الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبرارها، وساد القبيلة منافقوها". والأحاديث في هذا كثيرة، تطلب من مظانها.
فصل: [ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على سبيل المداهنة]
وترك ذلك على سبيل المداهنة، والمعاشرة، وحسن السلوك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الجاهلين، أعظم ضرراً، وأكبر إثماً من تركه لمجرد الجهالة. فإن هذا الصنف، رأوا أن السلوك وحسن الخلق، ونيل المعيشة لا يحصل إلا بذلك، فخالفوا الرسل وأتباعهم، وخرجوا عن سبيلهم ومنهاجهم، لأنهم يرون العقل إرضاء الناس على طبقاتهم، ويسالمونهم، ويستجلبون مودتهم ومحبتهم؛ وهذا مع أنه لا سبيل إليه، فهو إيثار للحظوظ النفسانية والدعة، ومسالمة الناس وترك المعاداة في الله وتحمل الأذى في ذاته.
وهذا في الحقيقة هو الهلكة في الآجلة، فما ذاق طعم الإيمان، من لم يوال في الله ويعاد فيه، فالعقل كل العقل، ما أوصل إلى رضى الله ورسوله، وهذا إنما يحصل بمراغمة أعداء الله، وإيثار مرضاته، والغضب إذا انتهكت محارمه. والغضب ينشأ من حياة القلب، وغيرته وتعظيمه، وإذا عدم الحياة والغيرة والتعظيم، وعدم الغضب والاشمئزاز، وسوى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته، فأي خير يبقى في قلب هذا؟
وفي بعض الآثار: "أن الله أوحى إلى جبرائيل، أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب إن فيهم فلان العابد، قال: به فابدأ، إنه لم يتمعر وجهه فيّ قط". وذكر ابن عبد البر: "أن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها، فوجدا فيها رجلاً قائماً يصلي في مسجد، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلاناً يصلي، فقال الله عز وجل: دمراها، ودمراه معهم، فإنه ما تمعر وجهه فيّ قط". انتهى.
ومن له علم بأحوال القلوب، وما يوجبه الإيمان ويقتضيه، من الغضب لله، والغيرة لحرماته وتعظيم أمره ونهيه، يعرف من تفاصيل ذلك فوق ما ذكرنا، ولو لم يكن إلا مشابهة المغضوب عليهم والضالين، في الأنس بأهل المعاصي، ومواكلتهم، ومشاربتهم، لكفى بذلك عيباً، والله الموفق والهادي، لا إله غيره، والسلام.
وقال أيضا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما الفرق بين المداراة والمداهنة: فالمداهنة: ترك ما يجب لله من الغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك، لغرض دنيوي، وهوى نفساني، كما في حديث:" إن من كان قبلكم كانوا إذا فعلت فيهم الخطيئة، أنكروها ظاهراً، ثم أصبحوا من الغد يجالسون أهلها، ويواكلونهم ويشاربونهم كأن لم يفعلوا شيئا بالأمس "1. فالاستئناس والمعاشرة، مع القدرة على الإنكار، هي المداهنة.
1 صحيح البخاري: كتاب الفتن (7108)، وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (532) وكتاب الفضائل (1337) وكتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2879)، وسنن ابن ماجة: كتاب الفرائض (2746) ، ومسند أحمد (1/30، 2/40، 2/110، 5/348)، وسنن الدارمي: كتاب السير (2518) .
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم
…
لم تدْم ناقتهم بسيف قدارِ
وأما المداراة، فهي: درء الشر المفسد بالقول اللين، وترك الغلظة، أو الإعراض عنه إذا خيف شره، أو حصل منه أكبر مما هو ملابس؛ وفي الحديث:" شركم من اتقاه الناس خشية فحشه "، وعن عائشة، رضي الله عنها:" أنه استأذن على النبي رجل، فقال: بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، ألان له الكلام، فقالت عائشة: قلت فيه يا رسول الله ما قلت؟ فقال: إن الله يبغض الفحش والتفحش "1.
وقال أيضاً، رحمه الله تعالى: من حكمة الرب تعالى، أنه ابتلى عباده المؤمنين، الذين يدعون الناس إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، بثلاثة أصناف من الناس، وكل صنف له أتباع:
الصنف الأول: من عرف الحق فعاداه حسداً وبغياً، كاليهود، فإنهم أعداء الرسول والمؤمنين، كما قال تعالى:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة البقرة آية: 90]، {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 146] .
الصنف الثاني: الرؤساء أهل الأموال، الذين فتنتهم
1 البخاري: الأدب (6054)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2591)، والترمذي: البر والصلة (1996)، وأبو داود: الأدب (4791، 4792) ، وأحمد (6/38) .
دنياهم وشهواتهم، لما يعلمون أن الحق يمنعهم من كثير مما أحبوه وألفوه من شهوات الغي، فلم يعبؤوا بداعي الحق، ولم يقبلوا منه.
الصنف الثالث: الذين نشؤوا في باطل وجدوا عليه أسلافهم، فهم يظنون أنهم على حق وهم على الباطل، فهؤلاء لم يعرفوا إلا ما نشؤوا عليه، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] . وكل هذه الأصناف الثلاثة وأتباعهم أعداء الحق، من لدن زمن نوح إلى أن تقوم الساعة. فأما الصنف الأول: فقد عرفت ما قال الله فيهم، وأما الصنف الثاني: فقد قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] . وقال عن الصنف الثالث: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22]، وقال:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [سورة الصافات آية: 69-70] .
[ترك الأمر بالمعروف إرضاء للناس]
وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق: إلى من بلغه من المسلمين، ألزمهم الله شرائع الدين، وجنبهم طريق الكفار والمنافقين آمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فالموجب للخط هو النصيحة لكم، والمعذرة من الله في إبلاغكم، فإن الله تعالى يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159]، وقال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .
وقد سمعتم فيما يتلى عليكم من حلول العقوبات، عند ظهور المنكرات، ولكن قد فتح الشيطان لكثير من الناس أبواباً من الشر، في إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألقاها على أناس فيهم شبهة دين، حتى اعتقدوها أعذاراً لهم، وإنما هي من زخارف الشياطين ولكن إذا تبين أن الزاني والسارق وشارب الخمر، أحسن حالاً عند الله من هؤلاء الجنس، فهذا كاف في شناعة مذهبهم
وسوء منقلبهم، فنسأل الله العفو والعافية.
ومما ينبغي أن يعلم: أن العقل على ثلاثة أنواع: عقل غريزي، وعقل إيماني مستفاد من مشكاة النبوة، وعقل نفاقي شيطاني، يظن أربابه أنهم على شيء؛ وهذا العقل هو حظ كثير من الناس بل أكثرهم، وهو عين الهلاك، وثمرة النفاق. فإن أربابه يرون أن العقل إرضاء الناس جميعهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم وشهواتهم، واستجلاب مودتهم، ويقولون: صلح نفسك بالدخول مع الناس، ولا تبغض نفسك عندهم؛ وهذا هو إفساد النفس، وهلاكها من أربعة أمور:
أحدها: أن فاعل ذلك قد التمس رضى الناس بسخط الله، وصار الخل في نفسه أجل من الله؛ ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس؛ فقد جاء أن الله تعالى يقول:"إذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد". فإذا ترك القادر المعروف فلم يأمر به، والمنكر فلم ينه عنه، فقد تسبب أن الله يلعنه لعنة تبلغ السابع من ولده، ومصداق ذلك قوله تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 78] . فقد ظهر أن هذا المداهن قد أفسد نفسه من حيث يظن أنه يصلحها.
الثاني: أن المداهن لا بد أن يفتح الله له باباً من الذل والهوان من حيث طلب العز; وقد قال بعض السلف: من ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مخافة المخلوقين، نزعت منه الطاعة؛ فلو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه، فكما هان عليه أمر الله، أهانه الله وأذله، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة آية: 67] .
الثالث: أنها إذا نزلت العقوبات، فالمداهن داخل فيها، كما في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [سورة الأنفال آية: 25] ، وفي المسند والسنن عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إن من كان قبلكم إذا عمل العامل بالخطيئة، جاءه الناهي تعذيراً إليه، فإذا كان الغد جالسه، وواكله وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . والذي نفس محمد بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد السفيه، ولتأطرنّه على الحق أطراً، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم ". وذكر ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: "لما أصاب داود الخطيئة، قال: يا رب اغفر لي، قال: قد غفرتها لك، وألزمت عارها بني إسرائيل، قال: لِم يا رب؟ كيف -
وأنت الحكم العدل لا تظلم أحداً - أنا أعمل الخطيئة، وتلزم عارها غيري؟! فأوحى الله إليه: أنك لما عملت لم يعيبوا عليك بالإنكار".
وذكر ابن أبي الدنيا: "أن الله أوحى إلى يوشع بن نون، إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، وستين ألفاً من شرارهم، قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم". وذكر ابن عبد البر وغيره: "أن الله تعالى أمر ملكاً من الملائكة أن يخسف بقرية، فقال: يا رب، إن فيهم فلاناً الزاهد العابد، قال: به فابدأ، وأسمعني صوته، إنه لم يتمعر وجهه فيّ يوماً قط". فالنجاة عند نزول العقوبات، هي لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} الآية [سورة الأعراف آية: 165] .
الرابع: أن المداهن، الطالب رضى الخلق، أخبث حالاً من الزاني والسارق والشارب؛ قال ابن القيم، رحمه الله تعالى: وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله، وأكثر الدينين لا يعبؤون منها، إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله وكتابه ودينه، فهذه الواجبات،
لا يخطرن ببالهم، فضلاً عن أن يريدوا فعلها، فضلاً عن أن يفعلوها. وأقل الناس ديناً، وأمقتهم إلى الله، من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها. وقل أن يرى منهم من يحمر وجهه، ويتمعر في الله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه؛ وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء. انتهى.
فلو قدر أن رجلاً يصوم النهار، ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب، ولا يتمعر وجهه ويحمر لله، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم ديناً؛ وأصحاب الكبائر أحسن حالا عند الله منه.
وقد حدثني من لا أتهم، عن شيخ الإسلام، إمام الدعوة النجدية، أنه قال مرة: أرى ناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم، يقرؤون ويبكون، فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، وأرى أناساً يعكفون عندهم، يقولون: هؤلاء لحى غوانم، وأنا أقول: إنهم لحى فوائن، فقال السامع: أنا لا أقدر أقول إنهم لحى فوائن، فقال الشيخ: أنا أقول: إنهم من العمي البكم.
ويشهد لهذا: ما جاء عن بعض السلف، أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق؛ فلو علم المداهن الساكت، أنه من أبغض الخلق عند الله،
وإن كان يرى أنه طيب، لتكلم وصدع. ولو علم طالب رضى الخلق، بترك الإنكار عليهم، أن أصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله منه، وإن كان عند نفسه صاحب دين، لتاب من مداهنته ونزع. ولو تحقق من يبخل بلسانه عن الصدع بأمر الله أنه شيطان أخرس، وإن كان صائما قائماً زاهداً، لما ابتاع مشابهة الشيطان بأدنى الطمع.
اللهم إنا نعوذ بك من كل عمل يغضب الرحمن، ومن كل سجية تقربنا من التشبه بالشيطان، أو نداهن في ديننا أهل الشبهات والنفاق والكفران. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الخروج من الهجرة]
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد اللطيف: إلى جناب كافة الإخوان، من أهل الأرطاوية وغيرهم، سلمهم الله تعالى من الأسواء، ووفقهم للتمسك بالعروة الوثقى، وحماهم من الآراء المضلة والأهواء؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الخط: زيادة تنبيهكم وتفهيمكم، وتحذيركم عن الشحناء والتفرق والاختلاف، لما من الله عليكم بمعرفة دينه، وهداكم له، وأنقذكم من ظلمات الجهل والهوى، والشرك والردى، ومن الجاهلية الذين من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات منهم رمي به في النار. وإن الله سبحانه وبحمده ما قطع الأخوة الإسلامية بين القاتل ظلماً، وبين المقتول، مع شدة الوعيد بقتل الظلم، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [سورة البقرة آية: 178] فسماه أخاً له، ولم يقطع هذا الذنب العظيم الأخوة بينهم، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين َإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الحجرات آية: 9-10] ؛ ولم يقطع سبحانه الأخوة بين المسلمين، وإن وقع بينهما القتال، وبغى إحدى الطائفتين على الأخرى.
وأنتم تهاجرتم، وتشاحنتم على ما هو دون ذلك، مما لا يوجب الهجر؛ وهذه من أعظم دسائس الشيطان على أهل الإسلام، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وأيضاً، منّ الله سبحانه وبحمده، على من منّ عليه منكم، بالهجرة والاستيطان؛ وهذه نعمة عظيمة، ندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم من الأعراب وغيرهم، قال في حديث بريدة:" ادعهم إلى الهجرة والجهاد، فإن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين " 1، "وأخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل هاجر، ثم خرج من هجرته إلى البادية، فقال: ردة صغرى، ملعون من فعل ذلك، والذي يبقى على باديته ويحسن إسلامه، أحسن عند الله ممن هاجر ثم خرج من هجرته"، وبلغني: أن من أهل الأرطاوية أناساً هاجروا وبنوا، يريدون الخروج عن الهجرة إلى البادية؛ وهذه مصيبة عظيمة، لا يأمن من فعلها أن يقع في الردة الكبرى، ويكون
1 مسلم: الجهاد والسير (1731)، والترمذي: السير (1617)، وأبو داود: الجهاد (2612)، وابن ماجة: الجهاد (2858) ، وأحمد (5/352، 5/358) .
ممن ارتد على عقبيه من بعد ما تبين له الهدى، فاحذروا ذلك، واصبروا وصابروا ورابطوا، واستقيموا على أمر ربكم، ولا تكونوا ممن بدل نعمة الله كفرً. اوأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[هجران أهل المعاصي]
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد اللطيف: إلى جناب الإخوان الكرام من أهل الأرطاوية، سلمهم الله تعالى وتولاهم، وأصلح أحوالهم وعافاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ولزوم طاعته، وتقديم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما عداهما، فإن من ظفر بهما فقد نجا، ومن تركهما فقد ضل وغوى.
وأوصيكم أيضاً، بالبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الإنسان بأمر من أمور الخير، نظر: فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل، وسلامة في الدين، وكان الأصلح الأمر به، مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة، وإن كان يترتب على ذلك الأمر شر وفتن، وتفريق كلمة، في العاجل والآجل، ومضرة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في تركه، وجب تركه ولم يأمر به،
لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وأيضاً، ينبغي لمن قصده الخير والدعوة إلى الله، التوقع في الأمور والتثبت، وعدم الطيش والعجلة، والحرص على الرفق والملاطفة في الدعوة، فإن في ذلك خيراً كثيراً، وينبغي له أن يعرف من له قدم صدق ومعرفة راسخة، فيسأله ويستفتيه، ولا ينظر إلى الأشخاص، ولا من ليس له بصيرة.
وهجران أهل المعاصي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستقيم إلا بالبصيرة، والمعرفة التامة؛ وأقل الأحوال - إذا لم يحصل للعبد ذلك - أن يقتصر على نفسه، كما قال صلى الله عليه وسلم:" إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ".
فإذا رأى الإنسان من يعمل شيئاً من المعاصي، أبغضه على ما فيه من الشر، وأحبه على ما فيه من الخير، ولا يجعل بغضه على ما معه من الشر قاطعاً، وقاضياً على ما معه من الخير فلا يحبه؛ بل إن كان بغضه له يزجره، ويزجر أمثاله عن هذه المعصية مثلاً، هجره وأبغضه، وإن كان لا يزجره ذلك، ولا يرتدع هو وأمثاله، راعى ما فيه الأصلح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر من علم أن الهجر يزجره ويردعه، وقبل معذرة من علم أن الهجر لا ينجع فيه شيئاً، ووكل سرائرهم إلى الله.
وبلزوم هذه الطريقة مع النية الصالحة، تندفع المضار، وتأتلف القلوب، ويكون على الآمر والناهي الوقار والمحبة؛ والله الموفق الهادي للصواب. فاجتهدوا فيما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة، واعلموا: أنه لا ينجي عند اختلاف الناس، وكثرة الفتن، إلا البصيرة، وليس كل من انتسب إلى العلم، وتزيا بزيه، يسأل ويستفتى وتأمنونه على دينكم.
قال بعض السلف: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"، ولا تأخذوا عمن هب ودب، وحرم الفقه والبصيرة، فإنكم مسؤولون عن ذلك يوم القيامة. نسأل الله لنا ولكم العافية، في الدنيا والآخرة، والتوفيق لما يحبه ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو يقول الحق ويهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
[إلزام العامة والخاصة بالدين]
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، وخاتم المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من عبد الرحمن بن حسن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المجاهدين والقرى، والبادين، الذين هم إلى الإسلام منتسبين، وعلى التوحيد معتصمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فاعلموا، وفقنا الله وإياكم، أن الله تعالى - وله الحمد والمنة - منّ علينا، وعلى كافة أهل نجد، بالبيعة للإمام عبد الله بن الإمام فيصل، لما توفى الله أباه، رحمه الله؛ وقد صار له همة عالية، هي أعلى الهمم، وأوجبها على الإطلاق.
وذلك للسعي في تجديد هذا الدين، الذي من الله تعالى بقبوله من الداعي إليه، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، فجعل آل سعود: محمد وأبناؤه، هم
أنصاره، وخالفوا أهل نجد وغيرهم، لأن أكثرهم أجلبوا على رد ما دعاهم إليه هذا الشيخ من التوحيد، وكراهته، وعداوته.
وجعل الله هذه الحمولة، على قلتهم إذ ذاك، هم أنصاره، فما زال الأمر يزداد بالجهاد، حتى أكمله الله في نجد، وأكثر الحجاز، والشرق. فيا لها نعمة على من عرفها وقبلها، وأدى شكرها. وحصل التفاضل في العلم بالتوحيد، لكن معرفته على الحقيقة تحتاج إلى تجديد، لا سيما في هذه الأوقات التي عمت فيها الغفلة، والإعراض عن هذا الأصل العظيم، وهو دين الله الذي رضيه لعباده، وخلقهم له، وأرسل به رسله، وأنزل به كتبه، وهو إخلاص العبادة لله وحده، دون ما سواه.
والعبادة: كل ما يحب الله تعالى من عبده أن يقصده به، فهو عبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغيره، كالدعاء، والاستعانة؛ وقد ذكر الله تعالى أنواع العبادة في كتابه، من ذلك: الدعاء الذي هو مخ العبادة، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} الآية [سورة الرعد آية: 14] .
والمقصود: أن هذا الأصل العظيم، الذي هو الإسلام: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع،
يجب تجديده دائماً، تعلماً وتعليماً، ومعرفة أدلته، وما اشتملت عليه من البيان؛ فصار من هدي 1 - وفقه الله لما يحبه ويرضاه - أن ينظر لكم في رجلين من العلماء، يذكرانكم نعمة الله عليكم بهذا الدين، ويبيناه لكم، وينشرانه فيكم، ويسألان الخاصة والعامة عن الأصول والقواعد، التي لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، حتى يحصل بها بصيرة في معرفة التوحيد من ضده، وفيها معرفة حقوق التوحيد، من فرائض الإسلام.
فالواصل إليكم: علي بن عبد العزيز بن سليم، وعبد الله بن علي بن جريس، لما منّ الله به عليهما من معرفة هذا الدين، وإلزامهم العامة والخاصة ما منّ الله عليهم به من دينه الذي أعزهم الله به، وجملهم به.
فالواجب عليكم ردة الراس إلى ما ينفعكم، ويصير منكم إقبال بقلوبكم على هذا العلم الذي ما تستغنون عنه، وحاجتكم إليه أعظم من حاجتكم إلى الطعام والشراب. كذلك يقع أمور فيها إفراط وتفريط في آمر دينكم، فلا بد من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا بد للناس من آمر يأمرهم، وناه ينهاهم، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
1 بياض بالأصل.
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
ومن الناس من يتوسع في المحرمات، كلبس الحرير، يزينه الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، كذلك مواقع التهم التي يحصل بها فساد، فالغفلة عنها فساد، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه.
فالإمام - وفقه الله وهداه لما يحبه ويرضاه - قادهم إليكم، خوفاً من أن تفعلوا ما يوقع في المحرمات، ويجلب العقوبات العاجلة والآجلة، فيجب على الأمير تركي، وكل رئيس في قبيلة: القيام بما فيه صلاح البلاد والعباد، ويدفع الله به كل شر ومكروه، فإن الله تعالى لا يرضيه من العباد إلا طاعته في الأمور التي نهى عنها وحذر. والنعمة عليكم عظيمة لمن رزقه الله النية إذا عرفتم هذا الدين، حصل فيه أجر عظيم وغدوة في سبيل الله، وروحة خير من الدنيا وما عليها. والمجاهد كل أحواله عمل صالح، حتى نومه ونفسه. حماني الله وإياكم عما يوجب سخطه وغضبه.
وخط الإمام عبد الله تشرفون عليه إن شاء الله تعالى.
[جعل في كل محلة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر]
وقال الإمام عبد الله بن فيصل بن تركي، رحمهم الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن فيصل، إلى الأمير: مجاهد بن عبد الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، يكون عندك معلوماً: أن الله أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 104]، وأوجبه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه "1.
وأنت - ولله الحمد - لك القدرة باليد واللسان، ويذكر لنا: أنه يحدث في بلدتكم بعض المنكرات، من موالاة المشركين ومحبة أعداء الدين، وعدم تنظيم أحكام الشرع، وشرب المسكرات، والتماهن عن الصلوات بالحاضر، أنا ملزمك، ومن ذمتي في ذمتك: أنك تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتنظم أحكام الشرع، وتأخذ على يد السفيه، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
1 مسلم: الإيمان (49)، والترمذي: الفتن (2172)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008)، وأبو داود: الصلاة (1140)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) ، وأحمد (3/20، 3/49، 3/54، 3/92) .
وعبد المحسن وابنه، ملزمينهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما بينوا لك فيلزمك القيام به، وتجعل معهم من يعاضدهم، وتجعل في كل طرف إنساناً من أهله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويكون ناظرة عليهم. ويكون عندك معلوماً: أنه ما يتعرض الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر خاص أو عام، فلا يكفينا نكاله بماله دون حاله، ويلزمكم ترفعون خبره إلينا.
وكذلك، يذكر لنا أنه ينزل في القيظ عندكم، في أطراف البلد "صلبة" يحصل منهم فساد، فأنت نبه عليهم، لا ينزلها أحد، ومن نزلها فالأدب في رأسك، والسلام.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن قوله صلى الله عليه وسلم: " للعامل منهم أجر خمسين " 1
…
إلخ؟
فأجاب: اعلم أولاً: أن هذا الحديث المشار إليه، خرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة، من طريق عتبة بن حكيم، عن عمرو بن حارثة، عن أبي أمية الشعباني، عن أبي ثعلبة الخشني، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [سورة المائدة آية: 105] : أما والله: لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمراً لا بد لك منه – وفي لفظ - لا يدان لك به، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام؛ فإن وراءكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن كان كمن قبض على الجمر؛ للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله. قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم " 2، وعتبة هذا، قال الحافظ المنذري، في مختصر السنن لأبي داود: هو: العباس بن أبي حكيم الهمداني الشامي، وثقه غير واحد، وتكلم فيه غير واحد؛ قلت: وقد حكم الترمذي على هذا الحديث، أنه حسن غريب.
إذا عرفت ذلك، فالمعنى الذي لأجله استحق الأجر العظيم والثواب، وساوى فضل خمسين من الصحابة، إنما هو لعدم المعاون والمساعد، على ما ذكره الحافظ أبو
1 الترمذي: تفسير القرآن (3058)، وابن ماجة: الفتن (4014) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3058)، وأبو داود: الملاحم (4341)، وابن ماجة: الفتن (4014) .
سليمان الخطابي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن رجب وغيرهما.
فالمستقيم على المنهج السوي، والطريق النبوي، عند فساد الزمان ومروج الأديان، غريب ولو عند الحبيب، إذ قد توفرت الموانع، وكثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التغيير في الدين والتبديل، واتباع الهوى والتضليل، وفقد المعين، وعز من تلوذ به من الموحدين، وصار الناس كالشيء المشوب، ودارت بين الكل رحى الفتن والحروب، وانتشر شر المنافقين، وعيل صبر المتقين، وتقطعت سبل المسالك، وترادفت الضلالات والمهالك، ومنع الخلاص ولات حين مناص؛ فالموحد بينهم أعز من الكبريت الأحمر، ومع ذلك فليس له مجيب ولا راع، ولا قابل لما يقول ولا داع. وقد نصبت له رايات الخلاف، ورمي بقوس العداوة والاعتساف، ونظرت إليه شزر العيون، وأتاه الأذى من كل منافق مفتون، واستحكمت له الغربة، وأفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام وعراه من الانثلام والانفصام، والباطل قد اضطرمت ناره، وتطاير في الآفاق شراره؛ ومع هذا كله، فهو على الدين الحنيفي مستقيم، وبحجج الله وبراهينه مقيم، فبالله، قل لي: هل يصدر هذا إلا عن يقين صدق راسخ في الجنان، وكمال توحيد وصبر وإيمان، ورضى
وتسليم لما قدره الرحمن؟ وقد وعد الله الصابرين جزيل الثواب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر آية: 10] . وقد قال بعض العلماء، رحمهم الله: من اتبع القرآن والسنة، وهاجر إلى الله بقلبه، واتبع آثار الصحابة، لم يسبقه الصحابة، إلا بكونهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي ذلك الزمان، فالكل له أعوان وإخوان، ومساعدون ومعاضدون، ولهذا قال علي بن المديني، كما ذكره عنه ابن الجوزي، في كتاب صفوة الصفوة: ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل، قيل: يا أبا الحسن، ولا أبا بكر الصديق؟ قال: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان له أصحاب وأعوان، وأحمد بن حنبل لم يكن له أصحاب. انتهى.
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل " 1، ورواه أبو بكر الآجري الحنبلي، وعنده:" قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس " 2، ورواه غيره، وعنده:" قال: الذين يفرون بدينهم من الفتن ". ورواه الترمذي عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: " الذين يصلحون ما أفسد الناس
1 الترمذي: الإيمان (2629)، وابن ماجة: الفتن (3988) ، وأحمد (1/398)، والدارمي: الرقاق (2755) .
2 أحمد (4/73) .
من سنتي "، ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث سعد بن أبي وقاص، ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: قوم صالحون قليل، في قوم سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " 1، قال الأوزاعي في تفسيره: أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد، أو رجلان.
ورواه البخاري عن مرداس السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة كحثالة الشعير، أو التمر، لا يباليهم الله باله"2. وكان الحسن البصري يقول لأصحابه: "يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أول الناس". وقال يوسف بن عبيد: "ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها". وروى أبو القاسم الطبراني وغيره، بإسناد فيه نظر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" المتمسك بسنتي عند اختلاف أمتي، له أجر شهيد ".
وروى مسلم في صحيحه عن معقل بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلي "3. وعن الحسن البصري: "لو أن رجلاً من الصدر الأول بُعث، ما عرف من الإسلام شيئاً إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله، لئن عاش على هذه المنكرات، فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، وصاحب دنيا يدعو إلى
1 أحمد (2/177) .
2 البخاري: الرقاق (6434) ، وأحمد (4/193)، والدارمي: الرقاق (2719) .
3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2948)، والترمذي: الفتن (2201)، وابن ماجة: الفتن (3985) ، وأحمد (5/27) .
دنياه، فعصمه الله، وقلبه يحن إلى ذلك السلف، ويتبع آثارهم ويستن بسنتهم، ويتبع سبيلهم، كان له أجر عظيم".
وروى المبارك بن فضالة، أحد علماء الحديث بالبصرة، عن الحسن البصري، أنه ذكر الغني المترف الذي له سلطان، يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال، الذي خرج على المسلمين، وتأول ما أنزل الله في الكفار على المسلمين، ثم قال:"سنتكم، والله الذي لا إله إلا هو، بينها وبين الغالي والجافي، والمترف والجاهل؛ فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس، الذين لم يأخذوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا على سنتهم حتى أتوا ربهم. فكذلك فكونوا إن شاء الله". ثم قال: "والله لو أن رجلاً أدرك هذه المنكرات، يقول هذا: هلم إلي! ويقول هذا هلم إلي! فيقول: لا أريد إلا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، يطلبها ويسأل عنها، إن هذا له أجر عظيم. فكذلك فكونوا إن شاء الله". وعن مورق، رحمه الله، قال: المتمسك بطاعة الله إذا جنب الناس عنها، كالكار بعد الفار. قال أبو السعادات ابن الأثير في النهاية: أي: إذا ترك الناس الطاعات ورغبوا عنها، كان المتمسك بها له ثواب كثواب الكار في الغزو، بعد أن فر الناس عنه.