المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بيع السلم - الصارم البتار للإجهاز على من خالف الكتاب والسنة والإجماع والآثار

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ بيع السلم

الوجه الثاني: أن يقال: إنه ليس في القرآن نص يدل على التحريم والتحذير من نوع من أنواع الربا دون غيره من الأنواع، إنما جاءت نصوص القرآن على وجه العموم الذي يتناول جميع أنواع الربا، وسواء في ذلك ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية وما ليس على طريقتهم فكلها داخلة في عموم التحريم والتحذير من الربا والوعيد الشديد عليه، وأما حصر الربا المحرم فيما كان على طريقة أهل الجاهلية فهو من التحكم المخالف لنصوص الكتاب والسنة ولإجماع المسلمين على تحريم الربا على وجه العموم.

وأما قوله: إن المعاملات المصرفية معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشأن حرمة الربا.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال إن عبارة الفتان في هذه الجملة عبارة سيئة جدًا؛ لأنها تقتضي رد النصوص القطعية التي وردت في القرآن بتحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل المعاملات القديمة والمعاملات الجديدة على حدٍ سواء، وما أعظم الخطر في رد نصوص القرآن؛ لأن ذلك من الرد على الله -تعالى- وعدم الرضا بحكمه الذي أنزله في كتابه واستبداله بحكم القانون الذي هو من حكم الجاهلية، وقد قال الله -تعالى-:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وفي هذه الآية أبلغ رد على الفتان وعلى كل من رضي بحكم القانون في المعاملات المصرفية ولم يرض بحكم الله -تعالى- وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وفي غيرها من المعاملات.

الوجه الثاني: أن يقال: إن حكم الشريعة الإسلامية في المعاملات المصرفية الجديدة لا يختلف عما كان عليه في المعاملات القديمة، فكما أن المسلمين قد خضعوا في المعاملات القديمة لحكم الشريعة الإسلامية بتحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواعه، فكذلك يجب على أهل المصارف أن يخضعوا لحكم الشريعة الإسلامية بتحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواعه لأنه لا فرق بين المعاملات القديمة وبين المعاملات المصرفية الجديدة في تحريم الربا ولا في غير ذلك من الأحكام، ومن فرق بينهما فقد فرق بين متماثلين وذلك غير جائز.

وأما قوله: ولهذا يجب علينا النظر إليها من خلال مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحته‌

‌ بيع السلم

إلى آخر كلامه.

فجوابه: أن يقال: إن الإيجاب والتحليل والتحريم من الأمور التي مبناها على ........

ص: 167

التوقيف، فليس لأحد أن يوجب شيئًا أو يحل شيئًا أو يحرم شيئا إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ومن خالف في هذا فأوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله أو أحل شيئا لم يحله الله ولا رسوله أو حرم شيئا لم يحرمه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فقد افترى على الله الكذب وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن كلام الفتان قد اشتمل على عدة أمور محرمة، أحدها: إيجاب النظر إلى المعاملات المصرفية من خلال ما زعم أنه من مصالح العباد وحاجاتهم المشروعة، وهذا من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله؛ لأن الله -تعالى- لم يوجب النظر إلى المعاملات المصرفية من خلال المصالح والحاجات ولم يوجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أوجبه الفتان من عند نفسه وما تلقاه عن بعض المتلاعبين بالدين، وما كان بهذه المثابة فهو مطرح مردود على قائله.

الأمر الثاني: إباحة الربا في المصارف معتمدًا في ذلك على ما زعمه من النظر إليها من خلال المصالح والحاجات، وهذا أيضا من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله ومن الرد لما جاء في الكتاب والسنة والإجماع من تحريم الربا تحريمًا مطلقا يشمل جميع أنواعه ولا يترك للنظر مجالا في إباحته من خلال المصالح والحاجات.

الأمر الثالث: التلبيس على الجهال بما زعمه من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في إباحته بيع السلم، وهذا من قلب الحقيقة؛ لأن محاولته لتحليل الربا في المصارف يعود في الحقيقة إلى رد النصوص الدالة على تحريم الربا تحريما مطلقًا ومعارضتها برأيه وما شرعه من النظر إلى المعاملات المصرفية من خلال المصالح والحاجات، وليس في هذا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو صريح في مشاقته ومخالفة أمره.

الأمر الرابع: اتباع غير سبيل المؤمنين؛ لأن المؤمنين قد أجمعوا على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواعه، وقد خالفهم الفتان فأباح الربا في المصارف معتمدًا على ما زعمه من النظر إليها من خلال الحاجات والمصالح، وقد توعد الله -تعالى- من اتبع غير سبيل المؤمنين بأشد الوعيد فقال -تعالى-:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} .

الأمر الخامس: مشابهة أهل الجاهلية في قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} وذلك واضح في إباحته الربا في المصارف نظرًا إليها من خلال المصالح والحاجات وقياسه ذلك على .......

ص: 168

إباحة السلم الذي هو من البيوع الجائزة بنص السنة، وهذا قياس فاسد؛ لأنه يتضمن معارضة النصوص على تحريم الربا ومعارضة الإجماع على ذلك، ولا قياس مع وجود النص من الكتاب أو السنة ولا مع وجود الإجماع، وعلى هذا فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما توعد الله به الذين يأكلون الربا ويجعلونه نظير البيع.

وأما قوله: إن العلماء اعتمدوا على السلم وعلى أمثاله من نصوص الشريعة في إباحة الحاجات التي لا تتم مصالح الناس في معاشهم إلا بها.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن مراد الفتان بإباحة الحاجات التي زعم أن مصالح الناس في معاشهم لا تتم إلا بها إباحة الربا في المعاملات المصرفية الجديدة، وقد طنطن بذلك في مواضع كثيرة من كلامه الذي تقدم ذكره والرد عليه وبيان أنه من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله.

الوجه الثاني: أن يقال: ما ذكره عن العلماء على وجه الإطلاق الذي يشمل جميع العلماء لا يخلو فيه من الكذب على العلماء؛ لأن المتمسكين منهم بالكتاب والسنة قد أجمعوا على تحريم الربا تحريما مطلقا يشمل جميع أنواعه، ولم يستثنوا شيئا من المصالح والحاجات إلا ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيع العرايا بخرصها، وأما المتحيلون على تحليل الربا في المصارف وصناديق التوفير ممن كانوا في القرن الرابع عشر من الهجرة فما بعده فليسوا بأهل أن يقتدي بهم، وقد تقدم كلام الشيخ أحمد محمد شاكر ومحمود شلتوت في ذمهم والتحذير من أقوالهم الباطلة فليراجع (1).

الوجه الثالث: أن يقال: إن نصوص الشريعة قد جاءت بتحريم الربا على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواع الربا، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (2). ومن زعم أن نصوص الشريعة تدل على إباحة الربا في المصارف وأن إباحته نظير إباحة السلم فقد افترى على الشريعة وألصق بها ما ليس منها.

الوجه الرابع: أن يقال: إن السلم الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه رضي الله عنهم إنما هو في الثمار لا في الدراهم بالدراهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» " رواه الإمام .......

(1) ص59 - 60.

(2)

ص14 - 39.

ص: 169

أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح"، قال:"وفي الباب عن ابن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى". انتهى، وفي رواية للبخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» .

وروي الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنهما قال: "كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الحنطة والشعير والزبيب والتمر"، وعن عبد الرحمن بن أبزي مثل ذلك.

فهذا هو السلم الذي أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يعمل به في عهده وعهد أصحابه رضي الله عنهم، فأما دفع النقود إلى من يضمنها للدافع ويعطيه معها نسبة معلومة من جنسها في كل عام فهذا عين الربا الذي تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على تحريمه وورد الوعيد الشديد عليه في القرآن والسنة، ومن جعل هذا العمل الربوي نظيرا للسلم فقد تعدى حدود الله وشرع من الدين ما لم يأذن به الله وبارز الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالمحاربة، فلا يأمن الفتان وأعوانه أن يكون لهم نصيب وافر من تعدي حدود الله ومبارزة الله ورسوله بالمحاربة.

فصل

وقال الفتان: "إن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها، ولذلك فإن من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه؛ وذلك لأن حظرها يوقع العباد في حرج معاشهم لا مثيل له، بل إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم الذين يتحكمون في ثرواتهم بل يستخدمونها لزيادة قوتهم ضد أمة الإسلام".

والجواب: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة مبني على المجازفة والهذيان الذي يتنزه عنه كل عاقل، فأما زعمه أن المصارف والأعمال المصرفية حاجة من حاجات العباد لا تتم مصالح معاشهم إلا بها.

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن كلامه في هذه الجملة قد جاء بلفظ العموم الذي يشمل جميع العباد منذ زمان آدم عليه الصلاة والسلام إلى زماننا فكلهم ........

ص: 170

على حد هذيانه محتاجون إلى المصارف والأعمال المصرفية ولا تتم مصالح معاشهم إلا بها، وهذا كلام تضحك منه الثكلى، وينبغي أن يُضم إلى أقوال الحمقى والمغفلين.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الله -تعالى- قد أخبر عن عدد من الأمم الذين كانوا في قديم الزمان أنهم كانوا في نعم عظيمة وكانت لهم كنوز وأموال كثيرة، ولم يذكر عنهم أنهم كانت عندهم مصارف وأعمال مصرفية يعتمدون عليها في مصالح معاشهم بحيث لم تتم مصالح معاشهم إلا بها، وفي هذا أبلغ رد على ما هذى به الفتان من توقف مصالح العباد في معاشهم على وجود المصارف والأعمال المصرفية.

الوجه الثالث: قد ذكرت فيما تقدم (1) أن المسلمين قد عاشوا أكثر من ثلاثة عشر قرنا وهم لا يعرفون المصارف والأعمال المصرفية، ومع هذا فإن مصالح معاشهم كانت متيسرة لكل منهم على حسب ما قسم الله لهم من الرزق، ولم يكن في عدم المصارف والأعمال المصرفية في هذه القرون الكثيرة أدنى شيء من المضرة للناس في مصالح معاشهم، وبعد وجود المصارف والأعمال المصرفية في بلاد المسلمين كان كثير منهم بل أكثرهم لا يتعاملون مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ومع هذا فإن مصالح معاشهم كانت متيسرة لهم، وكثير منهم كانوا أحسن حالاً في مصالح معاشهم من كثير من المتعاملين مع أهل المصارف بالمعاملات الربوية، ولو كان الأمر على ما هذى به الفتان لكانت مصالح الناس في قديم الزمان وحديثه متعطلة لا يتم منها شيء، وهذا معلوم البطلان بالضرورة.

وأما قوله: إنه من غير الجائز التسرع والحكم عليها بأنها من الربا المقطوع فيه.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن النسبة التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال في كل عام مقابل انتفاعهم بأموالهم - ويسمونها فائدة - هي عين ربا القرض الذي يجر منفعة، وعمل أهل المصارف في هذه النسبة شبيه بعمل أهل الجاهلية في مراباتهم، وقد تقدم بيان ذلك في مواضع كثيرة فليراجع (2).

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن الحكم بأنها من الربا المقطوع بتحريمه ليس من التسرع الذي لا يجوز كما قد توهم ذلك الفتان، وإنما هو من المسارعة إلى فعل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من إنكار المنكر وتغييره بحسب القدرة، ومن أعظم المنكرات وأكبر ..........

(1) ص63 و 147.

(2)

ص 57 - 58 و 154 و 159 - 160 و 165.

ص: 171

الكبائر أكل الربا، وقد تظافرت النصوص من الكتاب والسنة بتحريمه والوعيد الشديد عليه، وأجمع المسلمون على تحريمه وعلى أنه من الكبائر، وما كان بهذه الصفة فإنه يجب أن يسارع إلى إنكاره والمنع منه ولا يجوز التهاون به.

الوجه الثاني: أن يقال: إن التسرع المذموم ما وقع فيه الفتان من التسرع إلى تحليل الربا في المصارف ليرضي أهلها والمتعاملين معهم بالعاملات الربوية، ولم يبال بما يترتب على تسرعه من مخالفة نصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على تحريم الربا تحريما مطلقا يتناول جميع أنواع الربا، ومنه ربا القرض الذي يتعامل به أهل المصارف، وفي هذا التسرع دليل على أن الفتان قد أصيب في دينه وعقله، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فلا يأمن الفتان أن يكون له نصيب وافر مما جاء في هذه الآية الكريمة.

وأما قوله: إن حظرها يوقع العباد في حرج معاشهم لا مثيل له.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن هذه الجملة قد تضمنت الاعتراض على الله -تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم في تحريم الربا وحظره على العباد، وتضمنت أيضا الاعتراض على إجماع المسلمين على تحريم الربا وحظره على العباد، وما تضمن الاعتراض على الله -تعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إجماع المسلمين فهو قول سوء لا يصدر إلا من رجل سوء قد أصيب في دينه وعقله، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} ، وقال -تعالى-:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الآيتين أبلغ رد على الفتان الذي قد تحرج من تحريم الربا ولم يرض بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بتحريمه ولم يرض بإجماع المسلمين على تحريمه.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى لما حظر الربا على العباد أحل لهم البيع ولم يجعلهم في حرج من معاشهم، وقد استقامت أحوال المسلمين في معايشهم على ما أحل الله لهم من البيع منذ زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا ولم يتحرجوا من تحريم الربا عليهم حتى جاء الفتان المفتون فزعم أن تحريم الربا يوقع العباد في الحرج في معايشهم، وهذا من الافتراء واتباع الظن، ومن لم يتسع له ما اتسع للمسلمين من .............

ص: 172

البيع الحلال ووقع في الضيق والحرج من تحريم الربا فلا وسَّع الله عليه في معاشه.

وأما قوله: إن حظرها يهدد كيان الدولة والأمة الإسلامية ويقضي نهائيا على مصالحهم الاقتصادية ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم

إلى آخر هذيانه وثرثرته.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ما زعمه الفتان في هذه الجملة فكله من الباطل الذي يرده الواقع من حال المسلمين من أول هذه الأمة إلى زماننا ويشهد على أنه من الكذب على المسلمين؛ وذلك لأن تحريم الربا لا يهدد كيان الولاة والرؤساء من المسلمين ولا كيان الرعايا منهم لا في أول هذه الأمة ولا في آخرها ولا فيما بين ذلك، ولم يقض على شيء من مصالحهم الاقتصادية فضلا على أن يقضي عليها نهائيًا ويجعلهم تحت رحمة أعدائهم وأعداء دينهم كما زعم ذلك الفتان في هوسه وهذيانه.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الذي يهدد كيان الأمة الإسلامية ويضر بمصالحها الاقتصادية هو التعامل بالربا وظهوره بينهم، والدليل على أنه يهدد كيان الأمة الإسلامية قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي بإسناد جيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، والدليل على أنه يضر بالمصالح الاقتصادية قول الله -تعالى-:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} قال ابن عطية في الكلام على هذه الآية: "قد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة". انتهى، والدليل على ذلك من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» رواه الإمام أحمد وابن ماجة وهذا لفظه، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.

فصل

وقال الفتان: "إننا نتوجه بالدعوة المُلحّة إلى أهل الخبرة والرأي والإفتاء للتعاون من أجل الوصول إلى إجماع في الرأي يضمن حاجات الناس فيما لا تتم مصالح معاشهم إلا به، أي تكييف المعاملات المصرفية في حالتي الإيداع والإقراض على أساس يضمن للأمة الإسلامية الاستفادة من قوتها الاقتصادية في حدود قواعد الشريعة الإسلامية".

ص: 173

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الله -تعالى- قد حرم الربا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تحريما مطلقًا يعم جميع أنواع الربا وجميع المعاملات التي يتعامل فيها بالربا وسواء في ذلك المعاملات المصرفية وغير المصرفية، وما ثبت حكمه في الكتاب والسنة فلا دخل للرأي فيه، والدليل على هذا قول الله -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} ، قال ابن كثير:"هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول". انتهى.

وفي الآية أبلغ رد على الفتان الذي لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم بتحريم الربا على وجه العموم، بل ذهب يتوجه بالدعوة الملحة إلى تحريم الرأي في المعاملات المصرفية في حالتي الإيداع والإقراض ولم يبال بما يترتب على هذه المخالفة من معصية الله ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم والوقوع في الضلال المبين.

الوجه الثاني: أن يقال: إن توجه الفتان بالدعوة الملحة إلى الإجماع في الرأي على تكييف المعاملات المصرفية في حالتي الإبداع والإقراض هو في الحقيقة دعوة إلى العمل بالقانون الذي يبيح الربا في المعاملات المصرفية، وقد قال الفتان فيما تقدم ذكره قريبا (1):"إن المعاملات المصرفية معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشان حرمة الربا" فهذه العبارة صريحة في رد النصوص القطعية التي وردت في القرآن بتحريم الربا تحريما مطلقًا يشمل المعاملات المصرفية وغير المصرفية على حد سواء، وما أبشع هذه العبارة وأقبحها وأشنعها، وقد قال الله -تعالى-:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .

الوجه الثالث: أن يقال: من دعا إلى تحكيم الرأي فيما يخالف الكتاب والسنة فإنما هو في الحقيقة يدعو إلى تحكيم الطاغوت والتحاكم إليه، وهذا من صفات المنافقين كما أخبر الله بذلك عنهم في قوله -تعالى-:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} ، قال ابن كثير: "الآية ذامة لمن عدل ..

(1) ص166.

ص: 174

عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا". انتهى، وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (إعلام الموقعين): "أخبر -سبحانه- أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم قد عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة - وهم الصحابة ومن تبعهم - ولا قصدوا قصدهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معًا". انتهى.

وقال ابن القيم أيضا في كتابه (طريق الهجرتين) في ذكر صفات المنافقين: "ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، ومن صفاتهم معارضة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بعقول الرجال وآرائهم ثم تقديمها على ما جاء به - فهم معرضون عنه معارضون له زاعمون أن الهدى في آراء الرجال وعقولهم دون ما جاء به". انتهى.

الوجه الرابع: أن يقال: إنه لا يعرض عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بتحريم الربا على وجه العموم ويدعو إلى تحكيم الرأي في المعاملات المصرفية إلا من ليس في قلبه إيمان، والدليل على هذا قول الله -تعالى-:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» رواه نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب (الحجة) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقال النووي في كتاب (الأربعين) له: "حديث صحيح رويناه في كتاب (الحجة) بإسناد صحيح

" ثم قال في الكلام عليه: "يعني أن الشخص يجب عليه أن يعرض عمله على الكتاب والسنة ويخالف هواه ويتبع ما جاء به صلى الله عليه وسلم، وهذا نظير قوله -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فليس لأحد مع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أمر ولا هوى". انتهى.

الوجه الخامس: أن يقال: إن الله -تعالى- قد وسع الرزق لعباده من الوجوه المباحة

ص: 175

والمكاسب الطيبة قبل وجود المصارف وبعد وجودها ولم يجعل حاجاتهم ومصالح معاشهم متوقفة على المعاملات المصرفية، فوجودها وعدمها بالنسبة لحاجات العباد ومصالح معاشهم سواء. وما لفَّقه الفتان في دعوته المُلحّة إلى إجماع في الرأي يضمن حاجات الناس ويضمن للأمة الإسلامية الاستفادة من قوتها الاقتصادية فهو باطل وضلال؛ لأنه يتضمن رد النصوص من الكتاب والسنة على تحريم الربا تحريما مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا ويشمل المصارف وغير المصارف مما يتعامل فيه بالربا ويتضمن أيضًا رد الإجماع على تحريم الربا، وما كان بهذه المثابة فهو مردود ومضروب به عرض الحائط.

الوجه السادس: أن يقال: إن النظر في قواعد الشريعة والعمل بمقتضاها بابه الاجتهاد ولا محل للإجتهاد مع وجود الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع. وإنما يصار إليه إذا لم يوجد الدليل من هذه الأصول الثلاثة، وعلى هذا إجماع أهل العلم، والدليل على ذلك قول الله -تعالى-:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} والدليل عليه من السنة حديث معاذ بن جبل -رضي لله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله، قال:«فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: أقضي بسنة رسول الله، قال:«فإن لم تجد في سنة رسول الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي والدارقطني والبيهقي.

وروي النسائي عن شريح أنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله فكتب إليه "أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقضي به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، والسلام عليكم" وقد رواه الدارمي والبيهقي بنحوه.

وروى الدارمي والنسائي والبيهقي أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله فإن لم تجوده في سنة رسول الله فما أجمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فيما

ص: 176

اجتمع عليه المسلمون فاجتهد رأيك" وقد رواه الحاكم بنحوه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.

وروى البيهقي أيضا عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال لمسلمة بن مخلد: "اقض بكتاب الله عز وجل فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فادع أهل الرأي ثم اجتهد".

وروى البيهقي أيضا عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن شيء هو في كتاب الله قال به، وإذا لم يكن في كتاب الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به، وإن لم يكن في كتاب الله ولم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال به، وإلا اجتهد رأيه.

وروى الدارمي عن أبي الشعثاء أن ابن عمر رضي الله عنهما قال له: "يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت".

وروى الدارمي أيضًا أن أبا سلمة قال للحسن: "إنه بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب منزل".

وفي حديث معاذ وما ذكر بعده من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم دليل على أنه لا يسوغ الاجتهاد مع وجود الدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وفي هذا أبلغ رد علي الفتان الذي لم يرض بحكم الله -تعالى- وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم بتحريم الربا على وجه العموم، ولم يرض بإجماع المسلمين على تحريمه، بل ذهب يتوجه بالدعوة الملحة إلى تحكيم الرأي فيه، وهذا يدل على أنه مصاب في دينه وعقله.

ص: 177

فصل في ذكر الرأي المحمود

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب (إعلام الموقعين): "الرأي المحمود أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة، فإن لم يجده اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضا عليه

ثم ذكر ما رواه علي بن الجعد عن شعبة عن سيار - وهو أبو الحكم العنزي - عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه بعث شريحًا قاضيًا وقال: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه فإن لم يستبن في كتاب الله فمن السنة فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك".

فصل

وقال الفتان: "إن توفير السيولة في المصارف مصلحة اقتصادية ضرورية لإشباع الحاجات المشروعة، ولذلك يجب إلزام المصارف والمقترضين منها بحد أدنى من الأرباح؛ لأن ذلك سوف يشجع على ظهور السيولة في المصارف وعلى إشراك أصحاب الأموال الصغيرة في أرباح المشاريع التجارية الكبيرة والصغيرة ذات المصلحة المحققة، وفي ذلك بلا شك مصالح معاشية ضرورية من غير استغلال ولا ظلم مما هو من خصائص الربا المحرم في القرآن".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ما لفَّقه الفتان في هذه الجملة فإنه ظاهر في الترغيب في المعاملات الربوية مع أهل المصارف والتشجيع على محاربة الله ورسوله باستحلال الربا لإشباع الجشع والتكاثر بالأموال الربوية.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الأرباح التي ذكر الفتان أنه يجب إلزام المصارف والمقترضين منها بحد أدنى هي النسبة الربوية التي يجعلها أهل المصارف لأهل الأموال مقابل انتفاعهم بأموالهم كالخمسة في كل مائة مثلا، وقد تكون أكثر منها وقد تكون أقل على حسب ما يتفق عليه أهل المصارف مع أهل الأموال، وهذه النسبة هي عين الربا؛ ...........

ص: 178

لأن أهل الأموال إنما يدفعون أموالهم إلى أهل المصارف من أجل هذه النسبة الربوية وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعن أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما نحوه، وقد تقدم ذكرهما في أول الكتاب.

الوجه الثالث: أن يقال: إن كل ما يأخذه أهل الأموال من الزيادة على رؤوس أموالهم فهو ظلم وإن كانت الزيادة شيئا يسيرًا، والدليل على هذا قول الله -تعالى-:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} فدلت الآية الكريمة على أنه لا يجوز أخذ ما زاد على رؤوس الأموال؛ لأن ذلك من الظلم.

الوجه الرابع: أن يقال: إن نصوص القرآن قد جاءت على وجه العموم الذي يشمل جميع أنواع الربا وليس فيها ما يدل على تخصيص نوع منه دون غيره من الأنواع، وغاية ما يتعلق به المفتونون بتحليل الربا ما ذكره بعض المفسرين أن بعض الآيات نزلت بسبب ما كان باقيا من ربا الجاهلية، وليس في هذا ما يتعلق به المبطلون؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين؛ ولأن الله -تعالى- أمر أهل الأموال أن يأخذوا رؤوس أموالهم ولا يزيدوا عليها ونص على أن أخذ الزيادة على رؤوس الأموال ظلم، وفي هذا أبلغ رد على الفتان الذي يحاول تحليل الربا في المصارف ويتأول القرآن على غير تأويله ويضعه على غير مواضعه.

فصل

وقال الفتان: "نحن نعرف أن المصارف تقرض بأجل أي توظف الزمن، ولا شك أن للزمن في ميدان النشاط الاقتصادي دورًا بارزًا لا مجال لإنكاره، ومن ثَمَّ فمن حق المتعامل أن يستفيد به، ولذلك جاز بيع السلعة بثمن أغلى نظير الأجل، ومهما قيل في تفسير تلك العملية فإن عنصر الزمن بارز فيها، وأي إنكار له هو تخريج من بعيد ومتكلف ونعرف أيضا أن للزمن قيمة مالية في الإسلام، وتأييدًا لما نقول نقدم بعض العبارات للإمام الشافعي حيث قال في الأم: "الطعام الذي إلى الأجل القريب أكثر قيمة من الطعام الذي إلى الأجل البعيد"، وقال: "مائة صاع أقرب أجلاً من مائة صاع أبعد أجلاً منها أكثر في القيمة، أي أن القيمة الحالية لمائة صاع قريبة الأجل أكبر من القيمة الحالية لمائة صاع بعيدة الأجل".

ص: 179

والجواب: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة كله شبه وتلبيس على الجهال ليوقعهم في أكل الربا واستحلاله في المعاملات مع أهل المصارف.

فأما قوله: إن المصارف تقرض بأجل.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن تأجيل القرض لا يجوز في أصح قولي العلماء وهو قول الجمهور، قال النووي في الروضة:"ولا يجوز شرط الأجل فيه ولا يلزم بحال". انتهى. وعلى القول بجواز التأجيل فليس فيه ما يتعلق به الفتان في تحليل الربا؛ لأن القائلين بجواز التأجيل يمنعون من اشتراط الزيادة في القرض ويرون أن ذلك من الربا.

الوجه الثاني: أن يقال: إن أهل المصارف إنما يقرضون بأجل لأنهم يشترطون على المقترض أن يرد إليهم بدل القرض وزيادة معلومة في كل مائة، فإذا أقرضوا إنسانًا مائة ألف درهم مثلا اشترطوا عليه أن يرد إليهم مائة ألف درهم وزيادة ثلاثة آلاف درهم أو أكثر أو أقل على حسب طول مدة الأجل وقصرها، وهذا عين الربا، قال الشيخ الموفق في (المغنى):"كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف"، قال ابن المنذر:"أجمعوا على أن المستسلف إذا شرط على المسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا، وقد روي عن أُبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق وقربة فإذا شرط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه، ولا فرق بين الزيادة في القدر أو في الصفة، مثل أن يقرضه مكسرة ليعطيه صحاحًا أو نقدًا ليعطيه خيرًا منه". انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القرض إذا جر منفعة كان ربا"، وقال أيضًا:"كل قرض جر منفعة فهو ربا، مثل أن يبايعه أو يؤاجره ويحابيه في المبايعة والمؤاجرة لأجل قرضه، فإذا أقرضه مائة درهم وباعه سلعة تساوي مائة بمائة وخمسين كانت تلك الزيادة ربا، وكذلك إذا أقرضه مائة درهم واستأجره بدرهمين كل يوم وأجرته تساوي ثلاثة، بل ما يصنع كثير من المعلمين بصناعهم يقرضونهم ليحابوهم في الأجرة فهو ربا، وكذلك إذا كانت الأرض أو الدار أو الحانوت تساوي أجرتها مائة درهم فأكراها بمائة وخمسين لأجل المائة التي أقرضها إياه فهو ربا". انتهى كلامه، وهو في صفحة خمسمائة وإحدى وثلاثين وصفحة خمسمائة وثلاث وثلاثين من المجلد التاسع والعشرين من مجموع الفتاوى.

ص: 180

وقال شيخ الإسلام أيضا في الفتاوى المصرية: "إن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ما له بالباطل، وكل قرض جر منفعة فهو ربا كما يقرض صناعه ليحابوه بالأجرة أو يقرضه مائة ويبيعه سلعة تساوي مائة بمائة وخمسين ونحو ذلك فهو ربا". انتهى، وذكر الجصاص في (أحكام القرآن) أن ربا أهل الجاهلية هو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض.

وأما قوله: إن المصارف توظف الزمن.

فجوابه: أن يقال: إن معنى توظيف الزمن هو اشتراط زيادة على القرض المدفوع لتكون في مقابل الزمن الذي يجعله أهل المصارف أجلاً للقرض، وهذا عين الربا.

وأما قوله: ولا شك أن للزمن في ميدان النشاط الاقتصادي دورًا بارزًا لا مجال لإنكاره، ومن ثم فمن حق المتعامل أن يستفيد به.

فجوابه: أن يقال: هذا تصريح من الفتان بتحليل الربا الذي يجعله أهل المصارف في مقابلة الزمن ويسمونه فائدة، وهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: ولذلك جاز بيع السلعة بثمن أغلى نظير الأجل.

فجوابه: أن يقال: إن الفتان قد ساوى في هذه الجملة بين البيع الجائز وبين الربا المحرم الذي سماه توظيف الزمن وقال: "إن من حق المتعامل أن يستفيد به"، فجعل بيع السلعة بثمن مؤجل أكثر من ثمنها وقت البيع مثل القرض إلى أجل بزيادة على قدر القرض وهذا من أفسد القياس وهو مطابق لما أخبر الله به عن أهل الجاهلية أنهم قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ، وقد رد الله عليهم بقوله:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ} وفي هذه الآية أبلغ رد على الفتان.

وأما قوله: ومهما قيل في تفسير تلك العملية فإن عنصر الزمن بارز فيها، وأي إنكار له هو تخريج من بعيد ومتكلف.

فجوابه: أن يقال: لا يخفي ما في كلام الفتان من المعارضة لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وقال:«من زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» وفي رواية: «من زاد أو استزاد فهو ربا» وقد ذكرت الأحاديث الواردة في تحريم الربا في أول الكتاب فلتراجع (1)، ففيها أبلغ رد على ........

(1) ص29 - 39.

ص: 181

قول الفتان إن أي إنكار للعملية – أي العملية الربوية في المصارف وهي توظيف الزمن – أنه تخريج من بعيد ومتكلف، هكذا قال الفتان الذي يهرف بما لا يعرف، وما يدري الجهول أن كلامه هذا يتناول الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التفاضل في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة؛ لأنه على حد قوله يكون الاحتجاج بالأحاديث النبوية على إنكار العملية الربوية في المصارف تخريجًا من بعيد ومتكلف، وما أسوأ هذه العبارة وأبشعها!

وقد ذكرت أيضًا عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا في القرض الذي يجر منفعة إنه ربا فليراجع ذلك في أثناء الكتاب (1)، وذكرت أيضًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال:"إن لفظ الربا يتناول كل ما نُهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله". انتهى فليراجع (2)، وذكرت أيضا قول ابن حجر الهيتمي أن أنواع الربا أربعة وذكر منها ربا القرض، ثم قال:"وكل من هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع وبنص الآيات والأحاديث" فليراجع ذلك في أثناء الكتاب (3) ففي كل ما تقدم أبلغ رد على قول الفتان إن إنكار العملية الربوية في المصارف تخريج من بعيد ومتكلف.

أما قوله: ونعرف أيضا أن للزمن قيمة مالية في الإسلام.

فجوابه: أن يقال: إنما ذلك في السلم وبيع الطعام وأنواع السلع بثمن مؤجل، فأما القرض إلى أجل بزيادة على قدر القرض فهو حرام بالإجماع، وقد تقدم كلام الموفق وابن المنذر في ذلك في أول الفصل.

وأما ما ذكره عن الشافعي أنه قال في الأم: "الطعام الذي إلى الأجل القريب أكثر قيمة من الطعام الذي إلى الأجل البعيد"، وقال:"مائة صاع أقرب أجلا من مائة صاع أبعد أجلاً منها أكثر في القيمة، أي في القيمة الحالية لمائة صاع قريبة الأجل أكثر من القيمة الحالية لمائة صاع بعيدة الأجل".

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: هذا الكلام الذي ذكره عن الشافعي قد نقله بالنص من رسالة الدكتور رفيق المصري المسماة بـ (الربا والاسم الزمني في ..............

(1) ص66 - 67.

(2)

ص136.

(3)

ص120 - 121.

ص: 182

الاقتصاد الإسلامي) وهو في صفحة 30 وقوله في آخره: أي أن القيمة الحالية لمائة صاع

إلى آخره، ليس من كلام الشافعي وإنما هو من كلام الدكتور رفيق ومع هذا فقد جعله الفتان من كلام الشافعي ولم يميز بين كلامه وكلام غيره، وليس في كلام الدكتور رفيق ما يدل على أنه كان يرى تحليل الربا في البنوك، بل إنه قد رد على رشيد رضا في قوله بجواز الزيادة في القرض فقال في صفحة 34:"هذا توسع منه غير مقبول شرعًا ولا عقلاً"، وفي هذا رد على الفتان أيضا.

الوجه الثاني: أن يقال: ليس في كلام الشافعي -رحمه الله تعالى- ما يتعلق به الفتان فيما رآه تحليل ربا القرض المؤجل في المعاملات المصرفية؛ لأن بيع الطعام إلى أجل بعيد بأكثر من قيمته إذا بيع بقيمة حاضرة أو إلى أجل قريب لا خلاف في جوازه، بخلاف القرض بزيادة فإنه عين الربا وهو حرام بالإجماع، وقياس هذه المعاملة الربوية على ما قاله الشافعي في بيع الطعام المؤجل من أفسد القياس وهو مطابق لما أخبر الله به عن المرابين أنهم قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} وفي هذه الآية أبلغ رد على الفتان.

فصل

قال الفتان: "وقرر الفقهاء أن العين خير من الدين والحاضر أفضل من الغائب والناجز أحسن من غيره وأن الخمسة نقدًا تساوي ستة مؤجلة، ثم ذكر ثلاثة عشر كتابًا من كتب الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة قد ذكر فيها هذا الكلام أو معناه".

والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الفتان قد نقل هذا الكلام بالنص من رسالة الدكتور رفيق المصري، وقد تقدم ذكرها في الفصل الذي قبل هذا الفصل، وهذا الكلام مذكور في صفحة 30 من الرسالة، ونقل الفتان أيضا من الرسالة ما ذكره الدكتور رفيق من الكتب الثلاثة عشر من كتب الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة، وهي التي ذكر فيها هذا الكلام أو معناه، ونقل أيضا ما ذكره الدكتور رفيق من الأرقام لأجزاء الكتب المشار إليها وصفحاتها، وهو في صفحة 30 - 31 وصفحة 35 - 36 من الرسالة، ولو أن الفتان نسب الكلام للدكتور رفيق لكان أولى له من الاتصاف بصفة اللصوص، وليس في كلام الدكتور رفيق ما يتعلق به الفتان في تأييد قوله الباطل في تحليل الربا في المصارف؛ لأن الدكتور إنما ساقه في بيع الطعام بثمن مؤجل، وقد رد فيه قول رشيد رضا إن الزيادة تجوز في القرض، وتقدم ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل.

ص: 183

الوجه الثاني: أن يقال: إن كلام الفتان في هذه الجملة مبنى على التمويه والتلبيس على الجهال وإيهامهم أن ما ذكره من كلام الفقهاء يؤيد قوله الباطل في تحليل ربا القرض في المعاملات المصرفية، وهذا خطأ وتضليل، إذ ليس في كلام الفقهاء ما يتعلق به فيما رآه من تحليل الربا، وإنما كلامهم في السلم وبيع الطعام وغيره من أنواع السلع بثمن مؤجل، فإنهم قالوا فيه إن البيع المعجل أكثر قيمة من المؤجل، وأما القرض الذي يجر منفعة فإنهم صرحوا بتحريمه وصرحوا أنه من الربا، وقد تقدم قريبًا قول الشيخ الموفق في (المغنى):"كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف"، قال ابن المنذر:"أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخذ الزيادة على ذلك ربا". انتهى، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"القرض إذا جر منفعة كان ربا". انتهى، وذكر ابن حجر الهيتمي أن أنواع الربا حرام بالإجماع وذكر منها ربا القرض وقد تقدم كلامه في ذلك في أثناء الكتاب فليراجع (1)، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه (المهذب):"ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفًا على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه، ويروي عن أُبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم نهوا عن قرض جر منفعة، ولأنه عقد إرفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه". انتهى.

وقال النووي في (الروضة): "يحرم كل قرض جر منفعة، فإن شرط زيادة في القدر حرم إن كان المال ربويًا، وكذا إن كان غير ربوي على الصحيح". انتهى.

وقال السرخسي في (المبسوط): "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرض جر منفعة وسماه ربا". انتهى. وقال الدردير في (الشرح الكبير): "وحرم في القرض جر منفعة، قال الدسوقي في الحاشية: ولو كانت تلك المنفعة قليلة". انتهى.

وكلام الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة بنحو هذا كثير جدًا، وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على تمويه الفتان وإيهامه أن ما ذكره من كلام الفقهاء يؤيد رأيه الفاسد في تحليل ربا القرض في المعاملات المصرفية، وبالجملة فأي شبهة تعلق بها الفتان من كلام الفقهاء فالإجماع على تحريم ربا القرض يردها ويبطلها.

(1) ص121.

ص: 184

فصل

وقد استخلص الفتان في آخر نبذته ضرورة الترخيص في القرض بفائدة، وقال:"لأنه من العدل والإنصاف أن يشترك الدائن والمدين معًا في احتمالات التقلبات النقدية التي تفرضها الظروف الاقتصادية وذلك بأن يتحمل الدائن نقص قيمة النقود والمدين بأن يدفع الفوائد، وبذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم أو حظر قانوني في استخدام مدخرات المواطنين في تعزيز وتقوية الاقتصاد الوطني، فالعائد سيصبح ثابتًا ومضمونا ومثمرًا؛ وذلك بسبب تنوع وتوسع المشروعات، والنتيجة تحقق القوة الاقتصادية التي بدونها لن تكون هناك قوة إسلامية".

والجواب: أن يقال: أما استخلاص الفتان ضرورة الترخيص في القرض بفائدة فإنه صريح في محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومعارضة ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع من تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواع الربا. وما أسوأ هذه الجراءة من الفتان وأشد خطرها عليه وعلى من عمل بقوله؛ لأن الله -تعالى- قد توعد المحادين له ولرسوله صلى الله عليه وسلم بنار جهنم، وتوعد من شاق الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع غير سبيل المؤمنين بأن يولِّه ما تولى ويُصلِهِ جهنم، وحذر المخالفين عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، ونفى الإيمان عمن لم يرد الأحكام المتنازع فيها إليه وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي إلى الكتاب والسنة - وأقسم تبارك وتعالى بنفسه على نفي الإيمان عمن لم يُحكِّم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور التي يقع فيها التشاجر ويرض بقضائه ولا يجد في نفسه حرجًا منه، بل يقابله بالقبول والتسليم.

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن الفتان قد تعرض لكل ما ذكرته من الوعيد الشديد ونفي الإيمان فلا يأمن أن يكون له نصيب وافر مما جاء في الآيات التي أشرت إليها، وذلك لأنه قد أقدم على تحليل ربا القرض وزعم أن الترخيص فيه ضرورة، ثم إنه سمى الزيادة الربوية في القرض باسم الفائدة ليموِّه على الجهال بهذه التسمية ويخدعهم بها ليستحلوا ما استحله من الربا ويقعون معه في محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولعنة الله ولعنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما زعمه أن من العدل والإنصاف دفع الزيادات الربوية في القرض - وهي التي سماها باسم الفوائد.

ص: 185

فجوابه: أن يقال: بل هذا عين الظلم وأكل المال بالباطل، والدليل على ذلك قول الله -تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} فدلت الآية الكريمة على أن أخذ الزيادة على رأس المال ظلم، وهذا يعم القرض وغيره مما يجري فيه الربا.

وأما زعمه أن أهداف الفائدة العامة - أي الزيادة الربوية في القرض - خارج عن نطاق أي تحريم أو حظر قانوني.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن القوانين ليست من أحكام المسلمين وإنما هي من أحكام الجاهلية، وقد ذمَّ الله -تعالى- من عدل عن حكمه إلى حكم الجاهلية فقال -تعالى-:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، قال ابن كثير في الكلام على هذه الآية:"ينكر -تعالى- على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير". انتهى.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الزيادة الربوية في القرض داخلة في عموم النصوص الدالة على تحريم الربا وداخلة في عموم الإجماع على تحريم الربا وقد تقدم كلام الجصاص وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر الهيتمي في ذلك فليراجع (1)، وليراجع أيضا كلام ابن المنذر والموفق في ذلك (2).

وأما قوله: إن العائد سيصبح ثابتًا ومضمونًا ومثمرًا.

(1) ص24 - 25 و136 و121.

(2)

ص180.

ص: 186

فجوابه: أن يقال: إن العائد الربوي وإن أصبح ثابتًا ومضمونًا ومثمرًا كما زعم ذلك الفتان فإن عاقبته ستكون إلى المحق والقلة؛ لأن الله -تعالى- أخبر أنه يمحق الربا، أي يذهبه إما يذهبه بالكلية أو يذهب بركته فلا ينتفع به صاحبه، وقد روي الإمام أحمد وابن ماجة بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة» وفي هذا أبلغ رد على الفتان.

وأما قوله: إن النتيجة تحقق القوة الاقتصادية التي بدونها لن تكون هناك قوة إسلامية.

فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن النتيجة الحاصلة من الفوائد الربوية حرام بالنص والإجماع، وما كان محرما بالنص والإجماع فإنه لا يجوز أخذه ولا إعطاؤه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه، وقال: هم سواء» رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه. ونص على أن «الآخذ والمعطي فيه سواء» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

الوجه الثاني: أن يقال: إنه لا تلازم بين وجود القوة الإسلامية وبين وجود القوة الاقتصادية، ولا بين وجود القوة الاقتصادية وبين وجود المصارف التي يتعامل أهلها بالربا، وقد تقدم بيان ذلك في الرد على قول الفتان إنه لن تكون هناك قوة إسلامية بدون قوة اقتصادية ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، فليراجع ذلك في أول الكتاب (1) ففيه كفاية في الرد على أخطاء الفتان في هذه الجملة.

فصل

وقد صدَّر الفتان الطبعة الثانية من نبذته بمقدمة عنوانها: (تنبيه وإيضاح)، فأما التنبيه فقال فيه: "الطبعة الأولى والطبعة الثانية من بحث (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف) ليست فتوى وإنما هي دعوة صادقة إلى أهل الخبرة والإفتاء الذين يملكون حق الإفتاء لإيجاد الحلول المعقولة التي تضمن للمملكة العربية السعودية جهازًا مصرفيًا فعالاً في حدود قواعد الشريعة الإسلامية؛ لأن الجهاز المصرفي هو الاقتصاد السعودي والاقتصاد السعودي هو الأمن السعودي والأمن السعودي هو ................................................

(1) ص55 - 58.

ص: 187

مسئولية كل مواطن يملأ قلبه الإيمان بالله سبحانه وتعالى ثم بالمملكة العربية السعودية".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: أما قول الفتان إن نبذته ليست فتوى وإنما هي دعوة صادقة إلى أهل الخبرة والإفتاء الذين يملكون حق الإفتاء، فهو قول قد خالفه الفعل منه؛ لأن كلامه في نبذته يدور على الإفتاء بحل الربا في المصارف والتحيل على استحلاله بتسميته فوائد، بل إنه قد تجاوز الإفتاء إلى الحكم بالترخيص في القرض بفائدة وزعم أن ذلك ضرورة وأنه من العدل والإنصاف كما قد صرح بذلك في آخر نبذته، وقد قال الله -تعالى-:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} ، ولو كان صادقا في قوله إن نبذته دعوة صادقة إلى أهل الخبرة والإفتاء لكان يقتصر على السؤال ويرسله إلى الهيئة المختصة بالإفتاء ويطلب منهم الجواب ثم يعمل بإجابتهم، ولكن قوله لا يعدو أن يكون حبرًا على ورق ومخادعة للذين لا يعرفون حيله على استحلال الربا وأساليبه الملتوية في ذلك.

الوجه الثاني: أن يقال: إن إيجاد الحلول المعقولة موجود في قول الله -تعالى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فهذا النص يتناول جميع المعاملات الربوية في المصارف وغير المصارف، ومن ذلك القرض في المصارف بما يسمونه فائدة، وهي عين الربا.

وإذا علم هذا فليعلم أيضا أنه لا يجوز للمسلم أن يخالف نص الآية الكريمة. ومن خالفه فلا يأمن العقوبة في الدنيا بمحق المال وفي الآخرة بالخلود في النار؛ لأن الله -تعالى- يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} ، ويقول:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

الوجه الثالث: أن يقال: إن الله -تعالى- قد يسر لأهل المملكة العربية السعودية ما أغناهم به عن المعاملات الربوية في المصارف وغير المصارف، ونرجو من الله -تعالى- أن يعصم القادة والرعية عما حرَّمه عليهم من الربا وغيره وأن يعيذهم من اتباع خطوات الشيطان ودسائس أعوان الشيطان وحيله وزخارف أقوالهم التي ينشرونها في كتبهم ومقالاتهم ويموهون بها على الناس، وقد قال الله -تعالى-:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، وقال -تعالى-:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} .

ص: 188

الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- قد أنعم على أهل المملكة العربية السعودية بنعم عظيمة ويسَّر لهم من الاقتصاد والأمن ما ليس له نظير في العالم، ونرجو من الله أن يديم ذلك عليهم وأن يعصمهم من الوقوع في الأسباب التي تدعو إلى سلب ذلك عنهم، ومن أعظم الأسباب لكثرة النعم ودوام الأمن لزوم طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحكيم الكتاب والسنة في كل الأمور، ومن أعظم الأسباب التي تدعو إلى سلب النعم وزوال الأمن كثرة المعاصي والمخالفات وظهور المنكرات والإعراض عن تحكيم الكتاب والسنة ولو في بعض الأمور، وقد قال الله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، وقال -تعالى-:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، وجاء في بعض الآثار أن الله يقول:«إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني» ، وروي ابن أبي حاتم عن إبراهيم قال:"أوحي الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: «أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوَّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون» ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ".

الوجه الخامس: أن يقال: إن فشو الربا في المصارف وغيرها وعدم الأخذ على أيدي المتعاملين به من أعظم الأسباب لسلب النعم وزوالها وتدهور الاقتصاد وتضعضع الأمن وحلول الذل والخوف، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ظهر في قوم الزنى والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله» رواه أبو يعلي بإسناد جيد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وروي الحاكم نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» العينة نوع من أنواع الربا، وفي المصارف من المعاملات الربوية ما هو أعظم من العينة بكثير، والله المسئول أن يوفق ولاة الأمور للأخذ على أيدي المتعاملين بالربا والداعين إلى استحلاله بالشبه والأباطيل.

الوجه السادس: أن يقال: إن الإيمان المشروع مبنى على ستة أركان قد جاء بيانها في سؤال جبريل حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإيمان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: ...............

ص: 189

صدقت. رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الترمذي:"هذا حيث حسن صحيح". فهذا الإيمان الذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقه عليه جبريل هو الذي يملأ قلوب المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن زاد عليه شيئا لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فزيادته مردودة عليه؛ لأنها من الشرع الذي لم يأذن به الله.

وأما الإيضاح فقال الفتان فيه: "لقد قمت بهذا البحث مقتديًا بموقف من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه حيث قدمت إليه قضية للنظر فيها فقال لعمرو بن العاص: «احكم» فقال: أجتهد وأنت حاضر؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إن أصبتَ فلك أجران وإن أخطأتَ فلك أجر» لهذا أُقدِّم ما وسعني الجهد وأعرضه على من هم خير مني".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه حديث ضعيف قد رواه الإمام أحمد والدارقطني من طريق الفرج بن فضالة وهو ضعيف، وفي إسناده أيضا محمد بن عبد الأعلى بن عدي وهو مجهول، قال الهيثمي في مجمع الزوائد:"فيه من لم أعرفه"، وما كان بهده الصفة فإنه لا يعتد به.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الفتان قد تعدى طوره وتجاوز الحد الذي يليق به؛ وذلك أنه وضع نفسه في موضع القضاة الذين يحكمون بين الناس، وإنه لينطبق عليه ما جاء في المثل المشهور "ليس هذا بعُشّك فادرجي" وقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«القضاة ثلاثة؛ واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضي به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» صححه الحاكم، ورواه أيضا بنحوه وزاده فيه: قالوا فما ذنب هذا الذي يجهل؟ قال: «ذنبه أن لا يكون قاضيا حتى يعلم» قال الذهبي على شرط مسلم، وفي رواية ذكرها رزين قال:«فأما الذي في الجنة فهو رجل قضى بكتاب الله وسنة نبيه لا يألو عن الحق، وأما اللذان في النار فرجل قضى بجور وآخر افترى على القضاء فقضي بغير علم» .

وإذا علم ما جاء في هذا الحديث من التشديد في القضاء بالجور وبالجهل فليعلم أيضا أن الفتان لا ينفك من أحد هذين الوصفين الذميمين وأشدهما مطابقة له صفة الجهل؛ لأن كلامه من أول بحثه إلى آخره كله جهل وضلال، ومداره على الحكم ...................

ص: 190

بتحليل الربا سوى ما كان منه على طريقة أهل الجاهلية، وقد صرح في عدة مواضع من بحثه بتحليل ربا الفضل للمصلحة والحاجة وتحليل ربا النسيئة للضرورة (1)، وصرح أيضا أن الفائدة - يعني النسبة الربوية في المصارف - جزء من ربح المضاربة (2)، وصرح أيضا أن المعاملات المصرفية معاملات جديدة لا تخضع في حكمها للنصوص القطعية التي وردت في القرآن بشأن حرمة الربا (3)، وهذه العبارة صريحة في الرد على الله -تعالى- وعدم الرضا بحكمه الذي أنزله في كتابه، ثم زعم أنه يجب عليه النظر في المعاملات المصرفية من خلال مصالح العباد وحاجاتهم وشبَّهها ببيع السلم (4)، وهذا صريح في الحكم فيها بغير ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما تشبيهها ببيع السلم فإنه صريح في الاقتداء بأهل الجاهلية الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} . وصرح أيضًا أن حظر المعاملات - يعني الربوية - في المصارف والحكم بأنها من الربا المقطوع به يوقع العباد في حرج من معاشهم (5)، وصرح أيضا أن المصارف تقرض بأجل وأن من حق المتعامل أن يستفيد به وأن أي إنكار له هو تخريج من بعيد ومتكلف (6)، إلى غير ذلك من أنواع الجهل الذي قد حكم به الفتان في بحثه المشئوم.

الوجه الثالث: أن يقال: إن الجهد الذي قدمه الفتان في بحثه كله خطأ مخالف لنصوص القرآن والسنة على تحريم الربا تحريمًا مطلقًا يشمل جميع أنواعه، ومخالف أيضًا لإجماع المسلمين على تحريم الربا. وما كان بهذه الصفة فليس فيه اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو صريح في معارضته ونبذ أحاديثه المتواترة عنه في النهي عن الربا والتشديد فيه وراء الظهر، وما أعظم الخطر في هذا.

فصل

وأختم الرد على الفتان بذكر قصتين وقعتا لبعض المرابين الذين يعذبون في القبور، وفيهما عبرة لمن اعتبر.

(1) تراجع صفحة 92 و 132 و 143 و 149 و 157 و 160 و 162.

(2)

تراجع صفح 164.

(3)

تراجع صفحة 166.

(4)

تراجع صفحة 166.

(5)

تراجع صفحة 170.

(6)

تراجع صفحة 179.

ص: 191

فأما القصة الأول: فقد ذكرها ابن حجر الهيتمي في أثناء مقدمته لكتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) قال: "كنت وأنا صغير أتعاهد قبر والدي فخرجت يوما بعد صلاة الصبح بغلس في رمضان فلما جلست عند قبره ولم يكن بالمقبرة أحد غيري إذا أنا أسمع التأوه العظيم والأنين الفظيع بآه آه آه وهكذا بصوت أزعجني من قبر مبنى بالنورة والجص له بياض عظيم فاستمعت فسمعت صوت ذلك العذاب من داخله وذلك الرجل يتأوه تأوها عظيما بحيث يقلق سماعه القلب ويفزعه، فاستمعت إليه زمنا فلما وقع الإسفار خفي حسه عني فمر بي إنسان فقلت: قبر من هذا؟ قال: هذا قبر فلان لرجل أدركته وأنا صغير وكان على غاية من ملازمة المسجد والصلوات في أوقاتها والصمت عن الكلام، وهذا كله شاهدته وعرفته منه فكبر عليَّ الأمر جدًا لما أعلمه من أحوال الخير التي كان ذلك الرجل متلبسًا بها في الظاهر فسألت واستقصيت الذين يطلعون على حقيقة أحواله فأخبروني أنه كان يأكل الربا فأوقعه ذلك في العذاب الأليم، ولما قلت ذلك لبعض أهل بلده قال لي: أعجب منه عبد الباسط رسول القاضي فلان، وهذا الرجل أعرفه أيضا كان رسولاً للقضاة أول أمره ثم صار ذا ثروة، فقلت: وما شأنه؟ قال: لما حفرنا قبره لننزل عليه ميتًا آخر رأينا في رقبته سلسلة عظيمة ورأينا في تلك السلسلة كلبًا أسود عظيما مربوطا معه في تلك السلسلة وهو واقف على رأسه يريد نهشه بأنيابه وأظفاره فخفناه خوفا عظيما وبادرنا برد التراب في القبر.

قالوا: ورأينا فلانًا عن رجل آخر لما حفرنا قبره لم يبق منه إلا جمجمة رأسه فإذا فيها مسامير عظيمة القدر عريضة الرؤوس مدقوقة فيها كأنها باب عظيم فتعجبنا منه ورددنا عليه التراب.

قالوا: وحفرنا عن فلان فخرجت لنا حية عظيمة من قبره ورأيناها مطوقة به فأردنا دفعها عنه فتنفست علينا حتى كدنا كلنا نهلك عن آخرنا". انتهى ما ذكره الهيتمي.

وأما القصة الثانية: فقد ذكرها الشيخ محمد بن أحمد السفاريني في كتابه المسمى بـ (البحور الزاخرة في علوم الآخرة) قال: "أخبرني بعض إخواني وهو عندي غير متهم أن رجلاً من بلدهم ماتت زوجته، قال: وكانت تتعاطى الربا – بالباء الموحدة – فلما سمعها أخذته الحشمة (1) من أجلها وكان ذا شدة وبأس فأخذ سلاحه وذهب إلى عند ..........

(1) قال أهل اللغة: الحشمة الغضب والاحتشام التغضب وحشمت فلانا وأحشمته أي أغضبته.

ص: 192

قبرها فوقف عليه وقال لها: لا تخافي فإني عندك زعمًا منه أنه سينقذها مما هي فيه لشدة عتوِّه وجهله وتناول حجرًا من القبر، قال: فما رفع رأسه حتى ضرب ضربة أبطلت حركته وأرخت مفاصله وأدلع لسانه فرجع على حالة قبيحة وهيئة فضيحة، قال: فوالله لقد رأيته وهو قد رُضَّ حنكه وبصاقه ينزل على صدره، قال: وهذا خبر استفاض عند أهل البلد كلها". انتهى.

وقد ذكرت في أول الكتاب ما جاء في تعذيب المرابين في البرزخ وحين يبعثون من قبورهم، وأنهم بعد ذلك يحشرون إلى النار فليراجع ذلك (1) وليتأمله المرابون حق التأمل، ليبادروا إلى التوبة قبل فواتها، فإنه ليس بعد الموت مستعتب، وما بعد الموت إلا الجنة أو النار، وقد قال الله -تعالى- بعد النص على تحريم الربا:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

وهذا آخر ما تيسر إيراده والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد كان الفراغ من كتابة هذا الرد في يوم الخميس الموافق لليوم الخامس من شهر ربيع الثاني عام 1408هـ على يد الفقير إلى الله -تعالى- حمود بن عبد الله بن حمود التويجري، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

(1) ص16 - 18.

ص: 193