المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ترك التجارة للعبادة

‌ترك التجارة للعبادة

قال عز وجل محذرًا من الانشغال عن الطاعة والعبادة بأمور الدنيا:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

قيل لبشر بن الحارث: بالله يا أبا نصر أيهما أحلى، الدنانير أو الدراهم؟ قال: الطاعة والله أحلى منهما جميعًا (1).

وقال خلف بن حوشب: كنت مع الربيع بن أبي راشد في الجبانة فقرأ رجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج: 5] فقال الربيع: حال ذكر الموت بيني وبين كثير من التجارة، فلو فارق ذكر الموت قلبي ساعة، لخشيت أن يفسد عليَّ قلبي. ولولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت (2).

قال أبو الدرداء: بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر، فأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة، فلم يجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة، والذي نفس أبي الدرداء بيده، ما احب أن أملك حانوتًا على باب المسجد لا يخطئني فيه صلاة، وأربح فيه كل يوم أربعين دينارًا، وأتصدق بهما كلها في سبيل الله، قيل له: يا أبا الدرداء ما

(1) تاريخ بغداد 14/ 421.

(2)

صفة الصفوة 3/ 109.

ص: 50

تكره من ذلك؟ قال: شدة الحساب (1).

قال أبو الدرداء اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم في الموتى، واعلموا أن قليلاً يغنيكم، خير من كثير يلهيكم، واعلموا أن البر لا يبلى، وإن الإثم لا ينسى.

وكان الفضيل بن عياض يقول: أصلح ما أكون أفقر ما أكون، وأني لأعصي الله أعرف ذلك في خلق حماري وخادمي (2).

وقال أبو علي الثقفي: يا من باع كل شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء.

وقال: أف من أشغال الدنيا إذا أقبلت، وأف من حسرتها إذا أدبرت (3).

فلو كانت الدنيا تنال بقطنة

وفضل ونقل نلت أعلى المراتب

ولكنما الأرزاق حظ وقسمة

بفضل مليك لا بحلية طالب

قال أبو حازم سلمة بن دينار: يسير الدنيا يشغل عن كثرة الآخرة (4).

(1) حلية الأولياء 1/ 209.

(2)

صفة الصفوة 2/ 238.

(3)

السير 15/ 282.

(4)

صفة الصفوة 2/ 166.

ص: 51

يقولون لي فيك انقباض وإنما

رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم

ومن أكرمته عزة النفس إكرامًا (1)

وقال مالك بن دينار: السوق مكثرة للمال، مذهبة للدين (2).

أخي المسلم:

قال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر في التجارة والإمارة، حتى ييسر له فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه؛ فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه، فظل يتطير بقوله: سبني فلان وأهانني فلان. وما هو إلا فضل الله عز وجل (3).

قال أبو حازم سلمة بن دينار: إن بضاعة الآخرة كاسدة، فاستكثروا منها في أوان كسادها، فإنه لو جاء يوم نفاقها لم تصل منها إلى قليل ولا كثير (4).

وقال عبد الرحمن بن مهدي: والله لا تجد فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله، كنت أنا وأخي شريكين فأصبنا عللاً كثيرة، فدخل قلبي من ذلك شيء، فتركته لله، وخرجت منه، فما خرجت من الدنيا حتى رد الله علي ذاك المال، عامته إليَّ وإلى ولدي، زوج أخي

(1) السير 17/ 20.

(2)

حلية الأولياء 2/ 385.

(3)

جامع العلوم والحكم ص 228.

(4)

صفة الصفوة 2/ 163.

ص: 52

ثلاث بنات من بني، وزوجت ابنتي من ابنه، ومات أخي فورثه أبي، ومات أبي فورثته أنا فرجع إليَّ وإلى ولدي في الدنيا (1).

تجرد من الدنيا فإنك إنما

خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد (2)

أخي المسلم:

قال الحسن: مسكين ابن آدم رضي بدار حلالها حساب، وحرامها عذاب، إن أخذه من حله حوسب به، وإن أخذه من حرام عذب به، ابن آدم يستقل ماله، ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه، ويجزع من مصيبته في دنياه (3).

وقيل لعبد الله بن عمر: توفي فلان الأنصاري. قال رحمه الله. فقيل: ترك مائة ألف، قال: لكن هي لم تتركه (4).

أموالنا لذي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

تلك المنازل في الآفاق خاوية

أضحت خرابًا وضاق الموت بانيها

قال أبو الدرداء: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ، ما أنصفنا إخواننا

(1) صفة الصفوة 4/ 6.

(2)

وفيات الأعيان 5/ 54.

(3)

الإحياء 3/ 224.

(4)

الزهد لابن السري 10/ 335.

ص: 53

الأغنياء، يحنوننا على الدين، ويعاودوننا على الدنيا (1).

أخي المسلم: غوائل المال وآفاته، تنقسم إلى دينية ودنيوية:

أما الدينية فثلاث:

الأولى: أنه يجر إلى المعاصي غالبًا؛ لأن من استشعر القدرة على المعصية، انبعثت داعيته إليها.

والمال نوع من القدرة يحرك داعيته إلى المعاصي، ومتى يئس الإنسان من المعصية، لم تتحرك داعيته إليها.

ومن العصمة أن لا تجد، فصاحب القدرة إن اقتحم ما يشتهي هلك، وإن صبر لقي شدة في معاناة الصبر مع القدرة، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

الثانية: أنه يحرك إلى التنعم في المباحات، حتى تصير له عادة وإلفًا، فلا يصبر عنها، وربما لم يقدر على استدامتها إلا بكسب فيه شبهة، فيقتحم الشبهات، ويترقى إلى آفات من المداهنة والنفاق؛ لأن من كثر ماله خالط الناس، وإذا خالطهم لم يسلم من نفاق وعداوة وحسد وغيبة، وكل ذلك من الحاجة إلى إصلاح المال.

الثالثة: وهي التي لا ينفك عنها أحد، وهو أن يلهيه ماله عن ذكر الله، وهذا هو الداء العضال، فإن أصل العبادات ذكر الله

-تعالى- والتفكر في جلاله وعظمته، وذلك يستدعي قلبًا فارغًا.

وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكرًا في خصومة الفلاحين،

(1) السير 2/ 350.

ص: 54

ومحاسبتهم وخيانتهم، ويتفكر في منازعة شركائه في الحدود والماء، وأعوان السلطان في الخراج، والأجراء على التقصير في العمارة، ونحو ذلك.

وصاحب التجارة يمسي ويصبح متفكرًا في خيانة شريكه، وتقصيره في العمل، وتضييعه المال.

وكذا سائر أنواع المال، حتى صاحب المجموع المكنوز يفكر في كيفية حفظه، وفي الخوف عليه.

ومن له قوت يوم بيوم فهو سلامة من جميع ذلك، وهذا سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا، من الخوف، والحزن، والهم، والغم، والتعب.

فإذا ترياق المال أخذ القوت منه، وصرف الباقي إلى الخيرات، وما عدا ذلك سموم وآفات (1).

قال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما في ماله (أي في مال الإنسان) عند موته، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسأل عنه كله.

يريد المرء أن يعطى مناه

ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي

وتقوى الله أكرم ما استفادا (2)

(1) مختصر منهاج القاصدين 4/ 2 وما بعدها.

(2)

طبقات الشافعية 2/ 184.

ص: 55

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أبو الدرهمين أشد حبسًا، أو قال أشد حسابًا من ذي الدرهم (1).

(1) الإحياء 4/ 210.

ص: 56