الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ: الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتُهُ الشَّرِيفَةُ:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين.
{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (1)، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (2).
خاتم الأنبياء:
يقول الله تعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3)، وما كانت هذه الرسالة العامة لأحد من الرسل من قبله، فموسى عليه السلام أرسل لبني إسرائيل خاصة، لقد اقتصرت دعوته على بني إسرائيل، لدرجة أنه حينما ذهب هو وهارون، عليهما السلام، إلى فرعون، قالا له:{إِنَّا رَسُولاً رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (4).
فموسى ذهب إلى فرعون ليرسل معه بني إسرائيل. ولم يكافح سيدنا موسى الشعوب، أو الأمم في سبيل دعوته.
وعيسى عليه السلام، إنما أرسل إلى .. «خراف بني إسرائيل الضالة» ، على حد تعبيرهم القديم، ولم
(1)[سورة الكهف، الآية: 10].
(2)
[سورة آل عمران، الآية: 8].
(3)
[سورة سبأ، الآية: 28].
(4)
[سورة طه، الآية: 47].
يحاول سيدنا عيسى أن يُبشِّر بدعوته خارج فلسطين، ولم يحاول أنْ يجاهد من أجلها.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أرسل إلى الناس جميعاً، أنه أرسل إلى الناس جميعاً من حيث المكان، وأرسل إليهم جميعاً من حيث الزمان، فهو الرسول الدائم زماناً ومكاناً.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1).
وقد تكفل الله تعالى بحفظ الكتاب الذي أنزله على رسوله، صلى الله عليه وسلم ضماناً لهذا العموم في الزمان وفي المكان، وتحقيقاً له.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2).
ومن أجل هذا الوعد بحفظ الوحي كاملاً غير منقوص، صحيحاً غير مزيف، كانت الحكمة الإلهية في أنَّ الإنسانية لا تحتاج إلى رسول بعد الرسول، ولا إلى نبي بعد النبي، إنه - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: خاتم الرسل، وخاتم الأنبياء.
ولقد امتزج رسول الله صلى الله عليه وسلم، برسالته الخالدة، فكان هو هي شرحاً وتفصيلاً.
وكانت هي هو بياناً لمعدنه وجوهره، وخلافة له، ونيابة عنه.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: «لَقَدْ كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ» وهذه الكلمة من السيدة عائشة، - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا - تحتاج إلى تحديد وبيان. ذلك أنَّ القرآن يُحَدِّدُ
(1)[سورة الأعراف، الآية: 158].
(2)
[سورة الحجر، الآية: 9].
الخلق الكريم في حده الأدنى، ثم لا يقتصر على ذلك، إنما يرسم القمم من مكارم الأخلاق، ويوجِّهُ إلى السنام منها، ويقود إلى المشارف العليا من درجات المقرَّبين.
فهل تريد السيدة عائشة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا -، حينما تصفه صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ خُلُقُهُ القُرْآنُ: هل تريد الخلق الكريم في حده الأدنى، أم تريد في حده الأوسط، أم تريده في حده الأسمى؟
إنَّ القرآن الكريم يُحَدِّدُ الدرجة التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من الخُلُق القرآني فيقول سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1).
هذه الآية القرآنية الكريمة تُحَدِّدُ درجة الأخلاق القرآنية التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، أنها ذروتها وسنامها.
أول المسلمين
ولقد قال - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ» .
إنه صلى الله عليه وسلم، بعث لِيُتَمِّمَ المكارم الأخلاقية لِيُتَمِّمَهَا بذاته، بسلوكه، وَلِيُتَمِّمَهَا بقوله: برسالته.
إنه لم يبعث لينشر الأخلاق الكريمة فحسب، وإنما بعث ليتمم مكارمها.
ومكارم الأخلاق لم تكن - قبل الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - قد تمت. إنَّ أول المسلمين لم يكن قد
(1)[سورة القلم، الآية: 4].
وجد بعد، وكانت بذلك مكارم الأخلاق ناقصة، كان ينقصها أكمل صفة لمكارم الأخلاق وهي إسلام الوجه لله إسلاماً تاماً. إنَّ الكائنات لم تكن قد وصلت - لا في نبي مرسل، ولا في ملك مقرب - إلى الذروة من إسلام الوجه لله، والذروة من إسلام الوجه لله، أو أول المسلمين - والتعبيران سواء - إنما هو الذروة من مكارم الأخلاق.
إنه الكائن الرباني: إنه أول المسلمين، أولهم بإطلاق، أولهم بالنسبة للملائكة، وأولهم بالنسبة لبني آدم، أولهم قديماً، وأولهم إلى الأبد .. إنَّ أول المسلمين لم يكن قد وجد بعد.
وكانت الإنسانية بذلك ناقصة، وكانت الكائنات كلها بذلك ناقصة.
كان الكون ناقصاً مادة ومعنى، كان ينقصه أنْ تتعطَّر أرضه بأزكى الأجساد، وأنْ يتعطَّرَ جوه بأزكى الأرواح، وكان لا بد من وجود كائن بهذه المثابة يكمل الله به الدين، ويتمُّ به النعمة، ويرضى رسالته ديناً عاماً خالداً للإنسانية جمعاء: هو إسلام الوجه لله.
وينزل القرآن مُحدِّداً إسلام الوجه لله وسائل، ومُحدِّداً إسلام الوجه لله غايات، مُحدِّداً إسلام الوجه طرقاً وأساليب، ومُحدِّداً له بواعث وأهدافاً. ومن هنا كان من يبتغي غير الإسلام ديناً لا يقبل منه. يقول الله تعالى:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (1).
وكيف يقبل منه ما يتنافى مع إسلام الوجه لله؟
إنَّ إسلام الوجه لله هو الذروة من مكارم الأخلاق، وهو جوهر التدين، إنه الدين القويم، إنه الدين الخالد. والنص الوحيد، النص الإلهي الفريد في العالم كله الذي يُبيِّنُ كيفية إسلام الوجه لله، إنما هو القرآن. وإذا ما وصل الإنسان إلى إسلام الوجه كان بذلك في ذروة الإنسانية. وفي الذروة من مكارم الأخلاق.
ويتفاوت الناس في إسلام وجوههم لله، ولا بد من أنْ يكون أحدهم أول المسلمين، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولهم بإطلاق مطلق.
ولم يصف القرآن بأول المسلمين شخصاً آخر غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومكارم الأخلاق لا يَحُدُّهَا - من حيث التبشير بها - مكان ولا يَحُدُّهَا زمان، بل ولا يَحُدُّهَا عالم من عوالم الله في الأرض أو السماء، ومن ذلك كانت رسالته، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ -، رحمة للعالمين.
(1)[سورة آل عمران، الآية: 85].
(2)
[سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163].
من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه:
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يمثِّل الأخلاق القرآنية في ذروتها وسِنامها - جعل الله سبحانه وتعالى، له مكانة خاصة بين المسلمين، فهو، - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - لأنه تمثَّل القرآن وحقَّقه، وأصبح قرآناً، أصبح بذلك يمثِّل الحق بقوله، ويمثِّل الحق بعمله، فلا ينطق عن الهوى، ولا يعمل بالهوى.
ويقول الله تبارك وتعالى له، مُعبِّراً عن هذه الحقيقة أروع تعبير:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ
…
} (1).
ويقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
…
} (2).
بل إنَّ طريق الدعوة نفسه، كان، - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، يسير فيه معصوماً، وكل من يسير في الدعوة على نسقه، إنما يسير بعصمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، التي منحها الله إياه:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3).
ودعوته إذن وطريق دعوته: يسير فيهما على هُدى،
(1)[سورة الشورى، الآيتان: 52، 53].
(2)
[سورة الأنعام، الآية: 161].
(3)
[سورة يوسف، الآية: 108].
وعلى نور من ربه، ولذلك فإنَّ:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1).
فيقول، سبحانه:
ويُعَمِّمُ الله، سبحانه، الحكم تعميماً، ويطلقه إطلاقاً، فيقول سبحانه:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2).
ويقول تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (3).
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
…
} (4).
إنَّ حب العبد لله لا يفيد ما لم يتَّخذ العبد الوسيلة الناجعة لذلك، وهذه الوسيلة هي: اتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حديث قُدْسيٍّ، رواهُ الإمام البخاري:«مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» .
وهذه النوافل التي ذكرت في الحديث الشريف، والتي إذا أكثر الإنسان منها، بعد أداء الفرائض، أحبه الله: إنما هي سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها طريق رسمه، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - بقوله وبعمله. إنها
(1)[سورة النساء، الآية: 80].
(2)
[سورة الحشر، الآية: 7].
(3)
[سورة النور، الآية: 54].
(4)
[سورة آل عمران، الآية: 31].
سننه - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - التي سنَّها، لينال الإنسان بها محبَّةَ الله، سبحانه.
(من مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه أيضاً:)
وأحب الله، سبحانه، رسوله، صلى الله عليه وسلم وكان هذا الرسول بعبوديته لله سبحانه، حبيب الله وبلغ الرسول، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - بعُبوديته التامة درجة أول المسلمين، كما سبق أنْ ذكرنا.
ولما كان أول المسلمين. وكان حبيب الله، ونبيُّهُ، ورسوله: ميَّزهُ الله، سبحانه وتعالى على بقية البشر بكونه خيرهم، وهذا تمييز لا يخرجه، - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - عن البشرَيَّةَ: فهو بشر وهو خير البشر: ومنتهى القول فيه أنه بشر، وأنه خير خلق الله كلهم، ولأنه خير البشر: يقول الله تعالى مُخاطباً المؤمنين: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (1).
إنَّ الإنسان الذي خصَّهُ الله بالوحي، واجتباه لرسالته، واصطفاه ليكون - باسمه، سبحانه - بشيراً ونذيراً، إنّض هذا الإنسان الذي فضَّلهُ الله على العالمين: يجب أنْ نعرف له مكانته وننزله في الشرف الذي أنزله الله فيه. إنَّ هذا السراج المنير، إنَّ هذا الرؤوف الرحيم: ينبغي ألَاّ يدعى كما يدعى زيد وعمرو: «بمعنى لا تنادوه باسمه:
(1)[سورة النور، الآية: 63].
فتقولوا: يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم، والتوقير بأنْ تقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، يا إمام المرسلين، يا رسول رب العالمين، يا خاتم النبيِّين وغير ذلك
…
واستفيد من هذه الآية - كما يقول الشيخ الصاوي في " حاشيته على تفسير الجلالين " - إنه لا يجوز نداء النبي بغير ما يفيد التعظيم، لا في حياته، ولا بعد وفاته، فبهذا يعلم أنَّ من استخف بجنابه صلى الله عليه وسلم: فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة» اهـ.
ويقول الله سبحانه في أوائل سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1). أي لا تتقدموا بأمر من الأمور، قولاً كان أو فعلاً، إلَاّ إذا أذن الله ورسوله، وكل أمر: قولاً كان أو فعلاً: أتاه الإنسان بدون إذن الله ورسوله: فإنه لا يقع على السُنن المستقيم.
يقول الضحاك عن ذلك: «هو عام في القتال وشرائع الدين، أي لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله» {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2).
واحذروا إنْ فعلتم ذلك: {نْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (4).
(1) و (2)[الحجرات: 1].
(3)
و (4)[الحجرات: 2].
أما هؤلاء الذين أساءوا الأدب دون أنْ يقصدوا فأخذوا ينادونك من وراء الحجرات مناداة الأعراب الأجلاف، فإنَّ عقولهم - في الأغلب الأعم - ناقصة:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).
على أنَّ مُجَرَّد الرغبة في الحديث، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحتاج تنفيذها إلى تقديم صدقة، يقول الله تعالى في سورة المجادلة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3).
وتدل الآية الكريمة على أنَّ ترك تقديم الصدقة إثم، لأنَّ من لم يجد الصدقة فإنَّ موقف الله سبحانه منه - لعدم قدرته - المغفرة والرحمة، ولا تكون المغفرة والرحمة إلَاّ على إثم أتاه الإنسان.
وعدم توفر الاستطاعة سبب في مغفرة الله سبحانه: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} (4).
وإذا حملكم خوف الفقر على ألَاّ تفعلوا، وإذا قادكم الضعف الإنساني إلى ألَاّ تنفذوا ذلك، ثم ندمتم واستغفروا
(1)[الحجرات: 3].
(2)
[الحجرات: 4، 5].
(3)
[المجادلة: 12].
(4)
[المجادلة: 13].
فتداركوه حتى يتوب الله عليكم، وأثبتوا حسن نيَّتكم، وصفاء سريرتكم، بأنْ تقيموا الصلاة على الوجه الأكمل، وتؤتوا الزكاة طيبة بها نفوسكم، وتطيعوا الله ورسوله في الصغير والكبير، وما من ريب في أنَّ الله، سبحانه: خبير بكل ما تعملون.
وبعد: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ» .
ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} (2).
هذا جانب من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أحبها الله له، والتي نَبَّهَ عليها سبحانه وتعالى، قد فرض طاعة رسوله، صلى الله عليه وسلم، مقرونة بطاعته، بل لقد ذكرها الله سبحانه وتعالى وحدها، باعتبارها فرضاً.
ويقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
(1)[سورة المجادلة، الآية: 13].
(2)
[سورة الأحزاب، الآيات: 45، 46، 47].
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} (1).
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2).
ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (3).
وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أنَّ الإعراض عن طاعة الله أو عن طاعة الرسول: كفر. وما من شك في أنه كفر، ذلك أنَّ الإيمان من أركانه: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنَّ كل ما أتى به صدق، فالتولي عنه: استخفافاً، أو جُحُوداً وإنكاراً، أو عناداً ومُمَارَاةً.
ذلك كله: كفر يخرج به المعرض عن دائرة الإسلام.
يقول الله تعالى في طاعة الرسول - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، حينما يفرده بالحديث:{فَلَا وَرَبِّكَ لا َيُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4).
ويقول تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (5).
ويجعل الله سبحانه وتعالى، طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعته فيقول سبحانه:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6).
(1)[سورة الأحزاب، الآية: 36].
(2)
[سورة الأنفال، الآية: 24].
(3)
[سورة آل عمران، الآية: 32].
(4)
[سورة النساء، الآية: 65].
(5)
[سورة النور، الآية: 63].
(6)
[سورة النساء، الآية: 80].
ويجعل بيعته - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بيعة لله، فيقول سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (1).
وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي فيما افترضه الله، سبحانه أو سُنَّة، وفيما افترضه رسوله - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أو سُنَّةٌ.
وقد تابع الرسول صلى الله عليه وسلم، القرآن الكريم في بيانه لمنزلة السُنَّة. ووجوب اتِّباعه صلى الله عليه وسلم، فيما سَنَّهُ، فلقد حَثَّ فيما رواه أبو داود والترمذي عن زيد بن ثابت:«نَضَّرَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» .
وروي في معناه من طريق آخر: «رَحِمَ اللَّهُ امْرُءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة أَنْ يُبَلِّغَ الشاهد منهم الغائب فيقول فيما رواه أبو بكر: «أَلَا فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ» . «اَنْ يُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» .
ولقد روى الحاكم والبيهقي أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1)[سورة الفتح، الآية: 10]