المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر الإجماع على تحريم الربا - الصارم البتار للإجهاز على من خالف الكتاب والسنة والإجماع والآثار

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ ذكر الإجماع على تحريم الربا

فصل

في‌

‌ ذكر الإجماع على تحريم الربا

قال النووي في (شرح المهذب): "أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر، وقيل إنه كان محرما في جميع الشرائع وممن حكاه الماوردي". انتهى.

ونقل السبكي في (تكملة شرح المهذب) عن ابن المنذر أنه قال: "أجمع علماء الأمصار؛ مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر، والشافعي وأصحابه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال: وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة يكثر عددهم من التابعين".

قال السبكي: "وممن قال بذلك من الصحابة أربعة عشر منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة والزبير، روي مجاهد عنهم - أي الأربعة عشر - أنهم قالوا: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربوا الفضل، وروى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبن فضيل عن ليث - وهو ابن أبي سليم - عن مجاهد، وهؤلاء السبعة من العشرة المشهود لهم بالجنة، وممن صح ذلك عنه أيضا غير هؤلاء السبعة عبد الله بن عمر وأبو الدرداء، وروي عن فضالة بن عبيد، وقد تقدم كلام أبي سعيد وأبي أسيد وعبادة، وقد رويت أحاديث تحريم ربا الفضل من جهة غيرهم من الصحابة، والظاهر أنهم قائلون بها لعدم قبولهم للتأويل". انتهى.

وقال الترمذي بعد ذكره حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي تقدم ذكره - وهو الحديث الرابع عشر -: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، إلا ما روي عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يباع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدا بيد، وقال إنما الربا في

النسيئة. وكذلك روي عن بعض أصحابه شيء من هذا، وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن قوله حين حدثه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقول الأول أصح، والعمل

ص: 45

على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وروي عن ابن المبارك أنه قال ليس في الصرف اختلاف". انتهى كلام الترمذي.

ونقل السبكي في (تكملة شرح المهذب) عن ابن عبد البر أنه قال: "لا أعلم خلافًا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنًا، ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه، إلا ما كان عليه أهل مكة قديما وحديثًا من إجازتهم التفاضل على ذلك إذا كان يدا بيد، أخذوا ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن عبد البر: ولم يتابع ابن عباس علي قوله في تأويله حديث أسامة أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها وليس أحد بحجة عليها". انتهى.

وقال الموفق في (المغنى) وابن أبي عمر في (الشرح الكبير): "أجمعت الأمة على أن الربا محرم. قالا: والربا على ضربين؛ ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما".

وقال النووي في (شرح مسلم): "أجمع المسلمون على تحريم الربا في الجملة وإن اختلفوا في ضابطه وتفاريعه"، وقال أيضا:"أجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالا كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير، وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدًا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا إلا ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- عن ابن عباس في تخصيص الربا بالنسيئة".

وقال النووي أيضا: "أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو الفضة مؤجلاً وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا".

ونقل النووي أيضا إجماع المسلمين على ترك العمل بظاهر حديث أسامة الذي جاء فيه أنه لا ربا إلا في النسيئة. قال: "وهذا يدل على نسخه". انتهى المقصود من كلام النووي.

ص: 46

فصل

في ذكر الآثار الدالة على رجوع ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله بجواز بيع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدا بيد، وذلك حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.

فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث سعيد الجريري عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف فقال أيدا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به، فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به. قال أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه، الحديث وقد تقدم، وهو الحديث السادس والثلاثون.

وقد رواه مسلم أيضا والبيهقي من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة قال: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف فقال ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفي آخره أن أبا نضرة قال: فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ولم آت ابن عباس، قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه، وقد ترجم البيهقي لهذا الحديث وحديثين آخرين أحدهما في رجوع ابن عباس والآخر في رجوع ابن مسعود بقوله (باب ما يستدل به على رجوع من قال - من الصدر الأول - لا ربا إلا في النسيئة عن قوله ونزوعه عنه).

وروى الطحاوي في (شرح معاني الآثار) من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي الصهباء أن ابن عباس رضي الله عنهما نزع عن الصرف.

ومنها ما رواه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قلت لابن عباس أرأيت الذي تقول: الدينارين بالدينار والدرهمين بالدرهم أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، فقال ابن عباس: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نعم، فقال: فإني لم أسمع هذا، إنما أخبرنيه أسامة بن زيد، قال أبو سعيد: ونزع عنها ابن عباس.

ص: 47

ومنها ما رواه الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سليمان بن علي الربعي قال: سمعت أبا الجوزاء قال: سمعت ابن عباس يفتي في الصرف قال: فأفتيت به زمانا قال: ثم لقيته فرجع عنه، قال: فقلت له: ولم؟ فقال: إنما هو رأي رأيته، حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، إسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه الإمام أحمد أيضا حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان بن علي الربعي حدثنا أبو الجوزاء غير مرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف يدا بيد فقال: لا بأس بذلك اثنين بواحد أكثر من ذلك وأقل، قال ثم حججت مرة أخرى والشيخ حي فأتيته فسألته عن الصرف فقال وزنا بوزن، قال: فقلت: إنك قد أفتيتني اثنين بواحد فلم أزل أفتي به منذ أفتيتني فقال: إن ذلك كان عن رأي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه ابن ماجة عن أحمد ابن عبده أنبأنا حماد بن زيد عن سليمان بن علي الربعي عن أبي الجوزاء قال: سمعته يأمر بالصرف - يعني ابن عباس- ويحدث ذلك عنه ثم بلغني أنه رجع عن ذلك فلقيته بمكة فقلت: إنه بلغني أنك رجعت، قال: نعم، إنما كان ذلك رأيا مني، وهذا أبو سعيد يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن الصرف» إسناده صحيح على شرط مسلم.

وروى البيهقي عن معروف بن سعد أنه سمع أبا الجوزاء يقول كنت أخدم ابن عباس تسع سنين إذ جاءه رجل فسأله عن درهم بدرهمين فصاح ابن عباس وقال: إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا، فقال ناس حوله إن كانا لنعمل هذا بفتياك، فقال ابن عباس قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، فأنا أنهاكم عنه.

ومنها ما رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه عن حيان بن عبيد الله العدوي قال: سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا - يعني يدًا بيد - فكان يقول إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد الخدري فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا؟! أما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو عند زوجته أم سلمة: «إني لأشتهي تمر عجوة» فبَعَثَتْ صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة فقامتْ فقدَّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه أعجبه فتناول تمرة ثم أمسك

فقال: «من أين لكم هذا؟» فقالت أم سلمة: بعثتُ صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار فأتانا بدل الصاعين هذا الواحد وها هو كُل فألقي التمرة بين يديه فقال: «ردوه

ص: 48

لا حاجة لي فيه، التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدًا بيد عينا بعين مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا»، ثم قال:«كذلك ما يكال ويوزن أيضا» . فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "جزاك الله يا أبا سعيد الجنة فإنك ذكرتني أمرا كنت نسيته، أستغفر الله وأتوب إليه"، فكان ينهى عنه بعد ذلك أشد النهي. هذا لفظه عند الحاكم وقال:"صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي في تلخيصه فقال:"حيان فيه ضعف وليس بالحجة".

قلت قد ذكر ابن أبي حاتم في كتاب (الجرح والعديل) عن أبيه أنه قال: "هو صدوق"، وذكر ابن حجر في (لسان الميزان) عن إسحاق بن راهويه أنه قال:"حدثنا روح ابن عبادة، حدثنا حيان بن عبيد الله - وكان رجل صدق -"، قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب):"إن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة فروح محدث نشأ في الحديث عارف به مصنف فيه متفق على الاحتجاج به بصري بلدي للمشهود له فتقبل شهادته له، وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ومن يثني عليه إسحاق". انتهى، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وعلى هذا فحديثه حسن إن شاء الله تعالى، ولحديثه شواهد كثيرة تُقويه، منها ما تقدم في هذا الفصل، ومنها ما تقدم قبل ذلك من حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال رضي الله عنهم وقد قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب):"إنه لا يقصر عن رتبة الحسن، قال ويكفي الاستدلال على ذلك أنه لم يعارضه ما هو أقوى منه". انتهى.

ومنها ما رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلا بمثل فمن زاد فقد أربى» فقال ابن عباس: "أتوب إلى الله مما كنت أفتي به، ثم رجع"، قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب):"إسناده صحيح".

ومنها ما رواه الطبراني عن أبي الشعثاء قال: سمعت ابن عباس يقول: "اللهم إني أتوب إليك من الصرف إنما هذا من رأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "رجاله ثقات مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم".

ص: 49

ومنها ما رواه الطبراني عن بكر بن عبد الله المزني أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس، إنه لا بأس بالصرف ما كان منه يدا بيد إنما الربا في النسيئة"، فطارت كلمته في أهل المشرق والمغرب حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري وقال له:"يا ابن عباس، أكلت الربا وأطعمته"، قال:"أوفعلت؟! " قال: "نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى» " حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس، إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي وإني أستغفر الله -تعالى- منه وأتوب إليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل تبره وعينه فمن زاد أو استزاد فقد أربى» " وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة. قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "سنده فيه مجهول"، قلت: وله شواهد كثيرة مما تقدم في هذا الفصل وما تقدم قبل ذلك من حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال رضي الله عنهم.

ومنها ما رواه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن عبد الله بن حنين أن رجلا من أهل العراق قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إن ابن عباس رضي الله عنهما قال وهو علينا أمير: "من أعطي بالدرهم مائة درهم فليأخذها" فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد فهو ربا» وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إن كنت في شك فسل أبا سعيد الخدري عن ذلك فسأله فأخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لابن عباس رضي الله عنهما ما قال ابن عمر رضي الله عنهما فاستغفر ربه وقال:"إنما هو رأي مني"، في إسناده ابن لهيعة وفيه كلام، وقد روى له مسلم وابن خزيمة في صحيحيهما مقرونا بغيره، وروى له البخاري في عدة مواضع من صحيحه مقرونا بغيره ولكنه لا يسميه، قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب):"وهو ابن لهيعة لا شك فيه"، وقد أثنى عليه ابن وهب وأحمد بن صالح ووثقه، ووثقه أيضا أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي، وقال ابن حجر في (تقريب التهذيب):"صدوق خلط بعد احتراق كتبه"، وحسن الهيثمي حديثه، وأقره زين الدين العراقي وابن حجر على ذلك، وعلى هذا فحديثه حسن -إن شاء الله تعالى- وله شواهد كثيرة مما تقدم في هذا الفصل وما تقدم قبل ذلك من حديث أبي سعيد وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال رضي الله عنهم.

ص: 50

ومنها: حديث أبي الزبير المكي - وهو الحديث الأربعون - فقد جاء فيه أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يفتي بالدينار بالدينارين فأغلظ له أبو أسيد القول، فقال ابن عباس رضي الله عنهما:"هذا شيء كنت أقوله برأيي، ولم أسمع فيه شيئًا". رواه الطبراني في الكبير، قال الهيثمي:"وإسناده حسن"، وقد تقدم ذكره.

وبما ذكرته من الروايات المتواترة عن ابن عباس رضي الله عنهما يعلم قطعا أنه قد رجع عن قوله بجواز بيع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدا بيد، وقد روى ابن حزم بإسناده إلى سعيد بن جبير أنه حلف بالله أن ابن عباس رضي الله عنهما ما رجع عن قوله في الصرف حتى مات، قال السبكي في (تكملة شرح المهذب):"قال ابن عبد البر: رجع ابن عباس أو لم يرجع، في السنة كفاية عن قول كل أحد، ومن خالفها رد إليها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا الجهالات إلى السنة".

قلتُ قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالمماثلة بين الذهب والذهب وبين الفضة والفضة وينهى عن المفاضلة بينهما، وتقدم ذلك في الحديث الرابع عشر وما بعده من الأحاديث فلتراجع، وليتمسك بها المؤمن ولا يلتفت إلى ما خالفها من أقوال الناس وآرائهم، فإنه لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مجاهد:"ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم "، رواه البخاري في (جزء رفع اليدين) بإسناد صحيح، وقال سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:"سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع"، رواه البخاري في (جزء رفع اليدين) بإسناد صحيح، وقال الأوزاعي:"كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم "، رواه الدارمي بإسناد جيد، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} ، قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-:"أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد".

فصل

وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يرى جواز المفاضلة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة ثم رجع عن ذلك لما بلغة النهي عنه. قال عبد الرزاق في مصنفه:

ص: 51

"أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عبد الله بن كنانة أن ابن مسعود صرف فضة بورق في بيت المال، فلما أتى المدينة سأل فقيل إنه لا يصلح إلا مثل بمثل. قال أبو إسحاق: فأخبرني أبو عمرو الشيباني أنه رأي ابن مسعود يطوف بها يردها ويمر على الصيارفة ويقول: لا يصلح الورق بالورق إلا مثل بمثل". وقد رواه البيهقي في سننه من طريق أبي إسحاق - وهو السبيعي - عن سعد بن إياس- وهو أبو عمر والشيباني - قال: "كان عبد الله - يعني ابن مسعود - علي بيت المال وكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل حتى قدم فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا تصلح الفضة إلا وزنا بوزن، فلما قدم عبد الله أتى الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة إن الذي كنت أبايعكم لا يحل، لا تحل الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن". ورواه الطبراني في الكبير ولفظه قال: "كان عبد الله يرخص في الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين فخرج إلى المدينة فأتي عمر وعليًا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهوه عن ذلك، فلما رجع رأيته يطوف في الصيارفة ويقول: ويلكم يا معشر الناس لا تأكلوا الربا ولا تشتروا الدرهم بالدرهمين ولا الدينار بالدينارين"، قال الهيثمي:"رجاله رجال الصحيح".

فصل

وقد تقدم في الحديث الرابع والعشرين أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول لله صلى الله عليه وسلم: «ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل» فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار، ورواه الشافعي وأحمد والنسائي والبيهقي من طريق مالك.

وروى مسلم والبيهقي عن أبي الأشعث - واسمه شراحيل بن آده الصنعاني - قال: غزونا غزاه وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة،

فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ

عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء

ص: 52

بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى» فرد الناس ما أخذوا فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية، أو قال وإن رغم، ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء.

وروى ابن ماجة في الباب الثاني من مقدمة سننه بإسناد حسن عن إسحاق بن قبيصة عن أبيه - وهو قبيصة بن ذؤيب الخزاعي - أن عبادة بن الصامت الأنصاري النقيب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا مع معاوية أرض الروم فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر الفضة بالدراهم فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة» فقال له معاوية: يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة، فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك، لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة، فلما قفل لحق بالمدينة فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقصَّ عليه القصة وما قال من مساكنته، فقال: أرجع يا أبا الوليد إلى أرضك، فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال فإنه هو الأمر.

قال تقي الدين السبكي في (تكملة شرح المهذب): "هذا المنقول عن معاوية معناه أنه كان لا يرى الربا في بيع العين بالتبر ولا بالمصوغ، وكان يجيز في ذلك التفاضل ويذهب إلى أن الربا لا يكون في التفاضل إلا في التبر بالتبر وفي المصوغ بالمصوغ وفي العين بالعين، كذلك نقل عنه ابن عبد البر، فليس موافقا ابن عباس مطلقا وإن كان الذي ذهب إليه من الذي لا يعول عليه".

وقال السبكي أيضا: "وأما معاوية فقد تقدم أنه غير قائل بقول أبن عباس مع شذوذ ما قال به أيضا، والظن به لما كتب إليه عمر رضي الله عنه أنه يرجع عن ذلك".

قلت: لم يذكر أحد عن معاوية رضي الله عنه أنه خالف قول عمر رضي الله عنه أن الأمر على ما قاله عبادة بن الصامت رضي الله عنه، ولا أنه خالف أمره بأن يحمل الناس على ذلك، فيستفاد من عدم مخالفته عمر رضي الله عنه أنه قد رجع عن رأيه الذي واجه به أبا الدرداء وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما، والله أعلم.

ص: 53

فصل

وأما حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في النسيئة» فهو حديث صحيح قد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، وقد قال النووي في (شرح مسلم):"أجمع المسلمون على ترك العمل بظاهره، قال: وهذا يدل على نسخه، وتأوله آخرون"، وذكر السبكي في (تكمله شرح المهذب) عن ابن عبد البر أنه استدل على صحة تأويل حديث أسامة بإجماع الناس - ما عدا ابن عباس - عليه - أي علي تأويله-. انتهى.

ومن أحسن التأويلات التي ذكرها النووي أنه محمول على الأجناس المختلفة، فإنه لا ربا فيها من حيث التفاضل بل يجوز تفاضلها يدا بيد، وذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) عن الطبري أنه قال:"معنى حديث أسامة «لا ربا إلا في النسيئة» إذا اختلفت أنواع البيع، والفضل فيه يدا بيد ربا، جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد، ثم قال بن حجر: (تنبيه) وقع في نسخه الصغاني هنا: قال أبو عبد الله يعني البخاري: سمعت سليمان بن حرب يقول: «لا ربا إلا في النسيئة» هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة". انتهى.

وقال ابن حبان في صحيحة: "معنى الخبر أن الأشياء إذا بيعت بجنسها من الستة المذكورة في الخبر وبينهما فضل يكون ربا، وإذا بيعت بغير أجناسها وبينها فضل كان ذلك جائزا إذا كان يدا بيد، وإذا كان ذلك نسيئة كان ربا". انتهى.

وروى البيهقي في سننه عن أبي المنهال - واسمه عبد الرحمن بن مطعم البناني - قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فقالا: "كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال: «ما كان منه يدا بيد فلا بأس وما كان منه نسيئة فلا» " وهذا الحديث قد تقدم ذكره وهو الحديث الحادي والعشرون والحديث الثاني والعشرون، وقد ذكرت له عدة روايات عند البخاري ومسلم فليراجع، ثم قال البيهقي بعد إيراده وذكر من خرجه من الأئمة أن الخبر يكون واردا في بيع الجنسين أحدهما بالآخر، فقال:«ما كان منه يدا بيد فلا بأس، وما كان منه نسيئة فلا» وهو المراد بحديث أسامة، والله أعلم. قال: والذي يدل على ذلك أيضا ما أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان

ثم ساق بإسناده إلى أبي المنهال قال: سألت

ص: 54

البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الورق بالذهب دينا"، وقال الموفق في (المغنى) وابن أبي عمر في (الشرح الكبير):"قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا ربا إلا في النسيئة» محمول على الجنسين".

وبما ذكره هؤلاء الأئمة في تأويل حديث أسامة وبيان معناه يحصل الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد وغيره من الأحاديث الدالة على تحريم ربا الفضل وينتفي عنها التعارض، والله أعلم.

فصل

وقد زعم الفتان في بيانه لموقف الشريعة الإسلامية من المصارف أنه يمكن القول أنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك ولن تكون هناك بنوك بلا فوائد.

والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحريم الربا على وجه العموم، وتظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على تحريمه وأجمع المسلمون على تحريمه وعلى أنه من الكبائر، وقد ذكرت ذلك مستوفى فيما تقدم فليراجع. فهذا هو موقف الشريعة الإسلامية من الربا في المصارف وغير المصارف.

ومَن قال بخلاف هذا فهو مفتر على الشريعة وقوله مردود عليه ومضروب به عرض الحائط.

الوجه الثاني: أن يقال: إن المقدمات الثلاث التي بني الفتان عليها آراءه الفاسدة كلها أباطيل وشبهات وتلبيس على الذين لا يعرفون مقصوده السيئ من كتابته وأن هدفه الوحيد هو استحلال الربا في البنوك ودعاء الناس إلى استحلاله وعدم المبالاة بما يترتب على ذلك من محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

فأما المقدمة الأولى وهي قوله: إنه لن تكون قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية فهي من توهماته التي يكذبها الواقع من حال المسلمين في أول هذه الأمة وفي آخرها. فأما الواقع في أول هذه الأمة فهي القوة الإسلامية التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأول زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كانت هذه القوة الإسلامية قوية التأثير؛ لأنها زلزلت المخالفين للإسلام من العرب وغير

ص: 55

العرب وخاف منها هرقل وغيره من أكابر الملوك. وقد مكَّن الله للمسلمين بهذه القوة فاستولوا على جميع جزيرة العرب وعلى كثير مما حولها من بلاد الفرس والروم، ولم يكن لهم في تلك الأزمان قوة اقتصادية سوى ما يحصل لهم من الغنائم في بعض الغزوات وهي لا تكفي لما يحتاجون إليه لمجابهة أعدائهم. وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين أدراعًا من صفوان بن أمية - وهو إذا ذاك مشرك - ولو كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم قوة اقتصادية لما احتاج إلى الاستعارة من رجل مشرك، وكذلك قد حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك، وكانت هذه الغزوة في أثناء سنة تسع من الهجرة. ولو كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم قوة اقتصادية لكان يجهزهم من عنده ولا يحتاج إلى ترغيب الأغنياء في تجهيزهم، والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عنده قوة اقتصادية قول الله -تعالى-:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} ، وهذه الآية نزلت في المتخلفين عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.

وأما الواقع في آخر هذه الأمة فهو ما كانت عليه الدولة السعودية في زمن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وزمن ابنه سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود -رحمهما الله تعالى-، فقد كانت للإسلام قوة عظيمة في زمن هذين الإمامين، وقد مكَّن الله لهذه الدولة ويسر لهم الإستيلاء على جزيرة العرب سوى بعض البلاد اليمنية، وامتدت ولايتهم من ناحية المشرق حتى تجاوزت ما يسمى الآن بدولة الإمارات، وأرهبوا كثيرا ممن حولهم من العرب وغير العرب، ولم تكن لهم في ذلك الزمان قوة اقتصادية.

ثم كانت قوة عظيمة في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل -رحمه الله تعالى-، وقد مكَّن الله له بهذه القوة ويسر له الاستيلاء على جزيرة العرب سوى بعض البلاد اليمنية، ولم تكن له في زمانه الذي استولى فيه على أكثر جزيرة العرب قوة اقتصادية، وإنما حصلت له القوة الاقتصادية حين أخرج الله خزائن البترول من الأرض.

ص: 56

ومن الأمثلة على وجود القوة الإسلامية مع عدم وجود القوة الاقتصادية ما هو معروف في زماننا عن المجاهدين الأفغان، فإنهم ليست لهم قوة اقتصادية، بل هم في غاية الحاجة وقلة العدد والعدة بالنسبة إلى أعدائهم، ومع هذا فقد كانت لهم قوة إسلامية مرهوبة عند أعدائهم، وقد نصرهم الله -تعالى- في كثير من المعارك الدائرة بينهم وبين الدولة الشيوعية التي هي من أكبر الدول في العالم وأعظمها قوة اقتصادية، وفي هذا عبرة لمن اعتبر، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وقال -تعالى-:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

ومما ذكرته من وجود القوة الإسلامية في أول هذه الأمة وفي آخرها مع عدم وجود القوة الاقتصادية عندهم يعلم أن لا تلازم بين القوة الإسلامية والقوة الاقتصادية. وفي هذا أبلغ رد على ما توهمه الفتان في مقدماته الثلاث التي بني بعضها على بعض بمجرد ما تخيله بعقله الفاسد.

وأما المقدمة الثانية وهي قوله: لن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، فهي مقدمة باطلة. ويدل على بطلانها ما كان عليه المسلمون منذ فتحت خزائن الملوك في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعد زمانه فقد كانت لهم قوة اقتصادية عظيمة، وهم مع هذا لا يعرفون البنوك ولا التعامل بالربا فضلا عن استحلاله، وكذلك كان الأمر في زمان بني أمية وبني العباس وغيرهم من الدول الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فقد كان عند كثير منهم من الأموال والقوة الاقتصادية ما يعرفه من تتبع السير والأخبار وهم مع هذا لا يعرفون البنوك ولا التعامل بالربا.

وأما المقدمة الثالثة وهي قوله: لن تكون هناك بنوك بلا فوائد. فهي مقدمة باطلة، وبيان ذلك من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الزيادة على رؤوس الأموال وهي التي

يدفعها أهل البنوك لأهل الأموال مقابل ما يمنحوهم من الانتفاع بأموالهم ليست بفوائد على الحقيقة، وإنما هي عين الربا الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع المسلمون

على تحريمه، وهي شبيهة بربا أهل الجاهلية؛ لأن أرباب الأموال إذا تركوا رؤوس

أموالهم عند أهل البنوك أرباها أهل البنوك لهم في كل عام بنسبة معلومة في كل مائة،

وهذه النسبة تضاف إلى رؤوس الأموال، وربما اجتمع منها شيء كثير لأهل الأموال

ولا سيما إذا تركوا أموالهم في البنوك أعواما كثيرة. وهذا الفعل مطابق لما يفعله الأغنياء في

ص: 57

الجاهلية مع المدينين. وقد تقدم كلام الجصاص في بيان ربا أهل الجاهلية فليراجع (1).

وقد ذكرت معنى الربا عند أهل اللغة والمفسرين في الفائدة الثالثة من فوائد الآيات الدالة على تحريم الربا فلتراجع أقوالهم في ذلك فإن بعضها ينطبق على المعاملات الربوية في البنوك.

الوجه الثاني: أن يقال: إن تسمية الزائد على رؤوس الأموال فوائد متضمن لأمرين خطيرين؛ أحدهما قلب الحقيقة في هذه التسمية وذلك من الكذب، والكذب حرام وكبيرة من كبائر الإثم. الأمر الثاني: التحيُّل على استحلال الربا، وهذه الحيلة شبيهة بحيلة أصحاب السبت من اليهود. والتشبه باليهود حرام وكبيرة من كبائر الإثم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من تشبه بقوم فهو منهم» رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وإسناده جيد.

وهذه الحيلة لا تنقل الزيادة الربوية من التحريم إلى الحل. بل التحريم لازم لها سواء سميت باسمها الحقيقي وهو الربا أو سميت الاسم المستحدث لها وهو الفوائد.

وقد رد بعض العلماء في القرن الرابع عشر من الهجرة على الذين سموا الزيادات الربوية باسم الفوائد. فمن ذلك ما ذكره الشيخ محمد بن يوسف الشهير بالكافي التونسي في كتابة المسمى بـ (الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية) نقلا عن العلامة إبراهيم السمنودي المنصوري أنه قال في رسالته المسماة: بـ (سيف أهل العدل، على نحر من نازعوا في زماننا في تحريم ربا القرض والفضل) في صفحة (4) بعد أن تكلم مع الجماعة الذين يحاولون إبراز القول بتحليل بعض أنواع الربا ولكن مباحثهم لا تزال عقيمة ولم يجسر واحد منهم على البت بالحكم مخافة أن يرمي بالكفر، فهم في خطبهم يحومون حول الموضوع حوما ولا يجابهونه مجابهة. مع أن الشيخ محمد عبده تقدمهم في هذا السبيل وأفتى على قاعدة أن الله أراد بالناس اليسر لا العسر وأن الفائدة غير الربا وأن الربا المحرم دينا هو الربا المحرم قانونا والمحسوب جناية. انتهى.

قلت هذه الفتوى من محمد عبده حقيقتها تحليل ما حرمه الله ورسوله من ربا الفضل. وهي مردودة بنصوص القرآن على تحريم الربا على وجه العموم، وبنصوص السنة على تحريم الربا بنوعية - أي ربا الفضل وربا النسيئة - وبالنص على أن من زاد

(1). تراجع ص (16).

ص: 58

أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء. وبالإجماع على تحريم الربا على وجه العموم والإجماع على أنه من الكبائر. وتحليل الربا وتسميته باسم الفائدة ليس من اليسر الذي أراده الله بعباده كما قد زعم ذلك محمد عبده وإنما هو من تحريف الكلم عن مواضعه وتغيير حكم الله ورسوله في الربا وتطبيقه على حكم القانون.

فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من الاغترار بفتوى محمد عبده بتحليل الربا وتسميته باسم الفائدة، وليحذر أيضا من الاغترار بفتاوى رشيد رضا بتحليل ربا الفضل وتسميته باسم الفائدة بناء على ما مهده له شيخه محمد عبده من تحريف الكلم عن مواضعه وتغيير حكم الله ورسوله في الربا وتطبيقه على حكم القانون.

وقد قال الشيخ أحمد محمد شاكر في كتابه المسمى (عمدة التفسير) تعليقا على قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية: "والمتلاعبون بالدين من أهل عصرنا وأولياؤهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي، بل التشريع اليهودي في الربا يلعبون بالقرآن ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا على ما ترضى أهواؤهم وأهواء سادتهم ويتركوا الآية الصريحة {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} فكانوا في تلاعبهم بتأول هذه الآية الصريحة أسوأ حالا ممن {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". انتهى.

وقال الشيخ محمود شلتوت في كتابه (تفسير القرآن الكريم): "بقي علينا أن ننبه في هذا الشأن لأمر خطير هو أن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير، يحاولون أن يجدوا تخريجا للمعاملات الربوية التي يقع التعامل بها في المصارف أو صناديق التوفير أو السندات الحكومية أو نحوها. ويلتمسون السبيل إلى ذلك. فمنهم من يزعم أن القرآن إنما حرم الربا الفاحش بدليل قوله:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فهذا قيد في التحريم لابد أن يكون له فائدة وإلا كان الإتيان به عبثا، تعالى الله عن ذلك، وما فائدته في زعمهم إلا أن يؤخذ بمفهومه وهو إباحة ما لم يكن أضعافا مضاعفة من الربا. وهذا قول باطل فإن الله سبحانه وتعالى أتى بقوله:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} توبيخا لهم على

ص: 59

ما كانوا يفعلون وإبرازا لفعلهم السيئ وتشهيرًا به. يقول الله لهم لقد بلغ بكم الأمر في استحلال أكل الربا أنكم تأكلونه أضعافا مضاعفة فلا تفعلوا ذلك، وقد جاء النهي في غير هذه المواضع مطلقا صريحا ووعد الله بمحق الربا قلَّ أو كثر ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه كما جاء في الآثار. وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله. واعتبره من الظلم الممقوت وكل ذلك ذكر فيه الربا على الإطلاق دون تقييد بقليل أو كثير.

ومنهم من يميل إلى اعتباره ضرورة من الضرورات بالنسبة للأمة، ويقول مادام صلاح الأمة في الناحية الاقتصادية متوقفا على أن تتعامل بالربا وإلا اضطربت أحوالها بين الأمم فقد دخلت بذلك في قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهذا أيضا مغالطة، فقد بينا أن صلاح الأمة لا يتوقف على هذا التعامل وأن الأمر فيه إنما هو وهم من الأوهام وضعف أمام النظم التي يسير عليها الغالبون الأقوياء.

وخلاصة القول أن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرم الله أو تبرير ارتكابه بأي نوع من أنواع التبرير بدافع المجاراة للأوضاع الحديثة أو الغربية، والانخلاع عن الشخصية الإسلامية إنما هي جرأة على الله -تعالى- وقول عليه بغير علم وضعف في الدين وتزلزل في اليقين". انتهى كلامه. ولقد أجاد في رده على المتلاعبين بالدين وهم الذي يغالطون في تحريم الزيادة الربوية ويستحلونها باسم الفوائد، أو بالاستناد إلى مفهومهم الخاطئ في تأويل قول الله -تعالى-:{أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} . أو بما يزعمونه من اعتبار الضرورة التي تبيح المحظور، وهؤلاء المغالطون في تحريم الزيادة الربوية ينطبق عليهم قول الله -تعالى-:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وقوله -تعالى-:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} .

وفي كلام الشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ محمود شلتوت أبلغ رد على الفتان الذي قد اقتفى آثار المتلاعبين بالدين، وبذل جهده في نشر أباطيله في تحليل الربا والدعوة إلى استحلاله.

الوجه الثالث: أن يقال: إن البنوك التي يتعامل أهلها بالربا قد كثرت جدًا

في جميع أنحاء البلاد الإسلامية منذ زمان طويل، ومع هذا فإنه لم يحصل منها قوة

اقتصادية للمسلمين فضلا عن أن يحصل بسببها قوة إسلامية يرهب منها أعداد الإسلام

ص: 60

والمسلمين، بل إن الأمر بالعكس بحيث أن المسلمين أصيبوا بالضعف والوهن حينما كثرت عندهم البنوك التي يتعامل أهلها بالربا ويستحلونه، ووقع فيهم الاستذلال لأعداء الله -تعالى- وخصوصا لما يسمى بمجلس الأمن - وهو في الحقيقة مجلس أمن للأقوياء من دول الكفر، ومجلس بضد الأمن للمستضعفين من المسلمين وغير المسلمين - وهذا مصداق ما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» هذا لفظ أبي داود، ولفظ أحمد:«لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر وتبايعتم بالعينة وتركتم الجهاد في سبيل الله ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم ثم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه وتتوبوا إلى الله» .

العينة نوع من أنواع الربا، وفي البنوك من المعاملات الربوية ما هو أعظم من العينة بكثير، وبالجملة فالتعامل بالربا شر محض، ولا يتعامل به إلا جاهل أو مكابر معاند.

الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- أخبر في كتابه أنه يمحق الربا. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل» وقد ذكرت هذا الحديث في الفائدة التاسعة من فوائد الآيات الدالة على تحريم الربا فليراجع. وما كان بهذه المثابة فإنه لا يمكن أن يحصل منه قوة اقتصادية للمسلمين، وإنما يخشى أن يكون سببا لحلول العقوبة العامة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلى بإسناد جيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وتقدم ذكره، وروى الحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وصححه الحاكم والذهبي، وتقدم ذكره أيضا.

وفي نص الآية الكريمة على محق الربا ونص الحديث على أن عاقبته تصير إلى قل أبلغ رد على الفتان الذي قد توهم أنه يحصل من الربا قوة اقتصادية للمسلمين.

الوجه الخامس: أن يقال: إن البنوك الإسلامية التي لا يتعامل أهلها بالربا قد وجدت في بعض البلاد الإسلامية وهي أكثر أرباحًا من البنوك التي يتعامل أهلها بالربا، فمنها (بنك فيصل الإسلامي) ومقره في القاهرة، وله فروع كثيرة في بعض البلاد الإسلامية، وهذا البنك لا يتعامل أهله بالربا، وإنما يأخذون الأموال من أهلها

ص: 61

على وجه المضاربة فيعملون فيها بالأعمال المباحة من بيع وشراء واستئجار وتأجير وأخذ مقاولات وغير ذلك من الأمور التي لا بأس بها، وإذا حصل لهم ربح قسموه على قدر ما يستحقه كل واحد من أهل الأموال. فهذا البنك يحصل فيه ربح كثير لأهل الأموال مع سلامتهم من أخذ الربا وإعطائه، وقد حصلت فيه أرباح كثيرة جدًا في عامي 1406هـ و1407هـ وهي مذكورة في صحيفة الجزيرة الصادرة في مدينة الرياض في يوم الأربعاء 11 ربيع الثاني عام 1408هـ عدد 5543 فليراجع المفتونون بالمعاملات الربوية في البنوك غير الإسلامية هذا العدد من صحيفة الجزيرة ليعلموا أنهم قد حرموا من أرباح كثيرة وأنهم لم يحصلوا على طائل في البنوك غير الإسلامية، مع ما حصلوا عليه من خسارة الدين وما سيحصل لهم من العذاب في البرزخ وفي الدار الآخرة إن لم يتوبوا إلى الله -تعالى- وينزعوا عن المعاملات الربوية. ومن تاب منهم توبة صادقة فإنه يُرجى له العفو عما سلف منه.

ومن البنوك الإسلامية أيضا بيت التمويل الكويتي.

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن سلامة الدين لا يعدلها شيء من الأمور الدنيوية. وعلى هذا فمن أحب أن يسلم له دينه مع حصول الأرباح الكثيرة فليجعل ماله في البنوك الإسلامية وليجتنب البنوك التي يتعامل أهلها بالربا. ولا يغتر بما يهذو به الفتان وأمثاله من المحاربين لله ورسوله.

فصل

وأما قول الفتان إن وظيفة الجهاز المصرفي في اقتصادٍ ما تشبه إلى حد كبير وظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تمامًا كالقلب الذي يتولى ضخ الدم في عروق جسم الإنسان يقوم البنك بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية لأي بلد لتعيش وتزدهر.

فجوابه أن يقال: إن تشبيه الفتان وظيفة الجهاز المصرفي بالنسبة للحياة الاقتصادية بوظيفة القلب بالنسبة لجسم الإنسان تشبيه في غاية الفساد، وبيان ذلك من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن حياة كل إنسان، بل وكل حيوان تتوقف على سلامة قلبه وقيامه بالوظيفة التي جعلها الله له من ضخ الدم في العروق. فإذا عجز القلب عن القيام بوظيفته فإن مآل صاحبه إلى الموت ولابد، وليست البنوك بهذه المثابة من صفة

القلب؛ لأن مصالح الناس واقتصاداتهم ليست متوقفة على التعامل مع أهل البنوك، ولو أن

ص: 62

البنوك أزيلت من جميع البلاد الإسلامية لما كان على المسلمين ضرر من إزالتها ولم تتعطل مصالحهم واقتصادياتهم من أجل إزالتها.

والوجه الثاني: أن يقال: إن كثيرا من المسلمين بل أكثرهم لا يتعاملون مع أهل البنوك بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالحهم واقتصادياتهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولو كان الأمر في البنوك على وفق ما زعمه الفتان لما كان يتم لهم شيء من المصالح والاقتصاديات، وبهذا يعلم بطلان ما زعمه الفتان من تشبيه وظيفة البنك بوظيفة القلب.

الوجه الثالث: أن يقال: إن المسلمين قد عاشوا أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وهم لا يعرفون البنوك، ومع هذا فإن مصالحهم واقتصادياتهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولم يكن في عدم البنوك في زمانهم أدنى شيء من المضرة لهم في مصالحهم واقتصادياتهم، وعلى هذا فهل يقول الفتان إن مصالح المسلمين واقتصادياتهم كانت متعطلة في أكثر من ثلاثة عشر قرنا لعدم البنوك التي تقوم بتسيير النقود في عروق الحياة الاقتصادية عندهم، أم ماذا يجيب به عن هذيانه الذي يتنزه عنه كل عاقل؟!

الوجه الرابع: أن يقال: إن التعامل بالربا مع أهل البنوك شبيه بداء السرطان الذي يفتك بالأبدان ويؤول بها إلى العطب. بل إن التعامل بالربا أعظم ضررًا على المرابين من ضرر السرطان على الأبدان؛ لأن السرطان إذا عظم واشتد فإنما يؤول بصاحبه إلى الموت ولا بد له منه. وفي الموت راحة لكل مؤمن. وأما الربا فإن ضرره على المُصرِّين عليه عظيم جدا، فمنه ما يكون في الدنيا، ومنه ما يكون في البرزخ بين الدنيا والآخرة. ومنه ما يكون في الدار الآخرة، فأما ضرره في الدنيا فمنه ما يتعلق بالدين، ومنه ما يتعلق بالمال، ومنه ما يتعلق بالأبدان، فأما ضرره المتعلق بالدين فبيانه من وجوه؛ أحدها: أنه من الكبائر السبع الموبقات - أي المهلكات - والكبائر لا تغفر إلا بالتوبة منها. الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه؛ واللعن هو الطرد من الله ومن الخير. الوجه الثالث: أن الله -تعالى- آذن المرابين بالحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أعظم الخطر في هذا.

وأما ضرره المتعلق بالمال فإن الله -تعالى- أخبر أنه يمحق الربا. أي يهلكه ويذهب ببركته، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل» .

ص: 63

وأما ضرره المتعلق بالأبدان فهو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه". وقد صرح غير واحد من العلماء بتكفير من استحل الربا.

وأما ضرر الربا على أهله في البرزخ فهو على ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: أن المرابين يعذبون بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم أو هو من الدم ويلقمون الحجارة. النوع الثاني: ما روي أن بطونهم تكون كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. النوع الثالث: ما روي أنهم يصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيًا فيتوطؤهم آل فرعون.

وأما ضرر الربا على أهله في الدار الآخرة فهو أنهم إذا بعثوا من قبورهم عذبوا بالجنون أو بما يشبه الجنون عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر، ثم يكون مآلهم إلى النار.

وكل ما ذكرته ههنا من ضرر الربا على أهله فقد تقدم بيانه في الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الربا وفي فوائدها فليراجع، وليتأمله المؤمن الناصح لنفسه حق التأمل، ولا يكن إمَّعة يتلاعب الفتان وأمثاله بعقله ويوردونه موارد العطب والهلاك.

فصل

وأما قول الفتان: لكن هناك من يحاول تعطيل هذا الجهاز عن القيام بوظيفته خوفا من أن أعماله مشوبة بالربا الذي ورد تحريمه في القرآن الكريم.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة مبنى على المغالطة والتلبيس على الذي لا يعلمون أن الربا هو الزيادة التي يدفعها أهل البنوك لأهل الأموال مقابل انتفاعهم بأموالهم ويسمونها بالفائدة، وهي في الحقيقة عين الربا الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع المسلمون على تحريمه.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد حاول في هذه الجملة أن يدافع عن أهل البنوك وينزه أعمالهم عن الربا، ولهذا عبر بالخوف من أن تكون أعمال البنوك مشوبة بالربا. وهذا خطأ ظاهر ومراوغة عن بيان الحقيقة التي يعرفها كل عاقل، وهي أن المعاملات الربوية هي السائدة في البنوك وهي الركن الأعظم فيها، وعلى هذا فإن كلام الفتان في هذه الجملة مردود عليه ومضروب به عرض الحائط.

ص: 64

الوجه الثالث: أن يقال: إن الذين يحاولون تعطيل الجهاز الربوي في البنوك لم تكن محاولتهم مبينة على الخوف من أن تكون أعمال أهل البنوك مشوبة بالربا وإنما هي مبنية على اليقين من وجود الربا في جميع البنوك سوى البنوك الإسلامية وهم في هذه المحاولة قد أحسنوا غاية الإحسان لأنهم فعلوا ما أمروا به من النهي عن المنكر والسعي في إزالته.

فصل

وأما قول الفتان: كيف ينظر فقهاء المسلمين إلى الظاهرة الاقتصادية للفائدة؟ ولماذا يعتبر القرض بفائدة محرما في نظرهم؟

فجوابه: أن يقال: ما سماه الفتان بالظاهرة الاقتصادية للفائدة فمعناه ما يتعامل به بعض الناس مع أهل البنوك من المعاملات الربوية، وذلك أنهم يدفعون إليهم أموالهم ويمنحونهم الانتفاع بها بنسبة معلومة في المائة في كل عام. وهذه النسبة هي التي يسمونها الفائدة وهي عين الربا وهي شبيهة بربا أهل الجاهلية. وقد تقدم بيان ذلك في أول الكلام على المقدمة الثالثة من مقدمات الفتان فليراجع.

وأما قوله: لماذا يعتبر القرض بفائدة محرمًا في نظرهم؟

فجوابه: أن يقال: إنما يعتبر القرض بفائدة محرما لأنه ربا والربا من الكبائر السبع الموبقات - أي المهلكات - وقد تقدم النص على ذلك في حديث أبي هريرة المتفق على صحته، وقد قال أبو بكر الجصاص في (أحكام القرآن):"الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض هذا كان المتعارف المشهور بينهم". وقال أيضا: "من الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض" انتهى. وتعريفه للربا عند أهل الجاهلية مطابق لما يفعله أهل البنوك من الإقراض والاستقراض بما يسمونه الفائدة وهي عين الربا الذي كان يعمل به في الجاهلية.

والدليل على أن القرض بفائدة من الربا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري وتقدم ذكره.

ص: 65

وعن عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وتقدم ذلك أيضا.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء» متفق عليه وتقدم ذكره أيضا.

وتقدم أيضا عن عليٍّ وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما» .

وقد جاء عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا في القرض الذي يجر منفعة أنه ربا، فمن ذلك ما رواه البخاري والبيهقي واللفظ للبخاري عن سعيد بن أبي برده عن أبيه أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال له:"إنك في أرض الربا بها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قتٍّ فإنه ربا" وقد رواه عبد الرزاق في مصنفه مختصرا. وبوَّب البيهقي عليه وعلى عدة آثار في معناه بقوله: "باب كل قرض جر منفعة فهو ربا".

وروى البخاري والبيهقي أيضا واللفظ للبيهقي عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال له: "إنك في أرض الربا فيها فاش، وإن من أبواب الربا أن أحدكم يقرض القرض إلى أجل فإذا بلغ أتاه به وبِسلَّة فيها هدية، فاتَّق تلك السلة وما فيها".

وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن زر بن حبيش قال أتيت أُبيَّ بن كعب فقلت: إني أريد العراق أجاهد فقال لي: "إنك تأتي أرضا فاشيا بها الربا، فإذا أقرضت رجلا قرضا فأهدي لك هدية فخذ قرضك واردد إليه هديته".

وروى ابن أبي شيبة أيضا عن زيد بن أبي أنيسة أن عليًا رضي الله عنه سُئل عن الرجل يقرض الرجل القرض ويهدي إليه قال: "ذلك الربا العجلان".

وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن سيرين قال: أقرض رجل رجلا خمسمائة درهم واشترط عليه ظهر فرسه، فقال ابن مسعود رضي الله عنه:"ما أصاب من ظهر فرسه فهو ربا" وفي رواية للبيهقي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سُئل عن رجل استقرض من رجل دراهم، ثم إن المستقرض أفقر المقرض ظهر دابته فقال عبد الله:"ما أصاب من ظهر دابته فهو ربا" قال البيهقي: قال أبو عبيد: "يذهب إلى أنه قرض جرَّ منفعة".

ص: 66

وفي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول: "من أسلف سلفا فلا يشترط أفضل منه وإن كانت قبضة من علف فهو ربا".

وفي الموطأ أيضا عن مالك أنه بلغه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا واشترطت عليه أفضل مما أسلفته فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "فذلك الربا" وقد رواه عبد الرزاق والبيهقي من طريق مالك.

وروى البيهقي أيضا عن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا".

وروى ابن أبي شيبة عن إبراهيم أنه قال: "كل قرض جر منفعة فهو ربا" إبراهيم هو النخعي وهو من فقهاء التابعين.

وفيما ذكرته من الأحاديث والآثار أبلغ رد على من يستحل الربا في القرض ويسميه فائدة.

فصل

وقد ذكر الفتان قول الله -تعالى-: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ثم قال ما نصه: "وذلك لأن هؤلاء قد استعجلوا الأرباح فأتوها من غير طريق التجارة وهو طريق استغلال ظروف المحتاجين للصدقة الذين قلَّ ما يستطيعون وفاء ديونهم وما تراكم عليها من ربا للمرابين، ولذلك فإن هذه المغامرة في استغلال حاجة غير القادر ومضاعفة الربا عليه كلما حل الأجل وعجز عن الوفاء تجعل من هؤلاء المستغلين عند عجز المدين عن الوفاء كالذي يتخبطه الشيطان من المس؛ لأنه قد فقد رأس ماله إلى جانب فقده لأرباحه الاستغلالية بعد أن انتظر هذه الأضعاف المضاعفة بفارغ الصبر. وقد جرى كثير من المفسرين على أن القيام في هذه الآية هو القيام للبعث ولكن لم لا يكون المراد القيام في الدنيا والقيام للبعث والحساب".

والجواب: أن يقال: إن تفسير الفتان لقول الله -تعالى-: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} تفسير غريب جدًا. وقد جمع فيه بين القول في القرآن بغير علم وبين المخالفة لإجماع المفسرين على أن المعنى في الآية لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون.

ص: 67

فأما القول في القرآن بغير علم فهو حرام وكبيرة من الكبائر بدليل ما جاء من الوعيد الشديد عليه، وذلك فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية للترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، قال البغوي: قال شيخنا (1) الإمام: "قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قِبل نفسه شيئا من غير علم". انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من فسَّر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفترٍ على الله ملحد في آيات الله محرِّف للكلم عن مواضعه". انتهى.

وأما إجماع المفسرين على أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون فقد ذكره ابن جزي في تفسيره، وقال ابن عطية في تفسيره: "إن هذا التأويل مجمع عليه

قال: ويقويه أن في قراءة عبد الله بن مسعود لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم". وقال الماوردي في تفسيره: "يكون ذلك في القيامة علامة لآكل الربا في الدنيا".

وقال النسفي: "المعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف"، وروي ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"ذلك حين يبعث من قبره"، وقال ابن عطية في تفسيره:"قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وابن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي وابن زيد، معنى قوله: (لا يقومون) من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم يجعل معه شيطان يخنقه، وقالوا: كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر". انتهى.

وقد ذكرت هذه الأقوال في الفائدة الرابعة من فوائد الآيات الدالة على تحريم الربا، وإنما أعدتُ ذكرها في هذا الموضع تنبيها على جراءة الفتان على القول في القرآن بغير علم وجراءته على مخالفة أهل العلم من الصحابة والتابعين.

وأما قوله: وقد جرى كثير من المفسرين على أن القيام في هذه الآية هو القيام .....

(1) هو القاضي حسين بن محمد. تراجع الحاشية في ص9.

ص: 68

للبعث، ولكن لم لا يكون المراد القيام في الدنيا والقيام للبعث والحساب.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: قد تقدم ذكر الإجماع من المفسرين على أن المراد بالقيام المذكور في الآية هو القيام من القبور يوم القيامة وما خالف الإجماع فهو مطرح ومردود على قائله.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد أخطأ في تعبيره حيث نسب القول الذي قد أجمع عليه المفسرون إلى كثير منهم ولم يذكر أنهم قد أجمعوا عليه، وهذا من عدم الأمانة في النقل.

الوجه الثالث: أن يقال: إن الفتان قد تعرض للوعيد الشديد حيث قال في القرآن برأيه وذلك في قوله: "ولكن لم لا يكون المراد القيام في الدنيا والقيام للبعث والحساب" وكان ينبغي له أن يقتصر على ما جاء عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم لأن كلا منهما حبر من أحبار هذه الأمة وترجمان للقرآن.

فأما ابن مسعود رضي الله عنه فقد روي ابن أبي حاتم عنه أنه كان يقرأ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ يَومَ القيامَةِ} .

وأما ابن عباس رضي الله عنهما فقد روى ابن جرير عنه أنه قرأ {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} قال: ذلك حين يبعث من قبره، وقد قال بهذا القول جمع من التابعين وتقدم ذكر ذلك عنهم. وتقدم أيضا ذكر الإجماع عليه.

وفي قراءة ابن مسعود وقول ابن عباس أبلغ رد على الفتَّان وعلى غيره من المتكلفين الذين يقولون في القرآن بآرائهم ويتأولونه على غير تأويله.

الوجه الرابع: أن يقال: لو كان القيام المذكور في الآية يراد به القيام في الدنيا كما يراد به القيام للبعث لكان أهل البنوك ومن يعاملهم بالمعاملات الربوية مجانين يخنقون أو كالمجانين الذين يتخبطهم الشيطان من المس، والواقع شاهد بسلامة أبدانهم من التعذيب بهذا في الدنيا، ولكنه مُدَّخر لهم في الدار الآخرة حين يبعثون من قبورهم عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر.

ص: 69

فصل

وقال الفتان: "يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده، قال ابن عطية في تفسيره المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة قد جُنَّ، ثم قال أقوال: وهذا هو المتبادر ولكن ذهب جمهور المفسرين إلى خلافه وقالوا إن المراد بالقيام القيام من القبر عند البعث وأن الله -تعالى- جعل من علامة الذين يأكلون الربا يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين. ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، وبعد أن وهَّن هذا الرأي من جهة ضعف نقله قال: أما ما قاله ابن عطية فهو ظاهر في نفسه، فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضريت نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصودا لذاته وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، ويظهر ذلك في حركاتهم. وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس، فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم، وكخبط العشواء، وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطية وما قاله الجمهور، ويمضي الشيخ محمد عبده قائلا: ذلك أنه إذا كان ما شنع به على المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف هو أثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لابد أن يبعثوا عليه فإن المرء يبعث على ما مات عليه لأنه يموت على ما عاش عليه".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن هذا الكلام الذي ساقه الفتان ونسبه لمحمد عبده ليس هو من كلام محمد عبده وإنما هو من كلام رشيد رضا في تفسيره المسمى (تفسير المنار) وكان ينبغي للفتان أن ينسبه لقائله، وقد كان رشيد رضا يعتمد في بعض المواضع من تفسيره على كلام أستاذه محمد عبده، وكان ينسب إليه الكلام الذي ينقله عنه فيقول قال الأستاذ الإمام كذا وكذا. وفي هذا الموضع الذي نقل منه الفتان ما نقل لم ينسبه رشيد رضا إلى محمد عبده فدلَّ على أنه من كلام رشيد رضا وليس من كلام محمد عبده، وقد حصل في نقل الفتان إسقاط لبعض الكلمات الموجودة في كلام رشيد رضا وهي كلمات قليلة ولكن حذفها يخل بالمعنى فلهذا ألحقتها في مواضعها لتستقيم العبارة.

الوجه الثاني: أن أقول: قد ذكرت في الفصل الذي قبل هذا الفصل ما ذكره ابن عطية في تفسيره عن ابن عباس وجماعة من التابعين أنهم قالوا: "معنى قوله: {لَا يَقُومُونَ} من قبورهم في البعث يوم القيامة، قال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه، ...................

ص: 70

وقالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند جمع المحشر، قال ويقوى هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة عبد الله بن مسعود {لَا يَقُومُونَ يوم القيامة إِلَّا كَمَا يَقُومُ} " هذا كلام ابن عطية وهو موافق لأقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين في معنى الآية الكريمة، ثم إن ابن عطية أبدى في ألفاظ الآية احتمالا مخالفا لما أجمع عليه المفسرون فقال ما نصه: "وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون؛ لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه مخلط في هيئة حركاته إما من فزع أو غيره قد جُن هذا، لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود، وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل". انتهى كلام ابن عطية. وبما صرح به من تضعيف هذا الاحتمال يظهر ما في كلام رشيد رضا من التعمية والتلبيس، وذلك أنه غير كلام ابن عطية وساقه بلفظ غير اللفظ الموجود في تفسير ابن عطية، وإنما فعل هذا لِتَتَّفِق عبارته مع ما نمَّقه من الكلام الذي خالف فيه أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين في معنى الآية الكريمة، وحاصل كلامه يدور على القول في معنى الآية بالرأي واطراح الأقوال المأثورة عن السلف.

الوجه الثالث: أن يقال: إن رشيد رضا لم يؤد الأمانة في نقله كلام ابن عطية؛ لأنه غيَّر أسلوبه وساقه على سبيل الجزم بأن المراد تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع وهذا مخالف لمقتضى كلام ابن عطية؛ لأن ابن عطية إنما ذكره احتمالا ولم يذكره على سبيل الجزم بأنه المراد، ثم إن رشيد رضا لم يذكر أن ابن عطية تعقب الاحتمال الذي أبداه في ألفاظ الآية بالتضعيف. وهذا من التعمية على من لا علم عندهم وإيهامهم أن ابن عطية قد اعتمد على الاحتمال الذي أبداه في ألفاظ الآية الكريمة ورضي به.

الوجه الرابع: أن يقال: إنه لا حقيقة لما ذكره رشيد رضا عن المرابين من خروج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس وأن ذلك يظهر في حركاتهم، وأن حركاتهم خارجة عن النظام المألوف، وما ذكره أيضا من اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم، فكل هذا لا وجود له في المرابين، والواقع شاهد بأنه ليس في أحوالهم وأبدانهم ما يتميزون به عن غيرهم من الناس، وشاهد بأن أبدانهم سالمة من كل ما وصفهم به رشيد رضا، ومن توقف في هذا فليدخل البنوك ولينظر إلى أهلها وإلى من يعاملهم بالمعاملات الربوية حتى يعلم يقينا أنه لا وجود لشيء مما وصفهم به رشيد رضا.

ص: 71

الوجه الخامس: أن يقال: إن كلام رشيد رضا مبني على أمرين خطيرين؛ أحدهما تأويل الآية بالرأي وتجريدها مما ذكر فيها من الوعيد للمرابين إذا بعثوا يوم القيامة بالجنون أو بما يشبه الجنون. وذلك أنه ذكر عن الذين فتنهم المال واستعبدهم أن نفوسهم تخرج عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس وأن ذلك يظهر في حركاتهم، وأنه إذا كان ما شنَّع به على المرابين من خرج حركاتهم عن النظام المألوف وأثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لابد أن يبعثوا عليه فإن المرء يبعث على ما مات عليه لأنه يموت على ما عاش عليه. هذا كلامه، وهو ظاهر في نفي الوعيد عن المرابين إذا بعثوا يوم القيامة بالجنون أو بما يشبه الجنون وأنهم إنما يبعثون على ما عاشوا عليه من خروج حركاتهم عن النظام المألوف وأثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم، وحاصل كلامه أن المرابين يكونون بعد البعث على الحال التي كانوا عليها في الدنيا. وهذا من تحكيم الرأي في معنى الآية وإنكار ما جاء فيها من الوعيد للمرابين. وما أشد الخطر في هذا. وقد قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن مندة:"التأويل عند أصحاب الحديث نوع من التكذيب".

الأمر الثاني مخالفة إجماع المفسرين على أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون، وقد تقدم ذكر هذا الإجماع في كلام ابن جزي وابن عطية. ومخالفة الإجماع ليس بالأمر الهين. وإنه لينطبق على رشيد رضا ما ذكره محمود شلتوت في كلامه الذي تقدم ذكره قريبا عن بعض الباحثين المولعين بتصحيح التصرفات الحديثة أنهم إنما يفعلون ذلك ليعرفوا بالتجديد وعمق التفكير.

وقال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه المسمى بـ (المسائل الكافية): "إن الذي تخرجوا على الشيخ جمال الدين الأفغاني والذين تخرجوا عمن تخرج عنه يفسرون القرآن برأيهم وينكرون بعض ما ثبت في الشرع ويعتمدون على أقوال الكفار، ويهجرون قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وقول الراسخين في العلم من المسلمين. وعندهم كلام الله -تعالى- ككلام البشر يتصرفون فيه بغير علم فيحق عليهم الوعيد الوارد في حديث سيد البشر صلى الله عليه وسلم وهو: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث صحيح، وروى الترمذي وغيره: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» حديث حسن".

وقال الشيخ محمد بن يوسف أيضا في كتابه المذكور: "إن الشيخ محمد عبده وأتباعه تكلموا في تفسير كلام الله على الأسلوب الجديد المخترع المؤيد بالتخمين العقلي وبالآلات الكشافة". انتهى.

ص: 72

فهذا كلام رجل عالم بمحمد عبده ورشيد رضا وغيره من أتباع محمد عبده، وقد كان الشيخ محمد بن يوسف معاصرًا لهم وقد عاش معهم في بلادهم وعرفهم حق المعرفة فلهذا نبَّه على أسلوبهم في تفسير القرآن وأنهم يفسرونه برأيهم وتخمينهم. ومن نظر في تفسيرهم لبعض الآيات - وكان نبيهًا ولم يكون إمَّعة - علم يقينا صحة ما قاله فيهم محمد بن يوسف وما وصفهم به، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من أقوالهم التي اعتمدوا فيها على مجرد الرأي، ومن أقوالهم التي خالفوا فيها أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم الأئمة المتمسكين بالآثار.

الوجه السادس: أن يقال لأهل البنوك وغيرهم من أكلة الربا: لا تغتروا بحلم الله عنكم في الدنيا، ولا يغرنكم الفتان بجعجعته وبما نقله عن رشيد رضا من الكلام المتضمن تهوين شأن الربا ونفي ما جاء فيه من الوعيد بالجنون أو بما يشبه الجنون للذين يأكلون الربا إذا بعثوا من قبورهم فإن هذا الوعيد حق لا شك فيه. وأما كلام الفتان ورشيد رضا في تهوين شأن الربا فهو باطل وضلال عن الحق، وكيف يرضى ذوو العقول منكم أن يوقعوا أنفسهم في الكبيرة الموبقة، أي المهلكة لمن أوقع نفسه فيها؟! وكيف يرضون أن تلحقهم لعنة الله ولعنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يأمنون من العقوبات التي أعدت للمرابين في البرزخ وبعد البعث من القبور؟! وكيف يرضون أن يكون مآلهم إلى نار جنهم؟! إن العاقل لا يرضى لنفسه بأدنى شيء من الأذى، فكيف يرضى لها بالعقوبات الشديدة وبالخلود في نار جهنم؟! فعليكم أن تبادروا بالتوبة الصادقة قبل أن يحول الموت بينكم وبينها فتندموا حين لا ينفع الندم.

فصل

وقال الفتان: "لم يرد تعيين الأموال الربوية في القرآن الكريم، وإنما ورد تعيينها في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه محمد بن أبي حنيفة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدًا بيد والفضل ربا، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، والتمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» ".

ص: 73

والجواب: أن يقال: قد ثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين ستة أشياء مما يجري فيه الربا؛ وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، وقد تقدم ذكرها في حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومثله في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وجاء أيضا عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وبلال رضي الله عنهم نحو ذلك، وقد تقدمت أحاديثهم فلتراجع.

فأما الحديث الذي أورده الفتان فإنه حديث منقطع الإسناد ولم يعزه إلى شيء من كتب الحديث حتى يرجع إليه وينظر في رجاله، وقد ذكر أنه رواه محمد بن أبي حنيفة، وهذا الاسم غير موجود في أسماء الضعفاء والمتروكين والوضاعين فضلا عن أن يكون موجودا في أسماء الثقات. وقد ذكر الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد):"محمد بن حنيفة بن محمد بن ماهان أبا حنيفة القصبي الواسطي وذكر أنه أملى في سنة سبع وتسعين ومائتين"، وذكر عن الدارقطني أنه قال:"ليس بالقوي". وذكره الذهبي في كتاب (المغنى في الضعفاء) وفي (ميزان الاعتدال) وذكر قول الدارقطني أنه ليس بالقوي. وذكره ابن حجر في (لسان الميزان) وقال أنه كان موجودا في حدود سنة ثلاثمائة.

وإذا علم هذا فليس من المعقول أن يروي عن عطية العوفي؛ لأن عطية كان في المائة الأولى ومات في سنة إحدى عشرة ومائة. ولو فرضنا أن الحديث روي بإسناد متصل إلى عطية العوفي فإنه يكون مردودا بعطية؛ لأن الأئمة قد تكلموا فيه وضعفه غير واحد منهم، ولو صح لكان حجة على الفتان لأن فيه نصا على أن الفضل في بيع الجنس بجنسه من الأنواع الستة ربا، وما ثبت تعيينه في السنة فهو مثل ما جاء تعيينه في القرآن ويجب العمل به كما يجب العمل بما جاء في القرآن. والدليل على هذا قول الله -تعالى-:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله» رواه الدارمي والترمذي وابن ماجة والحاكم عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه وقال الترمذي:"حسن غريب"، وصححه الحاكم وأقره الذهبي.

فصل

وذكر الفتان عن ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة أنهم قصروا الربا على الذي كان معروفا في زمن الجاهلية. وقد كرر الفتان نقل ذلك عن ابن عباس.

ص: 74

والجواب: أن يقال: إن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الذين كانوا يقولون إنما الربا في النسيئة قد رجعوا عن أقوالهم ووافقوا الجماعة، وقد ذكرت الآثار الواردة في رجوعهم في أثناء الكتاب فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على الفتان.

ويقال أيضا على سبيل الفرض والتقدير لو أن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ممن قالوا إنما الربا في النسيئة لم يرجعوا عن هذا القول فإن قولهم مردود بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، ونهى أن يشف بعضها على بعض، وقال في بيع الفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثل ذلك وقال:«من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في أثناء الكتاب فلتراجع (2) فإنها حجة على من خالفها، وقد قال ابن عبد البر:"رجع ابن عباس أو لم يرجع، في السنة كفاية عن قول كل أحد ومن خالفها رد إليها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا الجهالات إلى السنة". انتهى. وقال ابن عبد البر أيضا: "ولم يتابع ابن عباس على قوله في تأويله حديث أسامة أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها، وليس أحد بحجة عليها". انتهى.

فصل

وزعم الفتان أن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن.

والجواب: أن يقال: إن نصوص القرآن عامة فيدخل في عمومها ربا الفضل وربا النسيئة. فما جاء في الآية الأولى من الوعيد لأكلة الربا بأنهم لا يقومون - يعني يوم القيامة - إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء فيها أيضا من الإنكار على من سوَّى بين البيع والربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء فيها أيضا من النص على تحريم الربا فهو عام لربا .............................

(1) ص 47 - 53.

(2)

ص29 - 39.

ص: 75

الفضل وربا النسيئة. وما جاء فيها أيضا من الوعيد بالنار لمن عاد إلى استحلال الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة. وما جاء في الآية الثانية من النص على محق الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة. وما جاء في الآية الرابعة من الأمر بترك الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء في الآية الخامسة من الإيذان بالحرب من الله ورسوله لمن لم يترك الربا فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة، وما جاء فيها أيضا من أن المرابين ليس لهم إلا رؤوس أموالهم وليس لهم أن يأخذوا زيادة عليها فهو عام لربا الفضل وربا النسيئة.

فإن قيل: إن بعض المفسرين ذكروا في الكلام على قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} أنها نزلت في ربا أهل الجاهلية وهو النسيئة وذكروا مثل ذلك في الكلام على قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} .

فالجواب: أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين. فاللفظ في كل من الآيتين عام كما هو عام في الآيتين الأوليين من سورة البقرة. والعموم في الآيات الأربع بتناول ربا أهل الجاهلية وربا أهل الإسلام على حد سواء، وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل وربا النسيئة على حد سواء. وقد تقدم بيان ذلك في الروايات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وما ذكر بعدها من الأحاديث. وفي بعضها النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى، والنص أيضا على أن الآخذ والمعطي فيه سواء، وفي رواية في الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن بلالا لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب قال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:«أَوَّه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية: «هذا الربا فردوه» والروايات بنحو هذا كثيرة، وهي مذكورة فيما تقدم. وقد قال الله -تعالى-:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وقال -تعالى-:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} ، وقال -تعالى-:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ففي الآيتين من سورة النحل دليل على أن ما جاء في السنة من النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة فهو من البيان لما جاء مجملا في القرآن. وفي الآيتين من سورة النجم دليل على أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة فهو مما أنزل عليه بالوحي.

ص: 76

فصل

وذكر الفتان أن فريقا من الفقهاء وعلى رأسهم ابن رشد وابن القيم حاولوا أن يكسروا من حدة تطرف المتشددين في الربا، فميزوا بين ربا النسيئة وجعلوه هو الربا الجلي أو الربا القطعي وهو حرام لذاته وبين ربا الفضل وجعلوه ربا خفيا أو ربا غير قطعي وهو حرام أيضا لكن لا لذاته بل لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة فتحريمه هو إذا من باب سد الذرائع. ثم تأكد هذا الاتجاه باتجاه أكثر منه تضييقًا لمنطقة الربا فجعل كلا من ربا الفضل وربا النسيئة الواردين في الحديث الشريف محرمين لا لذاتهما بل سدا للذرائع، وربا الجاهلية هو وحده المحرم لذاته.

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الذين قالوا بتحريم ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة المذكورة في حديث أبي سعيد الخدري وحديث عبادة بن الصامت وغيرهما من الأحاديث التي تقدم ذكرها إنما قالوا ذلك عملا بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهؤلاء قد أحسنوا غاية الإحسان حيث أنهم قد تمسكوا بالسنة وقابلوا أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، وليسوا بمتطرفين ولا متشددين كما قد زعم ذلك الفتان ظلما وزورا، وإنما المتطرف في لحقيقة هو الفتان الذي يحاول تحليل الربا في البنوك ولا يبالي بمخالفة الآيات والأحاديث الواردة في تحريمه وترتيب الوعيد الشديد عليه، ولا يبالي أيضا بمخالفة إجماع المسلمين على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر.

الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم في ذكر الإجماع على تحريم الربا ما جاء في جامع الترمذي بعد ذكر حديث أبي سعيد الخدري الذي جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل لا يشف بعضه على بعض، ولا تبيعوا منه غائبا بناجز» قال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق". انتهى.

وقال ابن المنذر: "أجمع علماء الأمصار؛ مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر، والشافعي وأصحابه، وأحمد وإسحاق ........

ص: 77

وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد، على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة يكثر عددهم من التابعين".

قال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "وممن قال بذلك من الصحابة أربعة عشر؛ منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وطلحة والزبير - روى مجاهد عنهم - أي الأربعة عشر - أنهم قالوا: الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربوا الفضل، وممن صح ذلك عنه أيضا غير هؤلاء السبعة عبد الله بن عمر وأبو الدرداء. وروي عن فضالة بن عبيد وقد تقدم كلام أبي سعيد وأبي أسيد وعبادة، وقد رويت أحاديث تحريم ربا الفضل من جهة غيرهم من الصحابة، والظاهر أنهم قائلون بها لعدم قبولها للتأويل". انتهى.

وقال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنا ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه". انتهى المقصود من كلامه.

وإذا علم ما تقدم ذكره عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أكابر علماء الأمصار أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ. وعلم أيضا ما ذكره السبكي عن الأربعة عشر من الصحابة رضي الله عنهم ومنه الخلفاء الأربعة أنهم قالوا الذهب بالذهب والفضة بالفضة وأربوا الفضل، وعلم أيضا ما ذكره ابن عبد البر عن أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنا ولا الدراهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه. فهل يقول الفتان أن من قال بهذه الأقوال من الصحابة والتابعين وأكابر العلماء بعدهم فكلهم موصوفون بالتطرف والتشدد؟! أم ماذا يجيب به عن تهوره في كلامه الذي لم يتثبت فيه ولم يتأمل فيما يترتب عليه من القدح في الصحابة والتابعين وأكابر العلماء بعدهم ورميهم بالتطرف والتشدد من أجل أنهم تمسكوا بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ربا الفضل وقابلوها بالقبول والتسليم؟!

وقد يقال إن صفة التطرف والتشدد التي أطلقها الفتان على من حرَّم ربا الفضل لذاته قد تتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي حرم ربا الفضل في الأصناف الستة وغلَّظ ......

ص: 78

القول في تحريمه ونصَّ على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، وقال لمن باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب:«أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» ففي هذه الروايات الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلَّظ القول في ربا الفضل وجعله مُحرَّما لذاته وأنكر على من باع به وأمره برد البيع.

وإذا علم هذا فهل يستجيز الفتان أن يطلق الصفة السيئة على النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ما جاء عنه من التغليظ في ربا الفضل والإنكار على من باع به؟! أم ماذا يجيب به عن التهور الذي لو صدر من عالم بما يلزم على كلامه وما يترتب عليه لكان يحكم عليه بالردة وتجرى عليه أحكام المرتدين؟! وإنه لينطبق على الفتان قول الشاعر:

لقد كان في الإعراض ستر جهالة

غدوت بها من أشهر الناس في البُلْدِ

الوجه الثالث: أن يقال: قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم ربا الفضل، وقد ذكرت منها قريبا من ثلاثين حديثا فلتراجع (1). وقد جاء في بضعها النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، وفيها النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، وفي صحيح مسلم أن رجلا باع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر طيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا الربا فرده» وفي الصحيحين وغيرهما أن بلالا باع صاعين من تمر رديء بصاع من تمر طيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «إن هذا لا يصلح» ففي هذا النصوص أوضح دليل على أن ربا الفضل في الأصناف الستة محرم لذاته وأنه من الربا الجلي القطعي وليس من الربا الخفي، قال النووي في (شرح مسلم):"معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم". انتهى، وفي هذه النصوص أيضا أبلغ رد على من قال إن ربا الفضل غير قطعي وإنه من الربا الخفي وإنه لم يحرم لذاته وإنما حرم سدا للذريعة إلى ربا النسيئة.

الوجه الرابع: أن يقال: إن الفتان قد تقول على ابن رشد حيث زعم أنه كان من الذين حاولوا أن يكسروا من حدة التطرف والتشدد في الربا، وقد نقل جملة من كلامه في (بداية المجتهد) وهو ما زعم أنه يكسر من حدة التطرف والتشدد في الربا وأعرض ........

(1) ص 29 - 39.

ص: 79

عما بعده من كلامه الذي ذكر فيه إجماع العلماء على أن الربا صنفان نسيئة وتفاضل وأن الربا في هذين النوعين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الجملة تنقض على الفتان ما تقوَّله على ابن رشد أنه قد حاول الكسر من حدة التطرف والتشدد في الربا. وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر الجملة التي نقلها الفتان وذكر الجملة التي لم ينقلها ليعلم المُطَّلعون على ذلك أن الفتان قد افترى على ابن رشد ولم يؤدِّ الأمانة في نقله لبعض كلامه وإعراضه عن بعضه.

وأما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فله في ربا الفضل كلام ليس بالجيد وسيأتي التنبيه عليه -إن شاء الله تعالى-.

وأما الاتجاه الذي ذكره الفتان وزعم أنه أكثر تضييقا لمنطقة الربا حيث أنه جعل كلاً من ربا الفضل وربا النسيئة الواردين في الحديث الشريف محرمين لا لذاتهما بل سدا للذرائع. وربا الجاهلية هو وحد المحرم لذاته.

فجوابه: أن يقال: هذا من التحكم في الأحاديث ووضعها على غير مواضعها وجعل الآراء والاتجاهات التي يراها بعض الناس بعقولهم القاصرة ميزانا توزن به أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الصنيع عظيم الخطر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} ، وقال -تعالى-:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقال -تعالى-:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد:"أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أنه يجب على كل مسلم أن يعظم أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم غاية التعظيم وأن يقابلها بالقبول والتسليم. وليحذر أشد الحذر من التهاون بها وجعلها تابعة لأقوال الناس وآرائهم واتجاهاتهم فإنه لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكل قول أو رأي أو اتجاه خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه كائنا من كان. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع ربا الجاهلية وقال للمرابين لكم رؤوس أموالكم فإنه أيضا قد نهى أمته عن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة وهي الذهب .........................................

ص: 80

والفضة والبر والشعير والتمر والملح ونص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، ونهى عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق إلا وزنًا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، وقال:«لا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وغلَّظ في الإنكار على من باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب وقال: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «إن هذا لا يصلح» فهذه النصوص الصريحة تعادل النصوص في وضع ربا الجاهلية وتزيد عليها بالتغليظ في الإنكار على من أربى في بيع التمر الرديء بالتمر الطيب والأمر برد البيع. وفي كل نص من هذه النصوص أبلغ رد على الاتجاه الذي ذكره الفتان وزعم أن فيه تضييقًا لمنطقة الربا. وقد ذكرتُ فيما تقدم قريبا من ثلاثين حديثا في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة فلتراجع (1) ففي كل حديث منها أبلغ رد على الاتجاه الذي ذكره الفتان وزعم أن فيه تضييقا لمنطقة الربا.

فصل

قال الفتان: "فنحن إذًا نواجه- إذا أضفنا اتجاه ابن عباس- اتجاهات ثلاثة متدرجة في التضييق من منطقة الربا. أقلها تضييقا لهذه المنطقة هو اتجاه ابن رشد وابن القيم الذي يميز ما بين ربا الفضل وربا النسيئة. فالأول هو ربا خفي، والثاني هو الربا الجلي، ثم يتلوه في التضييق الاتجاه الثاني وهو الذي يميز ما بين الربا الوارد في الحديث الشريف والربا الوارد في القرآن الكريم، فالثاني دون الأول هو الربا الجلي، وأشد الاتجاهات تضييقا لمنطقة الربا هو الاتجاه الثالث الذي كان عبد الله بن عباس يتزعمه وهو لا يعتمد إلا بالربا الوارد في القرآن الكريم وهو ربا الجاهلية فهو وحده الذي يحرمه ولا يحرم غيره من ضروب الربا فضلا كان أو نسيئة".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: كل هذه الاتجاهات مردودة بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى عن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة وهي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. وقد ذكرتُ الأحاديث الواردة في ذلك في أول الكتاب فلتراجع (2). وقد جاء في بعضها النص على ...........................

(1) ص 29 - 39.

(2)

ص29 - 39.

ص: 81

أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء، وجاء في بعضها الأمر برد البيع والتغليظ في الإنكار على من أربى في بيع التمر الرديء بالتمر الطيب. ولا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن عارض شيئا من أقواله صلى الله عليه وسلم بآراء الناس واتجاهاتهم فهو على شفا هلكة.

الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن رشد ليس له اتجاه يخالف ما جاء في الأحاديث الصحيحة وما أجمع عليه العلماء من أن الربا صنفان نسيئة وتفاضل وأن الربا في هذين النوعين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي نص كلامه في الفصل الذي بعد هذا الفصل -إن شاء الله تعالى-.

الوجه الثالث: أن يقال: قد تقدم في الفصل الذي قبل هذا الفصل ذكر النصوص الدالة على أن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة من الربا الجلي وليس من الربا الخفي فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على الفتان.

الوجه الرابع: أن يقال: ما ذكره الفتان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يُحرِّم إلا ربا أهل الجاهلية وحده ولا يحرم غيره من ضروب الربا فضلا كان أو نسيئة فهو غلط على ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم يحصر الربا في ربا أهل الجاهلية كما زعم ذلك الفتان، وإنما كان في أول أمره يفتي بجواز المفاضلة في الصرف إذا كان يدًا بيد ولا يرى الجواز إذا كان ذلك نسيئة، وكان يستدل لرأيه هذا بالحديث الذي جاء فيه:«إنما الربا في النسيئة» حتى أنكر عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وقال له: "ألا تتقي الله؟! إلى متى تؤكل الناس الربا". وفي رواية أنه قال له: "أكلت الربا وأطعمته"، وأنكر عليه أيضا أبو أسيد الساعدي وأغلظ له القول فرجع عن قوله في الصرف ووافق ما عليه الجماعة واستغفر الله وتاب إليه مما كان يفتي به، ثم كان بعد ذلك ينهى عنه أشد النهي، وقد ذكرت الآثار الدالة على رجوعه عن رأيه في الصرف وموافقته الجماعة في الفصل الذي بعد ذكر الإجماع على تحريم الربا فلتراجع (2) ففيها أبلغ رد على الفتان الذي قد تعلق برأي ابن عباس الذي قد رجع عنه واستغفر الله وتاب إليه منه.

الوجه الخامس: أن يقال: إنه لم يأت في القرآن نص يدل على أن ربا أهل الجاهلية ..

(1) ص79.

(2)

ص 47 - 5.

ص: 82

هو الذي ورد تحريمه في القرآن دون غيره من ربا الفضل والنسيئة، وإنما جاءت النصوص في القرآن على وجه العموم فيدخل في عمومها ربا أهل الجاهلية وربا أهل الإسلام فضلا كان أو نسيئة، وقد تقدم بيان هذا في الجواب عن قول الفتان إن الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن فليراجع ما تقدم (1).

فصل

قال الفتان: الإتجاه الذي يميز ما بين ربا النسيئة الجلي وربا الفضل الربا الخفي يقول ابن رشد في بداية المجتهد: "واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين، في البيع وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك. فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان، صنف متفق عليه وهو ربا الجاهلية الذي نهى عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظِرون فكانوا يقولون أَنظِرني أزدك، وهذا هو الذي عناه الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» والثاني، ضع وتعجل، وهو مختلف فيه".

والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: قد تقدم قريبا ذكر النصوص الدالة على أن ربا الفضل في الأصناف الستة من الربا الجلي القطعي وليس من الربا الخفي، فلتراجع النصوص (2) ففيها أبلغ رد على اتجاه الفتان.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد نقل من كلام ابن رشد ما يتعلق بالربا فيما تقرر في الذمة وترك كلامه في الربا في البيع، وإنما فعل ذلك ليوهم من لا علم لهم أن ابن رشد كان من الذين يقسمون الربا إلى جلي وخفي ويقولون إن الربا الجلي هو ربا النسيئة وإن الربا الخفي هو ربا الفضل، وهذا التقسيم ليس له ذكر في كلام ابن رشد، وقد ذكرت قريبا أن ابن رشد ليس له اتجاه يخالف ما جاء في الأحاديث الصحيحة وما أجمع عليه العلماء من أن الربا صنفان نسيئة وتفاضل وأن الربا في هذين النوعين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال في (بداية المجتهد) بعد الجملة التي نقلها الفتان ما نصه:

"وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان نسيئة وتفاضل إلا ما روي

(1) ص 75 - 76.

(2)

ص79.

ص: 83

عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا إلا في النسيئة» وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ".

وقال أيضا: "أجمع العلماء على أن التفاضل والنسأ مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة هو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى» فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان. وأما منع النسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النسأ في الصنفين من هذه وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة: «وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد» وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر والشعير". انتهى المقصود من كلام ابن رشد. وفيه كفاية في الرد على الفتان وبيان أنه لم يؤد الأمانة في النقل من كلام ابن رشد؛ لأنه قد اقتصر على نقل الجملة التي يظن أنها تؤيد قوله في تقسيم الربا إلى جلي وخفي. وأعرض عن نقل الجملة التي توضح اتجاه ابن رشد وتدل على أنه لم يكن من الذين يقولون بتقسيم الربا إلى جلي وخفي.

فصل

قال الفتان: "أما ابن القيم فعنده أن ربا النسيئة محرم لذاته تحريم مقاصد، وهو الذي نزل فيه القرآن الكريم وكانت عليه العرب في الجاهلية وهو الربا الذي لا شك فيه كما يقول أحمد بن حنبل. أما ربا الفضل فهو محرم أيضا ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة".

والجواب: أن يقال: إن الفتان قد نقل بعض كلام ابن القيم في الربا بالمعنى وزاد ....

ص: 84

في قوله في ربا النسيئة "وهو الذي نزل فيه القرآن الكريم" وهذه الزيادة ليست من كلام ابن القيم فوضعها في أثناء كلامه ينافي الأمانة. وسأذكر -إن شاء الله تعالى- كلام ابن القيم بلفظه ملخصًا وأنبه على ما ينبغي التنبيه عليه منه.

قال في (إعلام الموقعين): "الربا نوعان جلي وخفي، فالجلي حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدًا، وتحريم الثاني وسيلة، فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دَيْنه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عند آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج - إلى أن قال - وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل - ثم ذكر حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الربا في النسيئة» قال: ومثل هذا يراد به حصر الكمال وأن الربا الكامل إنما هو في النسيئة. قال: وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإن أخاف عليكم الرَّمَا» والرما هو الربا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة". انتهى المقصود من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- وفيه نظر من أوله إلى آخره.

فأما تقسيمة الربا إلى جلي وخفي وقوله إن الجلي ربا النسيئة - يعني والخفي ربا الفضل فهو تقسيم لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من الصحابة، بل الدليل يدل على خلافه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وروى الشافعي وأحمد والدارمي ومسلم وأهل السنن من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفيه اختصار في أوله، وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ففي هذه الأحاديث النص على أن من زاد أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه فهو ربا، وفي هذا .....................................

ص: 85

النص أوضح دليل على أن الربا في الأصناف الستة من الربا الجلي، ويدل على ذلك أيضا قصة بلال رضي الله عنه لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي رواية للنسائي:«أوه عين الربا لا تقربه» قال النووي: "معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم"، وفي رواية لمسلم أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» ففي هذه النصوص أوضح دليل على أن ربا الفضل من الربا الجلي، وفيها أبلغ رد على من قال إنه من الربا الخفي.

وأما قوله: إن الخفي حُرِّم لأنه ذريعة إلى الجلي وأن الأول - وهو ربا النسيئة - محرم قصدا، وأن تحريم الثاني - وهو ربا الفضل - تحريم وسيلة، فهو قول لا دليل عليه إلا ما ذكره من حديث أبي سعيد الخدري وهو حديث ضعيف الإسناد كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- وبيان أنه من حديث ابن عمر لا من حديث أبي سعيد.

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى» وفي رواية: «فهو ربا» أوضح دليل على أن ربا الفضل محرم قصدًا وليس تحريمه تحريم وسيلة، ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال:«أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية: «أوه عين الربا لا تقربه» وقوله في رواية مسلم: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» ففي هذه النصوص أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التهوين لشأن ربا الفضل وجعله من الربا الخفي وقوله إنه لم يحرم قصدًا وإنما حرم تحريم وسيلة، ولو كان الأمر على ما ذهب إليه ابن القيم لكان ينبغي أن يقال: فمن زاد أو استزاد فقد توسل إلى الربا. وأن يقال في قصة بلال: لا تفعل فإنه وسيلة إلى الربا.

وأما ما ذكره عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه سئل عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل.

فجوابه: أن يقال: إن هذا القول مما يشك في ثبوته عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-؛ لأن مفهومه يدل على أن ما سوى ربا أهل الجاهلية الذين كانوا يقولون إما أن تقضي وإما أن تربي فكله مشكوك فيه. وهذا المفهوم يأتي على كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في نحو من ثلاثين حديثا من الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن ربا الفضل، وفي بعضها ...........

ص: 86

النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة في الأصناف الستة المذكورة في بعض الأحاديث المروية عن أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وبلال -رضي لله عنهم-، وقد قال في بعض هذه الأحاديث:«من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وقال في بعض الروايات: «فمن زاد أو استزاد فهو ربا» وقال في بعض الروايات: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» وقال في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وقال في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» وفي رواية: «الذهب بالذهب هاء وهاء، والفضة بالفضة هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء، والبر بالبر هاء وهاء، والشعير بالشعير هاء وهاء، لا فضل بينهما» وفي بعض الروايات عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» ففي هذه النصوص وغيرها مما تقدم ذكره في أول الكتاب (1) أوضح دليل على أن ربا الفضل وربا النسيئة معلوم باليقين الذي لا يتطرق إليه الشك عند من له أدنى علم وفهم فضلا عن الإمام أحمد الذي قد آتاه الله حظًا وافرا من علم الكتاب والسنة والفقه في الأحاديث، وعلى هذا فيبعد كل البعد أن يقول في ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية أنه مما يشك فيه، ولو ثبت هذا عن الإمام أحمد لكان يتعين رده بما جاء في القرآن والسنة من التشديد في الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواعه من التفاضل والنسيئة والقرض الذي يجر نفعا. ولا قول لأحد مع قول الله -تعالى- وقول رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي النصوص أيضا مع ما تقدم من الأحاديث أبلغ رد على مفهوم الرواية التي ذكرها ابن القيم عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.

وأما حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الربا في النسيئة» فقد ذكرت كلام العلماء فيه وقولهم أنه محمول على الأجناس المختلفة فإنه لا

(1) ص29 - 39.

ص: 87

ربا فيها من حيث التفاضل وإنما الربا فيها في النسيئة، فليراجع ما تقدم ذكره ففيه رد لقول ابن القيم إنه يراد به حصر الكمال وإن الربا الكامل إنما هو في النسيئة.

ولا يخفي ما في كلام ابن القيم من التهوين لشأن ربا الفضل وذلك مخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشديد فيه حيث قال: «من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وأنكر صلى الله عليه وسلم على بلال لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب وغلظ في الإنكار عليه فقال: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أن قال له: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» ففي هذه النصوص أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم من التهوين لشأن ربا الفضل وأنه ليس من الربا الكامل.

وأما قوله: وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع كما صرح به في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرَّمَا» والرما هو الربا، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما أنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» هذا لفظ حديث أبي سعيد رضي الله عنه وفي بعض الروايات عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ففي هذا النص أوضح دليل على أن ربا الفضل محرم قصدًا وليس تحريمه من باب سد الذرائع.

ويدل على ذلك أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلظ في الإنكار على بلال لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب وقال له: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أنه قال له: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فرُدوه» وفي رواية أنه قال: «ويلك أربيت» وقد ذكرت هذه النصوص في أول الكتاب فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم من التهوين لشأن ربا الفضل وقوله .............

(1) ص35 - 38.

ص: 88

إن تحريمه من باب سد الذرائع.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الحديث الذي احتج به ابن القيم لقوله في تحريم ربا الفضل إنه من باب سد الذرائع لم يُرو عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وإنما هو مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا وموقوفا من قوله ومن قول أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأما المرفوع فقد رواه الإمام أحمد من طريق أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الرماء والرماء هو الربا» إسناده ضعيف جدا لأنه من رواية أبي جناب الكلبي عن أبيه - واسم أبي جناب يحيي بن أبي حية. واسم أبي حية حي - وقد تكلم الأئمة في أبي جناب وفي أبيه، قال علي بن المديني:"كان يحيى بن سعيد يتكلم في أبي جناب وفي أبيه"، وقد ضعَّف أبا جناب كثيرٌ من الأئمة منهم يحيي القطان وابن سعد وعثمان الدارمي والعجلي والجوزجاني ويعقوب بن سفيان وأبو عمار والدارقطني، وقال عمرو بن علي الفلاس:" متروك الحديث"، وقال أحمد:"أحاديثه مناكير"، وقال النسائي:"ليس بالثقة يدلس"، وقال الساجي:"صدوق منكر الحديث"، وقال ابن حبان في كتاب (المجروحين):"كان ممن يدلس على الثقات ما سمع من الضعفاء فالتزقت به المناكير التي يرويها عن المشاهير فوهَّاه يحيي بن سعيد القطان وحمل عليه أحمد بن حنبل حملا شديدًا"، ثم ذكر ابن حبان عن يحيى بن معين أنه قال:"أبو جناب ليس بشيء"، وعنه أيضا أنه قال:"ضعيف ضعيف"، وقال ابن حجر في (تقريب التهذيب):"ضعَّفوه لكثرة تدليسه". وأما أبوه حي فقد تقدم عن يحيي بن سعيد أنه كان يتكلم فيه، واختلف قول الحافظ ابن حجر فيه فقال في موضع من (تقريب التهذيب):"إنه مقبول"، وقال في موضع آخر منه:"إنه مجهول".

ومما ذكرته من كلام العلماء في أبي جناب الكلبي يعلم أن حديثه لا يصلح للاستشهاد به فضلا عن الاحتجاج به.

وأما الموقوف على ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن إبراهيم- يعني ابن علية- حدثنا أيوب عن نافع قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: «لا تبيعوا الذهب بالذهب والورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منها بناجز فإني أخاف عليكم الرماء والرما الربا» قال: فحدَّث .............

ص: 89

رجل ابن عمر هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تم مقالته حتى دخل به علي أبي سعيد وأنا معه فقال إن هذا حدثني عنك حديثا يزعم أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفسمعته فقال: بصر عيني وسمع أذني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منها بناجز» إسناده صحيح على شرط الشيخين، وقد رواه البيهقي في سننه من طريق جرير بن حازم قال: سمعت نافعا يقول: كان ابن عمر يحدث عن عمر رضي الله عنه في الصرف ولم يسمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قال: قال عمر رضي الله عنه: «لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء ولا تشفوا بعضه على بعض إني أخاف عليكم الرماء» قال: قلت لنافع: وما الرماء؟ قال: الربا، قال: فحدثه رجل من الأنصار عن أبي سعيد الخدري حديثا قال نافع فأخذ بيد الأنصاري وأنا معهما حتى دخلنا على أبي سعيد الخدري فقال: يا أبا سعيد هذا حدث عنك حديث كذا وكذا قال: ما هو؟ فذكره قال: نعم سمع أذناي وبصر عيني قالها ثلاث فأشار بإصبعه حيال عينيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا تبايعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز ولا تشفوا بعضه على بعض» .

وقد علم من رواية البيهقي أن الموقوف ليس هو من قول ابن عمر رضي الله عنهما وإنما رواه عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسيأتي ذلك فيما رواه مالك في الموطأ، وقد تبين من سياق هذا الحديث أن ابن القيم -رحمه الله تعالى- قد وهم في الحديث فجعل الموقوف منه على ابن عمر وعلي أبيه عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعله من حديث أبي سعيد الخدري، وحديث أبي سعيد ليس فيه قوله:«فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء الربا» وإنما ذلك في الموقوف على ابن عمر رضي الله عنهما وعلى أبيه عمر رضي الله عنه.

وأما الموقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رواه مالك في الموطأ بإسنادين صحيحين أحدهما: عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالذهب أحدهما غائب والآخر ناجز، وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا» .

ص: 90

الإسناد الثاني: رواه مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا شيئا منها غائبا بناجز، وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا» .

وقد تبين من روايتي مالك أن ابن عمر رضي الله عنها قد اختصر الموقوف الذي جاء في رواية أحمد والبيهقي فلم يذكر قوله في آخره: «وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا» .

قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث): "الرماء بالفتح والمد الزيادة على ما يحل، ويروي الإرماء، يقال أرمي على الشيء إرماء إذا زاد عليه كما يقال أربى". انتهى.

وتفسير الرماء بالربا يحتمل أن يكون من كلام نافع؛ لأن في رواية جرير بن حازم عند البيهقي قلت لنافع وما الرماء؟ قال: الربا، ويحتمل أن يكون من كلام ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأن مالكا رواه من طريق نافع عن ابن عمر ومن طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر وفي كل من الروايتين تفسير الرماء بالربا، ويحتمل أن يكون من كلام عمر رضي الله عنه، والله أعلم.

الوجه الثالث: أن يقال: قد جاء في روايتي مالك في الموطأ جملة ليست في رواية أحمد ولا في رواية البيهقي وهي قوله: «وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء» وفي هذه الجملة فائدة جليلة: وهي: أن الذي خافه عمر رضي الله عنه عليهم من الرماء هو ما يكون بسبب التفرق اليسير بين المتبايعين بقدر ما يلج أحدهما بيته فيكون البيع حينئذ من بيع الغائب بناجز وهو من ربا النسيئة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بيع الذهب بالذهب والورق بالورق:«لا تبيعوا منها غائبا بناجز» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي رواية لمسلم:«ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز إلا يدا بيد» وفي هذا الحديث الصحيح وقول عمر رضي الله عنه: «وإن استنظرك إلى أن يلج بيته فلا تنظره إني أخاف عليكم الرماء» دليل على أن المراد في هذا ربا النسيئة وهو بيع الغائب من الذهب والورق بالناجز - أي الحاضر - وهذا هو الرماء الذي خافه عليهم عمر رضي الله عنه. وقد جاء ذلك ..............................

ص: 91

صريحا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الترمذي:"معنى قوله: «إلا هاء وهاء» يقول يدًا بيد"، وفي النص على أن بيع الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء دليل على اشتراط التقابض في مجلس العقد ومنع التفرق قبله ولو كان التفرق يسيرا بقدر ما يلج أحد المبايعين بيته؛ لأنهما إذا تفرقا قبل التقابض ولو كان التفرق يسيرا فإن البيع حينئذ يكون من الربا، وهو الرماء الذي كان عمر رضي الله عنه يخافه عليهم.

الوجه الرابع: أن يقال: إن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قد اشتمل على جملتين: الأولى: في تحريم ربا الفضل، والثانية: في تحريم ربا النسيئة، وليس فيه ما يدل على أن تحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة إلى ربا النسيئة. فأما الجملة الأولى ففيها النهي عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل والنهي عن إشفاف بعضها على بعض، والإشفاف هو الزيادة وتفضيل أحدهما على الآخر. وأما الجملة الثانية ففيها النهي عن بيع الغائب من الذهب أو الورق بالناجز منه، والناجز هو المعجل الحاضر وفي سياق الحديث أوضح دليل على أن ربا الفضل محرم قصدًا وليس تحريمه من باب سد الذرائع.

فصل

وقال الفتان: "يترتب على التمييز بين ربا النسيئة وربا الفضل نتيجة هامة، ذلك أنه لما كان ربا النسيئة محرما لذاته تحريم المقاصد، وكان ربا الفضل محرما باعتباره وسيلة تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد؛ فإن درجة التحريم في ربا النسيئة أشد منها في ربا الفضل، ومن ثَمَّ لا يجوز ربا النسيئة إلا لضرورة ملجئة كالضرورة التي تبيح أكل الميتة والدم، أما ربا الفضل فيجوز للحاجة، ولا يخفي أن الحاجة أدنى من الضرورة، فكلما اقتضت الحاجة للتعامل بربا الفضل جاز ذلك، ومن ثم تضيق منطقة هذا الربا إذا قامت الحاجة إلى إباحته في بعض صوره بحيث يتبين في هذه الصور أنه لا يمكن اتخاذه ذريعة لربا النسيئة فينتفي سبب التحريم".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان قد زل في هذه الجملة زلة خطيرة عليه وعلى من عمل بقوله الباطل، وذلك في زعمه أن ربا النسيئة يجوز للضرورة

ص: 92

وأن ربا الفضل يجوز للحاجة، وهذه الزلة العظيمة هي حاصل نتيجة السوء التي استنتجها بعقله الفاسد وزعم أنها نتيجة هامة، وهي في الحقيقة هامة من الهوام المهلكة للدين؛ لأن استحلال الربا ودعاء الناس إلى استحلاله يفتك بالدين أعظم مما تفتك الهوام الأرضية بالأبدان.

وقد قال الجوهري: "الهامة واحدة الهوام ولا يقع هذا الإسم إلا على المخوف من الأحناش"، وقال ابن الأثير:"الهامة كل ذات سم يقتل"، وذكر ابن منظور في (لسان العرب) عن شمر أنه قال:"الهوام الحيات وكل ذي سم يقتل". انتهى.

وإذا علم ما قاله أهل اللغة في تعريف الهامة وأنها الأفاعي والأحناش التي تقتل بسمها فليعلم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصَّ على أن أكل الربا من الموبقات - أي المهلكات - وما كان بهذه الصفة فهو هامة من الهوام التي تفتك بالدين ولا شك أن ضرر الربا على الدين أعظم من ضرر السم القاتل على الأبدان؛ لأن الأبدان إذا أصيبت بسم الأحناش والأفاعي فمآلها في الغالب إلى الموت، والموت لابد منه لكل مخلوق، وقد يكون فيه راحة للميت إذا كان من أولياء الله، وأما أكل الربا فإنه يؤول بأصحابه إلى الهلاك الديني وإلى الشر العظيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الدار الآخرة، وبيان ذلك من وجوه: أحدهما: أنه من الكبائر السبع الموبقات - أي المهلكات - الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، واللعن هو الطرد والإبعاد من الله ومن الخير. الثالث: أن الله -تعالى- قد آذن المرابين بالحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشد الخطر في هذا. الرابع: أن كثيرًا من العلماء قد صرحوا بتكفير من استحل الربا ولم يفرقوا بين وجود الضرورة والحاجة وعدم وجودهما. الخامس: ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه» وإذا كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما فيمن كان مقيما على الربا فكيف بمن يستحله بالشبهات ويدعو الناس إلى استحلاله، فهذا أولى أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. السادس: أن المرابين يعذبون في البرزخ بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم أو هو من الدم ويلقمون الحجارة. السابع: ما روي من حديث أبي هريرة مرفوعًا أن المرابين تكون بطونهم في البرزخ كالبيوت الضخمة فيها الحيات ترى من خارج بطونهم. الثامن: ما روي من حديث أبي سعيد مرفوعا أن المرابين يصفدون في البرزخ وينضدون على سابلة آل فرعون فيتوطؤهم آل فرعون غدوا وعشيًا.

ص: 93

التاسع: أن المرابين إذا بعثوا من قبورهم فإنهم يعذبون بالجنون أو بما يشبه الجنون عقوبة لهم وتمقيتًا عند جمع المحشر. العاشر: وهو أعظمها أن المرابين يحشرون إلى نار جهنم. وكل ما ذكرته ههنا من ضرر الربا على المرابين فقد تقدم بيانه في الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الربا وفي فوائدها فليراجع ذلك في أول الكتاب، وليتأمله المؤمن الناصح لنفسه حق التأمل، وليحذر أشد الحذر من نتيجة الفتان وهامّته فإنها من نتائج الضلال ومن الهوام التي تهلك الدين.

الوجه الثاني: أن يقال: إن التحليل والتحريم مردهما إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أحله الله في كتابه أو أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حلال، وما حرمه الله في كتابه أو حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام، وليس للآراء والاستنتاجات حق في التحليل والتحريم، ومن أحل شيئا أو حرمه بمجرد الرأي والاستنتاج فقد افترى على الله الكذب واستدرك على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله -تعالى-:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن الفتان قد أقدم على تحليل ربا النسيئة للضرورة وتحليل ربا الفضل للحاجة، ولم يستند في ذلك إلى دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، إذ لا وجود لذلك في هذه الأصول الثلاثة، وإنما استند إلى أقوال المتلاعبين بالدين وهم الذين وصفهم الشيخ أحمد شاكر بأنهم يلعبون بالقرآن ويزعمون أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة ويجيزون ما بقي من أنواع الربا، وقد تقدم كلامه وكلام الشيخ محمود شلتوت في ذمهم فليراجع ذلك في أثناء الكتاب (1).

فإن قال الفتان: إنه قد اعتمد في نتيجته المضلة على قول ابن القيم في تقسيم الربا إلى جلي وخفي وأن الجلي هو ربا النسيئة الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية وأن تحريم هذا النوع كان قصدا وتحريم ربا الفضل وسيلة لأنه ذريعة إلى الجلي.

فالجواب: أن يقال: إنه ليس في كلام ابن القيم ما يتعلق به الفتان في تحليل ربا النسيئة للضرورة وتحليل ربا الفضل للحاجة، وقد صرح ابن القيم بتحريم نوعي الربا إلا أنه جعل تحريم ربا الفضل من باب سد الذرائع، وقد ذكرت نصوص الأحاديث الدالة على خلاف قوله في الفصل الذي قبل هذا الفصل فليراجع ذلك (2).

(1) ص 59 - 60.

(2)

ص 86 - 88.

ص: 94

وفي النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كفاية وغنية عن أقوال الناس، ولا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثالث: أن يقال: إن كلام الفتان ينقض بعضه بعضًا؛ لأنه قد صرح في أول نتيجته المضلة أن ربا النسيئة محرم لذاته تحريم المقاصد وأن ربا الفضل محرم تحريم الوسائل باعتباره وسيلة إلى ربا النسيئة، ثم نقض قوله في التحريم فأجاز ربا النسيئة للضرورة وأجاز ربا الفضل للحاجة، وهذا في الحقيقة من التلاعب بالدين إذ ليس في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على جواز ربا النسيئة للضرورة ولا على جواز ربا الفضل للحاجة، بل إن الأدلة من القرآن والسنة والإجماع كلها تدل على تحريم الربا على وجه العموم تحريما مطلقًا وليس فيها استثناء ضرورة ولا حاجة، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .

الوجه الرابع: أن يقال: ما زعمه الفتان من جواز ربا النسيئة للضرورة وجواز ربا الفضل للحاجة فهو مردود بما جاء في القرآن والسنة من التشديد في أكل الربا على وجه العموم، فمن ذلك قول الله -تعالى-:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ، وقوله -تعالى- في آخر الآية:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ، وقوله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» فذكرها ومنها أكل الربا، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية» ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» .

وما جاء في هذا الآيات والأحاديث من التشديد في أكل الربا فهو يعم جميع الحالات كما تدل على ذلك ظواهر الآيات والأحاديث، ومن استثنى حالة الضرورة في ربا النسيئة وحالة الحاجة في ربا الفضل فقد خالف القرآن والسنة وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.

الوجه الخامس: أن يقال: إن الضرورة التي تبيح أكل الميتة والدم هي الخوف على

ص: 95

النفس من التلف إذا لم يأكل الميتة أو الدم بقدر ما يسد به رمقه، فمن ألجأته الضرورة إلى الأكل من الميتة أو الدم وهو غير باغ ولا عاد جاز له الأكل ولا إثم عليه، فأما أكل الربا فإن الله -تعالى- حرمه تحريمًا مطلقًا وجاءت السنة بتحريمه على الإطلاق، وما كان بهذه الصفة فليس لأحد أن يستثني منه ضرورة ولا حاجة؛ لأن ذلك من الاستدراك على الله وعلى رسول صلى الله عليه وسلم.

الوجه السادس: أن يقال: إن الفتان قد قاس الضرورة التي زعمها في ربا النسيئة على الضرورة التي تبيح أكل الميتة والدم، وهذا قياس فاسد، وهو من جنس قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، وقد رد الله على الذين قالوا بهذا القول الفاسد فقال -تعالى-:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وأما قياس الفتان فإنه يرد عليه بأن الله -تعالى- أباح للمضطرين أن يأكلون من الميتة والدم ولم يبح أكل الربا لضرورة ولا غيرها بل حرمه تحريما مطلقًا وتوعد عليه بأشد الوعيد، وهذا يسد باب التحليل لاستحلال الربا بدعوى الضرورة المزعومة والحاجة وغيرهما من الدعاوى الباطلة.

فصل

وقال الفتان: "الاتجاه الذي يميز ما بين الربا الوارد في القرآن الكريم وهو الربا الجلي، والربا الوارد في الحديث وهو الربا الخفي، وهذا الاتجاه يقسم الربا إلى ثلاثة أنواع؛ الأول: ربا الجاهلية، وهو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم، وخصيصته الأولى هي أن يقول صاحب الدَين للمدين عند حلول أجل الدين: "إما أن تقضي وإما أن تربي". الثاني: ربا النسيئة الوارد في الحديث الشريف، وهو أوسع كثيرا في مداه من ربا الجاهلية، بل ويختلف عنه اختلافا بيِّنا في كثير من الصور فهو بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون والجنس بجنسه نسيئة لا فورا ولو من غير تفاضل. الثالث: ربا الفضل الوارد في الحديث الشريف وهو بيع المكيل أو الموزون بجنسه متفاضلا".

والجواب: أن يقال: أما تقسيم الربا إلى جلي وخفي فهو تقسيم لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من الصحابة، وقد ذكرت الرد عليه من نصوص الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد إيراد كلام ابن القيم الذي جاء فيه هذا التقسيم فليراجع (1) ففيه كفاية في الرد على هذه الجملة من كلام الفتان.

(1) 85 - 92.

ص: 96

وأما قول: إن ربا الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن الكريم.

فجوابه: أن يقال: إن نصوص القرآن عامة فيدخل في عمومها ربا أهل الجاهلية وربا أهل الإسلام، وقد ذكرت الرد على هذه الجملة عند قول الفتان: إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية هو الذي نزل فيه القرآن فليراجع ذلك فيما تقدم (1)، وليراجع (2) أيضًا قول الجصاص:"إن قول الله -تعالى-: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} قد انتظم تحريم جميع ضروب الربا لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، وقال أيضًا اسم الربا في الشرع يعتريه معانٍ أحدها: الربا الذي عليه أهل الجاهلية، والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل أو الموزون، والثالث: النساء". انتهى.

فصل

وقال الفتان: الاتجاه الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية الوارد في القرآن وحده «لا ربا إلا في النسيئة» .

"يستدل أصحاب هذا الاتجاه وعلى رأسهم ابن عباس بحديث رواه ابن عباس نفسه عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في النسيئة» فهم لا يحرمون ربا الفضل ولا يحرمون إلا ربا النسيئة، وقد ذكر السبكي في تكملة المجموع أن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب، وروي عن معاوية ما يحتمل موافقتهم، ولف لفهم كثير من التابعين مثل عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة وفقهاء الأمصار - أن هذه الطائفة رأت أن الربا لا يكون إلا في النسيئة وكانوا يجيزون ربا النقد، وقال سعيد بن جبير: صحبت ابن عباس حتى مات فو الله ما رجع عن الصرف، أي قوله بجواز التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مع القبض، وقصر الربا على ربا النسيئة وهو ربا القرآن الكريم، ويقول سعيد: سألت ابن عباس أيضا قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف فلم ير فيه بأسًا، وقال الشافعي في كتاب اختلاف الحديث: كان ابن عباس لا يري في دينار بدينارين ولا في درهم بدرهمين يدًا بيد بأسا ويراه في النسيئة، وكذلك عامة أصحابه".

(1) ص 75 - 76.

(2)

ص 24.

ص: 97

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان لم يؤد الأمانة فيما نقله عن السبكي، حيث أنه قد غير عبارته عما كانت عليه في (تكملة المجموع) فأفسدها بما أدخل فيها من التغيير والزيادة التي هي محض الكذب، فأما التغيير ففي قوله:"إن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وكثيرًا من التابعين مثل عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة وفقهاء الأمصار - أن هذه الطائفة رأت أن الربا لا يكون إلا في النسيئة، وكانوا يجيزون ربا النقد"، هكذا لفَّق الفتَّان هذه العبارة ونسبها إلى السبكي، وقد جمع فيها بين التلبيس على الجهال وبين الكذب على السبكي.

فمن تلبيسه وكذبه أنه ذكر علي سبيل الجزم عن عبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب أنهم كانوا يجيزون ربا النقد ويرون أن الربا لا يكون إلا في النسيئة، وهذا خطأ وكذب لأن السبكي لم يجزم بثبوت ذلك عن هؤلاء الأربعة، وإنما ذكره عنهم رواية بصيغة التمريض.

ومن تلبيسه وكذبه أيضا قوله: "ولف لفهم كثير من التابعين مثل عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة وفقهاء الأمصار"، وهذا خطأ وكذب؛ لأن السبكي إنما ذكر من هؤلاء عطاء بن أبي رباح وحده، ثم قال وفقهاء المكيين، فجاء الفتان الذي يهرف بما لا يعرف فزاد طاوسًا ومن بعده، وغيَّر قوله وفقهاء المكيين فقال وفقهاء الأمصار. وقد تقدم (1) في ذكر الإجماع على تحريم الربا ما ذكره ابن المنذر عن علماء الأمصار؛ أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال: وروينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة يكثر عددهم من التابعين. انتهى. وقد نقله السبكي في (تكملة شرح المهذب).

وقال الترمذي بعد ذكره حديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل لا يشف بعضه على بعض ولا تبيعوا منه غائبا بناجز» قال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم". انتهى المقصود من كلامه.

(1) ص45.

ص: 98

ونقل السبكي في (تكملة شرح المهذب) عن ابن عبد البر أنه قال: "لا أعلم خلافًا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق في أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنًا ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه إلا ما كان عليه أهل مكة قديما وحديثًا من إجازتهم التفاضل على ذلك إذا كان يدا بيد، أخذوا ذلك عن ابن عباس"، قال ابن عبد البر:"ولم يتابع ابن عباس على قوله في تأويله حديث أسامة أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من فقهاء المسلمين إلا طائفة من المكيين أخذوا ذلك عنه وعن أصحابه، وهم محجوجون بالسنة الثابتة التي هي الحجة على من خالفها وجهلها وليس أحد بحجة عليها". انتهى.

وفي كلام الترمذي وابن المنذر وابن عبد البر أبلغ رد على تلبيس الفتان وكذبه على فقهاء الأمصار وعلى السبكي.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد أخطأ فيما نقله من كلام السبكي حيث أنه قد اقتصر على نقل الأقوال التي يرى فيها تأييدًا لاتجاهه الباطل الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية، وأعرض عما ذكره السبكي من الآثار في رجوع ابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم عن رأيهم المخالف للسنة. وما ذكره أيضا من التوقف في صحة ما ذكر عن أسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنهم كانوا يجيزون ربا النقد ويرون أن الربا لا يكون إلا في النسيئة وما ذكره عن معاوية رضي الله عنه أنه غير قائل بقول ابن عباس مع شذوذ ما قال به أيضا، ولا يخفي ما في فعل الفتان من التمويه والتلبيس على الجهال.

وقد ذكرت الآثار الدالة على رجوع ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما عن القول بجواز بيع الذهب بالذهب متفاضلا والفضة بالفضة متفاضلا إذا كان يدًا بيد، فليراجع ذلك بعد الفصل الذي ذكر فيه الإجماع على تحريم الربا (1).

وتقدم في الحديث السادس والثلاثين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه نهى عن ربا الفضل، وتقدم في الحديث الثالث والعشرين عنه أنه قال:«الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما» هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم، وتقدم في الحديث التاسع والثلاثين عنه أنه قال:«الذهب بالذهب وزنا بوزن فمن زاد أو استزاد فقد أربى» والله ما كذب ابن عمر علي رسول لله صلى الله عليه وسلم.

(1) 47 - 52.

ص: 99

قال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "وأما ابن عمر فقد تقدم رجوعه في الرواية التي دلت على قوله وأن ذلك في صحيح مسلم واشتهر عنه بعد ذلك من طرق كثيرة قوله بالتحريم ومبالغته في ذلك في روايات صحيحة صريحة، ولم يكن قوله الأول قد اشتهر عنه ولعله لم يستقر رأيه عليه زمانًا، بل رجع عنه قريبًا والله أعلم". انتهى.

وتقدم أيضا في الحديث الحادي والعشرين والحديث الثاني والعشرين عن أبي المنهال - وأسمه عبد الرحمن بن مطعم البناني - قال سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا» متفق عليه، وفي رواية لمسلم:«ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا» .

الصرف هو بيع الفضة بالذهب ذكره النووي في (شرح مسلم) عن العلماء وتقدم ذكره في الفائدة السابعة عشرة من فوائد الأحاديث الدالة على تحريم الربا (1)، وفي هذا الحديث الصحيح أبلغ رد على من زعم أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب رضي الله عنهم كانا من الذين لا يحرمون ربا الفضل ولا يحرمون إلا ربا النسيئة.

وأما أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "لا أعلم عنه في ذلك شيئا إلا روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الربا في النسيئة» ولا يكفي ذلك في نسبة هذا القول إليه فإنه لا يلزم من الرواية القول بمقتضى ظاهرها لجواز أن يكون معناها عنده على خلاف ذلك أو يكون عنده معارض راجح". انتهى.

وأما عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فقال السبكي في (تكملة شرح المهذب): "لم أقف على إسناده إليه بذلك". انتهى.

وأما معاوية رضي الله عنه فقد تقدم (2) ما يدل على رجوعه عن رأيه في جواز التفاضل في بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بالتبر منه أو العين، قال السبكي في (تكملة شرح المهذب):"وأما معاوية فقد تقدم أنه غير قائل بقول ابن عباس مع شذوذ ما قال به أيضا، والظن به لما كتب إليه عمر رضي الله عنه أنه يرجع عن ذلك". انتهى. وبما ذكرته في هذا الوجه تنقطع التعلقات التي تعلق بها الفتان على بعض الصحابة.

الوجه الثالث: أن يقال: قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى عن ربا الفضل، وقد ذكرت في أول الكتاب ثلاثين حديثًا أو قريبا من الثلاثين مما جاء في .....

(1) ص 43.

(2)

ص52 - 53.

ص: 100

ذلك فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على كل من قال بجواز ربا الفضل، وقد قال الطحاوي في كتابه (شرح معاني الآثار):"جاءت السنة بتحريم الربا في التفاضل في الذهب بالذهب والفضة بالفضة وسائر الأشياء المكيلات والموزونات على ما ذكره عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك ربا حرم بالسنة وتواترت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قامت بها الحجة" ثم إن الطحاوي أورد أحاديث كثيرة مما جاء في النهي عن ربا الفضل. وقد تقدم ذكرها مع الأحاديث الدالة على تحريم الربا وقال بعد إيرادها: "فثبت بهذه الآثار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الفضة بالفضة والذهب بالذهب متفاضلا وكذلك سائر الأشياء المكيلات التي قد ذكرت في هذه الآثار التي رويناها فالعمل بها أولى من العمل بحديث أسامة، ثم هذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد ذهبوا في ذلك إلى ما تواترت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا"، ثم روي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطب عمر فقال: «لا يشتري أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهما بدرهمين ولا قفيزا بقفيزين إني أخشى عليكم الرماء (2) وإني لا أوتى بأحد فعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله» .

قال الطحاوي: "فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب بهذا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة أصحابه -رضوان الله عليهم- لا ينكره عليه منهم منكر فدل ذلك على موافقتهم له عليه"، ثم قد روي في ذلك أيضا عن أبي بكر وعلي وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق ذلك أيضا، ثم روى بإسناد صحيح عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص قال: كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد حين قدموا الشام: «أما بعد فإنكم قد هبطتم أرض الربا فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن ولا الطعام بالطعام إلا كيلا بكيل» قال أبو قيس: قرأت كتابه.

وروى الطحاوي أيضًا بإسناد صحيح عن أبي صالح السمان قال: كنت جالسا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأتاه رجل فقال: يكون عندي الدراهم فلا تنفق عني في حاجتي فأشتري بها دراهم تجوز عني وأخصم فيها، قال: فقال علي رضي الله عنه: «اشتر بدراهمك ذهبًا ثم اشتر بذهبك ورقا ثم أنفقها فيما شئت» .

(1) ص29 - 39.

(2)

الرماء هو الربا وقد تقدم تفسيره في صفحة 91 فليراجع.

ص: 101

وروى أيضا بإسناد حسن عن شريح عن عمر رضي الله عنه قال: «الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا» وروي أيضا بإسناد صحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر قال كان عمر وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ينهيان عن بيع الدرهمين بالدرهم يدًا بيد ويقولان: «الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار» وروى أيضا بإسناد حسن عن أبي رافع قال: مرَّ بي عمر بن الخطاب ومعه ورق فقال: «اصنع لنا أوضاحا لصبي لنا» فقلت: يا أمير المؤمنين: عندي أوضاح معمولة فإن شئت أخذت الورق وأخذت الأوضاح، فقال عمر رضي الله عنه:«مثلا بمثل» فقلت: نعم فوضع الورق في كفة الميزان والأوضاح في الكفة الأخرى فلما استوى الميزان أخذ بإحدى يديه وأعطى بالأخرى، وروى أيضا بإسناد حسن عن علي بن رباح اللخمي قال: كنا في غزاة مع فضالة بن عبيد رضي الله عنه فسألته عن بيع الذهب فقال: «مثلا بمثل ليس بينهما فضل» . انتهى المقصود مما ذكره الطحاوي -رحمه الله تعالى-.

وفيما ذكره عن الصحابة رضي الله عنهم أبلغ رد على كل من قال بجواز ربا الفضل ولا سيما كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد بالنهي عن بيع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن وعن بيع الورق بالورق إلا وزنا بوزن وعن بيع الطعام بالطعام إلا كيلا بكيل، ولم يذكر عن أحد من أمراء الأجناد ولا عن غيرهم من الصحابة الذين كانوا معهم- وهم كثيرون جدًا- أنهم خالفوا ما جاء في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدل ذلك على موافقتهم له.

وكذلك خطبة عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن شراء الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين والقفيز بالقفيزين، والوعيد لمن فعل ذلك بالعقوبة الموجعة في نفسه وماله. ولم يذكر عن أحد من الصحابة أنه أنكر ذلك على عمر رضي الله عنه فدل ذلك على موافقتهم له.

وكذلك ما جاء عن علي بن أبي طالب وعمر وابنه عبد الله وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم من النهي عن المفاضلة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة.

فهذه الآثار مع ما تقدم من الأحاديث والآثار في الوجه الثاني تقطع جميع التعلقات التي يتعلق بها الفتان وغيره من المفتونين بتجويز ربا الفضل.

الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- أمر المؤمنين عند التنازع بالرد إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ........

ص: 102

فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.

قال البغوي: قوله عز وجل: " {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} أي اختلفتم {فِي شَيْءٍ} من أمر دينكم - والتنازع اختلاف الآراء - {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيًا وبعد وفاته إلى سنته، والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد". انتهى.

وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال: " {إلى الله} إلى كتابه، و {إلى الرسول} إلى سنة نبيه"، وروى أيضا عن ميمون بن مهران وقتادة نحو ذلك.

وقال ابن كثير في قوله -تعالى-: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} : "قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال -تعالى-: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد". انتهى.

وإذا علم ما جاء في الآية الكريمة من الأمر برد الآراء المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة وعلم ما ذكر في الوجه الثالث من تواتر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ربا الفضل، فليعلم أيضا أنه لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل قول خالف الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو مردود على قائله كائنا من كان، ومن رد شيئا من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم أو عارض أقواله بأقوال غيره فهو على شفا هلكة، وقد قال الله -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وقال -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ ...........................

ص: 103

الْعِقَابِ}، وقال -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} ، وقال -تعالى-:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

وفي هذه الآيات مع الآية التي فيها الأمر بالرد إلى الله وإلى رسوله عند التنازع أبلغ رد على اتجاه الفتان الذي لا يحرم إلا ربا الجاهلية وحده، وهذا الاتجاه الباطل مؤسس على أربعة أصول من أصول الشر، أحدها: مخالفة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه في النهي عن ربا الفضل، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك في الآية من سورة النور.

الثاني: استحلال ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربا الفضل، وهذا يدل على عدم التقوى عند الفتان وقلة مبالاته بالعقاب الشديد الذي توعد الله به من لم يأخذ بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينته عما نهي عنه.

الثالث: معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم باستحلال ربا الفضل الذي قد قضى الله بالمنع منه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الضلال المبين كما هو منصوص عليه في الآية من سورة الأحزاب.

الرابع: النفرة عن تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم والتسليم لأقواله المتواترة عنه في النهي عن ربا الفضل، وهذا يدل على النفاق وعدم الإيمان كما تدل على ذلك الآية من سورة النساء وهي قوله -تعالى-:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} ثم أقسم تبارك وتعالى بنفسه الكريمة المقدسة على نفي الإيمان عمن لم يُحِّكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور التي يقع فيها التنازع والتشاجر ويرض بحكمه ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى به الرسول صلى الله عليه وسلم ويسلم له تسليما.

فليتأمل الفتان وأشياعه ما تقدم ذكره من الآيات، ولا يأمنوا أن يكون لهم نصيب وافر مما تضمنته من الوعيد الشديد ونفي الإيمان.

وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» قال النووي في كتاب (الأربعين) له: "حديث صحيح رويناه في كتاب (الحجة) بإسناد صحيح"، ثم قال في الكلام على هذا الحديث: "يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به صلى الله عليه وسلم، وهذا نظير قوله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ..............

ص: 104

إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فليس لأحد مع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أمر ولا وهوى". انتهى.

فصل

وقال الفتان: حقيقة لا تحتاج إلى دليل. "من خلال دراسة مفهوم الربا في السنة المطهرة يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الربا المحرم الذي لا شك فيه هو الربا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع والتي هي آخر مرة خاطب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته حيث قال: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» ونحن نعرف أن ربا الجاهلية باتفاق العلماء هو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم وخصيصته هي أن يقول صاحب الدين للمدين عند حلول أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن لم يقض زاد المدين المال وزاد الدائن الأجل".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الحقيقة التي زعمها الفتان ليست بحقيقة عند التحقيق، وإنما هي حقيقة في اتباع الهوى وما يدعو إليه الشيطان من استحلال ربا الفضل وربا النسيئة أيضا سوى الربا الذي يقول فيه الدائن للمدين إما أن تقضي وإما أن تربي، فهذه هي الحقيقة التي طنطن بها الفتان وزعم أنها لا تحتاج إلى دليل.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الحقيقة التي لا تحتاج إلى دليل هي ما وقع فيه الفتان من مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين الذين يحرمون ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الربا على وجه العموم، وسواء في ذلك ربا الجاهلية وربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الربا على وجه العموم فلتراجع في أول الكتاب (1) ليعلم ما فيها من النصوص الدالة على تحريم ربا الفضل وربا النسيئة تحريما مطلقًا، وليعلم أيضا أن الفتان لم يعبأ بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا الجاهلية، ولم يبال باطراحها ونبذها وراء ظهره.

الوجه الثالث: أن يقال: إن حقيقة الفتان حاصلها التفريق بين الله ورسوله .........

(1) ص26 - 39.

ص: 105

والإيمان ببعض الكتاب وعدم الإيمان ببعضه، وذلك واضح في زعمه أن الربا الذي لا يشك فيه هو ربا الجاهلية الذي زعم أنه نزل فيه القرآن، ومفهوم كلامه أن ما سِوى ذلك من الربا الذي قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتواترة عنه فهو مشكوك فيه عنده، ومن شك في شيء من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ولم يبال بها فهو من الذين يفرِّقون بين الله ورسوله شاء أم أبى، ومن كان بهذه الصفة فهو ممن يشك في إسلامه؛ لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمدا رسول الله، ومن تحقيقها الإيمان بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بما أمر به على قدر الاستطاعة واجتناب ما نهي عنه، والدليل على ذلك قول الله -تعالى-:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقوله -تعالى-:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه،وفي هذا الحديث الصحيح دليل على أن من رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ربا الفضل وربا النسيئة فهو غير معصوم الدم والمال.

الوجه الرابع: أن يقال: إنه لا فرق في التحريم بين ما جاء في القرآن وما جاء في السنة؛ لأن الكل من عند الله، والرسول مبلغ عن الله، قال الله -تعالى-:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، والحكمة هي السنة على أصح الأقوال، قال الشافعي -رحمه الله تعالى-:"سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، رواه البيهقي في كتاب (المدخل) وقال حسان بن عطية أحد التابعين:"كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن"، رواه الدارمي ورجاله رجال الصحيح، ويدل على هذا قول الله -تعالى- في صفة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} .

وروى الدارمي والترمذي وحسنه وابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله» .

ص: 106

وفي هذا الحديث أبلغ رد على الفتان الذي فرق بين ربا الجاهلية وبين الربا الذي جاءت السنة بالنهي عنه والتشديد فيه ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه، فحرم ربا الجاهلية وزعم أن تحريمه لا شك فيه وأباح ربا النسيئة عند الضرورة وربا الفضل عند الحاجة كما تقدم ذلك صريحا في نتيجة السوء (1) التي استنتجها بعقله الفاسد، وهذا من الإيمان ببعض الكتاب وعدم الإيمان ببعضه.

الوجه الخامس: أن يقال: إن الفتان لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون له مفهوم في السنة المطهرة كما زعم ذلك في أول كلامه في هذه الجملة التي تقدم ذكرها، وإما أن يكون جاهلا بالسنة وتكون دعواه دراسة مفهوم الربا في السنة مبنية على التخرص، وعلى الأول يكون إعراضه عن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ربا الفضل ناشئا عن العناد والمكابرة في رد السنة الصريحة، وعلى الثاني يكون قد قفا ما ليس له به علم فأحلَّ بعض الربا وحرم بعض بمجرد رأيه واتجاهاته المضلة، وهذا حرام شديد التحريم؛ لأنه يتضمن الكذب على الله والقول عليه بغير علم وقد قال الله -تعالى-:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} ، وقال -تعالى-:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وقال -تعالى-:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .

الوجه السادس: أن يقال: إذا كان الفتان قد درس مفهوم الربا في السنة المطهرة كما قد زعم ذلك فأي حجة له على استحلال ربا الفضل للحاجة واستحلال ربا النسيئة للضرورة مع أنه ليس في السنة ما يدل على ذلك البتة.

وأي عذر له في رد الأحاديث المتواترة في النهي عن ربا الفضل بدون استثناء حاجة، وقد جاء في بعضها النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة على وجه العموم، وليس فيها استثناء ضرورة ولا حاجة، وما كان تحريمه مطلقا بدون استثناء فليس لأحد أن يستثنى منه شيئا لم يستثنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ......................................

(1) ص92.

ص: 107

وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا}، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.

وفي الآية الكريمة والحديث أبلغ رد على الفتان الذي قد جعل لنفسه الخِيَرَة في تحليل ربا الفضل للحاجة وتحليل ربا النسيئة للضرورة، فخالف نص الآية الكريمة وخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» .

وأي عذر للفتان في رد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وفي رواية: «إلا يدا بيد» وفي رواية: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء» .

وأي عذر له في رد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بيه فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» .

وأي عذر له في رد قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء» وفي رواية: «الذهب بالذهب هاء وهاء، والفضة بالفضة هاء وهاء، والتمر بالتمر هاء وهاء، والبر بالبر هاء وهاء، والشعير بالشعير هاء وهاء لا فضل بينهما» .

وأي عذر له في رد قول النبي صلى الله عليه وسلم للذي باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» وفي رواية أنه قال: «أوه عين الربا لا تقربه» وفي رواية أنه قال: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال للرجل: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا» وفي رواية أنه قال له: «ويلك أربيت» .

فهذه نصوص ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم ربا الفضل والنسيئة فيجب العمل بها ولا يجوز رد شيء منها. ومن رد شيئا منها فهو على شفا هلكة، وما جاء في بعض النصوص من الأمر برد ربا الفضل فهو شبيه بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في وضع ربا الجاهلية.

فالواجب على الفتان وعلى كل من كان على شاكلته أن يتقوا الله ولا يردوا شيئا من

ص: 108

أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يضربوا بعضها ببعض فإن ذلك ليس بالأمر الهين، بل عاقبته وخيمة جدًا.

الوجه السابع: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وضع ربا العباس وغيره من ربا الجاهلية لأنه إذ ذاك كان باقيا في ذمم المدينين وقد أبطله الإسلام فلهذا وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب:«هذا الربا فردوه» فكما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع ربا العباس وغيره من ربا الجاهلية ولم يُقرهم عليه فكذلك قد أمر صلى الله عليه وسلم برد ربا الفضل ولم يقر الرجل عليه، فقد اتفق حكمه صلى الله عليه وسلم في وضع ربا الجاهلية وفي رد ربا الفضل، والعمل بهذا الحكم واجب متحتم ولا يجوز لأحد أن يخالفه، ومن عمل به في ربا الجاهلية وخالفه في ربا الفضل كما فعل الفتان فقد عرض نفسه للخطر العظيم؛ لأن الله -تعالى- يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد:"أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك"، فليحذر الفتان مما حذر الله منه في هذه الآية الكريمة، فلعله أن يكون له نصيب وافر مما جاء فيها وهو لا يشعر.

وأما قوله: إن آخر مرة خاطب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته كان في حجة الوداع حيث قال: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» .

فجوابه: أن يقال: هذا كلام تضحك منه الثكلى، وينبغي أن يوضع في الكتب التي تشتمل على أقوال الحمقى والمغفلين، وإنه لينطبق على الفتان قول الشاعر:

لقد كان في الإعراض ستر جهالة

غدوتَ بها من أشهر الناس في البُلْد

وهل يظن الفتان الذي يهرف بما لا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الخطاب مع أمته بعد أن قال لهم في حجة الوداع: «ألا إن ربا الجاهلية موضوع» فلم يكلمهم بعد ذلك حتى مات؟ أما علم المتكلف ما لا علم له به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك الخطاب مع أمته جماعات وأفرادا إلى أن نزل به الموت فجعل وهو في سياق الموت يحذرهم من اتخاذ القبور مساجد، ويوصيهم بالصلاة وما ملكت أيمانهم، قالت عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يلقي خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك:«لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» تقول عائشة رضي الله عنها: "يحذر مثل الذي صنعوا" رواه ..............................

ص: 109

الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والدارمي.

وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في الموت: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» فجعل يتكلم بها وما يفيض بها لسانه، رواه الإمام أحمد وابن ماجة، وفي رواية لأحمد: فجعل يتكلم بها وما يكاد يفيض بها لسانه، وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه.

فإن قال الفتان: إنه إنما أراد الخطبة وأن آخر مرة من خطبه صلى الله عليه وسلم هي التي قال فيها: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» .

فالجواب من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن كان مراده الخطبة وأنه أبدل لفظة الخطبة بالمخاطبة فلا يخفي ما في كلامه من الخطأ في التعبير؛ لأن الخطبة شيء والمخاطبة شيء آخر، قال ابن منظور في (لسان العرب):"ذهب أبو إسحاق إلى أن الخطبة عند العرب الكلام المنثور المسجع ونحوه"، وذكر عن صاحب (التهذيب) أنه قال:"الخطبة مثل الرسالة التي لها أول وآخر"، وكذا قال الزجاج:"إن الخطبة بالضم ما له أول وآخر نحو الرسالة"، نقله النووي عنه في (تهذيب الأسماء واللغات).

وأما المخاطبة فهي المراجعة في الكلام، قال صاحب (المحكم):"الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام"، نقله النووي عنه في (تهذيب الأسماء واللغات) وكذا قال ابن منظور في (لسان العرب):"إن الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام، قال وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا وهما يتخاطبان". انتهى.

الوجه الثاني: أن يقال: إن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة وهي التي قال فيها: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع» ليست آخر خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم بل إنه قد خطب الناس في يوم النحر بمنى، ثم خطبهم في أوسط أيام التشريق، ثم خطبهم بين مكة والمدينة بماء يدعي خُمّا، ثم لم يزل يخطبهم في أيام الجُمع إلى أن مرض مرضه الذي مات فيه، وآخر خطبة خطبها كانت في مرض موته صلى الله عليه وسلم وقد جاء ذلك في عدة أحاديث، منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء حتى جلس على المنبر

" فذكر الحديث في ....................................

ص: 110

الوصية بالأنصار، وقال في آخره:"فكان آخر مجلس جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري، وفي رواية قال: "صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وكان آخر مجلس جلسه

" فذكر الحديث في الوصية بالأنصار.

ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مرَّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم

" فذكر الحديث في الوصية بالأنصار، رواه البخاري.

ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو عاصب رأسه قال: فاتبعته حتى صعد على المنبر فقال: «إن عبدًا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة» فذكر الحديث في بكاء أبي بكر لما سمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم وقال في آخره ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فما رؤي عليه حتى الساعة" رواه الإمام أحمد والدارمي.

وفي هذا الأحاديث أبلغ رد على قول الفتان أن آخر مرة خاطب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أمته حيث قال في حجة الوداع: «ألا وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب» .

وأما قوله: ونحن نعرف أن ربا الجاهلية باتفاق العلماء هو الربا الذي نزل فيه القرآن الكريم.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الآيات التي نزلت في تحريم الربا والوعيد الشديد على أكله ليس فيها تخصيص لربا الجاهلية دون غيره من ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا الجاهلية، بل الآيات عامة لجميع أنواع الربا، وقد جاء بيان ذلك في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكرها فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على الفتان الذي حاول حصر الربا المحرم في ربا الجاهلية وزعم أنه الربا الذي لا شك فيه.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد تقوَّل على العلماء حيث زعم أنهم اتفقوا على

(1) ص29 - 39.

ص: 111

أن الربا الذي نزل فيه القرآن هو ربا الجاهلية، وهذا الاتفاق المزعوم لا وجود له في شيء من كتب التفسير المشهورة، فلم يذكره ابن جرير ولا ابن أبي حاتم ولا البغوي ولا غيرهم من أكابر المفسرين، وهو مردود بما ذكره البغوي وابن الجوزي والرازي في سبب نزول قول الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، قال ابن الجوزي:"في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف فلما وضع الله الربا طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم فنزلت هذه الآية والتي بعدها، هذا قول ابن عباس، والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان والعباس كانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال صاحب التمر إن أخذتما ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهما فنزلت هذه الآية، هذا قول عطاء وعكرمة، والثالث: أنها نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية وكان يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس» هذا قول السدي، قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إنما قال: {ما بقي من الربا}؛ لأن كل ربا كان قد ترك فلم يبق إلا ربا ثقيف، وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه وقبض بعضه في كفره ثم أسلم فيجب عليه أن يترك ما بقي ويعفى له عما مضى، فأما المراباة بعد الإسلام فمردودة فيما قبض ويسقط ما بقي". انتهى كلام ابن الجوزي، وقد ذكر البغوي والرازي نحو ما ذكره ابن الجوزي في سبب نزول الآية، وفيما ذكروه من الاختلاف في سبب نزول الآية أبلغ رد على ما في كلام الفتان من التقول على العلماء حيث زعم أنهم اتفقوا على أن الربا الذي نزل فيه القرآن هو ربا الجاهلية وهم لم يتفقوا على ذلك.

الوجه الثالث: أن يقال: على سبيل الفرض والتقدير لو وقع الاتفاق على أن ربا الجاهلية هو الربا الذي نزل فيه القرآن فإن التحريم لا يختص به، بل يكون عاما له ولغيره من أنواع الربا؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وألفاظ الآيات الواردة في تحريم الربا والتشديد فيه كلها على العموم فيدخل في عمومها ربا أهل الجاهلية وربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا الجاهلية، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بيانا شافيا قاطعا للشبه التي يتعلق بها الفتان وأشياعه من المبطلين، وقد قال ..............................

ص: 112

عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "سيأتي ناس يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل" رواه الدارمي والآجري في كتاب (الشريعة)، وقال يحيى بن أبي كثير:"السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة" رواه الدارمي. ومعناه أن السنة تفسر القرآن وتبين ما أجمل فيه. والدليل على ذلك قول الله -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وقوله -تعالى-:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمل في آيات الربا أتم البيان فلم يبق بعد بيانه صلى الله عليه وسلم شبهة يتعلق بها الفتان من مجمل القرآن، وغاية ما يذهب إليه هو المعارضة بين القرآن والسنة، وذلك واضح في تمسكه بتحريم ربا الجاهلية وزعمه أنه هو الربا المحرم الذي لا شك فيه وأنه هو الربا الذي نزل فيه القرآن، وقد كرر هذه الشبهة في خمسة عشر موضعًا من كتابته المؤسسة على محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين، وهو إلى جانب تمسكه بهذه الشبهة يهون أمر الربا الوارد تحريمه في السنة ويزعم أن ربا الفضل يجوز للحاجة وأن ربا النسيئة يجوز للضرورة، وهذا من الإيمان ببعض الكتاب وعدم الإيمان ببعضه.

فصل

وقال الفتان: "أما ربا الفضل الذي عرَّفه السيد قطب بأنه هو أن يبيع الرجل الشيء من نوعه مع زيادة؛ كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح والشعير بالشعير وهكذا فهو محرم أيضا ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وقال ابن القيم: والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، ويؤكد هذا الرأي ما قال به ابن حجر الهيثمي حيث قال: كان الربا يتم بأن يدفع الرجل ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر مقدارًا معينًا ورأس المال باقٍ بحاله فإذا حلَّ الأجل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل، وروى مثل ذلك أيضا فخر الدين الرازي".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إنه يجب على كل مؤمن أن يقابل أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم وأن لا يعارضها بقول أحد من الناس كائنا من .......

ص: 113

كان؛ لأنه لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل قول خالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود على قائله، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ربا الفضل، وفي بعضها النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة، وقد ذكرت منها قريبا من ثلاثين حديثا في أول الكتاب فلتراجع (1) ففيها أبلغ رد على الفتان الذي يحاول معارضة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه والمغالطات وما يقتضبه من كلام العلماء ويضعه على غير مواضعه.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد اقتضب جُملا يسيرة من كلام سيد قطب وابن حجر الهيتمي وفخر الدين الرازي، وذكر أرقام مواضعها في كتبهم ليتكثر بالنقل عنهم ويوهم الجهال أن أقوالهم موافقة لرأيه واتجاهه في التهوين من شأن ربا الفضل وأن تحريمه تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة.

ولا يخفى على من له علم وبصيرة ما في فعل الفتان من التمويه على الجهال والتلبيس عليهم، وما فيه أيضا من البعد عن أداء الأمانة في النقل عن العلماء وذلك لأنه كان ينقل من كلامهم ما يظن أن فيه تأييدا لأقواله الباطلة، ويترك ما فيه ردا عليه فلا ينقله، وهذا شأن أهل البدع، قال عبد الرحمن بن مهدي:"أهل البدع ينقلون ما لهم ولا ينقلون ما عليهم، وأهل السنة ينقلون ما لهم وما عليهم".

وسأذكر كلام العلماء الذين نقل عنهم الفتان في هذا الموضع ما نقل ليتضح أنه ليس في كلامهم ما يؤيد أقواله الباطلة، وليعلم أيضا أنه لا أمانة له في النقل وقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له» رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه.

فأما سيد قطب فإن الفتان أورد قوله في تعريف ربا الفضل: "هو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح والشعير بالشعير وهكذا". انتهى ما نقله من كلام قطب، ثم إنه ضم إليه زيادة من عنده وهي قوله:"فهو مُحرَّم أيضا ولكن تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد كما حرم ربا النسيئة، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة"، وهذه الزيادة ليست من كلام قطب، ومع هذا فقد وصلها الفتان بكلام قطب بدون فاصل يفصل بين كلامه وكلام قطب، وإنما فعل ذلك ليوهم الجهال أن الجميع كله من كلام ....................

(1) ص29 - 39.

ص: 114

قطب وأنه موافق لرأيه واتجاهه في التهوين من شأن ربا الفضل، وسأذكر من كلام قطب ما فيه كفاية في الرد على الفتان -إن شاء الله تعالى-.

قال في الكلام على آيات الربا من سورة البقرة: "إن الربا الذي كان معروفًا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان: ربا النسيئة وربا الفضل، فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة: "إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه

" ثم ذكر عن مجاهد نحو ذلك، وذكر أيضا عن الجصاص والرازي نحو ذلك بمعناه ثم قال:-

أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل بالشيء من نوعه مع زيادة كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح والشعير بالشعير وهكذا، وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شَبَه به

ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وذكر أيضا حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا» قال: كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع فقال: «أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» .

فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان، وأما النوع الثاني فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد، وقد وصفه صلى الله عليه وسلم بالربا ونهى عنه وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا، إبعادا لشبح الربا من العملية تمامًا، وكذلك شرط القبض «يدا بيد» كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل ولو من غير زيادة في شبح من الربا وعنصر من عناصره.

إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول صلى الله عليه وسلم بشبح الربا في أية عملية وبلغت كذلك حكمته في عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية.

فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم ............

ص: 115

الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا - ربا النسيئة - بالاستناد إلى حديث أسامة، وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية، وأن يُحلوا دينيا وباسم الإسلام الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية، ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية، فالإسلام ليس نظام شكليات، إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل، فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم منه صورة دون صورة، ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة". انتهى المقصود من كلامه باختصار.

وقال أيضا في الكلام على قول الله -تعالى-: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} : "وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي بعد تحريمه من الكفار الآثمين، الذين لا يحبهم الله، وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فالإسلام ليس كلمة باللسان، إنما هو نظام حياة ومنهج عمل، وإنكار جزء كإنكار الكل، وليس في حرمة الربا شبهة، وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم".

وقال أيضا في الكلام على قول الله -تعالى- في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} : "نقف عند الأضعاف المضاعفة فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ليقولوا إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة، أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة فليست أضعافًا مضاعفة وليست داخلة في نطاق التحريم

"، قال: "ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطا يتعلق به الحكم، والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} أيا كان". انتهى، وفي كلامه أبلغ رد على الفتان وعلى أشياعه وسلفه الذين يستحلون الربا بالحيل وتحريف الكلم عن مواضعه.

وأما قول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة.

فجوابه: أن يقال: إن الذي يقضي منه العجب في الحقيقة هو ما في كلام ابن القيم ..

ص: 116

-رحمه الله تعالى- من التهوين لشأن ربا الفضل ومخالفته لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشديد فيه حيث قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» وعن عبادة بن الصامت وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:«فمن زاد أو استزاد فهو ربا» .

قال النووي: "قوله: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» معناه فقد فعل الربا المحرم فدافع الزيادة وآخذها عاصيان". انتهى.

وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندي تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:«أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به» وقد رواه النسائي مختصرا وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوه عين الربا لا تقربه» .

قال النووي: "معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم". انتهى.

وروي مسلم عن أبي سعيد أيضا أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا» وفي رواية لأحمد ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذي باع التمر الرديء بأقل منه من الطيب: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا إذا رابك من تمرك شيء فبعه ثم اشتر الذي تريد من التمر» وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل: «ويلك أربيت إذا أردت فبع تمرك بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت» قال أبو سعيد رضي الله عنه فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أم الفضة بالفضة، وفي رواية لأحمد أن أبا سعيد رضي الله عنه قال:"فالتمر أربى أم الفضة بالفضة والذهب بالذهب" وروي الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن فمن زاد أو استزاد فقد أربى» والله ما كذب ابن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهذه الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في النهي عن ربا الفضل والتشديد فيه، وفيها أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من ...........

ص: 117

التعجب من المبالغة في ربا الفضل.

ومن أعظم المبالغات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من الربا والشديد فيه على وجه العموم الذي يشمل ربا الفضل وربا النسيئة ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» فذكرها ومنها أكل الربا، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وتقدم في أول الكتاب.

ومن أعظم المبالغات أيضا لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع هناك (1).

ومن أعظم المبالغات أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية» رواه الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة.

ومن أعظم المبالغات أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي بإسناد جيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وروى الحاكم نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم والذهبي.

وفي هذا المبالغات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن كل من بالغ من العلماء في النهي عن ربا الفضل والتحذير منه فهو مصيب ومحسن فيما فعل؛ لأنه قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وتمسك بأقواله، ومن تعجب من مبالغتهم في ذلك فتعجبه مردود عليه.

وقد ثبت عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما كانا ينهيان عن ربا الفضل ويبالغان في النهي عنه، وقد كتب أبو بكر رضي الله عنه بالنهي عنه إلى أمراء الأجناد حين قدموا الشام، وخطب عمر رضي الله عنه بذلك على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وتوعد من فعل ذلك بالعقوبة الموجعة في نفسه وماله، وقد ذكرت قريبا ما رواه الطحاوي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وذكرت أيضا أنه لم يعرف لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يدل على موافقتهم لهما، وذكرت أيضا ما رواه الطحاوي عن علي بن أبي ......................

(1) ص 27.

ص: 118

طالب وعمر وابنه عبد الله وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم أنهم كانوا ينهون عن ربا الفضل، فلتراجع أقوالهم (1) فإن فيها أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.

ومن المبالغة أيضا في النهي عن ربا الفضل ما جاء في قصة أبي الدرداء مع معاوية، وقد تقدم ذلك في الحديث الرابع والعشرين فليراجع، وكذلك ما جاء في قصة أبي أسيد مع ابن عباس وهي مذكورة في الحديث الأربعين فليراجع، وكذلك ما جاء في قصة عبادة بن الصامت مع معاوية فقد جاء فيها أن عبادة رضي الله عنه قال:"يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل لا زيادة بينهما ولا نظرة» "، فقال معاوية:"لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة"، فقال عبادة:"أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك"، وفي آخر القصة أن عمر رضي الله عنه كتب إلى معاوية أن يحمل الناس على ما قاله عبادة بن الصامت وقال:"إنه هو الأمر" وقد تقدم ذكر هذه القصة في أثناء الكتاب فلتراجع (2)، ففيها وفيما تقدم قبلها عن أبي الدرداء وأبي أسيد أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.

وأبلغ من جميع ما تقدم ذكره وأعظم في المبالغة في تحريم الربا والتشديد فيه والتحذير منه على وجه العموم الذي يشمل ربا الفضل وربا النسيئة ما جاء في الآيات من آخر سورة البقرة والآيات من سورة آل عمران، وقد ذكرت في أثناء الكتاب أن نصوص القرآن عامة فيدخل في عمومها ربا الفضل وربا النسيئة، فليراجع ما تقدم ذكره (3) ففيه أبلغ رد على ما في كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- من التعجب من المبالغة في ربا الفضل.

وأما ابن حجر الهيتمي مؤلف كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) فهو بالتاء المثناة - وليس بالثاء المثلثة كما قد جاء ذلك في كلام الفتان الذي يهرف بما لا يعرف - واسمه أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي. وإنما قيل له الهيتمي لأنه ولد في محله أبي الهيتم وهي قرية بمصر من أعمال الغربية، ويقال له أيضا ابن حجر المكي لأنه .................

(1) ص101 - 102.

(2)

ص53.

(3)

ص75 - 76.

ص: 119

سكن مكة ومات بها في سنة ثلاث وسبعين وتسعمائة، وقيل في سنة أربع وسبعين وتسعمائة.

أما الهيثمي بالثاء المثلثة فهو نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي وكان في القرن الثامن من الهجرة ومات في أول القرن التاسع في سنة سبع وثمانمائة وكانت وفاته قبل أن يولد ابن حجر الهيتمي بمائة سنة وزيادة سنتين.

وأما كلام الهيتمي في كتاب (الزواجر عن اقتراب الكبائر) فهو من أبلغ ما يرد به على الفتان، وقد نقل الفتان منه جملة تشتمل على التعريف بالربا الذي كان مشهورا في الجاهلية ليوهم الجهال أن رأي الهيتمي كان موافقا لرأيه واتجاهه في قصر الربا المحرم على ربا الجاهلية، وأعرض عما قبل الجملة وما بعدها فلم ينقل منه شيئا؛ لأن الهيتمي قد صرح فيه بتحريم جميع أنواع الربا وذكر الإجماع على ذلك، وهذا من عدم الأمانة عند الفتان، وقد سبق له أمثال ذلك فيما نقله عن بعض العلماء، وقد تقدم قريبا (1) حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له» .

وهذا ملخص كلام الهيتمي في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) وقد ابتدأ بذكر الكبائر التي تتعلق بالربا، وهي أكله وإطعامه وكتابته والشهادة عليه والسعي فيه والإعانة عليه، ثم ذكر الآيات الواردة في تحريمه والتشديد فيه والوعيد الشديد عليه ثم قال:"الربا لغة الزيادة، وشرعًا عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما، وهو ثلاثة أنواع؛ ربا الفضل وهو البيع مع زيادة أحد العوضين المتفقي الجنس على الآخر، وربا اليد وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما عن التفرق من المجلس بشرط اتحادهما علة بأن يكون كل منهما مطعوما أو كل منهما نقدًا وإن اختلف الجنس".

قلت: هذا النوع من ربا النسيئة فلا وجه لجعله نوعًا على حدته.

قال الهيتمي: "وربا النساء وهو البيع للمطعومين أو للنقدين المتفقي الجنس أو المختلفة لأجل ولو لحظة فالأول كبيع صاع بر بدون صاع بر أو بأكثر، أو درهم فضة بدون درهم فضة أو بأكثر، سواء أتقابضا أم لا، وسواء أجَّلا أم لا، والثاني كبيع صاع ...............

(1) ص114.

ص: 120

بر بصاع بر أو درهم ذهب بدرهم ذهب أو صاع بر بصاع شعير أو أكثر أو درهم ذهب بدرهم فضة أو أكثر لكن تأخر قبض أحدهما عن المجلس. الثالث كبيع صاع بر بصاع بر أو درهم فضة بدرهم فضة لكن مع تأجيل أحدهما ولو إلى لحظة. وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، لكنه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل لأنه الذي فيه شرط يجر نفعا للمقترض فكأنه أقرض هذا الشيء بمثله مع زيادة ذلك النفع الذي عاد إليه .. وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات المذكورة والأحاديث الآتية، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربع

قال: وربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا، ورأس المال باق بحاله، فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل، وتسمية هذا نسيئة مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرًا، وكان ابن عباس رضي الله عنهما لا يحرم إلا ربا النسيئة محتجًا بأنه المتعارف بينهم فينصرف النص إليه، لكن صحَّت الأحاديث بتحريم الأنواع الأربعة السابقة من غير مطعن ولا نزاع لأحد فيها، ومن ثم أجمعوا على خلاف قول ابن عباس، على أنه رجع عنه لما قال له أبي (1): أشهدت ما لم نشهد أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع؟! ثم روى له الحديث الصريح في تحريم الكل، ثم قال له: لا آواني وإياك ظل بيت ما دمت على هذا فحينئذ رجع ابن عباس، قال محمد بن سيرين: كنا في بيت عكرمة فقال له رجل أما تذكر ونحن ببيت فلان ومعنا ابن عباس فقال: إنما كنت استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أنه صلى الله عليه وسلم حرمه فاشهدوا أني حرمته وبرئت إلى الله منه". انتهى المقصود من كلام الهيتمي. وفيه أبلغ رد على زعم الفتان أن ما قال به ابن حجر الهيتمي يؤكد رأيه الفاسد في قصر الربا المحرم على ربا النسيئة، وفيه أيضا إظهار ما في كلام الفتان من الافتراء على الهيتمي والتقول عليه بضد ما جاء في كلامه من التصريح بتحريم أنواع الربا وذكر الإجماع على ذلك.

والكذب من أقبح الخلال ومن كبائر الإثم وصفات المنافقين. وقد جاء في ذمه والتحذير منه آيات وأحاديث كثيرة، فمن الآيات قول الله -تعالى-:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، وقال -تعالى- متوعدا ..............

(1) كذا في الزواجر، وصوابه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 121

المنافقين على الكذب: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ، وقال -تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} ، قال أبو قلابة:"هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة" رواه ابن جرير بإسناد صحيح، ومن الأحاديث ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب» وروى البزار وأبو يعلى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، قال المنذري:"ورواته رواة الصحيح"، وروى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال:"يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للإيمان"، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» والآيات والأحاديث في ذم الكذب كثيرة جدًا، وفيما ذكرته كفاية -إن شاء الله.

وأما فخر الدين الرازي فإنه قال في تفسيره: "اعلم أن الربا قسمان ربا النسيئة وربا الفضل، أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهور متعارفا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا ويكون رأس المال باقيا، ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به، وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك - ثم ذكر عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وأنه رجع عن قوله لما حدثه أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ربا الفضل ثم قال: وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أما القسم الأول فبالقرآن، وأما ربا النقد فبالخبر". انتهى المقصود من كلام الرازي وفيه أبلغ رد على الفتان.

الوجه الثالث: أن يقال: أما زعم الفتان أن تحريم ربا الفضل تحريم وسائل من باب سد الذرائع لا تحريم مقاصد وأن ما حرم سدا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، فهو مما أخذه من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وقد تقدم الجواب عنه مبسوطًا في أثناء الكتاب فليراجع (1).

(1) ص84 - 92.

ص: 122

الوجه الرابع: أن يقال: إن ابن القيم -رحمه الله تعالى- لم يذكر شيئا مما أُبيح للمصلحة الراجحة من ربا الفضل سوى العرايا، ولم يذكر غير ذلك إذ لا توجد الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير العرايا، وما سواها فهو باق على المنع والتحريم كما سيأتي بيان ذلك في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

والعرايا هي بيع الرطب في رؤوس النخل خرصا بمثله من التمر كيلا فيما دون خمسة أوسق لمن به حاجة إلى أكل الرطب ولا ثمن معه، وهي مستثناة مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزابنة، وهي بيع الثمر على رؤوس النخل بالتمر كيلا، وسيأتي بيان معناها في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره مما سيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى-.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في بيع العرايا ولم يرخص في غير ذلك، فمن الأحاديث الواردة في ذلك ما في الصحيحين عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبيعوا الثمر بالتمر» قال سالم: وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رخَّص بعد ذلك في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره» هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم نحوه، وقال في آخر:«ولم يرخص في غير ذلك» وقد ترجم البخاري لهذا الحديث وأحاديث معه بقوله: "باب بيع المزابنة وهي بيع التمر بالثمر وبيع الزبيب بالكرم وبيع العرايا"، وقد رواه الإمام أحمد مختصرًا ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص في بيع العرايا أن تباع بخرصها ولم يرخص في غير ذلك» ، ورواه النسائي ولفظه:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بالرطب وبالتمر ولم يرخص في غير ذلك» وقد رواه الإمام أحمد أيضا والنسائي وابن ماجة مختصرًا جدًا ولفظه عندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص في العرايا» ، ورواه مسلم مختصرًا ولفظه:«رخص في بيع العرايا» .

وقد رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا» وفي رواية لأحمد ومسلم: «رخص في العرية أن تؤخذ بمثل خرصها تمرًا يأكلها أهلها رطبًا» .

ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت قال: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلا» ورواه أبو داود والنسائي بمعناه.

ومن الأحاديث أيضًا حديث بُشَير بن يسار مولى بني حارثة عن سهل بن أبي حثمة -رضي

ص: 123

الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا أن تشتري بخرصها يأكلها أهلها رطبًا» رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود، وروى النسائي منه قوله:«ورخص في العرايا أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبًا» وقد رواه مسلم بزيادة، ولفظه عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الثمر بالتمر» وقال:«ذلك الربا تلك المزابنة» إلا أنه «رخص في بيع العرية النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبا» وروي مسلم أيضا عن بشير بن يسار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: «رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع العرية بخرصها تمرًا» ورواه النسائي بنحوه.

ومن الأحاديث أيضا حديث بشير بن يسار أن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه قد أذن لهم» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق» رواه مالك في الموطأ، ورواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي كلهم من طريق مالك.

ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا ورخص في العرايا» رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي. وهذا لفظ أحمد ونحوه في إحدى روايات مسلم.

ومنها حديث جابر بن عبد الله أيضا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أذن لأصحاب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: «الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة» رواه الإمام أحمد وأبو يعلي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والطحاوي والبيهقي كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيي بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر رضي الله عنه، وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث عن أحمد وابن حبان فزال ما يخشى من تدليسه.

وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على الفتان الذي يريد أن يتوسع في استحلال ربا الفضل معتمدًا على قول ابن القيم أن تحريمه تحريم وسائل من باب سد الذرائع وأن ما حرم سدًا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة.

ص: 124

وفي التصريح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا ولم يرخص في غير ذلك دليل على حصر المصلحة الراجحة في بيع العرايا وأن ما سوى ذلك من ربا الفضل فهو باقٍ على المنع والتحريم.

فصل

وقال الفتان: "أما الدليل على أن الربا يتخذ صورة التضعيف فهو ما أكده قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} وقد ورد في سبب نزولها: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له تقضيني أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوَّله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ثم حقة ثم جذعة ثم رباعيًا ثم هكذا إلى فوق، وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه".

والجواب: أن يقال: أما ما ذكره الفتان من صفة الربا الذي كان يفعله أهل الجاهلية فهو من كلام زيد بن أسلم، رواه ابن جرير بإسناده عن ابن زيد وهو - عبد الرحمن - عن أبيه، وهذه الصفة لا تقتضي حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية كما هو الظاهر من استدلال الفتان بالآية من سورة آل عمران على أن الربا يتخذ صورة التضعيف، وقد تقدم قريبا (1) قول سيد قطب إن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطًا يتعلق به الحكم، قال:"والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} أيا كان". انتهى.

وتقدم أيضا في أثناء الكتاب قول الشيخ أحمد محمد شاكر في الكلام على قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} الآية: "إن المتلاعبين بالدين من أهل عصره وأوليائهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي، بل التشريع اليهودي في الربا، يلعبون بالقرآن ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو ................

(1) ص116.

ص: 125

الأضعاف المضاعفة ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا على ما ترضى أهواؤهم وأهواء سادتهم". انتهى المقصود من كلامه فليراجع (1)، وليراجع ما بعده من كلام الشيخ محمود شلتوت، وليراجع (2) أيضا كلام قطب، ففي كلام هؤلاء أبلغ رد على ما في كلام الفتان من محاولة حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية.

وليراجع (3) أيضا قول الهيتمي في ربا الفضل وربا اليد وربا النساء وربا القرض أنها كلها حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وأن ما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة، ففي كلامه أبلغ رد على ما في كلام الفتان من محاولة حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية.

وأما زعم الفتان أنه قد ورد في سبب نزول الآية ما جاء عن زيد بن أسلم في صفة الربا الذي كان يتعامل به في الجاهلية.

فالجواب عنه: أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، ولفظ الآية من سورة آل عمران عام فيدخل في عمومه ربا الفضل وربا النسيئة، وسواء في ذلك ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما كان يفعل في الإسلام، وكذلك ألفاظ الآيات التي نزلت في تحريم الربا والوعيد الشديد على أكله كلها قد جاءت بلفظ العموم فيدخل في عمومها ربا الفضل وربا النسيئة على أي صفة كان.

وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ربا الفضل وربا النسيئة، وفي بعضها النص على أن من زاد أو استزاد في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح فقد أربى، وهذا النص يدل على أن الزيادة في بيع الجنس من هذه الأعيان الستة بجنسه ربا، وظاهره يدل على أنه لا فرق بين أن تكون الزيادة كثيرة أو قليلة، وفي هذا أبلغ رد على قول الفتان أن الربا يتخذ صورة التضعيف، ولا يخفي على من له علم وبصيرة أن هذا القول الباطل يتضمن معارضة أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف بل إنه يتضمن إطراح الأحاديث المتواترة في ذلك وقلة المبالاة بها، ويتضمن أيضا التفريق بين الله وبين رسوله حيث أنه يؤمن بالآية التي زعم أنها تدل على أن .....

(1) ص59 - 60.

(2)

ص116.

(3)

ص121.

ص: 126

الربا يتخذ صورة التضعيف ولا يؤمن بالأحاديث المتواترة في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف، وما أشد الخطر في هذا؛ لأن الله -تعالى- حذر المؤمنين من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد المخالفين عن أمره بالوعيد الشديد فقال -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".

فصل

وقال الفتان: موقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من المصارف. ثم قال: "إن استعراض مجمل الأحكام المسلم بها لدى أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام يبين لنا ما يلي:

1 -

أن الربا محرم تحريمًا قطعيًا لا شك فيه".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الكتاب والسنة هما الميزان الذي توزن به أقوال أهل الفتوى وغيرهم من أهل العلم فما وافقهما فهو مقبول وما خالفهما فهو مردود على قائله كائنا من كان إذ لا قول لأحد مع قول الله -تعالى- وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} .

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن كل محاولة أتى بها الفتان لحصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية - وهو الربا الذي يقول فيه الفتان: إنه يتخذ صورة التضعيف، وكذلك كل محاولة أتى بها للتهوين من شأن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف، وكذلك ما اعتمد عليه من جهالات العصريين الذين كانوا في القرن الرابع عشر من الهجرة والذين كانوا في القرن الخامس عشر فكله مردود عليه ومضروب به عرض الحائط؛ لأنه محاولات مبنية على مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم جميع أنواع الربا. لا فرق في ذلك بين ربا أهل الجاهلية وبين .....

ص: 127

الربا الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدَّد فيه كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث الثابتة المتواترة فلتراجع (1).

الوجه الثاني: أن يقال: إن كبار رجال الفتوى في الإسلام على الحقيقة هم علماء الصحابة رضي الله عنهم، فإذا ذكر كبار رجال الفتوى في الإسلام على وجه الإطلاق فإن هذا الوصف ينصرف إليهم قبل الذين كانوا من بعدهم، وبعد علماء الصحابة أكابر علماء التابعين ثم أئمة العلم والهدي من بعدهم، فهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم الوصف بأنهم كبار رجال الفتوى في الإسلام، وقد تقدم بيان موقف الصحابة من تحريم الربا وفيهم الخلفاء الأربعة الراشدون المهديون، وفيهم أيضا عدد من العشرة المشهود لهم بالجنة، فليراجع ذلك في الفصل الذي قد ذكر فيه الإجماع على تحريم الربا (2)، وليراجع أيضا ما ذكر فيه من إجماع علماء الأمصار على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ، قال ابن المنذر:"وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة يكثر عددهم من التابعين".

وليراجع أيضا ما ذكر في أثناء الكتاب (3) عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فأما أبو بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كتب إلى أمراء الأجناد حين قدموا الشام:"أما بعد: فإنكم قد هبطتم أرض الربا فلا تتبايعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن ولا الطعام بالطعام إلا كيلاً بكيل".

ولم يذكر عن أحد من أمراء الأجناد ولا عن غيرهم من الصحابة الذين كانوا معهم - وهم كثيرون جدا- أنهم خالفوا ما جاء في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدل ذلك على موافقتهم له.

وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: "لا يشتري أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهما بدرهمين ولا قفيزًا بقفيزين وإني لا أوتى بأحد فعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله".

(1) ص 29 - 39.

(2)

ص45.

(3)

ص101 - 102.

ص: 128

قال الطحاوي بعد سياق هذا الأثر: "فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب بهذا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة أصحابه -رضوان الله عليهم- لا ينكره عليه منهم منكر فدل ذلك على موفقتهم له عليه". انتهى.

فهذا هو موقف أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام من تحريم ربا الفضل والتشديد فيه، وما خالف موقفهم من محاولات الفتان وغيره من المتلاعبين بالدين وتهافتهم في التهوين من شأن ربا الفضل وربا النسيئة الذي لم يتخذ صورة التضعيف واستحلال هذين النوعين بالشبه والأباطيل فكله مردود ومضروب به عرض الحائط.

الوجه الثالث: أن يقال: إن المصارف لم توجد في زمان كبار رجال الفتوى في الإسلام وهم علماء الصحابة رضي الله عنهم، ولم توجد في زمان التابعين وأئمة العلم والهدي من بعدهم، وإنما حدثت وانتشرت في البلاد الإسلامية في القرن الرابع عشر من الهجرة، وعلى هذا فهل يقول عاقل إن كبار رجال الفتوى في الإسلام كان لهم موقف من المصارف، وهي لم تكن في زمانهم وإنما حدثت بعد زمانهم بنحو من ثلاثة عشر قرنًا؟! كلا، لا يقول ذلك إنسان يعقل ما يقول.

فإن قال الفتان إنه إنما أراد العلماء الذين نقل عنهم بعض الكلمات التي كان يرى فيها تأييدًا لرأيه واتجاهه الذي زعم فيه أن الربا يتخذ صورة التضعيف.

فالجواب: أن يقال: إن العلماء الذين نقل الفتان من كلامهم ما يظن أن فيه تأييدًا لباطله ليسوا كبار رجال الفتوى في الإسلام؛ لأن هذه الصفة إنما تنطبق مع الإطلاق على علماء الصحابة رضي الله عنهم، ثم تنطبق بعدهم على أكابر علماء التابعين، وأما العلماء الذين سيأتي ذكر ما نقله الفتان من كلامهم فإنهم وإن كانوا من أكابر العلماء في زمانهم ومن رجال الفتوى فليسوا بمنزلة علماء الصحابة ولا بمنزلة أكابر علماء التابعين، وعلى هذا فلا ينبغي أن يوصفوا بالصفة التي يستحقها علماء الصحابة بالأولوية.

ويقال أيضا: إن المصارف لم توجد إلا في زمان رشيد رضا وأقرانه وشيوخهم وأما غير رشيد رضا من العلماء الذي نقل الفتان من كلامهم ما سيأتي ذكره قريبًا فإنهم لم يكونوا يعرفون المصارف؛ لأنها لم توجد في أزمانهم وإنما حدثت بعد أزمانهم بدهر طويل، وعلى هذا فإنه ليس من المعقول أن يقال إن لهم موقفا من المصارف بل هذا يعد من هذيان الفتان ومن كذبه على العلماء الذين كانوا قبل زمان المصارف.

ص: 129

وأما رشيد رضا وبعض أقرانه وبعض شيوخهم فإن لهم نزوات في تحليل ربا الفضل وتسميته باسم الفائدة، وفيما تقدم في أول الكتاب من أدلة القرآن والسنة والإجماع على تحريم الربا على وجه العموم أبلغ رد على أباطيلهم، وقد رد عليهم الشيخ أحمد محمد شاكر في كتابه المسمى (عمدة التفاسير) وسماهم المتلاعبين بالدين، ورد عليهم الشيخ محمود شلتوت في كتابه (تفسير القرآن الكريم) وقال فيهم:"إنهم مولعون بتصحيح التصرفات الحديثة وتخريجها على أساس فقهي إسلامي ليُعرفوا بالتجديد وعمق التفكير"، ورد عليهم سيد قطب في تفسيره وسماهم المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية، فليراجع كلام الشيخ أحمد محمد شاكر وكلام الشيخ محمود شلتوت في أول الكتاب (1)، وليراجع كلام قطب فيما تقدم قريبا (2).

الوجه الرابع: أن يقال: ما ذكره الفتان في أول استعراضاته لمجمل الأحكام المسلَّم بها لدى أهل العلم وكبار رجال الفتوى في الإسلام، وهو القول بأن الربا محرم تحريمًا قطعيًا لا شك فيه .. فهو الصواب الذي تؤيده الأدلة من القرآن والسنة والإجماع، وما خالفه من الأقوال التي يستحل أهلها بعض أنواع الربا فكلها من الباطل المردود.

فصل

وقال الفتان: "إن الربا المجمع على تحريمه بلا شك هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وقد بيَّنه الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لاشك فيه، فقد بينه وميزه عن غيره بأن وصفه بأنه أخذ الزيادة في مقابل التأجيل فقال: هو أن يكون له دين فيقول للمدين إذا حل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن لم يقض زاد المدين المال وزاد الدائن الأجل، انظر الجزء الرابع من فتاوي رشيد رضا صفحة 1342.

(1) ص 59 - 60.

(2)

ص116.

ص: 130

ويقول ابن القيم رحمه الله عن ربا النسيئة: هو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلاف (1) مؤلفة، وفي الغالب لا يقبل ذلك (2) إلا معدوم (3) محتاج فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوداته".

والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ما زعمه الفتان من أن الربا المجمع على تحريمه هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية فهو خطأ محض، وحكايته الإجماع عليه كذب على العلماء؛ لأن هذا القول خلاف الإجماع الذي حكاه ابن المنذر وابن عبد البر والموفق وابن أبي عمر والنووي وغيرهم عن علماء الأمصار، فقد ذكر ابن المنذر عنهم: "أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ولا فضة بفضة ولا بر ببر ولا شعير بشعير ولا تمر بتمر ولا ملح بملح متفاضلا يدا بيد ولا نسيئة وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ

قال: وقد روينا هذا القول عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة يكثر عددهم من التابعين". انتهى.

وقال ابن عبد البر: "لا أعلم خلافًا بين أئمة الأمصار بالحجاز والعراق وسائر الآفاق أن الدينار لا يجوز بيعه بالدينارين ولا بأكثر منه وزنا ولا الدرهم بالدرهمين ولا بشيء من الزيادة عليه". انتهى، وقال الموفق في المغنى:"أجمعت الأمة على أن الربا محرم قال: والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة، وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى. وذكر ابن أبي عمر في الشرح الكبير نحو ما ذكره الموفق.

وذكر النووي إجماع المسلمين على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالاً كالذهب بالذهب وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة والحنطة بالشعير، وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدًا بيد كصاع حنطة بصاعي شعير. انتهى.

(1) قول آلاف، كذا جاءت هذه الكلمة بالرفع في نبذة الفتان، وصوابه آلافاً بالنصب.

(2)

قوله لا يقبل ذلك، كذا جاء في نبذة الفتان، وصوابه: لا يفعل ذلك.

(3)

قوله معدوم محتاج، كذا جاء في نبذة الفتان، وصوابه: معدم محتاج، وإذا كان الفتان لا يعرف الفرق بين المرفوع والمنصوب ولا يعرف الفرق بين المعدوم الذي لا يوجد وبين المعدم الذي هو الفقير الذي لا مال له فينبغي له أن يعرف قدر نفسه ولا يقفُ ما ليس له به علم ولا يتكلف الكتابة في الأحكام التي لا يعرفها ولا يعرف الراجح من الأقوال فيها من المرجوح، وإنه لينطبق على الفتان قول الشاعر:

لقد كان في الإعراض ستر جهالة

غدوتَ بها من أشهر الناس في البُلْد

ص: 131

وقد ذكرت هذه الأقوال وغيرها في الفصل الذي فيه ذكر الإجماع على تحريم الربا فلتراجع في أول الكتاب (1) ففيها أبلغ رد على الفتان المفتون الذي يهرف بما لا يعرف.

وقد ذكرت أيضا قول ابن حجر الهيتمي أن الربا ثلاثة أنواع، ربا الفضل وربا اليد، وربا النساء، قال: وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، قال الهيتمي: وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة. انتهى، فليراجع كلامه (2) ففيه أبلغ رد على الفتان المفتون.

الوجه الثاني: أن يقال: إنَّ حَصْرَ الربا المجمع على تحريمه في ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية يتضمن رد الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية، ومن رد شيئا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة؛ لأن الله -تعالى- يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وقال -تعالى-:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما جاء في الآيتين من الوعيد الشديد؛ لأنه قد بذل جهده في التهوين من شأن ربا الفضل وربا النسيئة الذي ليس على طريقة أهل الجاهلية، وكذلك قد بذل جهده في محاولة حصر الربا فيما كان يفعله أهل الجاهلية ولم يبال بما يترتب على ذلك من مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة أقواله الثابتة عنه في النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة على أي صفة كان.

وأما ما ذكره الفتان عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- فقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (3).

فصل

وقال الفتان: "أما ربا الفضل فقد حُرِّم سدًا للذريعة، وما كان كذلك فيجوز للمصلحة، كما قال به العلامة ابن القيم، وقال رشيد رضا في فتواه: واعلم أن الزيادة .....

(1) ص45 - 46.

(2)

ص120 - 121.

(3)

ص86 - 87.

ص: 132

الأولى في الدين المؤجل هي من ربا الفضل وإن كانت لأجل التأخير، لكن ربا النسيئة المعروف هو ما يكون بعد حلول الأَجَل لأَجْل الإنساء، أي التأخير، قال الفتان: ومعنى ذلك أن النص عند عقد الدين على الزيادة على أصل الدين في مقابل الأجل المحدد في العقد وطلب المدين تأجيله في مقابل حلول أجل الدين وذلك لأجل الإنساء فقط أي التأخر فقط للدين القديم فهذا ربا لا شك فيه ولا تجوز إباحته بأي حال من الأحوال".

والجواب: أن يقال: أما قول ابن القيم إن ربا الفضل حُرِّم سدًا للذريعة فليس عليه دليل البتة، وقد تقدم الجواب عنه مبسوطًا في أثناء الكتاب فليراجع (1).

وأما قوله: إن ربا الفضل يجوز للمصلحة.

فجوابه: أن يقال: إن ابن القيم لم يذكر شيئا مما أبيح للمصلحة من ربا الفضل سوى العرايا، ولم يذكر غيرها، وقد تقدم الكلام في بيع العرايا وبيان أن المصلحة المستثناة من ربا الفضل محصورة في بيع العرايا، وما سواها فهو باق على المنع والتحريم، فليراجع ما تقدم (2) ففيه كفاية في الرد على الفتان الذي يحاول استحلال ربا الفضل معتمدا على ما جاء في كلام ابن القيم من ذكر المصلحة المستثناة من ربا الفضل.

وأما رشيد رضا فإنه قد تبع شيخه محمد عبده في تحليل ربا الفضل وتسميته باسم الفائدة، وله في تحليله عدة فتاوى، فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من فتاواه وفتاوى شيخه في تحليل الربا فإنها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع المسلمين.

فصل

وقد تلاعب الشيطان بالفتان غاية التلاعب وزين له التمويه والتلبيس على الجهال وأغراه بذلك، فمن ذلك تمويهه وتلبيسه بما ذكره عن ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية والموفق وابن حزم في إجازة المصالح التي لا مضرة فيها وليس لها تعلق بمسائل الربا، وقد جعل كلامهم فيها مستندا له في تحليل الربا للمصلحة والحاجة، وليس في كلامهم ما يؤيد قوله الباطل كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-.

(1) ص85 - 92.

(2)

ص123 - 125.

ص: 133

فأما ابن القيم فإنه ذكر عنه أنه قال في كتابه (زاد المعاد): "الشرائع مبناها مصالح العباد (1) وعدم الحجر عليهم فيما لابد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به".

وقال الفتان: "فتناول -رحمة الله- الضرورات أولاً في قوله فيما لا بد لهم منه، ثم تناول عليهم فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به".

والجواب: أن يقال: ليس في كلام ابن القيم ما يتعلق به الفتان فيما هو مفتون به من تجويز ربا النسيئة للضرورة وتجويز ربا الفضل للحاجة؛ لأن كلام ابن القيم لم يكن في مسائل الربا وإنما هو في بيع المقاثئ والمباطخ إذا بدا صلاحها، وعلى هذا فإدخال مسائل الربا في هذه المسألة خطأ وتمويه وتلبيس على الجهال.

وسأذكر -إن شاء الله تعالى- كلام ابن القيم في مسألة بيع المقاثئ والمباطخ ليعلم المطلعون عليه أنه ليس فيه ما يتعلق به الفتان في إباحة الربا.

قال في الكلام على بيع المعدوم ما ملخصه:

"المعدوم ثلاثة أقسام: معدوم موصوف في الذمة: فهذا يجوز بيعه اتفاقًا، وهذا هو السلم، والثاني: معدوم تبع للموجود وهو نوعان، نوع متفق عليه ونوع مختلف فيه، فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بُدُوِّ صلاح ثمرة واحدة منها، والنوع المختلف فيه كبيع المقاثئ والمباطخ إذا طابت فهذا فيه قولان، أحدهما: أنه يجوز بيعها جملة ويأخذها المشتري شيئا بعد شيء كما جرت به العادة ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وهذا هو الصحيح من القولين الذي استقر عليه عمل الأمة ولا غنى لهم عنه، ولم يأت بالمنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا أثر ولا قياس صحيح".

ثم ذكر قول الذين قالوا لا يباع إلا لقطة لقطة وردَّ عليهم وذكر أنه يتعذر العمل بقولهم غالبا، وإن أمكن ففي غاية العسر ويؤدي إلى التنازع والاختلاف الشديد، وما كان هكذا فإن الشريعة لا تأتي به، ولو ألزم الناس به لفسدت أموالهم وتعطلت مصالحهم

إلى أن قال: "والشرائع مبناها على رعاية مصالح العباد وعدم الحجر عليهم فيما لابد له منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به".

ثم ذكر القسم الثالث وهو المعدوم الذي لا يدري يحصل أولا يحصل، وذكر أن الشارع منع منه لكونه من الغرر. انتهى المقصود من كلامه، ومنه يعلم ما في كلام .......

(1) قوله مبناها مصالح العباد، كذا جاء في نبذة الفتان، وصوابه مبناها على رعاية مصالح العباد.

ص: 134

الفتان من التقول على ابن القيم حيث وضع كلامه على غير موضعه وحمله على ما يوافق قوله الباطل ورأيه الفاسد في تحليل الربا، وذلك في زعمه أن كلام ابن القيم قد تناول الضرورات والحاجات، ومراده بالضرورات والحاجات ما هو مفتون به من تجويز ربا النسيئة للضرورة وتجويز ربا الفضل للحاجة، لا يخفى على من له علم وبصيرة أن كلام ابن القيم بعيد غاية البعد عما حمله الفتان عليه.

وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فإن الفتان ذكر عنه أنه قال في المصلحة: "إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا".

قال الفتان: "وهذا أيضا في موضوع الحاجات التي هي دون الضرورات".

والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ليس في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ما يتعلق به الفتان في تجويز ربا الفضل للحاجة؛ لأن كلامه لم يكن في مسائل الربا وإنما هو في تأجير الأرض التي تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤجرها لمن يسقيها ويزرعها أو يسكنها مع ذلك، قال: فهذا إذا كان فيها أرض وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، والثاني: يجوز إذا كان الشجر قليلا وكان البياض الثلثين أو أكثر، والثالث: يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ودخول الشجر في الإجارة مطلقًا، وقد صحح الشيخ القول بالجواز ورد على من قال بالتحريم، وأطال الكلام في الرد عليهم وقال في إثنائه:"فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا" ثم قال ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وقوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية - هي ترك واجب أو فعل محرم - لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد. انتهى المقصود من كلامه ملخصا، وهو مبسوط في صفحة خمس وخمسين إلى صفحة ثمان وثمانين من المجلد التاسع والعشرين من مجموع الفتاوى، ومنه يعلم ما في كلام الفتان من التقول على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث وضع كلامه على غير موضعه وحمله على ما يوافق الباطل في تحليل الربا وذلك في زعمه أن كلام شيخ الإسلام في موضوع الحاجات التي هي دون الضرورات، ومراده بالحاجات تجويز ربا الفضل للحاجة ومراده بالضرورات تجويز ربا النسيئة للضرورة،

ص: 135

وقد صرح بذلك فيما زعم أنها نتيجة هامة، وتقدم كلامه في ذلك والرد عليه في أثناء الكتاب فليراجع (1).

ولا يخفي على ذوي العلم والبصيرة أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بعيد غاية البعد عما حمله الفتان عليه.

وفي قول شيخ الإسلام أن كل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية- هي ترك واجب أو فعل محرم - لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد، أبلغ رد على الفتان لأن الشيخ -رحمه الله تعالى- قيَّد الحاجة بما لم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم، وبهذا التقييد ينعكس الأمر على الفتان ويكون كلام شيخ الإسلام مجابهًا لقوله وكاشفًا لشبهته وتلبيسه؛ وذلك لأن التعامل بالربا من أعظم المعاصي والمحرمات وليس في تحريمه استثناء حاجة ولا ضرورة سوى بيع العرايا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن في بيعها بخرصها لأن التقدير بالخرص يقام مقام التقدير بالكيل عند الحاجة. وقد ذكرت الأحاديث الواردة في الرخصة في بيع العرايا فلتراجع (2).

الوجه الثاني: أن يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- سئل عن تحريم الربا، فأجاب بقوله:"المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع وقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه» وإن كان أصل الربا في الجاهلية أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل فإذا حل الأجل قال له: أتقضي أم تربي فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال فيتضاعف المال، والأصل واحد، وهذا الربا حرام بإجماع المسلمين". انتهى وهو في صفحة ثمان عشرة وأربعمائة وأول صفحة تسع عشرة وأربعمائة من المجلد التاسع والعشرين من مجموع الفتاوى.

وقال الشيخ أيضا في صفحة ثلاث وثمانين ومائتين وصفحة أربع وثمانين ومائتين من المجلد التاسع عشر من مجموع الفتاوى: "ومن هذا الباب لفظ الربا فإنه يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله".

وقال أيضا في صفحة ست وعشرين ومائة من المجلد الخامس عشر من مجموع الفتاوى: "وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من

(1) ص92 - 96.

(2)

ص123 - 124.

ص: 136

ظلمه، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره".

وقال أيضًا في الفتاوى المصرية: "بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرام". انتهى.

وفي كل موضع من هذه المواضع أبلغ رد على ما موَّه به الفتان على الجهال حيث قال في قول شيخ الإسلام: "إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا" إنه قد جاء في موضوع الحاجات التي هي دون الضرورات، وكلام شيخ الإسلام في موضوع غير هذا الموضوع كما تقدم بيان ذلك في الوجه الأول وهو بعيد غاية البعد عما حمله الفتان عليه.

وأما الموفق ابن قدامة -رحمه الله تعالى- فإن الفتان ذكر عنه أن قال في المغنى: "إن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها وإنما يرد بمشروعيتها".

والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ليس في كلام الشيخ الموفق ما يتعلق به الفتان من تجويز ربا الفضل للحاجة وربا النسيئة للضرورة؛ لأن كلامه فيما يتعلق بالقرض، وهو أن يقرض الإنسان آخر قرضا ويشترط عليه أن يعطيه إياه في بلد آخر، فإن كان لحمله مؤنة لم يجز لأنه زيادة، وإن لم يكن لحمله مؤنة فقد أختلف العلماء في الجواز وعدمه، وعن أحمد في ذلك روايتان، قال الشيخ الموفق:"والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها بل بمشروعيتها، قال: ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة". انتهى المقصود من كلامه وهو في باب القرض من كتاب المغنى، وقد صحح شيخ الإسلام ابن تيمية القول بالجواز، وكلامه في ذلك مذكور في الاختيارات وفي الجزء التاسع والعشرين من مجموع الفتاوي.

وقد غيَّر الفتان أول عبارة الموفق ليوهم الجهال أن في قوله تأييدًا لما يراه من جواز ربا الفضل للحاجة وربا النسيئة للضرورة، وفي تغيير الفتان لعبارة الموفق دليل على أنه لا أمانة له.

وفي تعليل الموفق للجواز بأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة أبلغ رد على الفتان الذي يرى جواز الربا ولا يبالي بمخالفة النصوص الدالة على تحريمه والتشديد فيه.

ص: 137

الوجه الثاني: أن يقال: إن الشيخ الموفق ذكر في "باب الربا والصرف" من كتاب المغني أن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع - ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة - ثم قال: "وأجمعت الأمة على أن الربا محرم، قال: والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى المقصود من كلامه، وفيه أبلغ رد على ما تعلق به الفتان من كلام الموفق في مسألة القرض التي تقدم ذكرها في الوجه الأول.

وأما ابن حزم فإن الفتان ذكر عنه أنه قال: "المفسدة إذا عارضتها مصلحة راجحة قدمت المصلحة وألغي اعتبار المفسدة".

قال الفتان: "ومن ذلك أيضا القاعدة الشرعية في مختلف المذاهب وهي أن المفسدة إذا عارضتها مصلحة أو حاجة راجحة أبيح المحرم".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الله -تعالى- قد حرم الربا تحريمًا مطلقًا وشدد فيه وتوعد عليه بأشد الوعيد وأخبر أنه يمحقه، وآذن المرابين بالحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قد حرم الربا وشدد فيه ولعن آكله ومؤكله وشاهديه وكاتبه، ونص على أنه من السبع الموبقات - أي المهلكات - ولم يأت في القرآن ولا في السنة ما يدل على إباحة شيء منه لا لحاجة ولا ضرورة ولا مصلحة ولا غير ذلك سوى بيع العرايا بخرصها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن فيها، وما سوى بيع العرايا فتحريمه على الإطلاق وليس فيه استثناء البتة، وليس لأحد قول مع الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} .

الوجه الثاني: أن يقال: إن التعامل بالربا ليس من المسائل التي قد تعارضت فيها المصلحة والمفسدة كما قد توهم ذلك الفتان، وإنما هو فساد محض، والدليل على ذلك أن الله توعد عليه بأشد الوعيد وأخبر أنه يمحقه وآذن عليه بالحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشديد فيه، فكل ذلك يدل على أن التعامل به فساد محض وليس فيه مصلحة البتة، ومن زعم أن فيه مصلحة فإنما هو في الحقيقة يستدرك على الله -تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ويشرع من الدين ما لم يأذن به الله، وما أعظم ذلك وأشد الخطر فيه.

الوجه الثالث: أن يقال: إن القاعدة التي ذكر الفقهاء فيها تعارض المصلحة .........

ص: 138

والمفسدة وتقديم الراجح منهما ليس فيها ذكر للحاجة الراجحة، وإنما هي دسيسة من دسائس الفتان ليموِّه بذلك على الجهال ويوهمهم أن الفقهاء قد ذكروا ما يؤيد قوله الباطل وهو ما يراه من جواز الربا بالفضل للحاجة، وقد قال الله -تعالى-:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .

الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- أباح للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد أن يأكل من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، ولم يبح له أكل الربا قط، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لم يأذن في شيء من الربا سوى بيع العرايا بخرصها، ولو كانت الحاجة الراجحة تبيح المحرم- أي تبيح ربا الفضل للحاجة كما زعم ذلك الفتان في مواضع كثيرة من نبذته - لكان ذلك مذكورا في القرآن أو في السنة، قال الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} ، وقال -تعالى-:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» رواه الطبراني في الكبير قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة".

الوجه الخامس: أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رخص للمضطر الذي لا يجد شيئًا يأكله أن يسأل الناس ما يسد به جوعه، ولم يأت عنه أن رخص في أكل الربا ولو كانت الحالة حالة ضرورة.

فصل

وقال الفتان: "إن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم بنص القرآن الكريم والمحافظة على فضيلة التراحم والتعاون، وأن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير، وهذا هو المراد بقوله -تعالى-: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}، ثم نقل عن رشيد رضا أنه قال: لا يخفي أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاها فاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} لأنها ضد الظلم وأن المعاملة التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج، ونقل عنه أيضا أنه قال: ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام".

ص: 139

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ظاهر كلام الفتان أنه يحاول حصر الربا فيما كان معروفًا في الجاهلية، وكذلك ظاهر كلام رشيد رضا، ولهذا استدل كل منهما بالآية التي نزلت في الربا الذي كان لبعض المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا طلبوا رباهم فأمرهم الله -تعالى- أن يأخذوا رؤوس أموالهم ويذروا الربا، ونص على أن أخذ الربا ظلم وأن النقص من رؤوس الأموال ظلم، وليس في الآية ما يدل على حصر الربا فيما كان معروفًا في الجاهلية كما قد توهم ذلك الفتان تقليدًا لرشيد رضا، بل إن الآية فيها دليل على أن الزيادة على رؤوس الأموال ظلم وإن كانت شيئا يسيرًا؛ لأن الله -تعالى- أمر المرابين أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزيدوا عليها فدل ذلك على أن الزيادة ظلم، وقد تقدم قريبا (1) قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، قال: فالنص متناول لهذا كله، وقال أيضا: وهذا مثل الربا فإنه وإن رضي به المرابي وهو بالغ رشيد لم يبح ذلك لما فيه من ظلمه، ولهذا له أن يطالبه بما قبض منه من الزيادة ولا يعطيه إلا رأس ماله وإن كان قد بذله باختياره. انتهى.

الوجه الثاني: أن يقال: إن رشيد رضا قد زلَّ زلة عظيمة في قوله: إن المعاملة التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع، وهذه الزلة أعظم من قول الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} لأن هؤلاء جعلوا الربا نظير البيع، وأما رشيد رضا فإنه جعل المعاملة الربوية التي يقصد بها الإتجار من قسم البيع، وهذا من التعدي لحدود الله والتغيير في أحكامه وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله -تعالى- حرَّم الربا تحريما مطلقًا يتناول جميع أنواع الربا وشدد فيه وتوعد عليه بأشد الوعيد وأنكر على الذين قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ، وأمر المؤمنين أن يذروا الربا وآذن من لم يذره بالحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المرابين أن يأخذوا رؤوس أموالهم وأن لا يَظلِموا بأخذ الزيادة على رؤوس أموالهم وأن لا يُظلَموا بالنقص من رؤوس أموالهم.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، ونص على أن أكل الدرهم من الربا أشد من ستة وثلاثين زنية، وأخبر أنه من السبع الموبقات - أي المهلكات - وهذا يتناول جميع أنواع الربا، ولا فرق في ذلك بين ربا الفضل وربا النسيئة سواء كان على طريقة أهل الجاهلية أو على غير طريقتهم فكله داخل في عموم ...........

(1) ص136.

ص: 140

الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الربا والتشديد فيه، ولا يستثنى منه شيء سوى بيع العرايا بخرصها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن في ذلك.

الوجه الثالث: أن يقال: إن رشيد رضا سئل عن صندوق التوفير هل يجوز الادخار فيه وأخذ أرباحه، فأجاب بأنه لا يرى بأسًا من العمل به، ثم زعم أن الربا الحقيقي هو الذي علل القرآن تحريمه بقوله -تعالى-:{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} يعني أن الربا المحرم منحصر في ربا الجاهلية، ثم قال: فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي بيع أو تجارة

إلى أن قال: إن المعاملة التي يقصد بها البيع والإتجار هي من قسم البيع. كذا قال المحلل لما حرمه الله ورسوله من أنواع الربا التي ليست على طريقة ربا أهل الجاهلية، وهذا من التشريع في الدين بما لم يأذن به الله، وقد قلد رشيد رضا شيخه محمد عبده في زعمه أن الفائدة غير الربا وأن الربا المحرم دينا هو الربا المحرم قانونًا والمحسوب جناية، وقد تقدم كلام الشيخ أحمد محمد شاكر في الرد على المتلاعبين بالدين وهم الذين يزعمون أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة، وتقدم أيضا رد الشيخ محمود شلتوت عليهم فليراجع ذلك في أول الكتاب (1)، فإنه ينطبق على من حلل الربا باسم الفائدة أو باسم البيع والإتجار، وعلى من حصر الربا الحقيق فيما كان على طريقة أهل الجاهلية، وليراجع أيضا كلام سيد قطب في الرد عليهم (2) فإنه كلام جيد جدًا.

وأما ما نقله الفتان عن رشيد رضا أنه قال: ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذا القول صريح في تحليل الربا الذي يؤخذ من صندوق التوفير والمصارف، وأما تسميته بالربح فهي من التمويه والتلبيس على الجهال وهذه التسمية لا تنقل الربا من التحريم إلى الحل، ومثل ذلك تسميته باسم الفائدة في كلام محمد عبده، فكل من القولين باطل ومن تحريف الكلم عن مواضعه وتغيير حكم الله ورسوله في الربا وتطبيقه على حكم القانون.

الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم في أول الكتاب حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر وبالبر والشعير ....

(1) ص59 - 60.

(2)

ص116.

ص: 141

بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء» وتقدم أيضا حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وفيه: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» وتقدم أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» ، وفي رواية:«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والورق بالورق مثلا بمثل يدًا بيد من زاد أو ازداد فقد أربى» .

وهذه النصوص صريحة في تحريم التفاضل في بيع الجنس بجنسه في جميع الأعيان المذكورة في هذه الأحاديث، وصريحة أيضًا في الحكم على الزيادة بأنها ربا، والظاهر من الأحاديث أنه لا فرق بين أن تكون الزيادة كثيرة أو قليلة جدًا، وظاهرها أيضا أنه لا فرق بين ما يكون فيه قسوة على المحتاج وما ليس فيه قسوة عليه، وأما الظلم في أخذ الزيادة فهو حاصل في جميع البيوع الربوية سواء كانت الزيادة فيها كثيرة أو قليلة لقول الله -تعالى-:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} فدلت الآية على أن ما زاد على رؤوس الأموال فهو ظلم وأنه لا فرق في ذلك بين الزيادة الكثيرة والزيادة القليلة.

وفي هذه النصوص أيضًا أبلغ رد على من أجاز أخذ الربا من صندوق التوفير والمصارف وسماه باسم الربح.

الوجه الثالث: أن يقال: إن بلال رضي الله عنه لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» وفي رواية أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال له: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا» وفي رواية أنه قال له: «ويلك أربيت» وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع (1)، ففيها أبلغ رد على من أجاز أخذ الربا من صندوق التوفير والمصارف وسماه باسم الربح وعلل جواز أخذه بأنه ليس فيه ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج، وهذا التعليل مردود بما جاء في قصة بلال وما ذكر بعدها فإنه ليس في فعلهم ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج، ومع هذا فقد أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في الإنكار، ونص على أن ما ..............................

(1) ص35 - 37.

ص: 142

فعلوه عين الربا وأمرهم برده، فدل ذلك على أنه لا تأثير لوجود الظلم والقسوة على المحتاج في تحريم الربا ولا تأثير لعدمهما، وإنما العلة وجود التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة وسائر الأعيان الستة المنصوص عليها في حديثي أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما، فإذا وجد التفاضل في بيع الجنس منها بجنسه فقد وجد الربا ولو لم يكن هناك ظلم ولا قسوة.

ومما يدل علي أنه لا تأثير للظلم والقسوة في تحريم الربا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» فقد وصف الزائد والمستزيد بالإرباء ونص على أن الآخذ والمعطي سواء في الإرباء، ومن المعلوم أن الظلم والقسوة إذا وجد فإنما يكونان في جانب الآخذ وحده، ومع هذا فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم كلا من الآخذ والمعطي سواء في الإرباء، فدل هذا على أنه لا تأثير لوجود الظلم والقسوة في تحريم الربا ولا لعدم وجودهما.

فصل

وقال الفتان: "إن المصارف هي مؤسسات تجارية حديثة لم تكن معروفة في عهد نزول أحكام الربا في الشريعة الإسلامية، ولذلك تخضع لأحكام الشريعة على طريق القياس، فإذا كان الشبه كاملاً من غير أي فارق بينهما وبين ما قد حرمته الشريعة من الربا القطعي فهي محرمة أيضا قطعًا، أما إذا اختلفت المصارف عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريما قطعيًا، وإنما يجب النظر فيها على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب دفعا للحرج الواجب دفعه عملا بنص القرآن".

والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن المصارف وإن كانت مؤسسات تجارية حديثة فإن الأحكام فيها لا تختلف عن الأحكام في غيرها من المؤسسات التجارية وغير التجارية وسائر الأعمال التي يكون لها علاقة بالبيع والشراء فكلها يجب أن تخضع لأحكام الشريعة في جميع الأعمال، ومن ذلك تحريم الربا على وجه العموم فإنه يجب أن يعمل به في المصارف وغير المصارف على حد سواء؛ لأن الله -تعالى- حرم الربا في كتابه تحريما مطلقًا بتناول جميع أنواع الربا، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قد حرم الربا تحريما مطلقًا يتناول جميع أنواع الربا سوى ما أذن فيه من بيع العرايا ................................

ص: 143

بخرصها، وقد أجمع المسلمون على تحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل المصارف وغير المصارف.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد صرح بتحليل الربا في المصارف دفعًا للحرج على حد زعمه، وقد لفق له شبهًا يُضل بها الجهال ويُلبِّس بها عليهم.

فمنها قوله في المصارف: إنها تخضع لأحكام الشريعة على طريق القياس.

والجواب: أن يقال: إن القياس لا يعمل به مع وجود النص أو الإجماع، وإنما يعمل به عند عدمهما، وقد تظافرت النصوص من الكتاب والسنة على تحريم الربا تحريما مطلقا يتناول جميع أنواع الربا، وأجمع المسلمون على تحريم الربا على وجه العموم، فيجب على المصارف وغيرها من المؤسسات التجارية وغير التجارية أن تخضع لما جاء في نصوص الكتاب والسنة والإجماع ولا تلتفت إلى ما لفقه الفتان من الأباطيل والشبه المضلة، وقد ذكرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا في أول الكتاب فلتراجع ففيها أبلغ رد على الفتان وعلى أشياعه من أهل الزيغ والضلال.

ومنها تقسيمه الربا إلى قطعي وغير قطعي، ومراده بالقطعي ربا أهل الجاهلية، وقد كرر القول بأنه هو الربا المجمع على تحريمه، وقد تقدم الرد على هذا القول الباطل قريبًا فليراجع (1).

ومنها زعمه أن المصارف إذا اختلفت عن الربا القطعي ولو في بعض الوجوه فليست محرمة تحريمًا قطعيًا.

والجواب: أن يقال: إن الربا ليس محصورًا في ربا أهل الجاهلية كما قد زعم ذلك الفتان المحارب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالف لإجماع المسلمين، وإنما ربا أهل الجاهلية نوع من أنواع ربا النسيئة، وكل من ربا النسيئة وربا الفضل محرم تحريمًا قطعيًا، والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله -تعالى-:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إلى آخر الآيات التي فيها النص على محق الربا والأمر بتركه وإيذان من لم يتركه بالحرب من الله

(1) ص131 - 132.

ص: 144

ورسوله وأمر المرابين أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يَظلِموا بأخذ الزيادة على رؤوس أموالهم ولا يُظلموا بالنقص منها، فهذه النصوص تشمل جميع أنواع الربا وتدل على أنها محرمة تحريما مطلقًا، وليس فيها ما يدل على تخصيص ربا أهل الجاهلية بالتحريم القطعي دون غيره. فإن قيل إن هذه الآية وهي قوله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} كان نزولها ونزول الآية التي بعدها بسبب ما كان باقيا لبعض المسلمين من الربا الذي كان لهم في الجاهلية.

فالجواب: أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، وليس في الآيتين ما يدل على أن الربا المحرم قطعًا هو ربا أهل الجاهلية دون غيره من أنواع الربا، وإنما فيهما الأمر بترك الربا وإيذان من لم يتركه بالحرب من الله ورسوله وأنهم إن تابوا فلهم رؤوس أموالهم، وهذا يعم المرابين الذين أسلموا ولهم بقايا من الربا ويعم غيرهم من المتعاملين بالربا في الإسلام ولا فرق بين هؤلاء وأولئك، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:"لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى، وقد تقدم (1) قول الجصاص:"إن قول الله -تعالى-: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} قد انتظم تحريم جميع ضروب الربا لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، وقال أيضا: اسم الربا يعتريه معان أحدها: الربا الذي عليه أهل الجاهلية، والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل أو الموزون، والثالث: النسأ". انتهى.

وأما السنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» فذكرها ومنها أكل الربا، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه «لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه» وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد بمن ستة وثلاثين زنية» وهذه الأحاديث تشمل جميع أنواع الربا وتدل على أنها كلها محرمة تحريمًا قطعيًا، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربا الفضل وربا النسيئة، وفي بعض الروايات أنه قال:«من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وفي رواية: «من زاد أو استزاد فهو ربا» وقال لبلال لما باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب: «أوه أوه عين الربا عين الربا لا تفعل» قال النووي: "معنى عين الربا أنه حقيقة الربا المحرم"، وفي رواية أن رجلا باع صاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الطيب فقال رسول ..........................

(1) ص24 - 25 و97.

ص: 145

الله صلى الله عليه وسلم: «هذا الربا فردوه» وفي رواية أنه قال له: «أضعفت أربيت لا تقربن هذا» وفي رواية أنه قال له: «ويلك أربيت» وهذه الروايات تدل على التشديد في بيع الجنس من الأعيان الستة بجنسه مع التفاضل، وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع ففيها أوضح دليل على أن جميع أنواع الربا محرمة تحريمًا قطعيًا.

وأما الإجماع على تحريم ربا الفضل وربا النسيئة فقد حكاه ابن المنذر وغيره من أكابر العلماء، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب فليراجع (1)، وذكرت قريبا (2) قول شيخ الإسلام ابن تيمية:"إن المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع"، وذكرت أيضًا (3) قول الموفق في (المعنى):"إن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع"، وقال أيضا:"أجمعت الأمة على أن الربا محرم، قال: والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى.

وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر): "الربا ثلاثة أنواع ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ، قال: وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، قال الهيتمي: وكل من هذه الأنواع حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة". انتهي.

وفيما ذكرت من أدلة الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا أبلغ رد على الفتان الذي حاول حصر الربا القطعي في ربا أهل الجاهلية، وحاول تحليل ما سواه من أنواع الربا، وتعامى عن الأدلة المتظافرة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريما مطلقًا يعم جميع أنواع الربا ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وقال -تعالى-:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما جاء في هذه الآيات.

ومن شبه الفتان وأباطيله التي لفقها لإضلال الجهال والتلبيس عليهم زعمه أنه .......

(1) ص45 - 46.

(2)

ص136.

(3)

ص138.

ص: 146

يجب النظر في المصارف على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة من غير ريب دفعا للحرج الواجب دفعه عملاً بنص القرآن.

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ليس الأمر على ما زعمه الفتان من وجوب النظر في المصارف على أساس مصالح الناس في معاشهم، وإنما يجب النظر فيها على ضوء الكتاب والسنة والإجماع، فما كان فيها من الأعمال التي لا تخالف الكتاب والسنة والإجماع فهو جائز، وما كان فيها من الأعمال المخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع فإنه يجب المنع منه، ومن ذلك التعامل بالربا على أي وجه كان؛ لأن التعامل به مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب المنع منه في المصارف وغير المصارف، ويجب أيضا أن يعاقب الذين يتعاملون بالربا عقوبة موجعة في أنفسهم وأموالهم عملاً بما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فقد روى الطحاوي في (شرح معاني الآثار) بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"خطب عمر رضي الله عنه فقال: "لا يشتري أحدكم دينارًا بدينارين ولا درهما بدرهمين ولا قفيزا بقفيزين إني أخشى عليكم الرماء (1) وإني لا أوتى بأحد فعله إلا أوجعته عقوبة في نفسه وماله" قال الطحاوي: فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب بهذا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة أصحابه -رضوان الله عليهم- لا ينكره عليه منهم منكر فدل ذلك على موافقتهم له عليه". انتهى، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بعمر رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والبخاري في التاريخ والحاكم في مستدركه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال:«اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه الحاكم والذهبي.

الوجه الثاني: أن يقال: إن مصالح الناس في معاشهم ليس متوقفة على التعامل مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية؛ لأن الله -تعالى- قد حرم الربا تحريمًا مطلقًا ومنع منه منعًا باتًا لما فيه الظلم وأكل الأموال بالباطل، وكثير من المسلمين بل أكثرهم لا يتعاملون مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، وقد عاش المسلمون أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وهم لا يعرفون المصارف، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم ...............................

(1) الرماء هو الربا وقد تقدم تفسيره في صحفه 91 فليراجع.

ص: 147

كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولم يكن في عدم المصارف في زمانهم أدنى شيء من المضرة لهم في مصالح معاشهم.

وإذا علم أن مصالح الناس في معاشهم ليست متوقفة على التعامل مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، وعلم أيضا أن المعاش يتم بدونها، فليعلم أيضا أن شبه الفتان التي يلبس بها على الجهال ويحاول بها تحليل الربا في المصارف كلها شبه باطلة وحجج داحضة مردودة بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريما مطلقا يعم جميع أنواع الربا ولا تتطرق إليه الأباطيل والشبه التي يلفقها المتلاعبون بالدين.

الوجه الثالث: أن يقال: إن الفتان قد طبق دفع الحرج الواجب دفعه على تحليل الربا في المصارف وزعم أن ذلك من العمل بنص القرآن.

والجواب: أن يقال: إن هذا من تحريف الكلم عن مواضعه ومن القول في القرآن بغير علم وذلك من أعظم المحرمات، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، وقد ذكرت ما جاء فيه في أول الكتاب فليراجع (1)، وليس تحليل الربا في المصارف من رفع الحرج كما زعم ذلك الفتان وزعمه قبله بعض المتلاعبين بالدين، وإنما هو من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة إجماع المسلمين. وما أشد الخطر في هذا.

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن رفع الحرج الذي قال الله فيه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} هو استعمال الرخص التي رخص فيها الشارع عند الحاجة، قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية:"أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعًا وفي السفر تقصر إلى اثنتين وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث، وتصلي رجالاً وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالسًا فإن لم يستطع فعلي جنبه. إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات". انتهى.

وقال البغوي: "معناه أن المؤمن لا يبتلي بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرجًا

(1) ص9.

ص: 148

بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه، وقيل من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس ذلك عليكم وسع الله عليكم حتى تتيقنوا، وقال مقاتل: يعني الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم عند فقد الماء وأكل الميتة عند الضرورة والإفطار بالسفر والمرض والصلاة قاعدًا عند العجز عن القيام، وروي عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الأعمال التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة". انتهى.

وقال القرطبي: "اختلف العلماء في الحرج الذي رفعه الله -تعالى-؛ فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت يمينك، وقيل المراد: قصر الصلاة والإفطار للمسافر وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه والغريم ومن له والدان وحط الإصر الذي كان على بني إسرائيل، وروي عن ابن عباس والحسن البصري أن هذا في تقديم الأَهِلَّة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم فإذا أخطأت الجماعة هلال ذي الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، وذلك الفطر والأضحى، وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء فما يسئل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: «افعل ولا حرج» ". انتهى.

فهذا كلام العلماء في رفع الحرج الذي رفعه الله عن هذه الأمة وليس فيه ما يتعلق به الفتان في تحليل الربا في المصارف.

فصل

وقال الفتان: "إنه سوف يحاول دراسة طبيعة أعمال المصارف، هل تقع ضمن الأعمال الربوية التي ورد تحريمها في القرآن تحريمًا قطعيًا لا شك فيه أم أنها تختلف عنها تمام الاختلاف، قال: وبالتالي ينظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة، وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به، وذلك طبقًا لما قال به شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: إن كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا، مشيرًا بذلك إلى قوله -تعالى-:

ص: 149

{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وعليه فإن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن الكريم".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن أنواع الربا كلها محرمة تحريمًا قطعيًا وقد ذكرت الأدلة على ذلك في مواضع كثيرة، وسواء في ذلك ربا الفضل وربا النسيئة، ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وكذلك ربا القرض الذي يجر نفعا، وقد ذكرت قريبًا (1) أن شيخ الإسلام ابن تيمية سئل عن تحريم الربا. فأجاب بقوله:"المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقال أيضا: لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى، وقد تقدم قريبًا قول الجصاص بنحو ما في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فليراجع (2).

الوجه الثاني: أن يقال: إنه لم يأت في القرآن ما يدل على أن ربا أهل الجاهلية هو المحرم تحريمًا قطعيًا دون غيره من أنواع الربا، بل إن ألفاظ القرآن في تحريم الربا والتشديد فيه والوعيد الشديد عليه كلها على العموم فتشمل جميع أنواع الربا على حد سواء. وكذلك ما جاء في السنة من التشديد في الربا فإنه عام يتناول جميع أنواع الربا على حد سواء.

وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربا الفضل وربا النسيئة ولم يفرق بين ما كان على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال -تعالى-:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وقال -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} ، وقال -تعالى-:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ، وقال -تعالى-:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .

فليتأمل الفتان وأشياعه هذه الآيات حق التأمل ولا يأمنوا بأس الله وعقوبته على ....

(1) ص136.

(2)

ص145.

ص: 150

مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقلة المبالاة بما ثبت عنه من التشديد في الربا على وجه العموم، وما تواتر عنه من النهي عن ربا الفضل وربا النسيئة، وما ثبت عنه من النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى وأن الآخذ والمعطي فيه سواء.

الوجه الثالث: أن يقال: إنما ينظر إلى حدود القواعد العامة إذا كان الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع غير موجود، وأما إذا كان الدليل موجودًا من هذه الأصول أو من أحدها فإنه لا ينظر إلى شيء سواه، وقد تظافرت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على تحريم الربا تحريما مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا وأجمع المسلمون على ذلك، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب فليراجع ففيه أبلغ رد على الفتان الذي قد تعامى عن الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا وأعرض عنها ولم يبال بها وحاول تحليل الربا في المصارف بما زعمه من النظر إليها ضمن حدود القواعد العامة للشريعة، ومراده بالقواعد العامة للشريعة أنه يجب النظر في المصارف على أساس مصالح الناس في معاشهم فإن كان معاشهم لا يتم إلا بها فهي جائزة دفعًا للحرج الواجب دفعه، وقد تقدم ذكر هذا التلبيس والرد عليه مستوفي في الفصل الذي قبل هذا الفصل فليراجع.

وأما قوله: وبالتالي عدم الحجر على العباد فيما لا بد لهم منه ولا تتم مصالحهم في معاشهم إلا به.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: هذا الكلام ظاهر في الاعتراض على الله -تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله -تعالى- هو الذي حرم الربا تحريمًا مطلقًا، وهو أعلم بمصالح العباد وما فيه منفعة لهم في معاشهم، ومع هذا فقد حجر على العباد أن يأكلوا الربا وشدد فيه غاية التشديد وتوعد عليه بأشد الوعيد وآذن من لم يتركه بالحرب منه ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه قد حرم الربا تحريمًا مطلقًا ولعن آكله ومؤكله وشاهديه وكاتبه، ونص على أنه من السبع الموبقات - أي المهلكات- ونص أيضا على أن أكل الدرهم من الربا أشد من ستة وثلاثين زنية، وأخبر أنه ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله، وفي هذا أوضح دليل على أن التعامل بالربا فساد محض وضرر على المجتمع والأفراد، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب المنع منه والحجر على المتعاملين به؛ لأنه من الظلم وأكل الأموال بالباطل وقد قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ ..

ص: 151

مِنْكُمْ}، قال ابن جرير:"يقول لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها".

وقال ابن كثير: "ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضًا بالباطل أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل وإن ظهرت في قالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا". انتهى.

وقال البغوي في الكلام على قوله -تعالى-: {بِالْبَاطِلِ} : "بالحرام يعني الربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها"، وقال الزمخشري والنسفي:" {بِالْبَاطِلِ}: بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا". انتهى.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الله -تعالى- لما حرم الربا وحجر على العباد أن يأكلوه أحل لهم ما هو أنفع لهم في مصالح معاشهم وذلك بالبيع وأنواع المكاسب والعقود الخالية من الربا والظلم وأكل الأموال بالباطل، وإذا كان الفتان وأشياعه لم يرضوا بحكم الله -تعالى- وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في تحريم الربا على وجه العموم ولم يرضوا بالحجر على العباد أن يأكلوا الربا فلا رضوا أبدا، وإذا لم يسعهم في مصالح معاشهم ما وسع المسلمين منذ زمان نبيهم إلى زماننا من المكاسب الخالية من الربا وأكل أموال الناس بالباطل فلا وسَّع الله عليهم أبدًا.

وأما ما نقله الفتان عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه قال كل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الفتان لا يزال مفتونًا بالتلبيس على الجهال وذلك بما ينقله من كلام العلماء ويضعه على غير مواضعه، ومن ذلك ما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ليوهم من لا علم لهم أنه يؤيد رأيه الفاسد في تحليل الربا في المصارف، وقد ذكرت كلام شيخ الإسلام قريبًا (1) وذكرت أنه ليس فيه ما يتعلق به الفتان؛ لأنه لم يكن في مسائل الربا وإنما هو في تأجير الأرض التي تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع، وقد قال في أثناء كلامه: "كل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب أو فعل محرم - لم يحرم

(1) ص135 - 137.

ص: 152

عليهم"، وفي هذه الجملة من كلام شيخ الإسلام أبلغ رد على الفتان الذي قد حاول تحليل الربا في المصارف ولم يبال بكونه معصية لله -تعالى- ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا بكونه من الأفعال المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع.

الوجه الثاني: أن يقال: إن المتعاملين بالربا مع أهل المصارف لم يكونوا يفعلون ذلك للحصول على المعيشة التي لا بد لهم منها وإنما كانوا يفعلونه للاستكثار من المال وتنميته ولو بالطرق المحرمة، وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام» رواه الإمام أحمد والبخاري والدارمي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولو كان المتعاملون بالربا مع أهل المصارف يريدون الحصول على المعيشة التي لا بد لهم منها لكانوا ينفقون من رؤوس أموالهم ويتجرون فيها بما ليس فيه ربا ولا ظلم ولا غير ذلك من المكاسب المحرمة فإذا نفذ ما بأيديهم واضطروا إلى السؤال أبيح لهم السؤال؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمضطر الذي لا يجد شيئا يأكله أن يسأل الناس ما يسد به جوعه، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رخص في أكل الربا قط ولو كانت الحالة حالة ضرورة.

وأما قوله: وعليه فإن طبيعة أعمال المصارف تختلف عن الربا المحرم في القرآن.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن أنواع الربا كلها محرمة بالكتاب والسنة والإجماع، وهذا الحكم يشمل المصارف وغير المصارف على حد سواء، ومن أباح ربا الفضل في المصارف أو أباح فيها ربا النسيئة الذي ليس على طريقة ربا أهل الجاهلية فإنما هو في الحقيقة يرد على الله -تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه، وقد قال الله -تعالى- منكرا على من كان على هذه الطريقة السيئة ومتوعدا لهم بأشد الوعيد:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} ، فلا يأمن الفتان ومناصروه على تحليل الربا في المصارف أن يكون لهم نصيب وافر مما هو مذكور في هاتين الآيتين.

الوجه الثاني: أن يقال: إن تفريق الفتان بين أنواع الربا وزعمه أن بعضها محرم في القرآن دون غيره من أنواع الربا ليس عليه دليل البتة، وإنما هو من التحكم والقول في القرآن بغير علم وذلك من أعظم المحرمات.

ص: 153

وأما قول بعض المفسرين في بعض الآيات إنها نزلت فيما كان باقيا لثقيف من الربا الذي كان لهم في الجاهلية فأمروا بعد إسلامهم أن يتركوا الربا ويأخذوا رؤوس أموالهم.

فالجواب عنه: أن يقال: قد اختلف في سبب نزول بعض الآيات، هل كان ذلك بسبب ربا ثقيف على بني المغيرة، أو بسبب ربا عثمان والعباس رضي الله عنهما على صاحب التمر، وقد ذكرت الأقوال في ذلك في أثناء الكتاب فلتراجع (1)، وعلى كل من الأقوال التي تقدم ذكرها فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين، وليس في شيء من الآيات ما يدل على أن تحريم الربا خاص بما كان على طريقة أهل الجاهلية دون غيره من أنواع الربا، بل الحكم في الجميع واحد لا يختلف، وهو التحريم لجميع أنواع الربا، ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وعلى هذا تدل الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع فلتراجع في أول الكتاب.

الوجه الثالث: أن يقال: إن طبيعة أعمال المصارف في التعامل بالربا شبيهة بعمل أهل الجاهلية في ذلك؛ لأن أهل الأموال يضعون أموالهم عند أهل المصارف ويجعلون لهم الحق في التصرف فيها والانتفاع بها بنسبة معلومة في المائة في كل عام، وهذه النسبة تضاف إلى رؤوس الأموال المدفوعة إلى أهل المصارف، وربما اجتمع من النسبة التي تضاف إلى رؤوس الأموال شيء كثير ولا سيما إذا ترك أهل الأموال رؤوس أموالهم في المصارف أعوامًا كثيرة، وهذا عين ربا أهل الجاهلية الذي قال فيه الفتان إنه محرم بالقرآن، وقال فيه أيضا: إنه محرم تحريما قطعيًا، وقد كرر هذا القول في مواضع كثيرة من نبذته، وذكر أن خصيصته أن يقول صاحب الدين للمدين عند حلول أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن لم يقض زاد المدين المال وزاد الدائن الأجل، هذا كلام الفتان (2)، ولو كان خاليا من الهوى وكان له أدنى علم ومعرفة لعلم أن طبيعة أعمال المصارف في التعامل بالربا شبيهة بعمل أهل الجاهلية، ولكن اتباعه للهوى وحبه للتزلف إلى أهل المصارف والمتعاملين معهم بالمعاملات الربوية وحرصه على إرضائهم بما يسخط الله -تعالى- أعماه وأصمه عن معرفة الحق والعمل به، وقد روى الإمام أحمد ....

(1) ص112.

(2)

تراجع صفحة 105.

ص: 154

وأبو داود وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حبك الشيء يعمي ويصم» وهذا الحديث مطابق لحال الفتان غاية المطابقة.

الوجه الرابع: أن يقال: قد تقدم كلام الزجاج في بيان الربا الحرام، وتقدم كلام الجصاص في بيان ربا العرب - أي زمن الجاهلية - فليراجع (1) كلامهما فإنه مطابق للمعاملات الربوية في البنوك، وفيه رد على الفتان.

فصل

وقال الفتان: "في المعاملات المصرفية الدائن هو دائما من المالكين لرأس المال غير أنه يملك سيولة صغيرة أي وفرا قليلاً لا يستطيع استثماره، أما المدين فهو دائمًا من كبار المالكين لرأس المال غير أنه لا يملك أية سيولة لتسيير أعماله الكبرى، وهكذا يتضح لنا هنا أن الذي يحتاج للآخرين في المعاملات المصرفية هم دائمًا الأغنياء الكبار الذين يمدون أيديهم لوفر المالكين الصغار دون العكس، وبالنتيجة فإن هؤلاء الأغنياء الكبار لا تحل لهم صدقة المالكين الصغار فيما لو طلبنا إلى هؤلاء أن يتوبوا وأن يتصدقوا برؤوس أموالهم على المدينين الأغنياء عملا بقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وهذا هو أول ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الكريم حيث أن المدين محتاج إلى الصدقة بعكس المدين في المعاملات المصرفية".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان قد لفق هذه الشبه ليلبس بها على الجهال ويوقعهم في أكل الربا ومعصية الله -تعالى- ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يبال بما يترتب على أقواله الباطلة من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريما مطلقًا شاملاً لجميع أنواع الربا، ولا بما يترتب على أقواله أيضا من حمله من أوزار الذين يَضلون بسببه وأنه يكون عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.

الوجه الثاني: أن يقال: إنه ليس من شروط تحريم الربا أن يكون واقعا بين غني وفقير ولا أن يكون المدين ممن تحل له الصدقة، وإنما هذا من تشريع الفتان وتلبيسه .............

(1) ص16.

ص: 155

على الجهال، وليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على هذا القول الباطل، بل إن ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على إلغاء كل ما حاوله الفتان في تلفيقه؛ لأنها جاءت بلفظ العموم الذين يشمل الغني والفقير ومن تحل له الصدقة ومن لا تحل له.

يوضح ذلك الوجه الثالث: وهو أن الله -تعالى- ذكر حال أهل الأموال مع الغرماء الواجدين للمال وردهم مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم: {لَا تَظْلِمُونَ} أي بأن تأخذوا زيادة على رؤوس أموالكم {وَلَا تُظْلَمُونَ} أي بأن يمنع الغرماء رؤوس أموالكم أو يتمسكوا بشيء منها، ثم ذكر حال المعسرين من الغرماء وهم الذين لا يجدون وفاء لديونهم وأمر أرباب الأموال أن ينظروهم إلى حال الميسرة ورغبتهم مع ذلك في الصدقة عليهم فقال -تعالى-:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال ابن جرير في الكلام على قول الله -تعالى-: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} : "وإن كان ذو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم فنظرة إلى ميسرة"، وقال ابن عطية في تفسيره ما ملخصه:"حكم الله لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر وندب إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره". انتهى، وفي تفسير القرطبي نحو كلام ابن عطية، وفي هذا أبلغ رد على الفتان الذي قد قال في القرآن برأيه ووضع قوله -تعالى-:{وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} على غير موضعها ولم يبال بما يترتب على ذلك من الوعيد الشديد وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية للترمذي وابن جرير والبغوي:«من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» .

الوجه الرابع: أن يقال: إن الفتان قد كرر القول بأن الربا المحرم في القرآن هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وهذا قول باطل مردود بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع فقد جاء تحريم الربا في هذه الأصول الثلاثة على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواع الربا، وليس في شيء منها ما يدل على حصر الربا المحرم في ربا أهل الجاهلية دون غيره من أنواع الربا، وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، وقال أيضا: لفظ الربا يتناول كل ما

ص: 156

نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول لهذا كله"، وقال ابن حجر الهيتمي: "الربا ثلاثة أنواع: ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض

قال الهيتمي: وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة"، فليراجع كلام شيخ الإسلام (1) وكلام الهيتمي (2)، ففي كل منهما أبلغ رد على قول الفتان إن الربا المحرم في القرآن هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وليراجع (3) أيضا قول الجصاص أن تحريم الربا يشمل جميع ضروبه.

الوجه الخامس: أن يقال: ليس في أعمال المصارف ما يميزها عن غيرها من المؤسسات التجارية وسائر أعمال الناس في البيع والشراء فكلها يحرم التعامل فيها بالربا، وسواء في ذلك ربا الفضل وربا النسيئة ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم؛ لأن الله -تعالى- حرم الربا تحريمًا مطلقًا، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه حرمه تحريمًا مطلقًا سوى بيع العرايا بخرصها فإنه قد أذن فيه، وكذلك الإجماع فإنه شامل لجميع أنواع الربا، كما تقدم بيان ذلك في الوجه الرابع.

فصل

ومن شبه الفتان وأباطيله التي لفقها للتحيل على تحليل الربا في المصارف قوله: "إن الدائن لا يختص بالمنفعة دون المدين"، وقوله:"إن الدائن لا يستغل مدينا محتاجًا للصدقة بل يشترك مع الأغنياء في المنفعة بموجب عقد رضائي تجاري لا استغلال فيه"، وقوله:"إن المعاملات المصرفية ليست مجرد تنمية لمال الدائن وحده وإنما هي تجارة من نوع جديد جرى التعارف عليها ودعت إليها حاجة الناس أجمعين حتى أصبحت مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها"، ومنها ما ذكره عن رشيد رضا أنه قال:"إن المعاملات التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع"، قال الفتان:"ويشير بذلك إلى قوله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .. "

والجواب: أن يقال: إن هذه الشبه كلها مردودة بنصوص الكتاب والسنة وبالإجماع

(1) ص136.

(2)

ص120 - 121.

(3)

ص24 - 25 و97.

ص: 157

على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا، وهذه الأصول الثلاثة تقضي على جميع شبه الفتان وحيلة على تحليل الربا في المصارف.

وأما زعمه أن العقد الذي يكون بين الدائن وبين أهل المصارف عقد رضائي تجاري، وقوله أيضا إنها تجارة من نوع جديد جري التعارف عليها، وقول رشيد رضا إن المعاملة التي يقصد بها الاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع.

فجوابه أن يقال: أما وجود الرضا بين المتعاملين بالربا فإنه لا يفيد حِل الربا، كما أن الرضا بين الزانيين لا يفيد حل الزنا، وإنما يستفاد الحل أو الحرمة في جميع المعاملات من نصوص الكتاب والسنة ومن إجماع المسلمين، فما شهد له الكتاب أو السنة أو الإجماع بالحل فهو حلال وما شهدت الأصول الثلاثة أو أحدها بحرمته فهو حرام، وقد اتفقت الأصول الثلاثة على تحريم الربا على وجه العموم، ولو كان العقد واقعا برضا المتعاملين بالربا، وسواء كان المدين غنيا أو محتاجًا، وسواء كانت المنفعة عامة للدائن والمدين أو كانت خاصة بالدائن وحده، فكل هذه الأمور ليس لها تأثير في تحريم الربا والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدًا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى مسلم أيضا من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي، وفي رواية لمسلم:«الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» فهذا نصوص صريحة في منع الزيادة في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة وغيرها من الأصناف الستة، قال النووي:"قوله: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» معناه فقد فعل الربا المحرم فدافع الزيادة وآخذها عاصيان مرابيان". انتهى.

وفي النص على أن من زاد أو استزاد فقد أربى أبلغ رد على شبه الفتان ورشيد رضا؛ لأن ظاهر النصوص يدل على أنه لا تأثير لكون المعاملة واقعة برضا المتعاملين بالربا، ولا لكون المدين غنيا أو محتاجًا، ولا لكون المنفعة عامة للدائن والمدين أو كونها خاصة بالدائن وحده، ولا بين أن يكون المقصود بالمعاملة الإتجار أو غير ذلك من المقاصد، .............

ص: 158

فكل هذا لا تأثير له في تحريم الربا، ولو كان لشيء من هذه الأمور تأثير في حل الربا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته.

وقد تقدم الجواب عن قول رشيد رضا إن المعاملة التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع فليراجع (1)، ففيه أيضا رد على قول الفتان إنه عقد رضائي تجاري وإنها - أي المعاملات الربوية في المصارف - تجارة من نوع جديد.

وأما قوله: إن المعاملات المصرفية قد دعت إليها حاجة الناس أجمعين حتى أصبح مصالحهم في معاشهم لا تتم إلا بها.

فجوابه: أن يقال: لا يخفي ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة التي يكذبها الواقع من حال المسلمين قبل وجود المصارف وبعد وجودها، فأما قبل وجودها فإن المسلمين قد عاشوا أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وهم لا يعرفون المصارف، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، وأما بعد وجود المصارف فإن أكثر المسلمين لا يتعاملون مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالحهم في معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، وكثير منهم أحسن حالاً في مصالح معاشهم من المتعاملين مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ولو كان الأمر على ما زعمه الفتان في هذيانه الذي كتبه من غير تعقل ولا تدبر لكانت مصالح أكثر الناس في زماننا متعطلة، وهذا لا يقوله إنسان له أدنى شيء من العقل.

وأما قوله: إن رشيد رضا يشير إلى قوله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .

فجوابه: أن يقال: هذا من الاستدلال بالآية على خلاف ما تدل عليه إذ ليس في الآية ما يؤيد قول رشيد رضا في تحليل الربا في المصارف وزعمه أنه من قسم البيع، بل الآية حجة عليه وعلى من قلده من ذوي الجهالة والضلالة؛ لأن الله -تعالى- نص في الآية على تحريم الربا، وقد تقدم (2) بيان معنى الربا في كلام المفسرين وأهل اللغة، وهو ينطبق على الزيادة التي يضمنها أهل المصارف إلى رؤوس الأموال التي يدفعها أهلها إلى أهل المصارف ويجعلون لهم الحق في التصرف فيها والانتفاع بها بنسبة معلومة في .......................

(1) ص140 - 143.

(2)

ص15 - 16.

ص: 159

المائة في كل عام، وهذه النسبة الربوية حرام بنصوص الكتاب والسنة وبإجماع المسلمين، وهي شبيهة بربا أهل الجاهلية؛ لأن الدائن في الجاهلية يقول للمدين إذا حل أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي، وأما أهل المصارف فإنهم يقولون بلسان الحال إما أن تأخذ مالك يا صاحب المال وإما أن تتركه عندنا ونربيه لك في كل عام بنسبة معلومة في المائة، وقد جاء في المثل المشهور "ما أشبه الليلة بالبارحة"، قال الميداني في (مجمع الأمثال):"يضرب عند تشابه الشيئين". وقد تقدم (1) قول الجصاص: "إن الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، هذا كان المتعارف المشهور بينهم".

فصل

وقال الفتان: "ويؤكد هذا المبدأ في شرعية المنفعة التي لا ضرر بها على أحد قول الإمام موفق الدين ابن قدامة في المغني أن ما فيه مصلحة من غير ضرر بأحد فهو جائز وأن الشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا ضرر فيها وإنما يرد بمشروعيتها، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل مالا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا".

والجواب: أن يقال: قد تقدم ذكر الفتان لكلام الموفق وشيخ الإسلام ابن تيمية والجواب عن ذلك فليراجع (2)، وقد ذكرت فيما تقدم أن كلام الموفق ليس له تعلق بمسائل الربا، وإنما هو فيما إذا أقرض إنسان آخر قرضًا واشترط عليه أن يوفيه إياه في بلد آخر، وقد صحح الموفق القول بجواز ذلك إذا لم يكن لحمله مؤنة، وعلل ذلك بأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منها، قال:"والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها"، وقد قال قبل ذلك في (باب الربا والصرف):"الربا في اللغة هو الزيادة، يقال أربى فلان على فلان إذا زاد عليه، وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع"، ثم ذكر الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، ثم قال:"وأجمعتْ الأمة على أن الربا محرم"، قال:"والربا على ضربين ربا الفضل وربا النسيئة وأجمع أهل العلم على تحريمهما". انتهى المقصود من كلامه.

(1) ص16.

(2)

ص135 - 138.

ص: 160

وقد تعامى الفتان عن كلام الموفق في (باب الربا والصرف) وأعرض عنه وجاء إلى كلامه في القرض فاستدل به على تحليل الربا في المصارف وأوهم الجهال أن كلام الموفق يفيد جوازه فيها، وهذا من التلبيس على الجهال ووضع كلام الموفق في غير موضعه، وإنما تعامي الفتان عن كلام الموفق في (باب الربا والصرف) وأعرض عن ذكره لأنه صرح في تحريم ربا الفضل وربا النسيئة وقد ذكر الدليل على تحريمهما من الكتاب والسنة والإجماع، وفي ذكره لذلك أبلغ رد على الفتان المفتون.

وأما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقد تقدم أنه ليس في مسائل الربا وإنما هو في تأجير الأرض التي تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع، وقد ذكر شيخ الإسلام أن الفقهاء اختلفوا في تأجيرها على ثلاثة أقوال، وقد صحح القول بالجواز ورد على من قال بالتحريم وأطال الكلام في الرد عليهم وقال في أثنائه:"فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعًا" ثم قال بعد ذلك: "فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ولم يكن سببه معصية - هي ترك واجب أو فعل محرم - لم يحرم عليهم لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد" هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، فليتأمل آخر كلامه فإن في أبلغ رد على الفتان الذي قد تقول على شيخ الإسلام وأوهم الجهال أن كلامه يفيد جواز الربا في المصارف، وقد تقدم الرد على الفتان بأبسط من هذا، وذكرت فيه عن شيخ الإسلام أنه قال:"المراباة حرام بالكتاب والسنة والإجماع"، وقال أيضا:"لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله"، فليراجع ما تقدم (1) من كلام شيخ الإسلام والرد على الفتان فيما يتعلق به، ففي ذلك تنبيه على دسائس الفتان وتلبيسه وجراءته على التقول على أكابر العلماء ووضع كلامهم على غير مواضعه وحمله على ما يوافق رأيه الفاسد في تحليل الربا، وإنه لينطبق على الفتان قول الله -تعالى-:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وقوله -تعالى-:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، وقوله -تعالى-:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} .

(1) ص135 - 137.

ص: 161

فصل

ومن شبه الفتان التي لفقها للتحيل على تحليل الربا في المصارف قوله: "إن الدائنين في المعاملات المصرفية هم صغار المالكين ولم يستغلوا المدينين الذين هم من كبار المالكين وقد تبادلوا المنافع معهم بصورة تجارية وعقد رضائي من غير أن يكون هناك ظالم أو مظلوم، وهذا ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن الذي هو مجرد تنمية لمال الدائن وحده في أموال المدينين، بينما الأمر يختلف بالنسبة للمدين في المعاملات المصرفية حيث أن كلا من الدائن والمدين مشترك في منفعة بعقد رضائي لا ظلم فيه ولا استغلال".

والجواب عن من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: كل ما لفقه الفتان من الشبه على تحليل الربا في المصارف مما ذكره في هذه الجملة وفيما تقدم قبلها وما ذكره بعدها فكله مردود بنصوص القرآن والسنة وبإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا، وكثير من الشبه التي ذكرها الفتان في هذه الجملة وفيما بعدها قد كرر ذكرها في مواضع كثيرة مما تقدم، وخصوصًا محاولته حصر الربا المحرم فيما كان يعمل به في الجاهلية، وهو في هذا قد قلد رشيد رضا في زعمه أن الربا المحرم في القرآن هو ما كان معروفًا في الجاهلية، وقد ذكرت في مواضع كثيرة مما تقدم أن هذا قول باطل بنصوص القرآن والسنة وبإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا، وكثير من الشبه التي ذكرها الفتان في هذه الجملة وفيما بعدها قد كرر ذكرها في مواضع كثيرة مما تقدم، وخصوصًا محاولته حصر الربا المحرم فيما كان يعمل به في الجاهلية، وهو في هذا قد قلد رشيد رضا في زعمه أن الربا المحرم في القرآن هو ما كان معروفًا في الجاهلية، وقد ذكرت في مواضع كثيرة مما تقدم أن هذا قول باطل بنصوص القرآن والسنة والإجماع على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواعه.

الوجه الثاني: أن يقال: ليس في شبه الفتان ما يميز أعمال المصارف عن الربا المحرم في القرآن؛ لأن نصوص القرآن قد جاءت على وجه العموم الذي يشمل ربا الفضل وربا النسيئة ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما كان على غير طريقتهم، وقد تقدم (1) قول الجصاص:"إن قول الله -تعالى-: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} قد انتظم جميع ضروب الربا لشمول الاسم عيها من طريق الشرع"، وقال أيضا:"اسم الربا في الشرع يعتريه معانٍ، أحدها: الربا الذي عليه أهل الجاهلية، والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل أو الموزون، والثالث: النسأ". انتهى.

وتقدم (2) أيضا قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إن لفظ الربا يتناول

(1) ص97.

(2)

ص136.

ص: 162

كل ما نهى عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى.

وأما حصر الربا المحرم في ربا النسيئة الذي كان معروفًا في الجاهلية فهو من التحكم والقول في القرآن بغير علم، ومن الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، وقد قال الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، وقال -تعالى-:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، قال ابن الجوزي في تفسيره:"الذكر هو القرآن بإجماع المفسرين"، وقال البغوي:"بيان الكتاب يُطلب من السنة". انتهى، وقد دلت الآيتان على أن كل ما نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع الربا فهو مما أمره الله بتبليغه وبيانه للناس مما قد تضمنته نصوص القرآن، ويدل على ذلك أيضًا قول الله -تعالى-:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وفي الحديث الذي رواه الدارمي والترمذي وحسنه، وابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا وإن ما حرم رسول الله فهو مثل ما حرم الله» وهذا الحديث يدل على أن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع الربا فهو مساو في التحريم لما جاء في القرآن، وفيه أبلغ رد على الشبه التي لفقها الفتان لتحليل الربا في المصارف.

فصل

وقد لفق الفتان أيضًا شبها للتحيل على تحليل الربا في المصارف، وهي شبه مبنية على التفريق بين المعاملات الربوية في المصارف وبين الربا الذي حذر منه القرآن، وليس في هذه الشبه ما يستحق الجواب؛ لأن الفتان قد كررها فيما تقدم من كلامه، وتقدم الرد عليها في مواضع كثيرة، ومنها الفصل الذي قبل هذا الفصل فليراجع ففيه كفاية في الرد على الفتان، وقد ذكر الفتان في أثناء شبهه عن المرابين أنهم لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، وزعم أن ذلك يقع لهم في الدنيا، وهذا من القول في القرآن بغير علم، وقد تقدم الرد عليه في أول الكتاب فليراجع (1).

فصل

ومن شبه الفتان أيضًا وحيله على استحلال الربا قوله في المعاملات الربوية في .......

(1) ص67 - 69.

ص: 163

المصارف: "إنها من المضاربة"، وقوله أيضًا:"إن الفائدة - يعني النسبة الربوية - جزء من ربح المضاربة"، وقد استشهد لهذا القول الباطل بأقوال باطلة لمحمد عبده وغيره من الذين أباحوا المعاملات الربوية في المصارف وجعلوها من المضاربة، وقد أطال الفتان الكلام في هذا بما لا حاصل تحته.

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الفتان قد اضطرب كلامه في حكم المعاملات الربوية في المصارف، ففي هذه الجملة جعلها من المضاربة، وفيما تقدم قريبا (1) جعلها من العقود التجارية وقال:"إنها تجارة من نوع جديد"، ونقل عن رشيد رضا أنه قال:"هي من قسم البيع"، واستدل الفتان لهذا القول الباطل بقول الله -تعالى-:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، وقد جعلها في أول نبذته من القرض بفائدة - أي من القرض الذي يجر منفعة - وهو نوع من أنواع الربا، وهو ربا أهل الجاهلية، ذكر ذلك الجصاص في كتابه (أحكام القرآن) وقد ذكرت كلامه فيما تقدم فليراجع (2)، وليراجع أيضا (3) قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن لفظ الربا يتناول كل ما نهى عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، وقال: فالنص متناول لهذا كله. انتهى، وليراجع أيضا قول ابن حجر الهيتمي (4) "إن الربا ثلاثة أنواع: ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ، وزاد المتولي نوعًا رابعًا وهو ربا القرض، لكنه في الحقيقة يرجع إلى ربا الفضل، لأنه الذي فيه شرط يجر نفعًا للمقرض فكأنه أقرضه هذا الشيء بمثله مع زيادة ذلك النفع الذي عاد إليه، قال: وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة". انتهى المقصوص من كلامه.

الوجه الثاني: أن يقال: إن إدخال الفتان للمعاملات الربوية في باب المضاربة خطأ وتلبيس على الجهال، وكذلك تسميته الزيادة الربوية التي يدفعها أهل المصارف إلى أهل الأموال باسم الفائدة وزعمه أنها جزء من ربح المضاربة خطأ أيضا وتلبيس على الجهال؛ لأن المضاربة يشترط فيها تقدير نصيب العامل بجزء مشاع معلوم من الربح، وذلك بأن يقول صاحب المال للعامل: خذ هذا المال مضاربة ولك نصف .........................

(1) ص157.

(2)

ص16 و 65.

(3)

ص136.

(4)

ص120 - 121.

ص: 164

الربح أو ثلثه أو ربعه أو جزء معلوم من أجزاء الربح وهذا أمر مجمع عليه، قال ابن المنذر:"أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلومًا جزءًا من أجزاء". انتهى، وهذا الشرط غير موجود في أعمال أهل البنوك؛ لأنهم إنما يأخذون الأموال من أهلها على وجه القرض بحيث يكون الربح كله لأهل البنوك، ثم هم يجعلون لأهل الأموال نسبة معلومة في كل مائة من المال يضيفونها إلى رؤوس الأموال في كل عام ويسمون تلك النسبة باسم الفائدة، وهي عين ربا القرض الذي يجر منفعة، وتشبه إلى حد كبير ربا أهل الجاهلية؛ لأن الدائن في الجاهلية يقول للمدين: إذ حل أجل الدين إما أن تقضي وإما أن تربي، وأما أهل البنوك فإنهم يقولون بلسان الحال إما أن تأخذ مالك يا صاحب المال وإما أن تتركه عندنا لننتفع به ونجعل لك نسبة معلومة في كل مائة، وقد ذكر الجصاص أن ربا أهل الجاهلية هو القرض بزيادة مال على المستقرض.

الوجه الثالث: أن يقال: إن الوضع في الأموال عند أهل البنوك يختلف عن الوضع فيها في المضاربة؛ لأن أهل البنوك يأخذون الأموال من أهلها على وجه الضمان لرؤوس الأموال ولما يضاف إليها من النسبة المعلومة في كل عام، وهذا بخلاف المضاربة؛ لأن الأموال فيها غير مضمونة على العامل؛ لأنه أمين في مال المضاربة والقول قوله فيما يدَّعيه من تلف المال أو خسارة فيه وما يدعي عليه من خيانة أو تفريط، وفي اختلاف الوضع بين الأعمال الربوية في البنوك وبين المضاربة أبلغ رد على من جعلهما سواء.

الوجه الرابع: أن يقال: إن المضاربة إذا شرط صاحب المال أو العامل فيها أو كلاهما دراهم معلومة لنفسه لم تصح، قال ابن المنذر:"أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض - أي المضاربة - إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة، وممن حفظ ذلك عنه مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي". انتهى.

وفيما ذكره ابن المنذر من الإجماع أبلغ رد على من جعل المعاملات الربوية في المصارف من المضاربة، وفيه أيضا دليل على أن هذه المعاملات من العقود الباطلة؛ لأنها إنما تعتمد على النسبة المعلومة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال، وما سوى النسبة من الأرباح فكله لأهل المصارف، وهذا عين ربا القرض الذي يجر منفعة.

ص: 165

فصل

وزعم الفتان: "أن المعاملات المصرفية تختلف تمامًا عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن؛ لأنها معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشأن حرمة الربا ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحته بيع السلم رغم ما فيه من بيع غير موجود وبيع ما ليس عند البائع مما قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصل، وقد أجمع العلماء على أن إباحة السلم كانت لحاجة الناس إليه، وهكذا فقد اعتمد العلماء على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها".

والجواب: أن يقال: أما زعم الفتان أن المعاملات المصرفية تختلف تمامًا عن الأعمال الربوية التي حذر منها القرآن، فهو زعم باطل وهو من قلب الحقيقة والتلبيس على الجهال، وبيان ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن المعاملات المصرفية إنما تعتمد على أخذ رؤوس الأموال من أربابها بشرط الضمان لها ولما ينتج عنها من النسبة المعلومة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال في كل عام، وهذا هو القرض الذي يجر منفعة، والمنفعة هي النسبة المعلومة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال عوضا عن الانتفاع بأموالهم، وهي نوع من أنواع الربا المحرم بالكتاب والسنة والإجماع. وقد تقدم (1) قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-:"إن لفظ الربا يتناول كل ما نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك"، قال:"فالنص متناول لهذا كله"، وتقدم (2) أيضا قول ابن حجر الهيتمي في تقسيم الربا إلى أربعة أنواع ربا الفضل وربا اليد وربا النسأ وربا القرض الذي يجر منفعة، قال:"وكل من هذا الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث، وما جاء في الربا من الوعيد شامل للأنواع الأربعة". انتهى.

وفي كلام شيخ الإسلام والهيتمي أبلغ رد على شبهة الفتان التي يحاول بها تحليل ربا القرض الذي يجر منفعة.

(1) ص136.

(2)

ص120 - 121.

ص: 166