المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن - السنة النبوية وحي - آيت سعيد

[الحسين بن محمد آيت سعيد]

الفصل: ‌المبحث الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن

‌المبحث الثالث: بسط أدلة القول بأن السنة وحي كالقرآن

لا يعرف نبي غير محمد صلى الله علية وسلم أحيطت سيرته وسنته باعتناء كبير، وأحصيت إحصاء دقيقا، ودونت بأدق التدوين، وقد هيأ الله عز وجل لحفظ السنة عوامل كثيرة، داخلة في أقدار الله تعالى التي أوجدها لحفظ ذكره وحفظ بيان الذكر. ذلك أن المسألة معقولة ومرتبطة، ووجه تعليقها أن القرآن الكريم مرتبط بشخص النبي صلى الله عليه وسلم من جهة تلقيه عن الله تعالى وإبلاغه للأمة كما تلقاه، لفظا ومعنى، وجهة تفويض الله تعالى له أن يبين للناس مراده منه.

من هاتين الجهتين، نشأت علاقة ارتباط بين القرآن والسنة، أشبه بعلاقة القرابة التي لا يمكن فصلها أو فصمها، فمن حاول الاستدلال بالقرآن بمعزل عن السنة، أو الاستدلال بالسنة بمعزل عن القرآن، كمن حاول التفريق بين أغصان الشجرة وأصلها، وبين القريب وقريبه، وكلُّ محاولة للاستغناء بأحدهما عن الآخر، فإنما هو ضربة لازب، وسير في عماية، وخروج عن النهج المستقيم، ذلك أن السنة صنو القرآن وقرينته في الاستدلال والاحتجاج، والله تعالى تكفل بحفظهما معا في قوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والذكر يشملهما معا، والعوامل التاريخية الواقعية دالة على ذلك، وأهمها أربعة:

(1)

الحفظ في الصدور: فقد كان الصحابة –رضوان الله عليهم- يتلقون منه صلى الله عليه وسلم سنته فيعونها ويحفظونها في صدورهم، كما كانوا

ص: 43

يحفظون القرآن، إلا أنهم في حفظها يتفاوتون، فمنهم من يحفظها بلفظها ومعناها فيؤديها كذلك، ومنهم من يحفظها بالمعنى، فيؤدي معناها بألفاظه هو، ومنهم من يزاوج بينهما، ويجمعهم جميعاً همٌّ واحد، ضعوه نصب أعينهم عند الأداء، وهو أن كل ماشك فيه، أولم يتحققه المتلقي، أو خاف أن يكون قد سها فيه، فإنه يسقطه، ولا يضيفه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يرويه، وبهذا طمأنت الأمة إلى أن كل ما وصلنا عنهم بطريقة مقبولة، مما أسندوه للمعصوم صلى الله عليه وسلم فهو حق، وصدق، لأنهم لا يستجيزون أن يقولوا عليه مالم يقل، لعلمهم بالوعيد الشديد الوارد في ذلك.

(2)

المذاكرة: فقد كانوا يذاكرون الحديث، ويراجعون محفوظهم منه، وينشرونه بينهم، فكان الحاضر يخبر الغائب، والذاكر ينبه الناسي، فانتشرت السنة بينهم بالمذاكرة، وعم أريجها بينهم بالتطبيق، ووصلوا في حرصهم على حفظ السنة وتلقيها من مشكاة النبوة، أنهم كانوا يتناوبون على مجالسها، مخافة أن يفوتهم شيء منها، ومنهم من نذر نفسه للحضور في كل المجالس حتى لا يفوته شيء، كما كان من أبي هريرة وغيره.

(3)

الكتابة: فقد كان جماعة من الصحابة يكتبون ما سمعوا من رسول لله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث في صحائف لهم، وأورثوها من بعدهم، وكانت هذه الصحف ذائعة منتشرة في زمانهم، خلافا لما يأفكه المستشرقون الذين يزعمون أن شيئا من السنة لم يدون في عهده صلى الله عليه وسلم، وهذه الصحف التي وصلت إلينا بأدق الموازين العلمية، تفضحهم.

(4)

الرحلة في طلب الحديث: وهذه قد أبدعها المسلمون، فلم يكن في أمة من الأمم غير المسلمين، الاغتراب في جمع أقوال أنبيائهم، وتصنيفها،

ص: 44

ومقارنتها وسماعها مرارا، فقد كان الرجل منهم يرحل في حديث واحد مسيرة شهر، وكان يرحل في لقاء شيخ واحد من خراسان إلى حدود الصين، ولم يبق بلد فيه من يُسمِع الحديث لم يُرْحَل إليه، فأسفرت هذه الرحلة عن تقعيد موازين دقيقة حفظ الله بها السنة من الضياع، تحقيقا لوعد الله في كتابه، وإكراما لهذه الأمة ونبيها، وهذه بعض تلك الموازين.

أ – إحصاء حديث أهل بلد، وشيوخه، وتلامذتهم، حتى أحصوا منهم من روى حرفا واحداً، ونتج عن هذا أنه لا يستطيع أي كاذب أن يدخل في حديث أهل ذلك البلد ماليس منه، فإذا أدخله عُرف أنه ليس منه.

ب – رواية الحديث الواحد من أوجه كثيرة، عن شيوخ عديدين، قد يصلون أحيانا إلى مائة شيخ، وقد يُعَدون بالعشرات، ونتج عن ذلك، مقارنة المتون، ومعرفة ما زيد فيها مما نقص منها، وما شذ مما لم يشذ، فاطمأنت الأئمة بعد هذه المقارنة إلى سلامة المتون من الأوهام، والتحريف، والتصحيف، والإدراج، وما إلى ذلك، وكل لفظة شكوا فيها، فإنهم يحيطونها بالريبة، ويكتبونها لينصوا على أنها لا أصل لها، أو مشكوك فيها، أو محتملة.

ج – تصنيف الرواة على طبقات، فمنهم الحافظ الناقد الجهبذ، ومنهم الصدوق المتوسط، ومنهم من ليس كذلك، فقدموا في الاحتجاج أحاديث الحفاظ الثقات، وأتبعوها بأحاديث الصدوقين المتوسطين، ونظروا في أحاديث من ليس كذلك، فإن وافقت ما عند الصنفين، فهي مقبولة، وإن خالفت، كتبوها ليعرف أنها غير معمول بها، أو متوقف فيها.

ص: 45

د – التدقيق في سير حَملة الحديث عن قرب، واختبار عدالتهم وضبطهم ومدى موافقتهم أو مخالفتهم، فعرفوا بذلك كل واحد على حقيقته، ونزلوه منزلته، بلا شطط، ولا تقصير.

وبذلك وضعوا سدا منيعا بين الكَذَبة والدس في السنة النبوية، فإذا جاء أحد بحديث يرويه عن الكوفيين مثلا، نظروا هل هو من حديثهم أو ليس كذلك، وهل كان معروفا بالرواية متصدرا لها، أو كان مغمورا، أو متساهلا، فإن استوفى شروط القبول قبلوه وإلا رفضوه. وهكذا حُرِست السنة وضبطت بأسانيدها ومتونها، حتى دخلت في مصنفات، وخلدت في مؤلفات، عرف مصنفوها بثقتهم وسعة علمهم، وكثرة مرويهم، وضبطهم وإتقانهم، فاستراح الناس من خوف الدس المتعمد وغير المتعمد، فأصبح من يروي شيئا ليس في الدواوين المعروفة، ولا تناقله أهل العلم، ولا عمل به بينهم، لا يؤبه له ولا لروايته.

وهذه الجهود الضخمة المبذولة في حفظ السنة، هي معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم وكرامة لأمته، ومفخرة لها، وقد تمخضت أيضا لأول مرة في تاريخ البشرية عن ابتكار علم توثيق الأخبار وتمحيصها، المسمى:" علم الجرح والتعديل وعلم العلل " وقد ابتدعه المسلمون للحفاظ على السنة النبوية، وقلدهم من سواهم من أصحاب العلوم الأخرى في ذلك.

وهذا العلم مفخرة للحديث والمحدثين خاصة، وللمسلمين عامة، فكان بحق هؤلاء نقَدة المعرفة، وخدَمة الحقيقة، حتى قال سفيان الثوري:" الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض "(1) .

(1) شرف أصحاب الحديث – 44.

ص: 46

وقال يزيد بن زريع: " لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد "(1) .

فإن قيل: كيف نوفق بين كون السنة النبوية وحيا، وماثبت قطعاً من اجتهاده صلى الله علية وسلم في بعض القضايا الدينية والدنيوية؟.

فالجواب أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا، لا يتنافى مع القول بأن السنة وحي؛ ذلك أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية، يكون ابتداء بوحي، بمعنى أن الله تعالى يأمره بالاجتهاد فيما لم يوحَ إليه فيه، ثم في النهاية يؤول اجتهاده إلى الوحي، بمعنى أنه إن أصاب في اجتهاده مراد الله، فإن الوحي يقره، وإقرارُ الوحي وحي، وإن أخطأ في اجتهاده، فإن الوحي ينبهه على الخطأ، ويرشده إلى الصواب فيرجع إليه، ويصبح مانبهه عليه الوحيُ هو التشريع له ولأمته.

وعليه، فما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم لا يخرج عن دائرة الوحي بهذا الاعتبار، فهو إما إقرار، وإما نقل إلى ما هو صواب بعد الاجتهاد. وأما في الأمور الدنيوية فقد ينبهه الوحي، وقد ينبهه غيره من الناس على الصواب فيرجع إليه، فيكون بذلك صلى الله عليه وسلم معصوما في اجتهاده حالا أومآلا، بالإقرار، ومآلاً بالنقل إلى ما هو صواب، وهذا من خصائصه التي لايشاركه فيها غيره من المجتهدين، فغيرُه فيما اجتهد فيه، قد يكون مخطئا ويستمر على خطئه ولاينبه له، ويتوارث عنه ذلك، وقد يكون مصيبا ولا يَتيقن أنه مصيب، بخلافه صلى الله عليه وسلم فإنه فيما اجتهد فيه وأُقر عليه، فهو على يقين أنه على بينة وحق من ربه، ويجب على الأمة أن تتأسى به في

(1) المصدر نفسه.

ص: 47

اجتهاده ذلك، وأن تجعله سنة متبعة، وأما ما وقع فيه الخطأ من اجتهاده صلى الله عليه سلم فإنه لايقر عليه ولايستمر فيه على الخطأ، ولايتوارث، بل يُنبَّه على الصواب فينقل إليه، ويترك الخطأ، ويصبح ما انتقل إليه بوحي، تشريعا له ولأمته، دون ماسبقه من الاجتهاد، ولهذا لا يجوز لأحد أن يأخذ باجتهاده صلى الله عليه وسلم الذي نبه الوحي فيه للخطأ. هذا فحوى كلام الشافعي من خلال نصوص الرسالة التي سيأتي بعضها. وهناك من جمع بوجه آخر كابن حزم وغيره فقال: القضايا التي اجتهد فيها صلى الله عليه وسلم هي قضايا دنيوية، ولاغضاضة عليه إن أخطأ فيها، إذ لاعلاقة لها بالتشريع، والتشريع كله وحي. وهذا الوجه لا يخفى ما يرد عليه من اعتراضات، والصواب ماتقدم مما ذهب إليه الشافعي وغيره.

وزيادةً على ماتقدم من الأدلة الوارده في المذهب الأول الذي لا يرى اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الشرعيات، فإننا سنضيف أدلة وأقوالا أُخَر تثبت أن السنة وحي كالقرآن.

وهذا المذهب قد تبناه جلة من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، منهم سعد ابن معاذ رضي الله عنه، وحسان بن عطية، والشافعي، والبخاري، وابن حزم، وغيرهم رحمهم الله. ويُستدل لهذا المذهب -زيادة على ماتقدم- بالكتاب، والسنة، والآثار فأما الكتاب فقوله تعالى:

(1)

{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيما} [النساء: 113] .

ص: 48

(1)

وقوله {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة:231] . ووجه الدلالة من الآيتين أن الله تعالى نص على أنه أنزل على رسوله الكتاب والحكمة، فدل ذلك على أن السنة تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن، بنص الآيتين، والحكمةُ لا يختلف أهل العلم حيثما وردت في القرآن، أنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] . قال الشافعي –رضي الله عنه: " فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعتُ من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله، وهذا يشبه ما قال، لأن القرآن ذكر، وأُتْبِعَتْهُ الحكمة، وذكر الله منَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز –والله أعلم- أن يقال: الحكمة ههنا إلا سنةُ رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتَّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرْضٌ إلا لكتاب الله ثم سنةِ رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرنا بالإيمان به"

كل ماسن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه كتاب - وفيما كتبنا في كتابنا هذا - منْ ذِكْرِ ما منَّ الله به على العباد، من تعلم الكتاب والحكمة، دليل على أن الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

" (1) وبهذا قال عامة المفسرين.

(1) الرسالة -23 -78.

ص: 49

قال ابن جرير في قوله تعالى {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:118] يعني: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمةَ، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره من حلال وحرام، وأمره ونهيه وأحكامه، ووعده ووعيده" (1) .

وقال ابن كثير: " وما أنزل عليه من الكتاب، وهو القرآن، والحكمة، وهي السنة"(2) .

وقال القرطبي: " والحكمة القضاء بالوحي "(3) .

وقال ابن جرير في قوله تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} : "وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم". (4)

وقال ابن كثير: " الحكمة أي السنة "(5)

وقال القرطبي: " هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب "(6)

وقال ابن جرير في قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} : [الأحزاب:34] "ويعني بالحكمة ما أوحي إلى رسول الله

(1) جامع البيان، المجلد 4/ج – 5/275.

(2)

تفسير القرآن العظيم – 2/364.

(3)

الجامع لأحكام القرآن – 5/328.

(4)

جامع البيان / 2 / 483.

(5)

تفسير القرآن العظيم.

(6)

الجامع لأحكام القرآن – 3 / 175.

ص: 50

صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به القرآن، وذلك السنة " ثم ساق هذا المعنى بسنده عن قتادة (1) .

وقال ابن كثير: "اعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغير واحد "(2)

وقال القرطبي: " فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن ومايَرَيْنَ من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام ويسمَعْنَ من أقواله حتى يبلِّغْن ذلك إلى الناس، فيعملوا ويقتدوا "(3) .

وقال ابن كثير في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] : "الحكمة: السنة" قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل وأبو مالك، وغيرهم" (4) .

وقال القرطبي: " الحكمة السنة، وبيان الشرائع "(5) .

وقال ابن حزم: "والآيات، ما أنزل الله تعالى من القرآن، والحكمةُ ما أوحى من السنة"(6) .

وقال ابن عبد البر: " يريد القرآن والسنة "(7)

(1) جامع البيان – المجلد – 12/ج22.

(2)

تفسير القرآن العظيم – 12/41.

(3)

الجامع لأحكام القرآن – 14/184.

(4)

تفسير القرآن العظيم – 2/269.

(5)

الجامع لأحكام القرآن – 2/130.

(6)

النبذ في أصول الفقه الظاهري ص 90 (5) .

(7)

جامع بيان العلم – 9/789.

ص: 51

والحاصل أن أقوال المفسرين متفقة على أن الحكمة هي السنة، والآيتان الأُوليان صريحتان في أنها تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن.

(1)

وقولُه تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] .

ووجه الدلالة أن الله تعالى بين لرسوله أنه أنزل عليه الكتاب ليحكم بما أعلمه الله وذلك دليل على أنه لا يحكم إلا بما أعلمه به وأوحاه إليه، وقد استدل البخاري رحمه الله بهذه الآية لذلك كما سبق، ورأى أن قوله تعالى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} أي بما أوحاه إليك، وذهب غيره إلى أن معنى "بما أراك الله" من الرأي الذي هو نوع من أنواع الاجتهاد "، وقد استدل بها أبو يوسف على أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بالاجتهاد.

قال القرطبي: "بما أراك الله" معناه على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سَنن الوحي، وهذا أصل في القياس، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب، لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضَمِنَ الله تعالى لأنبيائه العصمة، فأَما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه، فلا قطع فيما رآه " (1) .

وقال الشيرازي: " ولم يفرق بين ما أراه بالنص أو بالاجتهاد "(2) قلت: وفي هذا المعنى قول عمر على المنبر: " يا أيها الناس، إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه سلم مصيبا، لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن

(1) الجامع لأحكام القرآن – 5/376.

(2)

التبصرة في أصول الفقة – 521.

ص: 52

والتكلف " (1) . قال الأصفهاني: " ووجه الاستدلال بها –كما قرره أبو علي الفارسي- أن الإراءة إمَّا من الرأي الذي هو الاجتهاد، أو من الرؤية بمعنى الإبصار، أو بمعنى العلم، لا جائزٌ أن يكون من الرؤية بمعنى الإبصار، لأن المراد بـ"ما" في قوله تعالى {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} هو الأحكام، وهي لا تكون مبصَرة، ولا جائزٌ أن يكون من الرؤية بمعنى العلم، وإلا لوجب ذكر المفعول الثالث لوجود ذكر المفعول الثاني، وهو الضمير الراجع إلى الموصول

فتعين أن يكون بمعنى الرأي " (2)

قلت: والصواب أن تكون الإراءة بمعنى العلم، والمفعول الثالث محذوف ولا يجب ذكره –كما زعم أبو علي- للعلم به، والمعنى:"بما أراكه الله حكما" فـ "حكما" هو المفعول الثالث، وحُذف لدلالة "لتحكم" عليه، والسياقُ يدل على هذا الذي رجحه البخاري، لأنه إذا أنزل الله عليه الكتاب ليحكم به، فهو يحكم بما أعلمه الله به فيه، فهو لا يحتاج للرأي، مع وجود الحكم في الكتاب، وما ذهب إليه أبو علي مرجوح.

هذا وقد حمله القرطبي إما على العلم، أو الرأي المسدد بقوله:"وقال الداودي:" لأن المراد بقوله: "بما أراك الله" ليس محصورا في المنصوص، بل فيه إذن في القول بالرأي" (3) .

(1) أخرجه أبو داود في الأقضية، حديث 3586 بسند صحيح.

(2)

بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب – 3/295.

(3)

فتح الباري – 13/304.

ص: 53

وأما السنة فقد استُدل لهذا القول بأحاديث:

(1)

حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لُقَطَةُ معاهَد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم، فعليهم أن يَقروه، فإن لم يقروه، فله أن يُعقِبهم بمثل قراه"(1) . وفي لفظ لهذا الحديث زيادة: " ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه سلم مثلُ ما حرم الله"(2)

ووجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نص على أنه أُتي مثلَ القرآن، ولم يكن ذلك إلا السنة، وتعبيرُه بالإيتاء، يدل على أنها تنزل عليه كما ينزل عليه القرآن، ثم إن المثلية المذكورة تحتمل أنها مثله في القرآنية، أو مثله في الاحتجاج بها، أو مثله في تنزيلها عليه، والوجه الأول باطل

(1) أخرجه أبو داود في العلم – 4/200/ واللفظ له، وأحمد – 4/113/ والطحاوي في المعاني – 4/209/ والآجري في الشريعة – ص 51/ كلهم من طريق عبد الرحمان بن أبي عوف، عن المقدام مرفوعا، وإسناده صحيح.

(2)

الزيادة أخرجها الترمذي - 5/38/. وابن ماجه - 1/6/ والطبراني في الكبير - 2/274/ والطحاوي في المعاني – 4/209/ والدرامي – 1/144/ والحاكم 1/109/ كلهم من طريق معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر اللخمي، عن المقدام مرفوعا، وليس عند هؤلاء جميعا جملة:"ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" ولا "ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي " إلخ. وصححه الحاكم، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وليس كذلك، لأن الحسن بن جابر مجهول، لم يوثقه إلا ابن حبان، ومقتضى تصحيح الحاكم وتحسين الترمذي له، أنه عندهما مقبول، لكن له شاهد من حديث العرباض بن سارية، عند ابن ماجه حديث – 3050 – وفي سنده أشعت بن شعبة المصيصي، وثقه ابن حبان، وأبو داود إن صح عنه وقال أبو زرعة:"لين" ومثله يصلح في الشواهد، وبه ترتقي هذه الزيادة لدرجة الحسن بغيره. وتصلح للاحتجاج بها على المطلوب.

ص: 54

بالإجماع، فلم يبق إلا الثاني والثالث، وهما المطلوب.

وأما الزياده المذكورة، فوجه الدلالة منها، أنه صلى الله عليه وسلم سوَّى بين ما يحرمه هو وما يحرمه الله تعالى، وذلك لا يكون منه إلا بوحي، لأنه لو كان اجتهادا منه، لما صحت هذه التسوية شرعا ولا واقعا، ولما قطَع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التسوية، لأن أحكام الاجتهاد لا قطع فيها، فلما جزم بالتسوية بين ما يحرمه هو وما يحرمه الله عز وجل، علمنا أن ذلك كان منه بوحي لا برأي.

(2)

حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير........ الحديث1. ووجه الدلالة منه أن الله بعثه بالهدى والعلم، وهما يشملان الكتاب والسنة، واستعمال لفظة "بعث" تدل على أن ذلك ليس برأي ولا قياس.

(3)

حديث يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجِعِرّانة، وعليه جبة، وعليه أثر خَلوق، فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأَنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم فستر بثوب، ووددت أني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي، فقال عمر: تعال، أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب فنظرت إليه، له غطيط كغطيط البَكر، فلما سُري عنه قال: "أين السائل عن العمرة، اخلع عنك الجبة، واغسل أثر

1 البخاري في العلم، باب فضل من علم وعلم – الفتح – 1/211/ ومسلم- 2/836/ حديث 1180.

ص: 55

الخلوق عنك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك " 1 ووجه الدلاله أنه لم يُجِب السائل عن سؤاله إلا بعد ما جاءه الوحي بالجواب.

قال الزركشي: " وهو دليل قطعي على أن السنة كانت تنزل عليه كما ينزل القرآن "(2)

قال الحافظ: " لم أقف في شيء من الروايات على بيان المنزل حينئذ من القرآن، وقد استدل به جماعة من العلماء على أن من الوحي مالا يتلى، لكن وقع عند الطبراني في الأوسط من طريق أخرى أن المنزل حينئذ قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ووجه الدلالة منه على المطلوب، عموم الأمر بالإتمام، فإنه يتناول الهيئات والصفات، والله أعلم".

قلت: ولا تظهر دلالة الآية على ما سأل عنه السائل من نزع جبته، وغسل أثر الخلوق عنه، إلا بالتأويل المذكور، لو صحت الرواية بذلك، لكن رواية الطبراني في الأوسط ضعيفة (3) فيصحّ الاستدلال بالحديث على أن الموحى به له صلى الله عليه وسلم في هذه القضية، هو السنة لا القرآن.

(4)

حديث خولة بنت ثعلبة في مظاهرة أوس بن الصامت منها، وهو شيخ كبير قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست بين يديه،

(1) أخرجه البخاري في العمرة – الفتح – 3/718.

(2)

البحر المحيط /6/216.

(3)

أخرجه الطبراني في الأوسط – 2/485/ حديث – 1836/ وقال: "لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا إبراهيم، ولم يدخل أبو الزبير بين عطاء وصفوان أحدا، ورواه مجاهد عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه "قلت: وتابعه همام عند البخاري ومسلم، فرواه عن عطاء عن صفوان عن أبيه، كما تابعهما ابن جريح، وعمرو بن دينار، وقيس، ورباح بن أبي معروف ورواياتهم عند مسلم.

ص: 56

فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه " قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ، فتغشى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال لي: " ياخويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك، ثم قرأ علي {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1]

" الحديث (1)

ووجه الدلالة من هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم توقف في الجواب عنها، فلم يجب فيها لا برأي ولا قياس، حتى نزل عليه الوحي بحكمها، فدل على أنه لا يقول شيئا، ولا يفعله إلا بوحي.

(5)

حديث عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم "فأومأ بإصبعه إلى فيه" فقال:

(1) أخرجه أحمد – 6/410/411/ وأبو داود في الطلاق – 2/266/ من طريق محمد بن إسحاق، عن معمر بن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عنها به.

وإسناده فيه ضعف، معمر بن عبد الله مجهول الحال، لم يوثقه إلا ابن حبان، لكنه لم ينفرد به فقد روي مرسلا، عن محمد بن كعب القرظي وأبي العالية عند الطبراني، كما في الفتح.

وروي من حديث ابن عباس عند ابن جرير في تفسيره. وفيه أبو حمزة الثمالي –واسمه ثابت بن صفية- وهو ضعيف، وجاء من حديث عائشة بسند صحيح مختصرا عند البخاري في التوحيد – 13/384/ وعن أنس، عند ابن مردويه – كما في الفتح – 13/386.

ص: 57

" اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق " 1 ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ما يتكلم به في حال الغضب والرضا بأنه حق، فدل ذلك على أن ما يقوله، كان بوحي، سواء كان كتابا أو سنة، لأن الحق وقع منَكَّرا في سياق النفي، فيفيد العموم.

(6)

حديث جبير بن مطعم أن رجلا قال: يا رسول الله، أي البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله؟ قال:"لا أدري حتى أسأل جبريل" فأتاه فأخبره جبريل أن أحب البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق2، وفي لفظ: قال جبريل: " لا أدري حتى أسأل رب العزة ".

(7)

حديث جابر أنه كان مريضا، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فصب عليه من وَضوئه، فأفاق من إغمائه، فقال: يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ قال: فما أجابني بشيء

(1) أخرجه أحمد – 2/162/192/ وأبو داود – 3/318/ والدارمي – 1/125/ والحاكم – 1/105/106/ من طريق يحي بن سعيد القطان، عن عبيد الله بن الأخنس، حدثنا الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك عنه به مرفوعا، وإسناده صحيح، والوليد بن عبد الله، هو ابن أبي مغيث.

(2)

أخرجه البزار – 8/352/ وأحمد – 4/81/ وأبو يعلى – 13/400/ والحاكم – 1/89/90/2/7/. من طريق زهير بن محمد التميمي، عن ابن عقيل، عن محمد بن جبير بن مطعم به. وأخرجه الطبراني في الكبير – 2/128/ والحاكم من طريق قيس بن الربيع عن ابن عقيل به وقال "الحاكم": صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد رواه قيس بن الربيع، وعمرو بن ثابت عن عبد الله بن محمد بن عقيل، وله شاهد صحيح "فذكره عن ابن عمر. وقال الذهبي: زهير ذو مناكير، هذا منها، وابن عقيل فيه لين

". قلت: استقر رأي المحدثين –كالبخاري وأضرابه- على تحسين حديث ابن عقيل، ومناكيرُ زهير إنما هي فيما رواه عنه أهل الشام، وهنا قد روى عنه أبو عامر العقدي، وأبو حذيفة: موسى بن مسعود، وأبو عامر بصري، قال البخاري: ما روى عنه أهل الشام، فإنه مناكير وما روى عنه أهل البصرة فإنه صحيح " قلت: وهذا من صحيح حديثه، وليس منكرا كما زعم الذهبي، ويدلك على صحته أنه روي من غير طريقه كما ذكر الحاكم، وله شواهد يصح بها، انظرها في مجمع الزوائد – 2/6/.

ص: 58

حتى نزلت آية المواريث"1 ووجه الدلالة أنه لم يجبه حتى جاء الوحي بجوابه، فدل على أنه لا يجيب إلا بوحي، فلو كان يجتهد في الأحكام لاجتهد في جواب هذا السؤال، مع قيام الداعي، والحاجة الملحة، فلما انتظر الوحي، أفاد ذلك أنه لا يقول إلا بوحي، وهو المطلوب.

(8)

حديث أبي هريرة أن امرأة قالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعْن في يوم كذا، في مكان كذا وكذا، فاجتمعْن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله

2 ووجه الدلالة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم المرأة على قولها: "تعلمنا مما علمك الله" وذلك يدل على أن علمه علْمُ تعليمٍ وتلقٍ، لا علمُ اجتهادٍ وقياس.

(9)

حديث المطلب بن حَنْطَب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماتركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب" 3 ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر به الله ونهى عنه، وأنه يتلقى وحي الإلهام كما يتلقى وحي الإرسال، وكلاهما حق، وذلك يفيد أن السنة وحي، لأن بعض ما حرّمه الله لا يوجد إلا في السنة لا في القرآن، وقد استدل الشافعي في الرسالة بهذا الحديث لهذا المعنى.

(1) أخرجه البخاري في الاعتصام – الفتح – 13/303.

(2)

المصدر نفسه...... 305/306.

(3)

أخرجه الشافعي في الرسالة ص 87/93/ وقد استفاض الشيخ شاكر في تخريجه وتحقيقه بما لا مزيد عليه.

ص: 59

(10)

حديث ابن مسعود قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب – إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال:" ما رَابَكُم إليه " وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] 1. ووجهُ الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم توقف فلم يرد حتى جاءه الوحى بالجواب.

فدل ذلك على أنه يُوحى إليه في كلّ شؤونه.

(11)

حديث سهل بن سعد في قذف عُوَيمر العجلاني امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم: " قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها " وفي رواية ابن عمر: " فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد ذلك أتاه "وفي لفظ ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان " وفي رواية ابن عباس " اللهم بين " 2 ووجه الدلالة من هذه الألفاظ أنه صلى الله عليه وسلم توقف عن حكم اللعان حتى نزل عليه الوحي به، فدل ذلك على أنه لا يجتهد، فلو كان يجتهد لأجاب السائل ولما انتظر الوحي.

قال الشافعي: " وفيه دلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وردت عليه هذه المسألة، -وكانت حكماً- وقف عن جوابها، حتى أتاه من الله عز وجل الحكم فيها، فقال لعويمر " قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك "

(1) أخرجه البخاري في التفسير – الفتح – 8/253/ ومسلم في المنافقين - /4/2152.

(2)

البخاري في الطلاق –الفتح- 9/355/ باب اللعان ومن طلق بعد اللعان.

ص: 60

فلاعَن بينهما أمر الله تعالى في اللعان ثم فرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة، ونفاه عن الأب

فكانت هذه أحكاما وجبت باللعان ليست باللعان بعينه، فالقول فيها واحد من قولين: أحدهما أني سمعت من أَرضى دينه وعقله وعلمه يقول: إنه لم يقض فيها ولا غيرِها إلا بما أمر الله تبارك وتعالى، وقال: فأمر الله إياه وجهان: وحي ينزله فيتلَى على الناس، والثاني رسالة تأتيه عن الله تعالى بأن افعل كذا فيفعله

" (1)

وأما الآثار فقد استدلوا بما يلي:

(1)

قال سعد بن معاذ: " ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا قط إلا علمت أنه حق من الله، ولا كنت في صلاة قط فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنت في جنازة قط فحدثت نفسي بغير ما تقول ويقال لها، حتى أنصرف عنها " قال سعيد بن المسيب: هذه الخصال، ما كنت أحسبها إلا في نبي (2)

(2)

وقال حسان بن عطية: " كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن "(3)

(3)

وقال الشافعي: " وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم، فبحكم الله سنه

. فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه: -فاجتمعوا منها على وجهين، والوجهان

(1) الأم – 5/136.

(2)

جامع بيان العلم وفضله – 2/1198.

(3)

أخرجه الدارمي – 1/145/ واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد – 1/81/ وابن بطة في الإبانة – 1/255 من طريقين عن الأوزاعي عنه به، وسنده صحيح، وعزاه الحافظ في الفتح – 13/305/ للبيهقي بسند صحيح.

ص: 61

يجتمعان ويتفرعان- أحدهما ما أنزل الله فيه نص كتاب، فبين رسولُ الله مثلَ ما نص الكتابُ، والآخر مما أنزل الله فيه جملةَ كتاب: فبين عن الله معنى ما أراد، وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما، والوجه الثالث: ما سن رسول الله فيما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعل الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في كتاب

ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأُثبِتت سنته بفرض الله. ومنهم من قال أُلقي في رُوعه كل ماسن، سنتُه، الحكمةُ الذي أُلقي في روعه عن الله، فكان ما أُلقي في روعه سنتَه. قال الشافعي: فكان مما ألقى في روعه سنته، وهي الحكمة التي ذكر الله، وما أنزل به عليه كتاب، فهو كتاب الله، وكلٌّ جاءه من نعم الله كما أراد الله، وكما جاءته النعم تجمعها النعمة وتتفرق بأنها في أمور بعضها غير بعض...... وأي هذا كان، فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله، ولم يجعل لأحد من خلقه عذرا بخلاف أمر عرفه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنْ قد جعل الله بالناس كلهم الحاجة إليه في دينهم، وأقام عليهم حجته بما دلهم عليه من سنن رسول الله معاني ما أراد الله بفرائضه في كتابه، ليَعلم من عَرف منها ما وصفنا، أن سنته صلى الله عليه وسلم كانت سنة مبينة عن الله معنى ما أراد من مفروضه فيما فيه كتاب يتلونه، وفيما ليس فيه نص كتاب، أخرى – فهي كذلك أين كانت، لا يختلف حكم الله ثم حكم رسوله، بل هو لازم بكل حال" (1) .

وقال: " إن الله عز وجل وضع نبيه صلى الله عليه وسلم من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه، فالفرض على الخلق أن يكونوا عالمين بأنه

(1) الرسالة ص –88-91-92-93-103-104-105.

ص: 62

لايقول فيما أنزل الله عليه إلابما أنزل عليه، وأنه لايخالف كتاب الله، وأنه بين عن الله عز وجل معنى ما أراد الله "1. وهذا كلام ناصر السنة، وقد نقلناه بطوله، لتنصيصه على أن السنة وحي كالقرآن، سواء كانت وحيَ إرسال، أو إلهام، أوسداد وتوفيق.

(4)

قال البخاري: " باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل مما لم يُنزل عليه الوحي، فيقول: لا أدري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا قياس، لقوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] وقال ابن مسعود: سئل عن الروح فسكت حتى نزلت الآية. ثم بعد هذه الترجمة، ساق حديث جابر أنه سأله كيف يقضي في ماله فما أجابه حتى نزلت آية المواريث. ثم بوب بعده بقوله: " باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله، ليس برأي ولا تمثيل " 2 وساق بعده حديث أبي سعيد في تعليمه النساء مما علمه الله، قال الحافظ: " والمراد بالوحي، أعم من المتعبد بتلاوته ومن غيره ". وهاتان الترجمتان من البخاري رحمه الله، صريحتان في أنه يرى أن السنة وحي كالقرآن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول برأي ولا قياس.

(5)

وقال ابن حزم: " إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم

ولا سبيل إلى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في شرع الشرائع، والأوامرُ عنده واردة متيقنة لا إشكال فيها "3.

(6)

وقال السرخسي: " ولا يدخل في ذلك الأَخبار، فإنه لا اختلاف

(1) كتاب جماع العلم – ضمن الأم – 7/303.

(2)

البخاري مع الفتح، كتاب الاعتصام – 13/303 – 305.

(3)

الإحكام في أصول الأحكام - /94.

ص: 63

فيها في الأصل، لأنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أنه قال ذلك عن وحي، وقد علمنا بالنص أنه لا اختلاف فيما هو من عند الله، قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] وإنما الاختلاف في الأخبار من جهة الرواة، والحجة هو الخبر لا الراوي" (1) .

(7)

وقال القاضي عياض: " لأن أصل الشريعة التي تعبدنا بها، إنما هي متلقاة من جهة نبينا - صلوات الله عليه وسلامه - إما فيما بلغه من كلام ربه، وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

ثم بعد ذلك ما أَخبر به من وحي الله إليه، وأوامره ونواهيه

وغير ذلك من سنته، وسائر سيره، وجملة أقواله وأفعاله، وإقراره " (2) .

(8)

وقال ابن تيمية: " لأن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره، لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، هو هدى الله الذي جاء من عند الله، وبه يعرف سبيله، وهو حجته على عباده، فلو وقع فيه ضلال لم يبيَّن، لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعمت سبيله، إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظَر ليبين للناس ما اختلفوا فيه

" (3) .

(9)

وقال ابن جُزَي الغرناطي: " فأما قوله صلى الله عليه وسلم فيحتج به كما يحتج بالقرآن، لأنه لا ينطق عن الهوى "(4)

(10)

وقال ابن القيم في أقسام بيان السنة: " الخامس ما سئل عنه

(1) أصول السرخسي – 2/123.

(2)

الإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع ص – 6-7.

(3)

الفتاوى – 4/168/169.

(4)

تقريب الوصول إلى علم الأصول – ص 161.

ص: 64

بالوحي، وإن لم يكن قرآنا، كما سئل عن رجل أحرم في جبته...... ولا فرق بين ما يبلغه عنه من كلامه المتلو، من وحيه الذي هو نظير كلامه، في وجوب الاتباع، ومخالفةُ هذا كمخالفة هذا "1

(11)

وقال الزركشي: " صرح الشافعي في الرسالة بأن السنة منزلة كالقرآن "2

(12)

وقال الشيخ محمد علي السنوسي: " اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن القرآن، الدال على معانيه بما علمه الله، فكانت أقواله، وأفعاله، وتقريراته، كلها وحيا"3

(13)

وقال الشيخ محمد لطفي الصباغ: " فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي أوحاه الله تعالى إلى نبيه وأمينه على خلقه، وهي مع كتاب الله العزيز أساس الدين الإسلامي، وهما متلازمان تلازم شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله4.

وهذه نماذج من أقوال العلماء في هذه المسألة من شتى المذاهب لاعلى سبيل الحصر وإنما على سبيل التمثيل.

هذا وإن رأى غيرنا احتمالا في بعض النصوص، فليعلم أن جزْمنا بَنَيناه على مجموع النصوص لا على أفرادها، ومراعاةُ ذلك من الأمور المهمة كما أشار إلى ذلك الشاطبي في موافقاته5.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

(1) إعلام الموقعين – 2/315/314.

(2)

البحر المحيط – 6/217.

(3)

إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن – ص 6/7.

(4)

حجية السنة – ص 4-.

(5)

الموافقات 1/ 35-36 المقدمة الثالثة.

ص: 65