الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وبشيرا ونذيرا للبرية أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجَبة، الصدور المحببَّة، والفطَنة النبَغة، معادنِ الصدق واليقين، وموائل الصبر والمثابرة والجهاد ومتانة الدين، الذين فاؤوا للحق فاستظلوا بظلاله، وفاء إليهم الحق فارتفعت بهم رايتُه، ورفرفت فوق هامِهم شارتُه ونَضارتُه، به خرجوا من العدم إلى الوجود، وبهم انصدعت آيه وبراهينه من جديد، فرضي الله عنهم من صفوة جديرة بالتقدير، وعُصبة جلّت عن إحصاء مكامن عزها بالاستقصاء والتنقير.
بيضُ الوجوه كريمة أحسابهم
…
شُمُّ الأُنوف من الطراز الأَول
أمابعد: فإن السنة النبوية ـ شرفها الله تعالى ـ تعرضت ولا تزال لموجة عارمة من التشكيك بها تارة، أو إنكارها بالكلية تارة أخرى، أو الطعن في تدوينها، أو حصرها في دائرة ضيقة، يستأنس بها ولا يعتمد عليها، ولا تنشئ أحكاما، ولا يحتج بها في العقائد، ولا في الحدود، إلى غير ذلك من تضليلات وآراء لا حصرلها، يجمعها كلها، النظرُ إلى السنة بمنظار لم يعهده السلف المتقدمون، وغالبُ هذه الشُّبَه منقولة عن المستشرقين، والمستغربين من أبناء جلدتنا الذين يقلدونهم في كل شيء، إذ
تتلمذوا لهم، وكانوا واسطة في نقل مفترياتهم إلى العالم الإسلامي، ولئن كانت هذه الشبه ليست بجديدة من المستشرقين -لأن المعتزلة والشيعة قد سبقوهم إلى كثير منها- إنَّ ما يجمع بين حديثها وتليدها، هو توهين السنة في النفوس، وإزاحةُ تعظيمها، وقدسيتها، وعدّها أمرا عاديا لايستوجب الاعتناء.
وقد قام جهابذة النقاد، بزَيْفِ دعاوى المعتزلة ومن لف لفهم، ونفي شبههم، بأدلة دامغة للباطل، معزِّزة للحق، فعظُمت بذلك السنة في النفوس، وكثر طالبوها، والمولوعون بها، وانتشرت علومها، وعم منهجها، حتى نبغت نابغة من المعتزلة الجدد، الذين استقوا آراءهم الدحضة عن السنة ورواتها، من أفكار المتقدمين، من شتى الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة، وأفكار المتأخرين المتسترة وراء التجديد في مناهج دراسة السنة النبوية وتمحيصها، التي هي إعدام لها في الحقيقة، وتعطيل لها عن العمل، ومحاولة إبعادها نهائيا عن واقع الأمة بأساليب ملتوية، مشتملة على نفاق لا يخفى لحْنُه على ذوي الألباب.
هذا، وإن مدار هذا البحث على مصطلحين مشهورين، وهما السنة والوحي، ولابد من تعريفهما وضبط مفهومهما قبل الشروع في أحكامهما.
تعريف السنة:
أ - السنة لغة: تعني الطريقة، والسيرة المعتادة للإنسان، سواء كانت حسنة أو قبيحة، قال لبيد:
من معشر سنت لهم آباؤهم
…
ولكل قوم سنة وإمامها
وسنَنُ الطريق، نهجه، قال شمر:"وهو طريق سنه أوائل الناس فصار مسلكا لمن بعدهم"(1) وقال عليه الصلاة والسلام – في النوعين معا – من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: "من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "(2) .
وقال ابن فارس: " السين والنون، أصل واحد مطرد، وهو جريان الشيء واطراده في سهولة"(3) . وسَنَّ الشيء ابتدأه، وسار عليه من بعده، فأصبح له سنة وعادة.
فتلخص من هذا أن السنة تعني الطريقة التي يداوم عليها الإنسان، حتى أصبحت عادة له، وسيرة يعرف بها.
ب - واصطلاحا: عرَّفها المحدثون بقولهم:" ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول، وفعل، وتقرير، وصفة خِلقية وخُلقية، وهَمٍّ وإشارة، يقظة ومناما، قبل النبوة وبعدها"(4) .
(1) انظر لسان العرب - 13/226.
(2)
أخرجه مسلم في العلم – 4/2059/2060.
(3)
المقاييس – 3/60.
(4)
انظر توجيه النظر – 2/3/ وتوضيح الأفكار – 1/3.
ج - أقسام السنة: تنقسم السنة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في التعريف:
أ – السنة القولية: وهي إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من الأمور في مختلف الأغراض الدينية والدنيوية.
ب - السنة الفعلية: وهي أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرا من الأمور، فينقل إلينا أصحابه كيفية ذلك الفعل، كوضوئه، وصلاته بهم، وحجه، وما إلى ذلك
ج - السنة التقريرية: وهي أن يقر النبي صلى الله عليه وسلم قولا أوفعلا وقع أمامه، أو بلغه ولم ينكره، بل سكت عنه، أو أظهر استحسانه، فكل ذلك يدل على أن ذلك الفعل سنة، ممدوح فاعله، لأنه لو كان منكرا لأنكره، إذ لا يقر أحدا على باطل.
والسنة في هذه الأقسام، وحي من الله تعالى لنبيه بكيفية من كيفيات الوحي الآتية.
ب - تعريف الوحي:
أ - الوحي لغة، مأخوذ من وحى وأوحى إليه، إذا كلمه بما يخفيه عن غيره، ويطلق على الإشارة السريعة، سواء كانت بإشارة، أو رمز، أو تعريض، ومدارُ هذه المادة على الخفاء والسرعة.
واصطلاحا: "هو الإخبار السريع الخفي الموجه لخاص من الناس ".
ب - أقسام الوحي: ينقسم الوحي إلى ستة أقسام:
أولها وأعلاها، وحي الله عز وجل لمن اختاره من خلقه من أنبيائه مباشرة بلا واسطة كما كلم موسى وفرض عليه ما شاء، وكلم محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بما شاء من أحكام.
وثانيها: الوحي بواسطة الملك، وهذا هو الغالب.
وثالثها: الإلهام الفطري للإنسان، كإلهام الله أم موسى أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] .
هذا على مذهب من جعله وحي إلهام، وأما من جعله وحيا حقيقيا -كابن حز م- فيرجع إلى القسم الثاني
ورابعها: الإلهام الغريزي للحيوان، مثل قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] أي ألهمها ذلك، وجعله غريزة لها.
وخامسها: الإشارة الرمزية المعبِّرة، كقوله تعالى في قصة زكرياء:
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا} [مريم: 11] .
وسادسها: تزيين الشيطان ووسوسته، كقوله تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، أي: يوسوسون لهم بذلك، ويزينونه لهم.
ج – كيفيات الوحي للأنبياء والرسل عليهم السلام.
إيصال الوحي للموحى إليه، يدور على كيفيات خمس.
إحداها: أن يأتي الملك النبي صلى الله عليه وسلم في مثل صلصلة الجرس، وهو أشد حالات الوحي وأشقها.
وثانيتها: أن يأتيه الملك في صورة رجل، فيكلمه بالوحي، فيعي عنه ما يقول وهاتان الكيفيتان مذكورتان في حديث عائشة في الصحيح.
وثالثتها: أن يأتيه الملك في النوم، فيوحي إليه ما شاء الله، كما في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل الذبيح، وكقوله صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ: " أتاني ربي، فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى
…
الحديث (1) .
ورابعتها: أن ينفث الملك في رُوعه ما يريد من الوحي، فيتيقنه، وهذا النوع قد ورد في حديث ابن مسعود:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن روح القدس، قد نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " (2) والنفث، هو النفخ، وإلقاء الشيء فيستقر
وخامستها: التكليم المباشر من الله تعالى لنبي من أنبيائه، وقد تقدم (3) .
والسنة النبوية يقع إيحاؤها بهذه الكيفيات كلها، فتارة يوحى إليه بها مباشرة، وتارة بواسطة ملك، وتارة في النوم، وتارة بالنفث في الروع.
هذا، وسأرتب هذا البحث بعد هذه المقدمة على تمهيد، وثلاثة مباحث وخاتمة:
المبحث الأول: عصمة الأنبياء عليهم السلام.
المبحث الثاني: اجتهاد الأنبياء عليهم السلام.
المبحث الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن.
خاتمة في نتائج البحث المستخلصة منه.
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ص 5/368/ وأحمد – 5/ 253 / من حديث معاذ، وقال الترمذي حسن صحيح، وسأل عنه البخاري، فصححه، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الترمذي، وأحمد –1/368/ وفي إسناده مقال، لكنه يقوى بهذا.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك – 2/ 4/ وله شواهد عديدة يصح بها.
(3)
انظر هذه الأقسام في الإتقان للسيوطي /1/98/99.