المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: الوضاعون في العصر الحاضر: - السنة ومكانتها من التشريع لعبد الحليم محمود

[عبد الحليم محمود]

الفصل: ‌الفصل الرابع: الوضاعون في العصر الحاضر:

‌الفَصْلُ الرَّابِعُ: الوَضَّاعُونَ فِي العَصْرِ الحَاضِرِ:

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1).

والفاسق هو الذي لا تتوافر فيه شروط العدالة، ولقد وضع أئمتنا شروطاً للعدالة، نذكر منها أنَّ:

من شرط العدل: أنْ يتوافر فيه الصدق بمعناه الأعم الأشمل الذي يدخل فيه: عدم تزييف النص بزيادة أو نقصان، والذي يدخل فيه أولاً، وبالذات عدم الكذب في الرواية، وعدم الكذب في الحديث العادي.

ولا نريد هنا أنْ نستقصي ما قيل في العدالة، وإنما نريد أنْ ننقل بعض نصوص لنرى، فيما بعد، تطبيقها على بعض المؤلفين الحديثين.

إننا نَتَبَيَّنُ دِقَّةَ أسلافنا الدقيقة مِمَّا قاله الشعبي وأقسم عليه، وله مغزاه العميق في بيان مدى ما كان عليه أسلافنا، رضي الله عنهم من تَحَرٍّ للصواب، يقول الشعبي:«وَاللهِ لَوْ أَصَبْتُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ مَرَّةٍ، وَأَخْطَأْتُ مَرَّةً لَعَدُّوا عَلَيَّ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ»

(1)[سورة الحجرات، الآية: 6]

ص: 83

وكان أسلافنا يعتبرون الإعلان عن الكذَّابين وفضحهم والتشهير بهم من الدين، يقول عبد الرحمن بن مهدي:«سَأَلْتُ شُعْبَةَ وَابْنَ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيَّ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنِ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، فَقَالُوا: انْشُرْهُ فَإِنَّهُ دِينٌ» .

وعن يحيى بن سعيد قَالَ: «سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنِ الرَّجُلِ لَا يَكُونُ ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ، فَيَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ» ، قَالُوا:«أَخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ» .

ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» .

وهذا الذي يكذب على رسول الله فيتبوَّأ مقعده من النار: فاسق يجب التشهير به، وهو فاسق قد سقطت عدالته، ومن سقطت عدالته فإنه يجب التشهير به، وهو فاسق قد سقطت عدالته، ومن سقطت عدالته فإنه يجب على كل مؤمن أنْ لا يثق في حديثه ولا في رأيه، أو نتائج بحثه. ومن ثبت عليه الكذب أو الغش، أو الزيادة في النص، أو النقصان منه، لِيَثْبُتَ بالزيادة أو النقصان رأياً يتفق مع هواه، ومع نزعاته، إنَّ كل من يفعل ذلك فقد سقطت عدالته.

على أنَّ من يزيد في النص أو ينقص منه، أو يُحَرِّفُ فيه: يتعمَّدُ ذلك للحط من إنسان أو للنيل منه، فإنه، من الناحية الإنسانية: قد نزل إلى مرتبة تألف الإنسانية

ص: 84

السليمة منها، وانحطَّ إلى درجة تنفر الفطرة الطاهرة منها.

وبعد هذا نقول: إنه نشأ في زمننا هذا طائفة من الناس يزعمون أنهم من الباحثين على الأسلوب الحديث، أسلوب النقد والتمحيص، والتثبُّت فيما يزعمون.

وما من شك في أنَّ أسلوب النقد والتمحيص في الحديث وفي رُواة الحديث أسلوب البحث العلميِّ بأدق ما يمكن أنْ تُعَبِّرَ عنه هذه الكلمة، إنما وجد حقاً عند أسلافنا من المحدثين، إنهم هم أصحاب المنهج العلمي الدقيق في كتابة التاريخ، إنهم المخترعون له، ولا يزالون للآن أدق من اتَّبعه، وَطَبَّقَهُ في صدق، وَالمُؤَرِّخُونَ المُحْدَثُونَ لم يصلوا بعد إلى ما وصل إليه سادتُنا المُحَدِّثُونَ القُدَمَاءُ من الدِقَّةِ العِلُمِيَّةِ.

ولا نريد أنْ نتعجَّل فنقول:

إنَّ هؤلاء الذين يزعمون في العصر الحاضر أنهم قد تمحضوا للبحث العلمي: ليسوا من البحث العلمي في شيء، ولنتريَّث قليلاً حتى نطبق عليهم مقاييس أسلافنا في العدالة، لنرى ما إذا كانوا أهلاً للثقة أم ليسوا بأهل لها.

لقد كان أسلافنا يكتفون بثبوت الكذب مَرَّةً واحدة على شخص فيسقطونه من قائمة العدل، فإذا ثبت مثل ذلك على هؤلاء الكُتَّاب المُحْدَثِينَ فإننا نسقطهم من طبقة العدول، ونضعهم في قائمة الذين وصفهم الله بالفِسْقِ، حين قال فيهم:

ص: 85

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1).

لقد أراد قوم - من نقلة البحث العلميِّ - التشكيك في السُنَّة، بل هَدْمِ السُنَّة رأساً، وهؤلاء تقودهم أهواء مختلفة:

ولننظر الآن إلى أي مدى يصل بهم تحريف الكلم عن مواضعه وتزييفه والكذب فيه إرضاء لنزعتهم الفاسدة: يقول المرحوم الأستاذ مصطفى السباعي في كتابه النفيس " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " مُتَحَدِّثاً عن الكذب والتحريف والبُهتان الموجود في كتاب " أضواء على السُنَّة "(2).

- يقول في الهامش رقم 3 من صحيفة 162 من كتابه عن [عبد الله بن عمرو](*) رضي الله عنه:

«وكان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يرويها للناس " عن النبي "» ثم نسب هذا القول إلى ابن حجر في " فتح الباري " ص 166 ج 1، وعبارته في " الفتح " ليس فيها «عن النبي» وإنما زادها أبو رَيَّةَ ونسبها إلى الحافظ ابن حجر ليؤكد للقارىء الشك في أحاديث صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان بعضهم يستمع إلى مسلمة أهل الكتاب يتحدثون عن أخبار الأمم الماضية،

(1)[سورة الحجرات، الآية: 6].

(2)

" أضواء على السُنَّة المحمدية " للأستاذ محمود أبو رَيَّةَ.

----------------------

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*)[خطأ في الطباعة: حيث ورد عن (عبد الملك بن عمرو) والصحيح (عبد الله بن عمرو بن العاص)].

ص: 86

فمنهم من كان ينقلها عنهم على أنها قصص متعلق بالماضين ولكن أبا رَيَّةَ كان يَتَّهِمُهُمْ بأنهم كانوا «يَنْسِبُونَهَا» إلى النبي صلى الله عليه وسلم!.

ولم يكتف بذلك البُهْتَانِ حتى نسبه إلى الحافظ ابن حجر، وهو لم يقله قط، ولا يقوله مسلم يعرف ما كان عليه هذا الجيل الفذ في تاريخ الإنسانية من صدق اللهجة، واستقامة الدين، ووقوف عند حدود الله فيما أمر وفيما نهى وهم يعلمون أنَّ الله لعن الكاذبين ومَقَتَهُمْ، وليس أَقَرَّ لعيون أعداء الله والإسلام من أنْ يرموا بما رماهم به أبو رَيَّةَ.

2 -

ونقل في [ص 115] عن ابن كثير في " البداية والنهاية ": 8/ 206 أنَّ عمر رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ (عَنْ رَسُولِ اللهِ) أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» .

وعبارة ابن كثير: «لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ [عَنِ الأُوَلِ]» . وليس فيها «عن رسول الله» ولكن " أمانة " أَبِي رَيَّةَ أجازت له تحريف هذا النص ليثبت ما ادعاه من أنَّ كعباً كان يُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنَّ الصحابة كانوا يأخذون عنه الحديث، وهذه الفِرَيَّةَ دَسَّهَا المستشرقون اليهود أمثال «جولدتسيهر» لِيَدَّعُوا تأثير اليهودية في الدين الإسلامي! .. فتلقفها منهم «المُحَقِّقُ العِلْمِيُّ» أَبُو رَيَّةَ، وَتَبَرَّعَ لهم بإثبات الأدلة.

ص: 87

3 -

ونقل في [ص 163] عن " البداية والنهاية " لابن كثير: 8/ 106 أن عمر رضي الله عنه هدَّدَ أبا هريرة بترك الحديث أو ليلحقنه بأرض دَوْسٍ «أَوْ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» .

وهذه الزيادة «أَوْ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» من مفتريات أبي رَيَّةَ على عُمَرَ وابن كثير معاً. وإنما قالها عمر لكعب كما مَرَّ يُهَدِّدُهُ في ترك الحديث عن «الأُوَل» أي الأمم الماضية - كما نقل ذلك ابن كثير.

4 -

نقل أبو رَيَّةَ في عدة مواضع من بحثه عن أبي هريرة نصوصاً في تكذيب عمر وعثمان وعليّ وعائشة وغيرهم لأبي هريرة، ثم نسبها إلى ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث ". وترجم أبو رَيَّةَ لابن قتيبة في هامش كتابه بأنه كان لأهل السُنَّة كالجاحظ للمعتزلة في قُوَّةِ البيان والحُجَّةِ، وقصده من ذلك تأكيد تضليل القارىء بِأَنَّ رجلاً كابن قتيبة له مكانته بين أهل السُنَّة يطعن في أبي هريرة هذا الطعن، دليل على صِحَّةِ ما يذهب إليه أبو رَيَّةَ من تكذيب أبي هريرة فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مع أن ابن قتيبة ألَّف كتابه " تأويل مختلف الحديث " للرد على من طعن في أئمة الحديث منذْ الصحابة حتى عصره، وأخبر أنهم هم رؤساء الاعتزال كالنظَّام وأمثاله وآخرين. ثم ساق ابن قتيبة شتائم النظام لأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وأبي هريرة وغيرهم من كبار

ص: 88

الصحابة، ثم كرَّ بالرد عليه وتفنيد ما قال عن كل واحد من هؤلاء.

فأخذ أبو رَيَّةَ ما قاله النظَّام في أبي هريرة ونسبه إلى ابن قتيبة وتعامى عن رَدِّ ابن قتيبة على النظَّام، وهكذا تكون «الأمانة العلمية» عند هذا «المحقّق العلمي» ! ..

5 -

ونقل في [ص 195] عن المرحوم السيد رشيد رضا كلاماً عن كعب ووهب بن منبه قال فيه: «وما يدرينا أن كل الروايات - أو الموقوفة منها - ترجع إليهما» مع أن العبارة: «وما يدرينا أن كل (تلك) الروايات الخ. فأسقط أبو رَيَّةَ كلمة «تلك» ، التي أشار بها السيد رشيد رحمه الله إلى مرويات كعب ووهب عن أهل الكتاب، لتجيء العبارة موهمة بأن روايات الصحابة ترجع إليهما .. فانظر إلى هذا الدَسِّ والتلاعب في نقل النصوص لتتفق مع أهوائه وأغراضه.

هذه أمثلة لا مجال للمناقشة فبها تدل على تلاعبه في النصوص التي ينقلها ونسبتها إلى غير قائليها وأشهد أني لا أعلم أحداً من أشد المستشرقين تعصباً ودساً، بلغت جرأته في تحريف النصوص والتلاعب فيها كما بلغت جرأة أبي رَيَّةَ فماذا تقول في هذا «العلامة المحقّق الأمين؟»

إنَّ مقاييس أسلافنا، بل مقاييس البحث العلمي

ص: 89

الصحيح في كل عصر، تسقط عدالة أَبِي رَيَّةَ، وتنفيه عن دائرة الباحثين وتسحب الثقة منه كلية.

لا ندري لماذا يحاول بعض المسلمين أنْ يكونوا أبواقاً للمستشرقين، وللمستشرقين في الشرق صبيان معروفون: إنَّ لهم صبياناً مأجورين وإنَّ لهم ملاحدة، وإنَّ لهم صبياناً تابعين ومُقَلِّدِينَ.

فلنتحدَّث إذن عن المستشرقين في صورة صريحة: من المعروف أنَّ الاستشراق - في طائفة كبيرة منه - إنما هو امتداد للحروب الصليبية.

إنَّ الغربيِّين يريدون بكل وسيلة القضاء على الإسلام، كقوة لها ذاتيتها، وأصالتها، ومنهجها في الحياة: وَهُمْ يستعملون من أجل ذلك كل الوسائل.

إنهم يستعملون السلاح في قسوة قاسية، وفي عنف عنيف حينما يُمْكِنُهُمْْ استعمال السلاح، فإذا لم تواتهم الظروف، استعملوا أسلحة أخرى: منها الاستشراق.

وكثيراً ما يرافق الاستشراق المدفع والدبابة في الأقطار المستعمرة، وهدف الاستشراق إفساد ما يمكن إفساده من الدين، وبالتالي من الخلق، وقد وَضُحَ - على مَرِّ الأيام - أنَّ من خصائص الاستشراق أنه:

1 -

متأثر بالبيئة التي نشأ فيها المستشرقون: ولقد عَبَّرَ عن هذه الحقيقة أبلغ تعبير أحد الغربيِّين الذين كانوا

ص: 90

يريدون معرفة الحقيقة عن سَيِّدِنَا محمد صلى الله عليه وسلم، فقرأ كُتُباً عنه بعدة لغات ثم قال: إنَّ صورة نبي الإسلام صورة فرنسية إذا كانت بقلم الفرنسيين، وهي ألمانية إذا كانت بقلم الألمانيين، وهي أمريكية إذا كانت بقلم الأمريكيين، وهي

وهذا فيما يتعلق بالبيئة الاجتماعية.

2 -

والاستشراق متأثر بالبيئة الدينية، ومن الطبيعي الواضح أنه إذا كان المستشرق مؤمناً بدينه: فإنه يكتب عن الإسلام، مؤمناً بأنه دين مُزَيَّفٌ.

ولا أدري كيف يغرب ذلك - مع بداهته - عن أذهان المسلمين الذين يقرأون الإسلاميات بقلم المستشرقين، فيولونهم شيئاً من الثقة، أو يولونهم كل الثقة حسب درجة استعداد القارئ للتقليد والمتابعة.

3 -

ومن المعروف اليقيني أنَّ الاستشراق - في أغلبه - يسير في ركاب الاستعمار، أو في ركاب الكنيسة.

إنَّ ذلك ظاهر واضح لكل من قرأ تاريخ الاستشراق وصلته بالكنيسة والاستعمار.

ومن أجل ذلك لم يكن غريباً أنْ يُزَيِّفَ الاستشراق الحقائق. وهو إنْ لم يُزَيِّفْهَا وطنية، يُزَيِّفْهَا تَدَيَّناً وإنْ لم يُزَيِّفْهَا تَدَيَّناً زَيَّفَهَا وطنية، فإن لم تقو الوطنية وحدها أو التديُّن وحده على حمل الاستشراق على التزييف، تكاتف

ص: 91

التديُّن والوطنية معاً فحملاه - متعاونين - على التزييف، فَزيَّف تَدَيُّناً ووطنية.

إنك لا تنتظر من قِسِّيسٍ يعيش في الكنيسة مثل " أزين بلاسيوس " حينما يكتب عن الإسلام، إلَاّ مَسْخاً وتشويهاً كما فعل ذلك حينما كتب كتابه المعروف بالعنوان الذي لا يَتَّسِمُ بأدب ولا مجاملة، وهو «الإسلام المسيحي» .

أما القِسِّيسُ " لامنس " فقد وهب نفسه لهدم الإسلام عقيدة، ولهدم الإسلام تاريخاً، ولهدم الإسلام رجالاً، ولهدم الإسلام في كل ما يتعلق به.

إنَّ المستشرقين القساوسة: عدد لا يُحصى، أما المستشرقون المستشارون في وزارات الخارجية العربية، وفي وزارات الداخلية الغربية وفي وزارات الدفاع والحربية وفي وزارات الإعلام والدعاية: فإنهم ايضاً عدد لا يكاد يحصى.

ماذا تنتظر من مستشرق هو مستشار في وزارة الدعاية، أو في وزارة الحربية، أو في وزارة الخارجية؟ إنَّ السذاجة مهما وصلت درجتها لا يتأتَّى أنْ تُولِي ثقتها لمستشرق يأكل عيشه من سيره في ركاب الاستعمار، أو في ركاب الكنيسة.

4 -

وطائفة من المستشرقين مستعدة أنْ تسهر في أي ركاب لأنها تسير في ركاب الشيطان.

تلك هي طائفة المستشرقين اليهود.

ص: 92

إنَّ كتاب: " بروتوكلات حكماء صهيون "، أو كتاب " الخطر الصهيوني " يُبَيِّنُ في وضوح أنَّ اليهود قد آلوا على أنفسهم أنْ يفسدوا على الإنسانية دينها وخُلُقَهَا وثقافتها وقد مني الإسلام بطائفة من المستشرقين اليهود على درجة من الخُبْثِ والمكر والدهاء، يعجب لها الشيطان نفسه.

أرأيت إلى الذكاء الحاد الخبيث حينما يستعمله صاحبه جاهداً لا يفتر في أغراض شيطانية، يريد بذلك أنْ يُفْسِدَ على المسلمين مُثُلَهُمْ العليا في الفضيلة والخير، وإيمانهم الراسخ في الله وفي رسوله؟

إنَّ هذا الذكاء الحاد الخبيث الذي أخذ يعمل لا يفتر قد تركَّز في بضعة أفراد من اليهود - كأخبث ما يكون اليهود - على رأسهم جولدتسيهر.

ولقد كان جولدتسيهر حركة لا تفتر في الفساد والتشويه، وساعده مال اليهود ودعايتهم، فترجموا ونشروا أفكاره في كل مكان، حتى لقد ترجمت كتبه الخبيثة إلى اللغة العربية نفسها، ونشرت في مختلف الأقطار الإسلامية: تذيع الكذب في صورة البحث العلمي، وتنشر التشويه في صورة الحقائق الثابتة، وتدعو إلى الشك فيما لا يتأتَّى فيه الشك، واغترت به طائفة من المغرورين، وظنت أنَّ أبحاثه علمية، وأنه باحث متثبت وعالم يتحرَّى الحقائق.

وإلى هؤلاء، وإلى كل من يثق بالمستشرقين نذكر

ص: 93

مثالين اثنين - من عشرات الأمثلة - التي تَعَمَّدَ جولدتسيهر، أنْ يكذب، وأنْ يُحَرِّفَ الكلم عن مواضعه فيها. وهذان المثالان إنما هما نموذج لأعمال كثير من المستشرقين العلميَّة، يقول المرحوم مصطفى السباعي:«زعم جولدتسيهر أن الزُّهْرِي اعترف اعترافاً خطيراً في قوله الذي رواه عنه معمر: «إِنَّ هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ» وأنَّ ذلك يفهم استعداد الزُّهْرِي لأنْ يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند الأمة الإسلامية (*).

قَدَّمْنَا لك عند الحديث عن صدق الزُّهْرِي وجرأته، أنه أبعد الناس عن الرضوخ لأهواء الحاكمين، وذكرنا لك من الوقائع التاريخية بينه وبين خلفاء بني أمية ما تجزم معه بأنه ليس ذلك الرجل المستعد لأن يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند المسلمين.

أما هذا النص الذي نقله ففيه تحريف مُتَعَمَّدٌ يقلب المعنى رأساً علي عقب، وأصله كما في ابن عساكر وابن سعد: أن الزُّهْرِي كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس - ويظهر أنه كان يفعل ذلك ليعتمدوا على ذاكرتهم، ولا يتكلوا على الكتب كما ذكرنا من قبل - فلما طلب منه هشام وأصَرَّ عليه أن يُمْلِي على ولده ليمتحن حفظه كما تقدم.

[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:

(*)" السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " للدكتور مصطفى السباعي: ص 221، الطبعة الثالثة - بيروت: 1402 هـ - 1982 م. المكتب الإسلامي: دمشق - سوريا، بيروت - لبنان.

ص: 94

وأملى عليه أربعمائة حديث، خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا كُنَّا مَنَعْنَاكُمْ أَمْرًا قَدْ بَذَلْنَاهُ الآنَ لِهَؤُلَاءِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ (الأَحَادِيثِ) فَتَعَالَوْا حَتَّى أُحَدِّثَكُمْ بِهَا فَحَدَّثَهُمْ بِالأَرْبَعِمِائَةَ الحَدِيث» . هذا هو النص التاريخي لقول الزُّهْرِي، وقد رواه الخطيب بلفظ آخر وهو:«كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ - أَيْ كِتَابَتَهُ - حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الأُمَرَاءُ فَرَأَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . اهـ (1).

فانظر كم الفرق بين أن يكون قول الزُّهْرِي، كما روى جولدتسيهر:«أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ» وبين أن يكون قوله كما رواه المؤرخون: «أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ الأَحَادِيثِ» أو كما رواه الخطيب «عَلَى كِتَابَةِ العِلْمِ» ثم انظر إلي هذه الأمانة العلمية حذف «الـ» من «الأَحَادِيثِ» فقلبت الفضيلة رذيلة .. حيث كان النص الأصلي يدل على أمانة الزُّهْرِي وإخلاصه في نشر العلم، فلم يرض أن يبذل للأمراء ما منعه عن عامة الناس إلا أن يبذله للناس جميعاً، فإذا أمانة هذا المستشرق تجعله ينسب للزُّهْرِي أنه وضع للأمراء أحاديث أكرهوه عليها، فأين هذا من ذاك؟.

أما ما نقله «جولدتسيهر» من قول وكيع عن زياد بن عبد الله البكَائي من أنه كان مع شرفه في الحديث -[كذوباً].

(1)" تقييد العلم ": ص 107.

ص: 95

فهذه إحدى تحريفات هذا المستشرق الخبيث، فأصل العبارة كما وردت في " التاريخ الكبير " للإمام البخاري: وقال ابن عقبة السَدُوسي عن وكيع: هو (أي زياد بن عبد الله) أشرف من أنْ يكذب. (1) اهـ.

فأنت ترى أن وكيعاً ينفي عن زياد بن عبد الله الكذب مطلقاً لا في الحديث فحسب، وأنه أشرف من أن يكذب، فحَرَّفَها هذا المستشرق اليهودي إلى أنه كان - مع شرفه في الحديث - كذوباً. وهكذا تكون أمانة هذا المستشرق!

إنَّ المستشرقين وأتباعهم من الملاحدة والمأجورين والمُقَلِّدِينَ هم الوَضَّاعُونَ في العصر الحاضر.

ولكن الله سبحانه: قد هَيَّاَ للسُنَّة تدويناً صحيحاً وتسجيلاً مُتْقَناً، ورجالاً كَرَّسُوا حياتهم لها، يدافعون عنها عصراً بعد عصر، وينشرون أريجها جيلاً بعد جيل مذيعين وشارحين، ناشرين ومُوَضِّحِينَ.

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2).

(1) من القسم الأول - الجزء 2 ص 329.

(2)

[سورة العنكبوت، الآية: 69].

ص: 96