المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأولمغالطات الدكتور وافي وأغلاطه - الرد على الدكتور عبد الواحد وافي في كتابه بين الشيعة وأهل السنة

[إحسان إلهي ظهير]

الفصل: ‌الباب الأولمغالطات الدكتور وافي وأغلاطه

‌الباب الأول

مغالطات الدكتور وافي وأغلاطه

قبل أن ندخل في صميم الموضوع ونناقش الآراء التي أظهرها الدكتور علي عبد الواحد وافي في رسالته (بين الشيعة وأهل السنة) نريد أن نلفت أنظار القراء والباحثين إلى أن الدكتور أخطأ فيها أخطاء فاحشة لا يتصور صدورها عن مثله غي ما بدر منه الخطأ في الفهم، ثم بناء على ذلك الخطأ في الحكم. ولعله لم يكتب هذه الرسالة بعد المطالعة والاستقراء، والتعمق في البحث، والتروي في التفكير، والتريث قبل الحكم. ولأجل ذلك ظهرت وكلها خطأ على خطأ، بل لقد تضمنت بعض الأخطاء البديهية التي لا يقع فيها من له إلمامة بسيطة بالتاريخ بخلاف سقطاته في العقائد. فكيف يقع فيها شخص حقق "مقدمة ابن خلدون وتاريخه ثلاثة أجزاء بها نحو ثلاثة آلاف تعليق وتمهيد في نحو ثلاث مائة صفحة من القطع الكبير" حسب ما ذكره فضيلته في آخر رسالته، وكما أشار إليه داخل الكتاب أثناء تعليقه على بعض الفقرات؟

ولقد أخبرت من بعض المحبين لي وله، ممن أثق في صدقه ودينه، بأنه رأى الدكتور وهو يشتغل بهذا الكتيب ولولا ذلك ما كنت لأثق بأن الكتاب من تأليفه، وتيقنت بأن شخصاً له أطماع وأغراض أو مقاصد ومطالب. . استغل اسم فضيلته الكبير، ووضعه على هذا الكتيب، وإلا فكيف يعلل هذه الأغلاط الكبيرة التي ازدانت بها كل صفحة من صفحات هذا الكتيب الصغير؟! وإن لله عجائب في خلقه وقدرته وقضائه وقدره.

فمثلاً يقول الشيخ في تمهيد الكتيب عندما يلقي نظرة مجملة في التعريف بالشيعة الجعفرية.

ص: 31

"النص على الإمام الأول وهو الإمام علي قد جاء في اعتقادهم بوصية الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما الأحد عشر إماماً من بعده فقد استحق كل منهم الخلافة بوصية من الإمام السابق له، وكان كل منهم الابن الأكبر للإمام السابق ما عدا الحسين. . . وما عدا موسى الكاظم فإنه كان الابن الثاني للإمام السابق له وهو جعفر الصادق، واستحق الخلافة لموت أخيه الأكبر إسماعيل قبل وفاة أبيه"(1).

ومحل الشاهد أن موسى الكاظم كان الابن الثاني لجعفر الصادق.

ومن لا يدري غير فضيلة الدكتور أن موسى الكاظم لم يكن الابن الثاني لجعفر بن الباقر، ولم يكن هو الأكبر بعد أخيه الذي توفي في حياة أبيه الجعفر، بل كان هناك من يكبره من إخوته.

وإليكم الشهادة على صحة ذلك من الشيعة أنفسهم، بل ومن كبار الشيعة وقادتهم وأئمتهم في الرجال والتاريخ، فيذكر الكشي أبو عمرو ومحمد بن عمر ابن عبد العزيز في كتابه (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) المعروف برجال الكشي تحت عنوان الفطحية:

"هم القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر بن محمد. . . والذين قالوا بإمامته عامة مشائخ العصابة وفقهائها، مالوا إلى هذه المقالة، فدخلت عليهم الشبهة لما روى عنه (يعني أئمتهم) عليهم السلام أنهم قالوا: الإمامة في الولد الأكبر من الإمام إذا مضى إمام"(2).

هذا ولقد يذكر مثله محمد بن محمد بن النعمان العكبري المتوفى سنة 413هـالملقب بالمفيد، الذي يقولون عنه: إن غائبهم المزعوم هو الذي لقبه به (3) وإليه انتهت رئاسة الإمامة في وقته (4) وكان له لقاءات مع غائبهم الموهوم (5) يقول هذا المؤرخ الشيعي الكبير في كتابه الذي كتبه في ذكر أئمته:

(1) بين الشيعة وأهل السنة ص6، 7

(2)

رجال الكشي ص219 ط كربلاء

(3)

معالم العلماء ص101 - ط إيران

(4)

روضات الجنات للخوانساري ج9 ص153 - ط إيران

(5)

مقدمة الإرشاد ص4 - ط إيران

ص: 32

"وكان عبد الله بن جعفر أكبر إخوته بعد إسماعيل. . . وادعى بعد أبيه الإمامة، واحتج بأنه أكبر الإخوة الباقين، فاتبعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد الله (أي جعفر) عليه السلام. . . ودانوا بإمامة عبد الله بن جعفر، الطائفة الملقبة بالفطحية"(1).

وهذا الأمر لا يختلف فيه اثنان، ولا يتناطح فيه كبشان، وهو متفق عليه بين الشيعة والسنة، وكل كتب التاريخ تنص على ذلك، ولكن لا ندري من أين جاء الدكتور الفاضل بمعلوماته الجديدة "أن موسى الكاظم كان الابن الثاني للإمام السابق له، وقد استحق الإمامة لكبره بعد موت أخيه إسماعيل" وقد أعاد نفس هذا الكلام في رسالته في الباب الرابع صفحة 73 و74.

هذا ما لم يستطع الشيعة أنفسهم التقول به مع تضايقهم وتحرجهم من مواجهة هذا الإيراد والاعتراض: "كيف تحولون الإمامة من عبد الله بن جعفر بعد موت الإمام جعفر الصادق وهو أكبر أبنائه بعده، مع زعمكم بأن الإمامة في أكبر الأبناء؟ كما روى الكليني في كافيه عن جعفر أنه قال: إن الأمر في الكبير"(2).

وبذلك احتج عبد الله على مخالفيه بأنه أكبر الأخوة الباقي، فاتبعه على قوله جماعة من أصحاب جعفر كما ذكرناه آنفاً نقلاً عن الشيعة أنفسهم.

وهذا هو الإيراد الذي أوردناه نحن في كتبنا "الشيعة والتشيع فرق وتاريخ"(3) ولم يستطيعوا الجواب عليه، ولعلي لا أخطئ حسب ما أتذكر دون المراجعة لكتب الشيعة لعدم وجودها عندي ههنا إذا قلت: إن موسى هذا كان الابن الرابع لجعفر بن الباقر، وكان يكبره أيضاً بعد إسماعيل وعبد الله، محمد بن جعفر الذي خرج أيام المأمون ودعا الناس إلى نفسه وبايع له أهل المدينة بإمرة المؤمنين" (4).

(1) الإرشاد للمفيد ص285، 286

(2)

الكافي في الأصول، كتاب الحجة ج6 ص357 - ط إيران

(3)

ص227، 228

(4)

مقاتل الطالبين للأصفهاني ص357، تاريخ بغداد للخطيب ج2 ص114، الإرشاد المفيد وغيرها من الكتب

ص: 33

هذا. . ومثل هذا ما ذكره فضيلته في الكلام عن الإسماعيلية:

"وقد انتهت رئاسة الشيعة الإسماعيلية إلى أغا خان وإلى ولديه من بعده"(1).

مع أن كل من يعلم ومن لا يعلم يعرف أن أغا خان حرم ولديه "علي" و"صدر الدين" من رئاسة الإسماعيلية وإمامتها، ووضعها في حفيده كريم خان زعيم الإسماعيلية الحالي الموجود، ونفذت وصيته عند وفاته وكان ذلك في حياة ابنه علي خان والد كريم خان الذي مات بعده بسنوات في حادث اصطدام سيارته مع إحدى الممثلات الراقصات، وابنه الثاني صدر الدين عم كريم خان الذي لا زال حياً موجوداً.

وكذلك قول فضيلته:

"اسم الرافضة، وهو لقب تطلقه الفرق الأخرى عليهم، وخاصة أهل السنة، وهو الذي يستخدمه شيخ الإسلام ابن تيمية في مؤلفاته"(2).

يدل أيضاً على عدم معرفة الكاتب لكتب الشيعة أنفسهم لأن الفرق الأخرى لم تسمهم بهذا الاسم وخاصة أهل السنة، وأخص بالذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، بل الله سماهم بهذا الاسم كما ورد في بخاري القوم:

"عن محمد بن سليمان عن أبيه أنه قال: قلت لأبي عبد الله - جعفر الإمام السادس المعصوم حسب زعم القوم -: جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزاً (3) أثقل ظهورنا، وماتت له أفئدتنا، واستحلت له الموالاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام:

الرافضة؟

قلت: نعم.

قال: لا والله ما هم سموكم. . . ولكن الله سماكم به" (4).

(1) انظر: ص16 من رسالته "بين الشيعة وأهل السنة"

(2)

الرسالة المذكورة ص9، 10

(3)

النبز: أن تنادي أخاك بلقب يكرهه

(4)

الكافي للكليني كتاب الروضة ج5 ص34 - ط طهران

ص: 34

وأعود لأسأل: وماذا يقصد فضيلته من قوله:

"ويرجع السبب في إطلاق هذا اللقب عليهم أنهم رفضوا الإمام زيد بن علي بن زين العابدين لمخالفته لهم في بعض ما يذهبون إليه في شؤون السياسة"(1)؟!

هل هذه محاولة عن قصد وعمد لتبرئة القوم من الشناعة التي لزمتهم بأن الشيعة لم يرفضوه لمخالفته لهم في بعض ما يذهبون إليه في شئون السياسة، بل رفضوه لأنه لم يرض أن يشتم ويطعن في أبي بكر وعمر؟! إذن إليك ما يرويه الشيعي مرزا تقي خان في كتابه الكبير في التاريخ بالفارسية:

"إن ناساً من رؤساء الكوفة وأشرافها الذين بايعوا زيداً حضروا يوماً عنده وقالوا له:

رحمك الله. . ماذا تقول في حق أبي بكر وعمر؟

قال: ما أقول فيهما إلا خيراً، كما لم أسمع فيهما من أهل بيتي (بيت النبوة) إلا خيراً، ما ظلمانا ولا أحداً غيرنا، وعملا بكتاب الله وسنة رسوله.

فلما سمع منه أهل الكوفة هذه المقالة رفضوه.

فقال زيد: رفضونا اليوم، ولأجل ذلك سموا بالرافضة" (2).

فلم يرفضوه يا سيدي الدكتور لمخالفته لهم في بعض ما يذهبون إليه في شئون السياسة كما أردت إفهام ذلك للناس!!.

أو فهمته خطأ بغير عمد ولا قصد، فسامحك الله إذن.

وما أكثر ما أخطأ فهمك، وضل عنك رشدك، وخانك علمك في هذا الكتيب الصغير، فرحماك يا رب!

وزيد بن علي هذا لم يكن رجلاً عادياً حتى في نظر الشيعة أنفسهم حيث يلقبونه "بحليف القرآن"(3).

(1) بين الشيعة وأهل السنة ص10

(2)

ناسخ التواريخ للميرزا تقي خان الشيعي ج2 ص590 تحت عنوان أحوال الإمام زين العابدين

(3)

انظر: الإرشاد للمفيد ص268 تحت عنوان ذكر أخوة الباقر

ص: 35

وأكثر من ذلك أن الإمام السادس المعصوم عندهم الذي إليه ينسبون مذهبهم في الفروع جعفر بن محمد الباقر كان يعظمه ويجله إلى حد كبير كما ذكر أبو الفرج الأصفهاني الشيعي (1) نقلاً عن الأشناني عن عبد الله بن جرير أنه قال:

"رأيت جعفر بن محمد يمسك لزيد بن علي بالركاب ويسوي ثيابه على السرج"(2).

ثم إن رفض الشيعة زيد بن علي لم يكن شيئاً مستغرباً ولا جديداً، بل ذلك خلق توارثه الأبناء عن آبائهم من قديم، فإنه لزمهم من أول يوم وجدوا فيه، فقد اشتكى منهم في ذلك كثير من أئمتهم الذين يعتقدون بعصمتهم وأنهم لا ينطقون عن الهوى، وأولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث خذلوه ورفضوا نصرته وتأييده في عديد من المعارك والحروب بعد ما بايعوه، وحلفوا على طاعته والولاء له، وتستروا وراء اسمه، ولكن كلما دعاهم إلى المناصرة والمساعدة بدأوا يتسللون منها ملتمسين الأعذار، وبدون التماسها أيضاً .. حتى قال مخاطباً إياهم:

"يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة - والله - جرّت ندماً، وأعقبت صدماً .. قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قبحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، ولكن لا رأي لمن لا يطاع"(3).

وفي معركة أخرى ارتكبوا نفس العمل الذي تعودوه، فقال:

"ألا وإني دعوتكم لقتال هؤلاء ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً .. فتواكلتم

(1) هو أبو الفرج علي بن الحسين، ولد بأصفهان سنة 284 ومات سنة 356هـ، وقد ذكره محسن الأمين في طبقات شعراء الشيعة وطبقة المؤرخن - أعيان الشيعة ج1 ص175

(2)

مقاتل الطالبين للأصفهاني ص129 - ط دار المعرفة بيروت

(3)

نهج البلاغة ص70، 71 - ط بيروت

ص: 36

وتخاذلتم حتى شنت الغارات، وملكت عليكم الأوطان .. ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً .. فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون.

فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر" (1).

ومرة أخرى حتى قال:

"ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي، استنفرتكم للجها فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهود كغياب، وعبيد كأرباب، وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم عني متفرقين أيادي سبأ .. منيت منكم بثلاث واثنتين، صم ذوو أسماع وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء .. والله لكأني بكم فيما إخالكم: أن لو حمس الوغاء، وحمي الضراب قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها"(2).

ولم ي: خذلانهم، وترك نصرتهم، ورفض تأييدهم للحسن بن علي أقل من أبيه، فهم الذين تركوه في خضم المعارك، وأرادوا تسليمه إلى معاوية رضي الله تعالى عنهما، وانتبهوا مضاربه، وجرحوه بمعول في فخذه (3). حتى اضطر إلى أن يقول:

(1) نهج البلاغة ص71، 72 ط بيروت

(2)

نهج البلاغة ص141، 142

(3)

انظر لذلك: تاريخ اليعقوبي لأحمد بن أبي يعقوب الكاتب العباسي ج2 ص215 الشيعي المشهور، ذكره العباسي القمي في الكنى والألقاب ج3 ص246، ومحسن الأمين في أعيان الشيعة، وانظر أيضاً مروج الذهب للمسعودي الشيعي ج2 ص431، الإرشاد للمفيد الشيعي ص190، كشف الغمة للأربل الشيعي ص54، الفصول الهمة ص162 - ط طهران، ورجال الكشي ص103 وغيرها

ص: 37

"أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقن به دمي، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلماً، والله لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير"(1).

وأما الحسين رضي الله عنه فأمره وخذلان الشيعة إياه، ورفضهم نصرته لأمر مشهور غني عن الذكر، كما خذلوا ابن عمه وسفيره إليهم، مسلم بن عقيل، ونذكر ههنا عبارة صغيرة ذكرها محسن الأمين الشيعي المشهور في موسوعته، "ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم، وقتلوه"(2).

وخطبة الحسين مشهورة معروفة ومنقولة في كتب القوم حينما خاطبهم بقوله:

"تباً لكم أيتها الجماعة! وترحاً وبؤساً لكم وتعساً، حين استصرختمونا ولهين فأصرخناكم موجفين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيدينا، وحششتم علينا ناراً أضرمناها على عدوكم وعدونا، فأصبحتم ألباً على أوليائكم ويداً على أعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ولا ذنب كان منا فيكم، فهلا لكم الويلات، إذا كرهتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لم تستخصف، ولكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتم كتهافت الفراش؛ ثم نقضتموها، سفهاً بعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونبذة الكتاب، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا، ألا لعنة الله على الظالمين"(3).

(1) الاحتجاج للطبرسي ص148

(2)

أعيان الشيعة القسم الأول ص34

(3)

كشف الغمة للأربل الشيعي ج2 ص18، 19، الاحتجاج للطبرسي الشيعي ص145

ص: 38

ودعاؤه عليهم أيضاً مشهور معروف ذكره المفيد والطبرسي وغيرهما أنه قبل استشهاده رفع يديه ودعا، وقال:

"اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا"(1).

وخذلانهم لعلي بن الحسين الملقب بزين العابدين أشهر وأعرف من خذلانهم أباه حتى اضطر إلى أن يقر بعبوديته ليزيد بن معاوية كما رواه بخارى القوم الكليني في صحيحه الكافي أن علي بن الحسين قال ليزيد بن معاوية:

"قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره، فإن شئت فأمسك، وإن شئت فبع"(2).

لأنه حسب قوله على زعم الشيعة:

"إن جميع الناس ارتدوا بعد قتل الحسين إلا خمسة: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطيع، وجابر بن عبد الله، والشبكة زوجة الحسين"(3).

وأما محمد بن علي الباقر فكان بائساً من شيعته الروافض إلى حد أنه كان يقول:

"لو كان الناس كلهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً، والربع الآخر أحمق"(4).

وأما جعفر فكان أكثرهم شكاية من أبيه عن الروافض هؤلاء حتى كان يقول مخاطباً إياهم:

"أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثي ما استحللت أن أكتمهم حديثاً"(5).

(1) الإرشاد ص241، أيضاً إعلام الورى للطبرسي ص949

(2)

الكافي للكليني كتاب الروضة ج8 ص235 - ط طهران

(3)

مجالس المؤمنين للشوستري الملقب بالشهيد عند الشيعة، المجلس الخامس ص144 - ط طهران، ومثله في رجال الكشي ص111 - ط كربلاء بدون ذكر الشبكة

(4)

رجال الكشي ص79

(5)

الأصول من الكافي ج1 ص496 - ط الهند

ص: 39

وعبد الله بن يعفور أحد تلامذته المخلصين ومريديه المطيعين، الذي قال فيه جعفر نفسه: ما وجدت أحداً يقبل وصيتي ويطيع أمري إلا عبد الله بن يعفور" (1).

يأتيه يوماً ويشكو إليه مساوئ الشيعة وخذلانهم، ورفضهم مناصرة الأئمة، واتباعهم أوامرهم، وعدم وفائهم وإخلاصهم لهم، فيقول كما رواه الكليني في الكافي أن عبد الله بن يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (جعفر) عليه السلام:

إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم، ويتولون فلاناً وفلاناً، لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء ولا الصدق" (2).

وبذلك روى ابن جعفر بن محمد موسى الملقب بالكاظم عن جده الأول أنه قال:

"لو ميزت شيعتي لم أجدهم غلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد، ولو غربلتهم غربلة لم يبق منهم إلا ما كان لي، إنهم طالما اتكئوا على الأرائك فقالوا: نحن شيعة علي"(3).

فهؤلاء هم الشيعة (4) - أيها السيد الدكتور وافي - الذين ما أطلق عليهم لقب الرافضة لمخالفة زيد بن علي لهم في بعض ما يذهبون إليه في شئون السياسة كما أردت أن تصوره للناس - شئت أم أبيت - من فهم وقصد، أم بدون فهم وعمد، جعلك الله من القسم الثاني، ولم يجعلك من الذين يعرفون ثم يكتمون ليضلوا عباد الله عن سواء السبيل.

(1) رجال الكشي ص213 - ط كربلاء

(2)

الكافي في الأصول ج1 ص375 - ط طهران

(3)

الكافي للكليني كتاب الروضة ج8 ص338

(4)

من أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إلى كتابنا "الشيعة وأهل البيت" باب ذم الشيعة واللعن عليهم ص195 - 202، وكتابنا "الشيعة والتشيع فرق وتاريخ" الباب السادس من ص269 إلى ما بعد. كلها طبعة إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان

ص: 40

وأما قول الدكتور وافي "أنه قد يطلق عليها "أي الشيعة" كذلك اسم الواقفية لأنها تقف بالإمامة عند الإمام الثاني عشر وتعتقد أنه لا يستحق الخلافة أحد من بعده"(1) فهو أيضاً من عدم معرفته بعقائد الشيعة وتاريخها، وتاريخ الفرق التي انبثقت منها وتفرعت في مختلف الأيام والدهور.

أولاً: إن اسم الواقفية (2) لم يستعمل في كتب الفرق والرجال على الإثني عشرية قط، لا في الكتب الشيعية ولا في الكتب السنية.

ثانياً: إنما استعمل هذا اللقب في كتب الشيعة وفي كتب السنة على من توقف على إمامة جعفر بن الباقر أو من توقف على موسى الملقب بالكاظم، انظر لذلك من كتبهم: فرق الشيعة للنوبختي، والمقالات والفرق لسعد بن عبد الله القمي، وكتاب الرجال للكشي، والإرشاد للمفيد، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين، ومن كتب أهل السنة الملل والنحل للشهرستاني، ومقالات الإسلاميين للأشعري، واعتقادات فرق المسلمين للرازي، والفرق بين الفرق للبغدادي والتبصير للأسفرائيني وغيرها من الكتب.

ثم استعمال لفظة الخلافة في قول الدكتور أيضاً خطأ، وإن دلّ هذا على شيء دلّ على عدم معرفته باصطلاحات الشيعة، لأن الكتب التي تبحث عن الفرق والرجال عند الشيعة، وعندنا أيضاً لا تستعمل هذه الكلمة إطلاقاً، بل تستعمل لفظ "الإمامة" فقط عند ذكر أئمتهم وعقائدهم، وإنني أشك في أن مثل هذا يخفى على واحد ممن يشتغل بالكتابة عن الفرق، حتى المبتدئ فيها، وإن الفرق بين الإمام والخليفة، والإمامة والخلافة، فرق ظاهر بيّن، يكاد أن يعد من البديهيات بالنسبة لطلبة العلم دون أن يكون الكاتب ممن قضى عمره وأفناه في الدرس والتدريس، وفي التعلم والتعليم، ويحمل شهادات كبرى؛ زيادة على أنه حقق كتاب تاريخ عظيم كتاريخ ابن خلدون وعلق عليه.

وإن الشيعة أنفسهم يقرون بمبايعة أئمتهم للخلفاء سواء كانوا من الراشدين الثلاثة أو بعدهم من بني أمية وبني العباس، فهؤلاء الشيعة يذكرون إمامهم

(1) بين الشيعة وأهل السنة ص9

(2)

وهذا هو الاسم الصحيح كما استعمله أصحاب الفرق من الشيعة

ص: 41

الأول المعصوم علياً رضي الله عنه أنه ذكر الأحداث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالة أرسلها إلى أصحابه بمصر بعد مقتل محمد بن أبي بكر، فذكر فيما ذكر فيها انثيال الناس إلى أبي بكر وإسراعهم إليه ليبايعوه، ثم كتب:

"فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر، وسدد، وقارب، واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله جاهداً"(1).

وكذلك ذكر الطوسي الملقب عند الشيعة بشيخ الطائفة في أماليه أن علياً رضي الله عنه ذكر مبايعته لعمر مخاطباً أهل الشام:

"فبايعت عمر كما بايعتموه، فوفيت له بيعته، حتى لما قتل جعلني سادس ستة، فدخلت حيث أدخلني"(2).

كما يذكر مبايعة علي رضي الله عنه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، ومن لسان علي رضي الله عنه وإقراره بنفسه حيث قال:

"كرهت أن أفرق جماعة المسلمين وأشق عصاهم، فبايعتم عثمان فبايعته"(3).

وكان من أول المبايعين له بعد عبد الرحمن بن عوف كما ذكره البخاري في صحيحه، وابن سعد في طبقاته من السنة، وابن أبي الحديد من الشيعة في شرحه للنهج تحت قول علي رضي الله عنه:

والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله" (4).

(1) الغارت لأبي إسحاق إبراهيم الثقفي الكوفي الأصبهاني الشيعي المتوفى سنة 283هـج1 ص307 - ط طهران، و"منار الهدى" لعلي البحراني الشيعي ص373، أيضاً ناسخ التواريخ للميرزا تقي ج3 ص532 - ط طهران

(2)

الأمالي للطوسي ج2 ص121 - ط نجف

(3)

الأمالي للطوسي ج2 الجزء 18 ص121

(4)

نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ص102 - ط بيروت

ص: 42

"ثم مدّ يده فبايعه"(1).

ومث ذلك ذكر الميرزا تقي من الشيعة أيضاً في تاريخه (2).

ومبايعة حسن بن علي رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكذلك مبايعة أخيه الحسين لأشهر من أن يذكر ولكن رغبة في إقناع سيادة الدكتور والأخوة الباحثين نثبت ههنا عبارة من كتب الشيعة أنفسهم، فلقد ذكر كل من الكشي والمجلسي - يلقبه الشيعة بخاتمة المحدثين - والعباس القمي عن جبريل بن أحمد وأبي إسحاق حمدويه وإبراهيم ابني نصير، عنهم جميعاً أنهم قالوا:

حدثنا عبد الحميد العطار الكوفي عن يونس بن يعقوب عن فضل غلام محمد بن راشد قال:

سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن معاوية كتب إلى الحسن بن علي (بعد الصلح) صلوات الله عليهما أن أقدم أنت والحسين وأصحاب علي، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري وقدموا الشام، فأذن لهم معاوية وأعد لهم الخطباء.

فقال: يا حسن قم فبايع.

فقام فبايع.

ثم قال للحسين: قم فبايع.

ثم قال لقيس (وكان قائد عساكر الحسن):

قم فبايع.

فالتفت إلى الحسين عليه السلام ينظر ما يأمره؟

فقال: يا قيس! إنه إمامي - وفي رواية -

فقام إليه الحسن، فقال له:

بايع يا قيس! فبايعه" (3).

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد

(2)

ناسخ التواريخ ج2 كتاب2 ص449 - ط إيران

(3)

رجال الكشي، واللفظ له ص102، جلاء العيون للمجلسي بالفارسية ج1 ص395 ط طهران، منتهى الآمال بالفارسية أيضاً للعباسي القمي ص316 - ط طهران

ص: 43

وقبل ذلك جعل الحسن رضي الله عنه أحد شروط الصلح مع معاوية رضي الله عنه:

"أن يعمل بين الناس بكتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة الخلفاء الراشدين .. وأخذ على هذه الشروط، العهود المغلظة باليمين"(1).

وخبر علي بن الحسين زين العابدين قد ذكرناه فيما سبق من الكليني في كافيه الذي قال فيه محدث الشيعة النوري الطبرسي:

"هو أحد الكتب التي عليها تدور رحى الفرقة الإمامية .. وكتاب الكافي بينها كالشمس بين نجوم السماء .. وإذا تأمل فيه المنصف يستغني عن ملاحظة حال آحاد رجال سند الأحاديث المودعة فيه، وتورثه الوثوق، ويحصل له الاطمئنان بصدورها وثبوتها وصحتها"(2).

وأمر الآخرين السبعة ممن يزعمهم الشيعة أئمة لهم أمر مشهور، ونذكر فقط عن واحد منهم - وهو جعفر بن الباقر الذي إليه ينسب الشيعة الاثنا عشرية مذهبهم - أنه في يوم من الأيام "أحضره المنصور وقال له:

قتلني الله إن لم أقتلك، أتلحد في سلطاني؟

فقال له الصاقد (ع): والله ما فعلت ولا أردت، وإن كان بلغك فمن كاذب" (3).

ولأجل ذلك لم يبايع عمه عبد الله بن الحسن المثنى ولا ابنه بعده محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية الذي كتب عنه الأصفهاني الشيعي:

وكان محمد بن عبد الله بن الحسن من أفضل أهل بيته، وأكبر أهل زمانه في زمانه، في علمه بكتاب الله، وحفظه له، وفقهه في الدين، وشجاعته، وجوده، وبأسه، وكل أمر يجمل بمثله، حتى لم يشك أحد أنه المهدي، وشاع ذلك له في العامة، وبايعه رجال من بني هاشم جميعاً،

(1) جلاء العيون للمجلسي ج1 ص393 - ط طهران 1398هـ، منتهى الآمال للعباس القمي ص314 - ط إيران، والفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة ص163 - ط طهران

(2)

مستدرك الوسائل ج3 ص546 - ط مكتبة دار الخلافة طهران 1321هـ

(3)

الشيعة في التاريخ لمحمد حسين الزين ص107، 108 - ط بيروت سنة 1399هـ

ص: 44

من آل أبي طالب، وآل بني العباس، وسائر بني هاشم" (1).

مع هذا كله لم يبايعه، كما لم يبايع أباه من قبل (2).

وإنني لأرى بعد ذلك كله أنني لم أقصر في تفهيم المسألة وتبيين القضية، ومن لم يفهم بعد ذلك فإن ربك لستار العيوب وغفار الذنوب.

وأما ترجيح سيادته اسم الجعفرية واقتصاره على استعماله (3) - لو لم تكن عن سوء نية - فأيضاً خطأ، حيث أن هناك كثيراً من فرق الشيعة غير الاثنى عشرية تدخل تحت هذا الاسم، لأن كل فرق الشيعة الموجودة اليوم غير الزيدية تعتقد بإمامة جعفر وتنسب إليه فقهها من الإسماعيلية، والنزارية منها والمستعلية، والنصيرية، والدروز، والقرامطة وغيرهم الكثيرين الكثيرين.

فلا أدري أسباب ترجيح هذا الاسم عنده دون غيره مع عدم رضائه لاختيار اسم الإمامية لاشتراك غيرهم معهم تحت هذا الاسم (4).

وإليك سبب تركه هذا الاسم بألفاظه:

"وقد يطلق عليها كذلك اسم الإمامية .. ومع أن هذا اللقب هو الذي يكثر إطلاقه عليهم لدى عامتهم ويكثر استعماله كذلك في مؤلفات علمائهم فإنه ليس مقصوراً عليهم، بل ينطبق على فرق الشيعة الأخرى تذهب في موضوع الإمامة إلى ما يذهبون إليه، وخاصة فرقة الشيعة الإسماعيلية"(5).

ومن مُبلغٌ عنّي إلى السيد المحترم بأن اسم الجعفرية يشمل الإسماعيلية وغير الإسماعيلية أيضاً كما ذكرنه آنفاُ، إن كان هذا هو سبب تركه!.

ومن يخبر شيخاً لا يعرف عن الاثنى عشرية شيئاً مع انتشار كتبهم وتواجدهم في أكثر البلدان الإسلامية أن كتب الفقه الإسماعيلي وكتب الحديث الإسماعيلية كلها تدور حول الآراء المنسوبة والروايات الموصولة إلى جعفر بن الباقر، زيادة على ذلك أن كتب الفرق التي لم يكلف السيد الدكتور نفسه

(1) مقاتل الطالبين للأصفهاني ص233

(2)

انظر لذلك: الكافي للكليني كتاب الحجة ج1 ص358 وغيره من الكتب

(3)

بين الشيعة وأهل السنة ص8

(4)

انظر لذلك رسالته: بين الشيعة وأهل السنة ص9

(5)

انظر لذلك رسالته: بين الشيعة وأهل السنة ص9

ص: 45

العناء بإلقاء النظرة عليها، شيعية كانت أم سنية، تستعمل هذا اللقب على الفرق الشيعية التي وجدت قبل وجود الشيعة الاثنى عشرية، وما أظن أن مكتبته ينقصها كتاب "الملل والنحل للشهرستاني" من السنة، فليمسح الغبار عنه ويقلب أوراقه ويلقي نظرة ولو خاطفة في مبحث الشيعة بعد عنوان "رجال المرجئة" فيجد أن اسم الجعفرية قد يطلق على قوم توقفوا بالقول على إمامة جعفر ولم يجروها في أولاده، أي لم يعتقدوا ببقية الأئمة الذين آمن بهم الشيعة الاثنا عشرية واعتقدوا بإمامته، فعلى ذلك فإن الاسم الجامع المانع لهذه الفئة من الشيعة هو الاثنا عشرية، لأن غيرهم لا يعتقدون بمن يعتقد بهم هؤلاء ولو جاز إطلاق كل الأسماء من الإمامية والجعفرية والروافض عليهم، كما بيناه مفصلاً في كتابنا (الشيعة والتشيع فرق وتاريخ) فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه (1).

ولكننا أردنا التنبيه هنا بأن اختياره وترجيحه اسم الجعفرية على غيره واقتصاره عليه ليس نابعاً إلا من عدم معرفته بالموضوع.

وكذلك قوله بأن هذه الفرقة تسمى الجعفرية "لاعتمادها في جميع ما تذهب إليه من عقيدة وشريعة على آراء ينسبونها إلى جعفر الصادق"(2) يدل أيضاً على عدم علمه بالقوم وعقائدهم. ونذكر هنا عبارة واحدة لبيان تحري السيد الدكتور الحقيقة من أهم مصادر الشيعة، يقول السيد محسن الأمين - وهو يعد من كبار علماء الشيعة وأهم كتّابهم في الماضي القريب - يكتب في موسوعته وهو يذكر سبب تسمية الاثنى عشرية بالجعفرية:

"الجعفرية باعتبار أن مذهبهم في الفروع هو مذهب الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، ونسب مذهبهم في الفروع إليه باعتبار أن أكثره مأخوذ عنه"(3).

وأما العقيدة والشريعة فلم يأخذها الشيعة عن جعفر ولا غيره، بل أخذوها عن اليهودية الأثيمة، الجريحة التي انسكرت فلولها، واندحرت

(1) وستصدر طبعته السادسة في مصر إن شاء الله

(2)

"بين الشيعة وأهل السنة" ص8

(3)

أعيان الشيعة الجزء الأول، القسم الأول ص20 - ط بيروت

ص: 46

شوكتها، وزلزلت أركانها، واستؤصلت شأفتها، وهدمت قلاعها، ودمرت ديارها على يد رسول الله الصادق الأمين، وخلفائه الراشدين، الصديق، والفاروق، وأفلت نجومها أيام ذي النورين رضي الله عنهم أجمعين، فترقبت لثأرها، ودبرت لانتقامها، وخططت مؤامرتها وأحكم نسيجها، فأرسلت ابنها البار بها عبد الله بن سبأ (1) من صنعاء اليمن ليكيد للإسلام كيداً، ويزرع في المسلمين فتناً، ويدس لهم دسائس، ويروج فيهم عقائد لا أساس لها في القرآن ولا في السنة، لتنتشر البلبلة، ويفشو الفساد، وتعم القلاقل، وتضطرب الأمور، وتقف القوافل، قوافل النصر والظفر، قوافل الجهاد والأبطال، كي لا يحيط نور الله بالمعمورة، وفعلاً حصلت ما أرادت ولله عاقبة الأمور، وهو عليم بحكمها وعللها، فجاء ذلك اللعين إلى المدينة، ودخل في زمرة المسلمين وهو يعتزم الإيقاع بدينهم، وتقويض جماعتهم، وفي قلبه حفيظة عليهم، ثم ذهب إلى مصر، ثم إلى الكوفة، ثم إلى الشام، محاولاً إضلال العقول الضعيفة، والقلوب المريضة، وأصحاب الأغراض الذين لم يدخلوا في دين الله إلا طمعاً وحرصاً في زخارف الحياة ومتاع الدنيا، فأتى مصر، فوجد المرتع الخصب، والأرض القابلة للفتن، فأقام بين أهلها يتنقل من مدينة إلى مدينة، وقرية إلى قرية، حتى استطاع بزخرف القول أن يوغر صدورهم على خليفة رسول الله، وزوج ابنتيه، ذي النورين، صاحب الجود والحياء، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، كما استطاع أن ينشئ في عقائدهم خللاً، ويزين لهم من القول ما حمله من اليهودية المدبرة من ورائه، وأن يزحزحهم عن العقيدة الصحيحة المستقيمة، حتى جرهم إلى قتل عثمان (2) مع من وجده من الأنصار والمغترين به من مختلف الأمصار الإسلامية، وبذلك استطاع قلب الحكم الإسلامي، وأوجد ثلمة في صفوف المسلمين، وفتقاً لم يرتق إلى يومنا هذا، كما استطاع أن ينشئ جماعة كاملة تحمل أفكاره وآراءه

(1) راجع: لمعرفة التفاصيل عن شخصيته الخبيثة وأنها حقيقية كتابنا "الشيعة وأهل البيت"

(2)

انظر: لتفصيل هذه الحوادث كتابنا "الشيعة والتشيع فرق وتاريخ"

ص: 47

باسم العقيدة التي أتحفها إياهم من اليهودية الجريحة رمزاً لانتقامها وشعاراً لثأرها، عقيدة وشريعة لا تمت إلى الإسلام بصلة قريبة أو بعيدة، وشريعة الله السماوية الحقة بريئة منها كل البراءة.

وها هي تلك العقيدة من أوثق كتب الشيعة أنفسهم مع بعض تحركاته يذكرها مؤرخ شيعي إيراني في تاريخه الفارسي الكبير:

"إن عبد الله بن سبأ توجه إلى مصر عندما علم أن مخالفيه (أي عثمان ذي النورين) كثيرون هناك، فتظاهر بالعلم والتقوى وافتتن به الناس، وبعد الرسوخ فيهم بدأ يروج مذهبه ومسلكه بأن لكل نبي وصياً، ووصي رسول الله على المتحلي بالعلم والفتوى، والمتزين بالكرم والشجاعة، والمتصف بالأمانة والتقى، وإن الأمة ظلموا علياً وغصبته حق الخلافة والولاية، ويلزم الجميع مناصرته ومعاضدته وخلع طاعة عثمان، وبيعته كفارة لذنب ارتكبوه، وجريمة اقترفوها لإعطائهم حقه غيره، فتأثر كثير من المصريين بأقواله، وخرجوا على الخليفة عثمان"(1).

وما كتبه أقدم مؤرخ شيعي، وأول كاتب في الفرق من الشيعة النوبختي أبو محمد الحسن بن موسى من أعلام الشيعة في القرن الثالث للهجرة، ومن تلاه بعده سعد بن عبد الله القمي، وأقدم من كتب في الرجال منهم أبو عمرو بن عبد العزيز الكشي من علماء القرن الرابع، لجدير بالعناية والاهتمام.

فيذكر كل واحد منهم رواية متقاربة الألفاظ والمعنى بتقديم لفظ وتأخير آخر، واللفظ للنوبختي تحت عنوان "السبئية":

"عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وقال: إن علياً عليه السلام أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا، فأقرّ به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين! أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت، وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فصيره إلى المدائن.

وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله

(1) روضة الصفا ج3 ص292 - ط طهران

ص: 48

بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة، فقال بعد إسلامه في علي عليه السلام بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه فمن هناك قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية، ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعى علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت، لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض" (1).

فهذه هي العقائد، وهذه هي الشريعة توارثتها الشيعة جيلاً بعد جيل، وتناقلها علماؤهم وعامتهم قرناً بعد قرن، وذاك هو واضعها ومؤسسها وبانيها، فمنه أخذوا، وعليه اعتمدوا، كما سيأتي بيانه مفصلاً في محله إن شاء الله مدعماً بالأدلة الصريحة والبراهين القاطعة من كتب القوم أنفسهم بأن عقائد الشيعة الاثنى عشرية اليوم هي عين تلك العقائد التي خططتها اليهودية، وروجها اليهودي الماكر الخبيث.

فهذه هي الحقيقة، لا كما تخيلها الدكتور الفاضل.

وكذلك قوله:

وهي آراء يتصل سند معظمها في نظرهم بالإمام علي بن أبي طالب - فبالرسول" (2).

وحضرته لا يدرك بكلامه هذا أن الإمام في نظر الشيعة يتحلى بالعصمة مثلما يتحلى بها الأنبياء، ويحمل علماً مثلما يحمله الرسل، بل وأكثر، فمن كان هذا شأنه ومكانته لا يحتاج، ولا يطالب باتصال كلامه وإسناده إلى الرسول، وعلى ذلك أورد محدثو الشيعة الاثنى عشرية أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر، وجاوزت عنه، أن الأنبياء والأئمة في العصمة والعلم سواء، بل الأئمة يزيدون على أنبياء الله ورسله ولا ينقصونهم، كما أن محدثهم الكبير صاحب موسوعة

(1) فرق الشيعة للنوبختي الشيعي ص41، 42 - ط المطبعة الحيدرية نجف بتعليق آل بحر العلوم-ط سنة 1959، المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي ص21 - ط طهران سنة 1963م، رجال الكشي ص100 - 101 - ط كربلاء وغيرها من الكتب الكثيرة

(2)

بين الشيعة وأهل السنة

ص: 49

كبرى في الحديث الشيعي، "الحر العالمي" المتوفى سنة 1104هـبوّب باباً مستقلاً في كتابه "الفصول المهمة" بعنوان "الأئمة الإثنا عشر أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم، وأن الأنبياء أفضل من الملائكة".

وأورد تحت هذا الباب روايات كثيرة ننقل منها رواية واحدة رواها عن جعفر بن الباقر أنه قال:

إن الله خلق أولي العزم من الرسل، وفضلهم بالعلم، وأورثنا علمهم، وفضلنا عليهم في علمهم، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يعلمهم، وعلمنا علم الرسول وعلمهم" (1).

ومن كان هذا شأنه بأنه يفوق الرسل وسيد الرسل حيث يعلم علومهم وعلم ما أعطي له لنفسه لماذا يحتاج أن يسند قوله إلى نبي أو رأيه إلى رسول؟

ولأجل ذلك يقول السيد الخميني زعيم إيران اليوم في كتابه "ولاية الفقيه" ما نصه:

"إن من ضروريات مذهبنا ألا ينال أحد مقامات الأئمة المعنوية الروحية، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما وردت في روايتنا أن الأئمة كانوا أنواراً تحت العرش قبل تكوين العالم .. وعنهم نقل أنهم قالوا: إن لنا مع الله أحوالاً لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذه المعتقدات من القواعد والأسس التي عليها قام مذهبنا"(2).

وأخيراً نورد في هذا الموضوع رواية أخرى من الصحيح الذي قال فيه غائبهم: كاف لشيعتنا (3).

أورد فيه الكليني عن جعفر أنه قال:

ما جاء به علي عليه السلام آخذ به، وما نهى عنه انتهى عنه، جرى له

(1) الفصول المهمة في أصول الأئمة للحر العاملي ص152 ط إيران

(2)

"ولايت فيه در خصوص حكومت إسلامي" لنائب الإمام السيد الخميني تحت باب "ولايت تكويني" من الأصل الفارسي ص58 - ط طهران

(3)

انظر: مستدرك الوسائل ج3 ص532، 533، الصافي ج1 ص4، منتهى الآمال ص298، نهاية الدراية ص219، روضات الجنات ص553 نقلاً عن معاشر - الأصول ص31

ص: 50

من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولمحمد صلى الله عليه وسلم وآله الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين عليه السلام باب الله لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك يجري لأئمة الهدى واحداً بعد واحد جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار، وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي فيكسى، وأدعى فأكسى، ويستنطق واستنطق على حد منطقه، ولقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي، علمت المنايا والبلايا، والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني، ولم يعزب عني ما غاب عني" (1).

وأما قول الدكتور بأن الشيعة يطلقون على جعفر والباقر اسم "الشيخين" فلم نسمع هذا من أحد قبله.

وأما تعريضه بشيخ الإسلام ابن تيمية حيث ادعى عليه أنه قد خلط بين الشيعة الجعفرية وبين غيرها من فرق الشيعة، فنسب إلى الجعفرية عقائد وآراء ليست من عقائدهم ولا من آرائهم شيء (2). فقد جاز به حد الخطأ - ولولا الإساءة - لقلت: بلغ حد الجهل، والجهل المركب، الذي لا يدري صاحبه، ولا يدري بأنه لا يدري.

ولا أدري كيف استساغ من لا يعرف البديهيات والأشياء البدائية التافهة عن الشعة أن يتهكم بكود شامخ كابن تيمية. بدل أن يغترف من بحره الزاخر، ويستفيد من علمه الوافر؟.

(1) الأصول من الكافي ج1 ص196، 197 ط إيران

(2)

بين الشيعة وأهل السنة ص11

ص: 51

كيف جاز له أن يتهمه بعدم معرفته من الاثنى عشرية؟ وعدم تفريقه بينهم وبين من عداهم في كتابه "منهاج السنة النبوية" الكتاب الذي لا زال مرجعاً أساسياً، ومصدراً فياضاً لكل من يريد أن يعرف الشيعة على حقيقتهم، ومساوئهم ومخازيهم؟ وحضرة الدكتور مع تعاليه وتفاخره كثيراً خلال الفقرات والتعليقات في هذه الرسالة لم يثبت لنفسه، لا العقل ولا معرفة النقل، كأن سيادته لا يفرق بين الشرق والغرب، ولا بين الشمال والجنوب، وأنه لا يعرف الحابل من النابل، ولا الليل من النهار:{وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور} (1).

وهل يجوز لعالم أو منتسب إلى العلم أن يحكم على شيء بدون معرفته؟، وأن يصدر قضاءه بدون أدنى علم منه بالقضاء والقضية،؟ ولولا حسن ظني بالسيد الدكتور وأنه لا يعرف عن حقيقة الشيعة شيئاً كما يبدو لأول وهلة لمن يلقي نظرة ولو طارئة على كتيبه، وكما بيناه نحن آنفاُ بالوثائق والمستندات، لذهب بي الخيال إلى ظنون كثيرة وبعيدة.

فقد أوقع الدكتور نفسه في مأزق حرج بكتابة هذه الرسالة التي لم يكن لها مبرر أن يكتبها، ويندفع إلى تبرئة الشيعة إلى حد يخطئ ابن تيمية وآراءه فيهم، وهو لا يكتب سطراً فيهم، ولا كلمة عنهم إلا ويتدفق قلمه خطأ.

وينبغي أن يعرف الجميع أن كل ما نسب إلى الشيعة الاثنى عشرية من الغلو في الأئمة واتصافهم بأوصاف الله وامتلاكهم قدرته، وسلطانه واختياراته التي لا يشاركه فيها أحد ممن في السماوات وممن في الأرض، وتفضيلهم إياهم على أنبياء الله ورسله، وإنكارهم القرآن واعتقادهم التحريف فيه، وتكفيرهم المسلمين وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون مع بقية العشرة المبشرة غير علي، وأزواج الرسول أمهات المؤمنين، ومن بعدهم من تبعهم من الأئمة بإحسان إلى يوم الدين، وإيمانهم بالرجعة والتناسخ والحلو، ونسبة الجهل إلى الله جل وعلا، وجعل الكذب ديناً وديدناً

(1) سورة فاطر الآية 19 - 22

ص: 52

وشعاراً، وتفريق كلمة المسلمين، والكراهية لهم، والوقوف ضدهم مع أعدائهم، كل هذا حق وثابت من كتب الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم، المعتمدة لديهم والموثوقة عندهم، كما ذكرنا بعضاً منها في هذا المبحث، وكما سنبين البقية الباقية فيما يأتي من هذه العجالة، وإن كان إنكار هذه الحقائق الثابتة ليس إلا إنكار الشمس وهي طالعة، كما أنه ليس إلا سخرية بالعقول، وتحكماً بالأحلام، وتجنياً على العلم، وكتماناً للحق، ونكاية بنفسه.

وأما كون الاثنى عشرية ينكرون هذه العقائد فعليهم أن ينكروا قبل كل شيء كتبهم، وما كتب فيها من التفسير والحديث والفقه والأصول والعقائد.

ثم لا أدري، ولست أخال أدري!! هل العقائد والمعتقدات يحكم على وجودها وعدمها بناء على أقوال أشخاص ومقولات رجال ليس لهم خيار صنعها وإنكارها؟ ومقولات لم يتقولوا بها إلا فراراً من العار الذي لحقهم حيث لا يجدون عنها مخرجاً، وهذا مع دعواهم بأن مذهبهم مبني على أقوال المعصومين - حسب زعمهم - من أهل البيت (1) علي رضي الله عنه وآرائهم، ومستقاة من أفعالهم وتقريراتهم، فتمشياً مع أصولهم وقواعدهم يساءلون: هل هم المعصومون أم أئمتهم الذين آخرهم غاب في سامراء - حسب زعمهم -؟

فإن كان الحجة أولئك فليستندوا لإنكارهم بروايات أولئك القوم مقابل الروايات الكثيرة الكثيرة الي بلغ بعضها حد التواتر في إثبات ما يلزمهم خصمهم من العقائد اليهودية، والأفكار الوثنية، والآراء المجوسية - معاذ الله أن تكون صادرة من الطيبين من أولاد علي رضي الله عنه.

نعم! عليهم أن يثبتوا كل هذا من أئمتهم المعصومين، ويبرهنوا على إنكارهم بأقوالهم المنقولة عن كتبهم أنفسهم.

وأما مجرد الإنكار فلا يعد إلا تهرباً من الحقائق وفراراً من النتائج، وتمسكاً بالكذب الذي أعطوه صبغة التقديس باسم التقية، لا ينخدع به

(1) لا أهل بيت النبي كما يزعمه بعض غير العارفين بمذهبهم لأن الشيعة أنفسهم يصرحون بأن المقصود من أهل البيت أهل بيت علي لا النبي

ص: 53

إلا المغفلون، أو من أراد خداع نفسه عن قصد أو سوء نية. فافهم فإنه دقيق، وعليه يترتب فهم كثير من المسائل وحل كثير من الغوامض والألغاز والمشاكل، وليتدبر فيه حضرة الدكتور الذي لم يبن آراءه في رسالته التي كتبها - كما يظهر - إلا على السمعيات ألقيت في مسامعه، ولم يدر أنه من زخرف القول غروراً يوحي به بعضهم إلى بعض، ويلقي به بعضهم إلى بعض معرضاً عن المرئيات والبصريات، ومنكراً على من اعتمد عليها، ثم تسلل عنه من أوقعه في هذا المأزق الزلق، وألقى عليه مثل هذا القول الزور، وتركه وحيداً مستصرخاً هو وأمثاله قائلاً:{. . . وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي. .} (1).

ولو لم يك هذا ما كان له أن يكتب: "أن كثيراً من مؤلفينا قد خلط بين الشيعة الجعفرية وغيرها من فرق الشيعة .. تبدو هذه الظاهرة حتى في مؤلفات العلامة ابن تيمية، انظر كتابه منهاج السنة"(2) بل وجد عكس ذلك فإن كتب القوم في الحديث وفي التفسير تشهد بصدق ما كتبه ابن تيمية وغيره ممن سلك مسلكه وتبع خطواته في الرد على هؤلاء المنحرفين المبتدعين، المنتحلين المبطلين،- غفر الله للرجل ولأمثاله -.

وكذلك قول الدكتور في تمهيده:

"وقد بلغ كل إمام من هؤلاء الأئمة (الاثنى عشر) سن الرشد وكانت له رسالة في قومه .. ما عدا الإمام الثاني عشر"(3). جهل محض لأنه لا يعرف ماذا يقصد به؟

إن كان قصده أن كل إمام منهم نصب إماماً بعد بلوغه سن الرشد فهذا من أخطاء سيادته الكثيرة الكثيرة الموجودة في كل صفحة من صفحات هذا الكتيب الصغير، وفي كل سطر من سطوره كما يلاحظه القارئ لأن

(1) سورة إبراهيم الآية22

(2)

ص11 من رسالة الدكتور

(3)

رسالته المذكورة ص7

ص: 54

البعض منهم اعتقدوا بإمامته ولم يكن يعقل شيئاً عن أمور دنياه، فضلاً عن أمور دينه ودين الآخرين، فمثلاً إمام الاثنى عشرية العاشر علي بن محمد المكنى بأبي الحسن والملقب بالهادي أو النقي أنه لما مات أبوه محمد بن علي بن موسى بن جعفر تركه هو وأخاه موسى وكان الأكبر منهما لم يتجاوز الثامنة من العمر حسب قول الشيعة (1).

وكانا من الصغر في العمر إلى حد أن "أوصى أبوهما على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق إلى عبد الله بن المساور إلى أن يبلغا الحلم"(2).

هذا وأبوه محمد المكنى بأبي جعفر الملقب بالجواد أو التقي الإمام التاسع للشيعة الاثنى عشرية أيضاً لم يك قد بلغ سن الرشد وقت وفاة أبيه، بل كان في سن أصغر من ولده علي وقت وفاته: ومضى الرضا علي بن موسى عليهما السلام ولم يترك ولداً نعلمه إلا الإمام بعده أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام، وكانت سنه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهراً" (3).

وعلى ذلك اختلف الشيعة في إمامته، كما اختلفوا بعده في إمامة ابنه، وتركوا التشيع لعدم ثقتهم بالذي لم يبلغ سن الرشد والتمييز في أمور دينهم، والذي لم يعتمد عليه والده في أمور دنياه، كيف لهم أن يطلبوا الرشد في الأمور الدينية ممن يحتاج الرشد وتسييره في أمور دنياه؟ كما ذكر النوبختي الشيعي نفسه مقولتهم التي قالوها وقت تفرقهم عن محمد الجواد واختلافهم فيه:

لا يجوز الإمام إلا بالغاً، ولو جاز أن يأمر الله بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ، فكما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ فكذلك

(1) انظر: الإرشاد للمفيد، إعلام الورى للطبرسي، كشف الغمة للأربل، جلاء العيون للمجلسي، منتهى الآمال للعباس القمي، والفصول المهمة لابن الصائغ

(2)

صحيح الكافي للكليني ج1 ص125 ط إيران

(3)

انظر: الإرشاد للمفيد ص304، إعلام الورى للطبرسي ص313، كشف الغمة للأربل ج3 ص72، جلاء العيون للمجلسي بالفارسية ج2 ص345، ومنتهى الآمال للقمي بالفارسية ص1049، وعيون أخبار الرضا لابن بابويه القمي ج3 ص347 ط إيران

ص: 55

لا يفهم القضاء بين الناس ودقيقه وجليله، وغامض الأحكام وشرائع الدين وجميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها .. طفل غير بالغ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة .. لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثاً وأربعاً راجعاً إلى الطفولية! حتى يجوز أن يفهم ذلك من طفل في المهد والخرق! وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف" (1).

فتفكروا يا عباد الله! هل من المعقول أن يعتمد على صبي في أمور الدين من لم يعتمد عليه أبوه - وهو إمام معصوم عند الشيعة - في أمر دنياه كما مر سابقاً بأن محمد الجواد هذا جعل وصيته على ابنيه عبد الله بن المساور على تركته من الضياع والأموال والنفقات والرقيق، فعدلاً عدلاً أيتها الشيعة! أليس منكم رجل رشيد؟

هذا إن كان مراد الدكتور بأن كلاً من أئمة الشيعة بلغ سن الرشد وقت نصبه على عرش الإمامة وهو لم يكن كذلك كما أثبتناه من كتب الشيعة أنفسهم، وإن كان مقصوده بأن كلاً منهم قد بلغ سن الرشد قبل موته ووفاته - وهو عبث ليس لذكره معنى - فلم الاستثناء للثاني عشر لأنه لم يمت بعد حسب زعم الذين اعتقدوا ولادته؟

وأما نحن فلا نعتقد بولادة غائبهم الموهوم، ونجزم أن الحسن العسكري لم يتزوج ولم يولد له ولد، لا في حياته ولا بعد وفاته بشهادة الشيعة أنفسهم، وها هو النوبختي كبير الشيعة في الفرق يصرح عن الحسن العسكري:

"أنه توفى ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ميراثه أخوه جعفر وأمه"(2).

وأكثر من ذلك وأظهر، وأصرح منه وأوثق، ما رواه محدثو الشيعة ومؤرخوهم في كتبهم من الكليني والمفيد والطبرسي والأربلي والمجلسي والقمي وغيرهم عن أحمد بن عبيد الله بن خاقان الشيعي المشهور، والمعلن لتشيعه وموالاته للمحسن العسكري، أن الحسن العسكري:

(1) فرق الشيعة للنوبختي ص110

(2)

فرق الشيعة للنوبختي ص118، 119

ص: 56

"لما اعتل بعث السلطان إلى أبيه أن ابن الرضا قد اعتل فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصة، فيهم "تحرير" فأمرهم بلزوم دار الحسن تعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساء، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أخبر أنه قد ضعف، فأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفى عليه السلام، فصارت "سر من رأى" (1) ضجة واحدة، وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده وجاءوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل، فجعلت في حجرة ووكل بها تحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئة وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته، فكانت "سر من رأى" يومئذ شبيهاً بالقيامة، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد، والكتاب والقضاة والمعدلين وقال:

هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن القضاة فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان، ثم غطى وجهه وأمر بحمله من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه.

ولما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل، فلما بطل الحمل عنهن

(1) مدينة من مدن العراق المشهرة التي تسمى الآن سامراء

ص: 57

قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر، وادعت أمه وصيته، وثبت ذلك عند القاضي" (1).

فهذه هي الحقيقة الناصعة، والرواية الصريحة الثابتة، الناطقة بالحق، والقاطعة في الموضوع، والمنقولة من كتب الشيعة أنفسهم، اعترفوا بها أم لم يعترفوا، وسلموا بها أو لم يسلموا، شاءوا أم أبوا، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم.

{. . أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون} (2).

والعجب العجاب أن الشيعة مع هذا كله ينسجون الأساطير من الخيال، ويؤمنون بالمعدوم ويعتقدون وجوده، وهذه كتبهم تشهد عليهم وهم عنها معرضون:{إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (3).

ثم يأتي السيد الدكتور عبد الواحد وافي، ويسرد حكايتهم الخيالية دون أدنى تعرض لبيان حقيقتها مع إعلانه تحري الحقيقة قدر وسعه وعلمه. {ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} (4).

ثم يخبط الدكتور وافي خبط عشواء عند ذكره الزيدية، وخلط الحابل بالنابل حيث ذكر رأي بعض الزيدية في الخلافة، ونسبها إلى زيد بن علي مع البون الشاسع والفرق البيّن الواضح بين رأيه الذي كان يراه من ثبوت الخلافة لأبي بكر وعمر وصحتها لهم، ورأي الجارودية من الزيدية، والذين لا يجيزونها لغير علي وأولاده، ومن أراد معرفة ذلك فليراجع كتب الفرق.

(1) كتاب الحجة من الكافي ص505، الإرشاد للمفيد ص339، إعلام الورى للطبرسي ص377، 378، كشف الغمة للأربل ج3 ص198، 199، جلاء العيون للمجلسي تحت ذكر المهدي، الفصول المهمة تحت ذكر المهدي، ومنتهى الآمال للقمي تحت ذكر المهدي

(2)

سورة يونس الآية 35، 36

(3)

سورة النجم الآية23

(4)

سورة النجم الآية 30

ص: 58

وهكذا نسب إلى زيد أنه كان يرى من شروط صحة الإمامة أن يبايعه المسلمون مع أن كتب الفرق والتاريخ خالية عن هذا الشرط تماماً.

ولولا خوف الإطالة، والخروج عن الموضوع الأصلي .. لسردت النصوص في ذلك من السنة والشيعة والزيدية أنفسهم، ومن أراد الاستزادة والتحقيق فليرجع إلى هذه الكتب.

وكذلك قوله: "مذهبهم (أي الزيدية) هو أقرب مذاهب الشيعة إلى مذهب السنة" على إطلاقه غير صحيح أيضاً لأن فيهم من هم أبعد الناس عن السنة ومذاهبها.

وكلامه عن الإسماعيلية (1) لا يقل خطأ عن كلامه في الزيدية، بل يزداد تطرفاً وبعداً عن الصواب.

فيأخذ فكرة من ابن خلدون في مقدمته ويترك أخرى.

يأخذ من ابن خلدون "أن إسماعيل مات في حياة أبيه ولكن الخلافة انتقلت إلى ابنه الأكبر قياساً على انتقال وظائف هارون إلى نسله بعد وفاته" مع اتفاق أكثر الإسماعيلية اليوم أن إسماعيل لم يمت إلا أن جعفر أظهر موته تقية عليه من خلفاء بني العباس (2).

وعلى كل فهناك رأيان وموقفان في الموضوع، ولكن الغريب في الأمر أن السيد الدكتور يذكر هذا عن ابن خلدون، ثم ينسى أمراً آخر وهو قول ابن خلدون: أن هؤلاء يسمون بالباطنية، كما يسمون أيضاً الملاحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد" (3).

ولكن السيد الدكتور يقول: إن مذهبهم في هذا العهد (أي أيام حكمهم بمصر) لم يكن بعيداً كل البعد عن مذاهب أهل السنة .. ولكن بعد أن تقوضت خلافتهم استحال المذهب الإسماعيلي إلى مذهب باطني" (4).

(1) في صفحة 13 وما بعدها

(2)

انظر: الملل والنحل للشهرستاني ص5 على هوامش الفصل وغيره من الكتب السنية والشيعية، وعيون الأخبار، وافتتاح الدعوة، واستتار الإمام، وتاريخ الدعوة الإسماعيلية، والنور المبين، وغيرها من الكتب الإسماعيلية

(3)

انظر: مقدمة ابن خلدون ص201 - ط مصر

(4)

صفحة 15 من رسالته

ص: 59

مع أن الأمر لم يكن كذلك، بل كان كما قال ابن خلدون: إنهم كانوا باطنيين قبل أن يظهر عبيدهم في المغرب، وكانوا باطنيين بعد أن ظهر، وكانوا باطنيين في عهد المعز عندما استولى على مصر، كما كانوا باطنيين إلى أن قضى عليهم صلاح الدين الأيوبي. وهذا مما لا يختلف فيه أحد من المؤرخين القدامى.

وأما قوله: "إنه بعد تقويض خلافتهم دخل فيهم كثير من الأديان والنحل غير الإسلامية" فصحيح من وجه، ولكن الديانة الإسماعيلية كلها مبنية على عقائد الأديان والملل غير الإسلامية.

ثم لا ندري بعد تعميم سيادته الحكم لماذا يستثني منه فرقة "البوهرة" مع أنها هي الوريثة الحقيقية للمذهب الإسماعيلي بما فيه من علات. فما الأسباب التي تجعل الدكتور يحكم عليها بذلك الحكم:

ألحاجة في نفس يعقوب قضاها؟ أم لشيء آخر؟

بالله خبروني إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع؟

وتلك إذاً قسمة ضيزى.

ولقد أثبتنا نحن في كتابنا الذي نحن بصدد طبعه الآن (1) عن الإسماعيلية أن الإسماعيلية بجميع طوائفها حاملة عقائد ومعتقدات تخرجها عن الملة الإسلامية قطعاً، سواء تظاهرت بالتمسك بالشريعة كالبوهرة، أو تجاهرت بتركها كالآغاخانية.

والجدير بالذكر أن مدعي زعامة البوهرة داعي الدعاة يدعي بأن له اختيارات يملكها، وأوصافاُ يتحلى بها إن لم تجعله فوق الرب فلا تجعله دونه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

ولقد أثبتنا نص البيان الذي قدمه إلى المحكمة القضائية ببومبي والد الزعيم الحالي، طاهر سيف الدين (2) عام 1920م جواباً للدعوى التي أقيمت عليه

(1) سيصدر الكتاب قريباً عاجلاً إن شاء الله بباكستان ومصر في آن واحد، ويشتمل على بيان الإسماعيلية القديمة والجديدة

(2)

ومن المؤسف أن الأزهر الشريف منحه شهادة الدكتوراه الفخرية

ص: 60

من قبل جمعية أحرار البوهرة حداً لاختياراته وغلوائه، والذي قال فيه:"لا يسأل عما يفعل لأن اختياراته لا تقل عن اختيارات الرب جل وعلا".

وأما ما كتبه الدكتور وافي وقرر فيه أن مذهب الإسماعيلية أيام حكمهم لم يكن بعيداً كل البعد عن مذاهب أهل السنة، ولم تكن لتزيد عن وجوه الخلاف بين مذاهب أهل السنة نفسها بعضها عن بعض .. فلي إلا حكماً عاطفياً ظالماً، وإلا فما رأي الدكتور في كتابة الشتائم على محاريب المساجد، والقذائف على منائرها ضد الخلفاء الراشدين الثلاثة، وأزواج النبي أمهات المؤمنين، ألا يعتبر هذا من وجوه الخلاف بين الشيعة وبين مذاهب أهل السنة؟ وأن ادعاء نسخ الشريعة وتعطيلها والاعتقاد بها أيضاً أليس من الأمور توسع هوة الخلاف بينهم وبين أهل السنة؟

وكذلك جعل محمد بن إسماعيل، سابع النطقاء ومتمم دور السبعة أيعتبر هذا من الخلافات اليسيرة بين القوم وبين المسلمين؟

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

كما أن عين السخط تبدي المساويا

وتجنباً للإطالة، وتحرزاً عن التطويل نورد هنا رواية واحدة عن المعز نفسه، مؤسس الدولة الفاطمية، ومنشئ الإسماعيلية بمصر.

يقول المعز لدين الله الفاطمي في دعائه المشهور المنقول من أدعية الأيام السبعة بعد الصلاة على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى:

"وأخصص اللهم محمد بن عبد الله من ولد إسماعيل الذي شرفته وكرمته وعطلت به ظاهر شريعة عيسى، وصيره سادس النطقاء .. " - إلى أن قال -: "وصلّ على القائم بالحق، الناطق بالصدق، التاسع من جده الرسول، الثامن من أبيه الكوثر، السابع من آبائه الأئمة، سابع الرسل من آدم، وسابع الأوصياء من شيث، وسابع الأئمة من البررة صلوات الله عليهم كما قلت سبحانك {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء" وهو استواء أمر النطقاء بالسابع القائم صلوات الله عليه كما ذكرنا آنفاً، "الذي شرفته، وكرمته وعظمته، وختمت به عالم الطبائع، وعطلت بقيامه ظاهر شريعة محمد - صلى الله عليه

ص: 61

وآله وسلم - .. وهو يوم القيامة والبعث والنشور يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم .. وصلّ على خلفائه الراشدين الذين يقضون بالحق وبه يعدلون" (1).

فهذه هي حقيقة التقارب بين الإسماعيلية المستولية على مصر، وحقيقة تقاربهم من مذاهب أهل السنة، التي لا تعلمها أيها السيد الدكتور! مع كونك من مصر، ومحققاً الكتاب التاريخي الكبير، ومعلقاً عليه بثلاث آلاف تعليقة.

فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

ولقد أعلن هذه الحقيقة الناصعة الكثيرون الكثيرون من أئمة الفاطميين ودعاتهم، كما تناقلوا دعاء المعز هذا وتوارثوه جيلاً بعد آخر.

ولقد شهد بذلك الداعي المطلق إبراهيم بن الحسين الحامدي الذي كان موجوداً ف عهد الآمر بأحكام الله، حاكم مصر في كتابه "كنز الولد" الذي طبع في مصر وفي بيروت أيضاً بقوله:

"وأما محمد بن إسماعيل فهو متم شريعته (شريعة محمد) وموفيها حقوقها وحدودها، وهو السابع من الرسل، بيان ذلك في أدعية مولانا المعز السبعة، وهو الذي يشهد (النبي) له وللقائم محمد بن عبد الله المهدي لأنه قائم القيامة الوسطى، وقائم القيامة الأولى أمير المؤمنين، وقائم القيامة الكبرى رسول الله صاحب الكشف في قوله "اشهد أن محمداً رسول الله" و"أشهد أن محمداً رسول الله" لأن الخلق يشهدون برسالته وهو يشهد لمتم دورة شريعته ومنهاجه"(2).

فما هو رأيك أيها السيد الوقور! في الإسماعيلية أيام تسلطهم على مصر، والبوهرة ورثتهم الذين يعدون المعز إماماً من أئمتهم المعصومين، ويدعون بدعائه، والذين يعدون إبراهيم الحامدي هذا الداعي المطلق الثاني من دعاة أيام الستر، وقد بلغ العدد عندهم واحداً وخمسين؟

هل تعيد نظرتك في رسالتك هذه؟ ولولا حرصنا على ألا ينخدع بها الشباب المسلم والغفلة من المسلمين لما تصدينا بالرد عليها وصرف الوقت

(1)"أدعية الأيام السبعة لمولانا المعز لدين الله"

(2)

كنز الولد لإبراهيم بن الحسين الحامدي ص211 - ط بيروت

ص: 62

فيها لامتلائها بالأخطاء الفاحشة، والأغاليط الواضحة الصريحة، والتي لا تخفى على ذي علم وبصيرة.

ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فيراجع كتابنا عن الإسماعيلية فسوق تتجلى له الحقائق الكثيرة الكثيرة التي طالما خفيت على كثير من عباد الله بسبب قراءتهم لأقلام مأجورة وكتب رخيصة لم تصدر من كتابها إلا كصناعة وحرفة، وما أكثر ما صار في هذا الزمان من المهن والحرف! وما أكثر من يتعاطونها أعني الكتابة حرفة وصناعة، لا ديناً ولا إصلاحاً، ولا رشداً ولا غاية، اللهم لا تجعل أعمالنا كلها إلا لابتغاء مرضاتك، ولا توفقنا إلا لما ترضاه لوجهك الكريم، وخدمة لدينك القويم، ودفاعاً عن رسولك الرؤوف الرحيم، وعن شريعتك التي لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم الدين.

هذا ولا زلنا حتى الآن في تمهيدات الدكتور وفي المشحونة بالأخطاء والإغلاط، ومما يزيد الاستغراب والاستعجاب، ويثير الحيرة والدهشة أن سيادته حاول في تمهيداته التي أخذت قريباً من نصف الكتيب إيقاع القارئ في مغالطات كثيرة، ولا أعرف تماماً أهذه المحاولة مقصودة أم غير مقصودة؟

لا أعرف كل هذا ولكنه من المضحك المبكي أنه يجعل الخلاف بين، المسلمين أهل السنة وبينهم أعني الشيعة مبنياً على الاجتهاد، ويطالبنا بألا نحكم عليهم بالزيغ والانحراف لأن للمجتهد رأيه ويجوز العمل به، وله أجره أخطأ أم أصاب، فإن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران (1).

وأكثر من ذلك يقرر: أن ما ذهبوا إليه يكون هو الصواب ويحتمل أن ما ذهبنا إليه هو الخطأ" (2).

وإن كان الأمر كذلك فعلى الإسلام السلام.

وهكذا تقلب الموازين ويحق الباطل ويبطل الحق!!.

(1) انظر صفحة ص22 من رسالته

(2)

انظر صفحة ص22 من رسالته

ص: 63

ويبلغ السيل الزبى حيث يحكم الدكتور بكل قسوة وظلم، وبكل تعسف وتعنت "بأن القضاء المصري أخذ بآراء انفرد به المذهب الجعفري، منها وقوع الطلاق المقترن بالعدد لفظاً أو إشارة طلقة واحدة"(1).

ثم يعلق بأن القضاء المصري أخذ هذا الرأي من ابن تيمية، وابن تيمية من الشيعة" (2).

ومعاذ الإله أن يكون الأمر كذلك، وأعيذ علماء مصر بالله أن يكون ظنهم ظنك، ومن لا يعرف غير الدكتور أن عامة أهل الحديث في سالف الزمان وحاضره يذهبون هذا المذهب ويأخذون بهذا الرأي قبل ابن تيمية وبعده؟ وابن تيمية أشد الناس حذراً من الشيعة، ومما يرد عن طريقهم وبواسطتهم، ومذهب أهل الحديث مبني على عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومأخوذ من سنته بأنه عليه الصلاة والسلام فداه أبواي وروحي - كان يعد التطليقات الثلاثة في مجلس واحد مرة واحدة تطليقة واحدة، وأمر من أتى بها إليه أن يجعلها واحدة كما رواه الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلّق ركانة امرأته في مجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طلقتها؟ .. قال: ثلاثاً فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت فراجعها" (3).

وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد الثاني والملقب بالفاروق من النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بقوله ما معناه أن الطلقات الثلاث كانت تعد في زمن النبي والصديق طلاقاً واحداً. كما رواه مسلم في صحيحه:

قال أبو الصهباء لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على

(1) صفحة 23 من رسالته

(2)

تعليقة رقم 16 نفس الصفحة

(3)

أخرجه أحمد (17/ 6 (الفتح الرباني))

ص: 64

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر؟ .. قال: نعم (1).

وروي عنه أيضاً أنه قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضينا عليهم فأمضاه عليهم (2).

وعليه الفتوى حتى اليوم في بلاد الهند وباكستان عند أهل الحديث السلفيين، وبذلك يفتي السلفيون في البلاد العربية، البعيدون كل البعد عن الشيعة ورواياته، والذين لا يتمسكون بأقوال الرجال وآرائهم ولو كانوا من أهل السنة كيف يتصور منهم التمسك بآراء الرجال وأقوالهم وهم من الشيعة أو ينسبون إلى التشيع؟

فهل هي محاولة مقصودة أم غير مقصودة؟ وهل هي مغالطة متربصة أم غير متربصة؟ في كلا الاحتمالين لا يغض الطرف عن خطورته ولا يصرف النظر عن عظم فساده، وما أكثر ما أورده من المغالطات في كتيبه والتي تجعل غير الشاك في نية الدكتور وإخلاصه يبدأ يرتاب فيه ويشك في مقاصده ومراميه. والله يعلم السرائر، وهو {يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} (3).

و {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (4).

ومغالطات كهذه الخافية منها والظاهرة هي الصفة المميزة لهذه الرسالة التي سنأتي ببيانها والرد عليها بعد دخولنا في المباحث الأصلية، ولم يكن قصدنا ههنا إلا ذكر الأغاليط التي وقع فيها الدكتور وافي في مختصره هذا، والتي قدمنا نموذجاً منها من تمهيداته ومن صفحاته الأولى فقط. وهذا قليل من كثير من بحره الزاخر ومائه الوافر، وما أعرضنا عنها نظراً، وصفحنا عنها جنباً فهي كثيرة كثيرة لا تسعها هذه العجالة، مثل ذكره الشيعة في المدينة

(1) مسلم (3/ 669) وغيره

(2)

مسلم (3/ 668) وأحمد (17/ 7 - الفتح الرباني) وغيره

(3)

سورة هود الآية5

(4)

سورة غافر الآية19

ص: 65

باسم النخلية (1)، مع أن كل من عاش المدينة المنورة لبضعة أيام أو تطرق إلى معرفة من يعايشها عرف أنهم نخاولة، وليسوا نخلية.

وكذلك عند ذكره الأقليات السنية في إيران يقتصر على الأكراد مع أن سكان إقليم بلوشستان كلهم أهل السنة، وكذلك طائفة من عرب عربستان، وغيرها من الأشياء الكثيرة نسأل الله أن يلهمنا وإياه الصواب والرشاد.

فمن يكون حاله هكذا لا يحق له أن يتطرق إلى موضوع ليس له به صلة، من قريب أو بعيد. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه.

واللهم أرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

(1) صفحة رقم11 من رسالته

ص: 66