الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل
فرض الله عز وجل على عباده الاكتساب لطلب المعاش؛ ليستعينوا به على طاعته، قال تعالى:{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. فجعل سبحانه الاكتساب سبباً للعبادة.
وقال تعالى عن الإنسان ومحبته للمال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8].
وقال عز وجل آمراً عباده بعد انقضاء فريضة عظيمة هى صلاة الجمعة: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
قال الإمام البغوي: أي إذا فُرغ من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في -حوائجكم. (1)
وكان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فرضك، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين (2).
وقد حث الإسلام على العمل والإكتساب، فهو دين العمل والحركة والسعي في الأرض وعمارتها.
(1) مختصر تفسير البغوي 2/ 945.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 471.
قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه"(1).
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على المال الصالح في يد العبد الصالح فقال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"(2).
ولم تُذم الدنيا لذاتها، إنما لما يقع فيها من المعاصي، والذنوب، وأكل المال الحرام، فالدنيا الحرام: الصارفة عن الدين، المجموعة من الحرام. أي أن تجمعها من الحرام، وتجعلها في الحرام.
قال صلى الله عليه وسلم: "الدنيا لأبعة رجال، رجل جمع المال من حلِّه وأنفقه في حقه فهذا بأرفع المنازل"(3).
ورجل جمع المال من غير حلِّه، وأنفقه في حقِّه فهذا بأخبث المنازل.
ورجل جمع المال من غير حلهِّ، وأنفقه في حقِّه فهذا بأخبث المنازل.
ورجل جمع المال من حله، وأنفقه في غير حقه فهذا بأخبث المنازل (4).
ويحتم العمل ويجب الاكتساب على من كان له عيال، أو كانت له مسئولية. فقد جعل الإسلام التقصير في حق الزوجة،
(1) متفق عليه.
(2)
أخرجه أحمد.
(3)
رواه الترمذي.
(4)
رواه الترمذي.
والأطفال، والوالدين من الذنوب العظيمة فعن وهب بن جابر قال: شهدت عبدالله بن عمرو بن العاص في بيت المقدس وأتاه مولى له فقال: إني أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا -يعني رمضان- قال له عبدالله: هل تركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: أمّا لا فراجع، فدع لهم ما يقوتهم، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت"(1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى رجل فأعجبه، قال:"هل له من حرفة؟ " فإن قالوا: لا، سقط من عينه، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأن المؤمن إذا لم يكن ذا حرفة تعيَّش بدينه"(2).
والمسلم يؤجر على قوت عياله كما قال صلى الله عليه وسلم: "دينارٌ أنفقته في سبيل الله، دينارٌ أنفقته في رقبة، ودينارٌ تصدَّقت به على مسكين، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك"(3).
وروي عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: عليك بعمل الأبطال. الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال.
وكان إذا أتاه الرجل يطلب العلم سأله هل لك وجه معيشة؟ فإن أخبره أنَّه في كفاية، أمره بطلب العلم، وإن لم يكن في كفاية
(1) رواه أبو داود.
(2)
كتاب الجامع 1/ 34.
(3)
رواه مسلم.
أمره بطلب المعاش.
وقال أيوب السِّختياني: قال لي أبو قِلابة: يا أيوب، إلزم سوقك، فإنّ فيها غنى عن الناس، وصلاحاً في الدِّين.
وعن محمد بن سيرين عن أبيه قال: صليت مع عمر بن الخطاب المغرب، وانصرف معه جماعة من قريش، فرأى تحت إبطي رزمة فقال: ما هذا يا ابن سيرين؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، آتي إلى السوق فأشتري وأبيع، فالتفت إلى جماعة من قريش فقال: لا يغلبنكم هذا وأشباهه على التجارة؛ فإن التجارة ثلث الإمارة (1).
وقال أبو سليمان الداراني: ليست العبادة أن تصف قدميك وغيرك يقوت لك، ولكن ابدأ برغيفك فأحرزها، ثم تعبد (2).
والمال في يد الإنسان المسلم طريق إلى الحياة الكريمة في الدنيا، والسعادة في الآخرة؛ لأنه كما قال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس (3).
وقال ابن قدامه في تفصيل دقيق لحال طالب الدنيا: قد بينا أن المال لا يذم لذاته، بل ينبغي أن يمدح؛ لأنه سبب للتوصل إلى مصالح الدين والدنيا، وقد سماه الله تعالى خيراً، وهو قوام الآدمي. قال الله تعالى في أول سورة النساء:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}
(1) تاريخ عمر: ص 214.
(2)
الإحياء 2/ 172.
(3)
السير 4/ 238.
[النساء: 5].
وقال أبو إسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عوناً على الدين.
وقال سفيان: المال في زماننا هذا سلاح المؤمنين.
وحاصل الأمر: أن المال مثل حية فيها سم وترياق، فترياقه فوائده، وغوائله سمه، فمن عرف فوائده، أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره (1).
أخي المسلم:
اعلم أنَّ المال لا يُذم لذاته، بل يقع الذم لمعنى من الآدمي، وذلك المعنى إما لشدة حرصه، أو تناوله من غير حلِّه، أو حبسه عن حقه، أو إخراجه في غير وجهه، أو المفاخرة به، ولهذا قال الله تعالى:{أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
وفي سنن الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه"(2).
وقد كان السلف يخافون فتنة المال. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى الفتوح يبكي ويقول: ما حبس الله هذا عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر لشرٍ إراده الله بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له.
(1) مختصر منهاج القاصدين ص 214.
(2)
رواه الترمذي.
وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب، فإن لم تسحن رقيته فلا تأخذه؛ فإنه إن لدغك قتلك سمه. قيل: ما رقيته؟ قال: أخذه من حِله، ووضعه في حقِّه.
وقال في صاحب حق المال: مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويُسأل عنه كله (1).
ودين الإسلام دين التوكل لا التواكل، ودين السعي لا الخمول.
قال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول اللهم أرزقني؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة (2).
وقال محمد بن المنكدر في كلمات جميلة عن المال: نعم العون على تقوى الله عز وجل الغنى (3).
أخي المسلم:
هي القناعة لا تبغ بها بدلاً
…
فيها النعيم وفيها راحة البدن
(1) مختصر منهاج القاصدين ص 213.
(2)
الإحياء 2/ 71.
(3)
حلية الأولياء 2/ 149.
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير القطن والكفن (1)
أخي الحبيب:
اعلم أنه ليس من الزهد ترك المال، وبذله على سبيل السخاء والقوة واستمالة القلوب، إنما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة، ومن عرف أن الدنيا كالثلج يذوب، والآخرة كالدر يبقى، قويت رغبته في بيع هذه بهذه (2).
وقد كان زهد السلف في الدنيا خوف الوقوع في الحرام، قال مزمل: دخلت على سفيان وهو يأكل طبهاج (اللحم المشرح) ببيض فكلمته في ذلك، فقال: لم آمركم أن لا تأكلوا طيباً، اكتسبوا طيباً وكلوا (3).
وقال علي بن الفضيل: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام، كيف ذا؟ فقال ابن المبارك: يا أبا علي إنما أفعل ذا؛ لأصون به وجهي، وأكرم به عرضي، وأستعين به على طاعة ربي (4).
(1) التذكرة ص 102.
(2)
منهاج القاصدين ص 355.
(3)
السير 7/ 277.
(4)
تاريخ بغداد 10/ 160.