المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في التنبيه على حاصل ما تقدم [في حكم موالاة المشركين] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٨

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌فصل: في التنبيه على حاصل ما تقدم [في حكم موالاة المشركين]

‌فصل: في التنبيه على حاصل ما تقدم [في حكم موالاة المشركين]

قد نهى الله سبحانه عن موالاة الكفار، وشدد في ذلك، وأخبر أن من تولاهم فهو منهم، وكذلك جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أحب قوماً حُشر معهم؛ ويُفهم مما ذكرنا من الكتاب والسنة، والآثار عن السلف، أمور، مَن فعلها دخل في تلك الآيات، وتعرض للوعيد بمسيس النار، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه.

أحدها: التولي العام.

الثاني: المودة والمحبة الخاصة.

الثالث: الركون القليل، قال تعالى:{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 74-75] . فإذا كان هذا الخطاب لأشرف مخلوق صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بغيره؟

الرابع: مداهنتهم ومداراتهم، قال الله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9] .

الخامس: طاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون، كما قال تعالى:{وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [سورة الكهف آية: 28]، وقال تعالى:{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآيات [سورة القلم آية: 10] .

السادس: تقريبهم في الجلوس، والدخول على أمراء الإسلام.

ص: 154

السابع: مشاورتهم في الأمور.

الثامن: استعمالهم في أمر من أمور المسلمين، أي أمر كان، إمارة أو عمالة، أو كتابة، أو غير ذلك.

التاسع: اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين.

العاشر: مجالستهم ومزاورتهم، والدخول عليهم.

الحادي عشر: البشاشة لهم والطلاقة.

الثاني عشر: الإكرام العام.

الثالث عشر: استئمانهم وقد خوّنهم الله.

الرابع عشر: معاونتهم في أمورهم ولو بشيء قليل، كبرْي القلم، وتقريب الدواة ليكتبوا ظلمهم.

الخامس عشر: مناصحتهم.

السادس عشر: اتباع أهوائهم.

السابع عشر: مصاحبتهم ومعاشرتهم.

الثامن عشر: الرضاء بأعمالهم، والتشبه بهم والتزيي بزيهم.

التاسع عشر: ذكر ما فيه تعظيم لهم، كتسميتهم سادات وحكماء، كما يقال للطواغيت: السيد فلان، أو يقال لمن يدعي علم الطب: الحكيم، ونحو ذلك.

العشرون: السكنى معهم في ديارهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من جامع المشركين وسكن معهم، فإنه مثلهم"، رواه أبو داود.

إذا تبين هذا، فلا فرق في هذه الأمور، بين أن يفعلها مع أقربائه منهم، أو مع غيرهم، كما في آية المجادلة؛ وحينئذ، فالذي يتسبب بالدفع عنهم حمية، إما بطرح نكال، أو دفن نقائص المسلمين، أو يشير بكف المسلمين عنهم، من أعظم الموالين المحبين للكفار، من المرتدين والمنافقين وغيرهم، خصوصاً المرتدين، ينبغي أن تكون الغلظة عليهم

ص: 155

أشد من الكافر الأصلي، لأن هذا عادى الله على بصيرة، وعادى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ما عرف الحق، ثم أنكره وعاداه والعياذ بالله.

فإذا كان من أعان ظالماً فقد شاركه في ظلمه، فكيف بمن يعين الكفار، والمنافقين على كفرهم ونفاقهم؟ وإذا كان من أعان ظالماً مسلماً في خصومة ظلم عند حاكم، شريكاً للظالم، فكيف بمن يعين الكفار، ويذب عنهم عند الأمراء؟ وإذا كان الحرامية الذين يأخذون أموال الناس، إذا بذلوا للأمير مالاً على أن يكف عنهم، فهو رئيسهم، فما ظنك بمن يسرّ إلى الكفار بالمودة، ويعلمهم أنه يحبهم، ليواصلوه ويكرموه؟ كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، وغيره

ولكن طرح النكال، إن كان عن مسلم مظلوم، فالشفاعة فيه، والسعي في إسقاطه بالرأي ونحوه، حسن، وإن كان عن مرتد، فلا نعما لعثرته ولا كرامة؛ ويكفي في ذلك ما رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود قال:" لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تأمرون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: قومك يا رسول الله وأهلك، فاستبقهم لعل الله يتوب عليهم "، وفي حديث أنس، عن أحمد: " نرى أن تعفو عنهم،

ص: 156

وتقبل منهم الفداء"; وفي حديث ابن مسعود: فقال عمر: "يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم" فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئاً. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"يا أبا بكر: مثلك مثل إبراهيم عليه السلام، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة إبراهيم آية: 36] . ومثلك يا عمر كمثل نوح، قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [سورة نوح آية: 26] . أنتم عالة؛ فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء، أو ضرب عنق"; فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيتين [سورة الأنفال آية: 67] . مختصراً.

وفي حديث أنس: فأنزل الله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [سورة الأنفال آية: 68] ; وفي حديث ابن عمر، عند أبي نعيم: فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، فقال:" كاد أن يصيبنا في خلافك شر "، وفي رواية عنه - عند ابن المنذر وابن مردويه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل عذاب ما أفلت إلا عمر ".

فإذا كان هذا في رأي الصديق رضي الله عنه الذي اجتهد فيه، ونصح لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بمن يفعل ذلك، مع حمية دنيوية، لا لغرض دين، ولا يقصد وجه الله بذلك، بل لا يقصد إلا الدنيا؟

ص: 157

فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذم أبا بكر على التشبيه، بل شبهه بإبراهيم وعيسى وميكائيل، عليهم السلام، وشبه عمر بجبريل ونوح وموسى عليهم السلام. قيل: المراد في الموافقة في أهل اللين والرحمة، لا في خصوص هذه المسألة، فإن الصواب فيها مع عمر قطعاً بكتاب الله، ومع ذلك توعد الله في أخذ الفداء بالعذاب، لولا ما سبق من كتاب الله أنه رأي للصديق رضي الله عنه الذي اجتهد فيه، فكيف بمن ينصح لهم، ويرفق بهم، ويرى الكف عن القتال، ويشير بإسقاط النكال عنهم من غير مسوغ شرعي، بل لمجرد المحبة الدنيوية؟

وأما من يشير بكف المسلمين عنهم، فإن كان مراده بذلك تأليفهم، على الدخول في الإسلام، أو دخلوا فيه، أو واعدوه بالدخول فيه عن قريب، وكانت المصلحة في تركهم قليلة ونحوه، يجوز ذلك; وإن كان المراد به: أن لا يتعرض المسلمون لهم بشيء، لا بقتال ولا نكال، وإغلاظ ونحو ذلك، فهو من أعظم أعوانهم، وقد حصلت له موالاتهم مع بعد الديار، وتباعد الأقطار، كما قيل:

سهم أصاب وراميه بذي سلم

من بالعراق لقد أبعدت مرماك

وأما من يشير بترك نقائص المسلمين لهم إن كانوا مرتدين، فهذا عند الفقهاء مخطئ آثم، لأنه يجب على

ص: 158

المرتد ضمان ما أتلفه للمسلمين في حال الردة، خصوصاً من تكررت منه الردة مراراً، فإنه لا يقصد بذلك في هذا الزمان، إلا الإغارة والنهب لا غير، فترك ذلك له من أعظم المعاونة على الإثم والعدوان؛ ولهذا لما صار هذا أمراً سائغاً عند بعض الناس، انفتحت للبدوان أبواب الردة، وأتوها مهطعين من كل وجه؛ ولو كان هذا مصلحة في بعض الأوقات رآها بعض الأمراء، فلا يجب طرد ذلك لكل أحد في كل زمان، فاعلم ذلك.

وأما قول السائل: هل يكون هذا موالاة نفاق؟ أم يكون كفراً؟

فالجواب: إن كانت الموالاة مع مساكنتهم في ديارهم، والخروج معهم في قتالهم، ونحو ذلك، فإنه يحكم على صاحبها بالكفر، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51]، قال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من جامع المشركين وسكن معهم، فإنه مثلهم"، وقال:" أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين " 1، رواهما أبو داود.

وإن كانت الموالاة لهم في ديار الإسلام إذا قدموا إليهم، ونحو ذلك، فهذا عاص آثم متعرض للوعيد. وإن كان

1 الترمذي: السير (1604)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

ص: 159

موالاتهم لأجل دنياهم، يجب عليه من التعزير بالهجر والأدب ونحوه ما يزجر أمثاله. وإن كانت الموالاة لأجل دينهم، فهو مثلهم، ومن أحب قوماً حشر معهم.

ولكن ليتفكر السائل في قوله: حمية دنيوية، يمكن هذا لإبلاغ المحبة في قلوبهم، وإلا فلو كان يبغضهم في الله ويعاديهم، لكان أقر شيء لعينه ما يسخطهم، ولكن كما قال ابن القيم:

أتحب أعداء الحبيب وتدعي

حباً له ما ذاك في إمكانِ

وأما قول السائل: فإن كان ما يقدر من نفسه أن يتلفظ بكفرهم وسبهم، ما حكمه؟

فالجواب: لا يخلو ذلك عن أن يكون شاكاً في كفرهم أو جاهلاً به، أو يقر بأنهم كفرة هم وأشباههم، ولكن لا يقدر على مواجهتهم وتكفيرهم، أو يقول: غيرهم كفار، لا أقول إنهم كفار; فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم، بينت له الأدلة من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر بإجماع العلماء: على أن من شك في كفر الكافر، فهو كافر.

وإن كان يقرّ بكفرهم، ولا يقدر على مواجهتهم بتكفيرهم، فهو مداهن لهم، ويدخل في قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9] ، وله حكم أمثاله من أهل

ص: 160

الذنوب. وإن كان يقول: أقول غيرهم كفار، ولا أقول هم كفار، فهذا حكم منه بإسلامهم، إذ لا واسطة بين الكفر والإسلام، فإن لم يكونوا كفاراً فهم مسلمون; وحينئذ فمن سمى الكفر إسلاماً، أو سمى الكفار مسلمين، فهو كافر، فيكون هذا كافراً.

وأما قوله: إذا عرفت هذا من إنسان ماذا يجب عليك؟

فالجواب: يجب عليك أن تنصحه، وتدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، وتعرفه قبيح ما ارتكبه؛ فإن تاب فهذا هو المطلوب، وإن أصر وعاند فله حكم ما ارتكبه: إن كان كفراً فكافر، وإن كان معصية أو إثماً فعاص آثم، يجب الإنكار عليه وتأديبه، وهجره وإبعاده حتى يتوب. وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم من تخلف عن غزوة واحدة، ونهى عن كلامهم والسلام عليهم، فكيف بمن يوالي الكفار ويظهر لهم المودة؟

وسئل: هل يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفار الحربية، لأجل التجارة، أم لا؟

الجواب: الحمد لله، إن كان يقدر على إظهار دينه، ولا يوالي المشركين، جاز له ذلك؛ فقد سافر بعض الصحابة، رضي الله عنهم، كأبي بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة، إلى بلدان المشركين، لأجل التجارة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أحمد في مسنده وغيره.

ص: 161

وإن كان لا يقدر على إظهار دينه، ولا على عدم موالاتهم، لم يجز له السفر إلى ديارهم، كما نص على ذلك العلماء، وعليه تحمل الأحاديث، التي تدل على النهي عن ذلك، ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز.

وأيضاً، فقد يجره ذلك إلى موافقتهم، وإرضائهم كما هو الواقع كثيراً ممن يسافر إلى بلدان المشركين، من فساق المسلمين، نعوذ بالله من ذلك.

المسألة الثانية: هل يجوز للإنسان أن يجلس في بلد الكفار، وشعائر الكفر ظاهرة لأجل التجارة؟

الجواب عن هذه المسألة هو الجواب عن التي قبلها سواء، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب أو دار الصلح، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها، لا يجوز له السفر إليها.

المسألة الثالثة: هل يفرق بين المدة القريبة مثل شهر أو شهرين، والمدة البعيدة؟

الجواب: أنه لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة، فكل بلد لا يقدر على إظهار دينه فيها، ولا على عدم موالاة المشركين، لا يجوز له المقام فيها ولا يوماً واحداً، إذا كان

ص: 162

يقدر على الخروج منها.

المسألة الرابعة: في معنى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:" من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله"1.

الجواب: أن معنى الآية على ظاهرها، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها، ويستهزأ بها، فجلس عند الكافرين المستهزئين، من غير إكراه ولا إنكار، ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، فهو كافر مثلهم، وإن لم يفعل فعلهم، لأن ذلك يتضمن الرضاء بالكفر، والرضاء بالكفر كفر. وبهذه الآية ونحوها، استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله، فإن ادعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يقبل منه لأن الحكم على الظاهر، وهو قد أظهر الكفر، فيكون كافراً. ولهذا لما وقعت الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وادعى أناس أنهم كرهوا ذلك، لم يقبل منهم الصحابة ذلك، بل جعلوهم كلهم مرتدين، إلا من أنكر بلسانه وقلبه. وكذلك قوله في الحديث:" من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله " 2 على ظاهره، وهو أن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع، والنصرة، والمنزل معهم، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر مثلهم، وإن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يوالي المشركين.

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

2 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 163

ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين أقاموا بمكة بعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فادعوا الإسلام إلا أنهم أقاموا في مكة، يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج، فقُتلوا، وظن بعض الصحابة أنهم مسلمون، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله تعالى فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]، قال السدي وغيره من المفسرين: إنهم كانوا كفاراً، ولم يعذر الله منهم إلا المستضعفين.

المسألة الخامسة: هل يقال لمن أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام أنه منافق، أم لا؟

الجواب: أنه من ظهرت منه علامات النفاق الدالة عليه، كارتداده عند التحزيب على المؤمنين، وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وكونه إذا غلب المشركون التجأ معهم، وإن غلب المسلمون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها علامات للنفاق، وصفات للمنافقين، فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه، وتسميته منافقاً. وقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، يفعلون ذلك كثيراً، كما قال حذيفة، رضي الله تعالى عنه:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً"، وكما قال عوف بن

ص: 164

مالك لذلك المتكلم بذلك الكلام القبيح: "كذبت، ولكنك منافق"; وكذلك قال عمر في قصة حاطب: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"; وفي رواية: "دعني أضرب عنقه فإنه منافق"، وأشباه ذلك كثير. وكذلك قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة، لما قال ذلك الكلام:"كذبت ولكنك منافق، تجادل عن المنافقين". ولكن ينبغي أن يعرف: أنه لا تلازم بين إطلاق النفاق عليه ظاهراً، وبين كونه منافقاً باطناً; فإذا فعل علامات النفاق، جاز تسميته منافقاً لمن أراد أن يسميه بذلك، وإن لم يكن منافقاً في نفس الأمر، لأن بعض هذه الأمور قد يفعلها الإنسان مخطئاً لا علم عنده، أو لقصد يخرج به عن كونه منافقاً، فمن أطلق عليه النفاق لم ينكر عليه، كما لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسيد بن حضير تسميته سعداً منافقاً، مع أنه ليس بمنافق، ومن سكت لم ينكر عليه، بخلاف المذبذب الذي ليس مع المسلمين، ولا مع المشركين، فإنه لا يكون إلا منافقاً.

واعلم: أنه لا يجوز إطلاق النفاق على المسلم بالهوى والعصبية، أو لكونه يشاحن رجلاً في أمر دنيا، أو يبغضه لذلك، أو لكونه يخالف في بعض الأمور، التي لا يزال الناس فيها مختلفين؛ فليحذر الإنسان أشد الحذر، فإنه قد صح في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن رمى مؤمناً بكفر فهو

ص: 165

كقتله؛ وإنما يجوز من ذلك ما كانت العلامات مطردة في النفاق، كالعلامات التي ذكرنا وأشباهها، بخلاف مثل الكذبة والفجرة ونحو ذلك، وكان قصد الإنسان ونيته إعلاء كلمة الله، ونصر دينه.

المسألة السادسة: في الموالاة والمعاداة، هل هي من معنى لا إله إلا الله، أو من لوازمها؟

الجواب: أن يقال: الله أعلم، لكن بحسب المسلم أن يعلم: أن الله افترض عليه عداوة المشركين، وعدم موالاتهم، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان، ونفى الإيمان عمن يواد من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أو إخوانهم أو عشيرتهم. وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله أو لوازمها، فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك، إنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه، وأوجب العمل به، فهذا هو الفرض والحتم الذي لا شك فيه، ومن عرف أن ذلك من معناها، أو من لازمها فهو حسن، وزيادة خير، ومن لم يعرفه فلم يكلف بمعرفته، لا سيما إذا كان الجدال والمنازعة فيه، مما يفضي إلى شر واختلاف، ووقوع فرقة بين المؤمنين، الذين قاموا بواجبات الإيمان، وجاهدوا في الله، وعادوا المشركين، ووالوا المسلمين، فالسكوت عن ذلك متعين، وهذا ما ظهر

ص: 166

لي، على أن الاختلاف قريب من جهة المعنى، والله أعلم.

[رد قول ابن نبهان أنه لا جهاد إلا مع إمام، وبيان حكم الجهاد والهجرة وموالاة المشركين]

قال الشيخ عبد الرحمن، رحمة الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرحمن بن حسن: إلى الابن صالح، سلمه الله تعالى آمين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، بلغنا: أن الباز أرسلوا لابن نبهان رسالة، كتبها حمد بن عتيق، متضمنة للاستدلال بالآيات المحكمات، في تحريم طاعتهم والركون إليهم، والإشارة إلى بعض معاني الآيات الواردة في ذلك، وهو أصل من أصول الدين لا بد من معرفته والبحث عنه، وبيانه للجاهل، لا سيما الواقع فيه، تذكيراً وتحذيراً، وهذا شرع محكم، لو اجتمع على دفعه من بأقطارها من عالم وجاهل، لما قدروا على رده بحجة أصلاً.

وبلغنا: أن ابن نبهان، لما أشرف على النسخة، كتب اعتراضات وأصل فيها أصولاً، لا يدري هل سبقه إليها مبتدع أم لا؟ فلو قيل لهم: من هذا مذهبه؟ ومن قال به؟ لم يجب عن ذلك بما يصلح أن يعد جواباً. فمن ذلك فيما بلغنا عنه: أنه لا جهاد إلا مع إمام، فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد، فيلزم على هذا أن ما يلزم بترك الجهاد من مخالفة دين الله وطاعته جائز، بجواز ترك الجهاد، فتكون الموالاة للمشركين،

ص: 167

والموافقة والطاعة جائزة، واللازم باطل، فبطل الملزوم؛ فعكس الحكم الذي دل عليه القرآن العزيز، من أنها لا تصلح إمامة إلا بالجهاد.

والأصل الثاني فيما بلغنا عنه: أنه قال: لا حجة فيما قاله الصحابة، رضي الله عنهم، في معنى القرآن العزيز؛ فإذا لم يكن قول الصحابة حجة، وهم الذين أخذوه عن نبيهم، وحضروا نزوله، وعرفوا أسبابه، وهم أعلم الأمة وأعدلها، الحجة في التفسير، فليت شعري هل عرف من هذا مذهبه من المبتدعة، إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى أن نطيل بذكره. والحاصل: أن المطلوب منك: أخذ ما كتبه وإرساله إلي لأنظر فيه، ليطالب في كل لفظة ببرهانها، وليظهر تناقضه؛ فإن المقام مقام لا يسع تركه، فلو كان قد صدر ممن لا يدعي المعرفة، لكان حقيقاً بالإعراض عنه، وأما من هو مثل هذا الذي يدعي أنه يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فلا بد من بيان ما فيه، لئلا يغتر به جاهل؛ فإذا تبين ما فيه من الغلط والتناقض، دفع الشبهة عن ضعيف البصيرة، إن شاء الله تعالى. وهنا سؤال أسأله عنه، وأطلب جوابه منه، سله عن كلمة الإسلام التي هي أصل دين الله، عن معناها، وعن

ص: 168

مضمونها، وعن مدلولها، ومقتضاها، وحقها وحقيقتها، ولوازمها؛ فإن عرف ذلك تبين أنه قد عرف وأنكر؛ فإن لم يعرف ذلك وهو يدعي المعرفة، بطلت دعواه أصلاً؛ فإن خبط فالتخبيط لا ينفع أحداً ولا يفيد، فألزمه الجواب فهو حجة عليه. والله الموفق لبيان الهدى، والاستقامة عليه، والسلام.

فلما وصل إليه اعتراضات ابن نبهان، أوضح الحق من البهتان، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً.

أما بعد، فإنه ورد علينا رسالة من صاحبنا حمد بن عتيق، نور الله قلوبنا وقلبه بنور الإيمان، وثبتنا بالقول الثابت، عند تلاطم أمواج الامتحان، والله ناصر دينه وكتابه ورسوله في سائر الأزمان، لكن بمحنة حزبه من حربه، ذا حكمه مذ كانت الفئتان، فوجدت تلك الرسالة وافية بالمقصد الأعلى، والمنهج الأسنى، منهج أهل الحنيفية، والدعوة الإسلامية، من تحذير المغرورين والجاهلين، عن مداهنة الظالمين، وموالاة الكافرين ومظاهرة المسرفين، مستنداً في

ص: 169

ذلك إلى أوضح البراهين، من أدلة الكتاب والسنة، وإبراز معناهما المأثور عن الأئمة المحققين.

هذا، وقد وقع من بعض من لا إلف له بهذا الشأن، ولا جواد تحته تصلح للجري في هذا الميدان، بعض معارضات، إنما هي ضلالات وجهالات، ما اقتضى حين وقفت عليها بيان سلوك منهج العلماء، أهل الاتباع، والتحذير من موارد أهل الابتداع، كي تحصل السلامة إن شاء الله من موجب وعيد أهل الكتمان، والقيام بالنصيحة بالقلم واللسان; والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وهذه مقدمة نافعة قبل الشروع في المقصود: قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33] ، أخرج ابن جرير بسنده عن معمر، قال: تلا الحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة فصلت آية: 33]، قال:"هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله. أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: إنني من المسلمين؛ فهذا خليفة الله". وخرج بإسناده عن قتادة، قال: "هذا عبد صدق قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسره علانيته، وشاهده مغيبه. وأن المنافق خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه،

ص: 170

وسره علانيته، وشاهده مغيبه".

وأخرج في معنى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] ، بسنده عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنه قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام". وأخرج بسنده عن الزهري، قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} ، قال:"استقاموا والله على طاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب". وذكر في معنى قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] أي: "اعملوا به على ما شرع لكم ورضي به، ولا تتفرقوا فيه". وأخرج بسنده عن قتادة: "تعلموا: أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة"; وذكر في معنى قول الله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة الشورى آية: 15] يقول: فلذلك الدين الذي شرع لكم، ووصى به نوحاً، وأوحاه إليك يا محمد، فادع عباد الله واستقم على العمل به، ولا تزغ فيه واثبت عليه، كما أمرك ربك بالاستقامة.

قوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة المائدة آية: 48]، يقول تعالى: ولا تتبع أهواء الذين شكوا في الحق الذي شرعه الله لكم من الدين،

ص: 171

وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [سورة الشورى آية: 15] : مواثيق أخذها منهم، والكتاب كائناً ما كان ذلك الكتاب، توراة، أو إنجيلاً، أو زبوراً، أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعضه.

وقوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [سورة الشورى آية: 15]، يقول تعالى: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي لأعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعاً بالحق الذي أمرني به، وبعثني بالدعاء إليه. وساق بسنده عن قتادة، قال:"أمره الله أن يعدل حتى مات، والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد. وبالعدل يصدق الله الصادق ويكذب الكاذب، وبالعدل يرد المعتدي ويوبخه".

وقال البغوي في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [سورة هود آية: 112] : أي: على دين ربك والعمل به، والدعاء إليه. {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [سورة هود آية: 112] أي: لا تجاوزوا الأوامر، ولا تعصوني. {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 113] ، قال ابن عباس:"لا تميلوا"; والركون هو: الميل بالقلب والمحبة. وقال أبو العالية: "لا ترضوا بأعمالهم". وقال السدي: لا تداهنوا الظلمة; وعن عكرمة: لا تطيعوهم; وقيل: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي: فتصيبكم، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] .

فمن هذه الآيات، وما ذكرناه قبلها، من ثواب أهل

ص: 172

الاستقامة، وعقاب أهل الركون إلى الذين ظلموا، عرف ما بين أهل الاستقامة وأهل الركون من التفاوت العظيم، كما قال بعض العلماء: وإنما تفاوت الواجبات والمحرمات، بتفاوت المثوبات والعقوبات؛ فحال الفريقين متفاوتة أبعد تفاوت، لتفاوت ما بين ثواب هؤلاء وعقاب هؤلاء.

ويزداد هذا المقام إيضاحاً، بالتفكر في اثنتين عظيمتين: قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 13-14] ، نفى عنهم الخوف والحزن، وأخبر أنهم أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون، أي من توحيد الله وطاعته، وامتثال أمره وترك نهيه.

وقال تعالى فيمن سلك غير سبيلهم، بارتكاب ما نهى الله عنه:{تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} الآية [سورة المائدة آية: 80] ، فسجل تعالى على من تولى الكافرين، بالمذمة وحلول السخط عليهم، والخلود في العذاب، وأكد ذلك بنوعي التوكيد. ثم ذكر أن هذا الذي وصفهم به، ينافي الإيمان بالله والنبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه; ولها نظائر كقوله:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات [سورة النساء آية:

ص: 173

138-

139] .

فما أعظم ثواب أهل الاستقامة! وما أفظع عقاب متولي الكافرين! فكان الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان؛ فلا إله إلا الله، ما أبين هذا القرآن العظيم، لمن استضاء بنور العلم والإيمان! أفيظن من له أدنى مسكة من عقل، أن هذا التفاوت بهذه الأعمال، وتفاوت ثوابها وعقابها، إنما هو في حق من سلف دون من تأخر وخلف؟ وقد قال تعالى في جنس من خلف:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} الآية [سورة مريم آية: 59]، وقال:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} الآيتين [سورة القلم آية: 35-36] .

أفيظن مسلم أن وقوع ذلك من بعض من تقدم من هذه الأمة، جائز عليهم بكل حال، وأما من تأخر فمن الممتنع المحال؟ هيهات، لقد أحصيت الحسنات والسيئات على الآخر، كما أحصيت على الأول، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية [سورة الجاثية آية: 21] .

وقد ذكر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله، في رسالة وقعة التتار، قال: فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، يتناولان عموم الخلق، بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي، وعهود الله تعالى في كتابه

ص: 174

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تناول آخر هذه الأمة، كما تناولت أولها. وإنما قص الله علينا قصص الأمم قبلنا، لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر هذه الأمة بأولها، فيكون للمؤمن من المستأخرين، شبه بما كان للمؤمنين من المستقدمين، ويكون للكافرين والمنافقين من المستأخرين، شبه بما كان للكافرين والمنافقين من المستقدمين، كما قال:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [سورة يوسف آية: 111] .

وقال لما ذكر قصة فرعون: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [سورة النازعات آية: 25-26]، وقال:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة آل عمران آية: 13]، وقال في قصة محاجة بني النضير:{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] ، فأمرنا أن نعتبر بأحوال المستقدمين من هذه الأمة، وما قبلها. انتهى.

وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الجن والإنس، كما قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1]، وقال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] ، وأنزل الله عليه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما

ص: 175

اختلفوا فيه من حين البعثة إلى أن تقوم الساعة؛ فهو خاتم النبيين، وعلى ملته وشريعته تقوم الساعة، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ".

وبهذا يعلم: أن خطاب الله، وأحكام الكتاب والسنة، تتعلق بجميع المكلفين من هذه الأمة، لا يختص به أول عن آخر، وهذا مع ظهور ما في الكتاب والسنة، فهو إجماع في الأمة سلفاً وخلفاً، ولا يرتاب في هذا أحد ممن ينتسب إلى الإسلام.

ولهذا صنف العلماء، رحمهم الله، في كل عصر ومصر، في التفسير، والحديث، والفقه، والأصول وغيرها، حفظاً للدين والشريعة، ليكون آخر الأمة كأولها في العلم والعمل، والتزام أحكام الشريعة، وإلزام الناس بها، لأن ضرورتهم إلى ذلك فوق كل ضرورة. ولما عظمت الفتنة، وظهر الجهل والظلم، عاد الإسلام غريباً، وصار الأمر كما ترى، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وذكر أبو سليمان الخطابي، في معالم السنن: أن خطاب الله على ثلاثة أوجه: خطاب عام، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 6]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 176

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة آية: 183] ، ونحو ذلك من أوامر الشريعة.

وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين عن غيره بسمة التخصيص، وقطع الشريك، كقوله:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [سورة الإسراء آية: 79]، وكقوله:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأحزاب آية: 50] ، وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وجميع الأمة في المراد سواء، كقوله:{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [سورة الإسراء آية: 78]، وقوله:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل آية: 98]، وقوله:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [سورة النساء آية: 102] ، ونحو ذلك من خطاب المواجهة؛ فكلما دلكت الشمس، كان عليه إقامة الصلاة واجبة، وكل من أراد قراءة القرآن، كانت الاستعاذة معتصماً له، وكل من حضره العدو وخاف فوات الصلاة، أقامها على الوجه الذي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لأمته.

ومن هذا النوع، قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [سورة التوبة آية: 103] ، فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم. وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب، لأنه هو الداعي إلى الله، المبين عنه مراده، فقدم اسمه في الخطاب، ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه، ويبينه لهم. انتهى.

ص: 177

قلت: ومن هذا النوع: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73]، وقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} الآية [سورة الأحزاب آية: 1] . ومن الأول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} الآيات [سورة المائدة آية: 51]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} الآية [سورة المائدة آية: 57]، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآيات [سورة الممتحنة آية: 1] ، وهذه وإن كان سبب نزولها في حاطب بن أبي بلتعة، حين كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه خاطب المؤمنين بهذا الحكم عموماً، وقال:{وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 1] معشر المخاطبين، كائناً من كان، {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة البقرة آية: 108] . وهذا شامل لكل فرد من أفراد الأمة، من المستقدمين والمستأخرين، لا يرتاب في هذا مسلم قط. وفي ذكر سبب النزول بيان جنس التولي الذي نهى الله عنه؛ وهذا ظاهر جداً لمن استنار قلبه بنور العلم والإيمان.

وأما من طفى نوره بظلمات الفتنتين، فتنة الشبهات والشهوات، فلا يدرك الحقائق على ما هي عليه، لفساد تصوره، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ

ص: 178

تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج آية: 46]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية [سورة الزخرف آية: 36]، وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} الآية [سورة الأنعام آية: 125]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} الآية [سورة الأنعام آية: 25]، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .

فاقتضت حكمة الرب تعالى: أن ابتلى أهل البلاد النجدية، بصولة هذه الدولة المصرية، كما قد ابتلى من قبلهم من هذه الأمة وغيرها، بما ابتلاهم به تمييزاً واختباراً، كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} الآية [سورة التوبة آية: 16]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآيات [سورة الحج آية: 11] . وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} الآيات [سورة العنكبوت آية: 1-2] ، فجرى بسبب هذه المحنة من نفاق الناس، واضطراب القلوب، واختلاف الدين، ما لا متسع لذكره في هذه الأوراق؛ ولكن لما كان يشبه لما ذكره شيخ الإسلام، في واقعة التتر، اقتضى أن نذكر كلامه هنا، لقوة المشابهة بين الحادثتين وما جرى فيهما، لما فيها من الفوائد والعبر:

ص: 179

قال، رحمه الله: فينبغي للعقلاء، أن يعتبروا بسنة الله وآياته في عباده، ودأب الأمم وعادتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة، التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار المسلمين شررها، وأطلع النفاق ناصية رأسه، وكشف الكفر فيها عن أنيابه وأضراسه، وكاد منها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن يقطع ويصطلم، وعقر دار المسلمين أن يحل بها البوار، ويزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض، أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غروراً، وأن لن ينقلب الرسول والمؤمنين إلى أهليهم أبداً، وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بوراً.

وقد نزلت فتنة، تركت الحليم فيها كالحيران، وأنزلت الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما وضع بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وكفر عن آخرين أعمالهم الخاطئة.

وحدث فيها من أنواع البلوى ما جعلها مختصرة من القيامة الكبرى، فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد،

ص: 180

كما يتفرقون في ذلك اليوم الموعود، وفر الرجل فيها عن أمه وأخيه، وكان لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وكان من الناس من كان أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله، ولا ولده ولا عرسه، وكان منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال، والآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال، وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع؛ وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع، ولم ينفع المنفعة الخالصة من الشكوى، إلا الإيمان والعمل الصالح، والبر والتقوى. وبليت فيها السرائر، وظهرت فيها الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم، فأضلوه السبيل، كما حمد ربه من صدق في إيمانه، واتخذ مع الرسول سبيلاً.

وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية، من الأخبار بما يكون، وواطأها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون، كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون، وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة، حتى تحزب الناس ثلاثة أحزاب: مجتهد في نصرة هذا الدين، وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام. وانقسم الناس بين مأجور ومعذور، وآخر غره بالله

ص: 181

الغرور؛ وكان هذا الامتحان تمييزاً من الله وتقسيماً، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 24] ، أي: يتوب عليهم إذا تابوا. انتهى.

وهذا حين الشروع في الجواب عما اعترض به، قال: وبعد، جاءنا من عندكم أوراق، فلما أشرفت عليها، إلى أنها آيات من كتاب الله، وكتاب الله هو الحجة القاطعة. فأقول: هذا كلام ينبئ عن حال قائله، بأنه لا خبرة له بشيء من أنواع البحث والمناظرة أصلاً؛ فإنه أسس فيه ما ينقض عليه، وهو قوله: كتاب الله هو الحجة القاطعة. وهذا الكلام يوجب أن يقابل بالقبول والتسليم، ويقتضي من قائله الإقبال على فهم المراد منه والعمل به، وأن لا ينصب نفسه خصماً له.

واعلم: أن أصول أدلة الشريعة: الكتاب والسنة والإجماع، والقياس والاستصحاب، وفيهما تفصيل ومسالك لأهل العلم؛ وأما الثلاثة الأول، فلا اختلاف فيها عند جميع الطوائف المنتسبين إلى الإسلام. فكل قول يقوله هذا المعترض وغيره، فهو مطالب بالدليل، إما من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإن قام الدليل وإلا فقوله رد عليه. فتنبه لهذا الأصل واستصحبه، يرحمك الله به من هذه الأغاليط.

ثم قال: وأتبعتها بنقول عن الشيخين، يعني شيخ

ص: 182

الإسلام أحمد بن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وعلى كلامهم المعمول

إلخ. أقول: هذا قول من يجهله حال نفسه، مع ما هو مشتمل عليه من اللحن؛ وهكذا حال من لا يعرف عربية ولا إعراباً. ثم إنه لا يخفى حال الشيخين المذكورين، فإنهما قاما لله بالدين القويم، والدعوة إلى صراط الله المستقيم، فيلزم من عرف أنهما القدوة، أن لا يعدل عن طريقتهما علماً وعملاً، وهذا تأسيس لنقض اعتراضك، وتحقيق ذلك يعلم بمطالعة ما تقدم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في واقعة التتر، ومطالعة عشر الدرجات، لشيخنا إمام الدعوة الإسلامية، في معنى قول الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وفي ثمان الحالات في معنى قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} الآيات [سورة يونس آية: 104] . فإذا كان هما القدوة، وكلامهما المعمول، فيلزمك أن تعول على ما سترى من كلامهما، حتى يكون لقولك حقيقة، ولا أخالك تفعل. شعراً:

إذا لم توافق قولة منك فعلة

ففي كل جزء من حديثك تُفضحُ

وقولك: لكنك أخليت حين استدللت بالآيات، عن

ص: 183

بيان سبب نزولها، عن حكمها، وفيمن نزلت

إلخ.

فأقول، وبالله التوفيق: قد أمكنت الرامي من سواء الثغرة، هذا كلام في غاية الركاكة لفظاً ومعنى، ويشعر بأن قائله لا معرفة له في شيء أصل؛ ً، ولو ذهبنا نذكر ما فيه من سوء التعبير، لطال الجواب عن بيان خصال لا تخفى على من له معرفة بالكلام، صحيحه وسقيمه.

ثم لا يخفى: أن هذا الكلام على ما فيه، شروع منك في نقض ما أسسته من قولك: أن كلام الله هو الحجة القاطعة، فحاولت في هذه العبارة، أن لا يحتج به على أهل وقت أنت فيهم. فإذا كان أحكام القرآن مقصورة عندك، على من نزل بسببهم، فكيف يكون حجة قاطعة على غيرهم؟ هذا تناقض منك بيِّن؛ أسست ثم هدمت.

ثم يقال لك: فمن أخذت عنه هذا؟ ومن قال من الأمة: إن خطاب الله في كتابه، وخطاب رسوله في سنته، إنما يتعلق بمن نزل بسببهم دون غيرهم؟ هذا لا يقوله أبلد الناس، وأجهلهم بالشريعة وأحكامها، بل ولا يتجاسر أن يقوله أحد، ممن يجادل بالباطل، صوناً لنفسه عن التجهيل والتضليل، لأن هذه على الجهالة والضلالة من أبين دليل، ولما يلزم قائله من تعطيل الشريعة، والطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: قتال من ارتد عن الإسلام، بعد وفاة

ص: 184

نبيهم صلى الله عليه وسلم لكونهم يشهدون أن لا إله إلا الله، كما في قصة الصديق مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قال:"فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق". فيلزمك على هذا القول أنه ليس بحق، واللازم باطل، فبطل الملزوم. ويلزم أيضاً على هذا القول المختلق: أن الصحابة، رضي الله عنهم، أخطؤوا في قتال الخوارج، لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، ولهم عبادات وقراءة وعلم، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم:" أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " 1 خطأ. ومن المعلوم: أن أولئك الخوارج، قتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان، لم يكن خروجهم حين نزول القرآن، ولا وجود لهم في خلافة أبي بكر، وإنما خرجوا في الفتنة، بعد قتال علي ومعاوية، رضي الله عنهما، بصفين. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنهم سيخرجون، وقال فيهم:" يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وقراءته عند قراءتهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 2 الحديث. ولازم هذا القول الفاسد أيضا: أنه لا يستدل أحد بآية من كتاب الله، ولا بحديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا رد عليه كلامه، أو صاحب هوى، فالحكم مقصور على من نزل بسببهم، وتعطلت الشرائع والأحكام والحدود؛ واللازم

1 البخاري: التوحيد (7432)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: الزكاة (2578)، وأبو داود: السنة (4764) ، وأحمد (3/68) .

2 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/131) .

ص: 185

باطل، فبطل الملزوم. ولو أرخيت عنان القلم، لذكرت من لوازمه أموراً عظيمة، لا يقولها من يؤمن بالله ورسوله؛ وإنما غرضنا التنبيه على طريق الحق، وإبطال الباطل، وبيان أن الحق مع من يرد عند التنازع إلى كتاب الله وسنة نبيه، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة النساء آية: 59]، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية [سورة الشورى آية: 10] . وهذا الخطاب من الله يتعلق بجميع من بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثقلين، من لدن بعثته إلى قيام الساعة {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] .

وتأمل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1] ، فواجه سبحانه المؤمنين بهذا الخطاب، إنذاراً وتعذيراً؛ ولا ريب أنه يتعلق بكل مؤمن بالله وكتابه ورسوله، من الذين نزل فيهم القرآن، ومن حضر نزوله، ومن بعدهم إلى قيام الساعة.

وليس من الجائز في عقل من له أدنى مسكة من عقل، أن يقول: هذه الآيات نزلت في شأن حاطب، لما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقصر حكم هذا الخطاب العام، على من نزل هذا الحكم بسببه. فإذا كان لا يمكن

ص: 186

أحد أن يقول ذلك، فهذا أيضاً لا يختص بأوائل هذه الأمة دون أواخرها، لأن خطاب القرآن والسنة يتعلق بكل فرد من الأولين والآخرين، بلا نزاع بين الأمة؛ إلا أن الرافضة نازعوا في قوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة آية: 103] ، أن هذا الحكم خاص به، وهو باطل عند أهل السنة والجماعة؛ وهذا وإن خرج مخرج الخصوص، فهو عام، وأدلته أكثر من أن يحتملها هذا المحل.

وكل خطاب في القرآن والسنة، بأمر أو نهي، فهو كذلك، لأن الله ختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء، وعلى شريعته وأمته تقوم الساعة، كما في الحديث الصحيح:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ". وهذه الطائفة، وكل طائفة من الثنتين والسبعين، تنتسب إلى أنها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ترى في نفسها إلا أنها هي التي على الحق دون غيرها.

وقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمة، رحمه الله تعالى، فإن نصوص الكتاب والسنة، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، تناول عموم الخلق، بالعموم اللفظي والمعنوي، أو بالعموم المعنوي، وعهود الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تناول آخر هذه الأمة، كما تناولت أولها

إلى آخر كلامه; فأعد النظر فيه.

ص: 187

ومثل هذه الآية، التي تقدم ذكرها، قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} الآية [سورة المائدة آية: 57]، وقال تعالى في الآيات قبلها:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 51] . وهذه الآية وأمثالها، تعرف بعظم هذا الذنب: في هذه الآية، قد جعلها تعالى من موانع الهداية، ووصف الفاعل بالظلم، فسماهم الظالمين، وفي هذه السورة وغيرها قبلها وبعدها في السور، ما يدل على أن هذا ردة عن الإسلام، يظهر فيها لمن تدبر.

وصرح شيخنا، رحمه الله، في رده على ابن سحيم وغيره، وسبقه إلى ذلك العلماء، كأبي جعفر ابن جرير في تفسيره، وبرهانه ظاهر في القرآن - ولله الحمد والمنة - والناس إنما يعرفون بأعمالهم، كما قال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية [سورة التوبة آية: 105] . فإذا عمل العبد بأعمال أهل الإيمان، ولم يأت بما ينافي ذلك، صار مؤمناً مع المؤمنين للآية، وإن عمل بأعمال أهل النفاق، من الكفرة والمرتدين، صار منهم ولا بد، وإن كان من أرفع الناس نسباً وأكثرهم مالاً وحسباً، شاء أم أبى. فلا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، وما أحسن ما قال الحسن البصري، رحمه الله:"ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".

ص: 188

فإذا كنت إنما تعرف الناس بالأشخاص لا بالأعمال، فكيف تدعي معرفة التوحيد، وأنت لا تميز أهله من ضدهم، ولا تعرف ما يناقضه؟ وقد عد العلماء، رحمهم الله، - كصاحب الإقناع - من نواقض الإسلام أكثر من أربعمائة ناقض، وقد وقع أكثر الناس فيها اليوم، بسبب هذه الفتنة؛ وهذا لا يخفى على من له بصيرة ومعرفة بالتوحيد. ولو ذهبنا نعد ما وقع من ذلك لطال الكتاب، وذو البصيرة يرى ويبصر.

وقد ذكر شيخنا: الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أن الناس في زمانه تنوعت أحوالهم في الدعوة الإسلامية، أربعة عشر نوعاً، ليس منهم يهودي ولا نصراني، ولا رافضي ولا جهمي، ولا معتزلي، وكل هذه الأنواع قد خالفوا ما جاءت به الرسل من دين الله تعالى؛ فرحمه الله وأحسن له المآب. ولعلك أن تكون من أولئك الأنواع وأنت لا تشعر.

وأما قولك: وكلام الشيخين، تعني شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخنا محمد بن عبد الوهاب، استدللت به، وأطلقته على أناس متصفين بالإسلام

إلخ.

فالجواب أن يقال: لا ريب أن هذا الكلام لا يقوله من يعرف الإسلام ; فإن قلت: أنا أعرفه، فعرّفه لنا. وقد كنت سألتك عن تعريفه، وحقيقته ومقتضاه، ومدلوله، ولازمه وحقه، فلم تجب إلا بأن سردت هذه الجمل سرداً، كما

ص: 189

سردتها لك في السؤال، فما أجبت عن واحدة منها.

فإذا كنت لا تعرف من الإسلام إلا ما يعرفه جهلة العوام، فدع عنك التعرض لأهل الإسلام، بالسفسطة في الكلام تصنعاً، عند من لم يعرف الشحم من الأورام. فليتك أمي تدري أنك لا تدري، ولم تكن من قبيل من لا يدري أنه لا يدري. أما سمعت الله يقول:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] ؟ أما علمت أن النار خلقها الله للأولين والآخرين، ممن عصى الله وترك الدين الذي بعث الله به المرسلين؟

وما يدريك أن هذه الآية قد أصيب بها أهل القصيم، في حادثتهم القريبة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة؟ فإنهم فعلوا كفعل أناس فيكم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] . وقد فرض الله تعالى البراءة من الشرك والمشركين، والكفر بهم وعداوتهم، وبغضهم وجهادهم، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] ، فوالوهم وأعانوهم، وظاهروهم واستنصروا بهم على المؤمنين، وأبغضوهم وسبوهم من أجل ذلك.

وكل هذه الأمور تناقض الإسلام، كما دل عليه الكتاب والسنة في مواضع، وذكره العلماء، رحمهم الله، في

ص: 190

كتب التفسير والفقه وغيرها. وعند هؤلاء وأمثالهم أنهم على الدين الذي كانوا عليه لم يفارقوه، وهذا ليس بعجب، فقد بين القرآن العزيز، أن هذه الحال هي طريقة أمثالهم، كما في قوله تعالى:{فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الأعراف آية: 30]، وقوله:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} الآيات [سورة الزخرف آية: 36] . فإذا أردت معرفة ما فرضه الله على عباده مما تقدم ذكره، فاذكر قول الله تعالى عن أهل الكهف:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} الآية [سورة الكهف آية: 14] ، علموا أنه لا يصلح لهم دين إلا باعتزالهم، واعتزال معبوداتهم، ولو لم يجدوا إلا غاراً في الجبل في البرية، وهل قالوا: وأين نهاجر؟ ولا ثمَّ بلد إسلام، ولا إمام لنا ولا أعوان، كما قال هؤلاء الجهلة، الذين آثروا الدنيا على الدين. وتأمل ما قال الله في السورة بعدها عن خليله إبراهيم، إمام الحنفاء:{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [سورة مريم آية: 43-44] ؛ فمن كان عصياً للرحمن، فطاعته معصية لله. ثم قال:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيتين [سورة مريم آية: 48]، وقال: {قَدْ كَانَتْ

ص: 191

لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] . فمن تدبر هذه الآيات، عرف التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وعرف حال المخالفين لما عليه الرسل وأتباعهم، من الجهلة المغرورين الأخسرين.

قال شيخنا الإمام، رحمه الله، في سياق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى التوحيد، وما جرى منهم عند ذكر آلهتهم، بأنهم لا ينفعون ولا يضرون، أنهم جعلوا ذلك شتماً. فإذا عرفت هذا، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . فإذا فهمت هذا فهماً جيداً، عرفت أن كثيراً ممن يدعي الدين لا يعرفها. وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب، والضرب والأسر، والهجرة إلى الحبشة؟ مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، ولو وجد لهم رخصة أرخص لهم، كيف وقد أنزل الله عليه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10] . فإذا كانت هذه الآية فيمن وافق بلسانه إذا أوذي،

ص: 192

فكيف بغير ذلك؟ يعني من وافقهم بالقول والفعل بلا أذى، فظاهرهم، وأعانهم، وذب عنهم وعمن وافقهم، وأنكر على من خالفهم، كما هو الواقع. وتأمل قول شيخنا، رحمه الله: إذا عرفت هذا، عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام

إلى آخر كلامه; وقد تقدم ما يدل على هذا، وبالله التوفيق.

لقد أحسن من قال من السلف: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا". فإذا كان الأمر هكذا، فلا تأمن على نفسك الارتداد عن الدين، في مثل هذه الفتنة العظيمة، خصوصاً إذا عرفت أن العلماء، رحمهم الله، ذكروا الردة من نواقض الوضوء؛ وذلك أن الرجل قد يتوضأ مريداً الصلاة، فيتكلم، أو يعمل عملاً، أو يعتقد اعتقاداً يفسد إسلامه، فينتقض وضوؤه، عياذاً بالله من مفسدات الدين، ومحبطات الأعمال.

وأما اعتراضكم على من أنكر هذه الأمور التي حدثت في الدين، حين استدللت بآية النساء، فهو اعتراض من لا يعرف معناها، ولا ألم بقلبه، ولا أصغى إلى ما ينفعه. وقد ذكر شيخنا الإمام، رحمه الله، حاصل ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية، فإنه قال في قصة الهجرة: وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها، ولكن مرادنا الآن مسألة من مسائلها،

ص: 193

وهي: أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يهاجر من غير شك في الدين، ولكن محبة الأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا معهم كارهين، فقُتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه، فلما سمع الصحابة، رضي الله عنهم أن من القتلى فلاناً وفلاناً، شق عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيات [سورة النساء آية: 97] ؛ فمن تأمل قصتهم، وتأمل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، فإن الله قد بين لهم وهم بمكة قبل الهجرة، أن ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} الآيات [سورة النحل آية: 106] .

وأبلغ من هذا: كلام الله فيهم، فإن الملائكة تقول لهم: فيم كنتم؟ ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ ولما قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، لم يقولوا: كذبتم، مثل ما يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول: قاتلت فيك حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، بل قاتلت ليقال جريء; وأما هؤلاء فلم يكذبوهم، بل أجابوهم:{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] .

ويزيد ذلك إيضاحاً للعارف والجاهل: الآية التي بعدها، وهي قوله:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الآية [سورة النساء آية: 98]، وهذا واضح جداً: أن هؤلاء هم الذين

ص: 194

خرجوا من الوعيد، فلم يبق شبهة، لكن لمن طلب العلم، بخلاف من لم يطلبه؛ بل قال الله فيهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 18] . ومن فهم هذه المواضع، فهم كلام الحسن، يعني: الذي قدمت ذكره.

فتأمل كلام شيخنا، رحمه الله، وانظر ما وقع في هذه الفتنة من الاستهزاء بالدين والمسلمين، وغير ذلك مما لا يخفى على كل عاقل، أنه عداوة لله ودينه، وعداوة لمن ثبت على الدين وعادى المشركين، وانظر ما الذي أوجب تلك المسبة والبغضاء لأهل الإسلام المتمسكين بالتوحيد، وقد كانوا قبل ذلك مجتمعين على الإسلام، متناصرين بالانتساب.

وأما قول المعترض: واستدللت أيضاً بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} الآيات [سورة التوبة آية: 24] ، هذه نزلت في أناس تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

إلخ.

فيقال: من أين لك هذه الدعوى؟ وفي أي كتاب وجدتها؟ وحقيقة قولك هذا: الكذب، والقول على الله بلا علم، وهو من أعظم المحرمات، وهو أصل كل باطل. أما تدبر أول الآيات وسياقها، ولو كنت تعرف التدبر لعقلت عن الله خطابه، وهديت إلى فهم مراده، لكنك أخذت الأمر بتعسف من لا يبالي، ولا عنده معرفة شيء سوى تغطية الحق بالجحود والتكذيب.

ص: 195

أما علمت أن الكفر بآيات الله، إنما هو جحودها، والإلحاد في معناها، وقد كفّر الله من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. فإذا أردت الاطلاع على ما قد جحدت من معنى هذه الآيات، فخذ كلام أئمة التفسير المشهور، عند كل من هو به خبير، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} الآية [سورة التوبة آية: 23]، قال مجاهد بن جبر - صاحب ابن عباس رضي الله عنه: نزلت في قصة العباس وطلحة، وامتناعهما من الهجرة. قال الكلبي عن ابن عباس، قال:"لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده ويقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا؛ فيرق عليهم ويدع الهجرة. فأنزل الله عز وجل هذه الآية". وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [سورة التوبة آية: 23] ، فيطلعهم على غرة المسلمين، ويؤثر المقام معهم على الهجرة والجهاد، كما هو حال الكثير في هذه الفتنة، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة التوبة آية: 23] . ثم قال: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المتخلفين عن الهجرة: {إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الآيات [سورة التوبة آية: 24] ، وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى، قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا، وذهبت تجارتنا، وخربت دارنا، وقطعنا أرحامنا، فأنزل الله:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية.

ص: 196

فإذا كانت هذه الآيات، نزلت فيمن لم يهاجر ويجاهد، فقد أصابكم حكمهم، بترككم الهجرة والجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن توقف عن مبايعته على الهجرة والجهاد:" فإذا كان لا هجرة ولا جهاد، فبم ندخل الجنة "؛ فحصل لكم بترك الفرضين ما حصل من المتابعة والموافقة، حتى عكستم الحكم، فعاديتم من عادى المشركين، ورمتم هدم الإسلام وحقوقه وواجباته، فلم يبق بأيديكم إلا استحسان هذه الحالة، ورد الحق، وغمط الناس ممن أقام على الدين، وعادى المشركين، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] .

وما ذكرت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، فهو حديث صحيح، وهو حجة عليك لا لك. فانظر من الذي يسب المسلمين، ويتولى المشركين، ويعادي من سبهم؛ فإن كنا قد سببنا مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه، وأنتم تذبون عن كل مسلم هذا وصفه، وتسبون من سبه، فأنتم أسعد منا بالدليل; وإن كان هذا وصفكم، فما احتججتم به فهو حجة خصمكم، وهذا لا يشك فيه عاقل أصلاً، أنا لا نسب من ثبت على الإسلام، وأما أنتم فأكثرتم سبابه وتضليله، والله المستعان.

1 البخاري: الإيمان (48)، ومسلم: الإيمان (64)، والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635، والنسائي: تحريم الدم (4108، 4111، 4112)، وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن (3939) ، وأحمد (1/385، 1/411، 1/433، 1/454) .

ص: 197

وأما ما ذكرت من سياقة قول ابن كثير: أن الهجرة لا تجب إلا على من لا يقدر على إظهار دينه

إلخ، فهذا معنى ما ذكره العلماء في كتبهم، وهذا لا نزاع فيه عند أكثر العلماء؛ ولكن عرفنا من لم تجب عليه الهجرة بإظهار دينه وهو آمن بذلك، معروف فيكم لم يستهزئ بأهل الإسلام، أو لم يركن إلى من استهزأ بهم، ويعين أهل الباطل بلسانه; فيا ليت شعري من هو الذي فيكم يظهر دينه؟

وقد كنت أسأل عمن كنت أرى لهم معرفة، فما أخبرني أحد عنهم بما يسرني في ذلك، وهذه فتنة عمت فأعمت وأصمت؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. فإن كنت ترى أن اعتراضك على من استدل بالآيات والأحاديث على تحريم موالاة المشركين، إظهار للدين، فالمصيبة أعظم، ولا أخالك تسلم من ذلك لقوله:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [سورة الأنعام آية: 9] ؛ وأنى لك بالسلامة وقد زلت بك القدم.

ثم، إن ما ذكرته عن ابن كثير، يناقض ما كنت تدعيه من أنكم على الإسلام والتوحيد؛ فإذا كنتم على الإسلام والتوحيد حقيقة، فلأي شيء يقال: تجب الهجرة أو لا تجب؟ فلا محل لقول ابن كثير وغيره، هذا إنما يذكر في حال أهل بلد ليسوا على الإسلام، وفيهم من يظهر دينه باعتزالهم في مجالسهم وأسواقهم ومجامعهم، ويظهر البراءة منهم ومن أعمالهم، ويصبر على أذاهم.

ص: 198

وأما قولك: ولا وجه لاستدلالك علينا بهذه الآية، فإن هذه الآية جهادية مع إمام متبع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كان هناك إمام متبع، فعرّفنا لعلنا نتبع.

فأقول: قد بينا خطابك في قولك: أن الآية جهادية، وأنه قول على الله وفي كتابه بلا علم، وقد قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] . ويقال: بأي كتاب، أم بآية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين؛ والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر، من ذلك عموم الأمر بالجهاد، والترغيب فيه، والوعيد في تركه، قال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة آية: 251]، وقال في سورة الحج:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} الآية [سورة الحج آية: 40] .

وكل من قام بالجهاد في سبيل الله، فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله، ولا يكون الإمام إماماً إلا بالجهاد، لأنه لا يكون جهاد إلا بإمام، والحق عكس ما قلته يا رجل، وقد قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} الآية [سورة سبأ آية: 46]، وقال: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ

ص: 199

لِنَفْسِهِ} [سورة العنكبوت آية: 6] .

وفي الحديث: "لا تزال طائفة" الحديث، والطائفة، بحمد الله، موجودة مجتمعة على الحق، يجاهدون في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الآيات [سورة المائدة آية: 54]، أي: واسع الفضل والعطاء، عليم بمن يصلح للجهاد.

والعبر والأدلة على بطلان ما ألفته، كثير في الكتاب، والسنة، والسير، والأخبار، وأقوال أهل العلم بالأدلة والآثار، لا تكاد تخفى على البليد إذا علم بقصة أبي بصير:" لما جاء مهاجراً فطلبت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده إليهم، بالشرط الذي كان بينهم في صلح الحديبية، فانفلت منهم حين قتل المشركيْن، اللذين أتيا في طلبه. فرجع إلى الساحل لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه غيره " 1، فتعرض لعير قريش - إذا أقبلت من الشام - يأخذ ويقتل، فاستقل بحربهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا معه في صلح - القصة بطولها -. فهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخطأتم في قتال قريش،

1 البخاري: الشروط (2734)، وأبو داود: الجهاد (2765) .

ص: 200

لأنكم لستم مع إمام؟ سبحان الله ما أعظم مضرة الجهل على أهله؟ عياذاً بالله من معارضة الحق بالجهل والباطل، قال الله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [سورة الشورى آية: 13] .

ومعلوم: أن الدين لا يقوم إلا بالجهاد، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد مع كل بر وفاجر، تفويتاً لأدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكاباً لأخف الضررين لدفع أعلاهما؛ فإن ما يدفع بالجهاد من فساد الدين، أعظم من فجور الفاجر، لأن بالجهاد يظهر الدين ويقوى العمل به وبأحكامه، ويندفع الشرك وأهله حتى تكون الغلبة للمسلمين، والظهور لهم على الكافرين، وتندفع لسورة أهل الباطل، فإنهم لو ظهروا لأفسدوا في الأرض بالشرك والظلم والفساد، وتعطيل الشرائع والبغي في الأرض. ويحصل بالجهاد مع الفاجر، من مصالح الدين ما لا يحصى، كما قال صلى الله عليه وسلم:" إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم "؛ ولو ترك الجهاد معه لفجوره لضعف الجهاد، وحصلت الفرقة والتخاذل، فيقوى بذلك أهل الشرك والباطل، الذين غرضهم الفساد وذهاب الدين. فإذا ابتلي الناس بمن لا بصيرة له ولا علم ولا حلم، ونزل المشركين وأهل الفساد من قلبه منزلة أهل الإسلام، لطمع يرجوه منهم أو من أعوانهم، وأعانهم على ظلمهم،

ص: 201

وصدقهم في كذبهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

ويقال أيضا: كل من أقام بإزاء العدو وعاداه، واجتهد في دفعه، فقد جاهد ولا بد، وكل طائفة تصادم عدو الله، فلا بد أن يكون لها أئمة ترجع إلى أقوالهم وتدبيرهم؛ وأحق الناس بالإمامة من أقام الدين الأمثل فالأمثل، كما هو الواقع، فإن تابعه الناس أدوا الواجب، وحصل التعاون على البر والتقوى، وقوي أمر الجهاد، وإن لم يتابعوه أثموا إثماً كبيراً بخذلانهم الإسلام.

وأما القائم به، فكلما قلت أعوانه وأنصاره، صار أعظم لأجره، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، كما قال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [سورة الحج آية: 78]، وقال:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} الآية [ٍ سورة العنكبوت آية: 69]، وقال:{أُذِنَ لِلَّذِينَ} الآية [سورة الحج آية: 39]، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 54]، وقال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [سورة التوبة آية: 5]، وقال:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ} الآية [سورة البقرة آية: 249]، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [سورة الأنفال آية: 65]، وقال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} الآية [سورة البقرة آية: 216] .

ولا ريب أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة، والمخاطب به المؤمنون; فإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها

ص: 202

منعة، وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه، لا يسقط عنها فرضه بحال، ولا عن جميع الطوائف، لما ذكرت من الآيات. وقد تقدم الحديث:" لا تزال طائفة " الحديث.

فليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن الجهاد يسقط في حال دون حال، ولا يجب على أحد دون أحد، إلا ما استثنى في سورة براءة. وتأمل قوله:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إ} [سورة الحج آية: 40]، وقوله:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية [سورة المائدة آية: 56] ؛ وكل يفيد العموم بلا تخصيص. فأين تذهب عقولكم عن هذا القرآن؟

وقد عرفت مما تقدم: أن خطاب الله تعالى يتعلق بكل مكلف، من الأولين والآخرين، وأن في القرآن خطاباً ببعض الشرائع، خرج مخرج الخصوص وأريد به العموم، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية [سورة التوبة آية: 73] ، وقد تقدم ما يشير إلى هذا بحمد الله، وذلك معلوم عند العلماء، بل عند كل من له ممارسة في العلم والأحكام، فلهذا اقتصرنا على هذا القول، وبالله التوفيق.

ثم بعد الفراغ، أظهر الله إماماً يجاهد في سبيل الله، ويدعوهم إلى الإسلام والاجتماع عليه، فتمت النعمة علينا، وعلى أهل نواحينا، بما أعطانا من النصر، وذهاب الشرك والمشركين، والفساد والمفسدين. نسأل الله أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا، من نعمة الإسلام، والله ولي حميد، وهو

ص: 203

حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

[الرد على بعض الناكبين المعرضين عن توحيد رب العالمين]

وله أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وبه العون على إبطال زخرف الملحدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الصادق الأمين، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعلى أتباعهم الذين شهدوا لله بالوحدانية، ولرسوله بالبلاغ المبين، وسلم تسليماً.

أما بعد، فاعلم أيها الطالب للهدى، المتباعد عن أسباب الضلال والردى، أني رأيت ورقة لبعض الناكبين عن الحق المبين، المعرضين عن توحيد رب العالمين، فإذا هي مفصحة عن ضلال مفتريها، معلنة بفساد طوية منشيها ومتلقيها، مع تناقضها وبشاعة ما فيها؛ فتارة تراه سائلاً مسترشداً، وتارة مفتياً مضللاً مفنداً، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. فعزمت على أن أعرض ورقته على بعض أصحابنا الذين لهم ملكة في معرفة العلوم، ولهم بصر ناقد، وفهم

ص: 204

مستقيم، في تمييز الصحيح من السقيم، لأكتفى بهم في رد ذلك الزيغ والضلال، والكذب المحال، على طريق التفصيل تارة والإجمال. وهذا الرجل وإن كان من أجهل العوام، فإنه يحاول بسجعه نقض عرى الإسلام.

ثم إني عزمت على نقض ما بناه من ذلك الباطل، على استفراغ وسع واستمهال، وذلك أولى من الترك والإهمال، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 43] . فأخذت في رد قوله مستعيناً بربنا العظيم، مستعيذاً بالله من شر متبعي خطوات الشيطان الرجيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل على من صد الناس عن سواء السبيل.

قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق، أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله قال:" خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله، وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. وقرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 1") الآية.

قلت: وهنا بلية ينبغي التنبيه عليها، قبل الشروع في المقصود، وهي: أن الكثير من أهل هذه الأزمنة وقبلها، قد غرهم من أنفسهم أمران:

1 أحمد (1/435)، والدارمي: المقدمة (202) .

ص: 205

أحدهما: أنهم إن أحسنوا القول رأوه كافياً، ولو ضيعوا العمل وارتكبوا النقيض، وما عرفوا أقوال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الخوارج:" يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " 1، وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم ويمقت من يقول ولا يفعل، ومن يخالف قوله فعله، كقوله تعالى:{كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف آية: 3]، وكقوله تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [سورة البقرة آية: 14] . وقد ورد: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال".

الأمر الثاني: أن الأكثر ظنوا أن انتسابهم إلى الإسلام، ونطقهم بالشهادتين، عاصم للدم والمال، وإن لم يعملوا بمدلول لا إله إلا الله، من نفي الشرك، وتركه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كالدعاء، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك; ولم يعرفوا معنى قول الله تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3-4]، وقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5]، وقوله:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] .

1 البخاري: المناقب (3610)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: الزكاة (2578) وتحريم الدم (4101)، وأبو داود: السنة (4764) ، وأحمد (3/4، 3/33، 3/56، 3/60، 3/65، 3/68، 3/73) .

ص: 206

فإن قوله: {مُخْلِصاً} : حال من ضمير الفاعل المستتر، في قوله:{فَاعْبُدِ اللَّهَ} ، أي: حالة كونك مخلصاً له الأعمال الباطنة والظاهرة، وكذلك في قوله:{مُخْلِصِينَ} : حالة من الضمير البارز في قوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا} ، أي: حالة كونهم مخلصين له إرادتهم وأعمالهم، دون كل ما سواه؛ ولهذا قال:{حُنَفَاءَ} ، والحنيف هو: الموحد المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله وأنزل به كتبه. يقرر ذلك: ما أخبر به عن قوم هود، لما قال لهم:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 65]، فأجابوا ذلك بقولهم:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] . وفي قصة صالح، لما قال لقومه:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]، {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 62] ، وكما قال قوم شعيب:{يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} الآية [سورة هود آية: 87] .

فلا إله إلا الله، ما أشبه حال الأكثرين من هذه الأمة بحال تلك الأمم، لما دعوا إلى هذا التوحيد، الذي هو أصل دين الإسلام، وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه، وبه أرسل جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، قال

ص: 207

تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} الآية [سورة هود آية: 1-2]، إلى أمثال هذه الآيات. وقد صح: أن رسول الله لما قال لقومه: " قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا " 1، قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، كما هو مذكور في القرآن العزيز.

فأي دليل أصرح وأوضح وأبين من هذه الأدلة؟ على أن الرسل من أولهم إلى آخرهم، إنما بعثوا بإخلاص العبادة لله تعالى، والنهي عن عبادة كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي جحدته الأمم، وهو الذي خلق الله له الخليقة من الثقلين، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في معنى هذه الآية:"إلا لآمرهم أن يوحدون".

وقد عرفت: أن هذا هو أصل الدين، الذي هو أساس الملة، قال تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} الآية [سورة الروم آية: 42-43]، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28]، أي: لا إله إلا الله. والخليل عليه

1 أحمد (3/492) .

ص: 208

السلام أتى بمضمون هذه الكلمة، بقوله:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27] .

وأبدى سبحانه وأعاد في هذا الكتاب المجيد، في النهي عن الشرك المنافي لهذا التوحيد، وأفصح عن كفر فاعله، وأسجل عليه بالوعيد الشديد، فقال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6]، وقال تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14]، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213-214] . وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117]، وقال تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37]، وقوله:{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [سورة غافر آية: 73-74] ، وغير ذلك

ص: 209

من الآيات. فأي بيان أوضح من هذا، في تعريف الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره؟ وهذا لا يختص بالدعاء، بل كل نوع من أنواع العبادة، صرفه لغير الله شرك عظيم.

والتحقيق: أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلا النوعين لا يجوز صرفه إلا لله؛ وصرفه لغير الله شرك، كما سبق بيانه في الآيات المحكمات، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ، والصلاة هنا تشمل الصلاة الشرعية، واللغوية التي هي الدعاء، كما هو مذكور في كتب التفسير، وفي حديث ابن عباس:" وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1، وفيه معنى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5]، وقال تعالى:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [سورة العنكبوت آية: 17] ، وهذا من عطف العام على الخاص، وقال:{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51]، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [سورة البقرة آية: 41] ، كما قال تعالى:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8]، وقال:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وتقديم المعمول في هذه الآيات، يفيد الحصر، أي: لا غيري. وقال: {فَلا تَخْشَوُا

1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، وأحمد (1/303، 1/307) .

ص: 210

النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44]، وقال:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [سورة آل عمران آية: 175] .

وهذه الآيات وما في معناها تدل على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يوحدوه بأعمالهم، وأن لا يجعلوا له شريكاً في العبادة، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110]، وقال:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 14] ، وقال موسى عليه السلام لبني إسرائيل، لما عبدوا العجل:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة طه آية: 98]، وقال تعالى:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5] . وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} الآية [سورة فاطر آية: 40]، وقال:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، وهذا هو الشرك في الطاعة، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] ، فذكر في هذه الآية الشرك

ص: 211

في الطاعة، والشرك في الألوهية، وهذا بين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.

وأما الربوبية، فقد أقر بها أكثر المشركين من الأمم، أعداء الرسل؛ وهذا مبين في قصص الأنبياء، كما في سورة الأعراف، وهود، والشعراء، وغير ذلك. والخصومة بينهم وبين الأمم، إنما هي فيما بعثوا به إليهم من النهي عن الشرك في العبادة، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء، وغير ذلك، وعن الشرك في الطاعة، وهو: إيثار ما عليه الأسلاف، والاعتماد على ما قالوه، مما يخالف شرع الله وأحكامه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من مات وهو يدعو لله نداً، دخل النار " 1، رواه البخاري. ولمسلم عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه؛ وحسابه على الله "2.

قال شيخنا، رحمه الله تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى: لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للمال والدم، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده، حتى يضيف إلى ذلك: الكفر بما يعبد من دون الله؛ فإن شك أو تردد، لم يحرم ماله ودمه، فيالها من مسألة ما أجلها! وياله من بيان ما

1 البخاري: تفسير القرآن (4497) ، وأحمد (1/374، 1/464) .

2 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472، 6/394) .

ص: 212

أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع! وكلام العلماء في بيان هذا التوحيد وتقريره، وبيان ما وقع فيه الأكثر من الشرك وعبادة الأوثان، أكثر من أن يحصى. ونذكر طرفاً منه:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في الرسالة السنية، لما ذكر الخوارج ومروقهم من الدين: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام ومرق منه، مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171] ، و"علي رضي الله عنه حرق الغالية، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها"، واتفق الصحابة على قتلهم، وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه.

فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل، فإن الله تعال: إنما أرسل الرسل ليعبدوه وحده، لا يجعلوا معه إلهاً آخر.

والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح،

ص: 213

والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 56-57] .

وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيراً، والملائكة - إلى أن قال - وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلّمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال:" أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده" 1 وقال: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، يحذر ما فعلوا وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد " 3، وقال: " لا تتخذوا قبري

1 أحمد (1/214) .

2 البخاري: الجنائز (1390)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218، 6/34، 6/80، 6/121، 6/255)، والدارمي: الصلاة (1403) .

3 مالك: النداء للصلاة (416) .

ص: 214

عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم " 1، ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور.

واتفق العلماء- من السلف أهل السنة والجماعة - أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبّلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] . ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة "، والإله هو: الذي يألهه القلب، عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، ومحبة، وخشية، وإجلالاً. انتهى.

وقال العلامة ابن القيم: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبه منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله، بل أكثرهم يحبون

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .

ص: 215

آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقصي معبوديهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، ويزعمون أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم من الحجر والبشر.

قال الله تعالى حاكياً عن أسلاف هؤلاء: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين، وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه، وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وذكر قول الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سورة سبأ آية: 22-23] .

ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثاً؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب وفهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما تنقض عرى

ص: 216

الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا لأنه لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، فوقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي، يرى ذلك عياناً، والله المستعان.

ثم قال: وأما الأصغر: فكيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقوله: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده.

قلت: فلما قال: وقد يكون أكبر، أخذ يبين أنواع الأكبر، فقال: ومن أنواع النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة لغير الله، والخضوع والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من غيره، وإضافة نعمه إلى غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له عند الله؛

ص: 217

وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تُعبد؛ فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات.

وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم، ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم؛ وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم. ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام َرَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35-36] . وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جود توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى.

فرحمة الله ومغفرته ومرضاته على هذا الشيخ، ما أحسن بيانه وأوضحه! فقد صرح بأن هذا هو الشرك الأكبر، فبطل ما افتراه عليه المشركون. وهذا الذي ذكره، هو الذي عمت

ص: 218

به البلوى في كثير من الأمصار، في هذه الأعصار، وهو الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يُغفر، إلا أن يتاب منه قبل الوفاة.

وقال، رحمه الله، في الكافية الشافية شعراً:

والشرك فهو توسل مقصوده الز

لفى من الرب العظيم الشانِ

بعبادة المخلوق من حجر ومن

بشر ومن قبر ومن أوثانِ

والشرك فاحذره فشرك ظاهر

ذا القسم ليس بقابل الغفرانِ

وهو اتخاذ الند للرحمن أيـ

ـاً كان من حجر ومن إنسانِ

يدعوه أو يرجوه ثم يخافه

ويحبه كمحبة الديان

قال في الإقناع: قال شيخ الإسلام: من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر. وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعاً.

وقال العلامة في الكافية أيضاً:

فتوسّط الشفعاء والشركاء والظـ

ـهراء أمر بيّن البطلان

ما فيه إلا محض تشبيه لهم

بالله وهو فأقبح البهتان

وقال بعض شيوخنا، رحمهم الله تعالى:

نفوس الورى إلا القليل ركونها

إلى الغي لا يلفى لدين حنينها

فسل ربك التثبيت أي موحد

فأنت على السمحاء باد يقينها

وغيرك في بيدا الضلالة سائرٌ

وليس له إلا القبور يدينها

ص: 219

وقال محمد بن إسماعيل، الأمير الصنعاني، رحمه الله: الأصل الرابع: أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم، مقرون أن الله خلقهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف آية: 9] ، وبأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-89] .

وهذا فرعون مع علوه في كفره، ودعواه أقبح دعوى، ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله في حقه، حاكياً عن موسى عليه السلام:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [سورة الإسراء آية: 102]، وقال إبليس:{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة آية: 28]، وقال:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [سورة الحجر آية: 39]، وقال:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} .

ص: 220

وكل مشرك مقر بأن الله خالقه، وخالق السماوات والأرض، وربهن ورب ما فيهما، ورازقهم، ولهذا تحتج الرسل بقولهم:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [سورة النحل آية: 17]، وبقولهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [سورة الحج آية: 73] ؛ والمشركون مقرّون بذلك، لا ينكرونه.

الأصل الخامس: أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل، ولم تستعمل إلا في الخضوع لله، لأنه مولي أعظم النعم، حقيق بأقصى غاية الخضوع، كما في الكشاف. ثم إن رأس العبادة وأساسها: التوحيد لله، الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي: لا إله إلا الله. والمراد اعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان؛ ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي والبراءة من كل معبود دونه. وقد علم الكفار هذا المعنى، لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: تواترت الأحاديث، بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، والموت عليها، وكلها مقيدة بالقيود الثقال؛ وأكثر من يقولها، لا يعرف الإخلاص، ولا

ص: 221

اليقين; وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم أقرب الناس من قول الله تعالى، حاكياً عن المشركين:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] ، وحينئذ، فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين، ومات على ذلك، امتنع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته، بل كانت حسناته راجحة، فيحرم على النار، لأنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب، فإن كمال الإخلاص ويقينه، موجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء سواه، وأخوف عنده من كل شيء، فلا يبقى في قلبه يومئذ إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. فهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كان له ذنوب قبل ذلك؛ فهذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين والكراهة، لا يتركن له ذنباً إلا محي عنه، كما يمحو النهار الليل. فمن قالها على وجه الكمال، المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً، فيغفر له، ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنات لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة.

ص: 222

وقال، رحمه الله: وأصل الدين: أن يكون الحب لله، والبغض لله، والموالاة لله، والمعاداة لله، والعبادة لله، والاستعانة بالله، والخوف من الله، والرجاء لله، والإعطاء لله، والمنع لله؛ وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره أمر الله، ونهيه نهي الله، ومعاداته معاداة لله، وطاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله. وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضى الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضبه لهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين، أن الذي يرضى له ويغضب له، هو السنة.

فإن قدر أن الذي معه دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم أو يثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا، لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيله، قال الله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية [سورة البينة آية: 4-5] .

وقال، رحمه الله تعالى، في منهاج السنة، لما ذكر كلام صاحب المنازل، وأن التوحيد عنده على ثلاثة أوجه:

الأول: توحيد العامة، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، الأحد

ص: 223

الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. هذا هو التوحيد الظاهر الجلي، الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه وجبت الذمة، وبه حقنت الدماء والأموال، وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر. هذا كلام صاحب المنازل. وذكر بعد الوجهين، وذكر شيخ الإسلام ما فيها من الشطح والبدعة. ثم قال شيخ الإسلام: أما التوحيد الأول الذي ذكره، فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل، قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل، مثل نوح وهود، وصالح وشعيب، وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] : وهذا أول دعوة الرسل وآخرها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها؛ وحسابهم على الله

ص: 224

عز وجل ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضاً: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله، دخل الجنة " 1، وقال: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجن ة" 2. والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد، والدعوة إليه، وتعليق النجاة والفلاح وأقصى السعادة في الآخرة به.

ومعلوم: أن الناس متفاضلون في تحقيقه. وحقيقته: إخلاص الدين كله، والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء، وهو: أن تثبت إلهية الحق في قلبك، وتنفي إلهية ما سواه، فتجمع بين النفي والإثبات، فتقول: لا إله إلا الله، فالنفي هو الفناء، والإثبات هو البقاء. وحقيقته: أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبموالاته عن موالاة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبالاستعاذة به عن الاستعاذة بما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه، وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه، وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه، وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل، بعد التكبير: " اللهم لك الحمد، أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت نور

1 أحمد (1/65) .

2 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233، 5/247) .

ص: 225

السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت؛ فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".

قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [سورة الأنعام آية: 14]، وقال تعالى:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام آية: 114]، وقال:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 64-66]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَلا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [سورة الأنعام آية: 161-165] .

وهذا التوحيد كثير في القرآن، وهو أول الدين وآخره، وباطن الدين وظاهره، وذروة سنام هذا الدين، لأولي العزم من الرسل، ثم للخليلين: محمد وإبراهيم، صلوات الله

ص: 226

وسلامه عليهم. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، أنه قال:" إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً "1.

وأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم: إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عنه، أنه قال عن خير البرية:"إنه إبراهيم"، وهو الإمام الذي جعله الله إماماً، وجعله أمة، والأمة: القدوة الذي يقتدى به، فإنه حقق هذا التوحيد، وهو الحنيفية ملته، قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الممتحنة آية: 4-6] . وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ?إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين ِوَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-28] .

وقال عن إبراهيم أنه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [سورة الأنعام آية:

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .

ص: 227

79-

81] .

وقال، رحمه الله تعالى: ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح النفس، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلا صلاح للنفس إلا في ذلك، وبدونه تكون فاسدة؛ وهذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل، قال تعالى:{ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الروم آية: 30-31] .

فالغاية الحميدة، التي بها كمال بني آدم، وسعادتهم ونجاتهم: عبادة الله وحده، وهي حقيقة لا إله إلا الله، وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص، لم يكن من أهل النجاة والسعادة، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . فمن آمن بأن الله رب كل شيء وخالقه، ولم يعبد الله وحده، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب، بحيث يحبه كما يحب الله، ويخشاه كما يخشى الله، ويرجوه كما يرجو الله،

ص: 228

ويدعوه كما يدعو الله، فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله، ولو كان مع ذلك عفيفاً في طعامه ونكاحه، وكان حليماً شجاعاً. انتهى.

وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى- بعد ذكره الشرك في الربوبية -: النوع الثاني: أهل الإشراك بالله في إلهيته، المقرون بأنه وحده رب كل شيء، ومليكه وخالقه، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين، ورب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، وهم مع هذا يعبدون غيره، ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم، وهم الذين اتخذوا من دونه أنداداً، فهؤلاء لم يعرفوا:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] حقه، وإن كان لهم نصيب من "نعبدك"، لكن ليس لهم نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} المتضمن معنى: لا نعبد إلا إياك، حباً وخوفاً ورجاء، وطاعة وتعظيماً. فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تحقيق لهذا التوحيد، وإبطال للشرك في الإلهية، كما أن {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] تحقيق لتوحيد الربوبية، وإبطال للشرك به. وكذلك قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 6-7] ، فإنهم أهل التوحيد، وهم أهل تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] . وأما أهل الإشراك، فهم أهل الغضب والضلال. فإن هذا الانقسام ضروري، بحسب انقسامهم في معرفة الحق والعمل به، إلى عالم به عامل بموجبه وهم أهل النعمة،

ص: 229

وعالم به معاند له وهم أهل الغضب، وجاهل به وهم الضالون. وهذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل، فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة، فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون هذه الرسالة. انتهى. والمقصود من هذه المقدمة: العلم بأن التوحيد الذي بعث الله به رسله، غريب في الناس جداً، وأكثرهم لا يعرف حقيقته، ولا يعرف الشرك الأكبر المنافي له؛ وغاية ما عندهم هو أن يعرف أن الله تعالى ربه وخالقه، وخالق جميع المخلوقات ورازقها، والمتصرف فيهم. وقد عرفت مما سلف: أن أكثر الأمم من أعداء الرسل، يعرفون ذلك، ويقرون به، كما أقر به كفار قريش لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مقرر في القرآن أتم تقرير.

وأما توحيد الإلهية، الذي هو مضمون لا إله إلا الله، الذي دل عليه القرآن، من أوله إلى آخره، فالأكثر لا يعرفونه، مع أن سور القرآن الكريم مشحونة ببيانه، كقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165]، وقوله:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية [سورة الرعد آية: 14]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وقوله:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ

ص: 230

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [سورة البينة آية: 5] . وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 5]، وقوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية [سورة فاطر آية: 13]، وقوله:{إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 4-5]، وقوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} الآية [سورة المؤمنون آية: 117]، وقوله:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} الآية [سورة الزخرف آية: 26-27]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، إلى أمثال ذلك مما لا يحصى في القرآن كثرة، في بيان هذا التوحيد، وما ينافيه من الشرك بالله، الذي هو أعظم ذنب عصي الله به، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] .

فإذا تأملت القرآن، وجدته قد احتج على المشركين فيما جحدوه من توحيد الإلهية، بما أقروا به من توحيد الربوبية، كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31]، وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ

ص: 231

تَعْلَمُونَ} الآيات [سورة المؤمنون آية: 84] .

فإذا أقروا أن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه المتصرف في جميع خلقه، لزمهم أن يعبدوه وحده؛ فإن الإقرار بهذا التوحيد، يستلزم الإقرار بالنوع الآخر، ولا بد منهما جميعاً.

وأما الثالث من أنواع التوحيد، فهو: أن نصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه رسوله، على ما يليق بجلال الله، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل؛ فإن صفات الرب تعالى وأسماءه، تدل على كمال الرب تعالى، وتنفي عن الله ما نفى عن نفسه، ونفى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من كل ما ينافي كمال حياته وقيوميته، وكمال غناه، كما نزه الله عنه نفسه، ونزهه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11]، وقوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1-4]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام " 1 الحديث.

ونحو هذا مما نزه الله عنه نفسه، ونزهه عنه رسوله كثير في الكتاب والسنة؛ فالمهديون المؤمنون يثبتون ما أثبته الله ورسوله، من معاني أسمائه وصفاته، على ما يليق بجلاله، وينفون عنه مشابهة المخلوقين، وسمات المحدثين، وينفون عنه ما نفى عن نفسه، ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما لا يليق به، والله

1 مسلم: الإيمان (179) ، وأحمد (4/400، 4/405) .

ص: 232

أعلم.

فما أعز من يعرف حقيقة التوحيد! بل ما أعز من لا يعادي من عرفه ودعا إليه! فلقد عم الجهل بالتوحيد، حتى نسب أهله إلى الابتداع ونسب من أنكره إلى الاتباع. وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، لما ذكر حديث:" بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " 1؛ بل الإسلام الحق، الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اليوم، أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة، مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي فينا غريب جداً، وأهله غرباء بين الناس.

وكيف تكون فرقة واحدة، بين فرق لهم أتباع ورياسات، ومناصب وولايات، لا يقوم لها سوق إلا في مخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات، التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم وإرادتهم. فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريباً بين هؤلاء، الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأعجب كل منهم برأيه؛ فإذا أردت معرفة الإعراض عن الدين، تعلماً وعملاً، فتأمل ما هم عليه، فالله المستعان.

واعلم: يا من له عقل ونور، يمشي به في الناس، أني

1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجة: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .

ص: 233

تأملت "الورقة" التي قدمت الإشارة إليها 1، وهي لحمد بن علي المرائي، فإذا هو قد حشاها بالرعونات، والحماقات، التي هي من نتائج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم؛ فإذا نظر فيها العاقل، علم أنها لا تصدر إلا من جاهل معجب بنفسه، لإقامته بين جهلة العوام، فإن أكثرهم لا يميز بين الصحيح من السقيم من الكلام. فلو كان ما أبداه من أساجيعه، من وراء كفاية وعن علم ودراية، لكان أحرى بمراجعة الصواب، والرجوع عما أخطأ فيه من الخطاب، وقد قال بعضهم شعراً:

ولو كان هذا من وراء كفاية

لهان ولكن من وراء تخلفِ

فأعجب لقوله: أما بعد، فيقول العبد المسترشد للعلم والعمل، لا للمراء والجدل.

فالجواب: تأمل أيها المنصف ما بعد هذا من كلامه، تجده مناقضاً لما قال، مشتملاً على المراء والجدال، كحال أمثاله من أهل الأهواء، ويخبط على أثرهم خبط عشواء، وقد تضمنت رسالته من الأحبولات للجهال، والتلبيس على من عقولهم كعقول الأطفال.

فمن ذلك: أنه أكثر الحط على من يقول على الله بلا

1 أي: في صفحة 204.

ص: 234

علم؛ ولا شك أن ذلك من أكبر الذنوب، وأعظم المثالب والعيوب، ولكنه اتزر بما عابه من ذلك، وارتدى في آخر مقاله والابتداء. وهكذا حال من لا علم لديه، ولا دراية له تنسب إليه، فتراه يعيب أمراً وهو يتقلب فيه، فتارة يظهره وتارة يخفيه، وكل إناء ينضح بالذي فيه؛ فتأمل ما سيأتيك من جوابه، ترى عجباً.

ثم إنه قال: والمسألة المشار إليها، والمسؤول عنها، هي التي غصت بها الحناجر، وأسبلت على الخدود دموع المحاجر، وهي قول الجهال الطغام: من أقام ببلد قد استولى عليها العساكر، ولا عنها يهاجر، فهو كافر.

فالجواب: أن هذا قول مختلق، ولا نعلم قائلاً به على الإطلاق، كما زعم صاحب الورقة. وهذا من بهرجه وزبرجه وتهويله، أسوة أمثاله ممن يفتري على المسلمين، ويقولهم ما لم يقولوا، ليدفع بهذا عن نفسه الشناعة، وليس بنافعه شيئاً؛ بل هو عين الضرر عليه، لأنه تشبث بما لا يجدي، وليس عند أهل الأهواء إلا التلبيس، والشكوى لما تلطخوا به من العيوب والأسواء، إذ ليس معهم حق يعتمد عليه، ولا برهان لهم تطمئن نفوسهم إليه. فترى أحدهم ضيق الصدر والبال، لأن بضاعته إنما حقيقتها الشكوك والخيال.

بخلاف صاحب الحق، فإن معه من البصيرة والعلم واليقين، ما يدفع الشك والإلباس، ويهون عليه مؤنة

ص: 235

المعارضين من الناس. وأكبر همّ المؤمن ما بينه وبين ربه، يرجو رحمته ويخاف عقوبة ذنبه، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} الآية [سورة المؤمنون آية: 60] ؛ يسير إلى الله بين مشاهدة منّة من الله عليه، ومطالعة عيب نفسه:" أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي "1.

وأما الفاجر، فقلبه خال من خشية الله، آمن من مكر الله، يمضي في الغفلة والمعاصي، قدماً قدماً، فيا عجبا من صاحب هذه الورقة ما الذي يؤمنه؟ قد تلطخ بما تلطخ به، والمعاصي بريد الكفر؛ وكان الواجب عليه أن يغص من العبرات، ويسيل الدموع في الخلوات والجلوات، على ما فرط فيه من الطاعات، ووقع منه من الفرطات. فاهتمامه من نفسه لنفسه، أولى من الاهتمام بما قيل أو يقال. فلو صح عن أحد لكان فيه إجمال، ويتطرق إليه الاحتمال، على أنه ليس من قبيل المحال، الذي لا ينسب إلا إلى الطغام والجهال، فأين الأسباب المؤمنة لهذا المسكين، من أن يقع في زيغ الزائغين، وطريق الأئمة المضلين؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أخوف ما أخاف على أمتي: الأئمة المضلين "2.

وأما شتمه لخواص من أهل الهجرة والدين، وتسميتهم بالجهال الطغام، فهو دليل على إعجابه بنفسه ورضاه بعمله؛

1 البخاري: الدعوات (6306)، والترمذي: الدعوات (3393)، والنسائي: الاستعاذة (5522) ، وأحمد (4/122، 4/124) .

2 الترمذي: الفتن (2229)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجة: الفتن (3952) ، وأحمد (5/278، 5/284)، والدارمي: المقدمة (209) .

ص: 236

وذلك من أكبر الذنوب، وأعظم العيوب. فإنه من تدبر القرآن، وتفكر فيما قصه الله تعالى عن أهل الكتاب، وأمثالهم من أهل الفهم والرأي، وأنهم تركوا الحق الذي بعث الله به رسوله بعد ظهوره، واختاروا لأنفسهم أسباب الردى والهلاك، ولم ينفعهم الله بعلمهم، ولا برأيهم وفهمهم، خاف على نفسه من أن يزيغ كما زاغوا، وأن يضل كما ضلوا؛ وهذا إنما يحصل بتوفيق الله ورحمته لعبده.

وصاحب هذا الكلام، قد نسي ما وقع منه من المداهنة والموادة، لأرباب البغي والعدوان، على أهل الإسلام والإيمان، والصد عن سبيل الله؛ فأعظم بها من ذنوب، ومثالب وعيوب! وما ذكرناه من الواقع، من كثير من أعيان أهل نجد، لا يمتري فيه من في قلبه أدنى حياة.

وظاهر حال المعترض: أنه لما جهل حقيقة هذا الذنب العظيم، عده من أنواع الواجب، والجائز، والمكروه، وكلامه في ورقته يدور على هذه الثلاثة، فلذلك استوحش مما أنس به المسلمون، وأنس بما استوحش منه العارفون؛ فلو تصور الواقع منه، لسالت على الخد منه دموع المحاجر، وغصت من مخافة الوعيد تلك الحناجر، كما دل على عظيم ذلك الذنب الكثير من الآيات والأحاديث والبينات.

واعلم: أن هذا المغرور، لما كذبته ظنونه التي قعدت به عن واجب الهجرة والجهاد، وتبين أنه أخطأ سبيل الهدى

ص: 237

والسداد، وعلم أن المسلمين قد ميزوه بحاله، وقبيح فعاله، بادر إلى التشكي والتهويل، والتباكي والعويل، وحاول قلب الحقائق، فاستهجن الصدق والمعروف، واستحسن الباطل لكونه عنده هو المألوف؛ فأعظم بها عقوبة أطفأت نور العقل، وأعمت البصيرة! فصاحبها في ظلمات الجهل والريب.

ولما قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فقال ابن مسعود:"هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف، وينكر المنكر". قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنوب، وأنا أخاف الكفر. يا ربنا نسألك الثبات على الإيمان.

ومما يجب أن يعلم: أن الله تعالى فرض على عباده الهجرة عند ظهور الظلم والمعاصي، حفظاً للدين، وصيانة لنفوس المؤمنين عن شهود المنكرات، ومخالطة أهل المعاصي والسيئات، وليتميز أهل الطاعات والإيمان، عن طائفة الفساد والعدوان، وليقوم علم الجهاد، الذي به صلاح البلاد والعباد؛ ولولا الهجرة لما قام الدين، ولا عبد رب العالمين، ومن المحال أن تحصل البراءة من الشرك، والظلم والفساد، بدونها.

ومن لوازم ترك الهجرة غالباً: مشاهدة المنكرات، ومداهنة أرباب المعاصي والسيئات، وموادتهم، وانشراح

ص: 238

الصدر لهم؛ فإن الشر يتداعى ويجر بعضه بعضاً، فلا يرضون عمن هو بين أظهرهم بدون هذه الأمور، ولا بد من رضاهم، والمبادرة في هواهم.

ثم إنه قال قولا ينبئ من له أدنى معرفة، أن هذا لا يصدر إلا ممن هو غريق في الجهالة، قد عري من المعقول والمنقول، وذلك قوله: إن الله قدم حرمة ابن آدم على حرمته، وأباحه ما حرم عليه من أكل الميتة، إذا خاف على نفسه الضرر. ووجه خطئه وجهله: أنه جعل ذلك أصلاً، قاس عليه ترك الهجرة، وفي زعمه أنه اضطر إلى تركها، كما اضطر إلى الأكل من الميتة من خاف على نفسه التلف، فأقول: لا يخفى ما في هذا القياس من الفساد، وذلك من وجوه:

منها: أنه في مصادمة نصوص الكتاب والسنة، التي دلت على وجوب الهجرة على من له قدرة عليها، وإن كان يتوقع بها القتل والموت، كما أنه لا يترك الجهاد خوفاً من القتل، كما قال تعالى:{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [سورة آل عمران آية: 195]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة الحج آية: 58] .

ص: 239

فلم يجعل الله تعالى هذه الأمور التي قد تقع للمهاجر، عذراً عن الهجرة، لأن الهلاك في الهجرة والجهاد هو السلامة، فإنه شهادة، والشهداء {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة آل عمران آية: 169-170] . وقد يحصل للمهاجر ما يحبه، من حسن العاقبة في الدنيا، مع ما يرجوه في الآخرة، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} الآية [سورة النساء آية: 100] .

ونظير ترك الهجرة خوفا من الفقر أو القتل: مداهنة أهل المعاصي خوفاً من أذاهم، وقد قال تعالى في حقهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [سورة العنكبوت آية: 10] . وهذا الذي جعل فتنة الناس كعذاب الله، قد يدعي أن الضرورة دعته إلى ذلك لو كانت عذراً، وقد علمت: أن ترك الهجرة عرضة لذهاب الدين، وذهاب الدين، هو هلاك النفس السرمدي:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الزمر آية: 15] ، هذا في تركهم الهجرة.

وأما الهجرة، فإن الغالب على أهلها السلامة والعز والتمكين، كما جرى ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه سلفاً

ص: 240

وخلفاً، وبها يحصل الجهاد، وتعلو كلمة الله، ويعمل في الأرض بطاعة الله؛ ومصالح الهجرة في الدنيا أكثر من أن تحصر، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 41] . فبطل هذا القياس من وجهين:

الأول: أنه مصادمة النصوص الثابتة، والقياس في مصادمة النص فاسد الاعتبار عند العلماء قديماً وحديثاً؛ فإن القياس إنما يصار إليه عند الضرورة إليه إذا عدم النص، ولم يوجد للحكم دليل في الكتاب والسنة، لا نصاً ولا ظاهراً، فحينئذ يجوز عند بعض العلماء، لدعاء الضرورة إليه. وله شروط ومفسدات، وله أنواع أربعة لا يعرفها هذا المعترض؛ وأنى له بمعرفة الصحيح منها والسقيم، والجائز والممتنع، مع قصر الباع، وعدم المحصول والاطلاع.

الوجه الثاني: عدم الجامع، ووجود الفارق، فإن الحكمة في إباحة تناول لقمة من الميتة إذا اضطر إليها، قد أبيحت له في تلك الحال، لأن الأكل واجب، صيانة للنفس عن الهلاك، طاعة لله، مطلوب لما يفضي إليه ذلك، من التقوي على أداء الفرائض والطاعات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ومن المحرمات ما يباح عند الضرورة، كالدم والميتة، فهذه في حال الإباحة ليست محرمة أصلاً، وليس له أن يعتقد تحريمها

ص: 241

حينئذ؛ وإنما تنازع العلماء، هل السبب الحاظر لها موجود وقت الضرورة، وأبيحت للعارض الراجح، أو السبب الحاظر زائل، وهذا مبني على مسألة تخصيص العلة; فمن قال: إن العلة تخصص، يقول: إن علة الحظر قائمة، ولكن تخلف حكمها لمانع، ومن قال: لا تخصص، قال: إن علة التحريم لا توجد مع عدم التحريم؛ والنزاع لفظي.

قال، رحمه الله: فإن الأكل والشرب واجب، حتى لو اضطر إلى الميتة، وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، لأن العبادة لا تؤدى إلا بهذا، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. انتهى.

قلت: وهذا موجود في الهجرة وأولى، لأن العبادة لا تؤدى إلا بها، ولا يقوم الدين والعمل به إلا بالهجرة؛ فبالهجرة يحفظ المرء دينه، ويتمكن من العمل به، ويعادي ويوالي فيه، وغير ذلك من المصالح الدينية، التي تفوت الحصر. فلو احتجنا إلى القياس، لكان هذا من قياس الأولى، عكس ما عند صاحب الورقة، فإن ضرورة العبد إلى الهجرة فوق كل ضرورة، ولو كان فيها تلف النفس والمال، فالعبد مضطر إليها عند الحاجة إليها، أعظم من ضرورته إلى الطعام والشراب.

ثم اعلم: أنه من كبير جهله، أخذ يقيس ترك ما وجب فعله، على فعل ما يجب فعله، فقاس الترك على الفعل،

ص: 242

وقاس المحرم على الواجب؛ وهذا أفسد شيء وأبعده عن القياس، فالعكس والحالة هذه، أشبه بالقياس صورة ومعنى؛ فتأمله، فإنه يطلعك على جهل هذا الرجل. فالعارف يلتمس له العذر من حيث إنه جاهل، ولولا جهله لكانت هذه فرية منه عظيمة على دين الله.

ومن المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة: أن الهجرة من أعظم فرائض الدين، وهي أصل وقاعدة من قواعد الإسلام، التي ينبني عليها الكثير من الأحكام؛ ومن جهله أنه لم يميز بين الضرورة والضرر، كما قد عرفت من كلامه الذي أسلفته. ومن المعلوم عند من له بصيرة ودين: أن الهجرة لا ضرورة فيها ولا ضرر، فدعواه الضرورة ممنوعة من أصلها.

فغاية ما في الهجرة: بأن فيها مشقة في المبادئ على النفس، من جهة مفارقة المألوفات، من الوطن أو المال، أو غيرها من الأصناف الثمانية المذكورة في أول سورة براءة؛ وهذا شأن الشرائع، كالجهاد فإن فيه مشقة، كما قال تعالى:{وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} الآية [سورة التوبة آية: 81]، وقال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 216] . ولم يعذر الله تعالى ناساً تخلفوا عن الجهاد في غزوة

ص: 243

تبوك، بما فيها من المشقة، حتى قال الله فيهم شر ما قال لأحد، فقال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة التوبة آية: 95] .

ومن المعلوم: أنه ليس في ترك الجهاد من المفاسد في الدين ما في ترك الهجرة، بل المفاسد التي في ترك الجهاد موجودة في ترك الهجرة، وأكثر منها، كما لا يخفى على ذوي البصائر والفهم، وكان الجهاد من ثمرتها ومصالحها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تأمر بما يترجح مصلحته، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة، كالجهاد، وتنهى عما ترجحت مفسدته، وإن كان فيه مصلحة، كتناول المحرمات من الخمر وغيره؛ ولهذا أمرنا الله أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والأحسن: إما واجب أو مستحب، قال تعالى:{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الزمر آية: 55] ، فأمر باتباع الأحسن والأخذ به، قال تعالى:{فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة الزمر آية: 17-18] ؛ فاقتضى أن غيرهم لم يهده. انتهى.

وتأمل ما وقع فيه التاركون للهجرة، من سوء الحال في الدين والدنيا، فيالها من عبرة ما أبينها لمن اعتبر!

ص: 244

والحمد لله الذي أنقذ من شاء من عباده من المهالك برحمته، وأهلك من شاء بعدله:{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 42] .

فإذا عرفت ذلك، فأقول: عجباً لهذا المفتري المغرور، كيف تجسر على الخوض في أحكام الله ودينه، بضرب الأمثال والأقيسة الفاسدة، وهو لا يعرف القياس وشروطه، والمقبول منه والمردود، بل ولا يعرف أنواعه، كقياس الأولى، والعلة، والدلالة، والشبه، والمخالفة، ولا يعرف مفسدات القياس عند العلماء، ولا من يجوز منه ذلك ممن لا يجوز منه، ومن يجوزه من العلماء عند الضرورة، ومن لا يجوزه منهم مطلقاً.

ومن أنكره من علماء السلف، كجعفر بن محمد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهما، فإنه أنكره على أبي حنيفة، رحمه الله، كما هو معروف عنه عند العلماء، يروونه عن ابن شبرمة، أنه قال لأبي حنيفة: اتق الله ولا تقس، فإنا نقف غداً نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى، فنقول: قال الله، قال رسوله، وتقول أنت وأصحابك: رأينا وقسنا، فيفعل الله بنا وبك ما شاء.

وعن ابن عباس: "لا تقيسوا الدين، فإن الدين لا يقاس؛ وأول من قاس: إبليس"، أخرجه الديلمي، وقال ابن سيرين: "القياس شر، وأول من قاس: إبليس، وإنما عبدت

ص: 245

الشمس والقمر بالمقاييس". وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: إنما المتبع في إثبات أحكام الله: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل السابقين الأولين؛ لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة، نصاً أو استنباطاً بحال.

وأما الأقيسة الفاسدة، فإنها أكثر ما عند أهل الضلال، وأول من قاس: إبليس. وقال: إن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير. انتهى كلامه، رحمه الله.

والمقصود: أن يعلم المسلم أن بذل النفوس في طاعة الله ومرضاته، أمر مطلوب للرب تعالى من عبده، ليكون الدين كله لله؛ فمن رغب بنفسه عن ذلك، وآثر مرادها وراحتها وشهوتها، على مراد ربه، وإقامة دينه، وطلب مرضاته، فقد عرض نفسه لمقت الله وعقابه، وحرم نفسه ما حصل للمؤمنين المتقين من جزيل ثوابه. فلا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ومن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

ثم إن هذا المغرور المسكين قال: ما وقع فيه التاركون للهجرة، وأباحه الكفر إذا أكره عليه، قال عز من قائل:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [سورة النحل آية: 106] ، نزلت في عمار بن ياسر، أخذه

ص: 246

المشركون، فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كيف تجد قلبك؟ "، قال:"مطمئن بالإيمان ".

فالجواب- وبالله التوفيق - أن نقول: لا يخفى أن هذا الرجل ادعى لنفسه أمراً لا وجود له ولا حقيقة، واستدل بدليل هو في الحقيقة عليه لا له، وذكر أمراً مجملاً مبهماً، تشبيهاً على العامة، ليلبس عليهم أمر دينهم، وفي ضمنه أنه أقر على نفسه بما صدر منه، مما لا يحبه الله ويرضاه، غير أنه اعتذر عن نفسه بالإكراه.

ومن له أدنى مسكة من عقل وتمييز، يعلم أنه لا عذر لهذا الرجل فيما قد صدر منه؛ فإن دعواه الإكراه ممنوعة، لأنه إن كان على الإقامة عندهم، فهذا باطل قطعاً، لأنهم لم يحبسوه ولم يجعلوه في وثاق، ولم يجعلوا على كل نقب من نقوب القرية حرساً يمنعه الخروج منها، ولا جعلوا على طرقاتها رصداً، والمناهل قريب، وفيها القبائل، والفرار بالدين واجب، فأين الإكراه؟

هذان وقد حصل منه من الإقبال والإدبار، والتصدر والافتخار، ما هو معلوم عند من يعرف هذا الشخص بالاضطرار. فأين حال هذا وأمثاله من حال عمار؟ رضي الله عن عمار، فإنه تبرأ من المشركين وسبهم، وسب دينهم ومعبوداتهم، فلذلك تصدروا له ولأهله بالعداوة الشديدة، وما ثم قرية ولا قبيلة على الإسلام، فجعلوا يضربونه أشد

ص: 247

الضرب، ويعذبونه أشد العذاب، وحبسوه في بئر ميمون، وقتلوا أباه وأمه.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم يقول: " اصبروا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة "، ومع هذا وغيره، لم يقع منه إلا القول دون الفعل. وأنتم سارعتم بلا إكراه، وقلتم وفعلتم، تقرباً إليهم واختياراً، من غير أن يكون منهم طلب لما فعلتموه، فما طلبوا منكم ذلك، ولا امتنعتم، ولا أُكرهتم عليه، فأين أنتم وعمار؟! فهو وأنتم في طرفي نقيض; شعرا:

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرِّقٍ ومغرِّبِ

وفي الصحيحين عن خباب بن الأرت، قال:" شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال: فجلس محمراً وجهه، ثم قال: والله إن من كان قبلكم، ليؤخذ الرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصرفه ذلك عن دينه. ويقعد الرجل فتحفر له الحفرة، فيوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه عن دينه " الحديث.

وبعد ما وقع بعمار وأهله من المشركين ما وقع، أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، لما اشتد بهم أذى المشركين، فهاجروا وفيهم عمار رضي الله عنه. ثم إنه رجع

ص: 248

هو وبعض المهاجرين، فهاجروا إلى المدينة، وفي تلك الأحوال لم يطمئن أحد منهم إلى المشركين، ولا داهنهم بدينه، واستمروا على عداوتهم والبراءة منهم، حتى هاجروا إلى المدينة؛ وقصتهم في السير، وكتب الحديث، والمغازي، مشهورة.

فأين القلب المطمئن بالإيمان، وهو يرغب إلى أولئك الأشرار، ويتعرض لما في أيديهم من حطام الدنيا، ويتودد إليهم بأساجيع المدح، كسجع الكهان، ويقول: اكتبوا لي كذا، اجعلوا لي كذا، ونحو ذلك من صيغ الطلب، كما في المكاتبات الموشحة بالمديح، والدعوات والتعظيمات، والمجازفات الموشحة بنظم الأبيات؟! فسبحان من لا يخفى عليه خافية، من أقوال خلقه وأعمالهم. وفي الحديث:" إن الله لا ينظر إلى صوَركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "1.

ونذكر أيضاً طرفاً مما يتعلق بمعنى الآية: قال العماد ابن كثير، في تفسيره: أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر، واطمأن به، أنه قد غضب عليهم لعلمهم بالإيمان، ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة، لأجل الدنيا، وطبع على قلوبهم، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم،

1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) .

ص: 249

وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئاً، فهم غافلون عما يراد بهم.

وأما قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] ، فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه، مكرهاً على ما قاله، بضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. وروى العوفي عن ابن عباس:"نزلت في عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون، فوافقهم على ذلك مستكرهاً"، وروى ابن جرير بسنده، قال:" أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد ".

وقال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه- وكانوا أهل بيت إسلام- إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما بلغني:" صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ". فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام. قال: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس:? "أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه

ص: 250

ويعطشونه، حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضرر الذي به، حتى يعطي مما سألوه من الفتنة، افتداءً منهم مما يبلغون من جهدهم". قال العماد ابن كثير: والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله، كما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي، أحد الصحابة:"أنه أسرته الروم فجاؤوا به إلى عند ملكهم، فقال له: تنصّر وأنا أشركك في ملكي، وأزوجك بنتي، فقال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملكه العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين، ما فعلت، فقال: إذاً أقتلك، قال: أنت وذاك. قال: فأمر به فصُلب، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه، وهو يعرض عليه دين النصرانية، فأبى. ثم أمر به فأُنزل، ثم أمر بقدر، وفي رواية ببقرة من نحاس، فأحميت، وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه فأبى. ثم أمر به أن يُلقى فيها، فرُفع في البكرة ليُلقى فيها، فبكى، فطمع فيه ودعاه، فقال: إنما بكيتُ لأن نفسي إنما هي نفس واحدة، تُلقى في هذا القدر الساعة في الله، فأحببتُ أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذَّب هذا العذاب في الله".

وفي بعض الروايات: "أنه سجنه ومنع منه الطعام

ص: 251

والشراب أياماً، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يقربه. ثم استدعاه فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنه قد حل لي، ولكن لم أكن لأشمتك بي، فقال الملك: فقبِّل رأسي، وأنا أطلقك، فقال: وتطلق معي جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، قال: فقبَّل رأسه، فأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده. فلما رجع، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ؛ فقام فقبَّل رأسه، رضي الله عنهما".

قال العماد، رحمه الله تعالى: وكما كان بلال رضي الله عنه يأبى على المشركين ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله، فيأبى عليهم، وهو يقول:"أحد أحد"، ويقول:"والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها"، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري، لما قال له مسيلمة الكذاب:"أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً، وهو ثابت على ذلك".

قلت: فهذه حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لقوا من المشركين من شدة الأذى، فأين هذا من حال هؤلاء المفتونين الذين سارعوا إلى الباطل، وأوضعوا فيه،

ص: 252

وأقبلوا وأدبروا، وتوددوا وداهنوا، وركنوا وعظموا، ومدحوا؟ فكانوا أشبه بما قال الله تعالى:{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} [سورة الأحزاب آية: 14] . نسأل الله تعالى الثبات على الإسلام، ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

ومن المعلوم: أن الذين أسلموا، وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، لولا أنهم تبرؤوا من الشرك وأهله، وبادروا المشركين بسب دينهم، وعيب آلهتهم، لما تصدوا لهم بأنواع الأذى، وذلك لأنهم أعلم الأمة بالحنيفية، وأعلم بالتوحيد، كما قال الله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] .

ثم إنه قال في رسالته: فمن شرح بالكفر صدراً، وارتد، وطابت نفسه بالكفر، فهو الكافر.

فالجواب أن يقال: تعداده هذه الثلاث، تدل على جهله بنواقض الإسلام، لأن كل واحدة من هذه الثلاث يكفر صاحبها، وبين هذه الثلاث تلازم: فمن شرح بالكفر صدراً، فقد ارتد وطابت نفسه بالكفر، ومن طابت نفسه بالكفر، فقد ارتد وشرح بالكفر صدراً؛ فحظ هذا الرجل التنطع بالكلام، من غير تصور للمعنى.

ثم إن آخر هذه الآية، يرشد إلى أن الذي أوقعهم في

ص: 253

انشراح الصدر بالكفر هو إيثار الدنيا على الآخرة، فقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107] . فإذا استحب الوطن أو المال، أو الأزواج، أو العشيرة، أو المساكن، أو التجارة، أو غير ذلك من أمور الدنيا، وترك لأجل ذلك ما وجب عليه، من الهجرة والجهاد، فقد تناوله هذا الوعيد، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} إلى آخر الآية [سورة التوبة آية: 24] .

قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [سورة الأعراف آية: 176] أي: مال إلى الدنيا وزهرتها، وآثرها على طاعة الله ورضاه. فإذا كان هذا هو الواقع من هؤلاء، فما هذا القلب الذي اطمأن بالإيمان، مع وجود ما ينافي ذلك، من إيثار الدنيا والطمأنينة إليها والرغبة فيها، وترك ما أوجب الله تعالى عليه لأجلها؟ ومن ادعى ما ليس فيه، كذبته شواهد الامتحان، قال الله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 105] .

ثم إنه قال: وما أجلسه في بلده إلا حماية لنفسه وماله

ص: 254

وولده.

فالجواب أن نقول: هذا هو المحذور الأكبر، والذنب الأعظم، الذي ثبت الوعيد عليه في آية براءة. فلو كان لهذا فقه أو معرفة، لما اعتذر عن نفسه بأشياء لم يعذر الله بها أحداً من خلقه؛ فلو أحب الله على ما سواه، لما آثر محبة النفس والمال والولد عليه، وقد ثبت في رواية أبي صالح، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال:"لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من يتعلق به أهله وولده، يقولون: ننشدك بالله أن لا تضيعنا، فيرق عليهم ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} "[سورة التوبة آية: 24] .

إذا عرفت ذلك، فلا يخفى أن أهل نجد في هذه الحادثة، صاروا أصنافاً:

فالصنف الأول: دخلوا تحت حكم هذه الآية، لما ابتلوا بالعدو، أخلدوا إلى الأرض، ورضوا بالمقام معهم وتحت أمرهم؛ فتركوا ما وجب عليهم من الفرار بدينهم، ومفارقة عدوهم، إيثاراً لدنياهم. وأحبوا المقام، وداهنوا أولئك الأقوام، وخدموهم، وأعانوهم، وتقربوا إليهم بما لم يحبه الله ولا يرضاه، بلا قسر ولا إكراه.

الصنف الثاني - وهم أشد-: نقضوا عهد الإسلام، واستجلبوا العدو إلى الأوطان، وآووهم وظاهروهم،

ص: 255

ونصروهم، ونابذوا المسلمين المهاجرين، بالشتم والسب، وألبوا العدو عليهم؛ وصارت مسبة من هاجر هي دينهم، وسفهوا المسلمين، واستصلحوا بزعمهم حالهم، ظناً منهم أنه لا طاقة لأحد بهذا العدو، وأن أمرهم سيستقر في جميع البلاد النجدية؛ فضل سعيهم وخابت آمالهم. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

الصنف الثالث: حصل منهم إقامة بين أظهرهم، ولم يتبين منهم ما يتبين من الصنفين. وهؤلاء قسمان: مستطيع للهجرة، وغير مستطيع. والله أعلم بحالهم، وهؤلاء لم يظهروا في العلانية ما يستدل به على السريرة، بل ربما ظهر منهم كراهة الباطل، والفساد والمعاصي، وهم على خطر. والله أسأل أن يمن على الجميع بالتوبة النصوح.

الصنف الرابع: أناس نفروا في الابتداء، وجاهدوا وصبروا، لكنهم بعد ذلك لم يستقيموا على ذلك، وحصل لهم فتنة صاروا فيها فرقاً؛ فعسى الله أن يتداركهم برحمته، وأن يتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم.

وأما الصنف الخامس: فمنهم الذين ثبتوا ولم يمكنوا منهم عدواً، وصبروا على ركوب الأهوال في جميع الأحوال؛ نسأل الله لنا ولهم الثبات على الإسلام، والاستقامة على الإيمان، والفضل لله تعالى على من ثبت واستقام، وصبر على أذى الخلق في طاعة الحق، وبالله التوفيق.

ص: 256

ووجدت لعالم الحجاز، ومفتيهم الإمام: محمد بن أحمد الحفظي، فصلاً نافعاً فيما وقع من الفتنة بالحجاز، بعد وقعة "سبل" المعروفة، وما جرى في تلك المدة من الافتتان عن الدين. وذكر أن الله أطفأ نار المفسدين، وأطلع نور الموحدين، ولكنه قد حصل في تلك المدة الماضية، أمور عظام، هي أكبر الذنوب، وأعظم الآثام، قد بلغ الشيطان فيها مراده، ممن كان يدعي الإسلام.

منها: أن منهم من كره ما أنزل الله في كتابه من شرائع الدين. ومنهم: من طعن في ذلك، وأبغض الإسلام والمسلمين. ومنهم: من ظاهر ووالى على طمس أعلام الموحدين، وأرادوا إحياء أضدادها، من أعمال الجاهلية، وأفعال المشركين.

ومنهم: من استهزأ بالله وآياته ورسوله والمؤمنين. ومنهم: من رضي بذلك وعزم عليه، وأعان بنفسه أو ماله أو لسانه؛ وقد ورد الوعيد الشديد فيمن أعان، ولو بشطر كلمة في قتل مسلم، فكيف الإعانة على حرب الإسلام والمسلمين؟ ومنهم: من اتصف أو تخلق بأخلاق المنافقين، وأبرز ما كان يكنه من الداء الدفين.

ومنهم: من أشاع الكذب والأراجيف بقوة العدو، وضعف أهل الإيمان فارحاً بذلك، شامتاً بالمسلمين. ومنهم: من ظن بالله ظن السوء، بأنه أدال العدو، واضمحل

ص: 257

ما كان من النصر والتمكين. ومنهم: من نقض بيعته ونكث صفقته، واستبدل الرخيص بالثمين.

وهذه الأمور كلها جرت بغير إكراه ولا تعيين، وكل واحدة منها تخدش في وجه إيمان فاعلها، وتفت في عضد إسلام عاملها، وهي من المعاند ردة عن الإسلام، وإما نفاق في الدين.

وذكر الأدلة من القرآن، قال: فالإنسان أعرف بنجاسته وطهارته، وأخبر بمعصيته وطاعته؛ وكفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبربك عليك رقيباً. ولعلك أن تقول: هولت الأمر، فأقول: بل الأمر أكبر مما حسبت، وأكثر مما سمعت، تحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم. وذكر الأدلة على ذلك.

ثم قال: وفي السنن: "أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حكم بكفر أهل مسجد في الكوفة، قال واحد: إنما مسيلمة على حق فيما قال، وسكت الباقون. فأفتى بكفرهم جميعاً". فلا يأمن الإنسان أن يكون قد صدر منه كلمة كفر، أو سمعها وسكت عليها، ونحو ذلك.

فالحذر الحذر، أيها العاقلون! والتوبة التوبة أيها الغافلون! فإن الفتنة حصلت في أصل الدين، لا في فروعه، ولا في الدنيا؛ فيجب أن تكون العشيرة، والأزواج، والأموال، والتجارة، والمساكن، وقاية للدين، وفداء عنه، ولا يجعل الدين فداء عنها، ووقاية لها، قال تعالى:

ص: 258

{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] .

فتفطن لها وتأملها! فإن الله أوجب أن يكون الله ورسوله والجهاد، أحب من تلك الثمانية كلها، فضلاً عن واحدة منها، أو أكثر، أو شيء دونها مما هو أحق. فليكن الدين عندك أغلى الأشياء وأعلاها، والتوبة أهم الأمور وأولاها. انتهى المقصود من كلامه.

رحم الله هذا الإمام ما أبصره! والحمد لله الذي جعل في كل زمان من يقول الحق، ويرشد إلى الهدى والصدق، وتندفع بعلمه حجج المبطلين، وتلبيس الجاهلين المفتونين. فيا لها من نعمة لا يستطيع من وفق لها أن يقوم بشكرها! فما ذاك إلا بتوفيق الله وفضله وإحسانه.

وأما هذا المغرور المسكين وأمثاله، فإنهم خاضوا في غمرات الافتتان، واطمأنت قلوبهم إلى أهل الظلم والعدوان، وأكثروا التردد عليهم والمسير إليهم طوعاً واختياراً، وتعرضوا لما في أيديهم من حطام الدنيا سراً وجهاراً. فأين القلب المطمئن بالإيمان، إذا كان مدعيه يجري مع الهوى في كل ميدان؟ فما أشبه حال هذا وأمثاله، بالضرب الثاني، من

ص: 259

الضروب الأربعة، الذين ذكرهم العلامة ابن القيم، رحمه الله؛ وهم الذين لهم أوفر نصيب، من قوله:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 188] ، يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.

وهذا يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والعبادة عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات، والرياء والسمعة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الاتباع والإخلاص والعلم؛ فهم أهل الغضب والضلال.

وأما قول المعترض المفتري في وصف نفسه في تلك الحالة: أنه هاجر للمناهي، عامل بالأوامر، فهذا في غاية التناقض والمكابرة؛ فقد أقر قبل ذلك بأنه كان في إقامته معهم، صابراً على ما ينوبه منهم، من المهاون والخسائر. فإذا كان في عدادهم، وفي سوادهم، وطاعتهم، ومعونتهم بالمال، فلا ريب أن هذا كله من المناهي، فهو في أوامر أولئك الخلق، لا في رضى الإله الحق. وكلامه يناقض بعضه بعضاً.

فإن العامل بأوامر الله، الهاجر لمناهيه، لا تكون حاله كذلك، من موالاة الباطل والركون إليه، ومظاهرة أهله وتعظيمهم، والتذلل لهم والخضوع بين أيديهم؛ وكل هذه

ص: 260

الأمور قد أسجل الله في كتابه على فاعلها بالوعيد الشديد، وسلب الإيمان، وحبوط الأعمال، والله المستعان. فلو ترك هؤلاء المراء والجدال، وأحجموا عن هذه الترهات، وتابوا وأنابوا إلى عالم السر والخفيات، لكان خيراً لهم.

وأما قوله: فذاك- والله- عندنا المسلم المهاجر، فأقول: ألا تعجبون يا إخواني من هذا المسكين؟! وأيم الله، لا يقول هذا من له مسكة من عقل. يدعي الهجرة، ويقصرها على من تركها رأساً، أين ذهب عقله عن قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً} الآية [سورة الحج آية: 58]، وقوله:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100]، وقوله:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت آية: 56-57] ، إلى غير ذلك من الآيات، المعرفة بالهجرة وثوابها، وأنها الانتقال من الأوطان والمساكن، ومفارقة الأهلين والإخوان، في طاعة الله ومرضاته.

فالمهاجر هجر أهل الكفر والمعاصي، بمفارقتهم والانتقال عنهم، إلى محل لا يرى فيه منكراً، ولا يسمع فيه باطلاً، تحيزاً بدينه، كما دل عليه الكتاب، والسنة، والعقل، والفطرة، وعليه المسلمون قاطبة. فما أشبه هذا الرجل، في صرف الهجرة عن حقيقتها الشرعية، بالباطنية

ص: 261

الملاحدة، في تأويلهم الشريعة على غير حقائقها التي أرادها الله من العباد.

قال العماد ابن كثير، في الآية الأولى: يخبر عمن خرج مهاجراً في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، وترك الأوطان، والأهلين والخلان، وفارق بلاده في الله ورسوله، ونصرة دين الله، ثم قُتلوا، أي: في الجهاد، أو ماتوا حتف أنوفهم من غير قتال، فقد حصلوا على الأجر الجزيل، والثناء الجميل، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [سورة النساء آية: 100] .

ومن المعلوم بالضرورة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هاجروا عن مكة، وهي أفضل البلاد، وأحبها إلى الله، ولحقوا بالمدينة، امتثالاً لأمر الله، وطلباً لمرضاته، وعداوة لأعدائه. وقد قال تعالى فيمن لم يهاجر منهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ، ولم يستثن من هذا الوعيد، إلا من ترك الهجرة لعدم الاستطاعة، فقال:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [سورة النساء آية: 98-99] ، وما سموا مهاجرين، وإن كانوا معذورين: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ

ص: 262

الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} الآية [سورة النساء آية: 75] .

فسبحان الله، ما أسرع هذا الرجل إلى الخطإ والخطل! وإن كان لا يعذر بالإقامة إلا من جمع هذين الوصفين، فما عذر امرئ صبر على المهاون والخسائر، ومشاهدة المعاصي والكبائر، وهو على مفارقة ذلك كله قادر؟! وما عذره في الصبر على ترك ما وجب عليه، وفعل ما حرمه الله تعالى؟ لكن هؤلاء فرحوا بما عندهم من المحال، وقنعوا بما ألفوه من الخيال؛ وتركب من هذا إيثار ما عندهم على ما سواه.

وقد يحمل ذلك على أن يأمر بالباطل ويرتضيه، ومن لم يأمر به منهم لم ينه عنه، بل يقره ولا ينفيه. وقد يرجح أهل الشرك والمعاصي على الموحدين؛ وهذا مما يبتلى به أهل الأهواء. والمعافى من عافاه الله، من إيثار أمر دنياه على أخراه، وهذا هو الواقع من بعض هؤلاء.

وقد ذكر أئمتنا من أهل السنة، رحمهم الله تعالى: أنه وقع من أناس في زمانهم وقبله، لا يبلغ هؤلاء معشار ما عندهم من الفهم والعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولقد أحسن من قال:

يقضى على المرء في أيام محنتهِ

حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ

ص: 263

والبصير لا يغتر باستحسان هؤلاء وأمثالهم، ما ركبوه وزينوه من باطلهم، ولا بتركهم الحق واستهجانهم له ولأهله، فإن الله تعالى ميز الخلق، بإرادتهم وأعمالهم وأقوالهم، وبين الصادق من الكاذب، وتدبر كتاب الله، وتفكر في آياته وحججه وبيناته، ولقد أحسن من قال شعراً:

فالحق شمس والعيون نواظر

لكنها تخفى على العميانِ

وأما قوله: ومن كفر مسلماً فهو الكافر.

فالجواب: أنه ما من أحد إلا وهو يدعي الإسلام لنفسه، ولكل قول حقيقة. وقد ذكر شيخنا، رحمه الله تعالى، تعريفاً جامعاً لأصل الإسلام، قال: أصل دين الإسلام، وقاعدته أمران:

الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.

الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله.

والمخالف في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة، من خالف في الجميع. ومنهم: من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك. ومنهم: من أشرك ولم ينكر التوحيد. ومنهم: من أنكر الشرك ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفّرهم.

ص: 264

ومنهم: من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه. ومنهم: من أنكره ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفّرهم. ومنهم: من كفّرهم، وزعم أنه مسبة للصالحين. ومنهم: من لم يبغض الشرك، ولم يحبه. ومنهم: من لم يعرف الشرك ولم ينكره. ومنهم: وهو أشد الأنواع خطراً: من عمل بالتوحيد ولم يعرف قدره، فلم يبغض من تركه، ولم يكفّرهم. ومنهم: من ترك الشرك وكرهه، وأنكره، ولم يعرف قدره؛ فلم يعاد أهله، ولم يكفّرهم.

وكل هؤلاء قد خالفوا ما جاء به الأنبياء من دين الله. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

فيقال لهذا المسكين: تفطن في نفسك! هل أنت داخل في هذه الأنواع؟ فإن كنت فيها، فما أسلمت حتى يثبت لك الإسلام. ويقال أيضاً: من هذا الذي كفّرك، وواجهك بالتكفير؟ فإن ثبت من شخص معروف، فينظر: هل وافق الحكم المحل أو لا؟ فإن وافقه فلا اعتراض على من حكم بالدليل.

وإن لم يوافق الحكم المحل، قلنا: جواب ثان عن قولك: من كفّر مسلماً فهو الكافر، فيقال لك: صحح نسبة هذا القول إلى قائل معروف يحتج بقوله، ويكفينا في قبوله إذا كان له وجود في دواوين الإسلام التي صنفها الحفاظ من أهل الحديث. فإن لم تجد له أصلاً بهذا اللفظ، فكيف تحكيه جازماً به؟ وما كان كذلك فلا ينهض الاحتجاج به، نعم، قد ثبت في الصحيح عن أبي ذر: "ومن دعا رجلاً بالكفر،

ص: 265

أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه".

فليتأمل قوله: "وليس كذلك"، ومعنى قوله:"حار عليه" أي: رجع، قال الله تعالى:{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [سورة الانشقاق آية: 14]، قال العلماء: وهذا وعيد شديد إذا لم يكن خصومهم كذلك.

والكلام إنما هو على أفعال وأقوال تناقض الإسلام، فإن للإسلام نواقض مذكورة في كتب الفقه، لأرباب المذاهب الأربعة وغيرهم؛ فمن وقع في شيء منها حكموا بردته، إلا أن يتوب ويراجع الحق. فإن تاب توبة نصوحاً، وهي التي استكملت شروط التوبة، فإن الله تعالى يقبل توبة التائبين إذا صحت منهم، وظهر من صالح الأقوال والأعمال والأحوال، ما يدل على ذلك، كما قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [سورة النساء آية: 146] . فإذا حصلت هذه الأمور الأربعة ظاهراً وباطناً، {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 146] . فدلت الآية على أنه لا يكون مقدماً على أحد من المسلمين، ولا يتولى شيئاً من أعمالهم، ولو صحت توبتة بشروطها المذكورة في الآية.

وأما من لم يعرف له توبة صحيحة، فالواجب أن يعامل معاملة أمثاله من المنافقين، بالإعراض عنه، وجهاده على ما يقع منه، لأن الله تعالى ميز عباده بالفتن، كما قال تعالى:

ص: 266

{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج آية: 11] .

وهذا الضرب من الناس، ينبغي أن ينزلوا منازلهم التي أنزلهم الله، كما قال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية [سورة القلم آية: 35] . فإذا كانوا قد أتوا شيئاً من المكفرات قولاً أو عملاً، أو ارتكبوا بدعة ولم يتوبوا توبة نصوحاً، فيجب على كل مسلم أن يبغضهم على ذلك، كما ورد في الحديث:"أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله " 1؛ فمن لم يحب أهل التوحيد والإيمان، ويبغض أهل البدع والضلال، فقد نقض أوثق عرى الإسلام.

وقد جاءت الأحاديث والآثار بالتحذير من أهل البدع، والترغيب في هجرهم، والبعد عنهم؛ فمن ذلك: ما رواه اللالكائي في كتاب السنة، عن الفضيل بن عياض: من أتاه رجل فدله على مبتدع، فقد غش الإسلام. فاحذروا الدخول على أصحاب البدع، فإنهم يصدون عن الحق.

1 أبو داود: السنة (4599) .

ص: 267

وقال أيضاً: لا تجلس مع صاحب بدعة، فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة. ومن أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. وصاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه؛ فمن جلس إلى صاحب بدعة أورثه الله العمى. وأخرج اللالكائي عن عطاء الخراساني: ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة. وأمثال هذا كثير عن السلف والأئمة، ولو تتبعناه لطال الجواب.

إذا عرف ذلك، فلو قدر أن رجلاً من المسلمين قال في أناس: قد تلطخوا بأمور، قد نص العلماء على أنها كفر، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة، غيرة لله وكراهة لما يكره الله من تلك الأعمال. فغير جائز لأحد أن يقول في حقهم. ومن كفّر مسلماً فهو الكافر. على أنا لا نعلم أن أحداً من المسلمين كفّر شخصاً بعينه، اللهم إلا أن يحكي أفعالهم، فيظن السامع لذلك أنه كفّرهم.

وأما الحديث الذي ذكرناه، فقد تأوله العلماء بما هو معروف، كأمثاله من أحاديث هذا الباب، كحديث:" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 1، وأيضاً، فهو مقيد بقوله:"وليس كذلك". ولا يخفى ما جرى من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، كقوله في مالك بن الدخشم: إنه منافق، لا يحب الله ورسوله، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم بل قال: " ألا تراه قال: لا إله

1 البخاري: الإيمان (48)، ومسلم: الإيمان (64)، والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634، 2635)، والنسائي: تحريم الدم (4105، 4106، 4108، 4109، 4110، 4111، 4112، 4113)، وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن (3939) ، وأحمد (1/385، 1/411، 1/417، 1/433، 1/439، 1/446، 1/454، 1/460) .

ص: 268

إلا الله " 1، فقال: الله ورسوله أعلم، فإنا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 2. وقد قال بعض العلماء: إن ذلك الرجل كان من أهل بدر.

ومن المعلوم: أن الخوارج طعنوا على ولاة الأمر، وكفروا علياً ومن قاتل معه من الصحابة وغيرهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم، والبشارة لمن قاتلهم، كما هو معروف ثابت في الصحيحين، والسنن، والمسانيد. ولما قيل لعلي: أكفارٌ هم؟ فقال: "من الكفر فروا". فلو ذكرنا الأحاديث الواردة في الخوارج، لطال الجواب.

وكلام العلماء على الحديث المتقدم ذكره، قال النووي في شرح مسلم:" ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه " 3: هذا مما عده بعض العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق: لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنى. وفي تأويل الحديث أوجه:

أحدها: أنه محمول على المستحل.

والثاني: معناه رجعت عليه معصيته.

والثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا ضعيف، لأن الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون المحققون: أن الخوارج لا يكفرون.

والرابع: أنه يؤول إلى الكفر، لأن المعاصي بريد الكفر. انتهى ملخصاً.

1 البخاري: الجمعة (1186)، ومسلم: الإيمان (33) .

2 البخاري: الصلاة (425)، ومسلم: الإيمان (33) .

3 مسلم: الإيمان (61) ، وأحمد (5/166) .

ص: 269

فانظر إلى ما حكاه النووي، رحمه الله، من أن الصحيح الذي قاله الأكثرون المحققون: أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم، وحسبك بهذا الإمام. فمن تأمل أحوال الصحابة، رضي الله عنهم، عرف الخطأ من الصواب؛ لكن من أعظم الآفات عدم العلم وفساد القصد، وهما آفة الأكثرين، وفساد الدين، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. فما الذي حمل هذا المسكين على التمويه على جهلة الناس، وتشكيكهم في أمر دينهم والإلباس؟

فمن ذلك قوله في آخر ورقته: فرحم الله امرأً قال الحق، وبه صدع، فالحق أحق أن يتبع.

فالجواب أن يقال: تأمل ما تقدم من الجواب، فإن الحق بحمد الله فيه ظاهر؛ فإن كان طالب حق وجده، وإلا فقد قامت عليه الحجة، وانزاحت الشبهة، عمن أراد البيان ووفق لفهم العلم والإيمان، والله المستعان. فعسى الله أن يمنع عنه موانع الهداية، وأسباب الضلالة والغواية، فإن هذا الرجل قد قال بمقالة الخوارج وهو لا يدري، وذلك في قوله: ومن كفر مسلماً فهو الكافر، وبيانه فيما أسلفناه من كلام النووي، رحمه الله، من أن مذهب أهل السنة والجماعة عدم التكفير بالذنوب، وهذا قد حكم بالكفر على مرتكب هذا الذنب.

فلو قدر أن أحداً قال في حق مسلم صحيح الإسلام أنه

ص: 270

كافر، فأهل السنة لا يكفّرونه بذلك، لأن هذا ذنب من الذنوب، وقد عرفت تأويلهم للحديث، وأن الأخذ بالظواهر المخالفة لأصول السنة، وما عليه الصحابة والتابعون وعلماء الأمة، هو رأي الخوارج، كما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله شعراً:

من لي بشبه خوارج قد كفّروا

بالذنب تأويلاً بلا حسبانِ

ولهم نصوص قصّروا في فهمها

فاتوا من التقصير في العرفانِ

هم خالفوا نصًّا لنصٍّ مثلهِ

لم يفهموا التوفيق بالإحسانِ

لكنكم خالفتمُ المنصوص با

لشُّبهِ التي هي فكرة الإنسانِ

والمقصود: بيان حال صاحب الورقة، وأنه قال بقول الخوارج، المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فكفّر المسلمين بدعوى ادعاها، لعلة اختلقها، أو تلقاها ممن لا يعتمد عليه، ولا يعوّل في الأخبار عليه؛ وقد تقدم قوله في الهجرة: أن من لزم وطنه، مع ما يقع فيه من الظلم والفساد، أنه هو المهاجر الصابر، وقد عرفت: أنه عكس الحقيقة، وخالف الكتاب والسنة، والفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.

وقوله المشار إليه، يشبه قول الباطنية الإسماعيلية الملاحدة، الذين تأولوا شرائع الدين على غير حقائقها، وقولهم يتضمن تعطيل الشرائع، وهم من أضر المبتدعة على دين الإسلام. هذا، ونحن نعلم أنه قد وقع فيما وقع فيه عن

ص: 271

جهالة، فلو عرف حقيقة حال المبتدعة، لعلم أن اقتفاء آثارهم من أعظم المطاعن عليه، لكنه يقال في حق مثله شعراً:

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ

ومن عجيب أمر هذا الرجل وأمثاله، ممن انتصب للتدريس بلا علم، وأفتى من غير إجازة ولا فهم، أن منهم من يصرح بتكفير أهل لا إله إلا الله، علماً وعملاً ودعوة وجهاداً، بكونهم يكفّرون عباد الأوثان، وهم يقولون: لا إله إلا الله؛ وهذا منهم في غاية التناقض والفساد، ومخالفة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهذا شر من قول الخوارج، كما لا يخفى على أولي البصائر.

وقد أشرت فيما تقدم إلى حاله، وأنه لا يدري ما يقول، ولا يدري أنه لا يدري؛ فلو سكت لكان يسعنا السكوت عنه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 272

[مخالطة المشركين وأهل البدع]

وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: عيد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، الذي أوصيك به ونفسي: تقوى الله، والقيام له، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحض إخوانك على هذا، والقيام معهم، ودحر الرديء وردعه؛ فإذا صلحت سريرة العبد، وصار مقصده الحق، والقيام لله وفي الله، أعانه الله وسدده، وإلا وكله إلى نفسه.

وما ذكرت من الآية والحديث، وما وجه الجمع بينهما؟ فقال ابن كثير في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] : فهذه الآية عامة، في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص الآية، حيث يقول تعالى:{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: بترك الهجرة. وقد عرفتم ما ذهب إليه المحققون من العلماء، من أن حكمها باق إلى يوم القيامة، إذا وجد المقتضي لها.

ص: 273

وأما معنى الحديث، فلم يتبين لي فيه ما تطمئن إليه النفس، وسأبحث عن معناه، وأكتب لك الجواب مبسوطاً، إذا فتح الله تعالى، إن شاء الله، ونقول:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32] .

وأجاب أيضاً: وأما ما ذكرت من الأسئلة، في مخالطة المشركين، وأهل البدع، فإن كان لك قدرة على الهجرة عنهم، وجبت عليك، لما فيها من حفظ الدين، ومفارقة المشركين، والبعد عنهم، وأما من كان من المستضعفين، الذين لا قدرة لهم على الهجرة، فعليه أن يعتزلهم ما استطاع، ويظهر دينه، ويصبر على أذاهم، فقد قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية [سورة العنكبوت آية: 10] ، والله المستعان.

وأما السؤال عن قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] ، فالآية نزلت في شأن عمار بن ياسر، لما عذبه مشركو مكة، وحبسوه في بئر ميمون، وأكرهوه على كلمة الكفر، فقالها تخلصاً من عذابهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"فإن عادوا فعُدْ "، وهذا قبل وجوب الهجرة، فأنزل الله هذه الآية.

وأما حديث: " أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما "، فهذا في حق من له قدرة على البعد عنهم،

ص: 274

وأما من لا يمكنه البعد عنهم، بحيث لا يقدر على ذلك بوجه من الوجوه، فلا.

وأما حديث: " من أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، فأولئك هم الهالكون " 1، فقد تقدم بيان ذلك في معنى حديث:"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده "2. فالإنكار يجب مع الاستطاعة، والكراهة هي أضعف الإيمان. وأما الرضى بالمنكر، والمتابعة عليه، فهو الهلاك الذي لا يرجى معه فلاح.

وسئل: عمن سافر إلى بلاد المشركين للتجارة؟

فأجاب: أما السفر إلى بلاد المشركين للتجارة، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين فاعله، لكونه عرض نفسه للفتنة، بمخالطة المشركين؛ فينبغي هجره وكراهته، وهذا هو الذي يفعله المسلمون معه، من غير تعنيف ولا سب، ولا ضرب. ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً؛ والمعصية إذا وجدت، أنكرت على من فعلها أو رضيها إذا اطلع عليها.

1 مسلم: الإمارة (1854)، والترمذي: الفتن (2265)، وأبو داود: السنة (4760) ، وأحمد (6/295) .

2 مسلم: الإيمان (49)، والترمذي: الفتن (2172)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008، 5009)، وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) ، وأحمد (3/10، 3/20، 3/49) .

ص: 275

وسئل أيضاً: الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أنه يهاجر؟

فأجاب: هذه المسألة، كما قال العلماء، رحمهم الله تعالى، تجب الهجرة على من عجز عن إظهار دينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دينه، فهجرته مستحبة لا واجبة.

وقال بعضهم بوجوبها، لما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين "1. فإن لم تكن البلد بلد حرب، ولم يظهر الكفر فيها، لم نوجب الهجرة منها، إذا لم يكن فيها إلا المعاصي؛ وعلى هذا يحمل الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده " 2 الحديث.

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

2 مسلم: الإيمان (49)، والترمذي: الفتن (2172)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008، 5009)، وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) ، وأحمد (3/10، 3/20، 3/49، 3/52، 3/54، 3/92) .

ص: 276

[الهجرة عن بلاد المشركين]

وقال أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مفلج الحق وناصره، ومدحض الباطل وماحقه، تكفل سبحانه بنصر الدين، وأقام بمحكم آي القرآن، حجته على كافة العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، والتابعين.

أما بعد، فإن الله سبحانه من حكمته ولطفه ورحمته، لم يترك مدعي الإسلام والإيمان، بلا محنة يختبر بها الصدق من الكذب، ويميز بها بين المرتاب والمستيقن، وله في ذلك حكمة بالغة، ومشيئة نافذة، وحجة دامغة؛ وقد تعددت سنته سبحانه وأيامه في خلقه بذلك، قرناً فقرناً، وجيلاً فجيلاً، حتى خبطتنا، معشر المتكلمين، محنة لنا، واختباره لنا منه، بقدوم العساكر العراقية، لبعض بلاد المسلمين، واستيلائهم عليها.

فعند ذلك، ميز الله بين الصادق في إسلامه وإيمانه، وبين المرتاب في ذلك وضعيف اليقين أو الكاذب أصلاً، حتى آل الأمر إلى أن تكلم بعض الناس، في إسقاط الواجبات الدينية، والفرائض الإسلامية، وأقام المعاذير الباطلة، لمن آثر ملاذه الدنيوية، وشهواته العاجلة، على ما أمر الله به ورسوله، وافترضه على خلقه، من الهجرة عن بلاد

ص: 277

المشركين، والفرار بالدين، فروجوا بذلك على عوام المسلمين.

فأحببت أن أنقل بعض كلام أئمة المفسرين، على محكم الآيات القرآنية، لينتفع بذلك طالب الحق، ويكون حجة على من نازع وماحل وجادل، فلا بد من وجود هذا الصنف، لا كثّرهم الله، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [سورة فصلت آية: 40]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [سورة غافر آية: 56] .

فاسمع يا طالب الحق: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2]، قال: معناه: أظنَّ الذين جزعوا، يا محمد، من أصحابك، من أذى المشركين إياهم، أن نتركهم من غير اختبار، ولا ابتلاء وامتحان، بأن قالوا: آمنا بك يا محمد، وصدقنا بما جئتنا به من عند الله؟ كلا! لنختبرنهم، ليتبين الصادق من الكاذب. وقوله:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}

ص: 278

[سورة العنكبوت آية: 3] . قال: نزلت من أجل قوم كانوا قد أظهروا الإسلام بمكة، وتخلفوا عن الهجرة. والفتنة التي فتن بها هؤلاء، هي الهجرة التي امتحنوا بها. ذكر من قال ذلك، ثم ذكر بسنده عن الشعبي قال: إنها نزلت {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتين [سورة العنكبوت آية: 1-2] في أناس بمكة، قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم. فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزلت فيكم هذه الآية، آية كذا وكذا. فقالوا: نخرج، فإن تبعنا أحد قاتلناه. قال: فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110] . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 10]، قال: نزلت في قوم من أهل الإيمان، كانوا بمكة فخرجوا مهاجرين، فأدركوا وأخذوا، فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوا منهم، ذكر الخبر بذلك.

ثم ذكر بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان

ص: 279

قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستفتحون بإسلامهم، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحاب هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] . قال: فكتبوا إلى من بقي من المسلمين بمكة بهذه الآية: أن لا عذر لهم. فخرجوا، فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى آخر الآية [سورة البقرة آية: 8] ، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير. ثم نزلت فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة النحل آية: 110]، فكتبوا إليهم بذلك: أن الله قد جعل لكم مخرجاً. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل".

فانظر قول المسلمين: كان أصحاب هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97] ، وظاهرها أنهم نهوا عن الاستغفار والدعاء، لمن قد مات مع سواد المشركين، ولو كان مسلماً. فما أعز من يتفطن لهذه المسألة! بل ما أعز من يعتقدها ديناً!

ص: 280

{وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} إلى آخر الآية [سورة العنكبوت آية: 8]، قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ثم ذكر بسنده عن قتادة قال: "نزلت في سعد بن أبي وقاص، لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني بيت حتى يرجع سعد، فأنزل الله عز وجل في ذلك: أن يحسن إليهما، ولا يطيعهما في الشرك".

وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، يقول تعالى: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا بي وبرسولي محمد صلى الله عليه وسلم، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه.

ثم ذكر بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها. وعن عطاء في قوله:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة. وعن مجاهد: فهاجروا وجاهدوا.

وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} إلى قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة العنكبوت آية: 57-60]، قال: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: هاجروا من أرض الشرك إلى أرض الإسلام، فإن أرضي واسعة؛ فاصبروا على عبادتي،

ص: 281

وأخلصوا طاعتي، فإنكم ميتون وصائرون إلي، لأن كل نفس حية ذائقة الموت، ثم إلينا بعد الموت تُردون.

ثم أخبر جل ثناؤه عما أعد للصابرين منهم على طاعته من كرامته عنده فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} يعني: صدقوا الله ورسوله فيما جاء به من عند الله، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة العنكبوت آية: 58] ، يقول: وعملوا بما أمرهم الله به، فأطاعوه فيه، وانتهوا عما نهاهم عنه، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [سورة العنكبوت آية: 58] يقول: لننزلنّهم من الجنة علالي.

وقوله: {تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [سورة العنكبوت آية: 58]، يقول: تجري من تحت أشجارها الأنهار، {خَالِدِينَ فِيهَا} ، يقول: ماكثين فيها إلى غير نهاية. {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [سورة العنكبوت آية: 58]، يقول: نعم جزاء العاملين بطاعة الله هذه الغرف. {الَّذِينَ صَبَرُوا} [سورة العنكبوت آية: 59] على أذى المشركين في الدنيا وما كانوا يلقون منهم، وعلى العمل بطاعة الله وما يرضيه، وجهاد أعدائه، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة العنكبوت آية: 59] في أرزاقهم، وجهاد أعدائه؛ فلا ينكلون عنهم، ثقة منهم بأن الله معلي كلمته، وموهن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق، فلن يفوتهم. {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [سورة العنكبوت آية: 60] ، يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: هاجروا وجاهدوا في الله، أيها المؤمنون، أعداءه، ولا تخافوا عيلة ولا إقتاراً، فكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء ومطعم ومشرب، {لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [سورة العنكبوت آية: 60] ،

ص: 282

يعني: غذاءها فترفعه في يومها لغدها، لعجزها عن ذلك، {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [سورة العنكبوت آية: 60] ، يوماً بيوم، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم: نخشى، بفراقنا الأوطان، العيْلة، {الْعَلِيمُ} ما في نفوسكم، وما إليه صائر أمركم وأمر عدوكم، من إذلال الله إياهم ونصرتكم عليهم، وغير ذلك من أموركم، لا يخفى عليه شيء من أمور خلقه.

وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 61]، يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد، هؤلاء المشركين بالله، مَن خلق السماوات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر لعباده يجريان دائبين لمصالح خلق الله؟ ليقولن: الذي خلق ذلك وفعله: الله. فأنى يؤفكون؟ يقول جل ثناؤه: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك، فيعدلون عن إخلاص العبادة له؟ وذكر بسنده عن قتادة:{فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي: يعدلون.

وقوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة العنكبوت آية: 62]، يقول تعالى ذكره: الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه، ويضيق؛ فيقتر لمن يشاء منهم، يقول: فأرزاقكم وقسمتها بينكم أيها الناس بيدي، دون كل أحد سواي: أبسط لمن شئت منها، وأقتر على من شئت؛ فلا يخلفنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم

ص: 283

خوف العيلة. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، يقول: إن الله عليم بمصالحكم، ومن لا يصلح له إلا البسط في الرزق، ومن لا يصلح له إلا التقتير عليه، وهو عالم بذلك. انتهى.

وقال ابن كثير، رحمه الله، في تفسير هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآية [سورة النساء آية: 97] : قال البخاري: حدثنا عبد الله بن زيد المقري قال: حدثنا حيوة وغيره قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال: "قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي. ثم قال: أخبرني ابن عباس: أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم، يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيُقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] ". ثم ذكر كلام ابن جرير المتقدم.

ثم قال: فهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: لِم مكثتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي

ص: 284

الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] أي: لا نقوى على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] .

ثم ذكر رواية السدي قال: "لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابن أخيك. قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك؟ ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم. ثم تلا عليه هذه الآية: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] ". ثم رغب سبحانه في الهجرة، فقال:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100] ، وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين؛ فإن المؤمن حيثما ذهب، وجد عنهم مندوحة، وملجأ يتحصن فيه. وقوله:{يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} أي: من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى.

ثم قال: وإن كان سبب نزول هذه الآية خاص فيمن كان مع المشركين، حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكمها عام، باق إلى يوم القيامة؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولحديث عبد الله بن السعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو " 1، رواه أحمد والنسائي، ولحديث معاوية: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع

1 أحمد (5/270) .

ص: 285

التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " 1.

وقال ابن كثير أيضاً، في تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [سورة الأنفال آية: 72] : وهذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا؛ نهى الله نبيه أن يجعلهم كالمهاجرين، في المغنم وغير ذلك، مما يقتضي الولاية.

ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار، وحذرهم من توليهم، والقيام بين أظهرهم.

ثم ذكر بسنده عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافراً، ولا كافر مسلماً، ثم قرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] ".

ثم ذكر عن الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام، فقال:"تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب "، وهذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلاً من وجه آخر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين، لا تتراءى ناراهما "2.

1 أبو داود: الجهاد (2479) ، وأحمد (4/99)، والدارمي: السير (2513) .

2 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

ص: 286

ثم ذكر عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله "1. وقوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] أي: إن لم تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس؛ وهو التباس الأمر، واختلاط المسلم بالكافر، وفي ذلك ضعف للدين، وقوة للكافرين.

وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [سورة التوبة آية: 23-24]، قال: يقول تعالى: لا تتخذوا بطانة وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم، وتؤثرون المقام معهم على الهجرة.

قال ابن عباس رضي الله عنه: "لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فمنهم من نفر وبادر، ومنهم من تعلق به أهله وأولاده، يقولون له: ننشدك بالله ألا تضيعنا، فيرق لهم فيقيم عليهم، ويدع الهجرة. فأنزل الله هذه الآية، فنهوا عن القيام مع المشركين، وتكثير سوادهم". وأخبر أن إيثار هذه الأصناف الثمانية، على ما أمر الله به من الهجرة، معصية لله ورسوله، فقال:{فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] . قلت: ظاهر هذا الخطاب، لمن ثبت إسلامه، ولم

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 287

يصدر منه ما يناقضه، من الموالاة والنصرة، والإعانة بالنفس والمال، والدلالة على عورات المسلمين، وتمجيد المشركين في المنابر والمحافل، والانحناء وخضع الرأس عند رؤيتهم، كل هذه الأشياء، أعظم مما نحن فيه، ويحكم على من فعلها بحكم الله فيه.

قال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [سورة المائدة آية: 51-54] .

وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-139]، وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ

ص: 288

اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 106-107] .

هذا حكم الله تعالى في هذا الصنف، حكم بردتهم في مواضع كثيرة من كتابه.

ولكن الكلام في المسلم القادر على الهجرة، التارك لها، فإن انضم إلى ذلك عدم رؤية الذنب والإقرار به، والتمس العذر لنفسه واحتج لها، فهو أشد خطراً لجحود الفرض المأمور به، المخاطب به كل من ابتلي بمشرك. فيا ويح من تصدى لذلك! وفيما تقدم من كلام المفسرين كفاية لمن أراد الله هدايته ونجاته.

ونزيد ذلك إيضاحاً بنقل كلام بعض العلماء وشراح الحديث، لئلا يبهرج على ضعفاء البصائر:

قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح البخاري: قوله: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحها المسلمون. أما قبل فتح البلد، فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:

الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه بها، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة.

الثاني: قادر يمكنه إظهار دينه بها، وأداء واجباته،

ص: 289

فالهجرة منها مستحبة، لتكثير المسلمين ومعونتهم، وجهاد الكفار، والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.

الثالث: عاجز بعذر، من أسر، أو مرض، أو غيره، فيجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أجر. انتهى.

وقال أبو الفوز 1 في نقله عن ابن حجر المكي، وهو من أئمة الشافعية - لما ذكر الأحاديث الدالة على وجوب الهجرة - ما ملخصه: والمسلم الكائن بدار الكفر، إن أمكنه إظهار دينه، وأمن فتنته في دينه، استُحب له الهجرة إلى دار الإسلام، لئلا يكثر سواد الكفار، وربما كادوه، وإن لم يمكن المسلم الكائن بدار الكفر إظهار دينه فيها، وخاف فتنته في دينه، وجبت عليه الهجرة إلى دار الإسلام، وأثم بالإقامة، ولو كان المسلم امرأة، وإن لم تجد محرماً يذهب معها إلى دار الإسلام، لكن إذا أمنت على نفسها من فاحشة وغيرها.

فإن لم يطق الهجرة، فمعذور، لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [سورة النساء آية: 97] أي: ملك الموت وأعوانه، أو أراد: ملك الموت وحده، كما قال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [سورة السجدة آية: 11] .

1 هو محمد أمين بن علي السويدي، وانظر صفحة: 199 من العقد الثمين في محاسن الدين، لأبيه علي.

ص: 290

والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع. {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في المقام في دار الشرك، وترك الهجرة {قَالُوا} أي: الملائكة، توبيخاً لهم:{فِيمَ كُنْتُمْ} أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، اعتذروا مما وبخوا به بضعفهم وعجزهم عن الهجرة وعن إظهار الدين وإعلاء كلمته. {قَالُوا} أي: الملائكة، تكذيباً لهم وتبكيتاً:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] إلى قطر آخر. {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] .

وذكر ابن حجر عن صاحب المعتمد: أن الهجرة كما تجب من بلاد الكفر تجب من بلاد الإسلام، إذا أظهر المسلم بها واجباً ولم يقبل منه، ولا قدر على إظهاره. قال: ويوافقه قول الإمام البغوي في تفسير سورة العنكبوت، في تفسير قوله تعالى:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: قال سعيد بن جبير: "إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة"، وقال عطاء:"إذا أُمرتم بالمعاصي فاهربوا، فإن أرضي واسعة". وكذلك يجب على كل من كان ببلد، يُعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيثما تتهيأ له العبادة، لقوله تعالى {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68] .

ص: 291

وقال البيهقي في شعبه، ما نصه: اعلم أن الهجرة على ضربين: ظاهر، وباطن. ثم قال: فالظاهر منها- أي: من الهجرة-: الفرار بالجسد من الفتن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أنا بريء من أهل ملتين؛ لا تتراءى ناراهما " 1، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، لعدم هذه الشعبة فيهم، وهي: الهجرة؛ فهي إذاً من أعظم شعب الإيمان، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الفتن -:" لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق "، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97] .

وفي البخاري: والفرار من الفتن، من الإيمان؛ فما كان من الإيمان فهو من شعبه بلا شك. فالفرار ظاهر من بين ظهراني المشركين، واجب على كل مسلم، وكذلك كل موضع يخاف فيه الفتنة في الدين، من ظهور بدعة، أو ما يجر إلى كفر، في أي بلد كان من بلدان المسلمين، فالهجرة منه واجبة إلى أرض الله الواسعة. انتهى ما ذكره البيهقي، رحمه الله تعالى.

قال الغزالي- بعد ذكر كلام كثير من السلف -: فهذا يدل أن من بلي ببلدة قد استولى عليها حكم الكفار، وظهرت فيها أعلامهم وشعائرهم، فلا عذر له في المقام بها، بل يجب عليه أن يهاجر، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

ص: 292

تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ؛ فالبلاء والشر إذا ظهرا في قطر، ولم يحرز المسلم نفسه، شمل العقاب والذم الطائعين والعاصين. انتهى.

قال الإمام أبو عبد الله الحليمي في شعب الإيمان: ومن الشح بالدين: أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه، إلى موضع يمكنه فيه ذلك. فإن أقام بدار الكفر والمعصية، ذليلاً مستضعفاً، مع إمكان انتقاله عنهما، فقد ترك فرضاً في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] . لا يقال: ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها: الكافر الذي مال إلى الإيمان، وأيضاً، فإنها نزلت قبل فتح مكة، فلما فتحت قال صلى الله عليه وسلم:" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية " 1، فنقول: ذكر العفو عمن استثنى منهم، حيث قال في آخرها:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] يرد ذلك، فإن الله تعالى لا يعفو عن الكافر، وإن عزم على الإيمان، ما لم يؤمن.

وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح " 2 معناه: لا هجرة من مكة بعد أن صارت دار إسلام، فلا يدل على نفي وجوب

1 البخاري: الجهاد والسير (2783)، ومسلم: الحج (1353)، والترمذي: السير (1590)، والنسائي: البيعة (4170)، وأبو داود: الجهاد (2480) ، وأحمد (1/226، 1/315، 1/355)، والدارمي: السير (2512) .

2 البخاري: الجهاد والسير (2783)، ومسلم: الحج (1353)، والترمذي: السير (1590)، والنسائي: البيعة (4170)، وأبو داود: الجهاد (2480) ، وأحمد (1/226، 1/315، 1/355)، والدارمي: السير (2512) .

ص: 293

الهجرة من غيرها، إذا لم يمكن إقامة الدين فيها، فإنها حينئذ كمكة قبل الفتح، ولو صارت مكة - والعياذ بالله - بحيث لا يمكن المقيم بها إقامة دينه، وجبت الهجرة منها أيضاً، لأنها إنما وجبت منها أولاً لهذا المعنى؛ فحيث وجدت هذه العلة ثبت الحكم. وكل بلد ظهر فيه الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الإصلاح، أو غلب الجهل على أهله، وتشعبت الأهواء بهم، وضعفت العلماء وأهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق خوفاً على أنفسهم من الإعلان به، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها عند القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر - والحالة هذه - لم يكن من الأشحاء بدينه، بل من السمحاء المتساهلين فيه. انتهى ما ذكره الحليمي، رحمه الله تعالى.

ولو نقلنا كلام الأئمة الأعلام من أهل كل مذهب في هذا الباب، لطال الجواب، وهو بحمد الله بين واضح في محاله.

فإن قيل: ما ذكرتم خاص بالكفار، كيف تجعلوننا مثل الكفار؟ أم كيف تنزلون الآيات النازلة فيمن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم وصار مع الكفار أعداء الرسول، علينا؟ قيل له: تقدم عن ابن كثير وفي آخر كلام الحليمي المذكور ما فيه كفاية؛ ومعلوم أن القرآن نزل بأسباب، فإن كان لا يستدل به إلا في تلك الأسباب، بطل الاستدلال

ص: 294

بالقرآن، وهذا خروج من الدين.

وأيضاً، فما زال العلماء من عصر الصحابة ومن بعدهم، يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود، وفي غيرهم، على من يعمل بها. من قال منهم: إن الآية إذا نزلت في رجل كافر، أنها لا تعم من عمل بها من المسلمين؟!

لكن هذا شأن الجاهلين الظالمين، أهل اللجاج والباطل، يدفعون في نحر النصوص عما دلت عليه، بنحو من هذه الأباطيل، التي يعرف المسلم بطلانها بمجرد فطرته، فالله المستعان.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: وما ذكرت من حال من يكون بين ظهراني المشركين، فإن كان يقدر على إظهار التوحيد، بحيث يظهر لهم القول بأن هذه الأمور الشركية، التي تفعل عند القبور وغيرها، باطل وضلالة، وأنا بريء منه وممن يفعله، فمثل هذا لا تجب عليه الهجرة. وإن كان لا يقدر على إظهار ذلك، مع اعتقاد بطلانه، وأنه الشرك العظيم، فهذا ترك واجباً عليه، ولا يكفر بذلك.

وسئل: عن حديث: " إذا أقمت الصلاة " 1

إلخ؟

فأجاب: وأما الحديث الذي فيه " إذا أقمت الصلاة فأنت مهاجر، ولو كنت بأرض كذا " 2، فيحتمل أن المراد: إذا

1 أبو داود: الصلاة (499) .

2 أبو داود: الصلاة (499) .

ص: 295

هجرت الشرك، وأقمت الصلاة، فأنت مهاجر، لحديث:" المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه "1. ويحتمل: أنه إذا كان بين كفار، كاليهود والنصارى وعبدة الأوثان، الذين لا يعرفون صلاة المسلمين، وأن من أظهر إقامة الصلاة بين ظهرانيهم، كان ذلك إظهاراً لدينه، فلا تجب عليه الهجرة، والله أعلم.

سئل أيضاً: الشيخ عبد الله أبا بطين: عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشيطان بين الرغوة والصريح"، وقوله:" هلاك أمتي في الكتاب واللبن "

فأجاب: وأما قولك: وقول النبي: " الشيطان بين الرغوة والصريح " 3، فإن هذا الحديث رواه الإمام أحمد، ولفظه عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا أخاف على أمتي إلا اللبن، فإن الشيطان بين الرغوة والصريح " 4، قال بعض العلماء، كأبي عبيد القاسم بن سلام وغيره، بعد كلامهم على أن الرغوة من اللبن، وأن الصريح الخالص منه، قالوا: فالمراد أن الشيطان يحبب إليهم اللبن، فيخرجون إلى البادية، فيتركون الجمعة والجماعة.

وأما الحديث الثاني، فرواه البيهقي من رواية ابن لهيعة، عن أبي قبيل عقبة بن عامر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" هلاك أمتي في الكتاب واللبن. قيل: يا رسول الله، ما الكتاب واللبن؟ قال: يتعلمون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزل الله، ويحبون اللبن، ويتركون الجماعات والجمع "5.

1 البخاري: الإيمان (10)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996)، وأبو داود: الجهاد (2481) ، وأحمد (2/192، 2/205، 2/209، 2/212، 2/224) .

2 أحمد (4/155) .

3 أحمد (2/175) .

4 أحمد (2/175) .

5 أحمد (4/155) .

ص: 296

ولعل من تكلم على الحديث الأول، أخذ تفسيره من هذا الحديث.

[وصية فيها الحث على عداوة من حاد الله ورسوله]

وقال الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى من يراه من الإخوان، وكافة الرؤساء في ساحل عمان، ومن يليهم، ومن على سليم من أهل فارس وجعلان، من المنتسبين إلى السنة والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فإن الله تعالى أوجب علينا التعاون على البر والتقوى، والتناصر في ذاته على الأعداء؛ وكل إنسان عليه من العبودية بحسبه، فحيث لا عذر عن قبول الحق، فكذلك لا عذر عن تبليغه. وقد سبقت الإشارة من بعض الإخوان بطلب النصيحة، وما لا يدرك كله لا يترك كله.

فمن أجل ذلك، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، والتقوى: كلمة جامعة لخصال الخير، أمراً ونهياً؛ وأعظمها مشقة: عداوة من حاد الله ورسوله، وألحد في أسمائه وصفاته، وأشرك في توحيده. وتعلمون أن سر الخلق والأمر، هو: أن يُعرف الله بأسمائه وصفاته، ويُقصد وحده سبحانه بأنواع العبادة، وأن لا يشرك به أحد سواه، كائناً من

ص: 297

كان، وأن يقوم الناس بالقسط؛ فأنزل الحديد آلة يستعان بها على جهاد من خرج عن القسط.

وقد لاح في أوائل هذا القرن علم التوحيد، وأغمدت سيوف الجهاد في هامات من حاد عنه، من شيع الكفر والتنديد، وأقيمت الحدود الشرعية في كافة بلدان المسلمين، وحصل القيام التام بواجبات الدين، وذلك أمر لا يخفى، وحصل لأسلافنا وأسلافكم، من التعاون على ذلك ما أرغم الله به أنوف الأعداء، حتى صارت دياركم معقل الإسلام، ومهاجر السادات الأعلام.

ولم يزل في هاتيك الجهات - لا زال فيها للحق دعاة - من يلهج بتحقيق توحيد المرسلين، ويرشد به الحيارى الجاهلين، وينكر أوضاع الجهمية المبتدعين الملحدين في رب العالمين.

فالتبس هذا الأصل على كثير من الخلق، حتى آن اندراسه، وانقلع - إلا ما شاء الله - أساسه، وكثر الطعن في الدعوة الإسلامية، والملة الحنيفية المحمدية، وفاه بين العوام: أن من تكلم بالشهادتين، فهو من أهل الإسلام، وخفي عليهم ما وضعت له من إخلاص العبادة لله، والكفر بما يعبد من دون الله، ونودي بالمسالمة لمن لاذ بالأوهام، وألحد في الدين وعادى المسلمين، عمياء صماء ظلماء، يحاول دعاتها، إطفاء ما استبان من هذا الدين المتين،

ص: 298

ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته.

وفي خلال تلك الفرقة، حصل الابتلاء بتداعي الأمم علينا، عقوبة إعراضنا عن هذا الأمر، وفي الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. لينزعنّ الله عن صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت "، فدل الحديث: على أن الرغبة في الدنيا والإعراض عن الأخرى، سبب الهلاك والدمار، وتسلط الأعداء، وفشل الأعمار.

وعن ثوبان أيضاً مرفوعاً: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان "1. وقد اتسعت الفتنة بهم، وعظم الخطب، ودب الشوم على عقائد أهل الإسلام وإيمانهم، والتحق بهم من ليس له بصيرة ولا قدم صدق، ولا معرفة بالحق، وظنوا أنهم بالتزامهم بعض أركان الإسلام، من دون هذا الركن الأعظم، على هدى مستقيم. وليس الأمر كذلك، بل هو كما قال أبو الوفاء ابن عقيل، رحمه الله: إذا أردت أن تعرف محل الإسلام من أهل

1 أحمد (5/278) .

ص: 299

الزمان، فلا تنظر إلى ازدحامهم في أبواب المساجد، ولا إلى ضجيجهم بـ"لبيك"، ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة. فاللجا اللجا إلى حصن الدين! والاعتصام بحبل الله المتين! والانحياز إلى أوليائه المؤمنين! والحذر الحذر من أعدائه المخالفين!

فأفضل القرب إلى الله تعالى: مقت من حاد الله ورسوله، وجهاده باليد واللسان والجنان بقدر الإمكان، وما ينجي العبد من النيران؛ ومن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا بد أن ينقاد لأوامر القرآن والسنة، ويتبرأ من كل معتقد يخالف ما عليه السلف الصالح من سادات الأمة. وهل زال الإسلام، وغيرت الأحكام، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الملك العلام، إلا بدعاة أبواب جهنم، يصدون الناس عن دينهم.

فاتقوا الله عباد الله! ولا تذهب بكم الدنيا كل الذهاب، فإنها رأس كل خطيئة، وليست من أولها إلى آخرها عوضا – والله - عن ذرة من ذرات الآخرة. وكل ما صدر ممن يدعي الإسلام من الإعراض عن هذا الأمر، وتولى المشركين، والطعن على المسلمين، واستعجال الراحة، والرضى عن النفس، والتزيين، هو بعينه نفس العقوبة، وسبب الخذلان، ومركب الندم والهوان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ

ص: 300

وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] .

فكيف يخلد إلى الدنيا، ويصادق الأعداء، وينسى عهود الحمى، من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويخاف سوء الحساب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] . قال حذيفة رضي الله عنه: "ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر"، وتلا هذه الآية. وعاتب عمر رضي الله عنه أبا موسى، في جعل النصراني كاتباً، وقال:"ما لك؟ قاتلك الله! أما اتخذت حنيفاً مسلماً؟ "، وتلا هذه الآية، وهذا مع استخدامه، فكيف بموالاته وإكرامه؟! وقد نفى الله تعالى الإيمان عمن وادّ المشركين، فقال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] .

ومن المعلوم: أن من وادَّ أحداً فهو عنه راض، فإذا رضي عنه رضي بدينه، فصار من أهل ملته وهو لا يشعر. وأكثر الناس يفطن للمعصية ووسائلها، ولا يفطن للشرك ووسائله، ولما نهى الله عن موالاة أعدائه من الكفار والمشركين، وأباح التقية مع الإكراه، قال:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، وهذا من أعظم الوعيد والتهديد لمن تدبر كتاب الله، وعقل عن الله أمره.

ص: 301

نعم، خف أمر أهل الملل عندنا، لما سمعنا بمن جاسوا خلال الدين، وهموا باختلاس عقائد المسلمين، وأدخلوا الشبه ليصدوا بها الناس عن الحق الواضح المستبين، من أحسائي ذي غلّ، وفارسي مضل، فتقربوا إلى الله تعالى بالبعد عن داعي الشبهات، واطلبوا علم التوحيد بدليله من البينات. قال بعض السلف: إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند ورود الشهوات; فأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، واقبلوا نصيحة مشفق بالمسلمين.

وهنا مقام آخر، وهو مقام استجلاب النعم، واستدفاع حلول النقم، ولا يحصل إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على يد السفيه. وقد ذم الله من ليس فيهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض، فقال جل من قائل:{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116]، وقال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} الآية [سورة الأعراف آية: 165]، وقال:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .

ص: 302

فدلت الآيات على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأنه لا نجاة إلا لمن قام بذلك، وأن اتباع الشهوات، وإيثار اللذات، يوجب الكون في جملة المجرمين. والآيات في هذا المعنى والأحاديث، أكثر من أن تحصر، ومن كان الله وحده مراده، ومعبوده ومحبوبه، انقاد لأوامره ونواهيه، ولم يداهن أحداً فيه.

وفقنا الله وإياكم لشكر نعم الله، والصبر على طاعته، والبعد عن موجبات غضبه وعقابه، وجهاد النفس على عداوة أعدائه، ومحبة أحبابه. وصلى الله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

وسئل: عن الهجر

إلخ؟

فأجاب: الهجر المشروع قد قام الدليل عليه، وأشار جل من السلف إليه، وهو مراتب، وله أحوال وتفاصيل، على القلب واللسان والجوارح، قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48]، وقال تعالى عن أصحاب الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] . وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، وقصتهم مشهورة. وقد ذكر ابن القيم، رحمه الله في الهدي، في فقه القصة ما يكفي.

ص: 303

وأصل الهجر: الترك والفراق والبغض، وشرعاً: ترك ما نهى الله عنه، ومجانبته والبعد عنه. وهو عام في الأفعال والأشخاص، وهو في المشركين، ومن لاذ بهم، واستحسن ما هم عليه، وخدمهم، وازدراء أهل الإسلام أعظم، لأن قبح الشيء من قبح متعلقه؛ وهذه الجملة فيها أقسام، ولها تفاصيل.

منها: هجر الكفار والمشركين. والقرآن من أوله إلى آخره ينادي على ذلك؛ ومصلحته: تمييز أولياء الله من أعدائه. وقريب من هذا: هجر أهل البدع والأهواء. وقد نص الإمام أحمد وغيره من السلف، على البعد عنهم، ومجانبتهم، وترك الصلاة عليهم، وقال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم؛ فتجب مفارقتهم بالقلب، واللسان، والبدن، إلا من داع إلى الدين مجاهد عليه بالحجة، مع أمن الفتنة، قال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 140] . والآيات والأحاديث، وكلام العلماء في هذا كثير.

قال بعض المحققين: ويكفي العاقل قوله تعالى، بعد نهيه عن موالاة المشركين:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} الآية [سورة آل عمران آية: 30] . وقد حكى

ص: 304

ابن كثير، رحمه الله تعال،: الإجماع على أن تارك الهجرة عاص، مرتكب محرماً على ترك الهجرة. ولا يكفي بغضهم بالقلب، بل لا بد من إظهار العداوة والبغضاء، قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .

فانظر إلى هذا البيان الذي ليس بعده بيان، حيث قال:{وَبَدَا بَيْنَنَا} أي: ظهر؛ هذا هو إظهار الدين، فلا بد من التصريح بالعداوة، وتكفيرهم جهاراً، والمفارقة بالبدن. ومعنى العداوة: أن تكون في عدوة، والضد في عدوة أخرى.

كان أصل البراءة: المقاطعة بالقلب واللسان والبدن. وقلب المؤمن لا يخلو من عداوة الكافر، وإنما النزاع في إظهار العداوة: فإنها قد تخفى لسبب شرعي، وهو الإكراه مع الاطمئنان. وقد تخفى العداوة من مستضعف معذور، عذره القرآن. وقد تخفى لغرض دنيوي، وهو الغالب على أكثر الخلق، هذا إن لم يظهر منه موافقة.

ودعوى من أعمى الله بصيرته، وزعم: أن إظهار الدين، هو عدم منعهم ممن يتعبد، أو يدرس، دعوى باطلة؛ فزعمه مردود عقلاً وشرعاً. وليهن من كان في بلاد

ص: 305

النصارى، والمجوس والهند ذلك الحكم الباطل، لأن الصلاة والأذان والتدريس، موجود في بلدانهم، وهذا إبطال للهجرة والجهاد، وصد للناس عن سبيل الرشاد.

والثاني: مسلم ترخص لنفسه، وآثر دنياه، واختار أوطانهم لعذر من الأعذار الثمانية؛ فهجر هذا الصنف من الناس، هو من باب هجر أهل المعاصي، الذي ترجم له البخاري وغيره. ولا يهجر هجر الكفار؛ بل له حقوق في الإسلام، منها مناصحته والدعاء له، إلا أنا لا نظهر له محبة وملاطفة، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بحيث إنه لا يرى له ذنباً، ويغتر به غيره.

وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، مع إيمانهم، وأجلى عمر صبيغاً إلى وطنه، وأمر بهجره، ونهى الناس عن كلامه. ولم يزل الصحابة، رضي الله عنهم، يهجرون في أقل من هذا. وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي، والدارقطني والطبراني، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين " 1، وأخرجه أيضا ابن ماجة، ورجال إسناده ثقاة، وله شاهد من حديث معاوية بن حيدة مرفوعاً:"لا يقبل الله من مسلم عملاً، أو يفارق المشركين"، أخرجه النسائي، وحديث سمرة مرفوعاً: " من جامع المشرك

إلخ"، رواه أبو داود.

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

ص: 306

ويشهد لصحة هذه الأحاديث، قوله تعالى:{فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] . فنحن نتبرأ مما تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجانبه، شاء العاصي أم أبى.

وقد ذكر محيي السنة البغوي كلاما يحسن ذكره هاهنا، قال: فأما هجر أهل العصيان، وأهل الريب في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر توبتهم; قال كعب بن مالك - حين تخلف عن غزوة تبوك -:"ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا"، وذكر خمسين ليلة. وجعل محمد بن إسماعيل، رحمه الله، حداً لتبين توبة العاصي; وقال عبد الله بن عمر:"لا تسلموا على شربة الخمر"، وقال أبو الدرداء:? "لن تفقه كل الفقه، حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك، فتكون لها أشد مقتاً". انتهى كلامه، رحمه الله.

والأصل الجامع لهذا: أن معرفة استحقاقه سبحانه وتعالى، أن يعبد خوفاً ورجاء، وإجلالاً ومحبة وتعظيماً، لا تبقى في القلب السليم محبة لأعدائه وموادة، لأن المحبة أصل كل عمل من حق وباطل؛ فأصل الأعمال الدينية: حب الله ورسوله، كما أن أصل الأقوال الدينية: تصديق الله ورسوله، فلما غلب على الناس حب الدنيا، وإيثارها، أنكروا هذا، ونسوا ما كانوا عليه أولاً، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ

ص: 307

الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] جهلاً منهم بحقيقة الإسلام، ولوازمه وقواعده العظام. ولو لم يكن في هذا إلا سد الذرائع المفضية إلى عقد المصالحة بين المسلم والمشرك، لكان كافياً، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم، وإيثار الدنيا، فتح بعض المنتسبين أبواباً على حصن الإسلام، إيثاراً لموافقة العوام؛ وليت هؤلاء احتاطوا لأديانهم، بعض ما احتاطوا لرياساتهم وأموالهم، وما أحسن ما قيل:

قد كنت عدتي التي أسطو بها

ويدي إذا عض العدو ساعدي

فدُهيت منك بضد ما أمّلته

والمرء يشرق بالزلال الباردِ

وأما من يسافر إلى بلدان المشركين للتجارة، فهؤلاء إن لم يصدر منهم موالاة ومداهنة، وملاطفة للمشركين والمرتدين، فهم أخف حالاً ممن تقدم ذكرهم، وهم مشتركون معهم في التحريم، متفاوتون في العقوبة، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير؛ والحكم منوط بالإقامة والمجامعة في النصوص، لكن كلما خفت المفسدة خف الحكم.

وقد يكون المسافر أخبث من المقيم. وشاهدنا من فسقة المسافرين من أهل القصيم وغيره، من المنكرات العظيمة ما لا يحصى، من ترك الصلاة، وشرب المسكرات، وتحسين طرائق المشركين، والطعن في أهل الدين، ما لا يحكم لأكثرهم معه بإسلام، حتى إن الترك وبعض أهالي مصر، يتحاشون من فعل فسقة نجد.

ص: 308

ولا شك أن بغض هذا الصنف ومقته، والنفرة منه، هو عين المصلحة. وليس هجر هذا الجنس من الهجر المندوب، بل من الواجب، لأن المفسدة عظمت بهم؛ فهم ومن يترخص لهم من المنتسبين، أعظم بلية من العدو البعيد.

والقاعدة الكلية في هذا: ترجيح ما يفضي إلى ضعف الشر وخفته، وإعزاز الحق وقمع الباطل، وارتداع المخالف، قال شيخ الإسلام - لما ذكر هذه القاعدة -: ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً، ويهجر آخرين. ولبعضهم شعراً:

صعبت تكاليف الشريعة فانثنى

وسطا عليها كل خبٍّ لاهِ

فاشدد يديك بحبل ملة أحمد

لا تخدعن بمنصب أو جاهِ

واسلك طريق اللطف في تبليغها

متجرداً فيها لوجه الله

ص: 309

[الصبر على مقام الدعوة]

وقال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي، وإبراهيم بن مرشد، وإبراهيم بن راشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى وعافاهم، وأصلح بالهم وتولاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، وعلى أقداره، وحكمه. والخط وصل، وصلكم الله ما يرضيه، وما ذكرتم صار معلوماً، والله المسؤول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره، والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان.

والذي أوصيكم به: تقوى الله تعالى، ومعرفة تفاصيل ذلك، على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج، وقد ورد:"إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات". وذكر أبو داود وغيره من أهل السنن ما ينبغي مراجعته واستحضاره، عند ذكر الفتن

ص: 310

والملاحم. وذكر ابن رجب في رسالته كشف الكربة في فضل الغربة، ما يسلي المؤمن ويعزيه. وذكر ابن القيم، رحمه الله، في المدارج جملة صالحة. وفي الأثرك "العبادة في الهرج كهجرة إلي"، وفي حديث الغرباء:" للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "1.

والذي أرى لكم في هذه الخلطة: الصبر على مقام الدعوة، بالتلطف بالإبلاغ عن نبيكم؛ وهذا مع القدرة وأمن الفتنة أفضل من العزلة، والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه أسلم. وإني لأود أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكني ابتليت بالناس، وحيل بيني وبين ذلك، والله المستعان، وإليه المشتكى وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

1 الترمذي: تفسير القرآن (3058)، وابن ماجة: الفتن (4014) .

ص: 311

وكتب إليهم أيضاً: فقال - بعد السلام -: وجاءكم مني مكاتبات في هذه الحوادث العمي، ولم يبلغني عنكم ما يسر من القبول والقيام لله؛ والحق على طالب العلم، والمنتسب إلى الدين والفهم، أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد. والعاقل لا يرضى لنفسه سبيل المداهنة والبطالة، وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبال الراسيات، وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات؛ فما مضت فتنة إلا إلى ما هو أكبر من الشرك والكفريات.

ومع ذلك فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرج والحكم، وكثر الخوض والاعتراض، من بعض من ينتسب إلى القراءة ويدعي الفهم والطلب. واتبع جمهور أولئك ما يهواه، من غير بينة ولا سلطان، ولا يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المحاقة والفكرة، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عبّاد الأوثان والأصنام.

وما أحسن ما قال سهل بن حنيف، فيما رواه البخاري، قال: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك بن مغول، قال: سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل: "لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهموا الرأي. فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت، والله

ص: 312

ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا عن عواتقنا إلا أسهل بنا إلى أمر لا نعرفه قبل هذا الأمر، وما نسد منها خصماً إلا انفجر خصم، ما ندري كيف نأتي له، والسلام".

[السفر إلى بلاد المشركين]

وسئل: عمن يسافر إلى بلد المشركين

إلخ.

فأجاب، رحمه الله تعالى: وأما السؤال عمن يسافر إلى بلد المشركين، التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب لله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يسلم عليهم ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، وأنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، ونحو ذلك من تعاليل الجاهلين، فاعلم: أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأمة، وأفتى به جماهيرهم، وما ورد من الرخصة محمول على من يقدر على إظهار دينه، أو على من كان قبل الهجرة. ثم إن الحكم قد أنيط بالمجامعة والمساكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة:" من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله "1. فانظر ما علق به الحكم، من المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، فإن وقع مع ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر، واشتد البلاء؛ وهذه محرمات مستقلة، يضاعف بها الإثم والعذاب، فكيف تروج عليكم هذه الشبهات؟ ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتف مع هذه التعاليل.

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 313

ومن مقاصد الهجرة: الانحياز إلى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه، وإلى رسوله بطاعته، وتعزيره ونصره، ولزوم جماعة المسلمين؛ ولذلك يقرن الهجرة بالإيمان، في غير موضع من كتاب الله عز وجل. وكل هذا غير حاصل، وإن فرض صدق القائل فيما علل به - والغالب كذب هذا الجنس -، فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص، أو عدمهما. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم، تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل إلى منحدره.

ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النفرة، فرحل إليهم من رحل، وقبلوا رسائلهم، وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم، وجالسوهم، وراسلهم بعض من يقول: الدين في القلوب، ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية، والشرائع الإيمانية؛ ولو صدق ما زعموه في قلوبهم، لأطاعوا الله ورسوله، واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن. وحماية جناب التوحيد، وسد الذرائع الشركية: من أكبر المقاصد الإسلامية؛ وقد ترجم شيخنا، في كتاب التوحيد، لهذه القاعدة، فرحمه الله من إمام ما أفقهه في دين الله! وما أعظم غيرته لربه وتعظيمه لحرماته! وما أحسن أثره على الناس!

ص: 314

وله أيضاً، صب الله عليه من شآبيب بره ووالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلمهم الله تعالى وتولاهم؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس، من مداهنة المشركين والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، وفوق ما إليه أشرتم؛ وقد سبق مني لكم جواب، وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك، ونسيان التوحيد، وأن من أعظم ذلك وأفحشه: ما يصدر من بعض من يظنه العامة، من أهل العلم وحملة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه والعبارات التي لم يتصل سندها، ولم يعصم قائلها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق.

وفي حديث ثوبان: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 1، وهو يتناول من له إمامة، ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء؛ وأبيات عبد الله بن المبارك، معلومة لديكم في هذين الصنفين، أعني قوله:

وهل أفسد الدين إلا الملوك

.................................إلخ

وفي مثل هؤلاء قال قتادة:

1 الترمذي: الفتن (2229)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجة: الفتن (3952) ، وأحمد (5/278، 5/284)، والدارمي: المقدمة (209) .

ص: 315

"فوالله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا". وكما نقلتم عن بعضهم: أنه زعم أن الشيخ الوالد، قدس الله روحه ونور ضريحه، أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين، بأن غاية ما يفعل معه: الهجر وترك السلام، بلا تعنيف ولا ضرب؛ وهذه غلطة من ناقلها، لم يفهم مراد الشيخ إن صح نقله، ولم يدر ما يراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولاً، فإن ثبت بنقل عدل ضابط، فيحمل على قضية خاصة 1 يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية، ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيره بغير الهجر، مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل.

ويتعين هذا إن صحت، لأن هذا ذنب قد تقرر أنه من الكبائر، المتوعد صاحبها بالوعيد الشديد بنص القرآن، وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال عليه وعلى إظهاره، فإنه مستثنى من العموم، وأما غيره فالآية تتناوله بنصها، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير؛ فالكبائر التي ليس فيها حد، يرجع فيها إلى ما تقتضيه المصلحة من التعزير، كالهجر والضرب.

1 كما تقدم عنه، رحمه الله، في صفحة: 275 ، ولما يأتي من التفصيل أيضاً في صفحة: 341-346 إن شاء الله تعالى.

ص: 316

وقد يقع التعزير بالقتل، كما في حديث شارب الخمر:" فإن شربها في الرابعة، فاقتلوه "1. وقد أفتى شيخ الإسلام، رحمه الله، بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان، إذا لم يندفع شره إلا بذلك، وأفتى بحل دم من جمز إلى معسكر التتار، وكثر سوادهم، وأخذ ماله؛ وكل هذا من التعازير، التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة، وحصول المصلحة. وأفتى في التعزير بأخذ المال إذا كان فيه مصلحة.

وقد عرفتم: أن من أكبر المصالح: منع هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حال وإسلام لمن ينتسب إلى الإسلام، مع المخالطة والمقارفة الشركية، لوجوه منها: عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. ومنها: العجز عن إظهاره لو عرفوه. ومنها: أن العدو محارب، قد سار إلى بلاد المسلمين، واستولى على بعضها، فليس حكمه كحكم غيره؛ بل هذا جهاده يجب على كل أحد فرض عين لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه. ومنها: أن تلك البلاد ملئت بالمشبهين، والصادين عن سبيل الله، ممن ينتسب إلى العلم، ويسمون أهل التوحيد الغلاة، كما سماهم إخوانهم خوارج. والهجرة لها مقصودان:

الفرار من الفتنة، وخوف المفسدة الشركية.

والثاني: مجاهدة أعداء الله، والتحيز إلى أهل الإسلام. وقد كانت غير مشروطة في أول الإسلام مع ضعف المسلمين، وخوف المشركين وشدة بأسهم، وكثرة

1 الدارمي: الحدود (2313) .

ص: 317

الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يهدر ولا يطرح في كل مقام، لا سيما والمقارف لهذا الفعل وغيره من الأفعال الموجبة للردة كثير جداً. فالنجا النجا! والوحا الوحا! قبل أن يعض الظالم على يديه، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً. ولعل الله أن يمن بخط مبسوط، يأتيكم بعد هذا، فيه التعريج على شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كذب هذا المفتري على الشيخ.

وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم السفر حكم الإقامة، يمنع منه من عجز عن إظهار دينه، وفي الحديث:" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلا أعطوا الجدل ومنعوا العمل "1. وما وقع فيه الناس وابتلي به الأكثر، من ثلب بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يؤثر عن السلف: أن علامة أهل البدع: الوقوع في أهل الأثر; وهؤلاء إذا قيل لهم: هاتوا، حققوا، واكتبوا لنا ما تنقمون، وقرروا الحجة بما تدّعون، أحجموا عن ذلك، وعجزوا عن مقاومة الخصوم. ومتى يدرك الضالع شوى الضليع؟

شعراً:

أماني تلقاها لكل متبر

حقيقتها نبذ الهدى والشعائرِ

وحسابنا، وحسابهم على الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر. وبلغوا سلامنا إخوانكم، الذين جردوا متابعة الرسول، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16] ، ولم

1 الترمذي: تفسير القرآن (3253)، وابن ماجة: المقدمة (48) .

ص: 318

ينتسبوا إلى قيس ويمن، كما قد وقع عندكم فيمن فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه، وصلى الله على محمد.

[ما يصنع عند حدوث الفتن]

وله أيضاً، رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وما ذكرتم من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم بحمد الله مراراً، وقامت الحجة، ويبلغني تصميم الأكثرين على رأيه الأول، وعدم الانتفاع. ومن أكبر أسباب شرح الصدر للنصائح والمواعظ وقبولها، ما يعلمه الله من حرص العبد على الخير والهدى، والتجرد من ثوبي التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس، وإيثار الشهوات الدنيوية؛ فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة، كدعاء الاستفتاح: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل

" 1 الحديث، لا سيما في أوقات الإجابة، فإن هذا لا تكاد تسقط له دعوة، والتوفيق له أقرب من حبل الوريد. قال الله تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23] .

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770)، والترمذي: الدعوات (3420)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625)، وأبو داود: الصلاة (767)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، وأحمد (6/156) .

ص: 319

والواجب عند ورود الشبهات، هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكر، لا سيما عند هذه الفتنة، التي عمت وطمت، وأعمت وأصمت، فإنها كما في حديث حذيفة، قال: قلت: "يا رسول الله، إنا كنا في شر، فذهب الله بذلك الشر، وجاء بالخير على يديك. فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، تأتيكم مشتبهة، كوجوه البقر؛ لا تدرون أياً من أي "1. فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان، من جنس ما أشير إليه في الحديث الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده.

فتعين: الاهتمام بالمخرج منها، والنجاة فيها؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله، ومعرفة ما أوجبه وندب إليه في كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نص على هذا صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة عن الفتن:

فعن حذيفة رضي الله عنه:? " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأسأله عن الشر، وعرفت أن الخير لن يسبقني. قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه - ثلاث مرار -. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة وشر. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الشر خير؟ قال: هدنة

1 أحمد (5/391) .

ص: 320

على دخن، وجماعة على إقذاء. قال: قلت: يا رسول الله، الهدنة على دخن، ما هي؟ قال: لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه. قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: يا حذيفة، تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه - ثلاث مرار-، قال: قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: فتنة عمياء صماء، عليها دعاة على أبواب النار. وأن تموت يا حذيفة وأنت عاض على جذل، خير لك من أن تتبع أحداً منهم ".

قلت: فتأمل ما أرشد إليه حذيفة، ووصاه عند حدوث الفتن العظام، التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله، واتباع ما فيه، لأن المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، لكن لا يفهمه ويفقهه إلا من تعلم كتاب الله، ألفاظه ومعانيه، ووفق للعمل بما فيه، فذلك جدير أن يهبه الله نوراً يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر، من الشك والريب والالتباس؛ وهذا الصنف عزيز الوجود في القراء، ومن ينتسب إلى العلم والطلب، فكيف بغيرهم؟! شعراً:

أما الخيام فإنها كخيامهم

وأرى نساء الحي غير نسائها

فعليكم بلزوم الوصية النبوية لصاحب السر حذيفة بن اليمان، وتدبر القرآن والتفقه في معانيه، فبذلك يعرف العبد إن عقل عن الله: أن أوجب واجب فيه، وأهمه وآكده،

ص: 321

وزبدته: معرفة الله تعالى بما تعرف به إلى عباده، من صفات كماله ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه وشمول قدرته، وكمال عزته وعميم رحمته.

وبمعرفة ذلك، يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه، وإسلام الوجه له، وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات، كالخشية والرجاء، والاستعانة والاستغاثة، والتوكل والتقوى، ويرضى به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً رسولاً، ويذوق من طعم الإيمان، ما يوجب له كمال حب الله وحب رسوله، وكمال الحب بجلاله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر، والمقصود الأعظم، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويطلبها منتهى الطلب. ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه، من تعطيل وكفر وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها، المفضية إلى اقتحامها وارتكابها؛ فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر، والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] .

فمن عرف هذا الأصل الأصيل، عرف ضرر الفتن الواقعة في هذه الأزمان، بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل بالهدّ والهدم، والمحو بالكلية، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل، ورفع أعلامه الكفرية، وأن

ص: 322

مرتبتها من الكفر، وفساد البلاد والعباد، فوق ما يتوهمه المتوهمون، ويظنه الظانون.

وبه يعلم: أن أسباب ما وقع من الوسائل، إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها، والسكوت عن التغليظ فيها، من أكبر أسباب وقوع الشر، ومحو أعلام التوحيد، والوسيلة لها حكم الغاية. فإن انضاف إلى تسهيلها، إكرام من أقام بديارهم، وتلطخ بأوضارهم، وشهد مهرجانهم، وتوقيره، والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك ينعى الإسلام، ويبكيه من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] . وفي الحديث: "من وقر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام"، فكيف بما هو أعظم وأطم من البدع؟! فالله المستعان.

وأعجب من هذا: أن بعض من يتولى خدمة من حاد الله ورسوله، يحسن أمرهم، ويرغب في ولايتهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربما أشار بحربهم، فإذا قدم بعض بلاد أهل الإسلام، تلقاه منافقوها وجهالها، بما لا يليق إلا مع خواص الموحدين. فافهم أسباب الشرك ووسائله، ومن كان في قلبه حياة وله رغبة، وله غيرة وتوقير لرب الأرباب، يأنف ويشمئز مما هو دون ذلك، ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".

ص: 323

وما جاء في القرآن من النهي، والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتوليهم، دليل على أن أصل الأصول، لا استقامة له ولا ثبات له، إلا بمقاطعة أعداء الله، وحربهم وجهادهم، والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم؛ وقد قال تعالى لما عقد الموالاة بين المؤمنين، وأخبر أن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض، قال:{إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] .

وهل الفتنة إلا الشرك؟ والفساد الكبير هو انتثار عقد التوحيد والإسلام، وقطع ما أحكمه القرآن من الأحكام والنظام؟ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية [سورة المائدة آية: 51-52]، قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، وهو لا يشعر.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة آية: 57-58] .

قلت: فليتأمل من نصح نفسه، ما يجري من هؤلاء

ص: 324

العساكر عند سماع الأذان، من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، واستبدالهم به، عما اشتمل عليه الأذان، من توحيد الله وتعظيمه، وتكبير الملك القهار، قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81] .

وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] . وقد جزم ابن جرير في تفسيره، بكفر من فعل ذلك، قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} [سورة المجادلة آية: 22] .

فليتأمل من نصح نفسه: هذه الآيات الكريمات، وليبحث عما قاله المفسرون وأهل العلم في تأويلها، وينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم؛ فإنه يتبين له - إن وفق وسدد - أنها تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم

ص: 325

السلم، فكيف بمن أعانهم أو جرهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم أو فضلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم؟! فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 5] .

وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام، وما مَنَّ الله به عليكم، من دعوة شيخنا، رحمه الله، إلى توحيد الله والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه وجهادهم. وببركة دعوته وبيانه، حصل للإسلام من الظهور والنصر، وإعلاء كلمة الله، ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة، ورعايتها حق الرعاية، والعض عليها بالنواجذ، وأن لا يستبدل بموالاة أعداء الله ورسله، والانحياز إلى دولتهم، والرضى بطاعتهم، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الآية [سورة إبراهيم آية: 28] .

فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله! ودعوا اللجاج والمراء، وتمسكوا بما جاء عن الله وعن رسوله، من البينات والهدى. ولا يسهل لديكم مبارزة رب السماوات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم، من الكفر

ص: 326

والتعطيل والشرك والجدال والمراء. ولا تفتحوا أبواب الفتن للمشاقة والتفرق، والقدح في أهل الإسلام؛ فإن ذلك من الصد عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه. وقد جاء الحديث:" إن هذا الحي من مضر لا تدع لله في الأرض عبداً صالحاً إلا فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده، فيذلها حتى لا تمنع ذنب تلعة "1.

وبعض من يدعي الدين إنما يتعبد بما يحسن في العادة ويثنى عليه به; وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله، ومراغمة لأعدائه، فذاك ليس منه على شيء، بل ربما ثبط عنه وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة، والمنتسبين إلى العلم والدين. والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالباً ديناً وحسن خلق، فلا يتاب منه ولا يستغفر، ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم، فيكونون فتنة لغيرهم. ولهذا حذر الشارع من فتنة من فسد من العلماء والعباد، وخافه على أمته. فأما المؤمن إذا حصل له ظفر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من عرضات الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى والسعادة، وإن قيل ما قيل، شعر:

إذا رضي الحبيب فلا أبالي

أقام الحي أم جد الرحيلُ

وينبغي لك يا عثمان: أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبين لهم معانيها، وما في الفرقة والاختلاف من

1 أحمد (5/390) .

ص: 327

فتح أبواب الشر والفساد. فاحرص على ذلك واعتد به من صالح أعمالك، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:" فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم "1. والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عارض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها وطلب كشفها؛ ولا يحل السكوت على الشبه التي توقع في الريب والشك، وتفضي إلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم، فاذكروه لي؛ وإن جاءنا منكم نصيحة، أو تنبيه على شيء من الغلط، فنشهد الله على قبوله ممن كان. والسلام.

1 البخاري: الجهاد والسير (3009)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406)، وأبو داود: العلم (3661) ، وأحمد (5/333) .

ص: 328

[التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو]

وله أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم: إبراهيم بن عبد الملك، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمائه، والخط الذي تسأل فيه عما نفتي به، في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، قد وصل إلين. والذي كتبناه للإخوان به كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عما عليه أهل الفتوى، عند جماهير المتأخرين؛ نعم، فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد، هجم عليها العدو الكافر الحربي المتصدي، لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة. وهو العدو الذي اشتدت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعز بدولته جانب الرافضة والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين والمنافقين.

فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة لوجوه، منها: أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة، متعذر غير حاصل، كما هو مشاهد معلوم عند من

ص: 329

خبر القوم، مع من يجالسهم ويقدم إليهم؛ وقل أن يتمكن ذو حاجة لديهم، إلا بإظهار عظيم من الركون، والموالاة والمداهنة. وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، لا غيرة له على دين الله وشرعه، ولا توقير لعظمته ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات لم يعرف حقيقتها، ولا يدري مراد الفقهاء منها، ترساً يدفع به في صدور الآيات والسنن، ويصدف به عن أهدى منهج وسنن؛ فهو كحجر في الطريق، بين السائرين إلى الله والدار الآخرة، يحول بينهم وبين مرادهم، ويثبطهم عن سيرهم وعزماتهم.

وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلت الأفهام، واستبيحت مساكنة عباد الأوثان والأصنام، وافتتن بهم جملة الرجال، وقصدتهم الركائب والأحمال، وسارت إليهم ربات الخدور والحجال، عملاً بقول رؤساء الفتنة والضلال؛ ولا يصل إلى الله ويحظى بقربه، ويرد نهر التحقيق وعذبه، من أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخداناً يرجع إليهم، في أمر دينه ومهمات أمره. وقد قال بعض السلف: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينية، من غير ملكة ولا روية، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح.

ص: 330

وقد قيل: يفسد الأديان، نصف متفقه، ويفسد اللسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبب. فعليك بمعرفة الأصول الدينية، والمدارك الحكمية، ولترتفع همتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبوية. ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرى به سنن الأكثرين في الديانات؛ فقد قال بعضهم: من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب. وما أحسن ما قال في الكافية الشافية:

ولقد نجا أهل الحديث المحض أتـ

ـباع الرسول وتابعو القرآنِ

عرفوا الذي قد قال مع علم بما

قال الرسول فهم أولو العرفانِ

وسواهمو في الجهل والدعوى مع الـ

ـكبْر العظيم وكثرة الهذيانِ

مدوا يداً نحو العلى بتكلفٍ

وتخلف وتكبر وهوانِ

أترى ينالوها وهذا شأنهم

حاشا العلى من ذا الزبون الفاني

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة: إنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء. فانظر إلى تصريح الشيخ بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء، فأين التصريح من هؤلاء المسافرين؟ والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكر الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين من إباحة السفر لمن أظهر دينه.

ص: 331

ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين، وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، إلا لما كافحهم بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم. وأي رجل تراه يعمل المطي، جاداً في السفر إليهم، واللحاق بهم، حصل منه ونقل عنه ما هو دون هذا الواجب؟ والمعروف المشتهر عنهم: ترك ذلك كله بالكلية والإعراض عنه، واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات والبديهيات غنية عن البرهان.

الوجه الثاني: أن قتال من هجم على بلاد المسلمين، من أمثال هؤلاء فرض عين، لا فرض كفاية، كما هو مقرر مشهور؛ فلا يحل ولا يسوغ - والحالة هذه - تركه والعدول عنه، لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام ومدارك الأحكام ترد القول بإباحة ترك الفروض العينية، لأغراض دنيوية. ومن عرف هذا، عرف الفرق بين مسألتنا، وبين عبارة من قال: يجوز السفر لمن قدر على إظهار دينه، لو فرضناه حاصلاً، فكيف والأمر كما قدمت؟!

الوجه الثالث: أن نص عبارات علمائنا، وظاهر كلامهم، وصريح إشاراتهم: أن من لم يعرف دينه بأدلته وبراهينه، لا يباح له السفر إليهم؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتى منه إظهار دينه، والإعلان به. وكيف يظهره من

ص: 332

لا يدريه، ولا إلمام له بأدلته القاطعة للخصم ومبانيه؟ شعراً:

فقر الجهول بلا علم إلى أدبٍ

فقر الحمار بلا رأس إلى رسنِ

حتى ذكر جمع تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيها عقائد المبتدعة، كالخوارج، والمعتزلة، والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته، وأظهره عند الخصم. وقد عرفت - أرشدك الله - أن الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقَلّ من يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله من موالاة أعدائه المشركين، ومعرفة أقسامها، وأن منها ما يكفر به المسلم، ومنها ما هو دونه، وكذلك المداهنة والركون، وما حرم الله تعالى ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله أو ردته.

وأين القلوب التي ملئت من الغيرة لله وتعظيمه وتوقيره، عن كفر هؤلاء الملاحدة، وتعطيلهم؟ وصار على نصيب وحظ وافر، من مصادمة أعداء الله ومحاربتهم، ونصر دين الله ورسله، ومقاطعة من صد عنه، وأعرض عن نصرته، وإن كان الحبيب المواتيا.. فالحكم لله العلي الكبير. وأين من يباديهم بأن ما هم عليه كفر وضلال بعيد، ومسبة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأن ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه، وبصيرة في دينه؟ فسل أهل الريب والشبهات: هل يغتفر الجهل بذلك، والإعراض عنه، علماً وعملاً، ويكتفى

ص: 333

بمجرد الانتساب إلى الإسلام، عند قوم ينتسبون إليه أيضاً، وهم من أشد خلق الله كفراً به وجحوداً له، ورداً لأحكامه، واستهزاء بحقائقه؟

فإن قالوا: يكتفى بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد عادوا على ما نقلوه وأصلوه، من دليلهم بالرد والهدم. ومن حقق النظر، وعرف أحوال القوم وسبر، علم أن معولهم على اتباع أهوائهم، والميل مع شهواتهم. نسأل الله لنا ولهم العافية.

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثقُ

فمن هان عليه أمر الله تعالى فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه، وقوله وعمله، وسواه المقدم في ذلك، فما قدره حق قدره، وما عظمه حق عظمته؛ وهل قدره حق قدره من سالم أعداءه الجاحدين له المكذبين لرسله، وأعرض عن جهادهم وعيبهم، والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح، ولم يراع ما وجب عليه من إجلال الله وتعظيمه، وطاعته، جراءة على ربه، وتوثباً على محض حقه، واستهانة بأمره؟

ص: 334

خلافاً لأصحاب الرسول وبدعة

وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهلُ

الوجه الرابع: أنه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين، من أمن الفتنة؛ فإن خاف بإظهار دينه الفتنة، بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم، والمخاطرة بدينه. وقد فرّ عن الفتنة من السابقين الأولين، إلى بلاد الحبشة من تعلم، من المهاجرين كجعفر بن أبي طالب، وأصحابه. وقد بلغكم ما حصل من الفتنة، على كثير ممن خالطهم، وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبة من نهاهم عن ذلك، وأمرهم بمجانبة المشركين، ديناً يدينون به، ويفتخرون بذكره في مجالسهم ومجامعهم، وقد نقل ذلك عن غير واحد. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] .

وبعض من رحل إليهم من جهتكم، حمل رسائلهم ومكاتباتهم، إلى أهل الإسلام، يدعونهم إلى الدخول تحت طاعتهم ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك كثير من الملإ، والله المستعان. وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم والثناء عليهم، ونسبتهم إلى العدل وحسن الرعاية، إلى ما هو أعظم من ذلك وأطم، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين؛ ومن لم يشاهد هذا منكم، ولم يسمع من قائله، قد بلغه وتحققه. فأجهل الخلق وأضلهم

ص: 335

عن سواء السبيل، من ينازع في تحريم السفر إليهم - والحالة هذه - ويرى حله وجوازه.

الوجه الخامس: أن سد الذرائع، وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده؛ وقد رتب العلماء على هذه القاعدة، من الأحكام الدينية تحليلاً وتحريماً، ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية، قدس الله روحه، لهذه القاعدة في كتاب التوحيد، فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وساق بعض أدلة هذه القاعدة.

وقد قرأت علينا في الرسالة المدنية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أن اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك، قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك. ولو أفتينا بتحريم السفر، رعاية لهذا الأصل فقط، وسداً لذرائعه المفضية، لكنا قد أخذنا بأصل أصيل، ومذهب جليل.

الوجه السادس: أنا لا نسلم دخول هذه البلدة، التي الكلام بصددها، في عبارات أهل العلم، ورخصتهم، لأن صورة الأمر وحقيقته: سفر إلى معسكر العدو الحربي الهاجم على أهل الإسلام، المستولي على بعض ديارهم، المجتهد في هدم قواعد دينهم، وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل، وإعزاز جيوشه وجموعه.

ص: 336

فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر، ومعسكر قريش يوم الخندق ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر، لأن السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟ وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل؟ أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟

والعلم ليس بنافع أربابه

ما لم يفد نظراً وحسن تبصرِ

وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، الذي قال فيه: قد جعلته للناس إماماً، من حديث أبي بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر. يكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين - وفي رواية: والمسلمين -. فإذا كان آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يأخذون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم؛ وأولئك هم الشهداء "1.

والحديث وإن كان في سنده سعيد بن جمهان، فقد وثقه أبو داود، الذي أُلين له الحديث، كما أُلين لداود الحديد، فقسمهم ثلاث فرق، وأخبر أن من أخذ لنفسه وألقى السلم، وترك الجهاد، فقد كفر. ومن أعرض عن

1 أبو داود: الملاحم (4306) ، وأحمد (5/40، 5/44) .

ص: 337

جهادهم، وتباعد عنهم، مقبلاً على إصلاح دنياه وحرثه، فقد هلك، ولم ينج إلا من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله. وأخبر أن أولئك هم الشهداء، وأنهم مخصوصون بالشهادة دون سائر الشهداء، كما يستفاد من الجملة الاسمية، المعرفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدإ والخبر؛ والحصر وإن كان ادعائياً، فهو يدل على شرف الصنف وفضيلته. والحديث وإن تأوله بعضهم، في حادثة التتر في القرن السابع، فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأن لها ذيولاً وبقية؛ ولا ريب أن الذي حصل في هذا الزمان، إن لم يكن منها، فهو يشبه بها من كل وجه.

فإن لا يكنْها أو تكنْه فإنه

أخوها غذته غذته أمه بلبانها

وقد قال شيخ الإسلام، في اختياراته: من جمز إلى معسكر التتر، ولحق بهم، ارتد وحل ماله ودمه. فتأمل هذا! فإنه - إن شاء الله - يزيل عنك إشكالات كثيرة، طالما حالت بين قوم وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم، من نصوصهم وصريح كلامهم.

ثم اعلم: أن النصوص الواردة في وجوب الهجرة والمنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها، ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم،

ص: 338

نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة; ومن قال بالتخصيص والتقييد لها، إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية، لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة للتقييد والتخصيص.

ومن قال بالرخصة، لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة، المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم: أن يقيس حكماً على حكم، وفرعاً على فرع، وقضية على قضية. والمنازع له يتوقف في صحة هذا القياس، لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق.

وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني جزم فيما كتبه على المنتقى، برد قول الماوردي بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره، قال: وهذا القول معارض لعموم النص، فلا يسلم ولا يلتفت إليه. مع أن الذي كتبناه في هذه المسألة، موافق للمشهور عند المتأخرين، لم نخرج عنه كما تقدم ذكره. والقصد: أن المسألة من أصلها، فيها بحث قوي، ومجال للنظر، فإن بقي عليك إشكال فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة.

وقد رأيت بخط الوالد، قدس الله روحه ونور ضريحه:

شمر إلى طلب العلوم ذيولا

وانهض لذلك بكرة وأصيلَا

وصل السؤال وكن هديت مباحثا

فالعيب عندي أن تكون جهولَا

ص: 339

وأما مسألة المبايعة، فلم يسألني عنها أحد، ولم يتقدم لي فيها كلام. وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومنع من بيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم. وأما الكافر الحربي، فلا يمكن مما يعينه على حرب أهل الإسلام، ولو بالميرة والمال ونحوه، والدواب، والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب، من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به. فكيف بيعهم وإعانتهم على أهل الإسلام؟ فإن انضاف إلى ذلك ما هو الواقع من المسافرين، في هذا الزمان، مما تقدم ذكره، فالأمر أغلظ وأفحش، وذلك فرد من وراء الجمع.

وأكثر الناس، يخفى عليه أن المرتد من أهل تلك الديار، التي استولى عليها الكافر الحربي، أغلظ كفراً وأعظم جرماً، بجميع ما تقدم من الأحكام؛ ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم، من المباسطة والمؤانسة والإكرام، ما هو أعظم مما مرت حكايته، من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي. فافهم ذلك! والله المسؤول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه وكتابه، ورسوله وعباده المؤمنين، وأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمي، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

ص: 340

[عموم البلوى بالسفر إلى المشركين]

وله أيضاً، قدس الله روحه ونور ضريحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ محمد بن علي آل موسى، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وسبق إليك خط، مع البداة أشرت فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ، قدس الله روحه ونور ضريحه، فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام: ورد علينا خط من ولد العجيري، ذكر فيه أن لفظ الوالد في جوابه قوله: وأما السفر إلى بلاد المشركين، فقد عمت به البلوى، وهو نقص في دين من فعله، لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين؛ فينبغي هجره وكراهته. هذا هو الذي يفعله المسلمون معه، من غير تعنيف ولا سب، ولا ضرب. ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً؛ والمعصية إذا وجدت أنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها. انتهى ما نقله.

وهذه العبارة - بحمد الله - ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل، لوجوه، منها: أن الذي وقع في هذه الأعصار،

ص: 341

وكلامنا بصدده، أمر يجل عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة، منها: موالاة المشركين، وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وعرفتم أن مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة: منها ما يوجب الردة، وذهاب الإسلام بالكلية ; ومنها ما هو دون ذلك، من الكبائر والمحرمات.

وعرفتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1] ، وأنها نزلت فيمن كاتب المشركين بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأن قلبه بالإيمان; وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس، أو للحضر، وهذا واقع مشاهد، تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربما نقل بعضهم من المكاتبات إلى أهل الإسلام، ما يستفزونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم وصحبتهم، والانحياز إلى ولايتهم.

فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدل بها على مثل هذه الحال، من أجهل الناس بمدارك الشرع، ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم، على أن الوطء لا يبطل صيامه، وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة في رسالة ابن عجلان، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل

ص: 342

الشرك عليها، وأهل التعطيل، والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم، وإبطال الشرع بالكلية، بمسألة خلافية، في جواز الاستعانة بمشرك، ليس له دولة ولا صولة، ولا دخل في رأي، مع أنها من المسائل المردودة على قائليها، كما بسط في غير موضع 1.

وبالجملة: فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار، من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أن عبارة الشيخ إذا تأملها المنصف، وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة.

وقول الشيخ: قد عمت به البلوى، يبين أن الجواب في الجاري في وقته، مع ظهور الإسلام وعزته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس في ذلك ما في السفر إليهم، في هذه الأوقات، إذ هو مسالمة وإعراض، عما وجب من فروض العين؛ وإذا هجم العدو، صار الجهاد فرض عين، يحرم تركه ولو للسفر المباح، فكيف بهذا السفر؟

وأيضاً، فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء، في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات، إلا بإذنه. وقد عرفتم حال أكثر الولاة، في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات عليهم بالحبس

1 ومن المواضع: ما سيأتي في الصفحات من 364 إلى 374.

ص: 343

والضرب، ونحو ذلك، مفسدة، تمنعها الشريعة ولا تقرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح; فهذا يوجب للشيخ وأمثاله مراعاة المصلحة الشرعية في الفتوى الجزئية، لا سيما في مخاطبة العامة.

وقول الشيخ: لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن، ولم يستخف بدينه. وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، أقل الفتنة أن يستخفي بدينه، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال أو لسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلاً في كلام الشيخ رحمه الله.

وقوله: ينبغي هجره وكراهته، فيه بيان ما يستطيعه كل أحد، وأما ولاة الأمور، ومن له سلطان أو قدرة، فعليهم تغيير المنكر باليد، ومن لم يستطع فباللسان، ومن لم يستطع فبالقلب؛ وهذا نص الحديث النبوي، فلا يجوز العدول عنه، وإساءة الظن بأهل العلم; بل يحمل كلامهم على ما وافقه. والمصر المكابر لا ينتهي، إلا إذا غير فعله بالأدب، أو الحبس، وهو داخل في عموم الحديث. وقد شاهدنا من الوالد، رحمه الله، تعنيف هذا الجنس، وذمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين، مع عدم التمكن من إظهار الدين.

ص: 344

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، أن التعزيرات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حد محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة، ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في الرابعة، وأنه من هذا الباب. وأشار إلى ذلك في اختياراته، وكذلك غيره من المحققين، ذكروا أن التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدر، بل بحسب المصلحة؛ وهذه قواعد كلية، تدخل فيها تلك القضية الجزئية.

وقول الشيخ: والمعصية إذا وجدت، أنكرت على من فعلها، أو رضيها، ليس فيه أن الإنكار بمجرد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، وإلا لخالف نص الحديث؛ بل يتعين حمل كلام الشيخ عليه، لموافقة الحديث النبوي، لا على ما خالفه، وأسقط من الإنكار ركنه الأعظم. ومن شم رائحة العلم، لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القبائح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة، ومثل هذا الذي أظهر الفتوى، يجعله بعض المنتسبين منفاخاً، ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته.

والواجب على مثلك: النظر في أصول الشريعة، ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد، وتأمل قوله تعالى:{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية

ص: 345

[سورة الإسراء آية: 74] .

فانظر ما ذكره المفسرون، حتى أدخل بعضهم لياقة الدواة، وبري القلم، في الركون؛ وذلك لأن ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به، على اختلاف رتبه، فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش، من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما ضاده وخالفه بالعدالة؟ والله يعلم ورسوله، والمؤمنون أنها الكفر، والجهل، والضلالة.

ومن له أدنى أنفة، وفي قلبه نصيب من الحياة، يغار لله ورسوله، وكتابه ودينه، ويشتد إنكاره وبراءته، في كل محفل وكل مجلس؛ وهذا من الجهاد الذي لا يحصل جهاد العدو إلا به. فاغتنم إظهار دين الله والمذاكرة به، وذم ما خالفه والبراءة منه ومن أهله.

وتأمل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمل نصوص الشارع، في قطع الوسائل والذرائع؛ وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله، فهو جند لمن تولاهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم، والله المستعان.

وهذا الخط، اقرأه على من تحب من إخوانك، وبلغ سلامي والدك، وخواص الإخوان، والسلام.

ص: 346

[رد شبهة من قال أن آية: {إن الذين توفاهم الملائكة}

هي فيمن قاتل المسلمين]

وله أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن الأخ: حسن بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، يذكر لي ما كتب إليك عبد الرحمن الوهيبي من الشبهة لما ذكرت له قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97] ، ونصحته عن الإقامة بين أظهر العساكر التركية، وأنه احتج عليك بأن الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: تجعلون إخوانكم، مثل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ وهذا جهل منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين وما يحتجون به، على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الإنكار والتغيير.

قال ابن كثير: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي بترك الهجرة. {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي: لِم كنتم هاهنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] أي: لا نقدر على الخروج، ولا الذهاب في

ص: 347

الأرض، قالوا:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] . وساق، رحمه الله، ما رواه أبو داود عن سمرة بن جندب: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله "1.

فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، وتعليقه ما فيها من الأحكام، والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأن هذه الآية نص في ذلك. وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر. وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج. كل ذلك ليس فيه ذكر للقتال؛ فتأمل هذا، يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها.

وتأمل حديث سمرة، وما فيه من تعليق هذا الحكم، بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله; وكذلك لما روى ابن جرير عن عكرمة، قال: كان أناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله تعالى:{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} [سورة النساء آية: 97-98] ، وروى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 348

هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [سورة النحل آية: 110] .

فكتبوا إليهم بذلك: أن جعل الله لكم مخرجاً، فخرجوا، فآذاهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا وقتل من قتل.

وروي عن ابن عباس في الآية: "هم قوم تخلفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه. فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ضربت الملائكة وجهه ودبره". وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن قوماً من أهل مكة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام. وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية [سورة النساء آية: 97] "، فهذا القول ونحوه، مما فيه ذكر من أخرج مع المشركين يوم بدر، ولا يدل على أن الآية خاصة بهم، بل يدل على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. وكذلك من قال من السفهاء: إن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا مع المشركين، فمرادهم: أن هذه الآية تناولهم بعمومها، ولم يريدوا: أن هذا النفاق، والقتال مع المشركين، هو الذي أنيط به هذا الحكم، وترتب عليه

ص: 349

الوعيد، فإنهم أجلّ وأعلم من أن يفهموا ذلك، والسلف يعبرون بالنوع، ويريدون الجنس العام.

ومن لم يمارس العلوم، ولم يتخرج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبط في العلوم برأيه، فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه، وعدم الاهتداء لتلك المسالك، التي لا يعرفها إلا من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة. وهذا الرجل من أجهل الناس بالضروريات، فكيف بغيرها من حقائق العلم، ودقائقه؟ وليتهم - أعني هذا وأمثاله - اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر منهم ما اشتهر وذاع، من الموالاة الصريحة، وإيثار الحياة الدنيا، على محبة الله ورسوله، وما أمر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره، وسوى به سواه.

وتأمل كلام شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، على هذه الآية، فإنه أفاد وأجاد، وتأمل ما ذكره الفقهاء في حكم الهجرة، واستدلالهم بهذه الآية، على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه. فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم، وعلى أنهم مسلمون من أهل القبلة المحمدية؟!

وصاحب هذا القول الذي شبه عليكم، ينزل درجة درجة: أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا

ص: 350

أهلية. ثم لما جاءت هذه الفتنة، صار يتزين عند المسلمين بحمد الله، على عدم حضوره بتلك البلد. ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله وكذب نفسه. ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة والوليمة، والتحف والهدايا، والمجالسة، والتردد، شغفاً بالجاه والرياسة، ولو في زمرة من حاد الله ورسوله.

وأما ما نقل عنه، من التحريض على أهل الإسلام، فهو إن صح أقبح من هذا كله وأشنع؛ وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر. وروى السدي قال:" لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: افدِ نفسك وابني أخيك، قال: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فخصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ". فتأمل هذه القصة، وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأن من ادعى الإسلام والتوحيد، وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآياته، فهو مخصوم محجوج؛ وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون.

وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، كيف حكم على من أطاع أولياء الشيطان، في تحليل ما

ص: 351

حرم الله، أنه مشرك، وأكد ذلك بـ"إن" المؤكدة، وأن ذلك صادر عن وحي الشيطان. فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله ومظانه. والله تعالى أسأل أن يمن علينا وعليكم، بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

[الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام لله فيها سر وحكمة بالغة]

وله أيضاً، قدس الله روحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى وهداه، وألهمه رشده، وتقواه، آمي.، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وإن أتى الدهر بمر القضاء. والخط وصل، وصلك الله بحبله المتين، ونظمك في سلك أنصار الملة والدين، وقد عرفت: أن الله سبحانه وتعالى، ليس كمثله شيء في أفعاله وقضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته. وهذه الحوادث العظام، التي هدمت أركان الإسلام، لله فيها سر وحكمة بالغة، يطلع من يشاء من عباده على عنوان وأنموذج من سر القدر والقضاء. وأكثر الناس في خفارة جهله، وكثافة طبعه، كالبعير الذي يعقله أهله ثم يطلقونه، لا يدري فيما عقل، ولا فيما أطلق.

ص: 352

وتذكر أن الغربة اشتدت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال، ما ورد في فضل الغرباء، ووصفهم؛ فاغتنم نصرة الإسلام، والدعوة إليه ونشره، وتعريفه وتقريره، في كل مجلس ومجمع؛ فإن أكثر الناس قد ضل عنه وهو لا يدري عن حقيقته ومسماه، وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلته. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله، بعد ذهابه إليهم، ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمها، ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرح بمسبة من أنكر عليه، ونسبه إلى موالاتهم؛ فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] .

وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير، مع العسكر والزوار، فلا يصدر هذا الإنكار، إلا عن جهل بحقيقة الإسلام، وقواعده الكبار؛ وسرية ابن الحضرمي في عهده صلى الله عليه وسلم مشهورة معروفة، وهي أول دم أهريق في الإسلام، وقصدت عير قريش، وقريش في ذلك الوقت مع كفرهم وضلالهم، أهدى من كثير من العسكر، والزوار من الرافضة بكثير، فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية، والصفات العلية، وإخلاص

ص: 353

العبادات للمعبودات الوثنية ومعارضة الشريعة المحمدية، بأحكام الطواغيت، والقوانين الإفرنجية؟!

فمن جادل عمن خالط هؤلاء، ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من خفافيش البصائر، فالمجادل فيه، وفي حل ما أخذ من العسكر والزوار، لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطن في النزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم، في أي شيء؟ وبأي شيء؟ {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . والذي أوصيك به: الثبات، والغلظة على هؤلاء الجهلة، الذين يسعون في هدم أركان الإسلام، ومحو آثاره. وصلى الله على محمد.

وسئل: عمن يجيء من الأحساء، بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة على أهله، ممن يقيم فيه للتكسب أو التجارة، ولا اتخذه وطناً، وأن بعضهم يكره هذه الطائفة ويبغضها، يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك، ولكن يعتقد أنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر

إلخ؟

فأجاب: الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض ودين الإفرنج، ونحوهم من المعطلة للربوبية

ص: 354

والإلهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً. فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة، قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه، والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد، عمن تلك نحلته، وذلك دينه.

بل نفس الإيمان المطلق، في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات، كما يعلم من تقرير شيخ الإسلام، ابن تيمية، رحمه الله، في كتاب الإيمان، وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله، أنه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين "، أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام، ودعائمه العظام.

ص: 355

وقد عرف من آية "سورة براءة" أن قصد أحد الأغراض الدنيوية، ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله، كما هو نص الآية؛ والفسوق إذا أطلق، ولم يقترن بغيره، فأمره شديد، ووعيده أشد وعيد. وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها، وإظهار الطاعة والانقياد، لأوامر من هذا دينه، وتلك نحلته، والتقرب إليهم بالبشاشة، والزيارة والهدايا، والتأنق في المآكل والمشارب، وإن زعم أن له غرضاً من الأغراض الدنيوية؟ فذلك لا يزيده إلا مقتاً، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية.

وقد جاء القرآن العظيم، بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، على مجرد ترك الهجرة، كما في آية "النساء"، وقد ذكر المفسرون هناك، ما به الكفاية والشفاء، وتكلم عليها شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وأفاد وأوفى; ودعوى التقية لا تجدي مع القدرة على الهجرة، ولذلك لم يستثن الله إلا المستضعفين من الأصناف الثلاثة.

وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة، والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه؛ والمقيم للتجارة والتكسب، والمستوطن، حكمهم وما يقال فيهم، حكم المستوطن، لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة، مع التلبس بتلك الفضائح، فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم وشرع،

ص: 356

وفرائض، وراء ذلك كله. إذا تبين هذا، فالأقسام مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، قال الله تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [سورة الأنعام آية: 132] . وأخبث هؤلاء وأجهلهم، من قال: إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر; وهذا الصنف أضل القوم، وأعماهم عن الهدى، وأشدهم محادة لله ورسوله، ولأهل الإيمان والتقى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاؤوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمنوا بها الإيمان النافع.

والمسلم يعرف أن الراحة كل الراحة، والعدل كل العدل، واللذة كل اللذة، في الإيمان بالله ورسوله، والقيام بما أنزل الله من الكتاب والحكمة، وإخلاص الدين له، وجهاد أعدائه وأعداء رسوله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم والفرح واللذة، في الدور الثلاث، قال الله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [سورة البقرة آية: 177] .

ولو علم هذا المتكلم أن الشرك أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد وأفحشه، لكان له مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق؛ قال الله تعالى:{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف آية: 56]، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ

ص: 357

يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة البقرة آية: 26-27] ، فجعل الخسار كله بحذافيره، في أهل هذه الخصال الثلاث، كما يفيده الضمير المقحم بين المبتدإ والخبر. وقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] . فهذا الفساد المشار إليه، في هذه الآيات الثلاث الكريمات، هو الفساد الحاصل بالكفر والشرك، وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين.

وبالجملة: فمن عرف غور هذا الكلام - أعني قول بعضهم: إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر - تبين له ما فيه من المحادة والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد.

والواجب على مثلك: أن يجاهدهم بآيات الله، ويخوفهم من الله وانتقامه، ويدعو إلى دينه وكتابه. والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والله المستعان.

وسئل: عمن كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم؟

ص: 358

فأجاب: هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين؛ ومن لم يعادهم لا يقال له: عرف التوحيد وعمل به. والسؤال متناقض، وحسن السؤال مفتاح العلم.

وأظن مقصودك: من لم يظهر العداوة، ولم يفارق؛ ومسألة إظهار العداوة غير مسألة وجود العداوة.

فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] .

والثاني: لا بد منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن؛ فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله. فإذا كان أصل العداوة في قلبه، فله حكم أمثاله من العصاة، فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97] ، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها الوعيد لا التكفير. وأما الثاني، الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة، فيصدق عليه قول السائل: لم يعاد المشركين; فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين؟ والخوف على النخل والمساكن ليس بعذر

ص: 359

يوجب ترك الهجرة، قال تعالى:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] .

وأما ما كان في دار الإسلام، ولا تعلّم أصل الدين ولا قواعده، ولأجل الجهل بها، صار يعزر ويوقر، أعداء الدين؟

فالجواب أن يقال: إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجوداً؛ والتفريق والترك، إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات، والمستحبات. وأما اذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الآية [سورة الأعراف آية: 179]، وقوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} الآية [سورة طه آية: 124] . ولكن عليك أن تعلم: أن المدار على معرفة حقيقة الأصل وحقيقة القاعدة، وإن اختلف التعبير واللفظ؛ فإن كثيراً يعرف القصد والقاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور. وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك، تحته أنواع أيضاً، أعظمها: رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه؛ فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من

ص: 360

التوقير بالأمور الجزئية، كلياقة الدواة ونحوه.

وأما قوله لأبي شريح، فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل، والحكم به، بل ذكروا وجوهاً متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم لمثل فعل البوادي. ومن أحسن ما قيل: أن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية قبل ظهور الشرائع الإسلامية، فلما جاء الشرع أبطل ذلك؛ وإذا جاء نهر الله، بطل نهر معقل.

وسئل: عمن يخالط أهل بلده، ويرجو بها أن يجيبوه إلى الإسلام

إلخ؟

فأجاب: أما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام، وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك، أو بدعة، أو فواحش، فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم، إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والاعتزال. ورؤية المنكر، إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك، فلا حرج عليه، بل ربما تأكد، واستحب.

وبلغني: أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، كان يخرج إلى عسكر التتار، لما نزلوا الشام المرة الأولى حول دمشق، ويجتمع بأميرهم، ويأمره وينهاه، ويرى في خروجه عندهم أشياء من المنكرات، وقد أراد بعض الأفاضل، ممن صحبه في

ص: 361

إحدى تلك المرات، أن ينكر على جماعة منهم، ما رأوه يدور بينهم، من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل، إنهم لو تركوا هذا، لزاد شرهم على المسلمين وجرمهم.

وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام؛ لكن إن خاف مفسدة راجحة، أو فوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة، لا سيما ممن ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب، في منازلهم، أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله، وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه، مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد.

والهجر، إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة، فلا يشرع. ومن تأمل السيرة النبوية، والآثار السلفية، يعرف ذلك ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108]، وقال تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج آية: 78] .

ص: 362

والجهاد بالحجة والبيان، يقدم على الجهاد بالسيف والسنان؛ وقد مر صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمنافقين، واليهود، وفيه عبد الله بن أبي رأس المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منزله، والقصة مشهورة.

وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس، لكنه يكون مباركاً أين ما كان، داعياً إلى الله مذكراً به، هادياً إليه، كما قال عن المسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] أي: داعياً إلى الله مذكراً به، معلماً بحقوقه، فهذه هي البركة المشار إليها؛ ومن عدمها محقت بركة عمره، وساعاته وخلطته ومجالسته. ونسأل الله العظيم لنا ولكم، علماً نافعاً، يكون لنا لديه يوم القيامة شافعاً.

ص: 363

[البراءة من الشرك وأهله، وحكم الاستعانة بالمشرك]

وله أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان، حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد الله إليه، وأثني بنعمه عليه. والخط وصل. وما ذكرت من التنبيه على ما تضمنته السورة الكريمة "سورة العصر" فقد سرني، وقد عرفت ما قال الشافعي، رحمه الله: لو فكر الناس فيها لكفتهم، قلت: لأنها تتضمن الأصول الدينية، والقواعد الإيمانية، والشرائع الإسلامية، والوصايا المرضية. فتفكر فيها، واعلم: أنك نبهتني بها على إعلامك ببعض ما تضمنته رسالتك لابن عبيكان.

وقد كتبت حين رأيتها ما شاء الله أن أكتب، ونهيت عن إشاعتها خوفاً منك وعليك؛ ولكن رأيت ما الناس فيه من الخوض، ونسيان العلم، وعبادة الهوى، فخشيت من مفسدة كبيرة، برد السنة والقرآن، والدفع في صدر الحجة والسلطان، وقررت فيها: أن ما كتبته ونقلته، من آية أو سنة، أو أثر، فهو عليك لا لك، لأنه يدل بوضعه، أو

ص: 364

تضمنه، أو التزامه، على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم، والبراءة من كل من اتخذهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم، وبغضهم ومراغمتهم.

وأكثر نصوصك التي ذكرت، دالة على ذلك، كقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، والآية التي قبلها، والآية التي بعدها، وما ذكره ابن كثير هنا، كل هذا نص فيما قلناه، وقد بسطت القول في ذلك.

وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة، والأمر بلزوم الجماعة، نص فيما قلنا، عند من فقه عن الله ورسوله. وما ذكرت من استعانته بابن أريقط، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة:" إنا لا نستعين بمشرك " 1، وابن أريقط أجير مستخدم، لا معين مكرم.

وكذلك قولك: إن شيخ الإسلام ابن تيمية استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار، وهلة عظيمة، وزلة ذميمة؛ كيف والإسلام إذ ذاك يعلو أمره، ويقدم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد ويقرر في المساجد والمدارس؟! وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر

1 مسلم: الجهاد والسير (1817)، والترمذي: السير (1558)، وأبو داود: الجهاد (2732)، وابن ماجة: الجهاد (2832) ، وأحمد (6/67، 6/148)، والدارمي: السير (2496) .

ص: 365

بهم على التتر، والنصيرية ونحوهم؛ كل هذا مستفيض في كلامه، وكلام أمثاله. وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صارت الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهاليها.

وكذلك ما زعمته، من أن أكابر العسكر أهل تعبد، أو نحو هذا، فهذه دسيسة شيطانية، وقاك الله شرها وحماك حرها، لو سلم تسليماً جدلياً، فابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض، أو من أكفر أهل الأرض. وأين أنت من قوله تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] .

وأما إجازتك الاستنصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم، وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملة، وأصول الدين وفروعه; وعند رؤسائهم قانون وطاغوت، وضعوه للحكم بين الناس، في الدماء والأموا، وغيرها، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.

وأما مسألة: الاستنصار بهم، فمسألة خلافية،

ص: 366

والصحيح الذي عليه المحققون: منع ذلك مطلقاً، وحجتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب، وهو حديث صحيح مرفوع، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص. والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري، وقد عرفت ما في المراسيل، إذا عارضت كتاباً أو سنة.

ثم القائل به شرَط: أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم. وشرَط أيضاً: أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية. واشترط مع ذلك: أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة، بخلاف ما هنا؛ كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعف مرسل الزهري جداً. وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام.

وأما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفرعه. ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، المستفاد من حديث الحسن، وحديث النعمان بن بشير ; وما أحسن ما قيل:

والعلم ليس بنافع أربابه

ما لم يفد نظراً وحسنَ تبصرِ

ص: 367

وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها، خشية الإطالة. هذا كله من التواصي بالحق والصبر عليه، وإن لام لائم، وشنأ شانئ. ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، من تفصيل الحكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غير الشأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.

[رد على رسالة ابن عجلان في الاستعانة بالكفار]

وله أيضاً، نور الله ضريحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: زيد بن محمد آل سليمان، حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، وجعله من عسكر السنة والقرآن؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وما كتب في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت: أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة، وداهية عمياء ذميمة، لا تبقي من الإسلام ولا تذر، لا سيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، وقبض فيه العلم، وتوافرت أسباب الفتن، وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، و {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [سورة الأحزاب آية: 11] ، وعند ذلك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [سورة إبراهيم آية: 27] .

ص: 368

وقد شاع ما الناس فيه، من الخوض والمراء، والاضطراب والإعراض، عن منهج السنة والكتاب; ومال الأكثرون إلى موالاة عباد الأصنام، والفرح بظهورهم، والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم؛ وحبك الشيء يعمي ويصم.

وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان، رسالة ما ظننتها تصدر من ذي عقل وفهم، فضلاً عن ذي الفقه والعلم؛ وقد نبهت على ما فيها من الخطإ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا، حذراً من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء، ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاء منها نسخة إلى بلدتنا، وافتتن بها من غلب الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] . وأخبرت من يجالسني: أن جميع ما فيها من النقول الصحيحة والآثار، حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير موضعها، ولم يعط القوس باريها.

وبلغني عن الشيخ حمد، أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خطاً أرسله إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة، وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب، واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله ونال من عرضه،

ص: 369

وتعاظم هذه العبارة، ورغم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعباد الهوى.

والرجل وإن صدر منه بعض الخطإ في التعبير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه وذب عن دينه، وأغلظ في أمر الشرك والمشركين، على من تهاون أو رخص وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد ونكس أعلامه، ومحو آثاره وقلع أصوله وفروعه، ومسبة من جاء به، لقولة رآها وعبارة نقلها، وما دراها من إباحة الاستعانة بالمشركين، مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة، وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار؛ بل هو تولية وتخلية بينهم، وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله، وسفك دماء أهله، واستباحة حرماتهم وأموالهم.

هذا هو حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح، والكفر البواح، ما لا يبقي من الإسلام رسماً يرجع إليه، ويعول في النجاة عليه، كيف وقد هدمت قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصرح بمسبة السابقين الأولين، من أهل بدر وبيعة الرضوان، وظهر الشرك والرفض جهراً، في تلك الأماكن والبلدان؟

ومن قصر الواقع على الاستعانة بهم، فما فهم القضية،

ص: 370

وما عرف المصيبة والرزية. فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصر دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته; فمحبة الله والغيرة لدينه، ونصر كتابه ورسوله، مرتبة علية، محبوبة لله مرضية، يغتفر فيها العظيم من الذنوب، ولا ينظر معها إلى تلك الاعتراضات الواهية، والمناقشات التي تفت في عضد الداعي إلى الله، والملتمس لرضاه. وهبه كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات، " وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم "1.

فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم

هم أهل بدر فلا يخشون من حرجِ

ولما قال المتوكل لابن الزيات: يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد، رحمه الله: أرجو الله أن يغفر له، نظراً إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة. ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق، لم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبره أن هناك مانعاً. والتساهل في رد الحق وقمع الداعي إليه، يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين.

ثم إن القول قد يكون ردة وكفراً، ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثم مانع من إطلاقه على القائل. وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا، ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان.

1 البخاري: الجهاد والسير (3007)، ومسلم: فضائل الصحابة (2494)، والترمذي: تفسير القرآن (3305)، وأبو داود: الجهاد (2650) ، وأحمد (1/79، 1/105) .

ص: 371

ومن المعلوم: أن من تصور هذا الواقع ورضي به، وصوب فاعله وذب عنه، وقال بحله، فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما من أخطأ في عدم الفرق، ولم يدر الحقيقة، واغتر بمسألة خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطإ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يغلب جانب الهوى.

والمقصود: أن الاعتراض والمراء، من الأسباب في منع الحق والهدى، ومن عرف القواعد الشرعية، والمقاصد الدينية، والوسائل الكفرية، عرف ما قلناه. والمعترضون على الشيخ، ليس لهم في الحقيقة أهلية، لإقامة الحجج الشرعية، والبراهين المرضية، على ما يدعون من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة؛ وما أحسن ما قيل شعراً:

أقلوا عليه لا أبا لأبيكمو

من اللوم أو سدوا المكان الذي سدّا

وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة، التي اغتر بها الجاهلون، وضل بها الأكثرون. وطريقة الكتاب والسنة، وعلماء الأمة، تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت، والإعراض في هذه الفتنة العظيمة، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه.

فليكن لك يا أخي طريقة شرعية، وسيرة مرضية، في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، والتحذير من فتنة

ص: 372

العساكر، والنصح لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ وهذا لا يحصل مع السكوت، وتسليك الحال على أي حال. فاغتنم الفرصة، وأكثر من القول في ذلك، واغتنم أيام حياتك؛ فعسى الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عساكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان.

والشبهة التي تمسك بها من قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء، من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة؛ وهو قول ضعيف مردود، مبني على آثار مرسلة، تردها النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها على ضعفه، مشروط بشروط، نبّه عليها شراح الحديث، ونقل الشوكاني منها طرفاً في شرح المنتقى; منها: أمن الضرورة والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة. وأيضاً، ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك. وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة، فهو قول فاسد لا أثر فيه، ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس، وبطلانه أظهر شيء، للفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم. شعراً:

وليس كل خلاف جاء معتبراً

إلا خلاف له حظ من النظرِ

والمقصود: المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه

ص: 373

من دينه وهداه، والسلام.

تتمة: غلط صاحب الرسالة، في معرفة الضرورة، فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر، في رياسته، وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه؛ بل هي ضرورة الدين، وحاجته إلى ما يعين عليه، وتحصل به مصلحته، كما صرح به من قال بالجواز، وقد تقدم ما فيه، والله أعلم.

[الحث على البراءة من المشركين]

وله أيضاً:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الرحمن بن إبراهيم أبي الغنيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل، وصلك الله بالفقه والبصيرة، وأصلح لك العمل والسريرة. وما ذكرت من المحبة والمودة، فما كان لله يبقى وإن طال الزمان به، ويذهب ما سواه.

والذي أوصيك به: التقوى لله سبحانه وتعالى، والنظر في سبب ما جرى عند هذه الفتنة الظلماء، من المهاجرة بيننا والمقاطعة، وشرحه لك فيه تذكرة وموعظة. لما وقعت الفتنة، نأيت بجانبك عن الاسترشاد والاستفادة، واستحسنت المراء في الدين واللجاجة، صدر ذلك منك في غير ما مجلس، حتى أسأت الأدب في السوق، وخاطبتني خطاب من لا يدري الحقائق، ولا يهتدي لأوضح المسالك

ص: 374

والطرائق، ونظرت بعين وغمضت الأخرى، ونكبت عما هو أولى بالإصابة والأحرى.

وأقبلت في تلك الأيام على الملإ المفتونين بخطوط العساكر التي وصلت إلى بلدتنا، وأنت تدري ما فيها من الصد عن سبيل الله، وهدم دينه، ومطردات أوليائه، والتنويه بذكر أعداء الله ورسوله، والدعوة إلى طاعتهم، والدخول تحت أمرهم، وتخويف المسلمين منهم؛ وقد صرح كثير من الناس بالدخول تحت أمرهم، وظهر الفرح والسرور من كثير ممن يدعي الإسلام.

وأنت أيها الرجل، ممن يتردد إلى هؤلاء المفتونين، ويأنس ببعضهم، ويصغي إلى شبهاتهم وجهالاتهم، ولم تلتفت إلى بحث ومحاقة، ولا استرشاد، كما هو الواجب لله عند تلك الفتنة والشبهات؛ لكنك غلبت جانب الهوى، وأكثرت تلك الأيام من مجالسة من يضر ولا ينفع، ولا يني من إغوائه ولا ينزع.

وقد جاء الأثر: أن من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، فكيف بما هو أكبر من البدعة وأعظم؟ ولم يبلغني عنك تلك الأيام ما يسرني، من قيام لله ونصرة لدينه، اللهم إلا ما يجري على لسانك، من دعوى البراءة من الشرك وأهله، على سبيل الإجمال لا التفصيل؛ وقد علم الله أن العبرة بالحقائق، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما

ص: 375

وقر في القلوب وصدقته الأعمال.

ولم تزل على ما وصفنا، تطير مع من طار، وتغير علينا بالتخطئة والمراء مع من أغار. ومثلك كان يظن به الخير، ويأسى عليه الصاحب; وأنت وإن لم تكن كل الفقيه والطالب، فقد حنكتك التجارب، وقعدتك الحوادث والمذاهب، لولا ما عارضها من صحبة جلساء السوء، الذين يدعونك إلى أهوائهم، وأغراضهم الفاسدة، لا سيما أخصهم لديك، وأحبهم إليك، فإنه كما قيل: المس مس الأرنب، والطبع طبع الثعلب. وقد اتهم بالسعي فيما يقوي عضد المشركين، ويوهن عزم الموحدين، وإلى الله المصير، وهو الحكم بيننا وبين من أعان على هدم الإسلام، من صغير وكبير، ومأمور وأمير.

وأيضاً، فأهل الأحساء قد اشتهر حالهم، وأنهم ألقوا السلم إلى عساكر الدولة، واختاروا ولايتهم، وصرحوا بطاعتهم، ونصروهم بالقول، وعاملوهم معاملة الأخ مع أخيه؛ بل جاءت خطوط التجار المترفين أولي النعمة، بتزكيتهم والثناء عليهم، وانتصب ولدك لخدمتهم، وقضاء حوائجهم.

ولم يظهر لي منك قيام بحق الله، عند هذه الدواهي العظام التي تمانع الإيمان والقرآن والإسلام، وتنثر منه عقد النظام، والله أعلم بسرك، وهو الرقيب عليك، لكني

ص: 376

أحكي ما ظهر لي منك ذلك الوقت. وقد ظهر أثر ما ذكرنا، وعقوبة ما إليه أشرنا، بإقبالك واشتغالك بحبالة الشيطان، رسالة ابن عجلان، فطرت بها طيران من لا يلوي على أهل ولا صاحب، كأنها العهد الرباني، والوصية النبوية، واشتغلت بقراءتها وسماعها، مع جماعة من العوام والصبيان. وتلك الرسالة دهليز يفضي إلى استباحة موالاة المشركين، والاستنصار بهم على المسلمين، والحكم على أهل عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، من أهل مصر والشام، بالشرك والمكفرات، وما فيها من أن جلب عباد الأصنام إلى بلاد الإسلام، والاستعانة بهم على من خرج عن الطاعة، ليس بذنب؛ ولولا أن حجاب الجهل والهوى، أكثف الحجب وأغلظها، لتبين شناعة ما فيها للناظرين من أول وهلة، وبمجرد الفطرة، شعراً:

أكل امرئ تحسبين امرءاً

ونار توقد في الليل ناراً

ثم هنا مسألة أخرى، وداهية كبرى، دها بها الشيطان كثيراً من الناس، فصاروا يسعون فيما يفرق جماعة المسلمين، ويوجب الاختلاف في الدين، وما ذمه الكتاب المبين، ويقضي بالإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد، ونصرة رب العالمين، ويفضي إلى منع الزكاة، ويشب نار الفتنة والضلالات؛ فتلطف الشيطان في إدخال هذه المكيدة،

ص: 377

ونصب لها حججاً ومقدمات، وأوهمهم أن طاعة بعض المتغلبين، فيما أمر الله به ورسوله، من واجبات الإيمان، وفيما فيه دفع عن الإسلام وحماية لحوزته، لا تجب والحالة هذه، ولا تشرع.

ولم يدر هؤلاء المفتونون، أن أكثر ولاة أهل الإسلام، من عهد يزيد بن معاوية - حاشا عمر بن عبد العزيز، ومن شاء الله من بني أمية - قد وقع منهم ما وقع من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم، معروفة مشهورة، لا ينزعون يداً من طاعة، فيما أمر الله به ورسوله، من شرائع الإسلام وواجبات الدين.

وأضرب لك مثلاً بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغشم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتل من قتل من سادات الأمة، كسعيد بن جبير، وحاصر ابن الزبير وقد عاذ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير، مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة، وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن، وأكثر سواد العراق.

والحجاج نائب عن مروان، ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلى مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك لم يتوقف أحد من أهل العلم في طاعته،

ص: 378

والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه، من أركان الإسلام وواجباته. وكان ابن عمر ومن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينازعونه، ولا يمتنعون من طاعته، فيما يقوم به الإسلام، ويكمل به الإيمان. وكذلك من في زمنه من التابعين، كابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم التيمي، وأشباههم ونظرائهم من سادات الأمة. واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة، من سادات الأمة وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصول الدين والعقائد.

وكذلك بنو العباس، استولوا على بلاد المسلمين قهراً بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً من بني أمية وأمرائهم ونوابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان؛ حتى نقل أن السفاح قتل في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم، وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة، كالأوزاعي، ومالك، والزهري، والليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، مع هؤلاء الملوك، لا تخفى على من له مشاركة في العلم واطلاع.

والطبقة الثانية من أهل العلم، كأحمد بن حنبل،

ص: 379

ومحمد بن إسماعيل، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن نصر، وإسحاق بن راهويه، وإخوانهم، وقع في عصرهم من الملوك ما وقع، من البدع العظام، وإنكار الصفات، ودعوا إلى ذلك، وامتحنوا فيه، وقتل من قتل، كأحمد بن نصر؛ ومع ذلك فلا يعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة، ولا رأى الخروج عليهم.

وإلى الآن يبلغني عنك أنك تميل إلى ذلك الضرب من الناس، الذين وصفنا حالهم، فرضيت بهم في أمر دينك، وضربت عن سيرة الأئمة صفحاً، وطويت عن هجرها كشحاً. فإن تبين لك هذا، ومن الله عليك بمعرفته، فأنت أخونا وصاحبنا القديم العهد، والجرح جبار ولا حرج ولا عار. وإن بقيت عندك شبهة أو جادل مجادل، فاكتب إلي واسأل كشفها ولا تكتمها، فإني أخشى عليك قطاع الطريق، لا سيما مع فقد الرفيق والعدة. فإن حاك في صدرك شيء، فأكثر من التضرع إلى الله، والتوسل بالأدعية المأثورة، ومنها ما في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، حديث الاستفتاح، وكرر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنام، من كلام شيخ الإسلام، فقد بسط القول في هذه المسألة، في رسائله واستنباطه.

ورأيت له عبارة يحسن ذكرها. قال، رحمه الله: لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم كلهم،

ص: 380

لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم. ومعلوم أن كلاً من الطائفتين، معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي رضي الله عنه من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم، وردتهم، وقتلهم؛ أترى أهل الشام لو حملتهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم، لو امتنعوا، أترى أن أحداً من الصحابة شك في كفر من التجأ إليهم، ولم يظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم من التجأ، لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟

قال، رحمه الله: فتفكر في هذه القصة، فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته. انتهى كلامه، رحمه الله تعالى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 381

[تقوية العضد على الإنكار على من والى الكفار]

وله أيضاً، قدس الله روحه، ونور ضريحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم: حمد بن عتيق، سلمه الله، وفرج له من كل هم وضيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، أوصيك بتقوى الله تعالى، والصدق في معاملته، ونصر دينه، والتوكل عليه في ذلك. وأكثر الناس استنكروا الإنكار على من والى العسكر المشركين، وركن إليهم، وراح إلى بلادهم، وشهد كفرياتهم، ومبارزتهم لرب العالمين بالقبائح، والكفريات المتعددة؛ هذا مع قرب العهد بدعوة شيخنا، والقراءة في تصانيفه، ورسائله وأصوله، وهذا مما يستبين به ميل النفوس إلى الباطل، ومسارعتهم إليه، ومحبتهم له، قال تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون آية: 71] .

ويبلغنا عنك ما يسر، ولكننا نرجو لنا ولك فوق ذلك مظهراً، وبعض الإخوان ما كبر همه بهذه القضية، ولا اشتد إنكاره، ولا ظهر منه غضب لله، ولا حمية لدينه، وأنفة من ذهاب الإسلام، وهدم قواعده، وإن أنكر بعضهم، وذم ذلك وتبرأ منه، لكن مع الهوينا في ذلك، ولين

ص: 382

الجانب، ومحبته للإعراض، وعدم البحث. وأظن الشيطان قد بلغ مراده منهم في ذلك، واكتفى به لما فيه من الغرض، ولعلمه بغائلته وغايته، وأن الدين لا يستقيم معه، قال تعالى:{فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 52] أي: بالقرآن. وللشيطان وأعوانه غرض في المداهنة، لأنها وسيلة إلى السلم، ووضع الحرب بين الطائفتين، قال تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم آية: 9]، شعراً:

وثمود لو لم يدهنوا في ربهم

لم تدم ناقتهم بسيف قدار

فعليك بالجد، والحذر من خدع الشيطان! جعلنا الله وإياك من أنصار السنة والقرآن.

ثم قال، رحمه الله تعالى: ولا تذخر حض أهل الأفلاج، وحثهم على جهاد هذه الطائفة الكافرة.

وأهل نجد كادهم الشيطان، وبلغ مبلغاً عظيماً، وصل بهم إلى عدم الوحشة من أكفر خلق الله، وأضلهم عن سواء السبيل، الذين جمعوا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية، وتعطيل صفات الله، ومعهم جملة من عساكر الإنقليز، المعطلة لنفس وجود البارئ، القائلين بالطبائع والعلل، وقدم العالم، وأبديته. وبلغنا أنهم كتبوا خطوطاً لجهات نجد، مضمونها: إنا مسلمون، نشهد أن لا إله إلا الله، ونحو هذا الكلام،

ص: 383

وبسطوا القول في أمر الدولة، والترهيب منهم، والترغيب فيهم.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن الله قد استخلفكم في الأرض، بعد ذلك القرن الصالح، لينظر كيف تعملون، فاحذر أن تلقاه مداهناً في دينه، أو مقصراً في جهاد أعدائه، أو في النصح له ولكتابه ولرسوله. واجعل أكثر درسك في هذا، ولو اقتصدت في التعليم؛ والقلوب أوعية، يعطى كل وعاء بحسبه.

[الحث على جهاد الكفار]

وله أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: الشيخ حمد بن عتيق، سلمه الله تعالى، ووفقه للصبر واليقين، ورزقه الهداية بأمره، والإمامة في الدين؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وأسأله الثبات على دينه، الذي رغب عنه الجاهلون، ونكب عنه المبطلون. والخط وصل، وسرني ما فيه من الإخبار عن عافيتكم، وسلامتكم، والحمد لله على ذلك. وما ذكرت كان معلوماً، لا سيما ما أشرت إليه من حال الجاهلين، وخوضهم في مسائل العلم والدين. وليس العجب

ص: 384

ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا. قال الله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [سورة البينة آية: 4] . والواجب على من رزقه الله علماً وحكمة، أن يبثه في الناس وينشره، لعل الله أن ينفع به، ويهدي على يديه من أدركته السعادة، وسبقت له الحسنى.

واعلم أن الإمام سعود، قد عزم على الغزو والجهاد، وكتبت لك خطاً، فيه الإلزام بوصول الوادي، وحث من فيه من المسلمين على الجهاد في سبيل الله، واستنقاذ بلاد المسلمين من أيدي أعداء الله المشركين. وقد بلغك ما صار من صاحب بريدة، وخروجه عن طاعة المسلمين، ودخوله تحت طاعة أعداء رب العالمين، ونبذ الإسلام وراء ظهره; كذلك حال البوادي والأعراب، استخفهم الشيطان وأطاعوه، وتركوا ما كانوا عليه من الانتساب إلى الإسلام.

فتوكل على الله، واحتسب خطواتك وكلماتك، وحركاتك وسكناتك، وشمر عن ساعد جدك واجتهادك؛ فقد اشتد الكرب، وتفاقم الهول والخطب، والله المستعان.

وقد عرفت القراء في زمانك، وأن أكثرهم قد راغ روغان الثعالب، فلا يؤمن على مثل هذه المقاصد والمطالب، والله سبحانه المسؤول، المرجو الإجابة، أن يمن علينا وعليك بالتوفيق والتسديد، وأن ينفع بك الإسلام

ص: 385

والتوحيد. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] .

يا سعد إنا لنرجو أن تكون لنا

سعدا ومرعاك للزوار سعدانا

وأن يضر بك الرحمن طائفة

ولّت وينصر من بالخير والانا

والسلام.

[إعلان الإنكارعلى المجاهرين من الفساق]

وله أيضاً:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: الشيخ حمد بن عتيق، أمده الله بالتسديد والتوفيق، وأذاقه حلاوة الإيمان والتحقيق؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه. والخط وصل، وما ذكرت صار معلوماً، وأرجو أن الله يسدد ولي أمر المسلمين، ويمن عليه بمعرفة هذا الدين، والرغبة فيه، واتباع ما من الله به من الهدى، الذي جاءت به رسله. وأكثر الناس ما رغبوا في هذا، ولا رفعوا به رأساً؛ ونشكو إلى الله ما نحن فيه، من غربة الدين، وقلة الأنصار.

وما ذكرت من جهة

وأنك ترى العفو والصفح، فاعلم: أن الحق في ذلك لله; والواجب على المسلم: تغيير المنكر بحسب الاستطاعة، وليس له العفو والصفح إلا في حق نفسه. وما ورد من النصوص في الصفح عن أعداء الله، إنما هو في الآيات المكية؛ وقد صرح القرآن بنسخه،

ص: 386

وجاءت السنة ببيان ذلك. ولم يرد في الآيات المدنية، الأمر بالصفح عن المشركين، وأعداء الدين؛ بل جاء الأمر بجهادهم، والغلظة عليهم في غير موضع، وجاء الأمر بإعلان الإنكار على المجاهرين من الفساق، ولو كان مسلماً.

ومن جاهر بالمعاصي، ونصرة أولياء المشركين، فلا حرمة لعرضه، ولا يشرع الستر عليه بترك الإنكار؛ وفي قصة حاطب، ما يدلك على هذا، وهو صحابي بدري، وقال تعالى:{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النور آية: 2] . وقد ذكر ابن القيم طرفاً من الفروق في كتاب الروح، فينبغي مراجعته، ومعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله. ومثلك يقتدى به، وقد نفع الله بإنكارك وشدتك على أهل الزيغ، فلا ينبغي العدول إلى خيال لا يعرج عليه.

وقد عرفت حال أهل وقتك من طلبة العلم، وأنهم ما بين مجاهر بإنكار الحق، قد لبس عليه أمر دينه، أو مداهن مع هؤلاء ومع هؤلاء، غاية قصده السلوك مع الناس، وإرضاؤهم، أو ساكت معرض عن نصرة الحق، ونصرة الباطل، يرى الكفاف أسلم، وأن هذا الرأي أحكم؛ هذا حال فقهاء زمانك، فقل لي: من يقوم بنصر الحق وبيانه، وكشف الشبهة عنه ونصرته، إذا رأيت السكوت والصفح، كما في البيتين اللذين في الخط؟ فينبغي النظر في زيادة قيد في تلك الأبيات، لئلا يتوجه الإيراد، والسلام.

ص: 387

[الحث على الجد فيما ينجي من الركون إلى أهل الكفر]

وله أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأمير المكرم: سالم بن سلطان، سلمه الله تعالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وبلغنا خبر هذه الفتنة التي حصلت عندكم من عزان ومن تبعه، ممن استزلهم الشيطان. وبلغنا أنك لم تشهد هذا المشهد، ولم تحضر ما جرى في ذلك المعهد، وسرنا هذا، لأنا نحب لكم ما جرى عليه أسلافكم، من الانحياز إلى المسلمين، ولزوم الجماعة، وترك المفارقة ونبذ الطاعة، فالله سبحانه يبتلي العبد على حسب إيمانه، ليعلم الذين صدقوا، ويعلم الكاذبين.

فعليكم بالجد والاجتهاد فيما يحفظ الله به عليكم الإيمان والتوحيد، وينجيكم من الركون إلى أهل الكفر والإشراك والتنديد، قال تعالى:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113]، وقال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى

ص: 388

لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 78-81]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الممتحنة آية: 1]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57] . فتأمل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57]، فإن هذا الحرف وهو:"إن" الشرطية تقتضي نفي شرطها إذا انتفى جوابها؛ ومعناه: أن من اتخذهم أولياء فليس بمؤمن.

فعليكم بتقوى الله، ولزوم طاعته، والعمل لوجهه، واحذروا أن يضيع الإسلام لديكم، أو يلتبس الحق عليكم، {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 94] . نسأل الله لنا ولكم الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن لا ينزع عنا ما منّ به من الإيمان والتوحيد، بعد ما تفضل علينا وأعطانا.

ص: 389

وقد وعد الله عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، بالنصر والظفر، وحسن العاقبة، قال الله تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 123] .

وقد كتبنا هذا تذكرة، ولم يبلغنا عنك في فتنة "عزان" ما يوجب اتهامك؛ ولكن أحببنا الموعظة والتذكرة. والواصل إليك ولدنا: علي بن سليم، بتدبير الإمام، بتذكير أهل الإسلام، وحثهم على الثبات، والتمسك بدين الله الذي ارتضاه لنفسه. واختار القدوم عليكم، لأنكم أخص، والله الموفق الهادي.

ص: 390

وله أيضا عفا الله عنه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الطيف بن عبد الرحمن، إلي الأخ المكرم: حمد بن عتيق، سلمه الله تعالي، ونصر به شرعه ودينه، وثبت إيمانه ويقينه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، علي حلو نعمه ومر بلواه، وبديع حكمه، والخط وصل؛ وما ذكرت صار معلوما، وكتبت لك خطا أولا، علي نشر النصائع، وكتب الرسائل، لأني استعظت ما فعل " سعود " من خروجه علي الأمة وإمامها، يضرب برها وفاجرها، إلا من أطاعه، وانتظم في سلكه، و " عبد الله " له بيعة، وولاية شرعية في الجملة.

ثم بعد ذلك بدا لي منه: أنه كاتب الدولة الكافرة الفاجرة، واستنصرها، واستجلبها علي ديار المسلمين، فصار كما قيل:

والمستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

فخاطبته شفاها بالإنكار والبراءة، واغلظت له بالقول: إن هذا هدم لأصول الإسلام، وقلع لقواعده، وفيه وفيه وفيه، مما لا يحضرني تفصيله الآن، فأظهر التوبة والندم، وأكثر الاستغفار؛ وكتبت علي لسانه لوالي بغداد؛ أن الله قد أغنى ويسر، وانقاد لنا من أهل نجد والبوادي، ما يحصل به المقصود، إن شاء الله تعالي، ولا حاجة لنا بعساكر الدولة،

ص: 391

وكلام من هذا الجنس، وأرسل الخط فيما أرى، وتبرأ مما جرى.

فاشتبه علي أمره، وتعارضا عندي موجبان، إمامته، ومبيح خلعه، حتى نزل " سعود " بمن معه من أشرار نجد، وفجارها، منافقيها، فعثى في الأرض بسفك الدماء، وقطع الثمار، وإخافة الأرامل والمحصنات، وانتهاك حرمة اليتامى والأيامى، هذا وأخوه منحصر في شعب " الحائر " وقد ظهر عجزه، واشتهر، وأهل البلد معهم من الخوف، ومحبة المسارعة إليه، ما قد عرف؛ فرأيت من المتعين علي مثلي: الأخذ علي يد أهل البلاد، والنزول إلى هذا الرجل، والتوثق منه، ودفع صولته، حقنا لدماء المسلمين؛ وصيانة لعوراتهم، ونسائهم، وحماية لأموالهم وأعراضهم؛ وكان لم يعهد لي شيئا، ولكن الأمر إذا لم يدرك، كان الرأي فيه: أصوبه، وأكمله، وأعمه نفعا.

فلما واجهت " سعودا " وخاطبته فيما يصلح الحال، فيما بينه وبين أخيه، واشترط شروطا ثقالا علي أخيه، ولم يتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع القتنة، ويجمع الكلمة، ويلم الشعث، ويستدرك لبقية، وخشيت من عنوة علي البلدة، يبقى عارها بعد سفك دمائهم، ونهب أموالها، والسفاح بنسائها، لما رأيت أسباب ذلك متوفرة، وقد رفع الإيمان بالله ورسله، والدار الآخرة؛ وخرج عرفاؤه،

ص: 392

والمعروفون من رجالها، فبايعوا " سعودا " بعد ما أعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم ومسيئهم، عهد الله وأمانه، عهدا مغلظا، فعند ذلك كتبت إليك الخط الثاني، بما رأيت من ترك التفرق والاختلاف، ولزوم الجماعة.

وبعد ذلك: أتانا النبأ الفادح الجليل، والخطب الموجع العظيم، الذي طمس أعلام الإسلام؛ ورفع الشرك بالله وعبادة الأصنام، في تلك البلاد، التي كانت بالإسلام ظاهرة، ولأعداء الملة قاهرة، وذلك بوصول عساكر الأتراك، واستيلائهم علي الأحساء والقطيف، يقدمهم طاغيتهم " داود بن جرجيس " داعيا إلى الشرك بالله، وعبادة إبليس.

فانقادت لهم تلك البلاد، وأنزلوا العساكر بالحصون والقلاع، ودخلوها بغير قتال ولا نزاع، فطاف بهم إخوانهم من المنافقين، وظهر الشرك برب العالمين، شاعت مسبة أهل التوحيد والدين، وفشا اللواط والمسكر، والخبث المبين؛ ولم ينتطح في ذلك شاتان، لما أوحاه وزينه الشيطان، من أن القوم: أنصار لعبد الله بن فيصل؛ فقبل هذه الحيلة، من آثر الحياة الدنيا وزينتها، علي الإيمان بالله ورسله، وكف النفس عن هلاكها، وشقاوتها.

وبعضهم: يظن أن هذه الحيلة لها تأثير في الحكم، لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق،

ص: 393

بل بلغني: أن بعض من يدعي طلب العلم، يحتج بقول شاذ مطرح، وهو: أن لولي الأمر أن يستعين بالمشرك عند الحاجة، ولم يدر هذا القائل، أن هذا القول يحتج قائله بمرسل ضعيف، مدفوع بالأحاديث المرفوعة الصحيحة، وأن قائله اشترط: أن لا يكون للمشركين رأي في أمر المسلمين، ولا سلطان، لقوله تعالى:(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) النساء 41 فكيف بما هو أعظم من ذلك وأطم، من الانسلاخ الكلي، والخدمة الظاهرة لأهل الشرك.

إذا عرفت هذا، عرفت شيئا من جناية الفتن، وأن منها قلع قواعد الإسلام، ومحو أثره بالكلية، وعرفت حينئذ أن هذه الفتنة، من أعظم ما طرق أهل نجد في الإسلام، وأنها شبيهة بأول فتنة وقعت فيه، فالله الله في الجد والاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في جهاد أعداء الله، وأعداء رسله، قال تعالي:(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) آل عمران 187، إلى أمثال ذلك في القرآن، يعرفها الخبير بهذا الشأن.

هذا ما عندي في هذه الحادثة، قد شرحته وبسطته، كما ذكرت لي: ما عندك؟ وأسأل الله أن يهديني، وإياك إلي صراط مستقيم، وأن يمن علينا وعليك بمخالفة أصحاب الجحيم، والسلام.

ص: 394

[أكثر أصول الدين وشعبه معدومة في الخواص]

وله أيضاً:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ: حمد بن عبد العزيز؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وما ذكرت من غربة الدين، فالأمر أجل وأكبر من الغربة. أكثر أصوله وشعبه معدومة في الخواص، فكيف بالسوقة، ومن لا نهمة لهم في معرفة ما جاءت به الرسل، كالغيرة لله ولحرماته، وتعظيم أوامره، ومجاهدة أعداء دينه، والبراءة من موالاة المشركين، وأعداء رب العالمين، والتحيز إلى أهل الإيمان، وموالاتهم ونصرهم، ولزوم جماعة المسلمين، وغير ذلك من حقائق الدين، وشعب الإيمان؟ وهذه معدومة، نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه، والتمسك به عند فساد الزمان.

ص: 395

[البراءة من أهل الشرك]

وله أيضاً:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: حمد بن عبد العزيز، سلمه الله تعالى، وأسبغ عليه سحائب فضله، ووالى؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والذي أوصيك به: القيام لله في هذه الفتنة الشركية، التي أشربتها قلوب أكثر الناس، واذكر قول ابن القيم، رحمه الله، في إغاثته: ولا ينجو من شرك هذا الشرك، إلا من عادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله

إلخ.

والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم؛ فيكون متبعاً لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينه وما بناه، تاركاً من التوحيد أصولاً وشعباً، لا يستقيم معها إيمانه الذي ارتضاه، فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسواه؛ وكل هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله.

فلا تذخر المذاكرة بهذا في كل مجلس وكل مجمع، وإن اجتمعت بعبد العزيز بن حسن، فدارجه بالنصيحة، عسى أن ينتفع ويقوم لله، ويبلغ عن رسول الله، فيكون عوناً لك في ناحيتك، والسلام.

ص: 396

[تفلتات يخاف على صاحبها من النفاق والردة]

وله أيضاً:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ عبد الله بن ربيعة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. وموجب الخط السلام، والسؤال عن الأحوال مع حدوث هذه الفتن العظام؛ ولعل الله حفظ عليكم الإسلام، وكره إليكم الكفر والفسوق والآثام. ولما أجرى الله سبحانه وتعالى هذه الحوادث بنجد، صار من بعض الجهال تفلتات وكلمات، يخاف على صاحبها من النفاق والردة عن الإسلام، وأنتم أهل فطرة، نشأتم في وقت الإسلام فيه قائم، والشرع فيه حاكم، وبين أظهركم من حملة الشرع وطلبة العلم، من يذكر وينصح ويبين.

والآن قد عدم ذلك، وقل ما هنالك، ونَشْرهُ على مثلك من إخواننا، في القيام مع أهل الدين، وتذكير الجماعة بما كانوا عليه من الدين، والمباعدة من المشركين، وهذا فيما يرضي الله ويوجب سعادتك يوم لقائه. وهؤلاء الذين يحصل منهم كلام يضر بالإسلام، مثل ابن هويدي وأمثاله من السفهاء، نَشْرَهُ عليكم، إنكم تقومون عليهم، ولا يسكنون بلادكم. ومثلكم ما يعجز عن أمر يحصل به مرضاة الله،

ص: 397

ونحن وغيرنا من المسلمين معكم على الحق.

فأنت يا أخي لا تغفل عن هذه الأمور، واحرص على أن المقاود يصيرون هم أهل الخير لا أهل الشر. وفي حديث أبي بكر، لما سألته المرأة الخثعمية عن بقاء الإسلام، قال لها ما معناه: إنه يبقى ما استقامت الأئمة، يعني الرؤساء. فإذا صار الأخيار لهم القول، والكلمة النافذة، صلح أمر البلد، وقام الدين، نرجو أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

[معاشرة أعداء الله ومداهنتهم والصلاة خلفهم]

وله أيضاً، أسكنه الله الفردوس الأعلى:

بسم الله الرحمن الر حيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب: سهل بن عبد الله، سهل الله له الطريق الموصلة إليه، ووالى إفضاله وإنعامه عليه؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على إنعامه. وخطك لابن عجلان وجوابه لك وصلنا. والواجب على من عوفي في دينه، من هذه الورطات، أن يكثر من ذكر الله وشكره. وفي جوابه من الفهاهة والظلمة، ما لا يعرفه إلا أرباب البصائر، ولو سلم دينه وصح معتقده، لكانت له مندوحة عن معاشرة أعداء الله، ومداهنتهم، والصلاة خلفهم، ولو نوى الانفراد.

وأما ما نقل عن داود، من قصد الزيارة، وأنه ما قصد

ص: 398

الحج، فنعم؛ وهكذا الحال عند الغلاة في الأنبياء والصالحين، حتى صنف بعضهم كتاباً سماه: حج المشاهد، وربما فضل هذه الزيارة على حج بيت الله الحرام.

فأوصيك بتقوى الله، وطلب العلم والإيمان، عله أن يجعل لك نوراً تسير به إلى الإله الحق، الذي في وصولك إليه كل السعادة والهداية، والسيادة في دورك الثلاث. واعلم: أن من حقوق الأخوة في الله، إدامة الدعاء لإخوانك في أوقات الإجابة. وبلغ سلامي إخوانك إجازة عامة مطلقة.

وقال، رحمه الله تعالى وعفا عنه: ورد من بعض الأدباء ما نصه:

رسائل شوق دائم متواتر

إلى فرع شمس الدين بدر المنابرِ

سلالة مجد من كرام عشائر

يعيد بديعا من كنوز المحابرِ

ويبدي لك التوحيد شمسا منيرة

ولكن أهل الزيغ عميُ البصائرِ

مدارس وحي شرفت بأكابر

على ملة بيضاء تبدو لسائر

سقى عهدكم عهد الشريعة والتقى

وتعظيم دين الله أزكى الشعائرِ

فيا راكباً بلّغ سلامي وتحفة

تعزيه فيما قد مضى في العشائرِ

وأعظم من ذا يا خليلي كتائب

تهدم من ربع الهدى كل عامرِ

ويبدو بها التعطيل والكفر والزنى

ويعلو من التأذين صوت المزامرِ

ص: 399

فقد سامنا الأعداء في كل خطة

وأصل من الإسلام سوم المقامرِ

أناخ لدينا للضلالة شيعة

أباحوا حمى التوحيد من كل فاجرِ

وقابلهم بالسهل والرحب عصبة

على أمة التوحيد أخبث ثائرِ

يقولون لكنا رضينا تقية

تعود على أموالنا والذخائرِ

فضحك ولهو واهتزاز وفرحة

وألوان مأكول ونشوة ساكرِ

مجالس كفر لا يعاد مريضها

يراح إليها في المسا والبواكرِ

ويرمون أهل الحق بالزيغ ويحهم

أما رهبوا سيفاً لسطوة قاهرِ

وأما رباع العلم فهي دوارس

تحن إلى أربابها والمذاكرِ

مصاب يكاد المستجن بطيبة

ينادي بأعلى الصوت هل من مثابرِ

فجد لي برد منك تبرد لوعتي

ويحدى به في كل ركب وسامرِ

وتنصر خلا في هواك مباعداً

ولولاك لم تبعث به أم عامرِ

فأكثر وأقلل ما لها الدهر صاحب

سواك فقابل بالمنى والبشائرِ

ص: 400

فأجاب، رحمه الله، بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويبل القلوب الصوادي، ويحدي به في كل ركب ونادي، وهذا نصه:

رسائل إخوان الصفا والعشائر

أتتك فقابل بالمنى والبشائرِ

تذكرني أيام وصل تقادمت

وعهداً مضى للطيبين الأكابرِ

ليالي كانت للسعود مطالعاً

وطائرها في الدهر أيمن طائرِ

وكان بها ربع المسرة آهلاً

نمتع في روض من العلم زاهرِ

وفيها الهداة العارفون بربهم

ذوو العلم والتحقيق أهل البصائرِ

محابرهم تعلو بها كل سنة

مطهرة أنعِمْ بها من محابرِ

مناقبهم في كل مصر شهيرة

رسائلهم يغدو بها كل ماهرِ

وفيهم من الطلاب للعلم عصبة

إذا قيل من للمشكلات البوادرِ

وفيها الحماة الناصرون لربهم

معاقلهم شهب القنا والخناجرِ

وهندية قد أحسن القين صقلها

مجربة يوم الوغى والتشاجرِ

ورومية خضراء قد ضم جوفها

من الجمر ما يفري صميم الضمائرِ

وكانت بهم تلك الديار منيعة

محصنة من كل خصم مقامرِ

غدت بهمو تلك الفتون وشتتوا

فلست ترى إلا رسوما لزائرِ

وحل بهم ما حل بالناس قبلهم

أكابر عرب أو ملوك الأكاسرِ

وبدلت منهم أوجهاً لا تسرني

قبائل يام أو شعوب الدواسرِ

ص: 401

يذكرنيهم كل وقت وساعة

عصائب هلكى من وليد وكابرِ

وأرملة تبكي بشجو جنينها

لها رنة بين الربى والمحاجرِ

وهذا زمان الصبر من لك بالتي

تفوز بها يوم اختلاف المصادرِ

فصل: فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي

ودارت على الإسلام أكبر فتنة

وسلت سيوف البغي من كل غادرِ

وذلت رقاب من رجال أعزة

وكانوا على الإسلام أهل تناصرِ

وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق

تزورهمو غرثى السباع الضوامرِ

وهتك ستر للحرائر جهرة

بأيدي غواة من بواد وحاضرِ

وجاؤوا من الفحشاء ما لا يعده

لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر

وبات الأيامى في الشتاء سواغبا

يبكين أزواجاً وخير العشائرِ

وجاءت غواش يشهد النص أنها

بما كسبت أيدي الغواة الغوادرِ

وجر زعيم القوم للترك دولة

على ملة الإسلام فعل المكابرِ

ووازره في رأيه كل جاهل

يروح ويغدو آثما غير شاكرِ

وآخر يبتاع الضلالة بالهدى

ويختال في ثوب من الكبر وافرِ

وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي

تبيد من الإسلام عزم المذاكرِ

ولكنه يهوى ويعمل للهوى

ويصبح في بحر من الريب غامرِ

وقد جاءهم فيما مضى خير ناصحٍ

إمام هدى يبني رفيع المفاخرِ

وينقذهم من قعر ظلما مضلة

لسالكها حر اللظى والمساعرِ

ص: 402

ويخبرهم أن السلامة في التي

عليها خيار الصحب من كل شاكرِ

فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى

أكابرهم كنز اللهى والذخائرِ

سعوا جهدهم في هدم ما قد بنى لهم

مشائخهم واستنصروا كل داغرِ

وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم

وجاؤوا بهم من كل إفك وساحرِ

ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة

تهدم من ربع الهدى كل عامرِ

وباؤوا من الخسران بالصفقة التي

يبوء بها من دهره كل خاسرِ

وصار لأهل الرفض والشرك صولة

وقام بهم سوق الردى والمناكرِ

وعاد لديهم للواط وللخنى

معاهد يغدو نحوها كل فاجرِ

وشُتت شمل الدين وانبتّ حبلُه

وصار مضاعاً بين شر العساكرِ

وأذن بالناقوس والطبل أهلها

ولم يرض بالتوحيد حزب المزامرِ

وأصبح أهل الحق بين معاقب

وبين طريدٍ في القبائل صائر

فقل للغوي المستجير بظلمهم

ستحشر يوم الدين بين الأصاغرِ

ويكشف للمرتاب أي بضاعة

أضاع وهل ينجو مجير امِّ عامرِ

ويعلم يوم الجمع أي جناية

جناها وما يلقاه من مكر ماكرِ

فيا أمة ضلت سبيل نبيها

وآثاره يوم اقتحام الكبائرِ

يعز بكم دين الصليب وآله

وأنتم بهم ما بين راض وآمرِ

وتهجر آيات الهدى ومصاحف

ويحكم بالقانون وسط الدساكرِ

هوت بكمو نحو الجحيم هوادة

ولذات عيش ناعم غير شاكرِ

سيبدو لكم من مالك الملك غير ما

تظنون أن لاقى مزير المقابرِ

ص: 403

يقول لكم ماذا فعلتم بأمة

على ناهج مثل النجوم الزواهرِ

سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت

مساجدهم من كل داع وذاكرِ

وواليتمو أهل الجحيم سفاهة

وكنتم بدين الله أول كافرِ

نسيتم لنا عهدا أتاكم رسولنا

به صارخا فوق الذرى والمنابرِ

فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن

بهذا وما يحوى صحيح الدفاترِ

وهل نافع للمجرمين اعتذارهم

إذا دار يوم الجمع سوء الدوائرِ

وقال الشقي المفتري كنت كارهاً

ضعيفاً مضاعاً بين تلك العساكرِ

أماني تلقاها لكل متبّر

حقيقتها نبذ الهدى والشعائرِ

تعود سرابا بعد ما كان لامعاً

لكل جهول في المهامه حائرِ

فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة

وتظهر في ثوب من المجد باهرِ

وتدنو من الجبار جل جلاله

إلى غاية فوق العلى والمظاهرِ

فهاجر إلى رب البرية طالباً

رضاه وراغم بالهدى كل جائرِ

وجانب سبيل العادلين بربهم

ذوي الشرك والتعطيل مع كل غادرِ

وبادر إلى رفع الشكاية ضارعاً

إلى كاشف البلوى عليم السرائرِ

وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها

وترفع في ثوب من العفو ساترِ

ولا تيأسنْ من صنع ربك إنه

مجيب وإن الله أقرب ناصرِ

ألم تر أن الله يبدي بلطفه

ويعقب بعد العسر يسراً لصابرِ

وأن الديار الهامدات يمدها

بوبل من الوسمي هام وماطرِ

فتصبح في رغد من العيش ناعم

وتهتز في ثوب من الحسن فاخرِ

ص: 404

وله أيضاً، رحمه الله وعفا عنه:

دع عنك ذكر منازلٍ ومغانِ

وبدور أنس قد بدت وغوانِ

وجآذر في روضة يشدو بها

صوت النديم وشادن فتانِ

لا تصغ للعشاق سمعك إنما

منادمهم بين البرية عانِ

والعشق داء قاتل ودواؤه

في السنة المثلى عن الأعيانِ

قطع الوسائل والذرائع والتي

بين الورى أحبولة الشيطانِ

واقرأ كتاب الله إن رمت الهدى

أو رمت ترقى ذروة الإحسانِ

واعكف بقلبك في أراضي روضةٍ

مملوءة بالعلم والإيمانِ

وانظر إلى تركيبه واعمل به

إن كنت ذا بصر بهذا الشانِ

هذا ولا ينجيك طب في التي

ترجو بغير مشيئة الرحمانِ

فاسأله في غسق الليالي والدجى

يا دائم المعروف والسلطانِ

وانظر إلى ما قاله علم الهدى

عند ازدحام عساكر الشيطانِ

أشكو إليك حوادثا أنزلتها

فتركْنني متواصل الأحزانِ

من لي سواك يكون عند شدائدي

إن أنت لم تكلأ فمن يكلاني

لولا رجاؤك والذي عودتني

من حسن صنعك لاستطير جناني

واذكر مآثر أقوام قد انتدبوا

يوما لنصر الدين بالإحسانِ

ص: 405

من صالحي الإخوان أعلام الهدى

من أطدوا التوحيد ذا الأركانِ

قامت بهم أركان شرعة أحمد

وعلت سيوف الحق والإيمانِ

وغدا الزمان بذكرهم متبسماً

يبدو سنا للطالب الولهانِ

سارت بهم أبناء مجد في الورى

يعشي سناها عابدي الأوثانِ

قد جددوا للدين أوضح منهج

يبدو ضيا للسالك الحيرانِ

حتى علا في عهدهم شأن الهدى

وانقض ركن الشرك في الأديانِ

أما العقائد إن ترد تحقيقها

عنهم بلا شك ولا كتمانِ

إن الإله مقدس سبحانه

رب عظيم جل عن حدثانِ

حقا على عرش السماء قد استوى

يرى ويسمع فوق ست ثمان

يعطي ويمنع من يشاء بحكمة

في كل يوم ربنا ذو شانِ

خضعت لعزة وجهه وجلاله

حقا وجوه الخلق والأكوانِ

بل كل معبود سواه فباطل

من دون عرش للثرى التحتاني

فاحذر توالي في حياتك غيره

من كل معبود ومن شيطانِ

واحذر طريقة أقوام قد افتتنوا

في حب أدنى أو خسيس فانِ

واقطع علائق حبها وطلابها

إذ قطّعوا فيها عرى الإيمانِ

لهفي عليهم لهفة من والهٍ

متوجع من قلة الأعوانِ

قد صاده المقدور بين معاشر

في غفلة عن نصرة الرحمنِ

ص: 406

واستبدلوا بعد الهدى طرق الهوى

لما عمو عن واضح البرهانِ

واقطع علائق حبهم في ذاته

لا في هواك ونخوة الشيطانِ

واهجر مجالس غيهم إذ قطّعوا

فيها عرى التوحيد والإيمانِ

لا سيما لما ارتضاهم جاهل

ذو قدرة في الناس مع سلطانِ

لما بدا جيش الضلالة هادماً

ربع الهدى وشرائع الإحسانِ

قوم سكارى لا يفيق نديمهم

أبد الزمان يبوء بالخسرانِ

قوم تراهم مهطعين لمجلس

فيه الشقاء وكل كفر دانِ

بل فيه قانون النصارى حاكماً

من دون نص جاء في القرآنِ

بل كل أحكام له قد عُطلت

حتى النِّدا بين الورى بأذانِ

ويرون أحكام النبي وصحبه

في شرعهم من جملة الهذيانِ

ويرون قتل القائمين بدينه

في زعمهم من أفضل القربانِ

والفسق عندهمو فأمر سائغ

يلهو به الأشياخ كالشبانِ

والمنع في قانونهم وطريقهم

غصب اللواط كذاك والنسوان

فانظر إلى أنهار كفْر فجِّرت

قد صادمت لشريعة الرحمنِ

بل لا يزال لجريها بين الورى

من هالك متجاهل خوّانِ

والله لولا الله ناصر دينه

لتفصمت منا عرى الإيمانِ

فالله يجزي من سعى في سدها

من أمة التوحيد والقرآنِ

ص: 407

والله يعطي من يشاء بفضله

فوق الجنان عطية الرضوانِ

وكذا يجازي من سعى في رفعها

ما قد أعد لصاحب الكفرانِ

يا رب واحكم بيننا في عصبة

شدوا ركائبهم إلى الشيطانِ

سلوا سيوف الغي من أغمادها

وسعوا بها في ذلة وهوانِ

واستبدلوا بعد الدراسة والهدى

بالقدح في صحبٍ وفي إخوانِ

صرفوا نصوص الوحي عن أوضاعها

وسعوا بها في زمرة العميانِ

فتحوا الذرائع والوسائل للّتي

يهوى هواها عابدو الصلبانِ

وسعوا بها في كل مجلس جاهل

أو مشرك أو أقلف نصراني

وقضوا بأن السير نحو ديارهم

في كل وقت جائز بأمانِ

لم يفقهوا معنى النصوص ولم يعوا

ما قال أهل العلم والعرفانِ

ما وافق الحكم المحل ولا هو اسـ

ـتوفى الشروط فصار ذا بطلانِ

فادرأ بها في نحرهم تلْقَ الهدى

وارجمهمو بثواقب الشهبانِ

واقعد لهم في كل مقعد فرصة

واكشف نوابغ جهلهم ببيانِ

حتى يعود الحق أبلج واضحاً

يبدو سنىً للسالك الحيرانِ

وقضوا بأن العهد باق للذي

ولى الولاية شيعة الشيطانِ

تباً لهم من معشر قد أُشربوا

حب الخلاف ورشوة السلطانِ

وقضوا له بالجزم أن متابه

قد هد ما أعلى من البنيانِ

وطلابه للأمر والحرب الوبي

فعلى طريق العفو والغفرانِ

ص: 408

[الحث على نشر العلم أوقات الفتن]

وله أيضاً:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، جعلنا الله وإياك من الشاكرين الصابرين. ومن مدة ما جاءنا منك مراسلة، وعادة الإخوان يتفقد بعضهم بعضاً، لا سيما أوقات الفتن التي تموج، وعند الحوادث التي هي على الأكثر تروج.

وأوصيك بتقوى الله تعالى، والقوة في دينك، ونشر العلم، خصوصاً في كشف الشبهة التي راجت على من لا بصيرة له، ولم يفرق بين البغاة والمشركين، ولم يدر أن نصر من استنصر من أهل الملة على أهل الشرك، واجب على أهل الإيمان والدين، قال تعالى فيمن ترك الهجرة:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] .

ومن عقيدة أهل السنة: أن الجهاد ماض مع كل إمام بر أو فاجر إلى يوم القيامة. واكتب لي جواباً يكون عوناً على البر والتقوى، وردعاً لأهل الجهل والهوى.

ص: 409

[التساهل في الإنكار]

وله أيضاً:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى زيد بن محمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وما ذكرت من حال أكثر الناس، وأنهم دخلوا في الفتنة، ولا أحسنوا الخروج منها، فالأمر كما وصفت؛ ولكن ذكر الحافظ الذهبي أن حسيناً الصائغ قال للإمام أحمد: سألت أبا ثور عن اللفظية، فقال: مبتدع، فغضب أحمد وقال: اللفظية جهمية من أهل الكلام، ولا يفلح أهل الكلام، أو كما قال. فأنكر على أبي ثور، التساهل في الإنكار، ورأى أن تعظيم الأمر والنهي، يقتضي غير ذلك، من ذكر أوصافهم الخاصة الشنيعة، والغلظة في كل مقام بحسبه. وفتنة البغي فتح باب الفتنة بالشرك والمكفرات، ووصل دخنها وشررها، جمهور من خاض فيها، من منتسب إلى العلم وغيره؛ والخلاص منها عزيز، إلا من تداركه الله ورده إلى الإسلام، ومنّ عليه بالتوبة النصوح، وعرف ذنبه.

ص: 410

[تحريم السفر إلى بلاد المشركين]

وقال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فالواجب على المؤمن: رد ما تنازع فيه الناس، إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون الله إلهه ومعبوده، والرسول إمامه ومتبوعه، وأن يرغب في الحق ويلزمه، ويعض عليه بالنواجذ، وإن رغب عنه الأكثرون، ويحذر الباطل ويجتنبه، وإن رغب فيه الأكثرون؛ فمن عرف الحق وقبله وعمل به سعد، ومن اغتر بالكثير غوى وبعد.

ومن أعظم الواجبات على المؤمن: محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وكذلك ما يحبه من الأشخاص، كالملائكة، وصالح بني آدم، وموالاتهم، وبغض ما يبغضه الله، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، وبغض من فعل ذلك. فإذا رسخ هذا

ص: 411

الأصل في قلب المؤمن، لم يطمئن إلى عدو الله، ولم يجالسه ولم يساكنه، وساءه النظر إليه.

فلما ضعف هذا الأصل، في قلوب كثير من الناس واضمحل، صار كثير منهم مع أولياء الله، كحاله مع أعداء الله، يلقى كلاً منهم بوجه طلق، وصار بلاد الحرب كبلاد الإسلام، ولم يخش غضب الله الذي لا تطيق غضبه السماوات والأرض، والجبال الراسيات.

ولما عظمت فتنة الدنيا، وصارت أكبر همهم، ومبلغ علمهم، حملهم ذلك على التماسها وطلبها، ولو بما يسخط الله، فسافروا إلى أعداء الله في بلادهم، وخالطوهم في أوطانهم، ولبس عليهم الشيطان أمر دينهم، فنسوا عهد الله وميثاقه الذي أخذ عليهم، في مثل قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] ، ونسوا ما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه عند البيعة، فكان يأخذ على أحدهم:"أن لا ترى نارك نار المشركين، إلا أن تكون حرباً لهم"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:" من جامع المشرك وسكن معه، فهو مثله "1.

وقد سئل أبناء شيخ الإسلام، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم: عن السفر إلى بلاد المشركين للتجارة؟

فأجابوا بما حاصله: أنه يحرم السفر إلى بلاد المشركين، إلا إذا كان المسلم قوياً له منعة، يقدر على

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 412

إظهار دينه، وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من موادتهم، والركون إليهم، واعتزالهم؛ وليس فعل الصلوات فقط إظهاراً للدين.

وقول القائل: إنا نعتزلهم في الصلاة، ولا نأكل ذبيحتهم حسن، لكن لا يكفي في إظهار الدين وحده، بل لا بد مما ذكر.

وقول القائل: إنهم لا ينكرون علينا، قول فاسد، وإنكارنا على من يظن به الخير، ومن يخالطهم يخاف عليه، إن سلم من الردة لا يسلم من الكبيرة الموبقة. وأما من يظن به موادة الكفار وموالاتهم، ويظن به أنه يرى أنهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، فليس للكلام معه كبير نفع، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وقد ألزم الله المؤمنين أن يأخذوا ما آتاهم الرسول، وينتهوا عما نهاهم عنه، وكان الصحابة، رضي الله عنهم، شديداً حذرهم عما حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم. فمن ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أقسم أن لا يظله سقف هو وقاطع رحم، حذراً من قوله صلى الله عليه وسلم:" ولا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم "، فكيف بمن جالس كافرا، أو واكله، وألان له الكلام؟! ويذكر عن عيسى عليه السلام، أنه قال:"تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضى الله بسخطهم".

ص: 413

فإذا كان هذا مع أهل المعاصي، فكيف بالمشركين والكافرين والمنافقين؟ قال الله تعالى:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [سورة هود آية: 113] . قال أبو العالية: "لا تميلوا إليهم كل الميل، في المحبة ولين الكلام؛ فتوعد سبحانه بمسيس النار، من ركن إلى أعدائه ولو بلين الكلام".

وإن الله تعالى فرض على عباده جهادهم، والغلظة عليهم، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية [سورة التوبة آية: 73]، وقال تعالى لما ذكر حال المنافقين:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [سورة النساء آية: 63]، قال بعض المفسرين: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المنافقين، وإغلاظ القول عليهم، وأن لا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهراً عابساً، متغيراً من الغيظ.

فإذا كان هذا مع المنافقين الذين بين أظهر المسلمين، يصلّون معهم ويجاهدون معهم، ويحجون، فكيف بمن يسافر إلى المشركين، وأقام بين أظهرهم أياماً وليالي، واستأذن عليهم في بيوتهم، وبدأهم بالسلام، وأكثر لهم التحية، وألان لهم الكلام، وليس له عذر إلا طلب العاجلة، ولم يجعل الله الدنيا عذراً لمن اعتذر بها.

ص: 414

قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24]، وقال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [سورة الأعلى آية: 16-17]، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [سورة الشورى آية: 20]، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 18]، وقال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، في الحديث الطويل الذي قال فيه:" ولا يحملكم الشيطان باستبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ". ولما نهى الله سبحانه عن حمل المشركين إلى بيته، وعلم من خلقه الاعتذار بالحاجة، قال:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [سورة التوبة آية: 28] ، فلم يعذر الله بالفقر والحاجة إلى ما في أيديهم، وأخبر أنه الرزاق ذو القوة المتين.

والموجب لهذه النصيحة: الشفقة عليكم، مخافة أن

ص: 415

توادوهم فتكونوا مثلهم؛ والكلام في هذا مع مؤمن عاقل، يخاف مقام ربه وينهى نفسه عن هواها، وأما المنافق والمرتاب، ومن يرد الله فتنته، فالله له بالمرصاد، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء آية: 88-89] .

فالواجب على العاقل الناصح لنفسه: النظر في أمره، والفكرة في ذنوبه، ومجاهدة نفسه على التوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالعمل الصالح، وتقديم محبة الله على جميع المحاب، وإيثار مرضاته على حظوظ النفس؛ فإن كل شيء ضيعه ابن آدم، ربما يكون له منه عوض، فإن ضيع حظه من الله، لم يكن له عوض. وقد خاب من كان حظه من الله دنيا يحتلب درها، والخاسر من خسر دينه، وإن أفاد في دنياه.

نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يأخذ بنواصينا إليه، وأن يلزمنا كلمة التقوى، وأن يجعلنا من أهلها، وصلى الله على محمد.

ص: 416

[الهجرة من بلاد المشركين]

وله أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من حمد بن عتيق، إلى الأخ: عبد الله بن صالح، أصلح الله له الشأن، وهداه للإسلام والإيمان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد، فنحمد الله الذي لا إله إلا هو، ولا رب سواه، ونسأله أن يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم. ووصل إلينا كتابك، وفهمنا مضمون خطابك، وإن كان في صدره ما لا يليق، ولم يصدر عن عين تحقيق؛ وقد علمت ما في مدح الإنسان في وجهه من الذم، وإن كان بحق، فكيف إذا كان بغير ذلك؟

ثم إن في خطابك طلب المشورة مني، بالانتقال من بلادك، فأقول: اعلم: أن الله سبحانه وبحمده، بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحنيفية ملة إبراهيم، وأمره باتباعها بقوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة النحل آية: 123] ، وأمره بالتصريح لمن تركها، بأنه لازم لها، وبريء ممن خالفها، بقوله:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] .

ص: 417

بل أمره الله: أن يصرح بكفر الكافرين، وبراءتهم من الدين، بقوله:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 1-3] . وأمثال هذا في القرآن كثير.

وبالجملة: فأصل دين جميع الرسل، هو القيام بالتوحيد، ومحبته ومحبة أهله، وموالاتهم، وإنكار الشرك، وتكفير أهله، وبغضهم، وإظهار عداوتهم، كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، ومعنى قوله:{وَبَدَا} أيك ظهر وبان؛ والمراد التصريح باستمرار العداوة والبغضاء لمن لم يوحد ربه. فمن حقق ذلك علماً وعملاً، وصرح به حتى يعلمه منه أهل بلده، لم تجب عليه الهجرة من أي بلد كان.

وأما من لم يكن كذلك، بل ظن أنه إذا تُرك يصلي ويصوم ويحج، سقطت عنه الهجرة، فهذا جهل بالدين، وغفول عن زبدة رسالة المرسلين؛ فإن البلاد إذا كان الحكم فيها لأهل الباطل عباد القبور، وشربة الخمور، وأهل القمار، فهم لا يرضون إلا بشعائر الشرك، وأحكام الطواغيت، وكل موطن يكون كذلك، لا يشك من له أدنى ممارسة للكتاب والسنة، أن أهله على غير ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 418

فليتأمل العاقل، وليبحث الناصح لنفسه عن السبب الحامل لقريش على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة، وهي أشرف البقاع؛ فإن من المعلوم: أنهم ما أخرجوهم إلا بعد ما صرحوا لهم بعيب دينهم، وضلال آبائهم، فأرادوا منه صلى الله عليه وسلم الكف عن ذلك، وتوعدوه وأصحابه بالإخراج. وشكا إليه أصحابه شدة أذى المشركين لهم، فأمرهم بالصبر والتأسي بمن كان قبلهم ممن أوذي، ولم يقل لهم: اتركوا عيب دين المشركين، وتسفيه أحلامهم. فاختار الخروج بأصحابه، ومفارقة الأوطان، مع أنها أشرف بقعة على وجه الأرض. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا} [سورة الأحزاب آية: 21] ، {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [سورة النساء آية: 100] . نعم، إن كانت ولاية أهل الإسلام عليكم ضافية، وأوامرهم فيكم نافذة، وأيدي أهل الشرك والضلال عنكم قاصرة، ولم يبق إلا جفاء في الفروع، وتقصير في بعض الواجبات، ونحو ذلك، ففي مثل هذه الحال، قد تكون الهجرة مستحبة في حق بعض الناس; فإن كان في إقامة الإنسان تخفيف للشر، وتكثير للخير، فربما يترجح في حقه الإقامة، إذا لم يخف على دينه من الفتن. وبما ذكرناه يظهر للمتأمل ما يصلح دينه، والسلام.

ص: 419

وسئل، رحمه الله: إذا كان الرجل يتهم بالركون إلى الكفار، هل تجوز مجالسته، ومحادثته، أو لا؟

فأجاب: قد حرّم الله تعالى في كتابه الركون إلى الذين ظلموا، فإذا كان الركون ظاهراً معلوماً، فلا يجوز للمؤمن أن يتخذ الراكن جليساً; وأما محادثته، فإن كانت لنصيحته ودعوته إلى الله، ونهيه عن هذا المنكر، فهذه لا بأس بها، بل هي طاعة لله تعالى، وجهاد في سبيله. وأما محادثته صاحباً وخليلاً، فذلك لا يجوز، وهو من القوادح في الدين. وأما إذا لم يكن الركون ظاهراً، وليس إلا مجرد تهمة لا دليل عليها، فلا يجوز هجر المسلم لأجل ذلك، والله أعلم.

ص: 420

[حكم هجر ونفي من زل ثم تاب]

وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد اللطيف، إلى جناب الإخوان الكرام، وفقهم الله للبصيرة والإيمان؛ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، موجب كتابي لكم: ما يبلغني عنكم، من الشر الوخيم، والفعل الذميم، وهو: أنه إذا أخطأ أحد من المسلمين أو من الإخوان، أو زل زلة، وأظهر الندم والتوبة، ورجع إلى إخوانه، أنكم تنفونه، وتأمرون بهجره؛ هذه من سنن ابن بطي الخبيثة، والله سبحانه وبحمده يدعو عباده إلى التوبة، ويقبل منهم، قال تعالى:{أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة آية: 74]، وقال تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة الفرقان آية: 70]، وقال تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [سورة النساء آية: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم:" كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون " 1، وقال صلى الله عليه وسلم لما قيل له: قاتل الله فلاناً، لما رأوه يجلد في شرب الخمر:" لا تعينوا الشيطان على صاحبكم ".

1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2499)، وابن ماجة: الزهد (4251) ، وأحمد (3/198)، والدارمي: الرقاق (2727) .

ص: 421

والموجب لهذا: فعلكم مع فلان لما تاب وأراد المنزل نفرتموه، ولا خفتم سوء الخاتمة، ولا سألتم الله الثبات، ومن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه. وأيضاً، البلدان، الأمر فيها لله ثم لولي الأمر، كيف تبدرون بأمر بدون مراجعته وأمره؟ والذي يأمركم بهذا، حقيقة أمره أنه يأمركم بخروجكم عن الطاعة، فأنتم اعرفوا ربكم، واعرفوا أنفسكم، الذي ما يقبل توبة أخيه المسلم، ولا يقبل اعتذاره، لا يقبل الله توبته، ولا يقيل عثرته، قال الله تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [سورة المؤمنون آية: 71] . لا تعرضوا عن القرآن وأحكامه، وتأخذوا بضلال ابن بطي وأتباعه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وسئل: عن الفرق بين الموالاة، والتولي؟

فأجاب: التولي كفر يخرج من الملة، وهو كالذب عنهم، وإعانتهم بالمال والبدن والرأي، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب، كبل الدواة، أو بري القلم، أو التبشش لهم، أو رفع السوط لهم.

ص: 422

وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: هل للهجر حد

إلخ؟

فأجابا: أما الهجر لأجل الدين، فليس له حد محدود، بل هو بحسب المصلحة الراجحة؛ وقد اختلف العلماء في حده، كما هو مبسوط في فتح الباري، على قصة الثلاثة الذين خلفوا عام تبوك. والصحيح أنه لا حد له، والله أعلم.

[عداوة وهجر من سافر إلى بلاد الكفار]

وسئل الشيخ حمد بن عبد العزيز، رحمه الله تعالى: ما قولكم فيمن يسافر من المسلمين إلى بلاد الشرك، هل تجب عداوته وهجره، أم لا؟

فأجاب: الحمد لله. المسافر إلى بلاد الشرك قسمان:

قسم يستوطنون بلاد المشركين، فهؤلاء إذا لم يظهروا دينهم بالبراءة من دين المشركين، وتكفيرهم، حكمهم حكمهم، وفيهم قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: في صف المسلمين وفريقهم، أم في صف المشركين وفريقهم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] ، فردت عليهم الملائكة:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97]، والأرض الواسعة إذ ذاك: المدينة، وفيها ثلاث محال من اليهود كفار لم يسلموا.

قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [سورة النساء آية: 97-98] . صح أن

ص: 423

الصحابة قالوا: قتلنا إخواننا. فأنزل الله هذه الآية. وفي هذا الضرب، قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله " 1، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين "2. وفيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين" 3 الحديث؛ فهؤلاء تجب عداوتهم وهجرهم.

الضرب الثاني: من يسافر إلى بلاد المشركين للتجارة، ويرجع إلى بلده في المسلمين، فهؤلاء قسمان أيضا: قسم ينزه دينه عن الصلاة وراء أئمتهم، ولا يأكل ذبحهم، ولا يركن إليهم بالمودة ولين الكلام، ويكفرهم، ولا يسلم عليهم، فهذا لا يعادى ولا يهجر، لأن بعض الصحابة سافر، ودخل بلاد الشرك للتجارة. والقسم الثاني: من يسافر إليهم، ويعتقد إسلامهم، وربما فضلهم على المسلمين، فهذا له حكم هذه الآية:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} الآية [سورة النساء آية: 51-52] . وهذا يوجد من كثير، يفضل أهل الشرك، ويجادل عنهم، فهذا تجب عداوته وهجره.

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

2 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

3 ابن ماجة: الفتن (3952) ، وأحمد (5/278) .

ص: 424

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [سورة المائدة آية: 51]، وقال تعالى:{تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة آية: 80-81]، وقال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] . وما أكثر هذا الضرب في الناس! فإنه يعاقب بالطبع على قلبه، حتى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، بل تراه كالمنافقين الذين قال الله فيهم:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} الآية [سورة التوبة آية: 67] . ومن تدبر الكتاب والسنة، عرف ذلك. وأكثر الناس يتعصب لأهل الباطل، إما لأجل دنيا أو رياسة أو قرابة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما ذئبان جائعان أرسلا في غنيمة، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه "1. والفقيه الذي ينزل نصوص الكتاب والسنة على الواقع، فينفذ الحكم فيهم على وفق النص، ولا يقدم عادة الناس أو حظوظ نفسه، أو الخوف من أذاهم، فيداهن في دين الله فيهلك مع الهالكين; والله المستعان، وعليه التكلان، وهو

1 الترمذي: الزهد (2376) ، وأحمد (3/456، 3/460)، والدارمي: الرقاق (2730) .

ص: 425

حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على خاتم النبيين وإمام المرسلين محمد، وآله وصحبه وسلم.

[الهجرة من بلاد المشركين]

وسئل: عن الهجرة من بلاد المشركين؟

فأجاب: الهجرة من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام، فرض واجب بنص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة؛ وقد فرضها الله على رسوله وأصحابه، قبل فرض الصوم والحج، كما هو مقرر في الأصول والفروع.

ولما تثاقل أناس ممن أسلم، وأخرجتهم قريش معهم يوم بدر، فقُتل من قُتل منهم، حزن الصحابة، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] يعني: في فريق المسلمين وصفّهم، أم في فريق المشركين وصفّهم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97] ، يعنون: أخرجنا كرهاً. قالت الملائكة رداً عليهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] ، ولم يكن إذ ذاك دار هجرة غير المدينة، وفيها ثلاث محال كبار من اليهود، قبل أن يجلَوْا منها، وهي إذ ذاك أضيق البلاد عيشاً، ورمتهم العرب عن قوس العدوان، ومع ذلك سماها الله سبحانه أرضاً واسعة. وقال تعالى في سورة "التوبة" وهي من آخر ما نزل فيمن شح بمحبوبات الدنيا، وترك لأجلها الهجرة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ

ص: 426

وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة آية: 24] .

ولا يفسق إلا بترك واجب، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 1، وقال:" من جامع المشرك وسكن معه، فهو مثله "2. فهذه مسألة هي من أصول الشريعة المحمدية، وليست من مسائل الخلاف، بل هي مجمع عليها، ولا ينازع فيها إلا ضال أضل من حمار أهله، ولكن من خالط المشركين، وأقام بين أظهرهم، عوقب بمثل هذا الزيغ، نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومن مضلات الفتن.

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

2 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 427

[رد زعم من قال أن الهجرة من بلاد الكفر ليست واجبة]

وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وفقه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

من محمد بن عبد اللطيف، إلى عبد الله بن علي الزحيفي، سلام على عباد الله الصالحين. أما بعد، فقد بلغنا عنك شبهة عظيمة، وزلة وخيمة، لا تكاد تصدر ممن يدعي أنه من المسلمين، وذلك أنك تزعم أن الهجرة ليست بواجبة، بل هي مستحبة، أو أنها منقطعة على الدوام، مستدلاً على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد وني ة"1. فليس الأمر كما زعمت، ولا ما إليه جنحت وقصدت، بل لم تفهم المراد من الحديث، والمقصود منه؛ ولكن لما غلب على قلبك من الهوى ومخالفة الحق، وما طبع عليه من الرين، بعدم الفرق بين القبيح والشين، واستحباب الحياة الدنيا وإيثارها على الآخرة، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.

فإن معنى الحديث: أن مكة لما صارت بلد إسلام، ومعقل إيمان، لم تكن الهجرة منها واجبة; وأما إذا كانت البلاد مكة فما دونها، بلاد كفر ومحل شرك، فالهجرة منها

1 البخاري: الجهاد والسير (2783)، ومسلم: الحج (1353)، والترمذي: السير (1590)، والنسائي: البيعة (4170)، وأبو داود: الجهاد (2480) ، وأحمد (1/226، 1/315، 1/355)، والدارمي: السير (2512) .

ص: 428

واجبة متعينة، على كل من له قدرة، بنص الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحنيفية والملة، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97] .

قال ابن كثير في تفسير الآية: هذه الآية دالة على وجوب الهجرة، عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: بترك الهجرة، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: لِم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة؟ ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، أي: لا نقدر على الخروج ولا الذهاب في الأرض. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 97-99] . انتهى.

وقال البيضاوي: الآية دالة على وجوب الهجرة، ففي الحديث:"من فر بدينه من أرض إلى أرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم عليه السلام، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم". انتهى. وقال ابن حجر في فتح الباري: قال البخاري، رحمه الله تعالى: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك

ص: 429

كحكمها، فلا تجب الهجرة من بلدة قد فتحها المسلمون.

أما قبل فتح البلد، فمن بها أحد ثلاثة أقسام:

الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة.

الثاني: قادر على الهجرة، يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فالهجرة منها مستحبة، لتكثير سواد المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.

الثالث: عاجز بعذر من أسْر، أو مرض، أو غير ذلك من الأعذار، فهذا ممن عذر الله، فتجوز له الإقامة; فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أجر. انتهى كلامه. فانظر إلى قوله: لكنه يمكنه إظهار دينه، فإنه إذا حصل منه ذلك، لم تكن الهجرة واجبة في حقه، بل مستحبة، لأجل ما ذكره، رحمه الله؛ ولكن هذا القسم الثاني عزيز الوجود، فالله المستعان.

وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله، في العقد الثمين: وقد زعم قوم أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والإيمان، ليست واجبة، ولا متعينة في هذه الأزمان، وأن محكم عقدها مفسوخ، ووجوبها المستمر منسوخ، متمسكين من الدليل بما لا يروي الغليل، ولا يشفي القلب العليل، وذلك ظاهر قول خير البرية:" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية " 1، وظاهر حديث: " المهاجر من

1 البخاري: الجهاد والسير (2783)، ومسلم: الحج (1353)، والترمذي: السير (1590)، والنسائي: البيعة (4170)، وأبو داود: الجهاد (2480) ، وأحمد (1/226، 1/315، 1/355)، والدارمي: السير (2512) .

ص: 430

هجر ما نهى الله عنه " 1؛ وليس الأمر كما زعموا، ولا المعنى كما فهموا، بل ليس الأمر كما جزموا به وحكموا، وإنما المراد المقصود، والمنهج المسدود: الهجرة من مكة إلى المدينة، بعد فتحها للمسلمين، وزوال أوثان المشركين، وإضاءة أرجائها بأنوار الدين، ورفع قواعد التوحيد، وقصم كل جبار عنيد، لأن الله تعالى قد بدل الحال، والمحذور فيها قد زال، والمهاجرة منها تؤدي إلى الإحلال بأم القرى والتعطيل؛ فسد بعد ماضي تلك الحكمة وذلك السبيل.

وأما الهجرة من بلدان المشركين والكفار، وعدم السكن معهم والاستقرار، إلى ما للمسلمين من الديار، حيث لا يمكن إقامة دين للموحدين، ولا إظهار ولا تعزيز للإسلام ولا انتصار، فحكمها إلى الآن ثابت الوجوب، والإلزام، مستمر على مر السنين والأعوام، كما صرح بذلك الأئمة الأعلام؛ والآيات دالة على ذلك، دلالة صريحة، والأحاديث ثابتة صحيحة، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97] . وذكر كلام ابن كثير المتقدم.

وقال أبو داود في سننه، عن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله " 2، قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: هذا الحديث على ظاهره،

1 البخاري: الإيمان (10)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996)، وأبو داود: الجهاد (2481) ، وأحمد (2/192، 2/205، 2/209، 2/212، 2/224) .

2 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 431

وهو: أن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنزل، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر إن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يتولى المشركين.

ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين أقاموا بمكة بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعوا الإسلام، إلا أنهم أقاموا في مكة، يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج، فقُتلوا. فقال الصحابة: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]، فلم يعذر الله منهم إلا المستضعفين. انتهى 1. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين، ما لم تتراءى ناراهما " 2، رواه أبو داود؛ ولو لم يكن إلا هذا الحديث في الاستدلال، لكان كافياً بالمقصود وافياً.

وما أحسن ما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكافية الشافية:

من لم يكن يكفيه ذان فلا كفا

هُ الله شرَّ حوادث الأزمانِ

من لم يكن يشفيه ذان فلا شفا

هُ الله في قلب ولا أبدانِ

من لم يكن يغنيه ذان رماه رَبْـ

ـبُ العرش بالإعدام والحرمانِ

من لم يكن يهديه ذان فلا هدا

هُ الله سبيلَ الحق والإيمانِ

1 وتقدم في صفحة: 164.

2 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

ص: 432

وكذلك تزعم أيضاً أنك تظهر دينك وتسب المشركين، فهذه طامة كبرى ومصيبة عظمى، قد دهى بها الشيطان كثيراً من الناس، من أشباهك وأمثالك؛ فغلطتم في إظهار الدين، وظننتم أنه مجرد الصلوات الخمس، والأذان والصوم وغير ذلك، وأنكم إذا جلستم في بعض المجالس الخاصة، قلتم: هؤلاء كفار، هؤلاء مشركون، وليس معهم من الدين شيء، وأنهم يعلمون أنا نبغضهم، وأنا على طريقة الوهابية، وتظنون أن هذا هو إظهار الدين، فأبطلتم به وجوب الهجرة.

فليس الأمر كما زعمتم، فإن الله سبحانه ذكر في كتابه المرادَ من إظهار الدين، وأنه ليس ما توهمتم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى آخر السورة؛ فأمره أن يقول لهم: إنكم كافرون، وإنه بريء من معبوداتهم، وإنهم بريئون من عبادة الله، وهو قوله:{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3]، وقوله:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] : تصريح بالبراءة من دينهم الذي هو الشرك، وتمسك بدينه الذي هو الإسلام؛ فمن قال ذلك للمشركين ظاهراً، في مجالسهم ومحافلهم وغشاهم به، فقد أظهر دينه. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ

ص: 433

دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4] .

قال شيخنا حمد بن عتيق، رحمه الله: فأخبر الله تعالى عن جميع المرسلين، أنهم تبرؤوا من الشرك والمشركين، فإن معنى قوله:{وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: من المرسلين، وقوله:{وَبَدَا} أي: ظهر وبان؛ وهذا هو الواجب: أن تكون العداوة والبغضاء ظاهرة، يعلمها المشركون من المسلم، وتكون مستمرة. انتهى.

وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] ، فذكر له البراءة من معبوداتهم، وتصريحه بالتوحيد في قوله:{فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104] ، فذكر أنه لا يعبد إلا الله، وأنه من المسلمين الذين هم أعداء لهم، وأن الله أمره أن يكون حنيفاً، وحذره أن يكون من المشركين; هذا معنى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الآية، رحمه الله.

فمن صرح لهم بذلك، فقد أظهر دينه وصرح بالعداوة؛ وهذا هو إظهار الدين، لا كما يظن الجهلة، من أنه إذا تركه الكفار، وخلوا بينه وبين أن يصلي، ويقرأ القرآن، ويشتغل بما شاء من النوافل، أنه يصير مظهراً لدينه. هذا غلط فاحش؛ فإن من يصرح بالعداوة للمشركين، والبراءة منهم، لا يتركونه بين أظهرهم، بل إما

ص: 434

قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، كما ذكره الله عن الكفار. قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة إبراهيم آية: 13] ، وقال، إخباراً عن قوم شعيب:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة الأعراف آية: 88] . وذكر عن أهل الكهف، أنهم قالوا:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] . وهل اشتدت العداوة بين الرسل وقومهم، إلا بعد التصريح بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم؟

وقال شيخ الإسلام والمسلمين، محيي ما اندرس من الملة والدين، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في ستة المواضع التي من السيرة النبوية: أنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] . انتهى. فصرح الشيخ، رحمه الله، بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالتصريح للمشركين بالعداوة والبغضاء. وتأمل ما استدل به على ذلك، تجد الأمر واضحاً بحمد الله، ولكن كما قيل

ص: 435

شعراً:

فيا لك من آيات حق لو اهتدى

بهن مريد الحق كن هواديا

ولكن على تلك القلوب أكنة

فليست وإن أصغت تجيب المناديا

وأنت لم تكتف بمجرد إقامتك بين أظهر المشركين، وانتقالك إليهم، بل آل بك الأمر إلى المجادلة والمخاصمة، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} الآية [سورة غافر آية: 56]، وقال تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الآية [سورة غافر آية: 5] .

وأنت قد عهد منك في سابق الأمر: الشدة، والغلظة على من تولى المشركين، وركن إليهم، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8] . فتب إلى ربك واستغفر من ذنبك، وهاجر إلى الله والدار الآخرة، بالأجر العظيم والفضل العميم.

نسأل الله لنا ولإخواننا الثبات على الإسلام، ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. والله أسأل أن ينصر دينه، وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.

ص: 436

وسئل أيضاً: الشيخ محمد بن عبد اللطيف، أقامه الله مناضلاً عن الدين الحنيف: رجلان تنازعا في السلام على الرافضة والمبتدعين، ومن ضاهاهم من المشركين، وفي مواكلتهم ومجالستهم: فقال أحدهما: هو جائز، لقول عالم: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون; ووفد على عمر بن عبد العزيز، كثير عزة، وهو متهم بالتشيع، ورسول عمر وفد على جبلة الغساني بعد ردته. وقال الآخر: لا يجوز، لدليل آيات الموالاة، ولقوله تعالى:{وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [سورة طه آية: 47] ، والسلام على عباد الله الصالحين، وأن ترك السلام على الفاسق وأهل المعاصي سنة، وهؤلاء أشر حالاً وعقيدة منهم.

فأجاب: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، كالمبتدعة، والمشركين. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، محمد وآله وصحبة والتابعين.

أما بعد، فقد سألني من لا تسعني مخالفته، عن هذا السؤال المذكور أعلاه، بما عليه أهل التحقيق من أئمة الاسلام والهداة الأعلام، وما نعتقده في ذلك وندين الله به؟ فنقول: اعلم، وفقنا الله وإياك، لما يحب ويرضى، أنه لا يستقيم للعبد إسلام ولا دين، إلا بمعاداة أعداء الله ورسوله،

ص: 437

وموالاة أولياء الله ورسوله، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} [سورة التوبة آية: 23]، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 139]، وقال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [سورة المجادلة آية: 22] .

وقال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود آية: 113] ، قال ابن عباس، رضي الله عنهما:"لا تميلوا إليهم في المودة ولين الكلام"، وقال أبو العالية:"لا ترضوا بأعمالهم"، وقال بعض العلماء: من مشى إليهم ولم ينكر عليهم، عد من الراكنين إليهم.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1]، وقال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . فالواجب على من أحب نجاة نفسه وسلامة دينه، أن يعادي من أمره الله ورسوله بعداوته، ولو كان أقرب قريب، فإن الإيمان لا يستقيم إلا بذلك والقيام به، لأنه من أهم

ص: 438

المهمات، وآكد الواجبات.

إذا عرفت هذا، فمواكلة الرافضي، والانبساط معه، وتقديمه في المجالس، والسلام عليه، لا يجوز، لأنه موالاة وموادة، والله تعالى قد قطع الموالاة، بين المسلمين والمشركين، بقوله:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [سورة آل عمران آية: 28]، وقال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] . والآيات في المعنى كثيرة كما تقدم.

والسلام تحية أهل الإسلام بينهم، فإذا سلم على الرافضة، وأهل البدع، والمجاهرين بالمعاصي، وتلقاهم بالإكرام والبشاشة، وألان لهم الكلام، كان ذلك موالاة منه لهم. فإذا وادهم، وانبسط لهم، مع ما تقدم، جمع الشر كله، ويزول ما في قلبه من العداوة والبغضاء، لأن إفشاء السلام سبب لجلب المحبة، كما ورد في الحديث:" ألا أدلكم على ما تحابون به؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أفشوا السلام بينكم ". فإذا سلم على الرافضة والمبتدعين، وفساق المسلمين، خلصت مودته ومحبته، في حق أعداء الله وأعداء رسوله. وعن قتادة عن الحسن:"ليس بينك وبين الفاسق حرمة".

ص: 439

وقال الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال النخعي:"لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". فانظر، رحمك الله، إلى كلام السلف الصالح، وتحذيرهم عن مجالسة أهل البدع، والإصغاء إليهم، وتشديدهم في ذلك، ومنعهم من السلام عليهم. فكيف بالرافضة، الذين أخرجهم أهل السنة والجماعة، من الثنتين والسبعين فرقة؟ مع ما هم عليه من الشرك البواح، من دعوة غير الله في الشدة والرخاء، كما هو معلوم من حالهم؛ ومواكلتهم، والسلام عليهم - والحالة هذه - من أعظم المنكرات، وأقبح السيئات، فيجب هجرهم والبعد عنهم. والهجر مشروع لإقامة الدين، وقمع المبطلين، وإظهار شرائع المرسلين، وردع لمن خالف طريقتهم من المعتدين.

قال البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه: باب من لم يسلم على من ارتكب ذنباً، ولم يرد سلامه، حتى تبين توبته، وإلى متى تبين توبة العاصي، قال ابن حجر في الفتح: وابتداء الكفار بالسلام، أجازه طائفة من العلماء، ومنعه طائفة، قال: والحق مع المانعين، إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية. وكذلك أهل البدع والمعاصي المجاهرين بها، يمنع من ابتدائهم بالسلام، والرد عليهم; قال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي والبدع، سنة ماضية، وبه قال كثير

ص: 440

من أهل العلم. وقال النووي: وأما المبتدع، ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه، لا يسلم عليهم، ولا يرد عليهم السلام، كما قاله جماعة من أهل العلم. واحتج البخاري بقصة كعب. انتهى.

فانظر، يا طالب الحق، إلى ما قاله البخاري واستدل به، وإلى قول صاحب الفتح: والحق مع من منع، وإلى قول المهلب، والنووي، ووازن بين أقوالهم، وبين قول من أجازه وأباحه، وجادل عليه، تعرف أنه لا بصيرة له، ولا معرفة له بأصول الشرع، وأقوال العلماء. وأما قول صاحب الفتح: إلا أن يترتب عليه مصلحة دينية، فالمصلحة هي أن يرجى بها إسلام غيره، أو تأليفه أو غير ذلك، وأما المصالح الدنيوية، فلا تترتب عليها الأمور الشرعية، ولا تناط بها أحكامها، ولا تجعل سلماً وذريعة إلى الجمع بين ما فرق الله ورسوله بينهما. وقال البغوي رحمه الله في كتاب السنة: وأما هجر أهل المعاصي، وأهل الريب والبدع في الدين، فيشرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر علامات توبتهم، وأماراتها. وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الهدي النبوي: وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السلام على هؤلاء الثلاثة، يعني: كعباً

ص: 441

وصاحبيه، من بين من تخلف عنه، دليل على صدقهم، وكذب المنافقين؛ فأراد هجر الصادقين، وتأديبهم، على هذا الذنب - إلى أن قال - وفيه دليل أيضاً: على هجران الإمام، والعالم، والمطاع، لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له - إلى أن قال - وفي إشارة الناس للنبطي، الذي يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ دون نطقهم له، تحقيق لمقصود الهجر، وإلا لو قالوا له صريحاً: كعب بن مالك، لم يكن ذلك سلاماً، ولا يكونون به مخالفين للنهي، لكن لفرط تحريهم، وتمسكهم بالأمر، إذ لم يذكروه بصريح اسمه.

وقد يقال: إن في الحديث عنه بحضرته وهو يسمع، نوع مكالمة، لا سيما إذا جعل ذلك ذريعة إلى المقصود بالسلام، وهي ذريعة قريبة، فالمنع من ذلك من باب منع الحيل وسد الذرائع؛ وهذا أحسن وأفقه. انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.

فانظر إلى قوله: وقد يقال إن في الحديث عنه بحضرته، وهو يسمع، نوع مكالمة

إلخ، فإذا كان في ذكره باسمه نوع مكالمة، فكيف بمن ابتدأ المشرك والعاصي والمبتدع بالسلام، وأظهر له الإكرام، وأكثر عنه الجدال والخصام.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وقد سئل عن

ص: 442

الهجر المشروع، ومن يجب هجره أو يجوز هجره، قال في أثناء كلامه: ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً، ويهجر آخرين، وقد يكون المؤلفة قلوبهم أشر حالاً من المهجورين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من المؤلفة قلوبهم، لكن أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، وكانت المصلحة الدينية في تأليفهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، وفي هجرهم عز للدين، وتطهير لهم من ذنوبهم. انتهى كلامه، رحمه الله.

فانظر، أيها المنصف، بعين الإنصاف، واحذر التعصب والاعتساف، إلى ما قاله شيخ الإسلام من أن في هجرهم عزاً للدين، هذا إذا كانوا مسلمين، لكنهم أصحاب معاص واقتراف لبعض الأوزار، فيجب هجرهم واعتزالهم حتى يقلعوا; وأما المشرك والمبتدع، فلا نزاع في هجرهما، ولا خلاف فيه إلا عند من قل حظه ونصيبه من العلم الموروث عن صفوة الرسل، صلوات الله وسلامه عليه.

وقال أيضاً، رحمه الله: ومن كان مبتدعاً ظاهر البدعة، وجب الإنكار عليه؛ ومن الإنكار المشروع: أن يهجر حتى يتوب; ومن الهجر: امتناع أهل الدين من الصلاة عليه، لينزجر من يتشبه بطريقته ويدعو إليها. وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة. انتهى.

ص: 443

وقال البخاري، رحمه الله، في الأدب المفرد: باب لا يسلَّم على الفاسق، وذكر بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:"لا تسلِّموا على شرّاب الخمر"، وذكر بسنده أيضاً عن قتادة عن الحسن:"ليس بينك وبين الفاسق حرمة"، وذكر:"عن أبي رزيق أنه سمع علي بن عبد الله بن عباس ينهى عن الشطرنج، ويقول: لا تسلِّموا على من لعب بها، وهي من الميسر". ثم قال بعد ذلك: باب ترك السلام على المتخلق - يعني بالطيب - وأصحاب المعاصي، وذكر بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم فيهم رجل متخلّق بخلوق، فنظر إليهم وسلّم عليهم، وأعرض عن الرجل. فقال الرجل: أعرضت عني يا رسول الله؟ قال: بين عينيك جمرة من النار ".

وذكر بسنده عن عبد الله بن وائل السهمي، عن أبيه عن جده:"أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب، فأعرض عنه. فلما رأى الرجل كراهيته للذهب ذهب فألقاه، وأخذ خاتماً من حديد فلبسه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار. فرجع فطرحه، ولبس خاتماً من ورق، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكر بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "أقبل رجل من البحرين على النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فلم يرد عليه

ص: 444

السلام، وفي يده خاتم من ذهب، وعليه جبة من حرير. فانطلق الرجل محزوناً، فشكا إلى امرأته، فقالت: لعل برسول الله جبتك وخاتمك، فألقهما ثم اغد عليه. ففعل، فرد عليه السلام، وقال: جئتك وأعرضت عني. قال: كان في يدك جمر من النار ".

ثم قال بعد ذلك: باب إذا سلم على نصراني ولم يعرفه، قال:"مر ابن عمر، رضي الله عنهما، بنصراني فسلم عليه، فرد عليه. فأخبر أنه نصراني، فرجع فقال: رد علي سلامي"، ثم قال: باب يضطر أهل الكتاب في الطريق إلى أضيقه، وذكر بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا لقيتم المشركين فلا تبدؤوهم بالسلام، واضطروهم في الطريق إلى أضيقه ا"1. انتهى.

فتأمل، رحمك الله، ما ذكره هذا الإمام، من الأحاديث والآثار الدالة على وجوب هجر أهل المعاصي، وأن ذلك هو هديه وسنته، فمن أعرض عنهما، ونبذهما وراء ظهره، فقد خاب سعيه وضل عمله؛ فلا نجاة للخلق ولا سعادة، ولا كفاية ولا هداية، إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء به، ورفض ما خالفه، وهجر من نكب عن سنته، وإن كان الحبيب المواتيا. {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر آية: 12] . وفي كتاب محمد بن وضاح، قال: قال أسد بن موسى: جاء في الأثر: من جالس صاحب بدعة نُزعت منه

1 مسلم: السلام (2167)، والترمذي: السير (1602) والاستئذان والآداب (2700)، وأبو داود: الأدب (5205) ، وأحمد (2/525) .

ص: 445

العصمة، ووُكل إلى نفسه. وفي أثر آخر: من جالس صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام. وقال الأوزاعي:"كانت أسلافكم تشتد ألسنتهم على أهل البدع، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم".

وعن الحسن: "لا تجالس صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك"، وقال إبراهيم النخعي:"لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم؛ فإني أخاف أن ترتد قلوبكم". روى هذه الآثار ابن وضاح.

قال إمام الدعوة الإسلامية، وناصر الملة الحنيفية، شيخ الإسلام والمسلمين، شيخنا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه، وطيب ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومأواه: فإذا كان هذا كلام السلف في أهل البدع والضلال، والتحذير عن مجالستهم، مع كون بعضهم لم يخرج ببدعته عن الإسلام، فكيف الحال بمجالسة أهل الكفر، والشرك والنفاق، الذين باينوا أهل الإسلام، وخالفوهم؟ انتهى.

فمن أكرم مَن تلك نحلته، وتلك طريقته، كان دليلاً على عدم فقهه وبصيرته في دين الإسلام، وعدم فرقه بين عابدي الرحمن وعابدي الأوثان، والضدان عنده يجتمعان; فلضعف بصيرته نهج هذا المنهج، وأعرض عن الحق بعد ما اتضح وابلولج، فيخشى عليه أن يحشر يوم القيامة معهم، ويكون من جملتهم، كما كان في الدنيا من أصدقائهم

ص: 446

ومعاشريهم؛ عياذاً بك اللهم من تلك الأحوال والأعمال، التي تؤول بصاحبها إلى الخزي والوبال، وسوء المنقلب في الحال والمآل.

وأكثر الخلق إنما يحمله على الوقوع في تلك الورطات، الحرص على تحصيل الدنيا، والتقرب عند أهلها، وتسليك حاله معهم، ولو فسد عليه دينه، وانهدم إيمانه. نسأل الله العفو والعافية، في الدنيا والآخرة; اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أوحى الله إلى نبي من الأنبياء، أن قل لفلان العابد: أما زهدك في الدنيا فتعجلت به راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت به، فماذا عملت في ما لي عليك؟ قال: يا رب، فما لك عليّ؟ قال: هل واليت لي ولياً، أو عاديت لي عدواً؟ ". وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73]، قال بعض العلماء الفضلاء: الفتنة في الأرض: الشرك، والفساد الكبير: اختلاط المسلم بالكافر، والمطيع بالعاصي؛ فعند ذلك يختل نظام الإسلام، وتضمحل حقيقية التوحيد، ويحصل من الشر ما الله به عليم.

فلا يستقيم الإسلام، ويقوم قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويرتفع علم الجهاد، إلا بالحب في الله

ص: 447

والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ والآيات الدالة على ذلك، أكثر من أن تحصر. وأما الأحاديث، فأشهر من أن تذكر، فمنها: حديث البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعاً: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض فيه"، وعن أبي ذر رضي الله عنه:"أفضل الإيمان: الحب في الله، والبغض فيه"، وفي حديث مرفوع:"اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً ولا نعمة فيودّه قلبي؛ فإني وجدت فيما أوحيته إلي: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] ". وفي الصحيحين، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً:" المرء مع من أحب " 1، وقال صلى الله عليه وسلم:" المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل "2. وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه مرفوعاً: " لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي " 3.

وعن علي رضي الله عنه مرفوعاً: " لا يحب رجل قوماً إلا حُشر معهم " 4، وقال صلى الله عليه وسلم:" تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضى الله بسخطهم، وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم "، وقال عيسى عليه السلام:"تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالبعد عنهم، واطلبوا رضى الله بسخطهم".

وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: "من أحب

1 البخاري: الأدب (6168)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2641) ، وأحمد (1/392، 4/405) .

2 الترمذي: الزهد (2378)، وأبو داود: الأدب (4833) ، وأحمد (2/303، 2/334) .

3 الترمذي: الزهد (2395)، وأبو داود: الأدب (4832) ، وأحمد (3/38) .

4 أحمد (6/160) .

ص: 448

في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان، ولو كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك"؛ يعني: حتى تكون محبته وموالاته لله، وبغضه ومعاداته لله. قال رضي الله عنه:"وقد صارت عامة مواخاة الناس على أمر الدنيا؛ وذلك لا يجدي على أهله شيئاً".

فإذا كان هذا كلام ابن عباس، وهو في خير القرون، فما زاد الأمر بعده إلا شدة، وبعداً عن الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم:" لا يأتي على الناس زمان، إلا والذي بعده شر منه "؛ بل كانت موالاة الناس اليوم، ومحبتهم، ومعاشرتهم، على الكفر والشرك والمعاصي. فليحذر العبد كل الحذر من الانهماك مع أعداء الله، والانبساط معهم، وعدم الغلظة عليهم، أو أن يتخذهم بطناء وأصحاب ولايات، ويستنصح منهم؛ فإن ذلك موجب لسخط الله ومقته.

قال القرطبي، رحمه الله، في تفسيره عند قوله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [سورة آل عمران آية: 118] : نهى الله عباده المؤمنين، أن يتخذوا من الكفار واليهود، وأهل الأهواء والبدع، أصحاباً وأصدقاء، يفوضوا لهم في الرأي، ويسندون إليهم أمورهم. وعن الربيع:{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} : لا تستدخلوا المنافقين، ولا تتولوهم من دون المؤمنين; ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك، لا ينبغي لك أن

ص: 449

تخادنه وتعاشره وتركن إليه.

[حكم الرافضة]

وأما حكم الرافضة - فيما تقدم -، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في الصارم المسلول: ومن سب الصحابة أو أحداً منهم، واقترن بسبه أن جبرئيل غلط في الرسالة، فلا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في كفره. ومن قذف عائشة فيما برأها الله منه، كفر بلا خلاف - إلى أن قال - وأما من لعن أو قبح، يعني: الصحابة، رضي الله عنهم، ففيه الخلاف: هل يفسق أو يكفر؟ وتوقف أحمد في تكفيره، وقال: يعاقب ويجلد ويحبس، حتى يموت أو يتوب.

قال، رحمه الله: وأما من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر، وأنهم فسقوا، فلا ريب أيضاً في كفر قائل ذلك، بل لا ريب في كفر من لم يكفّره. انتهى كلامه، رحمه الله.

فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما الآن، فحالهم أقبح وأشنع، لأنهم أضافوا إلى ذلك: الغلو في الأولياء، والصالحين من أهل البيت وغيرهم، واعتقدوا فيهم النفع والضر، في الشدة والرخاء، ويرون أن ذلك قربة تقربهم إلى الله، ودين يدينون به؛ فمن توقف في كفرهم والحالة هذه، وارتاب فيه، فهو جاهل بحقيقة ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليراجع دينه قبل حلول رمسه. ومن تأمل القرآن، والسنة، وكلام محققي سلف

ص: 450

الأمة، علم يقيناً أن أكثر الخلق إلا من شاء الله، قد أعرضوا عن واضح المحجة، وسلكوا طريق الباطل ونهجه، وجعلوا مصاحبة عباد القبور، وأهل البدع والفجور، ديناً يدينون به، وخلقاً حسناً يتخلقون به، ويقولون: فلان له عقل معيشي، يعيش به مع الناس، ومن كانت له غيرة، ولو قلّت، فهو عندهم مرفوض ومنبوذ، كالأحلاس؛ فما أعظمها من بلية! وما أصعبها من رزية!

وأما حقيقة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الهدى والنور، فعزيز والله من يعرفها أو يدريها؛ والعارف لها من الناس اليوم، كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود، وكالكبريت الأحمر. أين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟ لم يبق إلا رسوم قد درست، وأعلام قد عفت، وسفت عليها عواصف الهوى، وطمستها محبة الدنيا، والحظوظ النفسانية. فمن فتح الله عين بصيرته، ورزقه معرفة للحق وتميزاً له، فلينج بنفسه، وليشح بدينه، ويتباعد عمن نكب عن الصراط المستقيم، وآثر عليه موالاة أهل الجحيم، نسأل الله السلامة والعافية.

وأما مجرد السلام على الرافضة، ومصاحبتهم ومعاشرتهم، مع اعتقاد كفرهم وضلالهم، فخطر عظيم، وذنب وخيم، يخاف على مرتكبه من موت قلبه وانتكاسه; وفي الأثر: إن من الذنوب ذنوباً عقوبتها موت القلوب،

ص: 451

وزوال الإيمان، فلا يجادل في جوازه إلا مغرور بنفسه، مستعبد لفلسه، فمثل هذا يقابل بالهجر، وعدم الخوض معه في هذه المباحث التي لا يدريها إلا من تربى بين يدي أهل هذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وتلقى عنهم أصول دينه، لأن ضدهم لا يؤمن أن يلقي عليك شيئاً من الشُّبه الفاسدة، التي تشكك في الدين، وتوجب لك الحيرة. وما أحسن ما قيل: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.

وأما قول المنازع: إن أخذت فقد أخذ الصالحون، وإن رددت فقد رد الصالحون، فهذا معاكسة وتصحيف؛ ليس الشأن في أخذ الهدية أو ردها، إنما الشأن والنزاع في ابتداء الكفار، والمبتدعين، والعصاة، بالسلام، وعدم النفرة منهم. ولا يستدل بهذا على جواز السلام والمواكلة، إلا من هو جاهل بالأحكام الشرعية، والسيرة النبوية. وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه، وأصحابه من بعده، ومن سلك منهاجهم من الصفوة، يخالف ما استدل به. وقبول الهدية نوع، والسلام نوع آخر: أما الهدية فقد قبلها صلى الله عليه وسلم وقبلها أصحابه، والسلف الصالح من بعدهم، ولا ينكر على من قبل، ولا على من رد، ولو كانت الهدية من مشرك. وأما ترك السلام والهجر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هجر مرتكب الذنب ولم يرد عليه؛، وكذلك في مكاتباته للمشركين، لا

ص: 452

يبدؤهم بالسلام، كما يعرف ذلك من له خبرة بسيرته وهديه، كما مر في الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي لا تحتمل التأويل.

وأما الوفود والرسل، فكانوا يفدون عليه صلى الله عليه وسلم ويعطيهم الجوائز، ويخاطبهم باللين، ويدعوهم بدعاية الإسلام، وهم على كفرهم؛ فلا يستدل بذلك على جواز السلام على المشركين والمبتدعين، ومن يتولاهم من فساق المسلمين، إلا من هو من أجهل الخلق بأصول الشريعة. وأما شيخه الذي يدعي أنه على طريقته، فالمعروف عندنا من أخلاقه وسيرته: الغيرة، والغلظة، والشدة على أعداء الله، وأعداء رسوله، والتحذير منهم، ومن موالاتهم. وأما أنت، أيها المنازع، فالواجب عليك: تقوى الله تعالى، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والاقتداء بالسلف الصالح، والاهتداء بهديهم، وعدم الانبساط مع من هب ودب، لأن الواجب على المنتسب للطلب، والمتزيي بزي أهل العلم، أعظم مما يجب على غيره؛ فليكن لك بصيرة ونهمة بمعرفة أصل الأصول، وزبدة دعوة الرسول، والبحث عما يضاد هذا الأصل وينقضه، أو ينقص كماله الواجب، والوقوف عند أوامر الرب ونواهيه، والبعد عن الرذائل والقبائح، فالحق مرحمة، والجدال والخصام ملحمة. فهذا آخر ما تيسر إيراده، وفيه الكفاية لمن أراد الله هدايته.

ص: 453

وأسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين، التوفيق للهداية، والبعد عن أسباب الجهالة والغواية، والثبات على الإسلام والسنة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا; ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن؛ والله المسؤول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

[الخروج من دار الهجرة بعد النزول فيها لأجل إصلاح المال]

وسئل أيضاً: عن الخارج من دار هجرته بعد ما نزل لأجل تصليح ماله، ونيته الرجوع إلى بلده، هل يكون عاصياً أم لا؟

فأجاب: هذا الخارج لا يطلق عليه أنه عاص لله، ولا يدخل في حكم الوعيد المرتب على من تعرب بعد الهجرة، بل يحب ويوالى، لأن خروجه ليس معصية؛ فيعامل بما يعامل به من لم يخرج من بلده، لأنه من جملة المهاجرين، وليس له نية إلا الرجوع إلى وطنه، والهجرة مع إخوانه، فلا يحكم عليه بردة، بل ولا بمعصية.

الثانية: ما حكم من باع بيته وخرج إلى البادية، وليس من نيته الرجوع والسكنى، وهو ثابت على ما هو عليه من الإسلام، والتزام شرائعه، ومحبة المسلمين؟

ص: 454

فالجواب: أن هذا يكون مرتكباً معصية، ومتعرباً بعد هجرته، وهو داخل في حكم الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، عن علي رضي الله عنه لما عد الكبائر، قال:"التعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة" يعني: جماعة المسلمين، "ونكث الصفقة" يعني: نكث بيعة الإمام؛ فجعل التعرب بعد الهجرة من الكبائر، ولكن لا يكون خروجه وتعربه كفراً ولا ردة، بل هو مسلم عاص، يوالى ويحب، على ما معه من الإيمان، ويبغض على ما معه من المعصية، ولا يعامل بالتعنيف، لأنه بتعربه بعد هجرته لا يدخل في حكم المرتدين، ولا يعامل بما يعامل به المرتد.

[الهجرة من بين ظهراني المشركين وفضلها]

وسئل: عما يقال في الهجرة من بين ظهراني المشركين، من البادية والحاضرة، وفضلها؟ وما الواجب منها؟ وما المستحب؟ وهل بين بادية نجد وغيرهم، كعنزة والظفير ومن والاهم من بادية الشمال والجنوب، إلى ما لا يخفى على المسؤول؟

فأجاب: الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد، وحفظ لإيمانه. وهي أقسام: هجر المحرمات، التي حرمها الله في كتابه، وحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع المكلفين، وأخبر أن من هجرها فقد هجر ما حرمه الله عليه؛ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه:" المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه "1.

1 البخاري: الإيمان (10)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996)، وأبو داود: الجهاد (2481) ، وأحمد (2/192، 2/205، 2/209، 2/212، 2/224) .

ص: 455

وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات، القولية والفعلية.

القسم الثاني: الهجرة من كل بلدة تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر، ويعلن فيها بالمحرمات، والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه، والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد كفرهم، وبطلان ما هم عليه، لكن إنما جلس بين ظهرانيهم، شحاً بالمال والوطن، فهذا عاص، ومرتكب محرماً، وداخل في حكم الوعيد. قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 97-99] ، فلم يعذر الله إلا المستضعف، الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته، إلى غير ذلك من الأعذار. وقال صلى الله عليه وسلم:" من جامع المشرك أو سكن معه، فإنه مثله "1. فلا يقال: إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافراً، بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين، وأخرجوه معهم كرهاً، فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

ص: 456

المال، لا في الكفر؛ وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعاً واختياراً، أو أعانهم ببدنه وماله، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر.

ومن الهجر الواجب أيضاً: الهجرة من بين ظهراني الأعراب المتظاهرين بالكفر والشرك، وارتكاب بعض المحرمات، وهو عاجز عن إظهار دينه، ولا قدرة له على الإنكار عليهم؛ فهذا هجرته فرض إذا قدر عليها، فإن تركها مع قدرته واستطاعته، فحكمه حكم من هو في بلدان المشركين المتقدم ذكرهم; فهؤلاء يعادَوْن ويبغَضون، على ما معهم من المعصية، ويحبون ويوالون على ما معهم من أصل الإسلام. وهجر هؤلاء ومن تقدم ذكرهم، إذا كان فيه مصلحة راجحة، وردع لهم وزجر لأمثالهم، ولم يترتب عليه مفسدة، فهو مشروع. والمسافر إليهم مرتكب أيضاً حراماً، فيهجر بقدر ذنبه. قال علماؤنا: المقيم بين ظهراني المشركين، والمسافر إليهم لأجل التجارة، مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة؛ فعقوبة المقيم أعظم من عقوبة المسافر، وهجر المقيم أغلظ من هجر المسافر، فيعامَلون بالهجر والمعاداة والموالاة، بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية.

وأما الهجرة المستحبة، وهي: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، إذا كان مظهراً لدينه، وقد أمن الفتنة على

ص: 457

نفسه ودينه، فهذا هجرته مستحبة; وكذلك من هو بين ظهراني بعض البوادي الملتزمين لشرائع الإسلام، المتجنبين لما حرمه الله عليهم، من سفك الدماء، ونهب الأموال، وغيرها، ولا يوجد عندهم من يجاهر بالمعاصي، فالهجرة حينئذ من بينهم مستحبة، وفيها فضل عظيم، وثواب جزيل، لتعلّم الخير وإقامة الجمعة، وغير ذلك من المصالح، التي يعرفها مَن نوّر الله وقلبه، ورزقه البصيرة.

وليعلم: أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان، ويبغض ويعادى على ما معه من المعاصي، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة، وزجر وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير، برفق ولطف ولين، لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح، ودرء المفاسد. والله ولي الهداية.

وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق: وأما الانتقال من بلاد الإسلام، إلى بلاد القبوريين، والتحيز إلى جماعة المشركين، وعدم المبالاة في ذلك، فمن المصائب العظام، والدواهي الكبار، التي وقع فيها كثير من الناس، وتساهلوا فيها واستصغروها؛ وخف شأنها عند كثير من الناس، الذين ضعفت بصائرهم في دين الإسلام، وقل نصيبهم من معرفة ما بعث الله به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة، ومن تبعهم من الأئمة الأعلام.

ص: 458

وما زال الأمر بالناس، حتى صار النهي عن ذلك، والكلام في ذمه، وذم من فعله من المستنكر عند الأكثر، وصاروا لا يرون بذلك بأساً، وينسبون من ينهى عنه وينكره على من فعله، إلى الغلو في الدين، والتشديد على المسلمين.

وفي القرآن الكري، والسنة النبوية، ما يدل من في قلبه حياة، على المنع من ذلك؛ وكلام العلماء مرشد إلى ذلك، فإنهم صرحوا بالنهي عن إقامة المسلم بين أظهر المشركين، من غير إظهار دينه، قال تعالى:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} الآية [سورة هود آية: 113]، وقال:{تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 97-99] . قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية: وهذه الآية عامة في كل من أقام بين أظهر المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو مرتكب حراماً بالإجماع، ونص هذه الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة، يعرفها من قرأ القرآن وتدبره.

وفي الأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما دل عليه القرآن، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " من جامع المشرك وسكن

ص: 459

معه، فإنه مثله " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تستضيئوا بنار المشركين " 2، وحديث بهز بن حكيم: " أن تفر من شاهق إلى شاهق بدينك " 3. قال ابن كثير معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوهم، وتهاجروا من بلادهم، ولهذا روى أبو داود فقال: " لا تراءى ناراهما " 4، وفي قصة إسلام جرير، لما قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال: " أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين " 5. وعن عبد الله بن عمرو، أنه قال: "من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت، حُشر معهم يوم القيامة".

وكلام العلماء في المنع من الإقامة عند المشركين، وتحريم مجامعتهم، ووجوب مباينتهم، كثير معروف، خصوصاً أئمة هذه الدعوة الإسلامية، كالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأولاده، وأولادهم، وأتباعهم من أهل العلم والدين؛ ففي كتبهم من ذلك ما يكفي ويشفي من {كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] .

فمن ذلك ما قال الشيخ عبد اللطيف، في بعض رسائله: إن الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر فيها دين الإفرنج والروافض، ونحوهم من المعطلة للربوبية والألوهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام

1 أبو داود: الجهاد (2787) .

2 النسائي: الزينة (5209) ، وأحمد (3/99) .

3 صحيح البخاري: كتاب الصوم (2007) وكتاب أخبار الآحاد (7265)، وصحيح مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (641) وكتاب الصيام (1116) وكتاب الحج (1244) وكتاب الجهاد والسير (1784)، وسنن الترمذي: كتاب الصلاة (199، 312) وكتاب الصوم (761) وكتاب السير (1579)، وسنن النسائي: كتاب القسامة (4801، 4853) وكتاب الأشربة (5747)، وسنن أبي داود: كتاب الجهاد (2629) وكتاب الديات (4541)، وسنن ابن ماجة: كتاب الطهارة وسننها (278) وكتاب الديات (2630) وكتاب الفرائض (2746) وكتاب الفتن (4030) ، ومسند أحمد (1/41، 1/278، 1/342، 2/176، 2/178، 2/217، 3/268، 4/48، 5/38، 5/231، 5/326)، وسنن الدارمي: كتاب المقدمة (649) وكتاب الديات (2352) .

4 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

5 البخاري: الزكاة (1396)، ومسلم: الإيمان (13)، والنسائي: الصلاة (468) ، وأحمد (5/417، 5/418) .

ص: 460

والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم - والحالة هذه - لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؛ فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة، قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين.

وذلك يتضمن من محبة الله وإيثار مرضاته، والغيرة لدينه والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة كل البراءة، والتباعد كل التباعد، عمن تلك نحلته، وذلك دينه؛ بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات. انتهى كلامه، رحمه الله 1.

[الإقامة في بلدان المشركين من المنتسبين للإسلام]

وأما السؤال: عن حكم المقيم في بلدان المشركين، من المنتسبين إلى الإسلام، فهذا الجنس من الناس مشتركون في فعل ما نهى الله عنه ورسوله، إلا من عذره القرآن، في قوله:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} ؛ ثم هم مختلفون في المراتب، متفاوتون في الدرجات، بحسب أحوالهم، وما يحصل منهم من موالاة المشركين والركون إليهم، فإن

1 وتقدم في صفحة: 355.

ص: 461

ذلك قد يكون كفراً، وقد يكون دونه، قال تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 132] .

وما ذكرت من إعراض الناس عما كان عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسائل، فالأمر فوق ما وصفت؛ وهذا غير مستنكر في هذا الزمان، الذي قل فيه العلم، وفشا فيه الجهل، وتزاحمت فيه الفتن، وقل فيه العمل بالسنة والكتاب، واشتدت فيه غربة الدين، ووقع ما أخبر به الصادق الأمين، وصار كثير من الناس لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما اعتادوه وألفوه، إنا لله وإنا إليه راجعون.

وهذا زمان الصبر من لك بالتي

كقبض على جمر فتنجو من البلا

ولو أن عيناً ساعدت فتأكفت

سحائبها بالدمع ديما وهطّلا

ولكنها لقسوة القلب أقحطت

فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا

ص: 462

[وجوب الهجرة والمعاداة]

وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه المنان:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فاعلم، وفقني الله وإياك، لسلوك الطريق الأقوم، أن الله سبحانه أوجب على العبد الهجرة من ديار المشركين، والبعد عنهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، وأوجب عليه معاداتهم، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بذلك، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26-27] وقال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48]، وقال تعالى:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 49] .

وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، فهذه هي ملة إبراهيم، التي قال الله فيها {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] . فعلى المسلم أن يعادي

ص: 463

أعداء الله، ويظهر عداوتهم، ويتباعد عنهم كل التباعد، وأن لا يواليهم، ولا يعاشرهم، ولا يخالطهم؛ وكيف يسوغ عند من نصح نفسه، وكان لها عنده قدر وقيمة، جواز الإقامة والسفر إلى بلاد المشركين من هذه الأمصار، التي قد شاع وذاع، وتقطعت به الأسماع، أنهم يقصدون قبور الصالحين، وكذلك المجاذيب وغيرهم؟

ويجتمعون في الموالد المخترعة المبتدعة، كمولد أحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، والرفاعي، والست زينب، والست نفيسة، وعبد القادر، والكاظم، وحمزة، وغيرهم، فيتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت الأسحار.

ومنهم: من يسجد لها، فهم يعبدون أصحابها بدعائهم، ورجائهم، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصرة والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وبذل النذور لجلب ما أملوه، ودفع الشرور، مع اتخاذ قبورهم أعياداً، والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترباتها، وغير ذلك من أنواع العبادات والطلبات، التي كان عليها عباد الأوثان، يسألون أوثانهم ليشفعوا لهم عند مليكهم.

وهؤلاء المشركون إذا رأوا قبته من مكان بعيد، نزلوا عن الدواب، واستقبلوا بدعائهم والنحيب، ووضعوا لها

ص: 464

الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت الأصوات بالضجيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوه، ولكن من مكان بعيد، حتى إذا وصلوا إليه، صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد حازوا من الأجر كمن صلى القبلتين.

فهم حول القبر ركعاً وسجداً، يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسراناً؛ فللشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرفع بالدعاء من الأصوات، ويطلب من الميت أنواع الحاجات، ويسأل منه تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة أولي العاهات والبليات.

ثم انبثوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، كأنه الحجر الأسود، وما يفعل به وفد بيت الله الحرام، ثم عفروا عنده تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك القبر، فلم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك القرابين، فكانت صلاتهم ونسكهم، وقربانهم لغير رب العالمين.

وقد آل الأمر إلى فعل أنواع المنكرات، من بذل الفروج ثلاثة أيام من كل سنة، في مولد أحمد البدوي، ومشهده الذي في طنطا؛ وقد حدثني بذلك شفاهاً، من شاهد

ص: 465

ذلك، يخرجن إليه الغواني، جاعلين ذلك في صحائفه، ولينالوا من بركته، وأنهم محسوبون عليه، زيادة على فعلهم عند قبر الست نفيسة، ومشهد الحسين؛ هذا والعلماء حاضرون، والعباد شاهدون، والمردان مع الفجار المدعين الولاية والمتزينين بها مجتمعون، وفي فراش واحد بلا حائل ليلاً ينامون، وفي النهار معهم مختلون، ويدعون أنهم لهم يربون. والعلماء والحالة هذه لا ينكرون، والعباد لله لا يغارون، مع أنهم متمكنون من العبادة، ولأجلها يعظمون، ويعزرون ويوقرون، وليس أحد من الكفار لهم عن فعل العباد مانعاً، ولا عن إظهارها جهاراً دافعاً، لكنهم لهذه الأفعال لا ينكرون، ولا الحق يقولون، بل كلا الفريقين يصنفون الكتب في ذلك، ويعتذرون عنه بأجوبة ليست صواباً، ولا سديدة، بل هي عن الحق بعيدة.

منها قولهم: تنبيه: اعلم أنه قد يعترض بعض الناس على أحمد البدوي، وعلى هؤلاء المجتمعين عنده في حضرة ضريحه، ويقولون: إذا كان له هذا المولد العظيم، والتصرف التام النافذ بعد الممات، فكيف لا يتصرف في دفع أصحاب المعاصي عند حضور مولده؟!

والجواب عن ذلك من أوجه:

أحدها: أنه في عناية من ربه، فكل من حضر مولده من أهل العصيان، وافق نزول الرحمة والغفران، فغفر له بسببه، وتيب عليه ولو بعد حين

ص: 466

من الزمان.

الثاني: أن الغالب على حاله البسط، وجاهه عريض يسع الخلق، ولو وافقه جميع فساق أهل الأرض كذلك، كان مغفوراً لهم بسببه.

الثالث: أنه قد خرج إلى مقام لا تكليف فيه، وهؤلاء العاملون عملهم لهم وعليهم. انتهى ما ذكره هذا المجيب عن عباد القبور، وأهل الفواحش والفجور. فأي ملة - صان الله ملة الإسلام - لا تمانع هذه الكفريات ولا تدافعها؟ فإن كان الخير عند هؤلاء ومساكنتهم، ومجامعتهم والسفر إلى أوطانهم مباح، والحالة هذه، فما أرى من يرى ذلك شم رائحة الإيمان، والغيرة لله ورسوله ودينه، ولا عرف ما يجب لله في الإسلام على المسلمين، ولا ما هو الشرك المنافي لتوحيد رب العالمين.

وقد نقل إلينا عن بعض من ينتسب إلى طلب العلم، أنه يبيح السفر مطلقاً إلى مَن هذا دينه، وهذه نحلته، وهذه حال بلده، مستدلاً بسفر أبي بكر رضي الله عنه إلى بصرى، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سفره، وأن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن يظهر دينه؛ وليس هذا الجهل بغريب ممن لم يعرف كفر هؤلاء، وأن أبا جهل وأشياعه ما وصل كفرهم إلى ساحل هذا الكفر العظيم، ولا عرف أن بلادهم بلاد كفر والحالة هذه.

ولكن الذي يعلم به من نصح نفسه، وأراد نجاتها، أن الاستدلال لجواز سفر عوام الناس، الذين لا يعرفون ما

ص: 467

أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين، ومباداتهم بالعداوة والبغضاء، والتصريح لهم بالبراءة منهم ومما يعبدون، بسفر أبي بكر رضي الله عنه، من دسائس الشيطان؛ فإن من المعلوم عند الخاص والعام، ولا ينكره إلا مكابر مبخوس الحظ، أن الصحابة يظهرون دينهم، وقد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، وإنكارهم، رضي الله عنهم وأرضاهم، باللسان، على من أحدث حدثاً أو فعل منكراً معروف مشهور.

ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى منكراً وسكت عن إنكاره بلسانه، بل كانوا يكافحون الظلمة بالإنكار، ولا يخافون في الله لومة لائم. ومن ظن أن الصحابة، رضي الله عنهم، لا يظهرون دينهم، ولا ينكرون المنكر، فقد ظن بهم ظن السوء، ولم يعرف قدرهم وفضلهم ومحلهم من الإسلام، وغيرتهم لله وعلى دينه، ولم يقدرهم حق قدرهم؛ فهم القدوة وبهم الأسوة، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"من كان منكم مستناً، فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمَن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه؛ فخذوا بسننهم، واهتدوا بهديهم، واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وإذا كانوا على ما ترى من العلم والفضل والمعرفة،

ص: 468

والغيرة لله ولدينه، وإظهار الدين، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، فإذا جاز لأحدهم السفر والحالة هذه، من كمال العلم والمعرفة، وإظهار الدين، وإنكار المنكر، ومباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء، أفيقول من له دين وعقل وورع إيماني: إن سفر غوغاء الناس وسفلتهم، والعوام - ممن لا يعرف ما أوجب الله عليه، من معاداة المشركين، ومقاطعتهم، وما حرم الله ورسوله من موالاتهم، والركون إليهم، والتلطف لهم في المعاملات، والمبايعات والمعاشرات، ومن لا يعلم أن من الموالاة ما يوجب الردة، ومنها ما هو دون ذلك – يجوز، قياساً على سفر أبي بكر وغيره من الصحابة، رضي الله عنهم؟ وهل لهذا القياس حظ من النظر والدليل؟ أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل؟!

فالصحابة، رضي الله عنهم، أعلم الناس بدينهم وكيفية إظهاره، ومعهم من العلم والدلائل ما يقطع المجادل والمخاصم؛ فهم النجوم للورى هداية ودراية، مع أن الاستدلال بسفر أبي بكر، من الدلائل الجزئية، وهي لا تعارض القواعد الكلية، أو أنها قضية عين خاصة؛ والقضايا العينية الخاصة مقصورة على مواردها، ولا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار.

فقياس سفر غوغاء الناس وعوامهم، وفساق المسلمين ممن لا يعرف ما أوجب الله عليه، على سفر أعلم الناس

ص: 469

وأصلحهم، وأعرفهم بدلائل دينه، وأقومهم بحق الله وإظهار دينه وإعلاء كلمته، من أبطل القياس وأفسده؛ ولا يقيس هذا القياس إلا فاسد المزاج، محتاج إلى علاج.

أين الثريا مكانا في ترفعها

من الثرى قال هذا كل منتبه

من ذا يقيس نقا الجلد من درن الدْ

دُنْيا وأمراضها يوماً بأجربه

هذا لعمر الله من أمحل المحال، وأبين الضلال، وأفسد القياس. ثم إن سفر أبي بكر ومن سافر من الصحابة، إنما كان سفرهم إلى بلاد النصارى، وإلى بلاد المجوس؛ ومن المعلوم: أن النصارى والمجوس يعلمون أن العرب على غير دينهم، حتى في الجاهلية، والعرب يعلمون أن هؤلاء على غير دين؛ فالكل منهم متميز عن الآخر بدينه، خصوصاً بعد البعثة، فإنه من المعلوم: أن أهل الإسلام يكفرونهم، لا يشك في ذلك أهل الكتاب ولا غيرهم؛ بخلاف عباد القبور اليوم وأشياعهم، فإنهم ينتسبون إلى الإسلام، ويتلفظون بالشهادتين، وغالبهم يصلي ويصوم ويحج، ومن لا يفعل ذلك قد يعظم من يفعل ذلك ويرى فضله، ومع هذا كله، فحالهم كما تقدم قريباً، من صرفهم خالص حق الله لمعبوداتهم، ولو علموا ممن يسافر إلى ديارهم أنهم على غير دينهم، وأنهم يكفرونهم، لأوقعوا بهم الفتنة، ولآذوهم. فقياس هؤلاء الكفرة على أولئك، من القياس الباطل المردود، مع أن السفر إلى ديار هؤلاء وهؤلاء ممنوع؛ لكن أهل الكتاب

ص: 470

والمجوس، يعلمون أنهم على غير دينهم، بخلاف عباد القبور، فإنهم يظنون أن من سافر إلى بلادهم على دينهم. إذا تبين هذا، وعلمته، فسفر أبي بكر رضي الله عنه كان مع إظهار دينه؛ ومن أظهر دينه كما ينبغي، فلا مانع من سفره إن أمن على نفسه ودينه; وقد قال ابن كثير، رحمه الله تعالى، على آية النساء: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، فلا يجوز خرق الإجماع.

فمن أظهر دينه، جاز له السفر والإقامة، ومن لا يقدر على إظهار دينه، لا يجوز له السفر ولا الإقامة، بإجماع العلماء؛ ولكن الشأن كل الشأن، في إظهار الدين ما هو؟ أهو: ملة إبراهيم، من مباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء، والبراءة منهم ومما يعبدون، وأن ما هم عليه من عبادة غير الله كفر وضلال بعيد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد؟ أو هو: ما لفقه هؤلاء، من عبارات لبعض العلماء مجملة محتملة، لا صراحة فيها، ولا راحة فيها لمبطل ولا مشبه؟ ثم كيف يسوغ لذي عقل ودين، أن يجعل سفر أبي بكر رضي الله عنه الذي قد كان من المعلوم أنه من الدلائل الجزئية، والقضايا العينية، مع أنه بلا شك ولا مرية يظهر دينه، دفعًا في نحر النصوص الواردة في وجوب المنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها،

ص: 471

ووجوب التباعد عن مساكنتهم ومجامعتهم. وهي نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو عبد الرحمن النسائي، في قصة إسلام جرير بن عبد الله:"أنه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تفارق المشركين"، وقوله صلى الله عليه وسلم:" أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قيل: ولِم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما " 1، وقوله صلى الله عليه وسلم:" لا تستضيئوا بنار المشركين " 2، قال ابن كثير: معناه: لا تقاربوهم في المنازل، بحيث تكونوا معهم في بلادهم، بل تباعدوا عنهم، وهاجروا من بلادهم، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من أقام مع المشركين، فقد برئت منه الذمة"، وقوله صلى الله عليه وسلم:" أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما "، وقوله صلى الله عليه وسلم:" من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله "، وقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين " 3، وقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق ". والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

ومنها: حديث لقيط بن صبرة، لما قال: يا رسول الله، على ما أبايعك؟ فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، وقال:" على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال المشرك، وأن لا تشرك بالله شيئاً " 4، قال ابن القيم، رحمه الله في الكلام عليه -: قوله في عقد البيعة: "وزيال المشرك" أي: مفارقته ومعاداته، فلا

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

2 النسائي: الزينة (5209) ، وأحمد (3/99) .

3 النسائي: الزكاة (2568) .

4 أحمد (4/13) .

ص: 472

تجاوره، ولا تواكله، كما جاء في حديث السنن:"لا تراءى ناراهما "1. انتهى.

فحقيق بمن نصح نفسه وأراد نجاتها، أن تكون نصوص الشارع في صدره أعظم وأجل من مفهوم ما لفقه الملفقون من العبارات المجملة، وأن يكون له معرفة وغور في معاني النصوص ودلالتها، ومعرفة بالصحيح الصريح الذي لا يحتمل غير ما دل عليه، وأن يعرف ما ورد من الأحاديث الصحيحة التي لا صراحة فيها على ما يراد، بل إما أن تكون محمولة على من أظهر دينه، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة

" 2 الحديث، وكحديث الأعرابي المحمول على أنه خاص به، وكسفر أبي بكر المحمول على إظهار الدين، وغيرها من الأحاديث.

وأما قول شيخ الإسلام في الاقتضاء: ولو أن رجلاً سافر إلى بلاد الحرب ليشتري منها لجاز عندنا، فنعم؛ قاله شيخ الإسلام، ولكن مع إظهار الدين كما قاله غيره من العلماء. وكيف يجوزه بدون إظهار الدين، وهو قد حكى اتفاق العلماء على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم على وجه العموم والإطلاق؟! بل قال، رحمه الله تعالى: بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب.

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

2 البخاري: التوحيد (7423) ، وأحمد (2/335، 2/339) .

ص: 473

فسفر أبي بكر رضي الله عنه لا يستدل به على جواز سفر فسّاق المسلمين إلى بلاد المشركين، الذين لا يعرفون ما أوجب الله عليهم، من معاداة المشركين ومفارقتهم، وعدم مساكنتهم ومجامعتهم، إلا من قصده فاسد، وذهنه كاسد، وفي قلبه مرض، ولا غيرة فيه لله ورسوله ولا على دينه، ولا في قلبه نفرة من مشاهدة أعداء الله وأعداء رسوله، بل كل الناس عنده على حد سواء، مسلمهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم. فالله المستعان وبه المستغاث وإليه المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

وسئل أيضاً: الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: ما قول علماء المسلمين - كشف الله بهم كل غمة، وجلا بهم كل ظلماء مدلهمة - في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟ وهل يعاب من انتقل إليها ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟ وهل يستوي من ارتحل من منزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟ وهل يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟ أفتونا

ص: 474

وبينوا لنا، فإن الأمر مهم، وليل الجهل مدلهم؛ فرحم الله من أبان الدليل، وهدى الضال إلى سواء السبيل.

فأجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما قول السائل: ما قول علماء المسلمين، في "قرية"، هل هي من أعمال نجد، أم من أعمال الساحل؟ وهل هي داخلة في ولاية إمام المسلمين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل، أم لا؟ فاعلم يا أخي، وفقك الله: أن هذه الأرض المسماة بـ"قرية" من أعمال نجد الداخلة في حدوده، وليست هي من أعمال الساحل، بل كانت من قديم الزمان وحديثه من أعمال نجد، الكائنة في ولاية المسلمين؛ وهذا مما لا شك فيه عند كل أحد.

وأما قوله: وإذا كانت من أعمال نجد وولاية المسلمين، فهل تسمى دار هجرة لمن هاجر فيها؟

فنقول: إذا نزل بها طائفة من المسلمين بإذن الإمام، واستقروا بها، فهي دار هجرة لمن هاجر إليها من المسلمين، من بلاد الكفر، أو من البادية التي قد غلب عليهم الجفاء، والغفلة عن تعلم ما ينفعهم في دينهم. والمهاجر إليهم يسمى مهاجراً، إذا قام بأعباء الهجرة وحقوقها، كما في الحديث

ص: 475

الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه " 1، رواه البخاري في صحيحه.

وأما قوله: وهل يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، أم لا؟

فالجواب أن نقول: لا يعاب من انتقل إليها، ونزل بها من دار هجرته أول ما نزل، ومن عاب من نزل بها بهذا السبب، فهو جاهل مركب، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، لأن الصحابة، رضي الله عنهم، الذين هاجروا إلى المدينة من مكة وغيرها، قد انتقل كثير منهم منها إلى الأمصار والأقطار، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن أجلهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه انتقل من دار هجرته إلى الكوفة، واستقر بها، إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي بها، ودفن بقصر الإمارة بالكوفة; وكذلك الزبير بن العوام رضي الله عنه، لما رجع عن قتال علي، قصد راجعاً إلى الكوفة، فقتل في أثناء الطريق، ثم حمل إلى موضع الزبير الآن فمات به.

وكذلك ابن عباس رضي الله عنه، خرج من المدينة

1 البخاري: الأيمان والنذور (6689)، ومسلم: الإمارة (1907)، والترمذي: فضائل الجهاد (1647)، والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794)، وأبو داود: الطلاق (2201)، وابن ماجة: الزهد (4227) ، وأحمد (1/25، 1/43) .

ص: 476

وصار إلى البصرة، ثم نزل بمكة ومات بالطائف. وكذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه، كان أميراً على المدائن، في ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد خرج من المدينة دار المهاجرين; وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وغيرهم من الصحابة، ممن لا يحصى عددهم، ولا نعلم أن أحداً من العلماء عاب ذلك، أو أنكره.

ومن عاب ذلك أو أنكره، فقد عاب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصاً أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي! تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "1. وعلي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسك بسنتهم وهديهم. فمن أنكر ما ذكرناه وعابه، فقد أخطأ وأضاع نصيبه من العلم، وتكلف ما لا علم له به.

وأما قول السائل: وهل يستوي من ارتحل من منزله الأول بسبب، أو من ارتحل بغير سبب؟

فنقول: قد ذكرنا آنفاً، من انتقل من الصحابة من المدينة، بأسباب اقتضت ذلك، مذكورة في مظانها; ومنهم من انتقل منها، ولم نطلع على السبب الذي أوجب له ذلك; ولا شك أن من انتقل منها بسبب، كان أعذر ممن لم ينتقل

1 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .

ص: 477

عنها بلا سبب. وقد خرج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى قصره بالبادية، أيام الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، وقيل له في ذلك، فقال:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ

عوى وصوت إنسان فكدت أطير

وكذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، خرج أيام الفتنة من المدينة. فمن خرج من دار هجرته إلى بلد من بلدان المسلمين من غير سبب، لا نعيب عليه ذلك، إلا بدليل شرعي، فمن كان عنده في ذلك دليل، فليرشدنا إليه.

وأما قول السائل: وهل يطلق اسم دار الهجرة، على الديار النجدية؟ أم يقيد على ديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان، أم لا؟

فنقول: نعم، يطلق اسم دار الهجرة على الديار النجدية، ولا يقيد ذلك بديار النازلين من الإخوان في هذا الزمان؛ بل من هاجر من ديار الكفر أو من البادية، إلى بلد من بلدان المسلمين، فهو مهاجر، فلا فرق في ذلك بين الديار التي نزلها الإخوان في هذا الزمان، وبين قرى المسلمين. ولا يفرق بين ذلك إلا من أعمى الله بصيرة قلبه، وكان على نصيب وافر من الجهل، والقول على الله بلا علم.

ثم إن في تسمية هذه البلدان التي نزلها الإخوان من البادية، حيث سموها الهجر، نظراً؛ فإن هذا اسم حادث. فإن الصحابة، رضي الله عنهم، لما فتحوا الأمصار والبلدان،

ص: 478

واختطوا لهم منازل، وسكنوا بها، لم يسموها بهذا الاسم. وعمر رضي الله عنه هو الذي بصر البصرة، وكوف الكوفة، فسموها بالبصرة والكوفة، وكذلك سائر القرى، التي نزل بها الصحابة، رضي الله عنهم، والتابعون، إنما سموها باسمها الذي سماها به أهلها.

وكذلك ما أحدثوه من تسمية، من سكن من الأعراب والبلدان التي اختلطوا بها منازل، حيث سموهم "الإخوان" وجعلوا هذا الاسم خاصاً بهم، دون الإخوان من المسلمين الحاضرة، وقد قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الآية [سورة الحجرات آية: 10] ، مع بغي بعضهم على بعض، ومقاتلة بعضهم لبعض. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة آل عمران آية: 102-103] ، فسماهم الله جميعاً إخواناً ولم يفرق بينهم.

وقد بلغنا: أن بعض الجهال المتعمقين من هؤلاء الدوارين، لما سأله بعض البادية: هل يجوز أن نهاجر؟ ونبني مساكن في "نفي" أو غيره من قرى السر؟ فقال: لا يجوز أن يبنى بها، أو تكون محل هجرة، لأنها مؤسسة على

ص: 479

الكفر; وما علم هذا المسكين الجاهل: أن المدينة التي هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قد كانت مؤسسة على الكفر 1 قبل الإسلام، وكان الذي أسسها الأوس والخزرج، وحلفاؤهم من اليهود، وكانوا إذ ذاك كفاراً مشركين، فلما ظهر بها الإسلام، وهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، صارت دار الهجرة، ولم يضرها تأسيس من أسسها على الكفر.

وبلغنا أيضاً، من مجازفة بعض هؤلاء الأعراب المهاجرين في هذه البلدان، ومجاوزتهم للحد بالغلو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض فيه، والموالاة والمعاداة فيه، أنه لما سافر بعضهم إلى بعض بلدان المسلمين من بلدان نجد، ومكث فيها نحواً من أربعة أشهر، هجروه من السلام، لزعمهم أنه متربص في هذه البلاد؛ ولازم قولهم: أن هذه البلدة إما بلاد كفر، أو بلاد فسق، يجب على من لم يقدر على إظهار دينه فيها الهجرة عنها، لأنها على زعمهم، لا يحل لأحد المقام بها.

وهاهنا مسألة، قد أجبنا عليها في غير هذا الموضوع، ثم لما يسر الله كلام شمس الدين بن القيم، رحمه الله تعالى، على هذه المسألة بخصوصها، أحببنا أن نثبته في هذا

1 مراده: مبنية في حالة الكفر.

ص: 480

الموضع. والمسألة التي أشرنا إليها، هي قول السائل: ما الرخصة المذمومة، المذموم المترخص بها، التي قيل فيها: من تتبع الرخص تزندق، أو كاد؟ فإن أكثر من لدينا إذا سمع ما لم يدر به، ولا هو على باله عد ذلك رخصاً؟ فنقول: قال شمس الدين بن القيم، رحمه الله: الرخصة نوعان:

أحدهما: الرخصة المستقرة المعلومة من الشرع نصاً، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورة، وإن قيل لها عزيمة باعتبار الأمر والوجوب، فهي رخصة باعتبار الإذن والتوسعة، وكفطر المريض والمسافر، وقصر الصلاة في السفر، وصلاة المريض إذا شق عليه القيام قاعداً، وفطر الحامل والمرضع خوفاً على ولديهما، ونكاح الأمة خوفاً من العنت، ونحو ذلك. فليس في تعاطي هذه الرخص ما يوهن رغبته، ولا يرده إلى غثاثة، ولا ينقص طلبه وإرادته البتة؛ فإن منها: ما هو واجب، كأكل الميتة عند الضرورة. ومنها: ما هو راجح المصلحة، كفطر الصائم المريض، وقصر المسافر وفطره. ومنها: ما مصلحته للمترخص وغيره؛ ففيه مصلحتان: قاصرة ومتعدية، كفطر الحامل والمرضع. ففعل هذه الرخص أرجح، وأفضل من تركها.

النوع الثاني: رخص التأويلات، واختلاف المذاهب، فهذه تتبعها حرام ينقص الرغبة، ويوهن الطلب، ويرجع

ص: 481

بالمترخص إلى غثاثة الرخص. فإن من ترخص بقول أهل مكة في الصرف، وأهل العراق في الأشربة، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات، وقول ابن عباس في المتعة وإباحة لحوم الحمر، وقول من جوز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء، وجوز أن يكون زوج قحبة، وقول من أباح آلات اللهو والمعازف، من اليراع والطنبور والعود، والطبل والمزمار، وقول من أباح الغناء، وقول من جوز استعارة الجواري الحسان للوطء، وقول من جوز للصائم أكل البرد، وقال ليس بطعام ولا شراب، وقول من جوز الأكل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس للصائم، وقول من صحح الصلاة بـ {مُدْهَامَّتَانِ} [سورة الرحمن آية: 64] بالفارسية وركع كلحظة الطرف، ثم فصل كحد السيف، ولم يتشهد ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج من الصلاة بحقبة، وقول من جوز وطء النساء في أعجازهن، ونكاح بنته المخلوقة من مائه الخارجة من صلبه حقيقة، إذا كان ذلك الحمل من زنى، وأمثال ذلك من رخص المذاهب وأقوال العلماء، فهذا الذي تنقص برخصته رغبته، ويوهن طلبه، ويلقيه في غثاثة الرخص؛ فهذا لون والأول لون. انتهى.

وبهذا يتبين لك الفرق بين الرخص المحمودة، التي ورد بها الشرع ويحبها الله، كما في الحديث: " إن الله يحب أن

ص: 482

تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معاصيه " 1، وبين الرخص المذمومة شرعاً، التي من تتبعها فقد تزندق، والذي يترخص بهذه الرخص المذمومة، متلاعب بدين الله وشرعه، ومستخف بهما.

فإذا فهمت ذلك، فاعلم: أن الذي قصده المشائخ، إنما هي هذه الترخصات المذمومة؛ فظن هؤلاء المتدينون أن المشائخ إذا سئلوا عن شيء وردت فيه الرخصة من التيسير، وعدم التكلف، أن هذا هو الترخص الذي مَن تتبعه فقد تزندق، وليس الأمر كذلك، وإنما أُتوا من جهلهم واستغنائهم بآرائهم، وأهوائهم الخاسرة القاصرة؛ فالله المستعان. هذا ما تيسر لي من الجواب على سبيل الاختصار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

1 أحمد (2/108) .

ص: 483

[حكم الإقامة في بلاد المشركين]

وله أيضاً، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

أما بعد، فقد قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97-98]، وقال تعالى:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، وقال تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] . قال الحسن البصري: لا يجوز له القعود معهم، خاضوا أو لم يخوضوا، لقوله تعالى:{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68]، وقال تعالى:{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة التوبة آية: 66]، قال شيخ الإسلام: فعلم: أن الطائفة المعفو عنها عاصية لا كافرة، إما بسماع الكفر دون إنكاره، والجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله، أو كلام هو ذنب وليس هو كفراً، وغير ذلك من الذنوب. انتهى.

ص: 484

وقال صلى الله عليه وسلم: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى ناراهما " 1، وقال صلى الله عليه وسلم:" أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما"، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تستضيئوا بنار المشركين " 2، وقال صلى الله عليه وسلم:" من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة "، وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين " 3، وقال صلى الله عليه وسلم:" لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من شاهق إلى شاهق ". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.

فمن أقام بين أظهر المشركين من غير إظهار للدين، إلا من استثنى الله من المستضعفين، فقد فعل أمراً محرماً بنص القرآن، وإجماع العلماء؛ قال الحافظ ابن كثير، رحمه الله: هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص الآية.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:

الحادي عشر: أن العلماء متفقون على وجوب العمل بأحاديث الوعيد فيما اقتضته من التحريم، وإنما خالف بعضهم في العمل بآحادها، في الوعيد خاصة; فأما في التحريم فليس فيه خلاف معتمد محتسب، وما زال العلماء من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، والفقهاء بعدهم، في خطابهم وكتبهم يحتجون بها في موارد الخلاف وغيره، بل إذا كان في الحديث

1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .

2 النسائي: الزينة (5209) ، وأحمد (3/99) .

3 النسائي: الزكاة (2568) .

ص: 485

وعيد، كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم، على ما تعرفه القلوب. وتقدم أيضاً التنبيه على رجحان قول من يعمل بها في الحكم، واعتقاد الوعيد، وأنه قول الجمهور; وعلى هذا، فلا يقبل قول مخالف الجماعة.

الثاني عشر: أن نصوص الوعيد من الكتاب والسنة كثيرة جداً، والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق، من غير أن يعين شخص من الأشخاص، فيقال: هذا ملعون، أو مغضوب عليه، أو مستحق للنار. انتهى المقصود منه.

وحكم السفر للتجارة والكسب حكم الإقامة، لا فرق، ومن ادعى الفرق فعليه الدليل؛ فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا إجماع العلماء: على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه، وكان قادراً على الهجرة.

فإن قال بعض المتنطعين المتهوكين، الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها: إذا كنتم تحرمون الإقامة بين أظهر المشركين، من غير إظهار للدين، وتحرمون السفر إلى ديارهم، فمن المعلوم أن من أحل محرماً فهو كافر، ونحن نبيح السفر إلى بلاد المشركين مطلقاً، أو مقيداً بإظهار الأركان الخمسة.

ص: 486

قيل له: من فعل أمراً محرماً، غير عالم بتحريمه، لا نؤثمه بذلك فضلاً عن تكفيره; ومن فعله عالماً بتحريمه متعمداً فعله، فهو عاص لله بارتكابه المحرم على عمد. فمن أباح السفر إلى بلاد المشركين، وهو يعلم أن ذلك حرام عليه، لكنه أصر وعاند، وكابر وعتا وتمرد، وشرد على الله شراد البعير على أهله، زاعماً أن الحق فيما خالف الكتاب والسنة، مما هو ينتحله من الأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة، فكلام أهل العلم في ذلك واضح، لا خفاء به.

وأما من قامت له شبهة، أو تأول، وزعم أن هذا السفر ليس بحرام، ولكن مباح، لأنه يظهر دينه، وأن البلد التي يسافر إليها ليست عنده ببلد كفر، إلى غير ذلك من الشبه والتأويل، فهذا لا يكفر بإباحة ما حرمه الله ورسوله، لقيام الشبهة معه، والتأويل المانع من تكفيره، ولكنه آثم عاص بفعله ذلك من غير اجتهاد في طلب الحق والدليل، إذ حسن الظن بمن يقلده ويسهل له في ذلك.

هذا كله فيمن يقلد، وفي العامي الذي لا اطلاع له، ولا علم يميز به بين الحق والباطل، وأما من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فاعلم: أنه لا يتجاسر على إباحة المحرمات عالم يخشى الله، وإنما يخشى الله من عباده العلماء؛ وإنما يقع ذلك من بعض العلماء، لأسباب ذكرها شيخ الإسلام في رفع الملام عن

ص: 487

الأئمة الأعلام بأمثلتها; فمن أراد الوقوف عليها فليراجعها هناك، ونذكرها هاهنا على سبيل الاختصار والإشارة.

فنقول: اعلم أن من أباح شيئاً من المحرمات من العلماء، فإنما ذلك لكونه لم يبلغه في ذلك نص، فاجتهد، أو استند إلى موجب ظاهر آية أو حديث، أو موجب قياس، أو موجب استصحاب، أو بلغه في ذلك نص لكنه لم يثبت عنده، لشيء مما قد يعرض للعالم من تضعيف الحديث، أو لعلة من جهالة أو انقطاع أو غير ذلك، وإن كان قد ثبت عند غيره، أو بلغه الحديث لكنه نسيه، أو لعدم معرفته بدلالة الحديث، أو اعتقد أن هذا النص لا دلالة فيه، أو اعتقد أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز من أنواع المعارضات، أو غير ذلك من الأعذار، مما ذكره أهل العلم لأهل العلم. فإذا جاء حديث صحيح، فيه تحليل، أو تحريم، أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء، الذين وصفنا أسباب تركهم، يعاقَب لكونه حلل الحرام، أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله; وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل، مِن لعنة، أو غضب، أو عذاب، أو براءة، أو ليس منا، ونحو ذلك، فلا يجوز أن يقول

ص: 488

أحد: إن ذلك الذي أباح هذا من العلماء، أو فعله، داخل في هذا الوعيد; فهذه أسباب يعذر بها العلماء.

فإذا علمت هذا، تبين لك جهل من تعنت من هؤلاء الجهلة، في قوله: فما يلزم ابن تيمية في إباحته السفر إلى بلاد المشركين، لأن شيخ الإسلام، قدس الله روحه، لا يبيحه إلا بشروطه من إظهار الدين، كغيره من العلماء؛ وكيف يبيحه مطلقاً، وهو قد حكى اتفاق العلماء على وجوب العمل بأحاديث الوعيد، فيما اقتضته من التحريم، على وجه العموم والإطلاق؟ إذا علمت هذا، فما حكم به الحاكم من هؤلاء على مستحل السفر، من غير تفصيل، فهو وذاك، ونبرأ إلى الله من حكمه القاسط المنتن المظلم. {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . وأما نحن، فالذي نقطع به عن غالبهم - أعني المسافرين في هذه الأزمان - أنهم لا يعلمون التحريم، ولا أن أهل العلم منعوا منه من لا يقدر على إظهار دينه؛ وأما من علم بالتحريم، ثم استحله استخفافاً بوعيد الله، واستهزاء بأحكامه، ومكابرة ومعاندة لله ورسوله، فكلام أهل العلم فيمن هذه حاله واضح.

وهؤلاء الذين يجادلون في إباحة السفر، معهم من التأويل والشبهة، ما صدهم عن سواء السبيل; فإنهم يزعمون: أن ما نستدل به من الآيات والأحاديث، محمولة

ص: 489

على من لا يظهر دينه، وأنه لا دلالة فيها على التحري، ومعارضون الأحاديث العامة المطلقة بالأحاديث الخاصة، المقيدة بإظهار الدين، ومعهم من الجهل والغباوة ما لا مزيد عليه. فإنهم يزعمون أنا نكفر من أباح السفر إلى بلاد المشركين، لأن السفر إلى بلاد المشركين محرم، ومن أباح محرماً فقد كفر؛ ونحن نبرأ إلى الله مما يقولون، وهذا الإلزام لازم لهم، فإن من حرم حلالاً فقد كفر كمن أحل حراماً، لا فرق، ولكنهم لا يعلمون. وصلى الله على محمد.

وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى: وتذكر أني إن رأيت في كلامك عثرة، أو هفوة، فالمؤمن مرآة أخيه.

فاعلم وفقك الله لما يحبه ويرضاه: أنه وقع في كلامك الذي كتبت به إلى الملاحي، بعض الهفوة والعثرة، غفلة منك؛ ولم يكن ذلك الخطأ منك على بال، ولم تقصد ذلك المعنى على عمد واعتقاد، ولكن لم تحسن التعبير عن الأمر الذي تقوم به الحجة على المخالف، ويندفع به وجه احتجاجه عليكم؛ وذلك أنك جعلت الأمر المسوغ للدخول في طاعتهم، هو: استجلاب مصالح المسلمين، وإعزاز أهل الدين، وليس هذا هو المسوغ للدخول في طاعتهم فقط، وإنما المسوغ لذلك هو: درء المفاسد، مع استجلاب

ص: 490

المصالح الدينية.

وقد ذكر أهل العلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فدرء مفسدة قمع أهل الحق، وعدم إظهار دينهم واجتماعهم عليه، والدعوة إلى ذلك، وعدم تشتيتهم وتشريدهم في كل مكان، مقدم على جلب مصلحة الإنكار على ولاة الأمور، مع قوتهم وتغلبهم وقهرهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وإظهار عداوتهم والهجرة عن بلادهم، بمجرد الدخول في طاعتهم في غير معصية الله ورسوله.

فإذا كان لأهل الدين حوزة، واجتماع على الحق، وليس لهم معارض فيما يظهرون به دينهم، ولا مانع يمنعهم من ذلك، وكون الولاة مرتدين عن الدين، بتوليهم الكفار، وهم مع ذلك لا يجرون أحكام الكفر في بلادهم، ولا يمنعون من إظهار شعائر الإسلام، فالبلد حينئذ بلد إسلام، لعدم إجراء أحكام الكفر، كما ذكر ذلك شيخنا الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله، عن الحنابلة وغيرهم من العلماء.

وإذا كان الحال على ما وصفنا، فمراعاة درء مفسدة قمع أهل الحق، وتشريدهم وتشتيتهم وإذلالهم، وإظهار أهل الباطل باطلهم، وإعلاء كلمتهم على أهل الحق، وكذلك مراعاة جلب المصالح، في إعزاز أهل الحق، واحترامهم وعدم معارضتهم، مقدم والحالة هذه على مصلحة الإنكار

ص: 491

على ولاة الأمور من غير قدرة على ذلك، لأجل تغلب أهل الباطل وقوتهم، وعجز أهل الحق عن منابذتهم، وعدم تنفيذ الأمور التي يحبها الله ويرضاها؛ فدرء المفسدة المترتبة على الإنكار على الولاة، أرجح من المصلحة المترتبة على منابذتهم بأضعاف مضاعفة. وإذا استلزم الأمر المحبوب إلى الله، أمراً مبغوضاً مكروهاً إلى الله، وتفويت أمر هو أحب إلى الله منه، لم يكن ذلك مما يحبه الله ويقرب إليه، لما ينبني على ذلك من المفاسد، وتفويت المصالح.

وقد ذكر أهل العلم قاعدة تنبني عليها أحكام الشريعة، وهي: ارتكاب أدنى المفسدتين، لتفويت أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين، لتحصيل أعلاهما.

وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي، في رده على السبكي، كلاماً يحسن أن نذكره في هذا الموضع. قال رحمه الله:

الوجه الثالث: أنه لا يكفي مجرد كون الفعل محبوباً له، في كونه قربة، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً، أو تفويت أمر هو أحب إليه من ذلك الفعل؛ وأما إذا استلزم ذلك، فلا يكون قربة، وهذا كما أن إعطاء غير المؤلفة من فقراء المسلمين وذوي الحاجات منهم، وإن كان محبوباً لله، فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه، من إعطاء من يحصل بعطيته

ص: 492

قوة في الإسلام وأهله، وإن كان قوياً غنياً غير مستحق. وكذلك التخلي لنوافل العبادة، إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد، الذي هو أحب إلى الله سبحانه من تلك النوافل، وحينئذ فلا يكون قربة في تلك الحال، وإن كانت قربة في غيرها. وكذلك الصلاة في وقت النهي، إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله سبحانه ويكره، من التشبه ظاهراً بأعدائه، الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت. فهاهنا أمران يمنعان كون الفعل قربة: استلزامه لأمر مبغوض مكروه، أو تفويته لمحبوب هو أحب إلى الله من ذلك الفعل. ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل، أطلعه الله على سر الشريعة، ومراتب الأعمال، وتفاوتها في الحب والبغض، والضر والنفع، بحسب قوة فهمه وإدراكه، ومراد توفيق الله، بل مبنى الشريعة على هذه القاعدة، وهي: تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما، وتفويت شر الشرين باحتمال أدناهما، بل مصالح الدنيا كلها قائمة على هذا الأصل. انتهى.

وقال ابن القيم، رحمه الله في الأقسام، بعد كلام سبق -: والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا يمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق، ويلتزم بعض الباطل. انتهى.

ص: 493

فتأمل ما ذكرناه، من أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإذا اجتمع درء المفاسد واجتلاب المصالح، كان ذلك أقوى في الحجة على الخصم، من ذكر استجلاب المصالح فقط.

وأما استدلالك بكلام ابن القيم، فقد أبعدت النجعة، وما أبعده من دليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في ولايتهم، ولا صالحهم على الدخول فيها بما التزمه لهم، وأجابهم فيه بما يعظمون به حرمة من حرمات الله، فأين هذا مما أنتم فيه؟ فإن الولاة المذكورين لم يكن بينهم وبينهم مصالحة، ولا طلبوا منهم أمراً يعظمون به حرمة من حرمات الله، فتجيبوهم إلى ذلك وتعينوهم عليه، فما وجه الاستدلال بكلام ابن القيم لذلك، والحالة غير الحالة؟ وأما الولاة المذكورون، فإنهم قد حصل منهم موالاة وتول للكفار وموافقة، ومظاهرة على المسلمين، فلا شك في ردتهم؛ والمتأخرون منهم إما راضون بأفعالهم، أو معينون لهم، ولم يظهر منهم مخالفة لمن قبلهم، ولا عيب لهم على أفعالهم، فحكمهم حكمهم، إلا أن يكون قد تبين لكم منهم خلاف ما عليه أسلافهم. فإذا عرفت هذا، تبين لك وجه الحجة على خصمك لما ذكرناه.

ص: 494

وقال أيضاً: الشيخ سليمان بن سحمان: وأما قول السائل: ويقولون: ساكن البادية والنازل منها إلى الحاضرة، سواء، فنقول: هذا من الكذب على المشائخ، فإنه لم يقل أحد منهم أن من أسلم من البادية، ودخل في هذا الدين ولم يهاجر، كمن هاجر منهم وترك جميع ما كان عليه من أمور الجاهلية، وسكن مع الحاضرة سواء؛ بل هذا من أعظم الكذب والافتراء؛ وقد بينا فضل من هاجر على من لم يهاجر. وإنما قال المشائخ لمن سألهم عن الفرق بين حكم من أسلم وتبين له الدين، وكان متمكناً من إقامة دينه وإظهاره، وبين من لم يسلم من الأعراب، الساكنين في البادية، أن الهجرة لا تجب عليه، بل هي مستحبة في حقه، لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، والله أعلم.

ص: 495

سئل الشيخ سعد بن عتيق: عن الهجرة، هل تطلق على الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام؟ أم الهجرة البلد المهاجر إليها

إلخ؟

فأجاب: الهجرة في اللغة: الانتقال من أرض إلى أرض، وفي الشرع: الانتقال من مواضع الشرك والمعاصي، إلى بلد الإسلام والطاعة. فكل موضع لا يقدر الإنسان فيه على إظهار دينه، يجب عليه أن يهاجر إلى موضع يقدر فيه على إظهار دينه؛ وانتقاله إلى ذلك الموضع الذي يتمكن فيه من إظهار دينه، يسمى هجرة، والبلد الذي يهاجر إليها يسمى مهاجَراً بفتح الجيم، ويسمى دار هجرة. وأما إطلاق الهجرة على الموضع الذي يهاجر إليه، فهو اصطلاح حادث، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" أريت دار هجرتكم " 1، ولم يقل: هجرتكم، وقال:" اللهم أمض لأصحابي هجرتهم " 2، يريد ما فعلوا من الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، والله أعلم.

1 أحمد (6/198) .

2 البخاري: الجنائز (1296)، ومسلم: الوصية (1628)، والنسائي: الوصايا (3628)، وأبو داود: الوصايا (2864) ، وأحمد (1/179) .

ص: 496

سئل الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمود: عن رجلين بحثا في الهجرة

إلخ؟

فأجاب: الصواب مع الثاني، وهو الحق المقطوع به الذي ندين الله به، وهو: أن الهجرة واجبة على من لم يقدر على إظهار دينه، وخاف الفتنة؛ وأدلة ذلك ظاهرة من الكتاب والسنة. وقد نص علماء السنة على ذلك وذكروه من أصولهم، وأن الجهاد قائم مع كل إمام بر وفاجر، حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، وأن الهجرة باقية لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.

وأما الجواب عما احتج به الأول، من قوله: لا هجرة بعد الفتح، فالمراد بذلك لا هجرة من مكة، لأنها صارت دار إسلام، ولم يبق فيها من يفتن المسلم عن دينه; قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: أراد به: الهجرة المعهودة في زمنه، وهي الهجرة إلى المدينة من مكة، وغيرها من أرض العرب؛ فإن الهجرة مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها. فلما فتحت مكة، وصارت دار إسلام، ودخلت العرب في الإسلام، صارت هذه الأرض كلها دار إسلام، فقال:" لا هجرة بعد الفتح " 1؛ وعلى هذا يحمل حديث صاحب الخضرمة، لأن بلاد العرب إذ ذاك صارت كلها دار إسلام؛

1 البخاري: الجهاد والسير (2783)، ومسلم: الحج (1353)، والترمذي: السير (1590)، والنسائي: البيعة (4170)، وأبو داود: الجهاد (2480) ، وأحمد (1/226، 1/315، 1/355)، والدارمي: السير (2512) .

ص: 497

وكون الأرض دار كفر أو دار إيمان، أو دار فسق، ليست صفة لازمة، بل هي صفة عارضة بحسب حال سكانها، والحكم يدور مع علته.

وأما الحديث الثاني: فالمراد به غير ما فهم هذا في الأصل، وهو: أن التوحيد شرط لجميع الأعمال، الصلاة وغيرها، وهذا الشرط هو الذي تفهمه العرب من لسانها، ولذلك لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قولوا: لا إله إلا الله"، قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5]، وقال عنهم:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] . وأما مشركو هذا الزمان، فإنهم وإن نطقوا بها، وصلّوا وزكّوا، لا يفهمون منها ما فهمته العرب، من أن معناها: خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة وحده لا شريك له; بل يخالفون معناها، فيصرفون التأله لغير الله تعالى، ويعتقدون ذلك قربة إلى الله، فيصرفون خالص حق الله الذي دلت عليه هذه الكلمة لغيره تعالى، بل أكبهم الجهل إلى الشرك في الربوبية، فلا تنفعهم "لا إله إلا الله" مع ذلك وإن قالوها، لأن الشرك محبط للعمل، كما قال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر آية: 65] ، وغير ذلك من الآيات الدالة على حبوط عمل المشرك.

ومشركو العرب، إنما كان شركهم في الإلهية، فلا

ص: 498

تنفع "لا إله إلا الله" قائلها، إلا إذا التزم ما دلت عليه من خلع الأنداد، وإفراد الله سبحانه بالعبادة; ولذلك لما قالها أهل النفاق واليهود، ولم يلتزموا ما دلت عليه، لم تنفعهم. فإن كان الإنسان مقيماً بين أظهر من هذا حاله، فهو دائر بين أحوال: إما الموافقة لهم على هذا المعتقد، وموالاتهم عليه، أو مدح معتقدهم وتفضيلهم على أهل التوحيد، فهذا مثلهم كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} الآية [سورة المائدة آية: 51]، وقال تعالى في حق المادحين لدينهم:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [سورة النساء آية: 51-52] ؛ بل من كان كذلك فهو منهم، وإن كان بين أظهر المسلمين، فهذا غير مظهر لدينه، فتجب عليه الهجرة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

آخر الجزء الثامن،

ويليه الجزء التاسع، وأوله:

فصل: في الإمامة والبيعة والسمع والطاعة

ص: 499