الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«التمر بالتمر مثلا بمثل، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، فما كان من فضل فهو ربا» رواه البزار والطبراني في الكبير بنحوه وزاد: «فإذا اختلف النوعان فلا بأس واحد بعشرة» قال الهيثمي: "رجال البزار رجال الصحيح، إلا أنه من رواية سعيد بن المسيب عن بلال ولم يسمع سعيد من بلال، وله في الطبراني أسانيد بعضها من حديث ابن عمر عن بلال باختصار عن هذا ورجالها ثقات، وبعضها من رواية عمر بن الخطاب عن بلال بنحو الأول وإسنادها ضعيف". انتهى الكلام الهيثمي، وقد رواه الدارمي مختصرًا ورجاله رجال الصحيح إلا أنه من رواية مسروق عن بلال ولم أر أحدا ذكر أنه لقيه.
الحديث الحادي والثلاثون: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«من أين هذا؟» قال بلال: كان عندي تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:«أَوَّه أَوَّه، عين الربا عين الربا، لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري، وقد رواه النسائي مختصرًا، ولفظه قال: أتى بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال: «ما هذا؟» قال: اشتريته صاعا بصاعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أوه عين الربا لا تقربه» .
قال ابن الأثير وغيره من أهل اللغة: " (أوه) كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع"، وفي (المصباح المنير):"تأوه مثل توجع وزنًا ومعنى"، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري):"وهي مشددة الواو مفتوحة، وقد تكسر، والهاء ساكنة وربما حذفوها"، قال ابن التين:"إنما تأوه ليكون أبلغ في الزجر، وقاله: إما للتألم من هذا الفعل وإما من سوء الفهم". انتهى، وقال النووي في (شرح مسلم): "و
معنى عين الربا
أنه حقيقة الربا المحرم". انتهى.
الحديث الثاني والثلاثون والثالث والثلاثون: عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكل تمر خيبر هكذا؟» قال: لا والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان» رواه البخاري ومسلم والدارمي.
وقد رواه مالك في الموطأ، والبخاري ومسلم والنسائي من طريق مالك، وفيه أن الرجل قال: يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا» ورواه الإمام أحمد من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا سعيد حدثهم أن غلامًا للنبي صلى الله عليه وسلم أتاه ذات يوم بتمر ريان، وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم بعلا فيه يبس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنى لك هذا التمر؟» فقال: هذا صاع اشتريناه بصاعين من تمرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تفعل فإن هذا لا يصلح ولكن بع تمرك واشتر من أي تمر شئت» وقد رواه النسائي وابن حبان في صحيحه بنحوه.
قال الدارقطني: "جنيب يعني الطيب"، وقال ابن الأثير:"الجنيب نوع جيد معروف من أنواع التمر"، وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري):"جنيب وزن عظيم"، قال مالك:"هو الكبيس"، وقال الطحاوي:"هو الطيب، وقيل الصلب، وقيل الذي أخرج حشفه ورديئه"، وقال غيرهم:"هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع، قال: والجمع بفتح الجيم وسكون الميم؛ التمر المختلط". انتهى، وقال الدارقطني في سننه:"يقال كل شيء من النخل لا يعرف اسمه فهو جَمع، يقال: ما أكثر الجمع في أرض فلان، بفتح الجيم". انتهى، وقال النووي في (شرح مسلم):"الجمع بفتح الجيم وإسكان الميم وهو تمر رديء، وقد فسره في الرواية الأخيرة بأنه الخلط من التمر ومعناه مجموع من أنواع مختلفة". انتهى، وقال الجوهري:"الجمع الدقل، يقال: ما أكثر الجمع في أرض بني فلان؛ لنخل يخرج من النوى ولا يعرف اسمه"، وقد ذكر ابن منظور في (لسان العرب) نحو هذا عن الأصمعي، وقال ابن الأثير في (النهاية):"كل لون من النخيل لا يعرف اسمه فهو جمع، وقيل: الجمع تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوبا فيه، وما يخلط إلا لرداءته". انتهى، وأما البعل فهو النخل الذي يشرب بعروقه من غير سقي، قاله الأصمعي وغيره من أهل اللغة.
الحديث الرابع والثلاثون: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرزقنا تمرا من تمر الجمع فنستبدل به تمرا هو أطيب منه ونزيد في السعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يصلح صاع تمر بصاعين، ولا درهم بدرهمين، والدرهم بالدرهم، والدينار بالدينار، ولا فضل بينهما إلا وزنا» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة، وهذا لفظه وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وجاء في رواية البخاري ومسلم قال: كنا نرزق تمر الجمع وهو الخلط من التمر. وقد رواه
الشافعي بإسناد حسن ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرزقهم طعاما فيه شيء فيستطيبون فيأخذون صاعا بصاعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألم يبلغني ما تصنعون» قال: قلنا: بلى يا رسول الله إنك ترزقنا طعامًا فيه شيء فنستطيب فنأخذ صاعًا بصاعين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار بدينار، ودرهم بدرهم، وصاع تمر بصاع تمر، وصاع شعير بصاع شعير، لا فضل بين شيء من ذلك» .
الحديث الخامس والثلاثون: عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فقال: «ما هذا التمر من تمرنا» فقال الرجل: يا رسول الله، بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا» رواه مسلم، وقد رواه الإمام أحمد باختصار في المرفوع منه، ولفظه عن أبي سعيد أن صاحب التمر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة فأنكرها قال:«أنى لك هذا؟» فقال: اشترينا بصاعين من تمرنا صاعًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أربيتم» إسناده صحيح على شرط مسلم.
الحديث السادس والثلاثون: عن سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به، فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال أيدا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به، قال: أَوَ قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه. قال: فو الله لقد جاء بعض فتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأنكره فقال: «كأن هذا ليس من تمر أرضنا» قال: كان في تمر أرضنا - أو في تمرنا - العام بعض الشيء فأخذت هذا وزدت بعض الزيادة فقال: «أضعفت أربيت، لا تقرن هذا، إذا رابك من تمرك شيء فبعه ثم اشتر الذي تريد من التمر» رواه الإمام أحمد ومسلم، وفي رواية لمسلم عن داود وهو ابن أبي هند عن أبي نضرة قال: سالت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف فقال ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فقال لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه صاحب نخله بصاع من تمر طيب وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أنى لك هذا؟» قال: انطلقت بصاعين فاشتريت به هذا الصاع فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ويلك أربيت، إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت» قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة
بالفضة؟ قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ولم آت ابن عباس، قال فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه. وقد رواه البيهقي بإسناد مسلم وبنحو روايته، ورواه الإمام أحمد مختصرًا ولفظه عن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد: أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهب بالذهب والفضة بالفضة؟ قال: سأخبركم ما سمعت منه، جاءه صاحب تمره بتمر طيب وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم يقال له اللون، قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أين لك هذا التمر الطيب؟» قال: ذهبت بصاعين من تمرنا واشتريت به صاعًا من هذا، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربيت» ، قال: ثم قال أبو سعيد: فالتمر بالتمر أربى أم الفضة بالفضة والذهب بالذهب؟ إسناده صحيح على شرط مسلم.
اللون هو الدقل، قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، ونقل ابن منظور في (لسان العرب) عن ابن سيده أنه قال:"الألوان الدقل، واحدها لون، واللينة واللونة كل ضرب من النخل ما لم يكن عجوة أو برنيا"، وقال ابن الأثير في (النهاية):"اللون نوع من النخل، وقيل هو الدقل، وقيل النخل كله ما خلا البرني والعجوة، ويسميه أهل المدينة الألوان، واحدته لينة وأصله لونة فقلبت الواو ياء لكسرة اللام، وفي حديث ابن عبد العزيز أنه كتب في صدقة التمر أن تؤخذ في البرني من البرني وفي اللون من اللون". انتهى.
الحديث السابع والثلاثون: عن أبي صالح - وهو السمان واسمه ذكوان - أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره قال: يا رسول الله، إنا لا نجد الصيحاني ولا العذق بجمع التمر حتى نزيدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بِعه بالورق ثم اشتر به» رواه النسائي ورجاله رجال الصحيح.
قال الجوهري: "الصيحاني ضرب من تمر المدينة"، وكذا قال ابن منظور في (لسان العرب)، ونقل عن الأزهري أنه قال:"الصيحاني ضرب من التمر، أسود صلب المضغة، وسمي صيحانيا لأن صيحان اسم كبش كان ربط إلى نخلة بالمدينة فأثمرت تمرًا صيحانيا فنسب إلى صيحان". انتهى، وفي (المصباح المنير):"الصيحاني تمر معروف بالمدينة، ويقال كان كبش اسمه صيحان شد بنخلة فنسبت إليه وقيل صيحانية، قاله ابن فارس والأزهري". انتهى.
وأما العَذق بالفتح فهو النخلة بحملها قاله الجوهري، وقال ابن منظور في (لسان العرب):"العذق النخلة عند أهل الحجاز"، وفي (المصباح المنير): "العذق مثال فَلس
النخلة نفسها، ويطلق العذق على أنواع من التمر، ومنه عذق ابن الحبيق وعذق ابن طاب وعذق ابن زيد قاله أبو حاتم". انتهى.
الحديث الثامن والثلاثون: عن أبي الزبير المكي قال: سألت جابر بن عبد الله عن الحنطة بالتمر بفضل يدا بيد، فقال:«كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نشتري الصاع الحنطة بستة آصع من تمر يدا بيد، فإن كان نوعا واحدا فلا خير فيه إلا مثلا بمثل» رواه أبو يعلى، قال الهيثمي:"ورجاله رجال الصحيح".
الحديث التاسع والثلاثون: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن فمن زاد أو استزاد فقد أربى» والله ما كذب ابن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي:"ورجاله موثقون وفي بعضهم كلام لا يضر".
الحديث الأربعون: عن أبي الزبير المكي قال: سمعت أبا أسيد الساعدي، وابن عباس يفتي بالدينار بالدينارين، فقال أبو أسيد وأغلظ له القول، فقال ابن عباس: ما كنت أظن أن أحدا يعرف قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي مثل هذا يا أبا أسيد، فقال أبو أسيد: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، وصاع حنطة بصاع حنطة، وصاع شعير بصاع شعير، وصاع ملح بصاع ملح، لا فضل بين شيء من ذلك» فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "هذا شيء كنت أقوله برأيي ولم أسمع فيه شيئًا". رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي:"وإسناده حسن". وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
الحديث الحادي والأربعون: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، فمن كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب، وإن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق، والصرف هاء وهاء» رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم، وقال:"هذا حديث غريب صحيح"، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
فصل
وقد جاء في تحريم الربا والتشديد فيه أحاديث كثيرة جدًا سوى ما ذكرته ههنا ولكن أسانيدها لا تخلو من مقال فلذلك تركت ذكرها، وفيما ذكرته من الأحاديث الصحيحة كفاية -إن شاء الله تعالى- وفوق الكفاية لمن أراد الله عصمته من أكل الربا.
ومن أراد الله به غير ذلك خلَّى بينه وبين الشيطان فأضلَّه وأغواه وزين له استحلال الربا وغير ذلك من الأعمال السيئة، وقد قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وقال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ، وقال -تعالى-:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، والآيات في التحذير من الشيطان كثيرة جدا، وخطوات الشيطان هي مسالكه ومذاهبه وطرقه التي يدعو إليها، وأشدها خطرا السبع الموبقات، ومنها أكل الربا كما تقدم النص على ذلك في حديث أبي هريرة المتفق على صحته.
وإذا علم ما تقدم ذكره من الأحاديث المتواترة في تحريم الربا والوعيد الشديد للمرابين فليعلم أيضا أن الله تبارك وتعالى قد أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن معصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم، وحذرهم من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد من شاق الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع غير سبيل المؤمنين بأشد الوعيد. قال الله -تعالى-:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} ، وقال -تعالى-:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ، وقال -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-:"أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} " والآيات في الأمر بطاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير من معصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما جاء في هذه الآيات المحكمات وما جاء في الأحاديث المذكورة قريبا مما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم الربا والتشديد فيه، وليقابل كلام الله -تعالى- وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بالرضى والقبول والتسليم، وليحذر أشد الحذر من التخلق بأخلاق المنافقين الذين قال الله -تعالى- فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ
صُدُودًا}، وليحذر أيضا من الاتصاف بصفات الألِدَّاء المعاندين وهم الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}، وليحذر أيضا من الدخول في عداد الأشرار الذين هم أضل سبيلا من الأنعام، وهم الذين قال الله فيهم:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ، وليحذر أيضا أشد الحذر أن يكون ممن عناهم الله بقوله:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وليحذر أيضا من اتباع الهوى فإن الهوى يعمي ويصم ويصد عن الحق والطريق المستقيم، وقد قال الله -تعالى- لنبيه داود عليه الصلاة والسلام:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ، وقال -تعالى-:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
فصل
وقد اشتملت الأحاديث التي تقدم ذكرها على فوائد كثيرة وأمور مهمة تتعلق بالربا والمرابين: الأولى: أن أكل الربا من الكبائر السبع الموبقات - والموبقات هي: المهلكات - كما تقدم بيان ذلك في الكلام على الحديث الأول.
الثانية: أن أكل الربا جاء مقرونًا مع الشرك بالله والسحر وقتل النفس بغير حق، وهذا يدل على شدة تحريمه.
الثالثة: لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا به، قال أهل اللغة:"اللعن هو الطرد والإبعاد من الله"، وقال بعضهم:"هو الطرد والإبعاد من الخير"، ولا منافاة بين القولين؛ لأن من طرده الله وأبعده فقد طرد وأبعد من كل خير.
الرابعة: أن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه سواء في الإثم وفيما يلحقهم من اللعن.
الخامسة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع ما كان في الجاهلية من الربا وفي هذا دليل على أنه يجب وضع ما كان منه في الإسلام بطريق الأولى.
السادسة: أنه ليس للمرابين إلا رؤوس أموالهم ومن طلب الزيادة على رأس ماله فإنه يجب منعه.
السابعة: أن أخذ الزيادة على رأس المال ظلم للمأخوذ منه، والله تبارك وتعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله محرمًا بين عباده.
الثامنة: أنه لا يجوز البخس من رؤوس الأموال؛ لأن ذلك من الظلم لأصحابها.
التاسعة: التشديد في أكل الربا والنص على أن أكل الدرهم الواحد منه مع العلم بأنه ربا أشد من ستة وثلاثين زنية، وإذا كان أكل الدرهم الواحد من الربا بهذه المثابة العظيمة في القبح فكيف بمن يجمع القناطير المقنطرة من الربا، وكيف يمن يدعو إلى استحلال الربا باسم الفوائد ويجادل بالباطل في تقرير دعاواه الباطلة وآرائه الفاسدة، ولا يبالي بمخالفته للقرآن والسنة وإجماع المسلمين، فهذا يجيب أن يستتاب فإن تاب وإلا حكم عليه بما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تقدم ذكره في الفائدة الرابعة عشرة من فوائد الآيات الواردة في تحريم الربا والتشديد فيه فليراجع (1).
العاشرة: أن ظهور الزنا والربا في المسلمين سبب لحلول العذاب.
الحادية عشرة: أن آخذ الربا ومعطيه سواء في الحكم وفيما يلحقهما من الإثم واللعن.
الثانية عشرة: أن الأحاديث قد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، وكذلك الفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح.
الثالثة عشرة: أن من زاد أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى.
الرابعة عشرة: أنه يشترط التماثل والتقابض قبل التفرق فيما إذا بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، وأما إذا بيع الذهب بالفضة والبر والشعير والتمر والملح بغير جنسه فإنه يشترط التقابض قبل التفرق، وأما التفاضل فإنه جائز.
(1) ص،22.
الخامسة عشرة: أنه لا فرق في الذهب والفضة بين التبر منها والعين والمصوغ، وقد تقدم بيان معنى التبر والعين في كلام الخطابي على آخر الروايات لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو الحديث الثامن عشر فليراجع.
السادسة عشرة: النهي عن الصرف نسيئة وهو بيع الذهب بالفضة دَينًا، والأمر برد البيع.
السابعة عشرة: قال النووي في (شرح مسلم): "قال العلماء: إذا بيع الذهب بذهب أو الفضة بفضة سميت مراطلة، وإذا بيعت الفضة بذهب سمي صرفا؛ لصرفه عن مقتضى البياعات (1) من جواز التفاضل والتفرق قبل القبض والتأجيل، وقيل من صريفهما وهو تصويتهما في الميزان". انتهى.
الثامنة عشرة: أنه لا يجوز بيع المصوغ من الذهب بأكثر من وزنه ذهبًا، وكذلك المصوغ من الفضة لا يجوز أن يباع بأكثر من وزنة فضة.
التاسعة عشرة: التشديد في الإنكار على من اعتمد على رأيه وخالف النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في قصة أبي الدرداء مع معاوية وفي قصة أبي أسيد مع ابن عباس.
العشرون: أن في قصة الصائغ مع ابن عمر رضي الله عنهما وقصة أبي الدرداء مع معاوية رضي الله عنهما أبلغ رد على من يرى جواز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، وأن الزائد يجعل في مقابلة الصنعة.
الحادية والعشرون: أنه إذا كان في القلادة ذهب وخرز فإنها لا تباع بالذهب حتى تفصل ويميز بين الذهب والخرز فيباع ما فيها من الذهب بوزنه ذهبًا.
الثانية والعشرون: أنه يجوز لمن باع سلعة بدنانير أن يأخذ عنها دراهم، وإذا باعها بدراهم أن يأخذ عنها دنانير بشرط التقابض قبل التفرق، وبشرط أن يكون ذلك بسعر يومها.
الثالثة والعشرون: أنه لا يجوز بيع التمر الطيب بأكثر منه من الرديء وكذلك الحنطة والشعير والملح لا يجوز بيع الطيب منها بأكثر منه من الرديء.
(1) يعني البياعات التي ليس فيها ربا.
الرابعة والعشرون: الإنكار على من باع التمر الرديء بأقل منه من الطيب والأمر برد البيع، وهكذا الحكم في بيع الرديء من الحنطة أو الشعير أو الملح بأقل منه من الطيب.
الخامسة والعشرون: الأمر ببيع الرديء من التمر بالورق ثم الشراء بالورق من الطيب منه، وهكذا الحكم في الحنطة والشعير والملح.
وفيما ذكرته من الأحاديث الصحيحة وما اشتملت عليه من الفوائد والأمور المهمة كفاية في بيان موقف الشريعة الإسلامية من تحريم الربا على وجه العموم، وأنه لا فرق في ذلك بين البنوك وغيرها.
وفيها أيضا أبلغ رد على الفتان المفتون وعلى أشباهه من المفتونين بأكل الربا واستحلاله باسم الفوائد.