المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: في اجتهاد الأنبياء عليهم السلام - السنة النبوية وحي - آيت سعيد

[الحسين بن محمد آيت سعيد]

الفصل: ‌المبحث الثاني: في اجتهاد الأنبياء عليهم السلام

‌المبحث الثاني: في اجتهاد الأنبياء عليهم السلام

هذه المسألة هي التي سيبنى عليها جواب عنوان هذا الموضوع، وهو: هل السنة كلها وحي، أو فيها اجتهاد؟

وفي الموضوع قضايا متفق عليها، وقضايا مختلف فيها.

فأما المتفق عليه، فقد أجمعوا على جواز التعبد بالاجتهاد عقلا للأنبياء عليهم السلام كغيرهم من المجتهدين، وهذا الإجماع حكاه ابن فورك، والأستاذ أبو منصور (1) . وأجمعوا أيضا على جواز التعبد بالاجتهاد للأنبياء فيما يؤول إلى الأمور الدنيوية ومصالحها، وتدبير أمور الحروب، وما يحفظ بيضة الأمة وكيانها، وهذا الإجماعُ حكاه الزركشي (2) ونقله ابن النجار عن ابن مفلح (3) .

وأما المختلف فيه، فقد اختلفوا في اجتهاد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الأمور الشرعية على أربعة مذاهب:

الأول: ذهبت الظاهرية وأكثر الأشاعرة والمعتزلة، إلى أنه لا يجوز لنبينا ولا لغيره من الأنبياء الاجتهاد في الشرعيات مطلقا، وقال القاضي أبو يعلى: إنه ظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله (4) .

(1) انظر إرشاد الفحول – 255.

(2)

البحر المحيط – 6/214.

(3)

شرح الكوكب المنير – 4/474.

(4)

المصدر نفسه.

ص: 21

الثاني: ذهب الجمهور ـ من الشافعية والمالكية والحنابلة، والحنفية ـ بشرط انتظار الوحي واليأسِ من نزوله عندهم – وبعضِ الأشاعرة، والقاضي عبد الجبار، وأبي الحسين البصري من المعتزلة، واختاره ابن الحاجب، والغزالي، والبيضاوي، وابن السبكي ـ إلى جواز ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، ووقع منه صلى الله عليه وسلم، وإذا اجتهد فهل يصيب دائما ولا يخطئ، أو يصيب ويخطئ كغيره من المجتهدين؟ فكل من قال بعصمته مطلقاً فإنه يصيب عنده دائما، وهو مذهب أبي جعفر السجستاني أيضا حكاه بقوله:" الله تعالى يصرفه عن الخطأ، ويهديه إلى الصواب "(1) .

الثالث: المنع مطلقا، وحُكي هذا المذهب عن أبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم (2) . وإذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء الاجتهاد في الأحكام الشرعية، فهل وقع ذلك منهم؟ لأنه ليس كل ما جاز يقع، هذه المسألة قد ذهب أكثر المتكلمين، وبعض الشافعية إلى عدم الوقوع، وهو مذهب باطل بالأدلة الدامغة التي ستأتي.

الرابع: التوقف، وقد ذهب إليه قوم، واختاره الباقلاني، وزعم الصيرفي أنه مذهب الشافعي، لأنه حكى الأقوال، ولم يختر شيئا منها (3) .

قلت: قد نقل الرازي عن الشافعي قوله: "لا يجوز أن يكون في أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم ما صدر عن الاجتهاد، وهو قول أبي يوسف (4) .

(1) الغنية في الأصول - 145.

(2)

شرح الكوكب المنير -4/476.

(3)

إرشاد الفحول - 256.

(4)

المحصول- 6 /7.

ص: 22

وهذا فيه تصريح الشافعي بالمطلوب. ويعارضه ما نقله الواحدي في الوسيط من أَن مذهب الشافعي الجواز وهو الصواب (1) .

أدلة هذه المذاهب

أـ أدلة المذهب الأول

استدل المذهب الأول المخصص للاجتهاد بالأمور الدنيوية بالكتاب والسنة والمعقول:

أ - فأما الكتاب فقد استدل بمايلي:

(1)

قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى حصر ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم في أنه وحْيٌ يوحى إليه، فلو كان يجتهد في الأحكام، لما صح هذا الحصر، ولكان بعض ما ينطق به، وحيا وبعضه اجتهادا، فلما حصر نطقَه في أحد القسمين، دل ذلك على نفي الثاني عنه، وهذا الحصر وقع، بـ"إِنْ" و"إِلَاّ" الدالتين على قصر الموصوف على الصفة.

قال ابن حزم: "لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع، نظرنا فيه، فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه -واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم:" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين: أحدهما وحي متلوٌّ مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن.

(1) انظر حاشية البناني على جمع الجوامع /2 / 386.

ص: 23

والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز ولا متلو، لكنه، مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عزوجل مراده منا، قال الله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق .... والقرآن والخبر الصحيح، بعضُها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهُما حكم واحد في وجوب الطاعة لهما .... ونحن إذ أطعنا أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، لِعِلْمنا أنه كله من عند الله عز وجل، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا " (1) .

وبهذا قال بعض المفسرين، قال القرطبي:" وفيها أيضا دلالة على أن السنة، كالوحي المنزل في العمل.. (2) وقال الرازي" هو" ضميرُ معلومٍ أو ضميرُ مذكورٍ، نقول: فيه وجهان: أشهرهما أنه ضمير معلوم، وهو القرآن، كأنه يقول: ما القرآن إلا وحي

والوجه الثاني أنه عائد إلى مذكور ضمناً وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وكلامُه، وذلك لأن قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} في ضمنه النطق وهو كلام وقول، فكأنه تعالى يقول: وما كلامه – وهو نطْقُه – إلا وحي (3) .

وقال الشنقيطي:" هذه الآية تدل بظاهرها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجتهد في شيء، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه ربما اجتهد في

(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم - 1/96/97/98/94.

(2)

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - 17/85.

(3)

مفاتيح الغيب - 28/282.

ص: 24

بعض الأمور .... والجواب عن هذا من وجهين: الأول هو الذي اقتصر عليه ابن جرير، وصدر به ابن الحاجب في مختصره الأصولي، أن معنى قوله تعالى:" وما ينطق عن الهوى " أي في كل ما يبلغه عن الله " إن هو " أي كلُّ ما يبلغه عن الله "إلا وحي" من الله، لأنه لا يقول على الله شيئا إلا بوحي منه، فالآية رد على الكفار حيث قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن كما قال ابن الحاجب. والوجه الثاني أنه إن اجتهد، فإنه إنما يجتهد بوحي من الله، يأذن له به في ذلك الاجتهاد، وعليه فاجتهاده بوحي فلا منافاة" (1) .

وقال ابن كثير:" وما ينطق عن الهوى " أي ما يقول قولا عن هوى وغرض " إن هو إلا وحي يوحى " أي إنما يقول ما أُمر به، يبلغه إلى الناس كاملا موفرا، من غير زيادة ولا نقصان " (2) .

(2)

قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى تكفل بحفظ الذكر الذي أنزله، والذكْرُ يشمل الكتاب والسنة، فكلاهما منزل من عند الله بنص الآية، وكلاهما محفوظ، كما هو مدرك بالمشاهدة والعيان. قال ابن حزم:" وضمان الله تعالى، قد صح في حفظ كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم "(3) .

(3)

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45] ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى حصر نِذاَرة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه

(1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، –186.

(2)

تفسير القرآن العظيم – 7/418.

(3)

النبذ في أصول الفقه –86-87.

ص: 25

فيما أوحى إليه، ونذارتُه لهم كانت بالقرآن والسنة يقينا، فدل ذلك على أن السنة وحي كالقرآن.

قال ابن حزم -معلقا على هاتين الآيتين-:" فأخبر تعالى كما قدمنا، أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي، والوحي كله محفوظ بحفظ الله عزّوجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى بلا خلاف ذكْر، والذكر محفوظ بنص القرآن، فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عزّوجل، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدا "

(1) .

(4)

قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18-19] . ووجه الدلالة من الآيتين، أن الله تعالى أمر نبيه باتباع قراءة جبريل، والإنصاتِ لها، ثم بعدها تكفل الله له أن يبين له معاني ما قرأ وسمع. والبيانُ إنما وقع بالسنة، فدل ذلك على أن السنة من عند الله، كالقرآن سواء، لأن الله تعالى أضاف البيان لنفسه، فأفاد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يتلقاه منه.

قال ابن حزم:" فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل، وإذا كان عليه، فبيانه من عنده تعالى، والوحي كله - متلوُّه وغير متلوه - فهو من عند الله عز وجل "(2) .

(5)

قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] . قال ابن حزم:" فصح بهذه الآية صحة ضرورية، أن

(1) الإحكام في أصول الأحكام - 1/98.

(2)

المصدر نفسه - 1/82.

ص: 26

القرآن والحديث الصحيح متفقان، هما شيء واحد، لا تعارض بينهما ولا اختلاف، يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده، ويحرمه من شاء، لا إله إلا هو

وصح بما ذكرنا بطلانُ قول من ضرب القرآن بعضه ببعض، أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض، كضرب القرآن والحديث بعضهما ببعض

ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام، لعلمنا أنه كله من عند الله، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا

" (1) .

(6)

قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أنزل إليه الذكر ليبينه للناس، والذكْرُ هو الكتاب والسنة، فكل منهما ذكر، ووظيفته صلى الله عليه وسلم بيان الذكر النازل من عند الله، فصح بهذا التعميم، أن السنة من عند الله كالقرآن، وأنه يوحى إليه صلى الله عليه وسلم بها كما يوحى إليه بالقرآن، ومن خص الآية بالقرآن وحده، فليس عنده دليل يجب التسليم له، وتقوم الحجة به على التخصيص، والأصل هو العموم، والتخصيص استثناء، ومدَّعِي الاستثناء، عليه الدليل.

قال ابن حزم:" بل فيها بيان جلي، ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس، والبيان هو بالكلام، فإذا تلاه النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينه، ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه، بيَّنَه حينئذ بوحي يوحى إليه، إما متلو أو غير متلو

" (2) .

(1) الإحكام -1-94/100.

(2)

المصدر نفسه - 1/82.

ص: 27

(7)

قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] . قال ابن حزم: " فلو أنه صلى الله عليه وسلم شرَّع شيئا لم يوح إليه به، لكان مبدلا للدين من تلقاء نفسه، وكل من أجاز هذا، فقد كفر وخرج عن الإسلام، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان "(1) .

(8)

قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:44-45] . ووجه الدلالة أن الله تعالى نفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقول عليه شيئا لم يُوحَ به إليه، ولا أن ينسب إليه شيئا لم يأذن له فيه، والاجتهاد في الأحكام الشرعية مظنة الزلل، لأن الخطأ فيها وارد، فإذا نُفِي الزلل، نفي سببه الذي هو الاجتهاد، ونفْيُ الملزوم يستدعي نفي اللازم بالضرورة، لأن اللازم لا يوجد بدون ملزومه، والزللُ لازم الاجتهاد، فنفيه نفي لاجتهاده عليه السلام.

قال ابن حزم:" إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها، فهو كفر عظيم، ويكفي من إبطال ذلك أمره تعالى نبيه عليه السلام أن يقول:" إن أتبع إلا ما يوحى إلي "

(2) .

ب - وأما السنة النبوية، فقد استدلوا منها بمايلي:

(1)

حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: " ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة

(1) المصدر نفسه - 5/137.

(2)

الإحكام - 5/132.

ص: 28

الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8](1) .

ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن حكم الحمر، فأجاب بأنه لم ينزل عليه فيها شيء، فلو كان يجوز له الاجتهاد لاجتهد في حكمها، وأجاب السائل بما أداه إليه اجتهاده، فلما لم يجتهد في النازلة مع وجود الداعي، وأحال السائلَ على عموم الآية، دل ذلك على أن كل ما يقوله، إنما يقوله بوحي.

(2)

حديث جابر قال:" جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدَعْ لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: " أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك " (2) .

ج - وأما الأدلة العقلية، فقد استدلوا بمايلي:

(1) لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم لعدم حاجته إليه، لأن الوحي ينزل عليه، فيستطيع في كل نازلة أن يعلم حكم الله فيها بالنص،

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد - الفتح - 6/75 والمساقاة - 5/56 والمناقب - 6/732 والتفسير -8/598، ومسلم في الزكاة - 2/681/682.

(2)

أخرجه الترمذي في الفرائض -4 /414 وأبو داود - 2891 - وابن ماجه - 2720 / كلهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر، وصححه الترمذي، وإسناده حسن.

ص: 29

والاجتهادُ إنما يكون لضرورة، كفقدان النص أو إشكاله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تتصور فيه هذه الضرورة، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب.

(2)

لو كان في الأحكام المتلقاة عنه صلى الله عليه وسلم ما يجوز أن يكون ناشئا عن الاجتهاد، لجاز أن لا يجعل أصلا لغيره، ولجاز لغيره من المجتهدين أن يخالفه فيه، وأن لا يكفَّر بذلك، لأن ذلك كله من لوازم الاجتهاد، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم بالضرورة. والمراد باللازم، أن لا يجعل ما اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، وأن يخالف فيه، وأن لا يكفر من خالفه في اجتهاده، وهذه كلها لوازم باطلة، فمخالفته صلى الله عليه وسلم محرمة، ويكفر متعمدها، وما تُلقُي عنه من الأحكام هو أصل، فإذا كانت كذلك، بطل أن تكون ناشئة عن اجتهاد، وصح أنه لا يفعل ولا يقول شيئا إلا بوحي، وهو المطلوب.

(3)

الاجتهاد لا يدل على الحكم إلا بالظن الغالب عند المجتهد، والنبي صلى الله عليه وسلم قادر على أن يعلم الحكم بالوحي القاطع، والقادر على تحصيل اليقين لا يجوز له المصير إلى الظن.

(4)

لو كان صلى الله عليه وسلم متعبَّدا بالاجتهاد لأظهر ذلك، ولما توقف في مسائل عديدة سئل عنها فانتظر الوحي، لمِاَ في توقفه من ترك ما وجب عليه من الاجتهاد، واللازم باطل، فكذلك الملزوم.

(5)

الأمور الشرعية، مبنية على المصالح التي لا علم للخلق بها، فلو حكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد، لكان غير عالم بالأصلح فيها، ولأدى ذلك إلى الاختلاف فيها، وهذا باطل، وما بني عليه أيضا باطل.

ص: 30

(6)

النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أن يخبر بما لا يعلم صدقه، فكذلك ليس له أن يحكم بما لا يعلم صوابه (1) .

ب - أدلة المذهب الثاني

واستدل الفريق الثاني بالكتاب والسنة والاعتبار.

أ - فأما الكتاب فقد استدلوا منه بمايلي:

(1)

قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] ووجه الدلالة من الآية، أن الاعتبار هو العبور من أمر واقع إلى أمر يشبهه في ملامحه وصفاته، وهذا معنى القياس، والنبي صلى الله عليه وسلم داخل في عموم الأمر به كسائر أمته، ولا دليل على تخصيصه من هذا العموم، وهو صلى الله عليه وسلم من أجَلِّ المعتبِرين، وأعظم المتفكرين في آيات الله، فكان أولى بتعبده بالاجتهاد والقياس. حُكي عن ثعلب قال:"الاعتبار في اللغة هو رد حكم الشيء إلى نظيره، ومنه يسمى الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة.."(2) .

(2)

وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة المأمورين بتعقل الأمثال المضروبة، والأمثالُ عبارة عن أقيسة، يشبه فيها ما سيقع للمكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم، بما وقع للمكذبين للأنبياء قبله، لأن العلة واحدة، وهي التكذيب. وتعقُّلُ ذلك،

(1) انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي - 3/207/ والمحصول /6/11/12/13.

(2)

أصول السرخسي - 2 / 125.

ص: 31

وإدراكه، وتدبره، هو الاجتهاد، والنبي صلى الله عليه وسلم فيه كغيره، وهكذا جميع الأمثلة المضروبة في القرآن، فهي على هذه الشاكلة.

(3)

قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] . ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لمن استأذنه في التخلف عن الجهاد لعذر، وكان المنافقون يعتذرون له بأعذار كاذبة، فعاتبه القرآن على إذنه لهم في التخلف دون استبانة من كان صادقا منهم في عذره، ممن انتحل عذرا غير حقيقي، وقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم، فجاء القرآن يصوب خلاف ما فعل، وذلك دليل الاجتهاد في المسألة، وهو المطلوب. قال الأصفهاني:" أما وجه التمسك بالآية، فإنه عاتب الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية على الإذن، فلو كان بالوحي لما عاتبه، وإذا لم يكن بالوحي تعين أن يكون بالاجتهاد"(1) .

(4)

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67] .

ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق أسرى بدر، بعضَهم بالمن عليه بلا فداء، وبعضهم بالفداء، اجتهادا منه، فنزل القرآن يبين له أن قتلهم هو الصواب. وقصةُ ذلك بتفصيل رواها ابن عباس رضي الله عنهما قال:" فلما أَسروا الأسارى، قال رسول الله صلى الله

(1) بيان المختصر - 3 / 294.

ص: 32

عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى" فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أَرى أن تأخذ منهم فدية، فتكونَ لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ترى يا ابن الخطاب" قلت: لا وَاللهِ يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنَّا فنضربَ أعناقهم، فتمكنَ عليا من عَقيل فيضربَ عنقه، وتمكِّنيِّ من فلان -نسيبا لعمر- فأضربَ عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهْوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدَيْن يبكيان، قلت يا رسول الله، أخبرني عن أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أبكي للذي عَرَض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة" -شجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] فأحل الله الغنيمة لهم" (1) .

ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الأسرى فأشار كل بما يرى، فاجتهد في الاختيار من آرائهم، فأخذ برأي أبي بكر، فنزل القرآن يصوب ما رآه عمر، واستشارتُه صلى الله عليه وسلم أصحابَه، دليل على أن المسألة ليس عنده فيها وحي، فلو كان فيها وحي، ما

(1) أخرجه مسلم في الجهاد - 3/1385/ حديث 1763.

ص: 33

احتاج لاستشارتهم، فلم يبق إلا استخراج الحكم بالاستشارة، وهي نوع من أنواع الاجتهاد.

قال ابن بطة: " والدليل على أن سنته وأوامره قد كان فيها بغير وحي، وأنها كانت بآرائه واختياره، أنه قد عوتب على بعضها، ولو أُمر بها لما عوتب عليها، من ذلك حكمه في أسارى بدر، وأخذه الفدية، وإذنه في غزوة تبوك للمخلفين بالعذر، حتى تخلف من لا عذر له، ومنه قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فلو كان وحيا لم يشاور فيه"

(1) .

(5)

قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] .

ووجه الدلالة من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد في صلاته على عبد الله بن أُبي المنافق، بناء على ظاهره، وإرضاءً لابنه عبد الله الصحابي التقي النقي، فنزل القرآن بنقض هذا الاجتهاد، وبيانِ أن عدم الصلاة على المنافقين هو الجادة، لكفرهم بالله ورسوله.

وسبب نزول هذه الآية، أن عمر رضي الله عنه قال: لما توفي عبد الله بن أُبي، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما

(1) المسودة لآل تيمية - 452.

ص: 34

خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80] وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84](1) .

ب ـ وأما من السنة فقد استدلوا بمايلي:

(1)

حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم تختصمون إِليَّ، ولعل بعضكم ألحنُ بحجته من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها "(2) .

ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قد يحكم باجتهاده لأحد الخصمين في نازلة، فيكون حكمه مخالفا للحقيقة في الباطن، لذا أَمر من حَكم له بما ليس له حقيقة ألا يأخذه، لأن حكمه لا يحلُّه له، فلو كان قد حَكم بالوحي، لكان حكمه صوابا ظاهرا وباطنا، فلما حذَّر المحكوم له، العالمَ في باطن الأمر أنه أخذ بحكمه ما ليس له، دل ذلك على اجتهاده في الأحكام، وهو المطلوب.

قال الحافظ: " وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء، وخالف في ذلك قوم، وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم.

(1) أخرجه البخاري في التفسير - الفتح -8/184.

(2)

أخرجه البخاري في الشهادات -5/340- وفي الحيل -12/355/ وفي الأحكام - 13/168/184 ومسلم في الأقضية -3/1337.

ص: 35

وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به، ويكون في الباطن بخلاف ذلك، لكن مثل ذلك لو وقع، لم يقَرَّ عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته" (1) .

(2)

حديث عمر أنه قال:" يا رسول الله، صنعتُ اليوم أمرا عظيما، قبَّلتُ وأنا صائم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرأيتَ لو تمضمضت بماء وأنت صائم "؟ فقلت: لا بأس بذلك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فصُمْ " (2) . ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه القبلة بالمضمضة في أن كلا منهما مقدِّمة للفطر ولا يفطران، فكما أن المضمضة وسيلة للشرب وليست شربا، فكذلك القبلة وسيلة للوطء وليست وطئا، والوطءُ والشرب هما المفطران لا مقدماتهما. فهذا قياس من النبي صلى الله عليه وسلم للقبلة على المضمضة، وهو دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد ويقيس، فلو كان عنده نص في المسألة لما جاز له القياس، لأنه لا معنى له مع وجود النص، فثبت المطلوب.

(3)

حديث ابن عباس في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة قال: "حرم الله مكة، فلم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلَى خلاها ولا يعضد شجرها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تُلتقط لقطتها إلا لمعرِّف " فقال العباس- رضي الله عنه – إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا، فقال " إلا الإذخر "(3) .

(1) الفتح - 13/186.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده - 1 / 21 بسند صحيح.

(3)

أخرجه البخاري في الجنائز -3/ 253 وفي جزاء الصيد - 4/56 ومسلم في الحج - 2/987.

ص: 36

ووجه الدلالة من الحديث أن العباس لما بين للنبي مصلحة الإذخر استثناه، فلو كان وحيا ما تأخر استثناؤه، ولساقه مع ما قبله مساقا واحدا، فلما استثناه بعدَ ما روجع فيه، دل ذلك على اجتهاده فيه لمصلحته الراجحة.

قال الحافظ:" واختلفوا هل كان قوله صلى الله عليه وسلم: " إلا الإذخر" باجتهاد أو وحي؟ وقيل: كان الله فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقا. وقيل: أُوحي إليه قبل ذلك أنه إن طَلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله.

وقال الطبري: " ساغ للعباس أن يستثني الإذخر، لأنه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة تحريمَ القتال دون ما ذكر من تحريم الاختلاء، فإنه من تحريم الرسول باجتهاده، فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر ". وهذا مبني على أن الرسول كان له أن يجتهد في الأحكام، وليس ما قاله بلازم، بل في تقريره صلى الله عليه وسلم للعباس على ذلك، دليل على جواز تخصيص العام......

قال ابن المنير: " والحق أن سؤال العباس، كان على معنى الضراعة، وترخيصَ النبي صلى الله عليه وسلم كان تبليغاً عن الله، إما بطريق الإلهام أو بطريق الوحي، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمَدٍ متسع فقد وهم "(1) .

(4)

حديث أم سلمة قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل علي

(1) الفتح - 4/59/60.

ص: 37

فيه، فمن قضيت له لقضية أراها فقطَع بها قطعة ظلما، فإنما يقطع بها قطعة من نار " (1) . ووجه الدلالة من الحديث، نصه صلى الله عليه وسلم على أنه يقضي باجتهاده فيما لم ينزل عليه فيه وحي، وهو المطلوب.

(5)

حديث جابر في أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين ليس معهم هدي في حجة الوداع أن يتمتعوا.

وفيه قوله: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي"(2) .

ووجه الدلالة من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي باجتهاده وأحرم مقرنا، فتبين له بعد ذلك أن الإحرام بالتمتع أفضل، فأمر به أصحابه، وتمنى لو كان محرما بعمرة. فلو كان إحرامه بوحي لمَاَ استقام قوله:" لو استقبلت من أمري ما استدبرت " ولَمَا ندم على ما فعل، ولمَاَ تمنى عمرة بدل حج وعمرة مقترنين.

(6)

عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، شاطِرْنا (3) تمْر المدينة، وإلا ملأناها عليك خيلا ورجالا، فقال: حتى أستأمَر السُّعُود، فبعث إلى سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فقال: قد علمْتُ

(1) أخرجه أبو داود في الأقضية - 3/302 وأحمد - 6/320/ والدارقطني -4/238.

كلهم من طرق عن أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الله بن رافع، عنها به.

وإسناده ضعيف، ومتنه منكر بهذا اللفظ. وأسامة بن زيد مختلف فيه، وثقه بعضهم، وضعفه بعضهم، وضعفُه في هذا الحديث بين، لأنه ساقه بسياق لم يعهد لغيره، والحديث معروف وقد تقدم بغير هذه الزيادة.

(2)

أخرجه مسلم في الحج - 2/884/ وعند البخاري نحوه عن عائشة.

(3)

أي أعطنا شطره، أي نصْفَه مقابل الجلاء، وفى لفظ: ناصفنا.

ص: 38

أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث قد سألكم تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا.

فقالوا: يا رسول الله، أوحي من السماء - فالتسليم لأمرالله – أوعن رأيك وهواك؟ فرأينا تبع لهواك ورأيك، فإن كنتَ إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا تمرة إلا شراء أو قِرى، لا واللهِ ما أَعْطَينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء بالإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هوذا، تسمعون ما يقولون؟ " قالوا: غدرت يا محمد

الحديث (1) .

ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه فيما سئل من مناصفة الكفار تمر المدينة، فلو كان أوحي إليه بشيء في ذلك، لمَاَ احتاج لاستشارتهم، ثم إن المستشارين من أصحابه استفسروه عما اقترح هل هو بوحي فيسلمون له، أو برأي، فرأيُه رأيهم. وذلك يدل على أنهم يفرقون بين ما كان وحيا -فيطيعونه فيه- واجتهادا فيبدون فيه اجتهادا آخر قد يخالف اجتهاده. وسؤالُهم ذلك يدل على أنه تقرر عندهم أنه عليه السلام يجتهد، فلو لم يتقرر ذلك عندهم لما كان للسؤال فائدة.

(7)

عن رافع قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبُرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال:"لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا، فتركوه، فنفَضت (2) أو فنقصت ـ قال: فذكروا ذلك له، فقال: " إنما

(1) أخرجه البزار - كشف الأستار - 2/331-332/ والطبراني في الكبير- كما في المجمع /6/132/ وقال: " ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات "اهـ

(2)

أي سقطت

ص: 39

أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر".

وفي لفظ " طلحة بن عبيد الله:" إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل ".

وفي لفظ عائشة: " لو لم تفعلوا لصلُح " قال: فخرج شِيصا (1) فمر بهم فقال: "مالنخلكم "؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال:" أنتم أعلم بأمر دنياكم"(2) .

ووجه الدلالة من الحديث جلي، وهو نصٌّ في أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد ويخطئ في اجتهاده، لكنه ينبه على ذلك كما سبق.

قال الشاطبي: فإن الحديث إما وحي من الله صِرْف، وإما اجتهاد من الرسول عليه الصلاة والسلام معتبرٌ بوحي صحيح من كتاب أو سنة. وعلى كلا التقديرين، لا يمكن فيه التناقضُ مع كتاب الله، لأنه عليه السلام، ما ينطق عن الهوى، وإذا فُرِّع على القول بجواز الخطأ في حقه فلا يقر عليه البتة، فلا بد من الرجوع إلى الصواب " (3) .

وقال الشيرازي: "يجوز الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اجتهاده إلا أنه لا يقر عليه، بل ينبه عليه (4) .

(1) هو البسر الرديء.

(2)

أخرجه مسلم في الفضائل - 4/1835/1836.

(3)

الموافقات للشاطبي - 4/21.

(4)

التبصرة في أصول الفقه - 524.

ص: 40

ج - وأما الاعتبار، فقد استدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من المجتهدين فهو معصوم في اجتهاده، فلا يلزم منه ما يلزم في اجتهاد غيره من المحاذير، فافترقا.

ما سبب الخلاف في هذه المسألة؟

وسبب الخلاف في اجتهاده عليه السلام من عدمه، هو أن كل فريق نزع إلى أصل وتمسك به، واعتبره أقوى من الأصل الذي يتمسك به مخالفُه.

فأما الفريق الذي نفى اجتهاد الأنبياء في النوازل والقضايا، فقد بنوا ذلك على أصل، وهو أن الاجتهاد الذي هو استعمال الرأي للوصول إلى حكم، إنما يكون حينما تعوز النصوص في الموضوع وتفقد، فهو إذن ضرورة يُلجَأ إليها، ولا ريب أن الأنبياء، ليسوا كغيرهم في هذه الضرورة، فجبريل يأتيهم بما يشفي في كل ما عَنَّ لهم، فهُمْ بالوحي مستغنون عن الاجتهاد، وما يتلقونه وحيا، مقطوع به مجزوم بحكمه، وقضايا الاجتهاد مظنونة، فمن العبث أن يَترك نبي من الأنبياء عينَ اليقين، ويلجأ إلى تخمين وظنون.

وهذا الفريق قد أول بعض النصوص الدالة على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم لتنسجم مع مقوله، وأبطل دلالة بعضها على المطلوب، ونفى ثبوت بعضها.

وأما الفريق الثاني القائل باجتهاد الأنبياء اجتهادا مطلقا وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم مطلقا، فإنهم بنوا مذهبهم على أصلين:

أحدهما أن الاجتهاد واستعمال الرأي والتدبر في المآلات، من خواص الإنسان التي ميَّزه الله بها عن غيره، وهو من الكمالات الإنسانية التي يشرف بها المرء، فإذا كانت كمالا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل كمال، فهو

ص: 41

سيد المجتهدين، وإمام المستنبطين، فكيف يُستثنى من هذه الفضيلة العامة في الجنس البشري، وتمُنح لمن دونه بدون دليل واضح يدل على الاستثناء؟

وثانيهما مراعاة النصوص الدالة على اجتهاده صلى الله عليه وسلم بالفعل، وهي في جملتها صريحة وصحيحة، فلا معدل عن القول بها، وتنزيلها منازلها: بالجمع بينها وبين النصوص التي يُفهم منها أنه لا يجتهد، فإذا سُلِك فيها كلِّها مسلكُ الجمع، فإنها لا تتضارب ولا تتناقض، لأنها من منبع واحد.

وأما الفريق القائل بأنه يجتهد في الدنيويات دون الدينيات، فقد رام بذلك الجمع بين الأدلة، ولكن ذلك لم يطرد له من وجهين: أحدهما ثبوت أنه صلى الله عليه وسلم قد اجتهد في الأمور الدينية، وثانيهما عدم وضوح الفرق في الأحكام بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فالأحكام الشرعية تتناول هذا وهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بإذن ربه، يشرع هنا وهناك.

وأما الفريق المتوقف في القضية، فشبهَتُه هي تكافؤ الأدلة من الجانبين عنده، وصعوبةُ الترجيح، وهذا ليس بشيء، لأن النظر بإمعان في تلك الأدلة، يدل على ما هو الصواب من أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد، ولكن الفرق بينه وبين غيره من المجتهدين، أنه مسدَّد ومصيب في اجتهاده، ابتداءً، أو مآلا.

ص: 42