العقلاءِ وجهان، أحدهما: أنَّ المرادَ: أَتيا بمَنْ فيهما من العقلاء وغيرِهم، فلذلك غَلَّب العقلاءَ على غيرِهم، وهو رَأْيُ الكسائيِّ. والثاني: أنه لمَّا عامَلهما معاملةَ العقلاء في الإِخبارِ عنهما والأمرِ لهما جُمِعا كجَمْعِهم، كقولِه:{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهل هذه المحاوَرَةُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ خلافٌ.
قوله: {سَبْعَ} : في نصبه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «قَضاهُنَّ» ؛ لأنه ضُمِّن معنى صَيَّرهُنَّ بقضائِه سبعَ سماواتٍ.
والثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ مفعولِ «قَضاهُنَّ» أي: قضاهُنَّ معدودةً، و «قضى» بمعنى صَنَع، كقولِ أبي ذؤيب:
3949 -
وعليهما مَسْرُوْدتان قَضاهما
…
داوُدُ أو صَنَعُ السَّوابغِ تُبَّعُ
أي: صَنَعهما. الثالث: أنه تمييزٌ. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميراً مبهماً مُفَسَّراً بسبعِ سماوات [على التمييز» ] يعني بقولِه «مبهماً» أنَّه لا يعودُ على السماء لا من حيث اللفظُ ولا مِنْ حيث المعنى، بخلاف كونِه حالاً أو مفعولاً ثانياً. الرابع: أنه بدلٌ مِنْ «هُنَّ» في «فقَضاهُنَّ» قاله مكي. وقال أيضاً: «السَّماء تذكَّرُ وتؤنَّثُ. وعلى التأنيثِ جاء القرآن، ولو جاء على التذكير لقيل: سبعة سماوات» . وقد تقدَّم تحقيقُ تذكيرِه وتأنيثِه في أوائل البقرة.
قوله: «وحِفْظاً» في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ، أي: وحَفِظْناها بالثواقب من الكواكِبِ حِفْظاً. والثاني: أنه مَفْعولٌ مِنْ أجله على المعنى، فإنَّ التقديرَ: خلقنا الكواكبَ زينةً وحِفْظاً. قال الشيخ: «وهو تكلُّفٌ وعُدولٌ عن السَّهْلِ البيِّنِ» .
قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ} : التفاتٌ مِنْ خطابِهم بقولِه: «قل أئِنَّكم» إلى الغَيْبة لفِعْلهِم الإِعراضَ أعرضَ عن خطابِهم، وهو تناسُبٌ حَسَنٌ. وقرأ الجمهورُ «صاعقَةً مثلَ صاعقةِ» بالألفِ فيهما. وابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن «صَعْقَةً مثلَ صَعْقة» بحَذْفِها وسكونِ العين. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك في أوائلِ البقرة. يقال: صَعَقَتْه الصاعقةُ فصَعِقَ، وهذا مما جاء فيه فَعَلْته - بالفتح - ففَعِل بالكسر، ومثله جَدَعْتُه فَجَدِعَ. والصَّعْقَةُ المَرَّة.
قوله: {إِذْ جَآءَتْهُمُ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه ظرفٌ ل «أَنْذَرْتُكم» نحو: لَقِيْتُك إذ كان كذا. الثاني: أنه منصوبٌ بصاعقةٍ لأنَّها بمعنى العذاب أي: أنذرتُكم العذابَ الواقعَ في وقتِ مجيْءِ رسُلِهم. الثالث: أنه صفةٌ ل «صاعِقَة» الأولى. الرابع: أنه حالٌ من «صاعقة» الثانية، قالهما أبو البقاء وفيهما نظرٌ؛ إذ الظاهرُ أنَّ الصَّاعقةَ جثةٌ وهي قطعةُ نارٍ تَنْزِلُ من السماء فتحرقُ، كما تقدَّمَ في تفسيرِها أولَ هذا التصنيفِ؛ فلا يقعُ الزمانُ صفةً لها ولا حالاً عنها، وتأويلُها بمعنى العذابِ إخراجٌ لها عن مدلولِها مِنْ غيرِ ضرورةٍ، وإنما جعلَها وَصْفاً للأولى لأنها نكرةٌ، وحالاً مِن الثانية لأنها معرفةٌ لإِضافتها إلى عَلَم، ولو جعلها حالاً من الأولى؛ لأنها تخَصَّصَتْ بالإِضافةِ لجاز/ فتعودُ الوجوهُ خمسةً.
قوله: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن عائدان على
عادٍ وثمود. وقيل: الضميرُ في «خَلْفِهم» يعودُ على الرسلِ. واسْتُبْعِد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقديرُ: جاءتهم الرسلُ مِنْ خَلْفِ الرسلِ، أي: مِنْ خَلْفِ أنفسِهم. وقد يُجاب عنه: بأنَّه مِنْ باب «دِرْهمٌ ونصفُه» أي: ومن خَلْفِ رسُلٍ آخرين.
قوله: {أَلَاّ تعبدوا} يجوزُ في «أَنْ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ المخففةَ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأن محذوفٌ، والجملةُ النَّهْيِيةُ بعدها خبرٌ، كذا أعربه الشيخُ. وفيه نظرٌ مِنْ وجهين، أحدهما: أنَّ المخففةَ لا تقع بعد فِعْل إلَاّ مِنْ أفعال اليقين. الثاني: أنَّ الخبرَ في بابِ «إنَّ» وأخواتِها لا يكون طلباً، فإنْ وَرَدَ منه شيءٌ أُوِّلَ ولذلك تأوَّلوا [قولَ الشاعرِ:]
3950 -
إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ
…
لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
وقول الآخر:
3951 -
ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْيَ صادِقةٌ
…
إنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ
على إضمارِ القولِ. الثاني: أنها الناصبةُ للمضارعِ، والجملةُ النَّهْييةُ بعدها صلتُها وُصِلَتْ بالنهي كما تُوْصَلُ بالأمر في «كَتبتُ إليه بأنْ قُمْ» ، وقد مَرَّ في وَصْلِها بالأمرِ إشكالٌ يأتي مثلُه في النهي. الثالث: أَنْ تكونَ مفسِّرَةً
لمجيئِهم لأنه يتضمَّنُ قولاً، و «لا» في هذه الأوجهِ كلِّها ناهيةٌ، ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً على الوجهِ الثاني، ويكون الفعلُ منصوباً ب «أنْ» بعد «لا» النافية، فإنَّ «لا» النافيةَ لا تمنعُ العاملَ أَنْ يعملَ فيما بعدها نحو:«جئتُ بلا زيدٍ» ، ولم يذكرْ الحوفي غيرَه.
قوله: «لو شاءَ» قدَّر الزمخشريُّ مفعولَ «شاء» : لو شاءَ إرسالَ الرسلِ لأَنْزَلَ ملائكةً. قال الشيخ: «تَتَبَّعْتُ القرآنَ وكلامَ العربِ فلم أَجِدْ حَذْفَ مفعولِ» شاء «الواقع بعد» لو «إلَاّ مِنْ جنسِ جوابِها نحو:
{وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] أي: لو شاءَ جَمْعَهم على الهدى لجَمَعهم عليه، {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70]{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ} [يونس: 99]{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]{لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ} [النحل: 35] . وقال الشاعر:
3952 -
فلو شاءَ ربِّي كنتُ قيسَ بنَ خالدٍ
…
ولو شاءَ ربي كنتُ قيسَ بنَ مَرْثدِ
وقال الراجز:
3953 -
واللذِ لو شاءَ لكنْتُ صَخْراً
…
أو جَبَلاً أشمَّ مُشْمَخِرَّا
قال: «فعلَى ما تقرَّر لا يكونُ المحذوفُ ما قدَّره الزمخشريُّ، وإنما التقديرُ: لو شاء ربُّنا إنزالَ ملائكةٍ بالرسالةِ منه إلى الإِنسِ لأَنْزَلهم بها إليهم، وهذا أَبْلَغُ في الامتناع من إرسالِ البشرِ، إذ عَلَّقوا ذلك بإنزال الملائكة، وهو لم يَشَأْ ذلك فكيف يشاء ذلك في البشر؟» قلت: وتقديرُ أبي القاسم أوقَعُ معنىً وأخلصُ من إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ: لو شاءَ إنزالَ ملائكةٍ لأنزلَ ملائكةً.
قوله: {بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} هذا خطابٌ لهودٍ وصالحٍ وغيرِهم مِن الأنبياءِ عليهم السلام، وغَلَّب المخاطبَ على الغائبِ نحو:«أنت وزيدٌ تقومان» . و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي وعائدُها به، وأنْ تكونَ مصدريةً أي: بإرسالِكم، فعلى هذا يكون «به» [يعودُ] على ذلك المصدرِ المؤولِ، ويكون من بابِ التأكيد كأنه قيل: كافرون بإرسالِكم به.
قوله: {صَرْصَراً} : الصَّرْصَرُ: الريحُ الشديدة فقيل: هي الباردةُ مِن الصِّرِّ، وهو البردُ. وقيل: هي الشديدةُ السَّمومِ. وقيل هي المُصَوِّتَةُ، مِنْ صَرَّ البابُ أي: سُمِع صريرُه. والصَّرَّة: الصَّيْحَةُ. ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] . قال ابن قتيبة: «صَرْصَر: يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة، وهي الصيحةُ، ومنه: {
فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] . وقال الراغب:» صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ «.
قوله:» نَحِساتٍ «قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ، والباقون بسكونِها. فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال: نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ. وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم.
وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ، وفيه توافُقُ القراءتين. والثاني: أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ. إلَاّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل. والثالث: أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ. ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين، إلَاّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ، وحَوِرَ فهو أحورُ، وشَبعَ فهو شبعانُ، وسَلِمَ فهو سالمٌ، وبَلي فهو بالٍ.
وفي معنى» نَحِسات «قولان، أحدهما: أنها مِن الشُّؤْم. قال السدِّي:
أي: مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف. والثاني: أنها شديدةُ البردِ. وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ:
3954 -
يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا
…
نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا
وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ:
3955 -
كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ
…
يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا
ومنه:
3956 -
قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ
…
للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ
وقيل: يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي: قليلِ الغبار، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ. و» نَحِسات «نعتٌ لأيَّام، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة.
و» لِنُذِيْقَهُمْ «متعلِّقٌ ب» أَرْسَلْنا «. وقُرِئ» لِتُذِيقَهم «بالتاءِ مِنْ فوقُ.
وفي الضمير قولان، أحدهما: أنه الريحُ أي: لتذيقَهم الريحُ أو الأيَّامُ على سبيل المجاز. وعذاب الخِزْيِ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، ولذلك قال:{وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى} فإنه يَقْتضِي المشاركةَ وزيادةً. وإسنادُ الخِزْيِ إلى العذابِ مجازٌ لأنه سَبُبه.
قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ} : الجمهورُ على رَفْعِه ممنوعَ الصرفِ. والأعمشُ وابنُ وثَّاب مصروفاً، وكذلك كلُّ ما في القرآن إلَاّ قولَه:{وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة} [الإسراء: 59] قالوا: لأنَّ الرسم ثمود بغير ألفٍ. وقرأ ابنُ عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ، وعاصمٌ في رواية «ثمود» منصوباً مصروفاً. والحسن وابنُ هرمز وعاصمٌ أيضاً منصوباً غيرَ منصرفٍ. فأمَّا الصرفُ وعَدَمُه فقد تقدَّمَ توجيهُهُما في هود. وأمَّا الرفعُ فعلى الابتداء، والجملةُ بعده الخبرُ، وهو مُتَعَيّنٌ عند الجمهورِ؛ لأنَّ «أمَّا» لا يليها إلَاّ المبتدأُ فلا يجوزُ فيما بعدها الاشتغالُ إلَاّ في قليلٍ كهذه القراءةِ، وإذا قَدَّرْتَ الفعلَ الناصبَ فقدِّرْه بعد الاسمِ المنصوبِ أي: وأمَّا ثمودَ هَدَيْناهم فهَدَيْناهم قالوا: لأنها لا يَليها الأفعالُ.
قوله: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ} : العاملُ في هذا الظرفِ فيه وجهان، أحدُهما: محذوفٌ دَلَّ عليه ما بعدَه مِنْ قولِه: «فهم يُوْزَعُون» تقديره: يُسَاقُ الناسُ يومَ يُحْشَر. وقَدَّرَه أبو البقاء: يُمْنَعون يومَ الحَشْرِ. الثاني: أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ أي: اذكُرْ يومَ. وقرأ نافع «نَحْشُرُ بنونِ العظمة وضمِّ الشين.»
أعداءَ «نصباً أي: نَحْشُر نحن. والباقون بياءِ الغَيْبة مضمومةً، والشينُ مفتوحةٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، و» أعداءُ «رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ. وكَسَر الأعرجُ شين» نَحْشِر «و» حتى «غايةٌ ل» يُحْشَر «.
قوله: {أَن يَشْهَدَ} : يجوزُ فيه أوجهٌ، أحدها: مِنْ أَنْ يَشْهدَ. الثاني: خيفةَ أن يَشْهد. الثالث: لأَجْلِ أَنْ يَشْهد، وكلاهما بمعنى المفعول له. الرابع: عن أَنْ تَشْهَدَ أي: ما كنتم تَمْتَنِعون، ولا يُمْكِنُكم الاختفاءُ عن أعضائِكم والاستتارُ عنها. الخامس: أنه ضُمِّن معنى الظنِّ وفيه بُعْدٌ.
قوله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنَّ «ظنُّكم» خبرُه، و «الذي ظَنَنْتُمْ» نعتُه، و «أَرْدَاكم» حالٌ و «قد» معه مقدرةٌ على رَأْيِ الجمهورِ خلافاً للأخفشِ. ومَنْعُ مكيّ الحاليةَ للخلوِّ مِنْ «قد» ممنوعٌ لِما ذكرْتُه. الثاني: أَنْ يكونَ «ظنُّكم» بدلاً والموصولُ خبرُه. و «أَرْدَاكم» حالٌ أيضاً. الثالث: أَنْ يكونَ الموصولُ خبراً ثانياً. الرابع: أَنْ يكونَ «ظَنُّكم» بدلاً أو بياناً، والموصول هو الخبر، و «أَرْداكم» خبرٌ ثانٍ. الخامس: أن يكون «ظَنُّكم» والموصولُ والجملةُ مِنْ «أَرْداكم» أخباراً. إلَاّ أنَّ الشيخ رَدَّ على الزمخشري قوله: «وظنُّكم وأَرْدَاكم خبران» . قال: «لأنَّ قوله:» وذلكم «إشارةٌ إلى ظَنِّهم السابقِ فيصير التقديرُ: وظَنُّكم بربكم أنه لا يعلم ظنُّكم بربكم، فاسْتُفيد من الخبر ما اسْتُفيد من المبتدأ وهو لا يجوزُ، وهذا نظيرُ
ما منعه النحاةُ مِنْ قولك:» سَيِّدُ الجارية مالِكُها «. / وقد منع ابنُ عطية كونَ» أَرْداكم «حالاً لعدمِ وجودِ» قد «وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك.
قوله: {يَسْتَعْتِبُواْ} : العامَّةُ على فَتْحِ الياءِ وكسرِ التاءِ الثانيةِ مبنيَّاً للفاعلِ. {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} بفتح التاء اسمَ مفعول، ومعناه: وإنْ طَلبوا العُتْبى وهي الرِّضا فما هم مِمَّنْ يُعْطاها. وقيل: المعنى: وإنْ طَلَبوا زوالَ ما يُعْتَبُون فيه فما هم من المُجابين إلى إزالةِ العَتَبِ.
وأصلُ العَتَبِ: المكانُ النائِي بنازِلَةٍ، ومنه قيل لأُسْكُفَّةِ الباب والمِرْقاة: عَتَبة، ويُعَبَّر بالعَتَبِ عن الغِلْظَة التي يَجدها الإِنسانُ في صدرِه على صاحبِه. وعَتَبْتُ فلاناً: أبرزْتُ له الغِلْظَة. وأَعْتَبْتُه: أَزَلْتُ عُتْباه كأَشْكَيْتُه. وقيل: حَمَلْتُه على العَتَب.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «وإن يُسْتَعْتَبوا» مبنيَّاً للمفعولِ. {فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} اسمَ فاعلٍ بمعنى: إنْ يُطْلَبْ منهم أن يُرْضُوا فما هم فاعِلون ذلك، لأنهم فارَقوا دارَ التكليف. وقيل معناه: إنْ يُطْلَبْ ما لا يُعْتَبُون عليه فما هم مِمَّنْ يُزيل العُتْبى. وقال أبو ذؤْيبٍ:
3957 -
أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِه تَتَوَجَّعُ
…
والدهرُ ليسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قوله: {وَقَيَّضْنَا} : أصلُ التَّقْييضِ التيسيرُ والتهيئَةُ. قَيَّضْتُه له لكذا: هَيَّأْتُه ويَسَّرْتُه. وهذان ثوبان قَيْضان أي: كلٌّ منهما مكافِئٌ
للآخَر في الثمن. والمقايَضَةُ: المعاوَضَةُ. وقوله: {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} [الزخرف: 36] أي: نُسَهِّلْ ليَسْتوليَ عليه استيلاءَ القَيْضِ على البَيْض. والقَيْضُ في الأصلِ: قِشْرُ البيضِ الأعلى.
قوله: «في أُمَمٍ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير في «عليهم» والمعنى: كائنين في جملةِ أمم، وهذا كقولِه:
3958 -
إنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنيعةِ مَأْ
…
فُوْكاً ففي آخَرين قد أَفِكُوا
أي: في جملة قومٍ آخرين. وقيل: إن «في» بمعنى مع.
قوله: {والغوا} : العامَّةُ على فتحِ الغين. وهي تحتملُ وجهين، أحدُهما: أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى. وفيها معنيان، أحدُهما: مِنْ لَغِيَ إذا تكلَّم باللَّغْوِ، وهو ما لا فائدةَ فيه. والثاني: أنه مِنْ لَغِي بكذا، أي: رَمى به فتكونُ «في» بمعنى الباء أي: ارْمُوا به وانبِذُوه. والثاني من الوجهين الأوَّلين: أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً، حكاه الأخفش، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ. وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم
الغين، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو. وفي الحديث:«فقد لَغَوْتَ» ، وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور.
قوله: {ذَلِكَ} : فيه وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ و «جزاءُ» خبره. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: الأمرُ ذلك و {جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار} جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها.
قوله: «النارُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها بدلٌ مِنْ «جزاء» ، وفيه نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه، فيصيرُ التقديرُ: ذلك النار. الثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ. الثالث: أنها مبتدأٌ، و {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} الخبر. و «دارُ» يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ.
وقوله: {فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} يقتضي أَنْ تكونَ «دارُ الخلد» غيرَ النارِ، وليس الأمرُ كذلك، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ. وأُجيب عن ذلك: بأنَّه قد يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ، كأنَّ ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ الإِخبارِ به عنه، ومثلُه قولُه:
3959 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وفي اللَّهِ إنْ لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، والرسولُ
عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ. كذا أجابوا. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ، والنارُ مُحيطةٌ بها.
قوله: «جَزاءً» في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ، وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي: يُجْزَوْن جزاءَ. الثاني: أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ الذي قبلَه، وهو {جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله} ، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله/:{فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً} [الإسراء: 63] . الثالث: أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ، و «بما» متعلِّقٌ ب «جَزاء» الثاني، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً، وبالأول إن كان، و «بآياتِنا» متعلِّقٌ ب «يَجْحَدون» .
وتقدَّم الخلافُ في «أَرِنا» وفي نونِ «اللذَيْنِ» . قال الخليل: «إذا قلتَ: أَرِني ثوبَك بالكسرِ فمعناه بَصِّرْنِيْه، وبالسكون أَعْطِنيه» . وقال الزمخشري: «أي: بما كانوا يَلْغَوْن» ، فذكر الجحودَ؛ لأنه سببُ اللغْوِ انتهى. يعني أنه مِنْ بابِ إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ وهو مجازٌ سائغٌ.
قوله: {ثُمَّ استقاموا} : ثم لتراخي الرتبة في الفضيلة.
قوله: {أَلَاّ تَخَافُواْ} : يجوزُ في «أَنْ» أن تكونَ المخففةَ، أو المفسِّرةَ، أو الناصبةَ. و «لا» ناهيةٌ على الوجهين الأوَّلين، ونافيةٌ على الثالث. وقد تقدَّم ما في ذلك من الإِشكالِ، والتقديرُ: بأنْ لا تَخافوا أي: بانتفاءِ الخَوْفِ. وقال أبو البقاء: «التقديرُ بأَنْ لا تَخافوا، أو قائلين: أن
لا تخافوا، فعلى الأولِ هو حالٌ أي: نَزَلوا بقولِهم: لا تخافوا، وعلى الثاني الحالُ محذوفةٌ» . قلت يعني أنَّ الباءَ المقدرةَ حاليةٌ، فالحالُ غيرُ محذوفةٍ، وعلى الثاني الحالُ هو القولُ المقدَّر. وفيه تسامحٌ، وإلَاّ فالحالُ محذوفةٌ في الموضعَيْن، وكما قام المقولُ مَقامَ الحالِ كذلك قام الجارُّ مَقامَها.
وقرأ عبدُ الله «لا تَخافوا» بإسقاط «أنْ» ، وذلك على إضمارِ القول أي: يقولون: لا تَخافوا.
قوله: {نُزُلاً} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ، أو من عائدِه. والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل، كأنه قيل: ولكم فيها الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا. الثاني: أنَّه حالٌ مِنْ فاعل «تَدَّعُوْن» ، أو من الضمير في «لكم» على أَنْ يكونَ «نُزُلاً» جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر، وشارِف وشُرُف. الثالث: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل النزولُ لا النُّزُل. وقيل: هو مصدرُ أَنْزَل.
قوله: «مِنْ غَفَورٍ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «نُزُلاً» ، وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون، أي: تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في «لكم» من الاستقرارِ أي: استقرَّ لكم مِنْ جهةِ غفورٍ رحيم. قال أبو البقاء: «فيكونُ حالاً مِنْ» ما «. قلت: وهذا البناءُ منه ليس بواضحٍ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ، وليس حالاً مِنْ» ما «.
قوله: {وَقَالَ إِنَّنِي} : العامَّةُ على «إنني» بنونين، وابن أبي عبلةَ وابنُ نوح بنونٍ واحدةٍ.
قوله: {وَلَا السيئة} : في «لا» هذه وجهان، أحدهما، أنها زائدةٌ للتوكيدِ، كقوله:{وَلَا الظل وَلَا الحرور} [فاطر: 21] وكقوله: {وَلَا المسياء} [غافر: 58] ؛ لأنَّ «استوى» لا يكتفي بواحدٍ. والثاني: أنها مؤسِّسَةٌ غيرُ مؤكِّدةٍ، إذ المرادُ بالحسنةِ والسَّيئةِ الجنسُ أي: لا تَسْتوي الحسناتُ في أنفسِها، فإنها متفاوتةٌ ولا تستوي السيئاتُ أيضاً فرُبَّ واحدةٍ أعظمُ مِنْ أخرى، وهو مأخوذٌ من كلامِ الزمخشري. وقال الشيخُ:«فإنْ أَخَذْتَ الحسنةَ والسيئةَ جنساً لم تكنْ زيادتُها كزيادتِها في الوجهِ الذي قبلَ هذا» . قلت: فقد جَعَلها في المعنى الثاني زائدةً. وفيه نظرٌ لِما تَقَدَّم.
قوله: «كأنَّه وليٌّ» في هذه الجملةِ التشبيهيةِ وجهان، أحدُهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحال، والموصولُ مبتدأٌ، و «إذا» التي للمفاجأةِ خبرُه. والعاملُ في هذا الظرفِ من الاستقرارِ هو العاملُ في هذه الحالِ، ومَحَطُّ الفائدةِ في هذا الكلامِ هي الحالُ، والتقدير: فبالحضرة المُعادي مُشْبِهاً القريبَ الشَّفوقَ. والثاني: أن الموصولَ مبتدأٌ أيضاً، والجملةُ بعده خبرُه، و «إذا» معمولةٌ لمعنى التشبيه، والظرفُ يتقدَّمُ على عامِله المعنويِّ. هذا إن قيل: إنها ظرفٌ، وإن قيل: إنها حرف فلا عاملَ.
قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا} : العامَّةُ على «يُلَقَّاها» من
التَلْقِيَةِ. وابنُ كثيرٍ في روايةٍ وطلحة بن مصرف «يُلاقاها» مِن الملاقاةِ والضميرُ للخَصْلَة، أو الكلمةِ أو الجنةِ أو لشهادةِ التوحيدِ.
قوله: {خَلَقَهُنَّ} : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: / أنه يعودُ على الأربعةِ المتعاطفةِ. وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو: «الأقلامُ بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ» . وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الإِناثِ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال: الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ، والجذوعُ كَسَرْتُها. والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد. قلت: والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح والأفصح، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ، أو لمَّا قال:«ومِنْ آياته» كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل: خلقهنَّ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً أنه يعود على لفظ الآياتِ. الثالث: أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين جمعٌ، والجمعُ مؤنثٌ، ولقولهم: شموس وأقمار.
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} : في خبرها ستةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مذكورٌ وهو قولُه: «أولئك ينادَوْن» . وقد سُئِل بلال بن أبي بردة عن ذلك في مَحْكِيَّتِه فقال: لا أجدُ لها نفاذاً. فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنَّه منك لقَريبٌ، أولئك ينادَوْن. وقد اسْتُبْعِدَ هذا من وجهَيْن، أحدُهما: كثرةُ الفواصلِ. والثاني: تقدُّمُ مَنْ تَصِحُّ الإِشارةُ إليه بقوله: «أولئك» ، وهو قولُه:{والذين لَا يُؤْمِنُونَ} ، واسمُ الإِشارةِ يعودُ على أقربِ مذكورٍ.
والثاني: أنه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى وقُدِّر: مُعَذَّبون، أو مُهْلَكون، أو معانِدون. وقال الكسائي:«سَدَّ مَسَدَّه ما تقدَّم من الكلامِ قبلَ» إنَّ «وهو قولُه: {أَفَمَن يلقى فِي النار} . قلت: يعني في الدلالةِ عليه والتقديرُ: يُخَلَّدون في النارِ. وسأل عيسى بن عمر عمرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال: معناه في التفسير: إنَّ الذين كفروا بالذكْرِ لَمَّا جاءهم كفروا به. فقدَّر الخبرَ مِنْ جنسِ الصلةِ. وفيه نظرٌ؛ من حيث اتحادُ الخبرِ والمخبرِ عنه في المعنى من غيرِ زيادةِ فائدةٍ نحو:» سيدُ الجاريةِ مالكُها «.
الثالث: أنَّ» الذين «الثانيةَ بدلٌ مِنْ» إنَّ الذين «الأولى، والمحكومُ به على البدلِ محكومٌ به على المبدلِ منه فيلزَمُ أَنْ يكونَ الخبرُ {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} . وهو منتزَعٌ من كلامِ الزمخشري.
الرابع: أنَّ الخبرَ قولُه: {لَاّ يَأْتِيهِ الباطل} والعائدُ محذوفٌ تقديره: لا يأتيه الباطلُ منهم نحو: السَّمْنُ مَنَوان بدرهم أي: مَنَوان منه. أو تكون أل عوضاً من
الضمير في رأيِ الكوفيين تقديرُه: إنَّ الذين كفروا بالذِّكر لا يأتيه باطلُهم.
الخامسُ: أنَّ الخبرَ قولُه: {مَّا يُقَالُ لَكَ} ، والعائدُ محذوفٌ أيضاً تقديرُه: إنَّ الذين كفروا بالذكرِ ما يُقال لك في شَأنِهم إلَاّ ما قد قيل للرسلِ مِنْ قبلِك. وهذان الوجهان ذهب إليهما الشيخُ.
السادس: ذهب إليه بعضُ الكوفيين أنه قولُه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} وهذا غيرُ متعقَّلٍ.
والجملةُ مِنْ قوله:» وإنَّه لكتابٌ «حاليةٌ، و {لَاّ يَأْتِيهِ الباطل} صفةٌ ل» كتاب «. و» تنزيلٌ «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو صفةٌ ل» كتابٌ «على أنَّ» لا يأتيه «معترِضٌ أو صفةٌ كما تقدَّم على رأي مَنْ يجوِّزُ تقديمَ غيرِ الصريح من الصفاتِ على الصريح. وتقدَّم تحقيقُه في المائدة. و» مِنْ حكيمٍ «صفةٌ ل» تَنْزيلٌ «أو متعلقٌ به. و» الباطلُ «اسمُ فاعلٍ. وقيل: مصدرٌ كالعافية والعاقبة.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} : قيل: هو مُفَسِّر للمقولِ كأنه قيل: قيل للرسل: إنَّ ربَّك لَذو/. وقيل: هو مستأنفٌ.
قوله: {ءَاعْجَمِيٌّ} : قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة، وهشام بإسقاطِ الأولى. والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ. وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه مِنْ قولِه:«أأنذَرْتَهم» في أولِ هذا الموضوع. فمَنْ استفَهْم
قال: معناه أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ. وقيل: ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ. وقيل: معناه أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ. ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى. وفيه توافُقُ القراءتين. إلَاّ أنَّ ذلك لا يجوز عند الجمهور، إلَاّ إنْ كان في الكلام «أم» نحو:
3960 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان
فإنْ لم تكنْ «أم» لم يَجُزْ إلَاّ عند الأخفش. وتقدَّم ما فيه، ويحتمل أَنْ يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه: هَلَاّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها أعجمياً تفهمُه العجمُ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ.
والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ، وإن كان مِنَ العرب، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ ودَوَّاريّ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً. وقال الرازيُّ في لوامحه:«فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ» . وفَرَّق الشيخُ بينهما فقال: «وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها بخلافِ ياء» أعجميّ «فإنهم يقولون: رجل أَعْجم وأعْجميّ» .
وقرأ عمرو بن ميمون «أَعَجَمِيٌّ» بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم،
والياءُ فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال: رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً. وقد تقدَّم الكلامُ في الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء.
وفي رفع «أَعْجميّ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مبتدأٌ، والخبرُ محذوف تقديرُه، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: هو، أي: القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ. والثالث: أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي: أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ. وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلَاّ في مواضعَ بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ.
قوله: {والذين لَا يُؤْمِنُونَ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ يكونَ مبتدأً، و «في آذانِهم» خبرُه و «وَقْرٌ» فاعلٌ، أو «في آذانهم» خبرٌ مقدم «ووقرٌ» مبتدأٌ مؤخر، والجملةُ خبرُ الأول. الثاني: أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ مضمرٍ. والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ: والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ وَعَمَىً عليهم. قال معناه الزمخشري. ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ بدونه. الثالث: أن يكونَ {الذين لَا يُؤْمِنُونَ} عطفاً على «الذين آمنوا» ، و «وَقْرٌ» عطفٌ على «هدىً» وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ. وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها.
قوله: «عَمَىً» العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى نحو: صَدِي يَصْدَى صَدَىً، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً.
وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة «عَمٍ» بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً وُصِفَ بذلك
مجازاً. وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس «عَمِيَ» بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً. وفي الضمير وجهان أظهرُهما: أنه للقرآن. والثاني: أنه للوَقْر والمعنى يأباه، و «في آذانهم» - إنْ لم تجعَلْه خبراً - متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به، لأنَّه مصدرٌ، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله:{وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} كذلك في قراءة العامَّةِ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق «على» بما بعده؛ إذ ليس بمصدرٍ.
قوله: {فَلِنَفْسِهِ} : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ مقدر أي: فلنفسِه عملُه، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: فالعملُ الصالحُ لنفسِه. وقوله «فعليها» مثلُه. /
قوله: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ} : «ما» هذه يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً وهو الظاهرُ، وأَنْ تكونَ موصولةً، جَوَّز ذلك أبو البقاء، ولم يُبَيِّنْ وجهَه. وبيانُه أنها تكونُ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على الساعة أي: عِلْمُ الساعةِ وعِلْمُ التي تخرج، و «مِنْ ثمرات» على هذا حالٌ، أو تكون «مِنْ» للبيان. و «مِنْ» الثانية لابتداء الغاية. وأما «ما» الثانيةُ فنافيةٌ فقط. قال أبو البقاء:«لأنَّه عَطَفَ عليها» ولا تَضَعُ «، ثم نقض النفيَ ب» إلَاّ «، ولو كانَتْ بمعنى الذي معطوفةً على» الساعة «لم يَجُز ذلك» .
وقرأ نافع وابن عامر «ثمرات» ويُقَوِّيه أنها رُسِمَتْ بالتاءِ الممطوطة.
والباقون «ثمرة» بالإِفرادِ والمرادُ بها الجنسُ. فإنْ كانَتْ «ما» نافيةً كانَتْ «مِنْ» مزيدةً في الفاعلِ، وإنْ كانَتْ موصولةً كانت للبيانِ كما تقدَّم.
والأَكْمام: جمع كِمّ بكسرِ الكاف، كذا ضبطه الزمخشري، وهو ما يُغَطِّي الثمرةَ كجُفِّ الطَّلْعِ. وقال الراغب:«الكمُّ ما يُغَطِّي اليدَ من القميصِ، وما يغطي الثمرة، وجمعُه أكْمام فهذا يدلُّ على أنه مضموم الكاف، إذ جعله مشتركاً بين كُمِّ القيمصِ وكمِّ الثمرةِ. ولا خلافَ في كُمِّ القميصِ أنه بالضم، فيجوزُ أَنْ يكونَ في وعاءِ الثمرةِ لغتان، دون كُمِّ القميصِ، جمعاً بين قولَيْهما. وأمَّا أَكِمَّة فواحدُه كِمام كأَزِمَّة وزِمام. وفتح ابن كثير ياءَ» شُركائيَ «.
قوله: {مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} هذه الجملةُ المنفيةُ معلِّقَةٌ ل» آذنَّاك «لأنها بمعنى أَعْلَمْناك قال:
3961 -
آذَنَتْنا ببَيْنِها أسماءُ
…
رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ منه الثَّواءُ
وتقدَّم لنا خلافٌ في تعليقِ أعلم. . .، والصحيحُ وقوعُه سماعاً من العربِ. وجَوَّز أبو حاتمٍ أَنْ يوقف على» آذنَّاك «وعلى» ظنُّوا «ويُبتدأَ بالنفي
بعدَهما على سبيلِ الاستئناف. و» مِنَّا «خبرٌ مقدمٌ. و» مِنْ شهيد «مبتدأٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ» مِنْ شهيد «فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي.
قوله: {مِن دُعَآءِ الخير} : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، وفاعلُه محذوفٌ أي هو. وقرأ عبد الله «مِن دُعَآءِ بالخير» .
قوله: {لَيَقُولَنَّ هذا لِي} : جوابُ القسمِ لسَبْقِهِ الشرطَ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ، كما عُرِف تقريرُه. وقال أبو البقاء:«ليقولَنَّ» جوابُ الشرطِ، والفاءُ محذوفةٌ «. قلت: وهذا لا يجوزُ إلَاّ في شعرٍ كقولِه:
3962 -
مَنْ يَفْعلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حتى إنَّ المبردَ يمنعُه في الشعر. ويَرْوي البيت:» فالرحمن يشكرُه «.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} : قد تقدَّم الكلامُ عليها مراراً. ومفعولُها الأولُ هنا محذوفٌ تقديرُه: أرأيتم أنفسَكم، والثاني: هو الجملةُ الاستفهامية.
والآفاق جمع أُفُق وهو الناحيةُ. قال الشاعر:
3963 -
لو نالَ حيٌّ مِن الدنيا بمنزلةٍ
…
أفْقَ السماءِ لنالَتْ كفُّه الأُفُقا
وهو كأَعْناق في عُنُق، أُبْدِلَتْ همزتُه ألفاً. ونقل الراغب أنه يقال: أَفَق بفتحِ الهمزةِ والفاءِ، فيكون ك جَبَل وأَجْبال. وآفَقَ فلانٌ أي: ذهب في الآفاقِ. والآفِقُ: الذي بلغ نهايةَ الكرم تشبيهاً في ذلك بالذاهبِ في الآفاقِ. والنسَبُ إلى الأُفُقِ أَفَقيٌّ بفتحهما قلت: ويُحتمل أنه نسبه إلى المفتوح واسْتَغنوا بذلك عن النسبة إلى المضمومِ. وله نظائر.
قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} فيه وجهان، أحدهما: أن الباءَ مزيدةٌ في الفاعلِ، وهذا هو الراجحُ. والمفعولُ محذوفٌ أي: أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ. وفي قوله: {أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ مِنْ «بربك» فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه. والثاني: أنَّ الأصلَ بأنَّه، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ. الثاني من الوجهين الأولين: أَنْ يكون «بربك» هو المفعولَ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي: أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه. وقُرئ {أَنَّهُ على كُلِّ} بالكسر، وهو على إضمارِ القولِ، أو على الاستئناف.
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن «في مُرْيَة» بضم الميم، وقد تقدم أنَّها لغةٌ في المكسورةِ الميم. والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: {كَذَلِكَ يوحي} : القُراء على «يُوْحي» بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. «والعزيزُ الحكيمُ» نعتان. والكافُ منصوبةُ المحلِّ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي: يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ. وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - «يُوْحَى» بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول. وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: ضميرٌ مستترٌ يعود على «كذلك» لأنه مبتدأٌ، والتقدير: مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك. فمثلُ ذلك مبتدأٌ، ويُوْحى هو إليك خبرُه. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ «إليك» ، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن. الثالث: أنَّ القائمَ [مَقامَه] الجملةُ مِنْ قولِه: «اللَّهُ العزيزُ» أي: يُوْحَى إليك هذا اللفظُ. وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه.
وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ «نُوْحي» بالنون، وهي موافقةٌ للعامَّةِ. ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه:«اللَّهُ العزيزُ» منصوبةَ المحلِّ مفعولةً
ب «نُوْحي» أي: نُوحي إليك هذا اللفظَ. إلَاّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ. و «نُوْحي» على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ أو الاستقبالِ، فيتعلَّقَ قولُه:{وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك، تقديرُه: وأوحَى إلى الذين، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي. وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ.
قوله: «اللَّهُ العزيزُ» يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير، كأنه قيل: مَنْ يُوْحيه؟ فقيل: اللَّه، ك {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] ، وقوله:
3964 -
لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ. . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد مرَّ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ، وما بعدَه خبرُه، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ، وأَنْ يكون «العزيزُ الحكيمُ» خبَريْن أو نعتَيْن. والجملةُ مِنْ قولِه:{لَهُ مَا فِي السماوات} خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في «العزيزُ الحكيمُ» .
وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ «العزيز» مبتدأً و «الحكيمُ» خبرَه، أو نعتَه، و {لَهُ مَا فِي السماوات} خبرَه. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة. وأنت إذا قلتَ:«جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ» لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء.
قوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ} : قد مَرَّ في مريم الخلافُ والكلامُ فيه مُشْبَعاً. إلَاّ أنَّ الزمخشريَّ زاد هنا: «وروِيَ عن يونسَ عن أبي عمروٍ قراءةٌ غريبةٌ» تَتَفَطَّرْنَ «بتاءَيْن مع النونِ، ونظيرُهما حرفٌ نادرٌ رُوي في نوادر ابنِ الأعرابي:» الإِبلُ تَتَشَمَّمْن «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ هذا وهمٌ منه؛ لأنَّ ابن خالويه قال في «شاذِّ القراءاتِ» ما نَصُّه: «تَنْفَطِرْنَ» بالتاء والنون، يونس عن أبي عمروٍ «قال ابنُ خالَوَيْه:» وهذا حرفٌ نادرٌ لأنَّ العربَ لا تجمعُ بين علامَتَيْ التأنيثِ. لا يقال: النساءُ تَقُمْنَ، ولكن يَقُمْنَ، {والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] ولا يقال: تُرْضَعْنَ. وقد كان أبو عُمَرَ الزاهدُ رَوَى في نوادرِ ابن الأعرابي: «الإِبلُ تَتشمَّمْن» فأنكَرْنَاه، فقد قَوَّاه الآن هذا «. قال الشيخ:» فإنْ كانَتْ نُسَخُ الزمخشريِّ متفقةً على قولِه: «بتاءَيْن مع النون» فهو وهمٌ، وإنْ كان في بعضها «بتاءٍ مع النونِ» كان موافقاً لقولِ ابن خالَوَيْهِ، وكان «بتاءَيْن» تحريفاً من النَّساخ. وكذلك كَتْبُهُم «تَتَفَطَّرْن» و «تَتَشَمَّمْنَ» بتاءَيْن «انتهى.
قلت: كيف يَسْتقيم أَنْ يكونَ كتْبُهم تَتَشَمَّمْن بتاءَيْن وهماً؟ وذلك لأنَّ ابنَ خالَوَيْهِ أورَدَه في مَعْرِضِ النُّدْرَةِ والإِنكارِ، حتى تَقَوَّى عنده بهذه القراءةِ، وإنما يكون نادراً مُنْكَراً بتاءَيْن فإنه حينئذٍ يكونُ مضارِعاً مُسْنَداً لضمير الإِبلِ، فكان مِنْ حَقِّه أَنْ يكونَ حرفُ مضارَعَتِه ياءً منقوطةً مِنْ أسفلَ نحو:» النساءُ
يَقُمْنَ «فكان يَنْبغي أَنْ يقال: الإِبلُ يَتَشَمَّمْنَ بالياء مِنْ تحتُ ثم بالتاءِ مِنْ فوقُ، فلمَّا جاء بتاءَيْن كلاهما مِنْ فوقُ ظهرَ ندورُه وإنكارُه. ولو كان على ما قال الشيخُ: إنَّ كَتْبَهم بتاءَيْن وهمٌ، بل كان ينبغي كَتْبُه بتاءٍ واحدةٍ لَما كان فيه شذوذٌ/ ولا إنكارٌ؛ لأنه نظيرُ» النسوةُ قد خَرَجْنَ «فإنَّه ماضٍ مسندٌ لضميرِ الإِناثِ، وكذا لو كُتِب بياءٍ مِنْ تحتُ وتاءٍ مِنْ فوقُ لم يكنْ فيه شذوذٌ ولا إنكارٌ، وإنما يجيْءُ الشذوذُ والإِنكارُ إذا كان بتاءَيْنِ منقوطتَيْن مِنْ فوقُ، ثم إنَّه سواءٌ قُرِئَ» تَتَفَطَّرْنَ «بتاءَيْن أو بتاءٍ ونونٍ فإنه نادرٌ كما ذَكَرَ ابنُ خالوَيْه، وهذه القراءةُ لم يُقْرَأ بها في نظيرتِها في سورةِ مريم.
قوله:» مِنْ فَوْقِهِنَّ «في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على السماوات أي: يَبْتَدِئُ انفطارُهُنَّ مِنْ هذه الجهةِ ف» مِنْ «لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بما قبلَها. الثاني: أنه [عائد] على الأرضين لتقدُّم ذِكْرِ الأرضِ قبلَ ذلك. الثالث: أنه يعودُ على فِرَقِ الكفَّارِ والجماعاتِ المُلْحِدين، قاله الأخفش الصغير، وأنكره مكي، وقال:» لا يجوزُ ذلك في الذكور مِنْ بني آدم «. وهذا لا يُلْزِمُ الأخفشَ فإنَّه قال: على الفِرَقِ والجماعات، فراعى ذلك المعنى.
قوله: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} : فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولُ «أَوْحَيْنا» ، والكافُ للمصدرِ نعتاً أو حالاً. والثاني: أنَّه حالٌ من الكافِ، والكافُ هي المفعولُ ل «أَوْحَيْنا» أي: أَوْحَيْنا مثلَ ذلك الإِيحاءِ، وهو قرآنٌ عربيٌّ. وإليه نحا الزمخشريُّ، وكونُ الكافِ اسماً في النَّثْر مذهبُ الأخفش.
قوله: «ومَنْ حَوْلها» عطفٌ على «أهل» المقدرِ قبل «أمَّ القرى» أي: لِتُنْذِرَ أهلَ أمِّ القرى ومَنْ حَوْلَها. والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي: العذابَ. وقُرِئَ «لِيُنْذِرَ» بالياءِ مِنْ تحتُ أي: القرآن. وقولُه: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} هو المفعولُ الثاني. والأولُ محذوفٌ أي: وتُنْذِرَ الناسَ عذابَ يومِ الجمع، فحذفَ المفعولَ الأولَ من الإِنذار الثاني، كما حَذَفَ المفعولَ الثاني مِنْ الإِنذار الأولِ.
قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} إخبارٌ فهو مستأنَفٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «يومَ الجمع» ، وجعلَه الزمخشريُّ اعتراضاً وهو غيرُ ظاهرٍ صناعةً؛ إذ لم يَقَعْ بين متلازِمَيْنِ.
قوله: «فَرِيقٌ» العامَّةُ على رَفْعِه بأحدِ وجهَيْنِ: إمَّا الابتداءِ، وخبرُه الجارُّ بعدَه. وساغ هذا في النكرةِ لأنَّه مَقامُ تفصيلٍ كقولِه:
3965 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
فثوبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أَجُرّْ
ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ مقدراً، تقديرُه: منهم فريقٌ. وساغ الابتداءُ بالنكرةِ لشيْئَيْنِ: تقديمِ خبرِها جارًّا ومجروراً، ووَصْفِها بالجارِّ بعدَها. والثاني: أنه خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هم، أي: المجموعون دَلَّ على ذلك قولُه: «يومَ الجَمْعِ» .
وقرأ زيدُ بن علي «فريقاً، وفريقاً» نصباً على الحال مِنْ جملةٍ محذوفةٍ
أي: افترقوا أي: المجموعون. وقال مكي: «وأجاز الكسائيُّ والفراءُ النصبَ في الكلام في» فريقاً «على معنى: تُنْذِرُ فريقاً في الجنة وفريقاً في السَّعير يومَ الجمع» . قلت: قد تقدَّم أنَّ زيدَ بن علي قرأ بذلك، فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ؛ بل ظاهرُ نَقْلِه عن هذَيْن الإِمامَيْن أنهما لَم يَطَّلعا عليها، وجَعَل «فريقاً» مفعولاً أولَ ل «تُنْذِرَ» و «يومَ الجَمْعِ» مفعولاً ثانياً. وفي ظاهرِه إشكالٌ: وهو أنَّ الإِنذارَ لا يقعُ للفريقَيْنِ، وهما في الجنة، وفي السَّعير، إنَّما يكونُ الإِنذارُ قبل استقرارِهما فيهما. ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه: بأنَّ المرادَ مَنْ هو مِنْ أهلِ الجنة ومِنْ أهلِ السَّعير، وإنْ لم يكنْ حاصلاً فيهما وقتَ الإِنذارِ، و «في الجنة» صفةٌ ل «فَريقاً» أو متعلِّقٌ بذلك المحذوفِ.
قوله: {أَمِ اتخذوا} : هذه «أم» المنقطعةُ تتقَدَّر ب بل التي للانتقالِ وبهمزةِ الإِنكارِ، أو بالهمزةِ فقط، أو ب بل فقط.
قوله: {فالله هُوَ الولي} . الفاءُ عاطفةٌ ما بعدَها على ما قبلَها. وجعلها الزمخشريُّ جوابَ شرطٍ مقدرٍ. كأنَّه قيل: إنْ أرادوا أولياءَ بحقٍ فاللَّهُ هو الوليُّ.
قوله: {فَاطِرُ} : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل «ذلكم» أو نعتاً ل «ربِّي» على تَمَحُّضِ إضافتِه. و «عليه توكَّلْتُ» معترضٌ على هذا، أو مبتدأ، وخبرُه «جَعَلَ لكم» أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو. وزيد بن علي: «
فاطرِ» بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله: «إلى اللَّهِ» ، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في «عليه» أو «إليه» .
وقال مكيٌّ: «وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء» . وقال غيرُه: على المدح. ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في «عليه» . قلت: قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي. وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً.
قوله: «يَذْرَؤُكُمْ فيه» يجوزُ أَنْ تكونَ «في» على بابِها. والمعنى: يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ. والضميرُ في «يَذرَؤُكم» للمخاطبين والأنعامِ. وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ. قال الزمخشري:«وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن» . قال الشيخ: «وهو اصطلاحٌ غريبٌ، ويعني: أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا» . ثم قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به. قلت: جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ. ألا تَراك تقول: للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . والثاني: أنها للسببية كالباء أي: يُكَثِّرُكم بسبِبه. والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ» .
قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدُها - وهو المشهورُ
عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس، و «شيءٌ» اسمُها. والتقدير: ليس شيءٌ مثلَه. قالوا: ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ. وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف: ليس مثلَ مثلِه شيءٌ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً، لا مثلَ لذلك المَثَلِ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك.
وقال أبو البقاء: «ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ المعنى: أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ. وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ» . قلت: وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ.
والثاني: أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] . قال الطبري: «كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله:
3966 -
وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ
…
وقولِ الآخر:
3967 -
فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ
…
وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ. وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلَاّ في شعرٍ.
الثالث: أنَّ العربَ تقولُ «مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا» يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها. ومنه قول الشاعر:
3968 -
على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه
…
وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا
وقال أوس بن حجر:
3969 -
ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ
…
خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ
وقال آخر:
3970 -
سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ
…
فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة: «العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول: مثلي لا يُقال
له هذا، أي: أنا لا يُقال لي» . قيل: و [نظيرُ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك: فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .
الرابع: أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ، كقولِه تعالى:{مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35] فيكونُ المعنى: ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ.
قوله: {أَنْ أَقِيمُواْ} : يجوز فيها أوجهٌ، أحدُها: أَنْ تكونَ مصدريةً في محلِّ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: هو أَنْ أَقيموا أي: الدينُ المشروعُ توحيدُ الله تعالى. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بدلاً من الموصولِ كأنَّه قيل: شَرَعَ لكم توحيدَ الله تعالى. الثالث: أنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من الدين. الرابع: أنَّها في محلِّ جَرٍّ أيضاً بدلاً من الهاء. الخامس: أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً؛ لأنها قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول.
قوله: {أُورِثُواْ} : قرأ زيد بن علي «وُرِّثوا» بالتشديد [مِنْ] وُرِّثَ مبنياً للمفعول.
قوله: {فَلِذَلِكَ فادع} : في اللامِ وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ بمعنى إلى. والثاني: أنها للعلةِ أي: لأجلِ التفرُّقِ والاختلافِ ادْعُ للدِّين القيِّمِ.
قوله: «وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ» يجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ: وأُمِرْت بذلك لأَعْدِلَ. وقيل: وأُمرت أَنْ أَعْدِلَ، فاللامُ مزيدةٌ. وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّك بعد زيادةِ اللام تحتاج إلى تقديرِ حرفِ جر أي: بأَنْ أَعْدِلَ.
قوله: {والذين يُحَآجُّونَ} : مبتدأٌ و «حُجَّتُهم» مبتدأٌ ثانٍ، و «داحِضَةٌ» خبرُ الثاني، والثاني وخبرُه خبرٌ عن الأول. وأعربَ مكيٌّ «حُجَّتُهم» بدلاً/ من الموصول بدلَ اشتمال. والهاءُ في «له» تعودُ على الله أو على الرسول عليه السلام أي: مِنْ بعدِ ما استجاب الناسُ لله تعالى، أو مِنْ بعدِما استجاب اللَّهُ لرسولِه حين دعا على قومِه.
قوله: {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} : إنما ذَكَّر «قَريب» وإنْ كان صفةً لمؤنث لأنَّ الساعةَ في معنى الوقتِ، أو البعثِ، أو على معنى النَّسب أي: ذاتُ قُرْب، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: مجيء الساعةِ. وقيل: للفرق: بينها وبين قرابةِ النسَبِ. وقيل: لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ، نقله مكي، وليس بشيءٍ؛ إذ لا يجوز: الشمسُ طالعٌ ولا القِدْرُ فائرٌ. وجملةُ الترجِّي أو الإِشفاقِ مُعَلِّقَةٌ للدرايةِ. وتقدَّم مثلُه آخرَ الأنبياء.
قوله: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} : قد تَقَدَّم أنَّ كَوْنَ الشرطِ ماضياً والجزاءِ مضارعاً مجزوماً لا يختَصُّ مجيْئُه ب «كان» خلافاً لأبي الحكم مصنِّفِ «كتابِ الإِعراب» فإنَّه قال: «لا يجوز ذلك إلَاّ مع» كان «إلَاّ في ضرورةِ
شعرٍ» . وأطلق النَّحْويون جوازَ ذلك، وأنشدوا بيتَ الفرزدق:
3971 -
دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدِرُوا
…
عليك يَشْفُوا صدوراً ذاتَ تَوْغيرِ
وقولَه أيضاً:
3972 -
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني لا تَخُونني
…
نكنْ مِثْلَ مَنْ يا ذئبُ يصْطَحِبان
وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب «يَزِدْ» و «يُؤْتِه» بالياء مِنْ تحتُ أي: الله تعالى. وقرأ سلام «نُؤْتِهُ» بضمِّ هاءِ الكناية وهو الأصلُ، وهي لغةُ الحجاز. وتقدَّمَ خلافُ القُرَّاءِ في ذلك.
قوله: {شَرَعُواْ لَهُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ المرفوع عائداً على الشركاء، والمجرورُ على الكفار. ويجوز العكسُ؛ لأنَّهم جَعَلوا لهم أنْصِباءَ.
قوله: «وإنَّ الظالمين» العامَّةُ بالكسر على الاستئناف. ومسلم ابن جندب والأعرج بفتحِها عطفاً على «كلمةُ» ، وفَصَلَ بين المتعاطفَيْن بجوابِ «لولا» تقديرُه: ولولا كلمةٌ واستقرارُ الظالمين في العذاب لقُضِيَ، وهو نظيرُ:{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} [طه: 129] .
قوله: {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} : أي: والإِشفاقُ أو والعذاب. و «روضاتُ الجنَّات» : قال الشيخ: «واللغةُ الكثيرةُ تسكينُ الواوِ، ولغةُ هُذَيْلٍ فَتْحُ الواو، إجراءً لها مُجْرى الصحيح نحو: جَفَنات، ولم يقرأ أحد فيما عَلِمْناه بلغتِهم» . قلت: إن عَنى لم يَقْرأ أحدٌ بلغتهم في هذا البابِ من حيث هو هو فليس كذلك؛ لأني قد قَدَّمْتُ لك في سورة النور أنَّ الأعمشَ قرأ {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ} [النور: 58] بفتحِ الواو. وإنْ عنى أنَّه لم يُقْرأ في «رَوْضات» بخصوصِها - وليس بظاهرِ عبارته - فيُحْتمل ذلك.
قوله: «عندَ رَبِّهم» يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل «يَشاؤُون» قاله الحوفي، أو للاستقرارِ العاملِ في «لهم» قاله الزمخشريُّ، والعِنْدِيَّةُ مجازٌ.
قوله: {يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} : كقولِه: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] وقد تقدَّم تحقيقُه، وتقدَّمَتِ القراءاتُ في «يُبَشِّر» . وقرأ مجاهد وحميد بن قيس «يُبْشِرُ» بضمِّ الياءِ وسكونِ الباءِ وكسرِ الشينِ مِنْ أَبْشَر منقولاً مِنْ بَشِر بالكسر، لا مِنْ بَشَر بالفتح، لأنه متعدٍّ. والتشديدُ في «بَشَّر» للتكثيرِ لا للتعديةِ؛ لأنه متعدٍّ بدونها. ونقل الشيخ قراءةَ «يَبْشُرُ» بفتح الياء وضم الشين عن حمزةَ والكسائي من السبعة، ولم يذكرْ غيرَهما من السبعةِ، وقد وافَقَهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو. و «ذلك» مبتدأٌ والموصولُ بعده خبرُه،
وعائدُه محذوفٌ على التدريجِ المذكورِ في قولِه: {كالذي خاضوا} أي: يُبَشِّرُ به، ثم يُبَشِّره على الاتِّساع. وأمَّا على رأي يونسَ فلا تحتاج إلى عائدٍ لأنها عنده مصدريَّةٌ، وهو قول الفراء أيضاً. أي: ذلك تبشيرُ اللَّهِ عبادَه. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما أَعَدَّه الله لهم من الكرامة.
وقال الزمخشري: «أو ذلك التبشيرَ الذي يُبَشِّره اللَّهُ عبادَه» . قال الشيخ: «وليس بظاهرٍ؛ إذ لم يتقدَّمْ في هذه السورةِ لفظُ البُشْرى، ولا ما يَدُلُّ عليها مِنْ بَشَّر أو شبهِه» .
قوله «إلَاّ المودَّةَ» فيها قولان، أحدهما: أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ. والثاني: أنه متصلٌ أي: لا أسألُكم عليه أجراً إلَاّ هذا. وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ، قاله الزمخشري. وقال أيضاً:«فإنْ قلت: هلَاّ قيل: إلَاّ مودةَ القُرْبَى، أو إلَاّ المودةَ للقُرْبى. قلت: جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك: لي في آل فلان مَوَدَّة، وليست» في «صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ: إلَاّ المودةَ للقربى، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك:» المالُ في الكيس «، وتقديرُه: إلَاّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً
فيها» . قلت: وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال: أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها. فكتب: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان أوسطَ الناسِ في قريش، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلَاّ قد وَلَدَه، فقال الله تعالى: قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلَاّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني.
وقال أبو البقاء: «وقيل: متصلٌ أي/: لا أسألكم شيئاً إلَاّ المودةَ» . قلت: وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر، نظرٌ لمجيئه ب «شيء» الذي هو عامٌّ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلَاّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر، ألا ترى إلى قولِك:«ما جاءني أحدٌ إلَاّ حمارٌ» أنه يَصِحُّ: ما جاءني شيءٌ إلَاّ حماراً.
وقرأ زيد بن علي «مَوَدَّة» دون ألفٍ ولام.
قوله: {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} العامَّةُ على «نَزِدْ» بالنون للعظمة. وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ «يَزِدْ» بالياءِ مِنْ تحتُ أي: يَزِدِ اللَّهُ. والعامَّةُ على «حُسْناً» بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو: شُكْر. وهو مفعولٌ به. وعبدُ الوارث عن أبي عمرو «حُسْنى» بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى.
قوله: {وَيَمْحُ الله الباطل} : هذا مستأنَفٌ غيرُ داخلٍ في جزاءِ الشرطِ، لأنه تعالى يمحو الباطلَ مطلقاً، وسَقَطت الواوُ منه
لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الدَّرْج، وخَطَّاً حَمْلاً للخط على اللفظِ كما كتبوا {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] عليه ولكن ينبغي أَنْ لا يجوزَ الوقفُ على هذا؛ لأنه إنْ وَقَفَ عليه بالأصلِ، وهو الواوُ، خالَفْنا خطَّ المصحفِ، وإنْ وَقَفْنا بغيرها موافَقَةً للرسمِ خالَفْنا الأصلَ، وقد مَرَّ لك بحثُ مثلِ هذا. وقد مَنَعَ مكي الوقفَ على نحوِ {وَمَن تَقِ السيئات} [غافر: 9] وبابِه.
قوله: «ما تَفْعَلُون» قرأ الأخوَان وحفص «تَفْعلون» بالتاءِ مِنْ فوقُ نظراً إلى قولِه: «عن عبادِه» . والباقون بالخطاب إقبالاً على الناسِ عامَّة.
قوله: {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ فاعلاً أي: يُجيبون ربَّهم إذا دعاهُمْ كقولِه: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} [الأنفال: 24] . واستجابَ كأَجاب. ومنه:
3973 -
وداعٍ دَاع يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى
…
فلم يَسْتَجِبْه عند ذاكَ مُجيبُ
ويجوزُ أَنْ تكونَ السينُ للطلب على بابِها بمعنى: ويُسْتَدْعَى المؤمنون للإِجابة عن ربِّهم بالأعمالِ الصالحة. ويجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ مفعولاً به، والفاعلُ مضمرٌ يعودُ على الله بمعنى: ويُجيب اللَّهُ الذين آمنوا أي: دعاهم. وقيل: ثَمَّ لامٌ مقدرةٌ أي: ويَسْتجيب الله للذين آمنوا فَحَذَفها للعِلْم بها.
قوله: {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} : «ما» مصدريَّةٌ أي: مِنْ قُنوطهم. والعامَّةُ على فتح النون. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسرِها وهي لغةٌ، وعليها قُرِئ «يَقْنَطُ» {لَا تَقْنَطُواْ} [الزمر: 53] بفتحِ النونِ في المتواتر. ولم يُقْرَأ بالكسر في الماضي إلَاّ شاذاً.
قوله: {وَمَا بَثَّ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على «السماواتِ» أو مرفوعتَه عطفاً على «خَلْقُ» على حَذفِ مضافٍ أي: وخَلْقُ ما بَثَّ، قاله الشيخ. وفيه نظر؛ لأنَّه يَؤُول إلى جَرِّه بالإِضافةِ ل خَلْق المقدَّرِ، فلا يُعْدَلُ عنه.
قوله: «فيهما» أي: السماوات والأرض. والسماءُ لا ذَوات فيها فقيل: هو مثلُ قولِه: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} ، [الكهف: 61] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] . وقيل: بل خَلَقَ في السماء مَنْ يَدِبُّ. وقيل: مِن الملائكةِ مَنْ يمشي مع طَيَرانه. وقال الفارسي: «هو على حَذْفِ مضافٍ أي: وما بَثَّ في أحدِهما» وهذا إلغازٌ في الكلام.
قوله: «إذا يَشاء» «إذا» منصوبةٌ ب «جَمْعِهم» لا ب «قديرٌ» . قال أبو
البقاء: «لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى أَنْ يَصيرَ المعنى: وهو على جَمْعِهم قديرٌ إذا يشاء، فتتعلَّقُ القدرةُ بالمشيئةِ وهو مُحالٌ» . قلت: ولا أَدْري ما وجهُ كونِه مُحالاً على مذهبِ أهلِ السُّنة؟ فإنْ كان يقولُ بقولِ المعتزلةِ: وهو أنَّ القدرةَ تتعلَّق بما لم يَشَأ الله يمشي كلامُه، ولكنه مذهبٌ رديْءٌ لا يجوزُ اعتقادُه، ونقول: يجوزُ تعلُّقُ الظرفِ به أيضاً.
قوله: {فَبِمَا} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر «بما» دونَ فاءٍ. والباقون «فبما» بإثباتِها. ف «ما» في القراءةِ الأولى الظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي، والخبر الجارُّ مِنْ قولِه:«بما كَسَبَتْ» . وقال قومٌ منهم أبو البقاء: إنَّها شرطيةٌ حُذِفَتْ منها الفاءُ. قال أبو البقاء: «كقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] . وقولِ الشاعر:
3974 -
مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا ليس مذهبَ الجمهورِ، إنما قال به الأخفشُ وبعضُ البغداديين. وأما الآية ف» إنَّكم لَمُشْرِكون «ليس جواباً للشرط، إنما هو جوابٌ لقَسمٍ مقدرٍ حُذِفَتْ لامُه الموطِّئَةُ قبل أداةِ الشرطِ.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنها فيها شرطيةٌ، ولا يُلْتَفَتُ لقولِ أبي
البقاء:» إنَّه ضعيفٌ «. ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ، والفاءُ داخلةٌ في الخبر تشبيهاً للموصولِ بالشرط، بشروطٍ ذكَرْتُها مُسْتوفاةً في هذا الموضوعِ بحمدِ الله تعالى. وقد وافق نافعٌ وابنُ عامرٍ مصاحفَهما؛ فإنَّ الفاءَ ساقطةٌ من مصاحفِ المدينةِ والشامِ، وكذلك الباقون فإنها ثابتةٌ في مصاحفِ مكةَ والعراقِ.
قوله: {الجوار} : أي: السفنُ الجوارِي. فإن قلت: الصفةُ متى لم تكن خاصَّةً بموصوفِها امتنع حَذْفُ الموصوفِ. لا تقولُ: مررتُ بماشٍ؛ لأنَّ المَشْيَ عامٌّ. وتقول: مررتُ بمهندسٍ وكاتبٍ، والجَرْيُ ليس من الصفاتِ الخاصةِ فما وجهُ ذلك؟ فالجوابُ: / أنَّ قولَه: «في البحر» قرينةٌ دالَّةٌ على الموصوفِ. ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه صفةً غالبةً كالأَبْطَح والأَبْرَق، فَوَلِيَتِ العواملَ دونَ موصوفِها.
و «في البحر» متعلقٌ ب «الجوَاري» إذا لم يَجْرِ مَجْرى الجوامدِ. فإنْ جَرَى مَجْراه كان حالاً منه، وكذا قولُه:«كالأَعْلام» هو حالٌ أي: مُشْبهةً بالأعلام - وهي الجبالُ - كقول الخنساء:
3975 -
وإنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُداةُ به
…
كأنَّه عَلَمٌ في رأسِه نارُ
وسُمِع: هذه الجَوارُ، وركبْتُ الجوارَ، وفي الجوارِ، بالإِعراب على الراءِ تناسياً للمحذوفِ. وقد تقدَّم هذا في قولِه:{وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] في الأعراف.
قوله: {فَيَظْلَلْنَ} : العامَّةُ على فتحِ اللامِ التي هي عينٌ، وهو القياسُ؛ لأنَّ الماضيَ بكسرِها، تقول: ظَلِلْتُ قائماً. وقرأ قتادةُ بكَسْرِها، وهو شاذٌ نحو: حَسِب يَحْسِب وأخواتِه وقد تقدَّمَتْ. . . وقال الزمخشري: «مِنْ ظَلَّ يَظَلُّ ويَظِلُّ، نحو: ضَلَّ يَضَلُّ ويَضِلُّ» . قال الشيخ: «وليس كما ذَكر؛ لأنَّ يَضَلُّ بفتح العين مِنْ ضَلِلْتُ بكسرِها في الماضي، ويَضِلُّ بالكسر مِنْ ضَلَلْتُ بالفتحِ وكلاهما مَقيسٌ» يعني أنَّ كلاً منهما له أصلٌ يَرْجِعُ إليه بخلافِ «ظَلَّ» فإنَّ ماضيَه مكسورُ العينِ فقط.
والنون اسمُها، «ورَواكدَ» خبرُها. ويجوزُ أَنْ تكونَ «ظَلَّ» هنا بمعنى صار؛ لأنَّ المعنى ليس على وقتِ الظُّلول وهو النهارُ فقط، وهو نظيرُ:«أين باتَتْ يدُه» من هذه الحيثيَّةِ. والرُّكودُ: الثبوتُ والاستقرارُ قال:
3976 -
وقد رَكَدَتْ وسطَ السماءِ نجومُها
…
رُكوداً بوادِي الرَّبْرَبِ المتفرِّقِ
قوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} : عطفٌ على «يُسْكِنْ» قال الزمخشري: «لأنَّ المعنى: إنْ يَشَأْ يُسْكِن فيركَدْن. أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ بعَصْفِها» .
قال الشيخ: «ولا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ التقديرَ: أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ؛ لأنَّ
إهْلاكَ السفنِ لا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ بعَصْفِ الريح، بل قد يُهْلِكُها بقَلْعِ لوحٍ أو خَسْفٍ» . قلت: والزمخشريُّ لم يذكُرْ أنَّ ذلك مُتَعَيِّنٌ، وإنما ذَكَرَ شيئاً مناسباً؛ لأنَّ قولَه:«يُسْكِنِ الريحَ» يقابِلُه «يعْصِفْها» فهو في غايةِ الحُسْنِ والطِّباق.
قوله: «ويَعْفُ» العامَّةُ على الجزمِ عطفاً على جزاءِ الشرط. واستشكلَه القُشَيْرِيُّ قال: «لأنَّ المعنَى: إن يَشَأ يُسْكِنِ الريحَ فتبقى تلك السفنُ رواكدَ، أو يُهْلِكْها بذنوبِ أهلها فلا يَحْسنُ عَطْفُ» ويَعْفُ «على هذا؛ لأنَّ المعنى يَصير: إنْ يَشَأْ يَعْفُ، وليس المعنى [على] ذلك بل المعنى: الإِخبارُ عن العفوِ مِنْ غير شرطِ المشيئةِ، فهو عطفٌ على المجزومِ من حيث اللفظُ لا من حيث المعنى. وقد قرأ قومٌ» ويَعْفُو «بالرفع وهي جيدةٌ في المعنى» . قال الشيخ: وما قاله ليس بجيدٍ إذ لم يَفْهَمْ مدلولَ التركيبِ والمعنى، إلَاّ أنَّه تعالى إنْ يَشَأْ أهلك ناساً وأَنْجَى ناساً على طريقِ العَفْوِ عنهم «.
وقرأ الأعمش» ويَعْفُوْ «بالواو. وهي تحتملُ أَنْ يكونَ كالمجزومِ، وثَبَتَتِ الواوُ في الجزمِ كثبوتِ الياء في {مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] . ويُحتمل أَنْ يكونَ الفعلُ مرفوعاً، أخبر تعالى أنَّه يَعْفو عن كثيرٍ من السيئات. وقرأ بعضُ أهلِ المدينة بالنصب، بإضمارِ» أَنْ «بعد الواوِ كنَصْبِه في قولِ النابغة:
3977 -
فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ
…
ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرَامُ
ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عَيْشٍ
…
أجَبَّ الظهرِ ليس له سَنامُ
بنصبِ» ونَأْخُذ «ورفعِه وجَزْمِه. وهذا كما قُرِئ بالأوجه الثلاثة بعد الفاءِ في قولِه تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 284] وقد تقدَّم تقريرُه آخرَ البقرةِ، ويكونُ قد عَطَفَ هذا المصدرَ المؤولَ مِنْ» أَنْ «المضمرةِ والفعلِ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ من الفعلِ قبلَه. تقديرُه: أو يقع إيباقٌ وعَفْوٌ عن كثيرٍ. فقراءةُ النصبِ كقراءة الجزم في المعنى، إلَاّ أنَّ في هذه عَطْفَ مصدرٍ مؤولٍ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ، وفي تَيْكَ عطفَ فعلٍ على مثلِه.
قوله: {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه. والباقون بنصبِه. وقُرِئ بجزمِه أيضاً. فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً، وهو يحتملُ وجهين: الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي: وهو يعلمُ الذين، فالذين على الأول فاعلٌ، وعلى الثاني مفعولٌ. فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: قال الزجَّاج: «على الصَّرْف» . قال: «ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى» . قال: «وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ» ويعلَمْ «مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ المعنى: إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه. ولا يتأتَّى ذلك إلَاّ بإضمار» أنْ «ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم» .
الثاني: قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف. يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ «أنْ» ، وتقدَّم معنى الصرف.
الثالث: قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار «أنْ» ؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول: «ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك» وإنْ شِئْتَ: وأكرمُك، على وأنا أكرِمُك، وإنْ شِئْتَ «وأكرمْك» جزْماً. قال الزمخشري:«وفيه نظرٌ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه» قال: «واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في قوله:» إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ «ضعيفٌ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه:
3978 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا
فهذا لا يجوزُ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه، إلَاّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ، إلَاّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه» . قال الزمخشري: «ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ
الكلامِ ولا وجهِه، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة» .
الرابع: أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه: لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن. ومنه:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} [مريم: 21] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ، ولِتُجْزَى «قاله الزمخشري. قال الشيخ:» ويَبْعُدُ تقديرُه: لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم. وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به «. قلت: بل يَحْسُنُ تقديرُ» لينتقمَ «لأنَّه يعودُ في المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط.
وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: كيف يَصِحُّ المعنى على جزم «ويعلَمْ» ؟ قلت: كأنه قيل: إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور: إهلاكِ قومٍ، ونجاةِ قومٍ، وتحذيرِ آخرين «. وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين.
قوله: {مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم.
قوله: {فَمَآ أُوتِيتُمْ} : «ما» شرطيةٌ. وهي في محلِّ
نصبٍ مفعولاً ثانياً ل «أُوْتِيتم» والأولُ هو ضميرُ المخاطبين قامَ مقامَ الفاعلِ، وإنما قَدَّم الثاني لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ.
قوله: «مِنْ شَيءٍ» بيانٌ ل «ما» الشرطيةِ لِما فيها من الإِبْهام.
قوله: «فمتاعُ» الفاءُ جوابُ الشرطِ، و «متاعُ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: فهو متاع. قوله: {وَمَا عِندَ الله} «ما» موصولةٌ مبتدأةٌ، و «خيرٌ» خبرها، و «الذين» متعلِّقٌ ب «أَبْقَى» .
قوله: {والذين يَجْتَنِبُونَ} : نَسَقٌ على «الذين» الأولى. وقال أبو البقاء: «الذين يَجْتَنبون في موضعِ جرّ بدلاً مِنْ» للذين آمنوا «. ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ بإضمار أعني، أو في موضع رفعٍ على تقدير: هم» . وهذا وهمٌ منه في التلاوةِ كأنه اعتقد أنَّ القرآن {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، والذين يَجْتَنِبُونَ} فبنى عليه ثلاثةَ الأوجهِ بناءً فاسداً.
قوله: «كبائرَ» قرأ الأخوان هنا وفي النجم «كبيرَ الإِثم» بالإِفراد. والباقون «كبائرَ» بالجمع في السورتَيْن. والمفردُ هنا في معنى الجمع، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن.
قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ} هذه «إذا» منصوبةٌ ب «يَغْفِرُون» ، و «يَغْفِرُون» خبرٌ ل «هم» ، والجملةُ بأَسْرِها عطفٌ على الصلة، وهي «يَجْتَنِبون» والتقدير:
والذين يَجْتَنِبون وهم يَغْفِرون، عَطَفَ اسميةً على فعليةٍ. ويجوزُ أَنْ يكون «هم» توكيداً للفاعل في قوله:«غَضِبوا» ، وعلى هذا فيَغْفِرون جوابُ الشرطِ. وقال أبو البقاء:«هم مبتدأٌ ويَغْفِرون الخبرُ، والجملةُ جوابُ إذا» وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه لو كان جواباً ل «إذا» لاقترن بالفاء. تقول: «إذا جاء زيدٌ فعمروٌ منطلق» ولا يجوز: «عمروٌ ينطلق» وقيل: «هم» مرفوع بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره «يَغْفِرون» بعده، ولَمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ولم يَسْتَبْعِدْه الشيخُ. وقال:«ينبغي أَنْ يجوزَ ذلك في مذهبِ سيبويه؛ لأنه أجازَه في الأداةِ الجازمةِ، تقول:» إنْ يَنْطَلِقْ، زيدٌ يَنْطَلِق «تقديرُه: ينطلِقْ زيدٌ ينطلِقْ. ف» ينطلقْ «واقعٌ جواباً، ومع ذلك فَسَّر الفعلَ فكذلك هذا، وأيضاً فذلك/ جائزٌ في فعلِ الشرطِ بعدَها نحو: {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] فليَجُزْ في جوابِها أيضاً» .
قوله: {هُمْ يَنتَصِرُونَ} : كقولِه {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} سواءً ويجيْء فيه ما تقدَّم. إلَاّ أنَّه يزيدُ هنا أنه يجوزُ أَنْ يكونَ «هم» توكيداً للضميرِ المنصوبِ في «أصابَهم» أكَّد بالضميرِ المرفوعِ وليس فيه إلَاّ الفصلُ بين المؤكَّدِ والمؤكِّد بالفاعلِ. والظاهر أنَّه غيرُ ممنوعٍ.
قوله: {وَلَمَنِ انتصر} : هذه لامُ الابتداءِ. وجعلها الحوفي وابنُ عطيَّة للقسم. وليس بجيدٍ إذا جَعَلْنا «مَنْ» شرطيةً كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أَنْ يُجابَ السابِقُ، وهنا لم يُجَبْ إلَاّ الشرطُ. و «مَنْ» يجوزُ أَنْ
تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، والفاءُ في «فأولئك» جواب الشرطِ، وأَنْ تكونَ موصولةً، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما عَرَفْتَ مِنْ شَبَهِ الموصولِ بالشرطِ. و «ظُلْمِه» مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ. وأيَّدها الزمخشريُّ بقراءةِ مَنْ قرأ «بعدما ظُلِمَ» مبنياً للمفعول.
قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} : الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم. فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً ف «إنَّ» جوابُ القسمِ المقدَّر، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه. وإنْ كانَتْ موصولةً كان «إنَّ ذلك» هو الخبرُ. وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ «مَنْ» شرطيةً، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في البيت المشهور:
3979 -
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ. . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي الرابط قولان، أحدُهما: هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ، ويكون حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ، تقديره: إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور والثاني: أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه: لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه، أوله. وقولُه:«ولَمَنْ صَبَرَ» عطفٌ على قولِه: «ولَمَنِ انتصَرَ» . والجملةُ مِنْ قولِه: «إنما السبيلُ» اعتراضٌ.
قوله: {يُعْرَضُونَ} : حالٌ لأنَّ الرؤيةَ بصريةٌ. «خاشعين» حالٌ. والضميرُ مِنْ عليها يعودُ على النار لدلالةِ «العذاب» عليها.
وقرأ طلحةُ «من الذِّل» بكسر الذال. وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل. و «من الذُّل» يتعلَّقُ ب «خاشعين» أي: من أَجْل. وقيل: هو متعلقٌ ب «يَنْظُرون» . وقوله: «مِنْ طَرْفٍ» يجوزُ في «مِنْ» أَنْ تكونَ لابتداءِ الغاية، وأَنْ تكونَ تبعيضيَّةً، وأن تكونَ بمعنى الباء، وبكلٍ قد قيل. والطرفُ قيل: يُراد به العُضْوُ. وقيل: يُراد به المصدرُ. يقال: طُرِفَتْ عَيْنُه تُطْرَفُ طَرْفاً أي: يَنْظُرون نَظَراً خَفِيًّا.
قوله: {وَقَالَ الذين آمنوا} يجوزُ أَنْ يَبْقَى على حقيقتِه، ويكون «يومَ القيامة» معمولاً ل «خَسِروا» . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى: يقول، فيكون «يوم القيامةِ» معمولاً له.
قوله: {يَنصُرُونَهُم} : صفةٌ ل «أَوْلِياء» فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً بلفظِ مَوْصوفِها، وبالرفعِ اعتباراً بمحَلِّه فإنه اسمٌ ل «كان» .
قوله: «مِنْ سبيلٍ» إمَّا فاعلٌ، وإمَّا مبتدأٌ.
قوله: {مِنَ الله} : يجوزُ تعلُّقُه ب «يأتي» أي: يأتي من الله يومٌ لا مَرَدَّ له، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه لا مَرَدَّ له أي: لا يَرُدُّ ذلك اليومَ ممَّا حكم اللَّهُ به فيه. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يتعلَّقَ ب «لا مَرَدَّ» . وردَّه الشيخُ: بأنه يكونُ مُطَوَّلاً فكان ينبغي أَنْ يُعْرَبَ فينصبَ منوَّناً.
قوله: {فَإِنَّ الإنسان} : مِنْ وقوعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي: فإنَّه كفورٌ. وقَدَّر أبو البقاء ضميراً محذوفاً فقال: «فإنَّ الإِنسانَ منهم» .
قوله: {ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} : حالٌ، وهي حالٌ لازمةٌ، وسَوَّغ مجيْئَها كذلك: أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى «يُزَوِّجُهم» يَقْرِنُهم. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما نَكَّر الإِناثَ؟ قلت: لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى، وكفرانَ الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما يشاؤه الإِنسانُ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ أهمَّ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه بلاءً، ذكر البلاء، وأخَّر الذكورَ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ، كأنه قال: ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر، فقال: ذُكْراناً وإناثاً، كما قال:{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13]{فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] .
قوله: / {أَن يُكَلِّمَهُ الله} : «أَنْ» ومنصوبُها اسمُ كان وليس «خبرَ» «ما» . وقال أبو البقاء: «أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي» وكأنه [وَهِمَ في التلاوةِ، فزعَم أنَّ القرآنَ: وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ. و «إلَاّ وَحْياً» يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي: إلَاّ كلامَ وَحْيٍ. وقال أبو البقاء: «استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام» وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال.
قوله: «أو يُرْسِل» قرأ نافعٌ «يُرْسِلُ» برفع اللامِ، وكذلك «فيوحِيْ» فسَكَنَتْ ياؤُه. والباقون بنصبهما. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ، أحدها: أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي: أو هو يُرْسِلُ. الثاني: أنه عطفٌ على «وَحْياً» على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً، فكأنه قال: إلَاّ مُوْحِياً أو مرسِلاً. الثالث: أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به «من وراءه» ، إذ تقديرُه: أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب، و «وَحْياً» في موضعِ الحال، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه «أَوْ يُرْسِلُ» . والتقدير: إلَاّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ، أو مُرْسِلاً.
وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي
يتعلَّقُ به {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} إذ تقديرُه: أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ. وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على «وَحْياً» والمعنى: إلَاّ بوَحْي أو إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ. ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على «يكلِّمَه» لفسادِ المعنى. قلت: إذ يَصيرُ التقديرُ: وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ رسولاً، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى. وقال مكي:«لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم» .
الثاني: أَنْ يُنْصَبَ ب «أنْ» مضمرةً، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على «وَحْياً» و «وَحْياً» حالٌ، فيكونَ هنا أيضاً [حالاً: والتقدير: إلَاّ مُوْحِياً أو مُرْسِلاً] . وقال الزمخشري: «وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً. و {مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً، كقوله: {وعلى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] . والتقدير: وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلَاّ مُوْحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً» . وقد رَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ:«أتيتُه رَكْضاً» ويمنعُ «أَتَيْتُه بكاءً» أي: باكياً.
وبأنَّ «أَنْ يُرْسِلَ» لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ «أَنْ» والفعلَ لا يَقَعُ حالاً، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ:«جاء زيد ضَحِكاً» ، ولا يجوز «جاء أَنْ يضحكَ» .
الثالث: أنَّه عطفٌ على معنى «وَحْياً» فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب «أنْ» والفعلِ. والتقديرُ: إلَاّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ، ذكره مكي وأبو البقاء.
وقوله: {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} العامَّةُ على الإِفراد. وابنُ أبي عبلةَ «حُجُبٍ» جمعاً. وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: أو يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب. وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي: إلَاّ أَنْ يوحيَ أو يكلِّمَه. قال أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق» مِنْ «ب» يُكَلِّمَه «الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلَاّ» ، ثم قال:«وقيل:» مِنْ «متعلِّقةٌ ب» يُكلِّمه «لأنه ظرفٌ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه» .
قوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب} : «ما» الأولى نافيةٌ، والثانيةُ استفهاميةٌ. والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ. والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في «إليك» . قوله:«جَعَلْنَاه» الضميرُ يعودُ: إمَّا ل «رُوْحاً» وإمَّا ل «الكتاب» وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] .
وقرأ ابن حوشب «لتُهْدَى» مبنياً للمفعول. وابن السَّمَيْفَع «لتُهْدي» بضم التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى.
قوله: «نَهْدِي» يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً للجَعْل، وأَنْ يكونَ صفةً ل «نُوْراً» .
قوله: {صِرَاطِ الله} : بدلٌ مِنْ «صراطٍ» قبلَه بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ، معرفةٍ مِنْ نكرة. والله أعلم.