الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخبرُ الجارُّ بعدَه. والثاني: قاله الزمخشري أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك بسببِ كذا. فالجارُّ في محلِّ نصبٍ. قال الشيخ: «ولا حاجةَ إليه» .
قوله: «كذلك يَضْرِبُ» خرَّجَه الزمخشريُّ على: مِثْلَ ذلك الضربِ يَضْرِبُ اللَّهُ للناسِ أمثالَهم. والضميرُ راجعٌ إلى الفريقين أو إلى الناسِ، على معنى: أنه يَضْرِبُ أمثالَهم لأجلِ الناس ليَعْتَبِروا.
قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ} : العاملُ في هذا الظرفِ فعلٌ مقدر هو العاملُ في «ضَرْبَ الرِّقاب» تقديرُه: فاضربوا الرقابَ وقتَ ملاقاتِكم العدوَّ. ومنع أبو البقاء أَنْ يكونَ المصدر نفسُه عاملاً قال: «لأنه مؤكَّدٌ» . وهذا أحدُ القولَيْن في المصدرِ النائبِ عن الفعل نحو: «ضَرْباً زيداً» هل العملُ منسوبٌ إليه أم إلى عامِله؟ ومنه:
4
050 - على حينَ أَلْهى الناسَ جُلُّ أمورِهمْ
…
فنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالبِ
فالمالَ منصوبٌ: إمَّا ب «انْدُلْ» أو ب «نَدْلا» ، والمصدر هنا أُضيف إلى معمولِه. وبه اسْتُدِلَّ على أنَّ العملَ للمصدرِ لإِضافتِه إلى ما بعدَه، ولو لم يكنْ عامِلاً لما أُضِيْفَ إلى ما بعده.
قوله: «حتى إذا» هذه غايةٌ للأمرِ بضَرْبِ الرقاب. وقرأ السُّلَمِيُّ «فَشِدُّوا» بكسر الشين. وهي ضعيفةٌ جداً. والوَثاق بالفتح - وفيه الكسر - اسمُ ما يُوْثَقُ به.
قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} فيهما وجهان، أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعلٍ لا يجوزُ إظهارُه؛ لأنَّ المصدرَ متى سِيْقَ تفصيلاً لعاقبةِ جملةٍ وَجَبَ نصبُه بإضمارِ فِعْلٍ لا يجوزُ إظهارُه والتقديرُ: فإمَّا أَنْ تَمُنُّوا مَنًّا، وإمَّا تُفادُوا فداءً. ومثله:
4051 -
لأَجْهَدَنَّ فإمَّا دَرْءُ واقِعَةٍ
…
تُخْشَى وإمَّا بلوغُ السُّؤْلِ والأَمَلِ
والثاني: - قاله أبو البقاء - أنهما مفعولان بهما لعاملٍ مقدرٍ تقديره: «أَوْلُوْهُمْ مَنَّاً، واقْبَلوا منهم فداءً» . قال الشيخ: «وليس بإعرابِ نحوي» . وقرأ ابن كثير «فِدَى» بالقصر. قال أبو حاتم: «لا يجوزُ؛ لأنه مصدرُ فادَيْتُه» ولا يُلْتَفت إليه؛ لأنَّ الفراءَ حكى فيه أربعَ لغاتٍ: المشهورةُ المدُّ والإِعرابُ: فداء لك، وفداءٍ بالمد أيضاً والبناء على الكسر والتنوين، وهو غريبٌ جداً. وهذا يُشْبه قولَ بعضِهم «هؤلاءٍ» بالتنوين، وفِدى بالكسر مع القصر، وفَدَى بالفتح مع القصرِ أيضاً.
والأَوْزارُ هنا: الأَثْقال، وهو مجازٌ. قيل: هو مِنْ مجاز الحَذْف أي: أهل الحرب. والأَوْزار عبارةٌ عن آلاتِ الحرب. قال الشاعر:
4052 -
وأَعْدَدْت للحَرْبِ أوزارَها
…
رِماحاً طِوالاً وخَيْلاً ذُكوراً
و «حتى» الأولى غايةٌ لضَرْبِ الرِّقاب، والثانيةُ ل «شُدُّوا» . ويجوزُ أَنْ يكونا غايتين لضَرْبِ الرِّقابِ، على أنَّ الثانيةَ توكيدٌ أو بدلٌ.
قوله: «ذلك» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك، وأَنْ ينتصِبَ بإضمارِ افْعَلوا.
قوله: «ليَبْلُوَ بَعْضَكم» أي: ولكنْ أَمَرَكم بالقتال ليَبْلُوَ.
قوله: «قُتِلُوا» قرأ العامَّةُ «قاتلوا» وأبو عمروٍ وحفص «قُتِلوا» مبنياً للمفعولِ على معنى: أنَّهم قُتِلوا وماتوا، أصاب القتلُ بعضَهم كقولِه:{قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ} . وقرأ الجحدري «قَتَلوا» بفتح القاف والتاءِ خفيفةً، ومفعولُه محذوفٌ. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى «قُتِّلوا» بتشديد التاء مبنياً للمفعول. /
وقرأ أمير المؤمنين علي «تُضَلَّ» مبنياً للمفعولِ «أعمالُهم» بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعلِ. وقُرِئَ «تَضِلَّ» بفتح التاء، «أعمالُهم» بالرفع فاعلاً.
قوله: {عَرَّفَهَا} : يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ مستأنفةً. والثاني: أَنْ تكونَ حالاً فيجوزَ أَنْ تُضْمِرَ «قد» وأن لا تُضْمِرَ.
و «عَرَّفها» : من التعريف الذي هو ضدُّ الجهل. وقيل: من الرَّفْع. وقيل: من العَرْف وهو الطِّيب. وقرأ أبو عمروٍ في رواية «ويُدْخِلْهم» بسكون اللامِ. وكذا ميمُ {نُطْعِمُكُمْ} [الانسان: 9] وعين {يَجْمَعُكُمْ} [التغابن: 9] كأنه يَسْتَثْقِلُ الحركاتِ. وقد قرأتُ له بذلك في {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] و {يَنصُرُكُمْ} [الملك: 20] وبابه.
قوله: {وَيُثَبِّتْ} : قرأه العامَّةُ مُشَدَّداً. ورُوي عن عاصم تخفيفُه مِنْ أَثْبَتَ.
قوله: {والذين كَفَرُواْ} : يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ محذوفٌ. تقديره: فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا، يَدُلُّ عليه «فَتَعْساً» فتعساً منصوبٌ بالخبرِ. ودَخَلَتِ الفاءُ تشبيهاً للمبتدأ بالشرط. وقدَّرَ الزمخشري الفعلَ الناصبَ ل «تَعْساً» فقال:«لأنَّ المعنى: فقال تعساً أي: فقضى تَعْساً لهم» . قال الشيخ: «وإضمارُ ما هو من لفظِ المصدر أَوْلَى» . والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره «فتَعْساً لهم» كما تقول: زيداً جَدْعاً له، كذا قال الشيخ تابِعاً للزمخشريِّ. وهذا لا يجوزُ لأنَّ «لهم» لا يتعلَّقُ ب «تَعْساً» ، إنما هو
متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه بيانٌ أي: أعني لهم: وقد تقدَّم تحقيقُ هذا والاستدلالُ عليه. فإنْ عَنَيا إضماراً مِنْ حيث مطلقُ الدلالةِ لا من جهةِ الاشتغالِ فَمُسَلَّمٌ، ولكنْ تَأْباه عبارتُهما وهي قولُهما: منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسره «فَتَعْساً لهم» ، و «أَضَلَّ» عطفٌ على ذلك الفعل المقدرِ أي: أتعسَهُم وأضلَّ أعمالهم. والتَّعْسُ: ضدُّ السَّعْدِ يقال: تَعَسَ الرجلُ بالفتح تَعْساً وأَتْعَسَهَ اللَّهُ. قال مجمِّع:
4053 -
تقولُ وقد أَفْرَدْتُها مِنْ حَليلِها
…
تَعِسْتَ كما أَتْعَسْتَني يا مُجَمِّعُ
وقيل: تعِس بالكسرِ، عن أبي الهيثم وشَمِر وغيرِهما. وعن أبي عبيدة: تَعَسَه وأَتْعَسَه متعدِّيان فهما مما اتَّفَق فيهما فَعَل وأَفْعَل وقيل: التَّعْسُ ضدُّ الانتعاش. قال الزمخشري: «وتَعْساً له نقيض لَعَا له» يعني أنَّ كلمةَ «لَعا» بمعنى انتعش. قال الأعشى:
4054 -
بذاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةٍ، إذا عَثَرَتْ
…
فالتَّعْسُ أَدْنى لها مِنْ أَنْ أقولَ لَعَا
وقيل: التَّعْسُ الهَلاك. وقيل: التَّعْسُ الجَرُّ على الوجهِ، والنَّكْسُ الجرُّ على الرأس.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «ذلك» مبتدأً، والخبرُ الجارُّ بعدَه، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ. أي: الأمرُ ذلك بسبب أنهم كَرهوا،
أو منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ أي: فَعَل بهم ذلك بسببِ أنَّهم كَرِهوا، فالجارُّ في الوجهَيْن الأخيرَيْن منصوبُ المحلِّ.
قوله: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ مفعولَه أي: أهلك اللَّهُ بيوتَهم وخَرَّبها عليهم، أو يُضَمَّنَ «دَمَّر» معنى: سَخِط اللَّهُ عليهم بالتدمير.
قوله: «أمثالُها» أي: أمثال العاقبةِ المتقدِّمة. وقيل: أمثال العقوبة. وقيل: التَّدْميرة. وقيل: الهَلَكة. والأولُ أَوْلَى لتقدُّم ما يعودُ عليه الضميرُ صريحاً مع صحةِ معناه.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ} : كقولِه فيما تقدَّم. والوَلِيُّ هنا: الناصِرُ.
قوله: {كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} : إمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ المصدرِ أي: يأْكلوا الأكلَ مُشْبِهاً أَكْلَ الأنعام، وإمَّا نعتٌ لمصدرٍ أي: أكلاً مثلَ أكلِ الأنعامِ.
قوله: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ استئنافاً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً، ولكنَّها مقدرةٌ أي: يأكلون مُقَدَّراً ثَوِيُّهم في النار.
قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} يريد أهلَ قريةٍ، ولذلك راعى هذا المقدَّرَ في «أَهْلَكْناهم» {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} بعد ما راعى المضافَ في قوله:«هي أشدُّ» والجملةُ مِنْ «هي أشدُّ» صفةٌ لقرية. وقال ابنُ عطية: «
نَسَبَ الإِخراجَ للقرية، حَمْلاً على اللفظِ، وقال:» أهلكناهم «حَمْلاً على المعنى» . قال الشيخ: «وظاهرُ هذا الكلامِ لا يَصِحُّ؛ لأن الضميرَ في» أهلكناهم «ليس عائداً على المضافِ إلى القرية التي أَسْنَدَ إليها الإِخراجَ، بل على أهلِ القرية، في قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} [فإنْ كان أرادَ بقولِه:» حَمْلاً على المعنى «أي: معنى القرية مِنْ قوله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} ] فهو صحيحٌ، لكنَّ ظاهرَ/ قولِه:» حَمْلاً على اللفظِ «و» حَمْلاً على المعنى «أَنْ يكونَ في مدلولٍ واحدٍ، وكان على هذا يَبْقى» كَأَيِّنْ «مُفْلَتاً غيرَ مُحَدَّثٍ عنه بشيء، إلَاّ أَنْ يُتَخَيَّلَ أنَّ» هي أشدُّ «خبرٌ عنه، والظاهرُ أنَّه صفةٌ ل قرية» . قلت: وابن عطيةَ إنما أراد لفظَ القريةِ مِنْ حيث الجملةُ لا من حيث التعيينُ.
قوله: {أَفَمَن كَانَ} : مبتدأٌ، والخبر «كَمَنْ زُيِّنَ» ، وحُمِل على لفظ «مَنْ» فأُفْرِدَ في قوله:{لَهُ سواء عَمَلِهِ} وعلى المعنى فجُمِعَ في قوله: {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} ، والجملةُ مِنْ «اتَّبعوا» عطفٌ على «زُيِّنَ» فهو صلةٌ.
قوله: {مَّثَلُ الجنة} : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مبتدأٌ، وخبرُه مقدرٌ. فقدَّره النضر بن شميل: مثلُ الجنةِ ما تَسْمعون، ف «ما تَسْمعون» خبرُه، و «فيها أنهارٌ» مُفَسِّرٌ له. وقَدَّره سيبويه:«فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنة» ، والجملةُ بعدَها أيضاً مُفَسِّرةٌ للمَثل. الثاني: أن «مَثَل» زائدةٌ تقديرُه: الجنة التي وُعِدَ المتقون فيها أنهارٌ. ونظيرُ زيادةِ «مَثَل» هنا زيادةُ «اسم» في قولِه:
4055 -
إلى الحَوْلِ ثم اسْمُ السَّلامِ عليكما
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثالث: أنَّ «مَثَل الجنة» مبتدأٌ، والخبر قولُه:«فيها أنهارٌ» ، وهذا ينبغي أَنْ يمتنعَ؛ إذ لا عائدَ من الجملةِ إلى المبتدأ، ولا ينْفَعُ كونُ الضميرِ عائداً على ما أُضيف إليه المبتدأ. الرابع: أنَّ «مَثَل الجنة» مبتدأٌ، خبرُه « {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار} ، فقَدَّره ابنُ عطية:» أمَثَلُ أهلِ الجنة كمَنْ هو خالدٌ «، فقدَّر حرفَ الإِنكارِ ومضافاً ليصِحَّ. وقدَّره الزمخشري:» أَمَثَلُ الجنةِ كمَثَلِ جزاءِ مَنْ هو خالدٌ «. والجملةُ مِنْ قولِه:» فيها أنهارٌ «على هذا فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: هي حالٌ من الجنة أي: مستقرَّةٌ فيها أنهارٌ. الثاني: أنها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ أي: هي فيها أنهارٌ، كأنَّ قائلاً قال: ما مَثَلُها؟ فقيل: فيها أنهار. الثالث: أَنْ تكونَ تكريراً للصلة؛ لأنَّها في حكمِها ألا ترى إلى أنَّه يَصِحُّ قولُك: التي فيها أنهار، وإنما عَرِيَ قولُه:» مَثَلُ الجنةِ «من حرفِ الإِنكار تصويراً لمكابرةِ مَنْ يُسَوِّي بين المُسْتَمْسِكِ بالبيِّنَةِ وبين التابِع هواه كمَنْ يُسَوِّي بين الجنة التي صفتُها كيتَ وكيتَ، وبين النارِ التي صفتُها أَنْ يُسْقَى أهلُها الحميمَ. ونظيرُه قولُ القائلِ:
4056 -
أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ
…
أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلا
هو كلامٌ مُنْكِرٌ للفرح برُزْئِه الكرامَ ووِراثةِ الذَّوْدِ، مع تَعَرِّيه من حرف الإِنكارِ، ذكر ذلك كلَّه الزمخشريُّ بأطولَ مِنْ هذه العبارةِ.
وقرأ عليُّ بن أبي طالب» مثالَ الجنةِ «. وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود» أمثالُ «بالجمع.
قوله:» آسِنٍ «قرأ ابنُ كثير» أَسِنٍ «بزنة حَذِرٍ وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ أَسِنَ بالكسرِ يَأْسَنُ، فهو أَسِنٌ ك حَذِرَ يَحْذَر فهو حَذِرٌ. والباقون» آسِنٍ «بزنةِ ضارِب مِنْ أَسَنَ بالفتح يَأْسِن، يقال: أَسَن الماءُ بالفتح يَأْسِن ويَأْسُن بالكسرِ والضمِّ أُسُوْناً، كذا ذكره ثعلب في» فصيحه «. وقال اليزيدي:» يقال: أَسِن بالكسرِ يَأْسَنُ بالفتح أَسَناً أي: تَغَيَّر طعمُه. وأمَّا أسِن الرجلُ - إذا دَخَل بئراً فأصابه مِنْ ريحِها ما جعل في رأسِه دُواراً - فأَسِن بالكسرِ فقط.
قال الشاعر:
4057 -
قد أترُكُ القِرْن مُصْفَرَّاً أنامِلُه
…
يَميد في الرُّمْح مَيْدَ المائِح الأَسِنِ
وقُرِئَ «يَسِنٍ» بالياء بدلَ الهمزةِ. قال أبو علي: «هو تَخفيفُ أَسِنٍ» وهو تخفيفٌ غريبٌ.
قوله: {لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} صفةٌ ل «لبنٍ» . قوله: «لذة» يجوز أَنْ يكونَ تأنيثَ
لَذّ، ولَذٌّ بمعنى لذيذ، ولا تأويلَ على هذا، ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً وُصِفَ به. وفيه التأويلاتُ المشهورةُ. والعامَّةُ على جرِّ «لَذَّةٍ» صفةً ل «خَمْرٍ» وقُرِئ بالنصب على المفعولِ له، وهي تؤيِّدُ المصدريةَ في قراءةِ العامَّةِ، وبالرفع صفةً ل «أنهارٌ» ، ولم تُجْمَعْ لأنها مصدرٌ إنْ قيلَ به، وإنْ لا فلأنَّها صفةٌ لجمعٍ غيرِ عاقلٍ، وهو يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدةِ.
قوله: «مِنْ عَسَلٍ» نقلوا في «عَسَل» التذكيرَ والتأنيثَ، وجاء القرآنُ على التذكيرِ في قوله:«مُصَفَّى» . والعَسَلان: العَدْوُ. وأكثرُ استعمالِه في الذئبِ، يقال: عَسَل الذئبُ والثعلبُ، وأصلُه مِنْ عَسَلانِ الرُّمح وهو اهتزازُه، فكأنَّ العادِيَ يهزُّ أعضاءَه ويُحَرِّكها قال الشاعر: /
4058 -
لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه
…
فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وكُنِي بالعُسَيْلة عن الجماعِ لِما بينهما. قال عليه السلام: «حتى تَذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَك» . قوله: {مِن كُلِّ الثمرات} فيها وجهان، أحدهما: أن هذا الجارَّ صفةٌ لمقدرٍ، ذلك المقدَّرُ مبتدأٌ، وخبرُه الجارُّ قبلَه وهو «لهم» . و «فيها» متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به. والتقديرُ: ولهم فيها زوجان مِنْ كلِّ الثمراتِ، كأنه انَتَزَعَه مِنْ قولِه
تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وقَدَّره بعضُهم: صِنْفٌ، والأولُ أليقُ. والثاني: أن: «مِنْ» مزيدةٌ في المبتدأ.
قوله: «ومَغْفِرَةٌ» فيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على ذلك المقدر لا بقَيْدِ كونِه في الجنة أي: ولهم مغفرةٌ، لأن المغفرةَ تكون قبلَ دخولِ الجنة أو بُعَيْدَ ذلك. ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذٍ أي: ونعيمُ مغفرةٍ؛ لأنه ناشِئٌ عن المغفرةِ، وهو في الجنة.
والثاني: أن يُجْعَلَ خبرُها مقدَّراً أي: ولهم مغفرةٌ. والجملةُ مستأنفةٌ. والفرقُ بين الوجهَيْنِ: أنَّ الوجهَ الذي قبل هذا فيه الإِخبارُ ب «لهم» الملفوظِ به عن سَنَنِ ذلك المحذوف، و «مغفرةٌ» ، وفي الوجه الآخر الخبر جارٌّ آخرُ، حُذِفَ للدلالةِ عليه.
قوله: «كمَنْ هو» قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً عن «مَثَلُ الجنة» بالتأويلَيْن المذكورَيْن عن ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ. وأمَّا إذا لم نجعَلْه خبراً عن «مَثَلُ» ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: أحال هؤلاء المتَّقين كحالِ مَنْ هو خالدٌ. وهذا تأويلٌ صحيحٌ. وذكر فيه أبو البقاء الأوجهَ الباقيةَ وقال: «وهو في موضعِ رفعٍ أي: حالُهم كحالِ مَنْ هو خالدٌ في النارِ.
وقيل: هو استهزاءٌ بهم. وقيل: هو على معنى الاستفهامِ، أي: أكمَنْ هو خالدٌ. وقيل: في موضعِ نصبٍ أي: يُشْبِهون حالَ مَنْ هو خالدٌ في النار «انتهى. معنَى قولِه:» وقيل هو استهزاءٌ «أي: أن الإِخبار بقولِك: حالُهم كحالِ مَنْ، على سبيلِ الاستهزاءِ والتهكُّمِ.
قوله:» وسُقُوا «عطفٌ على الصلةِ، عَطَفَ فعليةً على اسمية، لكنه راعى في الأولِ لفظ» مَنْ «فأَفْرَدَ، وفي الثانيةِ معناها فجَمَعَ.
والأَمْعاءُ: جمع مِعىً بالقصرِ، وهو المُصْرانُ الذي في البطن وقد وُصِفَ بالجمع في قوله:
4059 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جياعا
على إرادةِ الجنسِ. وألفُه عن ياءٍ بدليلِ قولهم: مِعَيان.
قوله: {آنِفاً} : فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ على الحالِ، فقدَّره أبو البقاء:«ماذا قال مُؤْتَنِفا» . وقَدَّره غيرُه: مُبْتَدِئاً أي: ما القولُ الذي ائْتَنَفه الآن قبلَ انفصالِه عنه. والثاني: أنه منصوبٌ على الظرفِ أي: ماذا قال الساعةَ، قاله الزمخشري. وأنكره الشيخ قال:«لأنَّا لم نعلَمْ أحداً عَدَّه من الظروف» . واختلفَتْ عبارتُهم في معناه: فظاهرُ عبارةِ الزمخشري أنه ظرفٌ حاليٌّ ك الآن، ولذلك فَسَّره بالساعة. وقال ابن عطية:«والمفسِّرون يقولون: آنِفاً معناه الساعةُ الماضيةُ القريبةُ منَّا وهذا تفسيرٌ بالمعنى» .
وقرأ البزيُّ بخلافٍ عنه «أَنِفاً» بالقصرِ. والباقون بالمدِّ، وهما لغتان
بمعنىً واحدٍ، وهما اسما فاعِل ك حاذِر وحَذِر، وآسِن وأَسِن، إلَاّ أنَّه لم يُسْتعمل لهما فِعْلٌ مجردٌ، بل المستعملُ ائْتَنَفَ يَأْتَنِفُ، واسْتَأْنف يَسْتأنف. والائْتِنافُ والاسْتِئْناف: الابتداء. قال الزجَّاج: «هو مِنْ اسْتَأْنَفْتُ الشيءَ إذا ابتدَأْتَه أي: ماذا قال في أولِ وقتٍ يَقْرُب مِنَّا» .
قوله: {والذين اهتدوا} : يجوزُ فيه الرفعُ بالابتداءِ، والنصبُ على الاشتغالِ. و «تَقْواهم» مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. والضمير في «آتاهم» يعودُ على اللَّهِ أو على قولِ المنافقين؛ لأنَّ قولهم ذلك مِمَّا يزيدُ المؤمنينَ تقوى، أو على الرسول.
قوله: {أَن تَأْتِيَهُمْ} : بدلٌ من الساعة بدلُ اشتمالٍ. وقرأ أبو جعفر الرؤاسي: «إنْ تَأْتِهم» ب إنْ الشرطيةِ، وجزمِ ما بعدها. وفي جوابِها وجهان، أحدهما: أنَّه قولُه: «فأنَّى لهم» قاله الزمخشريُّ. ثم قال: «فإنْ قلت: بِمَ يتصلُ قولُه: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} على القراءتَيْن؟ قلت: بإتيان السَّاعةِ، اتصالَ العلةِ بالمعلولِ كقولك: إنْ أكرَمَني زيدٌ فأنا حقيقٌ بالإِكرامِ أُكْرِمْه» . والثاني: أنَّ الجوابَ قولُه: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} ، وإتيانُ الساعةِ، وإنْ كان متحققاً، إلَاّ أنهم عُوْمِلوا مُعاملةَ الشاكِّ، وحالُهم كانت كذا.
والأَشْراط: جمع شَرْط بسكونِ/ الراءِ وفتحِها. قال أبو الأسود:
4060 -
فإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ بالصَّرْمِ بَيْنَنَا
…
فقد جَعَلَتْ أَشْراطُ أَوَّلِه تَبْدو
والأشراطُ: العلاماتُ، ومنه أَشْراط الساعةِ. وأَشْرَطَ الرجلُ نفسَه أي: ألزمها أموراً. قال أوس:
4061 -
فأَشْرَطَ فيها نَفْسَه وهو مُعْصِمٌ
…
فأَلْقَى بأسبابٍ له وتَوَكَّلا
والشَّرْطُ: القَطْعُ أيضاً، مصدرُ شَرَطَ الجلدَ يَشْرِطُه (يَشْرُطُه) شَرْطاً.
قوله: «فَأَنَّى لهم» «أنَّى» خبرٌ مقدمٌ و «ذِكْراهم» مبتدأٌ مؤخرٌ أي: أنَّى لهم التذكيرُ. وإذا وما بعدها معترضٌ وجوابُها محذوفٌ أي: كيف لهم التذكيرُ إذا جاءَتْهم الساعةُ؟ فيكف يتذكَّرون؟ ويجوز أن يكونَ المبتدأُ محذوفاً أي: أنَّى لهم الخَلاصُ، ويكون «ذِكْراهم» فاعلاً ب «جاءَتْهم» .
وقرأ أبو عمروٍ في رواية «بَغَتَّةً» بفتح الغينِ وتشديدِ التاء، وهي صفةٌ، فنصبُها على الحال، ولا نظيرَ لها في الصفات ولا في المصادر، وإنما هي في الأسماء نحو: الجَرَبَّة للجماعةِ، والشَّرَبَّة للمكان. قال الزمخشري:«ما أَخْوَفني أن تكونَ غَلْطَةً من الراوي عن أبي عمرو، وأَنْ يكونَ الصوابُ» بَغَتَةً «بالفتح دون تشديد» .
قوله: {لَوْلَا نُزِّلَتْ} : هذه بمعنى: هَلَاّ، ولا التفاتَ إلى قول بعضِهم: إنَّ «لا» زائدةٌ والأصلُ: لو نُزِّلَتْ. والعامَّةُ على رفع «سورةٌ مُحْكَمَةٌ» لقيامِها مقامَ الفاعل. وزيد بن علي بالنصبِ فيهما على الحالِ
والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ السورة المتقدمةِ، وسوَّغ وقوع الحال كذا وَصْفُها كقولك: الرجل جاءني رجلاً صالحاً. وقُرئ: {فَإِذَآ نَزَلَتْ سُورَةٌ} . وقرأ زيدُ بن علي وابن عمير «وذَكَرَ» مبنياً للفاعل أي: اللَّه تعالى. «القتالَ» نصباً.
قوله: «نَظَرَ المَغْشِيِّ» الأصلُ: نَظَراً مِثْلَ نَظَر المَغْشِيِّ.
قوله: {فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ} اختلف اللغويون والمُعْربون في هذه اللفظةِ، فقال الأصمعي: إنها فعلٌ ماضٍ بمعنى: قارَبَ ما يُهْلِكه وأنشد:
4062 -
فعادَى بينَ هادِيَتَيْنِ مِنْها
…
وَأَوْلَى أَنْ يزيدَ على الثلاثِ
أي: قارَبَ أن يزيدَ. قال ثعلب: «لم يَقُلْ أحدٌ في» أَوْلَى «أحسنَ مِنْ قولِ الأصمعيِّ» ، ولكنْ الأكثرون على أنه اسمٌ. ثم اختلف هؤلاء فقيل: هو مشتقٌّ من الوَلْيِ وهو القُرْبُ كقوله:
4063 -
يُكَلِّفُني لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها
…
وعادَتْ عَوادٍ بيننا وخُطُوْبُ
وقيل: هو مشتقُّ مِن الوَيْلِ. والأصلُ: فيه أَوْيَل فقُلبت العين إلى ما بعدَ اللام فصارَ وزنُه أَفْلَع. وإلى هذا نحا الجرجانيُّ. والأصلُ عدم القَلْبِ. وأمَّا معناها فقيل: هي تهديدٌ ووعيدٌ كقولِه:
4064 -
فأَوْلَى ثم أَوْلَى ثم أَوْلَى
…
وهَلْ للدَرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
وقال المبرد: يُقال لمَنْ هَمَّ بالغضبِ: أَوْلَى لك، كقولِ أعرابي كان يُوالي رَمْيَ الصيدِ فيَفْلَتُ منه فيقول: أَوْلى لك، ثم رمى صيداً فقارَبَه فأفلتَ منه، فقال:
4065 -
فلو كان أَوْلَى يُطْعِمُ القومَ صِدْتُهم
…
ولكنَّ أَوْلى يَتْرُكُ القومَ جُوَّعا
هذا ما يتعلَّقُ باشتقاقِه ومعناه. أمَّا الإِعرابُ: فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «أَوْلَى» مبتدأٌ، و «لهم» خبرُه، تقديرُه: فالهلاكُ لهم. وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة كونُه دعاءً نحو: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] . الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه العقابُ أو الهلاكُ أَوْلَى لهم، أي: أقربُ وأَدْنى. ويجوز أن تكونَ اللامُ بمعنى الباءِ أي: أَوْلَى وأحَقُّ بهم. الثالث: أنه مبتدأٌ، و «لهم» متعلِّقٌ به، واللامُ بمعنى الباء. و «طاعةٌ» خبره، والتقدير: أولَى بهم طاعةٌ دونَ غيرِها. وإنْ قلنا بقول الأصمعيِّ فيكون فعلاً ماضياً وفاعلُه مضمر، يَدُلُّ عليه السِّياقُ كأنه قيل: فأَوْلَى هو أي: الهلاكُ، وهذا ظاهرُ عبارةِ الزمخشري حيث قال:«ومعناه الدعاءُ عليهم بأَنْ يَلِيَهم المكروهُ» . وقال ابن عطية: / «المشهورُ من استعمالِ العرب أنك تقول: هذا أَوْلَى بك مِنْ هذا أي: أحقُّ. وقد تَسْتعملُ العربُ» أَوْلَى «فقط على جهةِ الحذفِ والاختصارِ لِما معها من القول فتقول:
أَوْلَى لك يا فلانُ على جهةِ الزَّجْرِ والوعيد» انتهى.
وقال أبو البقاء: «أَوْلَى مؤنثة أَوْلات» وفيه نظر لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيَيْن، أمَّا التأنيثُ اللفظيُّ فلا يُقال فيه ذلك. وسيأتي له مزيدُ بيانٍ في سورة القيامة إنْ شاء الله.
قوله: {طَاعَةٌ} : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه خبرُ «أَوْلَى لهم» على ما تقدَّم. الثاني: أنها صفةٌ ل «سورةٌ» أي: فإذا أُنْزِلَتْ سورةٌ مُحْكَمَةٌ طاعةٌ أي: ذاتُ طاعةٍ أو مُطاعةٌ. ذكره مكيٌّ وأبو البقاء وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفواصلِ. الثالث: أنها مبتدأٌ و «قولٌ» عطفٌ عليها، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: أَمْثَلُ بكم مِنْ غيرِهما. وقَدَّره مكي: مِنَّا طاعةٌ، فقدَّره مقدَّماً. الرابع: أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: أَمْرُنا طاعةٌ. الخامس: أنَّ «لهم» خبرٌ مقدمٌ، و «طاعةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والوقف والابتداء يُعْرَفان مِمَّا قدَّمْتُه فتأمَّلْه.
قوله: «فإذا عَزَمَ» في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: قولُه: «فلو صَدَقُوا» نحو: «إذا جاءني طعامٌ فلو جِئْتَني أطعمتُك» . الثاني: أنه محذوفٌ تقديره: فاصْدُقْ، كذا قَدَّره أبو البقاء. الثالث: أن تقديرَه: فاقْضُوا. وقيل: تقديره: كَرِهوا ذلك و «عَزَمَ الأمرُ» على سبيل الإِسنادِ المجازيِّ كقولِه:
4066 -
قد جَدَّتِ الحربُ بكم فَجُدُّوا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي: عَزَمَ أهلُ الأمرِ.
قوله: {أَن تُفْسِدُواْ} : خبرُ «عسى» ، والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابُه محذوفٌ لدلالةِ «فهل عَسَيْتُم» عليه أو هو يُفَسِّره «فهل عَسَيْتُمْ» عند مَنْ يرى تقديمَه. وقرأ عليٌّ «إنْ تُوُلِّيْتُمْ» بضم التاءِ والواوِ وكسرِ اللام مبنياً للمفعول مِن الوِلاية أي: إنْ وَلَّيْتُكم أمورَ الناس. وقُرئ «وُلِّيْتُمْ» من الوِلاية أيضاً. وهاتان تَدُلَاّن على أنَّ «تَوَلَّيْتُمْ» في العامَّةِ من ذلك. ويجوز أن يكونَ من الإِعراضِ وهو الظاهرُ. وفي قوله: «عَسَيْتُمْ» إلى آخره التفاتٌ مِنْ غَيْبة في قوله: {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إلى خطابِهم بذلك زيادةً في توبيخِهم.
وقرأ العامَّةُ «وتُقَطِّعوا» بالتشديد على التكثير. وأبو عمروٍ في روايةٍ وسلام ويعقوب بالتخفيف، مضارعَ قَطَعَ. والحسن بفتح التاء والطاءِ مشددةً. وأصلُها تَتَقَطَّعوا بتاءَيْن حُذِفَتْ أحداهما. وانتصابُ «أرحامَكم» على هذا على إسقاط الخافض أي: في أرحامكم.
قوله: {أولئك} : مبتدأ، والموصولُ خبرُه. والتقدير: أولئك المُفْسِدون، يَدُلُّ عليه ما تقدَّم. وقوله:«فأَصَمَّهم» . ولم يَقُلْ: فَأَصَمَّ آذانَهم، و «أَعْمى أَبْصَارهم» ولم يَقُلْ: أَعْماهم. قيل: لأنَّه لا يَلزَمُ مِنْ ذهابِ الأُذُنِ ذَهابُ السماع فلم يتعرَّضْ لها، والأَبْصار - وهي الأعينُ - يَلْزَمُ مِنْ
ذهابِها ذهابُ الإِبصارِ ولا يَرِد عليك {في آذَانِهِمْ وَقْرٌ} [فصلت: 44] ونحوه لأنه دونَ الصَّمَمِ، والصَّممُ أعظمُ منه.
قوله: {أَمْ على قُلُوبٍ} : أم منقطعةٌ. وقد عَرَفْتَ ما فيها. والعامَّةُ «على أَقْفالُها» بالجمع على أَفْعال. وقُرئ «أَقْفُلُها» على أَفْعُل. وقُرِئ «إقْفالُها» بكسرِ الهمزةِ مصدراً كالإِقبال. وهذا الكلامُ استعارةٌ بليغةٌ جُعِلَ ذلك عبارةً عن عَدَمِ وصولِ الحقِّ إليها.
قوله: {الشيطان سَوَّلَ} : هذه الجملةُ خبرُ {إِنَّ الذين ارتدوا} . وقد تقدَّم الكلامُ على «سَوَّل» معنًى واشتقاقاً. وقال الزمخشري هنا: «وقد اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً» كأنَّه يُشير إلى ما قاله ابن بحر: مِنْ أنَّ المعنى: أعطاهم سُؤْلَهم. ووجهُ الغلطِ فيه أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز، ومادةَ هذا بالواوِ فافترقا، فلو كان على ما قيل لقيل: سَأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قاله الزمخشريُّ نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان: سَأَل بالهمز، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ، وعليه قراءةُ «سال سايل» وقوله:
4067 -
سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً
…
ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى.
قوله: «وأَمْلَى» العامَّةُ على «أَمْلَى» مبنياً للفاعل، وهو ضمير الشيطان. وقيل: هو للباري تعالَى. قال أبو البقاء: «على الأول يكونُ معطوفاً على الخبر، وعلى الثاني يكونُ مُسْتأنفاً» . ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على الخبر في كلا التقديرَيْن، أخبر عنهم بهذا وبهذا. وقرأ أبو عمروٍ في آخرين «أُمْلِيَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ. وقيل: القائم مَقامَه ضميرُ الشيطان، ذكره أبو البقاء، ولا معنى لذلك. وقرأ يَعْقُوبُ وسلام ومجاهد/ «وأُمْلِيْ» بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ. فاحتملَتْ وجهَيْن، أحدُهما: أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم أي: وأُمْلِي أنا لهم، وأَنْ يكونَ ماضياً كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً. وقد مضى منه جملةٌ.
قوله: {إِسْرَارَهُمْ} : قرأ الأخَوان وحفصٌ بكسرِ الهمزة مصدراً، والباقون بفتحها جمعَ «سِرّ» .
قوله: {فَكَيْفَ} : إمَّا خبرٌ مقدمٌ أي: فكيف عِلْمُه بإسْرارِهم إذا تَوَفَّتْهم؟ وإمَّا منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ أي: فكيف يَصْنعون؟ وإمَّا خبرٌ ل «كان» مقدرةً أي: فكيف يكونون؟ والظرفُ معمولٌ لذلك المقدَّرِ.
وقرأ الأعمش «تَوَفَّاهم» دونَ تاءٍ فاحتملَتْ وجهين: أن يكونَ ماضياً كالعامَّةِ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَت إحدى ياءَيْه.
قوله: «يَضْرِبُون» حالٌ: إمَّا من الفاعلِ، وهو الأظهرُ، أو مِن المفعولِ.
قوله: {أَن لَّن يُخْرِجَ} : «أنْ» هذه مخففةٌ و «لن» وما بعدها خبرُها، واسمُها ضميرُ الشأن. والأَضْغان: جمعُ ضِغْن، وهي الأحقاد والضَّغِينة كذلك قال:
4068 -
وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عنه
…
وكنتُ على إساءَتِه مُقِيتا
وقال عمرو بن كلثوم:
4069 -
فإنَّ الضِّغْنَ بعد الضِّغْنِ يَغْشُو
…
عليكَ ويُخْرِجُ الداء الدَّفينا
وقيل: الضِّغْنُ العداوةُ. وأُنْشِد:
4070 -
قُلْ لابنِ هندٍ ما أردْتَ بمنطقٍ
…
ساء الصديقَ وشَيَّد الأضغانا
يقال: ضَغِنَ بالكسرِ يَضْغَنُ بالفتح وقد ضُغِنَ عليه. واضْطَغَنَ القومُ وتَضاغنوا، وأصل المادة من الالتواءِ في قوائم الدابةِ والقناة قال:
4071 -
إنَّ قناتي مِنْ صَليباتِ القَنا
…
ما زادَها التثقيفُ إلَاّ ضَغَنا
وقال آخر:
4072 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
كذاتِ الضِّغْنِ تَمْشي في الرِّفاقِ
والاضْطِّغانُ: الاحتواءُ على الشيء أيضاً. ومنه قولُهم: اضْطَغَنْتُ الصبيَّ أي: اختصَصْتُه وأنشد:
4073 -
كأنه مُضْطَغِنٌ صَبِيَّا
…
وقال آخر:
4074 -
وما اضْطَغَنْتُ سِلاحي عند مَغْرِضِها
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفرسٌ ضاغِنٌ: لا يَجْري إلَاّ بالضرب.
قوله: {لأَرَيْنَاكَهُمْ} : مِنْ رؤيةِ البصرِ. وجاء على الأفصح من اتصالِ الضميرَيْن، ولو جاء على: أَرَيْناك إياهم جازَ.
قوله: «فَلَعَرَفْتَهُمْ» عطفٌ على جوابِ لو. وقوله: «ولَتَعْرِفَنَّهم» جواب قسمٍ محذوفٍ.
قوله: {فِي لَحْنِ القول} اللحن يُقال باعتبارَيْن، أحدُهما: الكنايةُ بالكلامِ حتى لا يفهمَه غيرُ مخاطبَكِ. ومنه قولُ القَتَّالِ الكلابي في حكاية له:
4075 -
ولقد وَحَيْتُ لكم لكيما تَفْهموا
…
ولَحَنْتُ لَحْناً ليس بالمُرْتابِ
وقال آخرُ:
4076 -
منطِقٌ صائبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا
…
ناً وخيرُ الحديثِ ما كان لَحْناً
واللَّحْنُ: صَرْفُ الكلامِ من الإِعراب إلى الخطأ. وقيل: يجمعُه هو والأولَ صَرْفُ الكلامِ عن وجهِه، يقال من الأول: لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فأنا لاحِنٌ، وألحنتُه الكلامَ: أفهمتُه إياه فلَحِنَه بالكسر أي: فَهمه فهو لاحِنٌ. ويُقال من الثاني: لَحِن بالكسر إذا لم يُعْرِبْ فهو لَحِنٌ.
قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى} : قرأ «ولَيَبْلوَنَّكم حتى يَعْلم ويبلوَ أخبارَكم» أبو بكر الثلاثةَ بالياءِ مِنْ أسفلَ يعني اللَّهَ تعالى. والأعمش
كذلك وتسكين الواو والباقون بنون العظمةِ، ورُوَيس كذلك وتسكينُ الواوِ. والظاهرُ قَطْعُه عن الأول في قراءةِ تسكينِ الواو. ويجوزُ أَنْ يكونَ سَكَّن الواوَ تخفيفاً كقراءةِ الحسن {أَوْ يَعْفُوْ الذي} بسكونِ الواو.
قوله: {وتدعوا إِلَى السلم} : يجوز جَزْمُه عطفاً على فعل النهيِ. ونصبُه بإضمار «أَنْ» في جواب النهي. وقرأ أبو عبد الرحمن بتشديدِ الدال. وقال الزمخشري: «مِنْ ادَّعَى القومُ وتداعَوْا مثلَ: ارتَمَوْا إلى الصيد وتَرَامَوْا» . وقال غيره: بمعنى تَغْتَرُّوا يعني تَنْتَسِبوا. وتقدَّم الخلافُ في «السّلم» .
قوله: «وأنتم الأَعْلَوْن» جملةٌ حاليةٌ. وكذلك «والله معكم» وأصل الأعْلَوْنَ: الأَعْلَيُون فأُعِلَّ.
قوله: «يَتِرَكُمْ» أي: يُنْقِصكم، أو يُفْرِدكم عنها فهو مِنْ: وَتَرْتُ الرجلَ إذا قتلْتَ له قتيلاً، أو نهبْتَ مالَه، أو من الوِتْر وهو الانفرادُ. وقيل: كلا المعنيين يَرْجِعُ إلى الإِفراد؛ لأنَّ مَنْ قُتِل له قتيلُ أو نُهِبَ له مالٌ/ فقد أُفْرِد عنه.
قوله: {فَيُحْفِكُمْ} : عطفٌ على الشرط و «تَبْخَلوا» جوابُ الشرط.
قوله: «ويُخْرِجْ أَضْغانَكم» العامَّةُ على إسنادِ الفعل إلى ضميرِ فاعلٍ: إمَّا
اللَّهِ تعالى أو الرسولِ أو السؤالِ؛ لأنَّه سببٌ وهو مجزومٌ عَطْفاً على جوابِ الشرط. ورُوي عن أبي عمروٍ رفعُه على الاستئنافِ. وقرأ أيضاً بفتح الياء وضمِّ الراء ورفعِ «أَضْغانُكم» فاعلاً بفعله. وابن عباس في آخرين «وتَخْرُجْ» بالتاء مِنْ فوقُ وضم الراء «أضغانُكم» فاعلٌ به. ويعقوب «ونُخْرِجْ» بنون العظمة وكسرِ الراء «أضغانَكم» نصباً.
وقُرِئ «يُخْرَجْ» بالياء على البناء للمفعولِ «أَضْغانُكم» رفعاً به. وعيسى كذلك إلَاّ أنه نَصَبه بإضمار «أَنْ» عطفاً على مصدرٍ متوهَّمٍ أي: يَكُنْ بُخْلُكُمْ وإخراجُ أضغانِكم.
قوله: {هَا أَنتُمْ هؤلاء} : قال الزمخشري: «هؤلاء» موصولٌ صلتُه «تَدْعُوْن» أي: أنتم الذين تَدْعُون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثم استأنف وصفَهم كأنهم قالوا: وما وَصْفُنا؟ فقيل: تَدْعون «. قلت: قد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة آل عمران.
قوله: {يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} بَخِلَ وضَنَّ يتعديَّان ب على تارةً وب عن أخرى. والأجودُ أَنْ يكونا حالَ تَعدِّيهما ب» عن «مضمَّنَيْن معنى الإِمْساك.
قوله:» وإنْ تَتَوَلَّوْا «هذه الشرطيةُ عطفٌ على الشرطية قبلها، و {ثُمَّ لَا يكونوا} عطفٌ على» يَسْتَبْدِلْ «.