المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد وقعت المخطوطة في نحو من مائتي ورقة تنتظم خمسة - الراغب الأصفهاني وجهوده في اللغة

[عمر عبد الرحمن الساريسي]

الفصل: وقد وقعت المخطوطة في نحو من مائتي ورقة تنتظم خمسة

وقد وقعت المخطوطة في نحو من مائتي ورقة تنتظم خمسة عشر فصلا، ذكرها السيوطي فيما وقف عليه من آثار الراغب باسم (أفانين البلاغة) . وذكرها غيره من بين مخطوطاته. ويبدو أن مصنفها أراد من كلمة (البلاغة) المعنى الأدبي الذي يعني ببليغ القول وفصيحه من شعر ومن نثر، ولم يرد المعنى الاصطلاحي منها. أما كلمة (مجمع) فإنه يريد منها أنها تجمع فيها كل أركان الفصاحة والكلام البليغ.

أما كتاب (مفردات ألفاظ القرآن) فسيأتي الحديث عنه في تبيين أثر الراغب اللغوي- إن شاء الله-.

ص: 225

‌خطة بحث:

فإذا ما حاولنا بعد ذلك التعرف على جهوده في ميدان اللغة فإننا سنجدها مبثوثة في مصنفاته الأدبية أو في مفردات ألفاظ القرآن بوجه خاص أو في سائر مصنفاته. وقد برزت له معها جهود لغوية أخرى يمكن أن نجمعها في شكل قضايا لغوية متفرقة، سنعرض لها- إن شاء الله- بعد أن نقف على ما حوت مصنفاته أولاً من هذه الجهود.

أما في مصنفاته الأدبية: فقد عني باللغة عناية خاصة تمثلت في تجميع مفرداتها المتلاقية المعاني المختلفة الأشكال في أسر لغوية، تجد ذلك في الأفعال وفي الأسماء وفي التراكيب التي يقترب بعضها من بعض في الدلالة وتختلف عنها في الصياغة.

ففي معنى (الكبر والضعف) يقول: "احقوقف ودنف وتأطَّر وانحنى، وخانته القوى، وخذلته الأركان، وتقوس من الكبر، وبلِي كما يبلى الشجر، غيض بصره وأجلاده، ولان أجياده، صار كعظم الرمة البالي") 1 فالأفعال الأربعة الأولى أفادت المعنى بنفسها، أما سائر أفعال هذا المعنى فلم تتضح إلا بإكمال التركيب الذي ترد فيه.

وفي جميع المفردات الاسمية التي تنتظم تحت معنى واحد وفي توضيحها ننظر إلى المثال التالي: "القَرْم أكل الصبيِ والخضْد للعقل والخَضْم للرطب والقَضْم لليابس، والقطم بأطراف الأسنان كالرمان، والكَشْم والكَشْذ كنحو القثاء، والَمسْغ والمسع كالبطيخ والكَشْب للحم، والعَلْك لكل معقود والكشّ لذوات الحافر"2.

1 مجمع البلاغة ص 241.

2 مجمع البلاغة 358 ولعله يريد بالكش صوت ذوات الحافر وهي تأكل

ص: 225

أليس يذكرنا الراغب في مثل هذه المجموعات، وما أكثرها في مجمع البلاغة بوجه خاص وفي المحاضرات، بما عرف في فقه اللغة بالفروق والذي ظهر بشكل واضح في كتاب أبي منصور الثعالبي (فقه اللغة وسر العربية) ؟.

إن الباحث حينما يتعمق في هذه المجموعات اللغوية أو الأسر اللغوية في أعمال الراغب، يجد أنه لا يبعد كثيراً عن المراحل المتتالية التي قطعتها معاجم المعاني حتى ارتقت في كتاب الثعالبي في الشرق وفي مخصص ابن سيده في الغرب1.

ففي (القِرى) يقول الراغب: "المأدُبة والوليمة والعُرْس والخُرْس والإعذار والنقيعة والوكيرة والعقيقة والوضيمة للدعوات"2 ولدى البحث نجد لهذه الأسرة اللغوية أصلاً في كتاب (تهذيب الألفاظ) لابن السكيت3، حيث يقول: "

ِ والوليمة طعام العرس.. والوكرة والوكيرة الطعام الذي يصنعه الرجل عند فراغه من بناء داره فيدعو عليه، والإعذار والعذره طعام الختان.... والنقيعة طعام الأملاك.... ويقال لطعام الولادة الخُرس والذي تطعمه النفساء الخُرْسة

"4.

إن مقابلة هذه المجموعة اللغوية في الكتابين تدل على أن الراغب قد اطلع على ما في تهذيب الألفاظ ولم ينهج منهاجه في التفصيل فيما بين المفردات المتشابهة من فروق. ولنتأمل المجموعة اللغوية التالية في أثار الراغب:

" تقول في إصلاح الفاسد: أصلح فاسدَه وحصد معانده وقَوَّم مائده ولمَّ شَعْثَه ورَمَّ رَثّه ومنتكثه وآسى كَلْمَه، حسم الأدواء بكيّه وإنضاجه وِادمل الجروح بطبه وعلاجه، رتق الفتوف بعد تفاقمها واستفحالها

نهض إلى فَتْق فرتَقَه وخرْق فرقعه وشَعْثٍ فلّمه ونشرٍ فضّمه.... تألف النافَر، سد مختله واصلح معتلّه

"5.

ولنتأمل معها المجموعة اللغوية الأخرى من الألفاظ الكتابية للهمذاني (320 هـ) :

"في باب معنى أصلح الفاسد تقول: لم فلان الشعث وضم النشر ورَمَّ الرث وسد الثغر ورقع الخرق ورتق الفتق وأصلح الفاسد وأصلح الخلل وجمع الشتات وجبر الوهن"6.

1 راجع لذلك المعجم العربي، نشأته وتطوره، د. حسين نصار. وحركة التأليف عند العرب د. أمجد الطرابلسي.

2 مجمع البلاغة 392.

3 يعقوب بن اسحق (244هـ) حققه وفهرسله9 لويس شيخو بيروت 1895.

4 المصدر السابق ص614.

5 مجمع البلاغة ص 175.

6من فصل من فصول الباب الأول من الألفاظ الكتابة لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، حققه ونشره لويس شيخو بيروت الوضيمة: طعام المآتم. النقيعة: ما يذبح للضيافة أو طعام الرجل ليلة عرسه.

ص: 226

إننا نجد أن لا بد من وجود علاقة تَأثّرٍ بين المجموعتين، أو المجموعة الواحدة في الكتابين، على الأصح. فكما أن الراغب أفاد من ترتيب سابقه كذلك شقق التعابير ووسّع فيها، في إطار المعنى العام الواحد لمختلف التعابير.

وقد صنَّف في مثل هذه المجموعات اللفظية قدامة بن جعفر، أيضا، كتابا في (جواهر الألفاظ) 1 وكان الفصل الأول فيه باب إصلاح الفاسد. وقدامة من كتاب القرن الرابع الذي أظل الراغب، فيما نرجح، وأظل أبا منصور الثعالبي. ويبدو أنهم لم يكتفوا بمرحلة السمع والتأنقات اللفظية بل تخطوها إلى التأليف في الألفاظ، كما يلاحظ باحث حديث2، وهو يعني أنهم جعلوا ينظرون إلى الألفاظ نظرة تفوق ما بينها من محسنات إلى مستوى تجميعها في أسر ومجموعات.

وقد نجد أن الراغب كان يغتنم فرصة التعبير الغامض فيبادر إلى شرحه من خبرته اللغوية، شرحا معجميا، دقيقا، مثل قوله:"اللَّفَفُ أن يدخل بعض حروف في بعض، والعُقْله أن يعتقل لسانه، واللّكْنَه إذا دخل حروف العجم منه والحُكْلة نقص في آلة الكلام "3. وكثيرا ما يرد الكلمات إلى معانيها اللغوية الأولى التي اشتقت منها، كقوله: "كَعَمه الخوف من الكِعام الذي يوضع على أنف البعير" 4 وقوله: "المخضرم الذي لحق الجاهلية والإسلام، وقيل مخضرم الدولتين لمن لحق بني أمية وبني العباس وأصله من لحم مخضرم أو من المخضرمة وهى القطعة التي تقطع من أذن الناقة "5.

أما ما في المفردات في ألفاظ القرآن من جهود لغوية فإننا نحاول أن نتعرف عليها الآن، بعد ما حاولنا الإشارة إلى ما في هذا المصنف الكبير من أثر في التفسير القرآني ولنتعرف على منهجه في هذا المصنف وعلى غايته من تصنيفه من مقدمته، يقول فيها:" وقد استخرت الله في إملاء كتاب مستوفي فيه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجي، فتقدم ما أوله الألف ثم الباء على ترتيب حروف المعجم، معتبرا فيه حروفه الأصلية دون الزائدة، والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب"6.

1 تحقيق محيى الدين عبد الحميد،القاهرة،1934.

2 د. زكي مبارك، النثر الفني في القرن الرابع.1/86.

3 مجمع البلاغة ص57.

4 مجمع البلاغة ص193.

5 مجمع البلاغة ص53.

6 طبع بعناية محمد سيد كيلاني.

ص: 227

إنه، أولاً، يريد أن يقيم مؤلفه على ألفاظ القرآن لا على معانيها وبذلك يقترب من عمل المعاجم التي تعنى بشروح الألفاظ.

وهو، ثانياً، ينوي أن يرتب هذه الألفاظ باعتبار أوائلها وفقا لترتيب حروف الهجاء: الألف مع الباء والألف. ثم الألف مع الباء والباء، ثم الألف مع الباء والتاء ثم الألف مع الباء إلى

الياء، وهكذا يفعل بسائر الحروف.

وهو، ثالثا، يبدأ بالحروف المجردة للكلمة قبل أن يأخذ في مزيداتها، وهي طريقة المعاجم.

وهو، رابعا، يشرح تحت المادة المجردة كل ما اشتق منها وناسبها، أي اقترب من لفظها، من الألفاظ القرآني.

ولنختر مادة من مواد هذا المصنف، لنرى إلى أي مدى حقق الراغب عملياً هذا المنهاج، ولنبحث عما يميز كتابه هذا عن أعمال سائر اللغويين، ولتكن مادة حَسُنَ:

حَسُنَ:

الحُسْن عبارة عن كل مبهج مرغوب فيه. وذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل، ومستحسن من جهة الهوى ومستحسن من جهة الحسّ.

والحَسَنة يعبر بها عن كل ما يسر من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله.

والسيئة تضادها، وهما من الألفاظ المشتركة، كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة، كالفرس والإنسان وغيرهما. فقوله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي خصب وسعة وظفر، وإن تصبهم سيئة أي جدب وضيق وخيبة. وقال تعالى:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} . وقوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} ، أي من ثواب، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} أي من عقاب.

والفرق بين الحُسْن والحَسَنة والحُسْنى أن الحسن يقال في الأعيان والأحداث، وكذلك الحسنة إذا كانت وصفا، وإذا كانت اسماً فمتعارف في الأحداث، والحسنى لا يقال إلا في أحداث دون الأعيان، والحسن أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر؛ يقال: رجل حسن وحُسّان وامرأة حسناء وحسانه. وأكثر ما جاء في القران من الحسن فللمستحسن من جهة البصيرة. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي الأبعد

ص: 228

عن الشبهة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا شككت في شيء، فدع"، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي كلمة حسنة وقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} .

وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} .

وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، إن قيل: حكُمه حَسَنُ لمن يوقن ولمن لا يوقن فلم خص؟ قيل: المقصد إلى ظهور حسنه والاطلاع عليه وذلك يظهر لمن تزكى واطلع إلى حكمة الله تعالى دون الجهلة. والإحسان: يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير؛ يقال: أحسن إلى فلان، والثاني: إحسان في فعله؛ وذلك إذا علم علماً حسناً أو عَمل عملاً حسناً، وعلى هذا قول أمير المؤمنين رضي الله عنه:"الناس أبناء ما يحسنون" أي منسوبون إلى ما يعملون.

وما يعملون من الأفعال الحسنة قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} .

والإحسان أعم من الإنعام؛ قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} فالإحسان فوق العدل، وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له، فالإحسان زائد عن العدل. فتحري العدل وأجب، وتحري الإحسان ندب وتطوع. وعلى هذا قوله تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} . وقوله عز وجل: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} . ولذلك عظم الله ثواب المحسنين فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، وقال تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} .

ولدى التأمل في هذا النص قد نلاحظ الملاحظات التالية:

أولاً- إن كتاب المفردات معجم خاص، وقد توفر على الشرطين الأساسيين اللذين توفرت عليهما سائر المعاجم اللغوية وهما الترتيب والشمول 1. فها هو ذا قد رتب مفردات القرآن الكريم جميعها تقريبا 2 حسب حروف الهجاء باعتبار أوائلها، فمادة (حَسب) تسبق (حسد) وهما تسبقان مادة خرج وهلم جرا.

1 راجع لذلك حركة التأليف عند العرب وأمجد الطرابلسي، والمعجم العربي، نشأته وتطوره د. حسين نصار.

2 أقول تقريبا لأنني اطلعت على استدراك مخطوط عليه عدد مواد قرآنية لم يتعرض لها، رقم ض448 مكتبة راغب باشا باستانبول.

ص: 229

ونقول: هو معجم خاص؛ لأنه يختص بما ورد في القران الكريم فقط من مواد لغوية. وبهذا قد يكون تفرد من بين أصحاب المعاجم الذين سبقوه. ولعل المعاجم الخاصة لم تظهر إلا متأخرة في اللغات الأجنبية وفي لغتنا العربية1.

ثانياً - ترتيب معجم المفردات على أساس حروف الهجاء مع مراعاة أوائل الأصول.

لقد وردت مادة (حسن) في هذا المعجم في نهاية قائمة الحاء والسين وما يثلثهما: حَسّ، حسب، حَسد، حسر، حسم، حسن. ثم وردت بعد مادتها (حشر) وما يشتق منها. وهكذا يكون قد نظر إلى حرف الحاء- مثلاً- في الترتيب، وهو بذلك يخالف ما عرف قبله من معاجم ترتب المواد حسب مخارج الأصوات، أو اعتبار الحرف الأخير من المادة، كما عرف في معجم العين للخليل (170 هـ) ، وتاج اللغة العربية، وصحاح العربية للجوهري (393) ، ويوافق في طريقته طريقة ابن دريد الأزدي (331 هـ) في الجمهرة في اللغة، وابن فارس (395) الذي نرجح أن الراغب كان معاصراً له، في معجميه (المجمل) ، (ومقاييس اللغة) .

ثالثاً- ثنائية اللغة- ويبدوا أن الراغب قد تأثر بابن دريد أكثر من غيره؛ وذلك أننا لو نظرنا إلى قائمة الحاء والسين وما يثلثهما لوجدناه يبدأ فيها بالفعل حَسَّ ثم يأتي بعده الحاء والسين والباء. وكذلك في مادة (حَضَّ) ومادة (مَزَّ) . أليس يدل هذا على أن الراغب كان يرى ثنائية اللغة وأنها أولاً ذات أصول ثنائية؟ وقد كان ابن دريد يقسم اللغة إلى ثنائي وثلاثي ورباعي وقد لاحظ هذا في الراغب العالم اللغوي الأب انستاس الكرملي، وقال:"إنه تشبث بالثنائية"2، وذكر باحث آخر ذلك بإعجاب قائلاً:"إن الثنائية سمة اللغات السامية"3.

ومما قد يساعد على هذا أن الراغب قد أفرد للمواد الرباعية أبواباً خاصة ولم يلحقها بالثلاثي مثل: عبقر، وعسعس، وشرذم، وسرمد، وِما ذاك إلا أنه يوافق رأيه في القول مع القائلين إن الرباعي ثنائي مضعف، فزلزل مثلاً من زلّ وعسعس من عَسَّ.

رابعاً - الخبرة اللغوية- يبدو أن الراغب يدل بثقافة لغوية عريضة، يناقش فيها ما يورد اللغويون قبله بثقة اللغوي واقتدار المفكر، ففي مادة (بعض) نراه يقول:

"بعض الشيء جزء منه..... ويقال ذلك بمراعاة كل، ولذلك يقابل به كل، فيقال:

1 لم تعرف في لغتنا إلا حديثا معجم المصطلحات الزراعية، والمعاجم الطبيعية والفلسفية والاجتماعية مهلاً.

2 راجع لذلك دراسات في فقه اللغة د. صبحي الصالح ص162، وهذا يوافق رأي الكرملي.

3 المرجع السابق، ص164.

ص: 230

بعضه وكله.... قال أبو عبيدة: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي كل الذي تختلفون فيه كقول الشاعر:

أو يعتبط بعض النفوس حمامها

وفي قوله هذا قصور منه؛ وذلك أن الأشياء على أربعة أضرب:

1 -

ضرب في بيانه مفسدة فلا يجوز لصاحب الشريعة أن يبينه كوقت القيامة ووقت الموت.

2-

وضرب معقول يمكن للناس إدراكه من غير نبي كمعرفة الله ومعرفته في خلق السموات والأرض، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبينه، ألا تَرى أنه كيف أحال معرفته على القول في نحو قوله:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وقوله:"وتفكروا" وغير ذلك من الآيات.

3-

وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصة بشرعه.

4-

وضرب يمكن الوقوف عليه بما يبينه صاحب الشرع كفروع الأحكام. وإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختص بالنبي بيانه فهو مخير بين أن يبين وبين أن لا يبين حسب ما يقتضي اجتهاده وحكمته.

فإذاً قوله تعالى: {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} لم يرد به (كل ذلك) وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه. وأما قول الشاعر:

أو يعتبط بعض النفوس حمامها

فإنه يعني به نفسه، والمعنى ألا أن يتداركني الموت، لكن عَرّض ولم يصرح حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته.

بهذه القدرة اللغوية في فهم النصوص القرآنية والأشعار يناقش الراغب أبا عبيدة معمر بن المثنى أحد شيوخ اللغة والنحو في بداية القرن الثالث الهجري، ويظهر خطأه في أن معنى كلمة (بعض) في الآية {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو (كل) وذلك بفقه شرعي متميز يوضح ما يجوز لصاحب الشرع أو للنبي عليه السلام أن يبينه وما لا يجوز له أن يبينه، وبالتحاكم إلى فهم سليم لنصوص الشعر، في شطر بيت الشعر المنسوب إلى لبيد، حيث يعني نفسه ولم يعن كل الناس، وننظر إلى قوله:"وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه"، إنه يريد أن يقول هذا ظاهر في كل نظر متجرد عن الهوى وبالنظر الموضوعي، كما نقول في هذه الأيام. ولننظر إلى قوله:"حسبما بنيت عليه جملة الإنسان في الابتعاد من ذكر موته" أليست نظرة واقعية إلى طبائع الناس في استبعاد ذكر موتهم، في هذه الحياة؟

خامساً- تطور اللغة- ويبدو أن أبا القاسم الراغب لا يتوفر على خبرة لغوية واسعة وعلى فهم دقيق لأسرار هذه اللغة وحسب؛ بل إن خبرته اللغوية قد مكنته من إدراك التطور الذي أصاب اللغة العربية منذ مرحلة النشأة الأولى التي تبدو في مفرداتها المطلقة على الأمور

ص: 231

المادية المحسوسة إلى مرحلة التطور والتقدم الذي أخذت فيه هذه المفردات دلالات اصطلاحية ومعنوية جديدة، ولننظر لذلك فيما قال في كلمة (الفارض) :

" (والفارض) : المسنَّ من البقر، قال: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} ، وقيل: إنما سمي فارضا لكونه فارضا للأرض أي قاطعا، أو فارضا لما يعمل من الأعمال الشاقة، وقيل: بل لأن فريضة البقر اثنان: تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنّة يصح بذلها في كل حال. فسميت المسنّة فارضة لذلك. فعلى هذا يكون الفارض اسماً إسلامياً".

يريد أن كلمة (فارض) بمعنى المسنة من البقر معنى ظهر في اللغة بمجيء الإسلام، فهي لم تعرف هذا المعنى من قبل، وقد عرفت بدلالتها المادية في فرض الأرض أي قطعها وتشقيقها في الحراثة أو بما يماثله من الأعمال الزراعية الشاقة.

وبهذا يدل الراغب على تنبهه لمعاني المفردات في المعنى المادي وفي المعنى الاصطلاحي المعنوي الذي يواكب التطور الحضاري. وهو سبق أرَى أنه يدل على عقلية متفتحة وسبر للغة العربية نادريَن، فكثيراً ما شغل الباحثون في عصورنا الحاضرة عن الألفاظ الإسلامية التي أضفاها الإسلام على العربية1.

سادساً- الراغب والمعاجم اللغوية- رأينا أن مفردات الراغب في ألفاظ القرآن معجم خاص بكل ما في المعاجم من شمول وترتيب وخبرة لغوية دقيقة. ولذا فإننا لا نستغرب إذا وجدنا أنه ما من مفسر لكتاب الله العزيز أو متفرغ لمعاجم اللغة يأتي بعد عصر الراغب، الذي رجحنا أنه عاش إلى أوائل المائة الخامسة للهجرة، إلا يحتاج من هذا المعجم الفريد، بصريح الإشارة إلى المصنف أو صاحبه أو دونما إشارة.

أما القول بأن معجم (أساس البلاغة) الذي صنعه جار الله بن محمود الزمخشري (538) في اللغة، وإنه مقتفٍ لأثر الراغب في ترتيب مواده اللغوية فهو قول قد يصح ويجوز، وقد يدفعه رأي آخر بأنه تطور طبيعي بدأه ابن دريد الأزدي وسار الآخرون على سنته.

أما في سائر مصنفاته فإننا نجد الخبرة اللغوية أيضا تتضح في تناول الراغب كثيراً من مفردات اللغة بالشرح والتوضيح بين المعاني المتقاربة للألفاظ المتباعدة.

1 ولنلاحظ استخدامه لكلمة الفريضة في قوله (فريضة البقر اثنان) وهو تركيز على المعنى اللغوي لها، جاء في القاموس المحيط (أن الفريضة ما فرض في السائمة من الصدقة) . ولا ننس المعنى الاصطلاحي لها فيما فرض الله على الناس مت أحكام.

ص: 232