الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد تقدم في الفائدة الثامنة ما قاله غير واحد من العلماء في تكفير المستحلين للربا فليراجع (1)، وليتأمله الفتان وأضرابه مع ما ذكر ههنا، وليتأمله أيضا أهل البنوك والذين يعاملونهم بالمعاملات الربوية، ولا يظنون أن التعامل بالربا أمر يسير، ولا يغتروا بحلم الله عنهم، فإنه تبارك وتعالى يمهل ولا يهمل ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وينبغي لأهل البنوك والمتعاملين معهم أن يسألوا العلماء المعروفين بمزيد المعرفة والتقوى والورع عما يحل لهم من المعاملات وما يحرم عليهم منها، ولا يغتروا بالفساق الذين يتزلفون إليهم بما يحبونه من تحليل الربا ولا يبالون بما يترتب على ذلك من محاربة الله ورسوله واتباع غير سبيل المؤمنين.
الخامسة عشرة: أن المرابين ليس لهم إلا رؤوس أموالهم وليس لهم أن يأخذوا زيادة عليها من المدين ولا من البنوك وغيرها؛ لأن ذلك من الظلم الذي نهى الله عنه، قال ابن جرير في قوله -تعالى-:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} : "يعني بذلك إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله عز وجل فلكم رؤوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم
…
"، ثم روى عن قتادة أنه قال: "جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا"، وفي رواية له عنه قال: "جعل لهم أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزدادوا عليها شيئا"، وروى أيضا عن الضحاك قال: "وضع الله الربا وجعل لهم رؤوس أموالهم". وقال الماوردي على قوله -تعالى-: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}: "يعني التي دفعتم {لَا تَظْلِمُونَ} بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم {وَلَا تُظْلَمُونَ} بأن تمنعوا رؤوس أموالكم". وقال القرطبي: "ردهم -تعالى- مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: {لَا تَظْلِمُونَ} في أخذ الربا {وَلَا تُظْلَمُونَ} في أن يتمسك بشيء من رؤوس أموالكم فتذهب أموالكم". انتهى، وبنحو هذا قال كثير من المفسرين.
السادسة عشرة:
النهي عن أكل الربا وتضعيفه على المدين
، قال أبو بكر الجصاص في (أحكام القرآن): "قوله -تعالى-: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} إخبار عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروبًا أخر من البياعات وسماها ربا، فانتظم قوله -تعالى-:
(1) ص 19 - 20.
{وَحَرَّمَ الرِّبَا} تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة". انتهى، وقال الزمخشري والنسفي في الكلام على قوله -تعالى-: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}: "هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه"، وقال ابن الجوزي: "قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربان الجاهلية"، قال سعيد بن جبير: "كان الرجل يكون له على الرجل المال فإذا حل الأجل يقول أخِّر عني وأزيدك على مالك فتلك الأضعاف المضاعفة". وقال الماوردي في الكلام على الآية: "هو أن يقول له بعد حلول الأجل إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن لم يفعل ضاعف ذلك عليه ثم يفعل كذلك عند حلوله من بعد حتى تصير أضعافا مضاعفة"، وقال أبو حيان في الكلام على الآية: "نهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها، كان الطالب يقول أتقضي أم تربي، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين؛ لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين وزاد في الأجل، وأشار بقوله:(مضاعفة) إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاما بعد عام، والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها وليست قيدًا في النهي، إذ ما لا يقع أضعافا مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافًا مضاعفة". انتهى، وقال القرطبي في الكلام على الآية: "إنما خص الربا من بين سائر المعاصي لأنه الذي أذن الله فيه بالحرب في قوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} والحرب يؤذن بالقتل، فكأنه يقول إن لم تتقوا الربا هزمتم وقتلتم فأمرهم بترك الربا، و (مضاعفة) إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام كما كانوا يصنعون، فدلت هذه العبارة المؤكدة على شنعة فعلهم وقبحه، ولذلك ذكرت حالة التضعيف خاصة". انتهى.
السابعة عشرة: أن النهي عن أكل الربا في سورة آل عمران جاء مقرونا بالأمر بتقوى الله -تعالى- والأمر باتقاء النار والأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، فدل هذا على التشديد في التعامل بالربا والتأكيد في النهي عنه، قال القرطبي: "قوله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في أموال الربا فلا تأكلوها، ثم خوفهم فقال:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} قال كثير من المفسرين: وهذا الوعيد لمن استحل الربا، ومن استحل الربا فإنه يكفر ويكفر، وقيل معناه: اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار
…
ثم ذكر أنواعًا من الكبائر التي يستوجب صاحبها نزع الإيمان ويخاف عليه من نزعه ومنها أكل الربا"، وذكر ابن الجوزي وأبو حيان عن ابن عباس رضي الله عنهما-
في قول الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} قال: "هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا"، وقال الزجاج:"والمعنى اتقوا أن تحلوا ما حرم الله فتكفروا"، وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان أنه قال:"من أكل الربا فلم ينته فله النار". وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} قال القرطبي: " (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) في تحريم الربا (وَالرَّسُولَ) فيما بلغكم من التحريم".
الثامنة عشرة: أن أكل الربا والتعامل به من الكبائر الموبقات، أي المهلكات، ويدل على ذلك ما جاء في القرآن من تعظيم أكل الربا والوعيد عليه بالنار وإيذان أهله بحرب من الله ورسوله، قال القرطبي:"دلت الآية - يعني قوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} - على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ولا خلاف في ذلك". وقال الماوردي في الكلام على قول الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} : "دل أن الربا من الكبائر التي يستحق عليها الوعيد بالنار". انتهى، وسيأتي في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدَّ أكل الربا من السبع الموبقات.
وفيما ذكرته من الآيات وأقوال المفسرين كفاية في بيان موقف القرآن الكريم من تحريم الربا على وجه العموم وأنه لا فرق في ذلك بين البنوك وغيرها.
وفيه أيضا أبلغ رد على الفتان المحارب لله ورسوله وعلى غيره من المبطلين الذين يزعمون حِل الربا في المعاملات مع أهل البنوك ويتعلقون بالشبه والأباطيل في استحلاله ولا يبالون بما يترتب على ذلك من معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتِّباع غير سبيل المؤمنين.
فصل
وأما الأدلة من السنة على تحريم المعاملات الربوية على وجه العموم فكثيرة جدا:
الأول منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال:«الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قال ابن الأثير: "الموبقات جمع موبقة، وهي الخصلة المهلكة".
وقد جاء في عدِّ أكل الربا من الكبائر أحاديث كثيرة، بعضها مرفوع وبعضها موقوف، وقد تركت ذكرها خشية الإطالة، وقد ذكرها ابن جرير وابن كثير في تفسيريهما مع الكلام على قول الله -تعالى- في سورة النساء:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فلتراجع هناك.
الحديث الثاني: عن أبي جحيفة - واسمه وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن آكل الربا ومؤكله» رواه الإمام أحمد والبخاري.
الحديث الثالث: عن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي هكذا مختصرًا، ورواه أحمد أيضا وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه أطول منه ولفظه:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، قال: وفي الباب عن عمر وعلي وجابر وأبي جحيفة، وفي رواية لأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» .
الحديث الرابع: عن جابر رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» رواه الإمام أحمد ومسلم وزاد، وقال:«هم سواء» .
الحديث الخامس: عن علي رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» رواه الإمام أحمد، وفي إسناده الحارث الأعور وهو ضعيف وقد وثق، وما تقدم قبله من الأحاديث الصحيحة يشهد له ويقويه، وقد رواه النسائي مختصرًا.
الحديث السادس: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به، والواشمة والمتوشمة للحسن، ولاوي الصدقة، والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلي والطبراني في الكبير، وابن حبان في صحيحه من طريق الحارث بن عبد الله الأعور وهو ضعيف وقد وثق، ورواه الإمام أحمد أيضا من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا إسناد صحيح، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه من طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال الحاكم:"صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. لاوي الصدقة: هو المماطل بها، قال أهل اللغة:"اللَّي هو المطل".
الحديث السابع: عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح".
الحديث الثامن: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عرفة في بطن الوادي وقال في خطبته:«ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله» رواه مسلم والدارمي وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي في سننه.
الحديث التاسع: عن أبي حرة الرقاشي عن عمه رضي الله عنه قال: كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوساط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع، ألا وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا عباس ابن عبد المطلب، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون» رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو يعلي، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وفيه كلام وقد وثق، ويشهد لحديثه ما تقدم قبله من حديث عمرو بن الأحوص وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
الحديث العاشر: عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية» رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، قال المنذري والهيثمي:"ورجال أحمد رجال الصحيح".
الحديث الحادي عشر: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ظهر في قوم الزنى والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي، قال المنذري والهيثمي:"إسناده جيد".
الحديث الثاني عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهر الزنى والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه الحاكم في مستدركه وصححه، ووافق الذهبي على تصحيحه.
الحديث الثالث عشر: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول