الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال، وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها، كأنه شبه أعماله الصالحة بانتفاعه وتمتعه بها بمنزلة أهله وماله فإذا ترك صلاة العصر فهو كمن له أهل ومال فخرج من بيته لحاجة وفيه أهله وماله فرجع وقد احتيج الأهل والمال فبقي وترا دونهم وموتورا بفقدهم عليه أعماله الصالحة لم يكن التمثيل مطابقا.
فصل
والحبوط نوعان: عام وخاص، فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة والسيئات كلها بالتوبة، والخاص حبوط السيئات والحسنات بضعها ببعض وهذا حبوط مقيد جزئي وقد تقدم دلالة القرآن والسنة والآثار وأقوال الأئمة عليه، ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه كانت شعبة كل واحد منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر فإن عظمت الشعبة ذهب في مقابلتها شعب كثيرة وتأمل قول أم المؤمنين في مستحل العينة إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله كيف قويت هذه الشعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله على إبطال محاربة الكفار فأبطل الحراب المكروه الحراب المحبوب كما تبطل محاربة أعدائه التي يحبها محاربته التي يبغضها والله المستعان.
فصل
وأما
المسألة الخامسة التي هى قوله هل تقبل صلاة الليل بالنهار وصلاة النهار باليل أم لا
؟
فهذه المسألة لها صورتان: إحداهما يقبل فيها بالنص والإجماع وهي ما إذا فاتته صلاة النهار بنوم أو نسيان فصلاها بالليل وعكسه كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" واللفظ لمسلم.
وروى مسلم عنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرس، وقال لبلال:"أكلأ لنا الليل" فصلى بلال ما قدر له، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما تقارب الفجر استند بلال إلى
راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولاأحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أي بلال"؟ فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال قتادة: فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ".
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين نحو هذه القصة. وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة قال: "إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى".
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلا فنزلنا منزلا دهاسا من الأرض فقال: "من يكلؤنا" فقال بلال: أنا. قال: "إذا تنام". قال: لا. فنام حتى طلعت الشمس فاستيقظ فلان وفلان فيهم عمر فقال: اهبطوا فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا كما كنتم تفعلون" فلما فعلوا، قال:"هكذا فافعلوا لمن نام منكم أو نسي". فهذا متفق عليه بين الأئمة، واختلفوا في مسألتين: لفظية وحكمية.
فاللفظية هل تسمى هذه الصلاة أداء أو قضاء؟ فيه نزاع لفظي محض فهي قضاء لما فرض الله عليهم، وأداء باعتبار الوقت في حق النائم والناسي فإن الوقت في حقهما وقت الذكر والانتباه، فلم يصلها إلا في وقتها الذي أمرنا بإيقاعها فيه وأما ما يذكره الفقهاء في كتبهم من قوله:"فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" فهذه الزيادة لم أجدها في شيء من كتب الأحاديث، ولا أعلم لها إسنادا، ولكن قد روى البيهقي السنن والدارقطني من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها".
فصل
وأما المسألة الحكمية: فهل تجب المبادرة إلى فعلها على الفور حين يستيقظ ويذكر أم يجوز له التأخير؟ فيه قولان: أصحهما وجوبها على الفور، وهذا قول جمهور الفقهاء منهم إبراهيم النخعي ومحمد بن شهاب الزهري وربيعة
ابن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبوحنيفة ومالك والإمام أحمد وأصحابهم، وأكثر العلماء، وظاهر مذهب الشافعي أنه على التراخي، واحتج من نص على هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المكان الذي ناموا به بل أمرهم فاقتادوا رواحلهم إلى مكان آخر فصلى فيه وفي حديث أبي قتادة فلما استيقظوا قال اركبوا فركبنا فسرنا حتى ارتفعت الشمس نزل ثم دعا بميضأة فيها ماء فتوضأ ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعيتن ثم صلى الغداة قالوا: ولو وجب القضاء على الفور لم يفارق منزله حتى يفعلها، قالوا: ولا يصح الاعتذار عن هذا بأن ذلك المكان كان فيه شيطان فلم يصلوا فيه فإن حضور الشيطان في المكان لا يكون عذرا في تأخير الواجب. قال الشافعي: ولو كان وقت الفائتة يضيق لما أخره لأجل الشيطان فقد صلى صلى الله عليه وسلم وهو يخنق الشيطان. قال الشافعي: فخنقه للشيطان في الصلاة أبلغ من واد فيه شيطان. قالوا: ولأنها عبادة مؤقتة فإذا فاتت لم يجب قضاؤها على الفور كصوم رمضان بل أولى؛ لأن الأداء متوسع في الصلاة دون الصوم فكانت التوسعة في القضاء أولى. وقال أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي الشافعي إن أخرها لعذر قضاها على التراخي للحديث وإن أخرها لغير عذر قضاها على الفور لئلا يثبت بتفريطه ومعصيته رخصة لم تكن. واحتج الجمهور بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة أنهم ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال: "ليس في النوم تفريط فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك". وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ". وعند الدارقطني في هذا الحديث: "من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها" ، وهذه الألفاظ صريحة في الوجوب على الفور، قالوا: وما استدللتم به على جواز التأخير فإنما يدل على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملا معرضا عن القضاء بل يفعله لتكميل الصلاة من اختيار بقعة على بقعة وانتظار رفقة أو جماعة لتكثير أجر الصلاة ونحو ذلك
من تأخير يسير لمصلحتها وتكميلها، فكيف يؤخذ من هذا التأخير اليسير لمصلحتها جواز تأخير سنين عددا؟.
وقد نص الإمام أحمد على أن المسافر إذا نام في منزله عن الصلاة حتى فاتت أنه يستحب له أن ينتقل عنه إلى غيره فيقضيها فيه للخبر مع أن مذهبه وجوب فعلها على الفور، وإذا كانت أوامر الله ورسوله المطلقة على الفور فكيف المقيدة ولهذا أوجب الفورية في المقيدة أكثر من نفاها في المطلقة.
وأما ما تمسكوا به من القياس على قضاء رمضان فجوابه من وجهين: أحدهما أن السنة فرقت بين الموضعين فجوزت تأخير قضاء رمضان وأوجبت فعل المنسية ثم ذكرها، فليس لنا أن نجمع ما فرقت السنة بينهما.
الثاني: أن هذا القياس حجة عليهم فإن تأخير رمضان إنما يجوز إذا لم يأتي رمضان وهم يجوزون تأخير الفائتة وإن أتى عليها أوقات صلوات كثيرة فأين القياس وأما قولهم لو وجب الفور لما جاز التأخير لأجل الشيطان فقد تقدم جوابه وهو أن الموجبين للفور يجوزون التأخير اليسير لمصلحة التكميل، وأما نقضهم بخنق النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان في صلاته فمن أعجب النقض، فإن التأخير اليسير للعدول عن مكان الشيطان لا تترك به الصلاة ولا يذهب به وقتها ولا يقطعها المصلي بخلاف من عرض له الشيطان في صلاته فإنه لو تركها لأجله لكان قد أبطل صلاته وقطعها بعد دخوله فيها، ولعله إن تعرض له في الصلاة الثانية فيقطعها فيترك الصلاة بالكلية فأين إحدى المسألتين من الأخرى والله أعلم بالصواب. فصل
وأما الصورة الثانية: وهي ما إذا ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها فهي مسألة عظيمة تنازع فيها الناس هل ينفعه القضاء ويقبل منه أم لا ينفعه ولا سبيل له إلى استدراكها أبدا.
فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك يجب عليه قضاؤها ولا يذهب القضاء عنه إثم التفويت بل هو مستحق للعقوبة إلى أن يعفو الله عنه، وقالت طائفة من السلف والخلف من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر يجوز
له التأخير، فهذا لا سبيل له إلى استدراكها. ولايقدر على قضائها أبدا ولا يقبل منه، ولا نزاع بينهم أن التوبة النصوح تنفعه.
ولكن هل من تمام توبته قضاء تلك الفوائت التي تعمد تركها فلا تصح التوبة بدون قضائها أم لا تتوقف التوبة على القضاء فيحافظ عليها في المستقبل ويستكثر من النوافل، وقد تعذر عليه استدراك ما مضى هذا محل الخلاف.
ونحن نذكر حجج الفريقين:- قال الموجبون للقضاء: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النائم والناسي بالقضاء وهما معذورين غير مفرطين فإيجاب القضاء على المفرط العاصي أولى وأحرى، فلو كانت الصلاة لا تصح إلا في وقتها لم ينفع قضاؤها بعد الوقت في حق النائم والناسي. قالوا: وقد صلى صلى الله عليه وسلم العصر بعد المغرب يوم الخندق، ومعلوم قطعا أنهم لم يكونوا نائمين ولا ساهين عنها، ولو اتفق النسيان لبعضهم لم يتفق للجميع، قالوا: وكيف يكون المفرط بالتأخر أحسن حالا من المعذور فيخفف عن المفرط ويشدد على المعذور. قالوا: وإنما أنام الله سبحانه وتعالى رسوله والصحابة ليبين للأمة حكم من فاتته الصلاة وأنها لا تسقط عنه بالتفويت بل يتداركها فيما بعد. قالوا: وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أفطر بالجماع في رمضان أن يقضي يوما مكانه، قالوا: والقياس يقتضي وجوب القضاء فإن الأمر متوجه على المكلف بفعل العبادة في وقتها، فإذا فرط في الوقت وتركه لم يكن ذلك مسقطا لفعل العبادة عنه.
قال الآخرون: أوامر الرب تبارك وتعالى نوعان: نوع مطلق غير مؤقت فهذا يفعل في كل وقت، ونوع مؤقت بوقت محدود وهو نوعان: أحدهما ما وقته بقدر فعله كالصيام. والثاني: ما وقته أوسع من فعله كالصلاة، وهذا القسم فعله في وقته شرط في كونه عبادة مأمورا بها فإنه إنما أمر به على هذه الصفة فلا تكون عبادة على غيرها، قالوا: فما أمر الله به في الوقت فتركه المأمور حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت شرعا وإن أمكن حسا بل لا يمكن حسا أيضا فإن إيتانه بعد الوقت أمر غير المشروع.
قالوا ولهذا لا يمكن فعل الجمعة بعد خروج وقتها، ولا الوقوف بعرفة بعد وقته. قالوا: ولا مشروع إلا ما شرعه الله ورسوله، وهو سبحانه ما شرع فعل الصلاة والصيام والحج إلا في أوقات مختصة بت، فإذا فاتت تلك الأوقات لم تكن مشروعة، ولم يشرع الله سبحانه فعل الجمعة يوم السبت ولاالوقوف بعرفة في اليوم العاشر، ولا الحج في غير أشهره.
وأما الصلوات الخمس فقد ثبت بالنص والإجماع أن المعذور بالنوم والنسيان وغلبة العقل يصليها إذا زال عذره، وكذلك صوم رمضان شرع الله سبحانه قضاءه بعذر المرض والسفر والحيض، وكذلك شرع رسوله الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت للمعذور بسفر أو مرض أو شغل يبيح الجمع فهذه يجوز تأخيرها عن وقتها المختص إلى وقت الأخرى للمعذور، ولا يجوز لغيره بالاتفاق بل هو من الكبائر العظام، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، ولكن يجب عليه فعلها وإن أخرها إلى وقت الثانية في هذه الصورة لأنها تفعل في هذا الوقت في الجملة.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقيل له صلى الله عليه وسلم ألا نقاتلهم؟ قال:"لا ما صلوا" ، وهم كانوا يؤخرون الظهر خاصة إلى وقت العصر فأمر بالصلاة خلفهم وتكون نافلة للمصلي وأمره أن يصلي الصلاة في وقتها ونهى عن قتالهم.
قالوا: وأما من أخر صلاة النهار فصلاها بالليل أوصلاة الليل فصلاها بالنهار فهذا الذي فعله غير الذي أمر به وغير ما شرعه الله ورسوله. فلا يكون صحيحا ولامقبولا. قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة العصر حبط عمله". وقال: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". فلو كان يمكنه استدراكها بالليل لم يحبط عمله ولم يكن موتورا من أعماله بمنزلة الموتور من أهله وماله. وقالوا: وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فكذا من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح. ولو كان فعلها بعد المغرب
وطلوع الشمس صحيحا مطلقا لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو اقل من ركعة أو لم يدرك منها شيئا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يرد أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم إذ لاخلاف بين الأمة أنه لا يحل له تأخيرها إلى أن يضيق وقتها عن كمال فعلها، وإنما أراد بالإدراك الصحة والإجزاء. وعندكم تصح وتجزيء ولو أدرك منها قدر تكبيرة أو لم يدرك منها شيئا. فلا معنى للحديث عندكم البتة.
قالوا: والله سبحانه قد جعل لكل صلاة وقتا محدودا الأول والآخر. ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها ولا بعد خروج وقتها. والمفعول قبل الوقت وبعده أمر غير مشروع. فلو كان الوقت ليس شرطا في صحتها لكان لا فرق في الصحة بين فعلها قبل الوقت وبعده؟ لأن كلا الصلاتين صلاها في غير وقتها فكيف قبلت من هذا المفرط بالتفويت ولم تقبل من المفرط بالتعجيل؟.
قالوا: والصلاة في الوقت واجبة على كل حال. حتى أنه يترك جميع الواجبات والشروط لأجل الوقت. فإذا عجز عن الوضوء أو الاستقبال أو طهارة الثوب والبدن وستر العورة أو قراءة الفاتحة أو القيام في الوقت وأمكنه أن يصلي بعد الوقت بهذه الأمور فصلاته في الوقت بدونها هي التي شرعها الله فعلم أن الوقت مقدم عند الله ورسوله على جميع الواجبات. فإذا لم يكن إلا أحد الأمرين وجب أن يصلي في الوقت بدون هذه الشروط والواجبات. ولوكان له سبيل إلى استدراك الصلاة بعد خروج وقتها لكان صلاته بعد الوقت مع كمال الشروط والواجبات خيرا من صلاته في الوقت بدونها وأحب إلى الله. وهذا باطل بالنص والاجماع.
وقالوا أيضا: فقد توعد الله سبحانه من فوت الصلاة عن وقتها بوعيد التارك لها. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ، وقد فسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السهو عنها بأنه تأخيرها عن وقتها كما ثبت ذلك عن سعد بن أبي وقاص. وفيه حديث مرفوع. وقال تعالى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وقد فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها والتحقيق أن إضاعتها تتناول تركها
وترك وقتها وترك واجباتها وأركانها، وأيضا إن مؤخرها عن وقتها عمدا متعد لحدود الله كمقدمها عن وقتها فما بالها تقبل مع تعدي هذا الحد ولا تقبل مع تعدي الحد الآخر؟.
قالوا: وأيضا فنقول لمن قال إنه يستدركها بالقضاء: أخبرنا عن هذه الصلاة التي تأمر بفعلها هي التي أمر الله بها أم هي غيرها فإن قال هي بعينها قيل له فالعامد بتركها حينئذ ليس عاصيا لأنه قد فعل ما أمر الله به بعينه فلا يلحقه الإثم والملامة وهذا باطل قطعا وإن قال ليست هي التي أمر الله بها قيل له فهذا من أعظم حججنا عليك إذا ساعدك أن هذه غير مأمور بها.
ثم نقول أيضا ما تقولون في من تعمد تفويتها حتى خرج وقتها ثم صلاها: أطاعه صلاته تلك أم معصية؟ فإن قالوا: صلاته طاعة وهو مطيع بها خالفوا الإجماع والقرآن والسنن الثابتة، وإن قالوا: هي معصية قيل فكيف يتقرب إلى الله بالمعصية وكيف تنوب المعصية عن الطاعة؟ فإن قلتم: هو مطيع بفعلها عاص بتأخيرها وهو أنه إذا تقرب بالفعل الذي هو طاعة لا بالتفويت الذي هو معصية قيل لكم الطاعة هي موافقة الأمر وامتثاله على الوجه الذي أمر به فأين الله ورسوله ممن تعمد تفويت الصلاة بفعلها بعد خروج وقتها حتى يكون مطيعا له بذلك، فلو ثبت ذلك لكان فاصلا للنزاع في المسألة.
قالوا: وأيضا فغير أوقات العبادة لا تقبل تلك العبادة بوجه كما أن الليل لا يقبل الصيام وغير أشهر الحج لا يقبل الحج وغير وقت الجمعة لا تقبل الجمعة فأي فرق بين من قال أنا أفطر النهار وأصوم الليل أو قال أنا أفطر رمضان في هذا الحر الشديد وأصوم مكانه شهرا في الربيع أو قال أنا أؤخر الحج من شهره إلى المحرم أو قال أنا أصلي الجمعة بعد العشاء الآخرة أو أصلي العيدين في وسط الشهر وبين من قال أنا أؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار فهل يمكن أحدا قط أن يفرق بين ذلك.
قالوا: وقد جعل الله سبحانه للعبادات أمكنه وأزمنة وصفات فلا ينوب مكان عن المكان الذي جعله الله مكانا ميقاتا لها كعرفة ومزدلفة ومنى ومواضع الجمار
والمبيت والصفا والمروة، ولا تنوب صفة من صفاتها التي أوجبها الله عليها عن صفة فكيف ينوب زمان عن زمانها الذي أوجبها الله فيه عنه.
قالوا: وقد دل النص والإجماع على أن من أخر الصلاة عن وقتها عمدا أنها قد فاتته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله". وما فات فلا سبيل إلى إدراكه البتة ولو أمكن أن يدرك لما سمي فائتا وهذا مما لا شك فيه لغة وعرفا، وكذلك هو في الشرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من يوم عرفة". أفلا تراه جعله فائتا بفوات وقته لما لم يمكن أن يدرك في يوم بعد ذلك اليوم، وهذا بخلاف المنسية والتي نام عنها فإنها لا تسمى فائتة، ولهذا لم تدخل في قوله:"الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
قالوا: والأمة مجمعة على أن من ترك الصلاة عمدا حتى يخرج وقتها فقد فاتته ولو قبلت منه وصحت بعد الوقت لكان تسميتها فائتة لغوا وباطلا وكيف يفوت ما يدرك؟. قالوا: وكما أنه لا سبيل إلى استدراك الوقت الفائت أبدا فلا سبيل إلى استدراك فرضه ووصفه.
قالوا: وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد المسند وغيره: "من أفطر يوما من رمضان عذر لم يقضه عنه صيام الدهر". فأين هذا من قولكم يقضيه عنه صيام يوم من أي شهر أراد؟.
قالوا: وقد أمر الله سبحانه المسلمين حال مواجهة عدوهم أن يصلوا صلاة الخوف فيقصروا من أركانها ويفعلوا فيها الأفعال الكثيرة ويستدبروها فيها القبلة ويسلمون قبل الإمام بل يصلون رجالا وركبانا حتى لو لم يمكنهم إلا الإيماء توا بها على دوابهم إلى غير القبلة في وقتها، ولو قبلت منهم في غير وقتها وصحت لجاز لهم تأخيرها إلى وقت الأمن وإمكان الإتيان بها، وهذا يدل على أنها بعد خروج وقتها لا تكون جائزة ولا مقبولة منهم مع العذر الذي أصابهم في سبيله وجهاد أعدائه، فكيف تقبل وتصح من صحيح مقيم لا عذر له البتة، وهو يسمع داعي الله جهرة فيدعها حتى يخرج وقتها ثم يصليها في غير الوقت.
وكذلك لم يفسح في تأخيرها عن وقتها للمريض، بل أمره أن يصلي على جنبه بغير قيام ولا ركوع ولا سجود إذا عجز عن ذلك، ولو كانت تقبل منه وتصح في غير وقتها لجاز تأخيرها إلى زمن الصحة، فأخبرونا أي كتاب أو سنة أو أثر عن صاحب نطق بأن من أخر الصلاة وفوتها عن وقتها الذي أمر الله بإيقاعها فيه عمدا يقبلها الله منه بعد خروج وقتها، وتصح منه وتبرأ ذمته منها ويثاب عليها ثواب من أدى فريضته. هذا والله ما لا سبيل لكم إليه البتة حتى تقوم الساعة، ونحن نوجد لكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال مثل ما قلناه وخلاف قولكم.
فصل
في قول أبي بكر الصديق الذي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكره عليه، قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن زيد أن أبا بكر قال لعمر بن الخطاب: إني موصيك بوصية إن حفظتها إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل وحقا بالليل لا يقبله بالنهار، وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة وإنما ثقلت: موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم في الدنيا الحق وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف، وإن الله عز وجل ذكر أهل الجنة وصالح ما عملوا وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم خفت ألا أكون منهم وذكر أهل النار وأعمالهم فإذا ذكرتهم قلت: أخشى أن أكون منهم وذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون المؤمن راغبا راهبا فلا يتمنى على الحق ولا يلقى بيده إلى التهلكة فإن حفظت قولي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ولا بد لك منه، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ولن تعجزه.
وقال هناد بن السري: حدثنا عبده عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي، قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة فذكره. قالوا: فهذا أبو بكر قال: إن الله لا يقبل عمل النهار بالليل ولا عمل الليل بالنهار ومن يخالفنا بهذه المسألة يقولون بخلاف
هذا صريحا، وأنه يقبل صلاة العشاء الآخرة وقت الهاجرة، ويقبل صلاة العصر نصف النهار.
قالوا: فهذا قول أبي بكر وعمر وابنه عبد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود والقاسم بن محمد ابن أبي بكر، وهذيل القيلي ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وغيرهم. قال شعبة عن يعلى بن عطاء عن عبد الله بن خراش قال: رأى ابن عمر رجلا يقرأ في صحيفة قال له يا هذا القاريء إنه لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها فصل ثم أقرأ ما بدا لك. قال: ولا يصح تأويلكم ذلك على أنه لا صلاة كاملة لوجوه: أحدها: أن النفي يقتضي نفي حقيقة المسمى والمسمى هنا هو التوقيت وحقيقته منتفية. هذه حقيقة اللفظ فما الموجب للخروج عنها.
الثاني: إنكم إذا أردتم بنفي الكمال: الكمال المستحب فهذا باطل، فإن الحقيقة الشرعية لا تنتفي لنفي مستحب فيها وإنما تنتفي لنفي ركن من أركانها وجزء من أجزائها وهكذا كل نفي ورد على حقيقة شرعية كقوله:"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له، ولا عمل لمن لا نية له، ولا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل، ولا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب". ولو انتفت لانتفاء بعض مستحباتها، فما من عبادة إلا وفوقها من جنسها ما هوه أحب إلى الله منها، وقد ساعدتمونا على أن الوقت من واجباتها فإن انتفت بنفي واجب فيها لم تكن صحيحة ولا مقبولة.
الثالث: إنه إذا لم يكن نفي حقيقة المسمى، فنفي صحته والاعتداد به أقرب إلى نفيه من كماله المستحب. وقال محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أن عبد الله بن مسعود كان يقول: إن للصلاة وقتا كوقت الحج، فصلوا الصلاة لميقاتها.
فهذا عبد الله قد صرح بأن وقت الصلاة كوقت الحج فإذا كان الحج لا ييقبل في غير وقته فما بال الصلاة تجزيء في غيرة وقتها؟.
وقال عبد الرزاق عن معمر عن بديل العقيلي قال: بلغني أن العبد إذا صلى
الصلاة لوقتها صعدت ولها نور ساطع في السماء، وقالت حفظتني حفظك الله وإذا صلاها لغير وقتها طويت كما يطوى الثوب الخلق فيضرب بها وجهه.
فصل: قال الذين يعتدون بها بعد الوقت ويبرئون بها الذمة. واللفظ لأبي عمر بن عبد البر1 فإنه انتصر لهذه المسألة أتم انتصار.
ونحن نذكر كلامه بعينه. قال في الاستذكار في باب "النوم عن الصلاة": قرأت على عبد الوارث أن قاسما حدثهم حدثنا أحمد بن زهير حدثنا ابن الاصبهاني حدثنا عبيدة بن حميد عن يزيد بن أبي زياد عن تميم بن سلمة عن مسروق عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعرسوا من آخر الليل فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس فأمر بلالا فأذن ثم صلى ركعتين، قال ابن عباس فما يسرني بها الدنيا وما فيها يعني الرخصة: قال أبو عمر: ذلك عندي والله أعلم لأنه كان سببا إلى أن أعلم أصحابه المبلغين عنه إلى سائر أمته بأن مراد الله عن عباده في الصلاة وإن كانت مؤقتة أن من لم يصلها في وقتها يقضيها أبدا متى ذكرها ناسيا كان لها أو نائما عنها أو متعمدا لتركها.
ألا ترى إلى حديث مالك في هذا الباب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها". والنسيان في لسان العرب يكون للترك عمدا أو يكون ضد الذكر. قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} . أي تركوا طاعة الله والإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركهم الله من رحمته، وهذا لا خلاف فيه ولا يجهله من له أقل علم بتأويل القرآن.
فإن قيل فلم خص النائم والناسي بالذكر في قوله في غير هذا الحديث: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".
قيل: خص النائم والناسي ليرتفع التوهم والظن فيهما لرفع القلم في سقوط التأثيم عنهما بالنوم والنسيان فأبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سقوط الاثم مسقط لما لزمهما من فرض الصلاة وأنها واجبة عليهما عند الذكر لها يقضيها
1 هو العلامة ابن عبد البر من كبار فقهاء المالكية توفي 436 هـ.
كل واحد منهما بعد خروج وقتها إذا ذكرها، ولم يحتج إلى ذكر العامد معهما لأن العلة المتوهمة في الناسي والنائم ليست فيه، ولا عذر له في ترك فرض قد وجب عليه من صلاته إذا كان ذاكرا له، وسوى الله سبحانه وتعالى في حكمها على لسان رسوله بين حكم الصلاة المؤقتة والصيام الؤقت في شهر رمضان بل كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته، فنص على النائم والناسي في الصلاة كما وصفنا ونص على المريض والمسافر في الصوم، وأجمعت الأمة ونقلت: الكافة فيمن لم يصم شهر رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإنما تركه أشرا وبطرا ثم تاب منه بعد ذلك أن عليه قضاءه، وكذلك من ترك الصلاة عامدا فالعامد والناسي في القضاء للصلاة والصيام سواء، وإن اختلفا في الاثم كالجاني على الأموال المتلف لها عامدا وناسيا سواء، إلا في الاثم وكان الحكم في هذا النوع بخلاف رمي الجمار في الحج الذي لا يقضى وقته لعامد ولا ناس لوجوب الدم فيما ينوب عنها، وبخلاف الضحايا أيضا لأن الضحايا ليست بواجبة فرضا، والصلاة والصيام كلاهما فرض واجب ودين ثابت يؤدى أبدا إن خرج الوقت المؤجل لهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دين الله أحق أن يقضى" ، وإذا كان النائم والناسي للصلاة وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها، كان المتعمد لتركها الآثم في فعله ذلك لا يسقط عنه فرض الصلاة، وأن يحكم عليه بالإتيان بها؛ لأن التوبة من عصيانه في عمد تركها هي أداؤها وإقامتها مع الندم على ما سلف من تركه لها في وقتها. وقد شذ بعض أهل الظاهر وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين فقال: ليس على المتعمد لترك الصلاة في وقتها أن يأتي بها في غير وقتها؛ لأنه غير نائم ولا ناس. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".
قال: والمتعمد غير الناسي والنائم. قال: وقياسه عليهما غير جائز عندنا. كما أن من قتل الصيد لا يجزيه عندنا. فخالف في المسألتين جمهور العلماء. وظن أنه يستتر في ذلك برواية شاذة جاءت عن بعض التابعين شذ فيها عن جماعة من علماء
المسلمين وهو محجوج بهم مأمور باتباعهم. فخالف هذا الظاهري طريق النظر والاعتبار وشذ عن جماعة علماء الأمصار. ولم يأت فيما ذهب إليه من ذلك بدليل يصح في العقول.
ومن الدليل على أن الصلاة تصلى وتقضى بعد خروج وقتها كالصيام سواء وإن كان إجماع الأمة الذين أمر من شذ عنهم بالرجوع إليهم وترك الخروج عن سبيلهم يغني عن الدليل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح". ولم يستثن متعمدا من ناس، ونقلت الكافة عنه صلى الله عليه وسلم أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب صلى تمام صلاة العصر بعد الغروب وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع. ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلها لمن تعمد أو نسي أو فرط وبين عمل بعضها في نظر ولا اعتبار ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس لشغله بما نصبه المشركون من الحرب ولم يكن يومئذ نائما ولا ناسيا ولا كانت بين المسلمين والكافرين يومئذ حرب قائمة ملتحمة وصلى الظهر والعصر بالليل، ودليل آخر أيضا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق:"لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة". فخرجوا مبادرين وصلى بعضهم العصردون بني قريظة خوفا من خروج وقتها المعهود ولم يصلها بعضهم إلا في بني قريظة بعد غروب الشمس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الطائفتين ناس ولا نائم وقد أخر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلم يقل لهم إن الصلاة لم تصل في وقتها ولا تقضى بعد خروج وقتها.
ودليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصوات عن ميقاتها
قالوا: أنفصليها معهم؟ قال: نعم. حدثنا عبد الوراث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثنى الحمصي قال أتى إلي عن امرأة عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه سيجيء بعدي أمراء تشغلهم أشياء حتى لا يصلوا الصلاة لميقاتها". قالوا: نصليها معهم يا رسول الله قال: "نعم".
قال أبو عمر: أبو مثنى الحمصي هو الأملوكي: ثقة. وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة بعد خروج ميقاتها، ولم يقل إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جدا، وقد كان الأمراء من بني أمية وأكثر هم يصلون الجمعة عند الغروب. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى". وقد أعلمهم أن وقت الظهر في الحضر ما لم يدخل وقت العصر.
وروي ذلك عنه من وجوه صحاح قد ذكرت بعضها في صدر الكتاب يعني الإستذكار في المواقيت، وحدثنا عبد الله بن محمد بن راشد حدثنا حمزة بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن شعيب النسوي حدثنا سويد بن نضر حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك عن سليمان بن مغيرة عن ثابت بن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى". فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل هذا مفرطا، والمفرط ليس بمعذور وليس كالنائم والناسي، ثم الجميع من جهة العذر وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته على ما كان عليه من تفريطه، وقد روي في حديث أبي قتادة هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها". وهذا أبعد وأوضح في أداء المفرط للصلاة عند الذكر وبعد الذكر، وحديث أبي قتادة هذا صحيح الإسناد إلا أن هذا المعنى قد عارضه حديث عمران بن الحصين في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بسفره،
وفيه قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نصليها لميقاتها من الغد؟. قال: "لا إن الله لا ينهاكم عن الربا ثم يقبله منكم".
وروى من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد، وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي وهو مذكور في الصحابة قال قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر وأقل ما في هذا أنه أخرها عن وقتها الذي كان يصليها فيه لشغل اشتغل بت، وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التابعين وكبارهم. وقد أجمع العلماء على أن من ترك الصلاة عامدا حتى يخرج وقتها عاص لله وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر، وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه واعتقاد ترك العود إليه قال الله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، ومن لزمه حق الله أو لعباده لزمه الخروج منه وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الله عز وجل بحقوق الآدميين وقال:"دين الله أحق أن يقضي". والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله بجهله وحبه لشذوذه وأصل أصحابه فيما وجب من الفرائض بإجماع أنه لا يسقط إلا بإجماع مثله أو سنة ثابتة لا ينازع في قبولها، والصلوات المكتوبات واجبات بإجماع ثم جاء من الاختلاف شذوذ خارج عن اقوال علماء الأمصار فاتبعه دون سنة رويت في ذلك، وأسقط به الفريضة المجمع على وجوبها، ونقض أصله ونسي نفسه.
ثم ذكر أن مذهب داود وأصحابه1 وجوب قضاء الصلاة إذا فوتها عمدا، ثم قال: فهذا قول داود وهو وجه أهل الظاهر، وما أرى هذا الظاهري إلا وقد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف عدا جميع فرق الفقهاء وشذ عنهم ولا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم وقد أوهم في كتابه أن له سلفا من الصحابة والتابعين تجاهلا منه، فذكر عن ابن مسعود ومسروق وعمر بن عبد العزيز في قوله:{أَضَاعُوا الصَّلاةَ} . أن ذلك عن مواقيتها ولو تركوها لكانوا بتركها كفارا، وهو لا يقول بتكفير تارك الصلاة عمدا إذا إذا أبى إقامتها ولا بقتله
1 هم الظاهرية.
إذا كان مقرا بها فقد خالفهم فكيف يحتج بهم على أنه معلوم أن من قضى الصلاة فقد تاب من تضييعها.
قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} . ولا تصح لمضيع الصلاة توبة إلا بأدائها كما لا تصح التوبة من دين الآدمي إلا بأدائه، ومن قضى صلاة فرط فيها فقد تاب وعمل صالحا والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وذكر عن سلمان أنه قال: الصلاة مكيال فمن وفاه وفي له ومن طففه فقد علمتم ما قاله الله في المطففين، وهذا لا حجة فيه لأن الظاهر من معناه أن المطفف قد يكون من لم يكمل صلاته بركوعها وسجودها وحدودها، وإن صلاها في وقتها وذكر عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها، وكذا نقول: لا صلاة له كاملة الأجزاء كما جاء: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، ولا إيمان لمن لا أمانة له" ، ومن قضى الصلاة فقد صلاها وتاب من نسي عمله بتركها وكل ما ذكر في هذا المعنى فغير صحيح، ولا له في شيء منه حجة، لأن ظاهره خلاف ما تأوله.
فصل
قال المانعون من صحتها بعد الوقت وقبولها1: لقد أرعدتم وأبرقتم ولم تنصفونا في حكاية قولنا على وجهه ولافي نقلنا مذاهب السلف ولا في حججنا فإنا لم نقل قط ولا أحد من أهل الإسلام إنها سقطت من ذمته بخروج وقتها وإنها لم تبق واجبة عليه حتى تجلبوا علينا بما أجلبتم وتشنعوا علينا بما شنعتم بل قولنا وقول من حكينا قوله من الصحابة والتابعين أشد على مؤخر الصلاة ومفوتها من قولكم: فإنه قد تحتمت عقوبته وباء بإثم لا سبيل له إلى استدراكه إلا بتوبة يحدثها وعمل يستأنفه، وقد ذكر من الأدلة ما لاسبيل لكم إلى رده فإن وجدتم السبيل إلى الرد فأهلا بالعلم أين كان ومع من كان، فليس القصد إلا طاعة الله وطاعة رسوله ومعرفة ما جاء به ونحن نبين ما في كلامكم من مقبول ومردود؛ فأما: قولكم إن سرور ابن عباس بتلك الصلاة التي صلاها بعد طلوع الشمس لأنه كان سببا إلى أن أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المبلغين عنه إلى سائر أمته
1 والكلام هنا للإمام ابن القيم، وهو الإمام الحجة.
بأن مراد الله من عباده في الصلاة وإن كانت مؤقتة أن من لم يصلها في وقتها يقضيها أبدا ناسيا كان لها أو نائما أو متعمدا لتركها فهذا ظن محض منكم أن ابن عباس أراده، ومعلوم أن كلامه لا يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة ولا هو يشعر به.
ولعل ابن عباس إنما سر بها ذلك السرور العظيم لكونه صلاها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفعل مثل ما فعلوا، وحصل له سهمان من الأجر كما حصل للصحابة وخص تلك الصلاة بذلك تنبيها للسامع أنها مع كونها ضحى قد فعلت بعد طلوع الشمس فلا يظن أنها ناقصة وأنها لا أجر فيها فما يسرني بها الدنيا وما فيها، وليس ما فهمتموه عن ابن عباس أولى من هذا الفهم، ولعله أراد أن ذلك من رحمة الله بالأمة ليقتدي به من نام عن الصلاة ولم يفرط بتأخيرها، فمن أين يدل كلامه هذا على أن سروره بتلك الصلاة لأنها تدل على أن من لم يصل وأخر صلاة الليل إلى النهار عمدا، وصلاة النهار إلى الليل أنها تصح منه وتقبل وتبرأ بها ذمته؟ وأن فهم هذا من كلام ابن عباس لمن أعجب العجب فأخبرونا كيف وقع لكم هذا الفهم من كلامه وبأي طريق فهمتموه؟.
فصل
وأما قولكم إن النسيان في لغة العرب هو الترك كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} إلخ. فنعم لعمر الله إن النسيان في القرآن على وجهين: نسيان ترك ونسيان نسيان سهو.
ولكن حمل الحديث على نسيان الترك عمدا باطل لأربعة أوجه:
أحدها: أنه قال: "فليصلها إذا ذكرها" وهذا صريح في أن النسيان في الحديث نسيان سهو لا نسيان عمد، وإلا كان قوله:"إذا ذكرها" كلاما لا فائدة فيه، فالنسيان إذا قوبل بالذكر لم يكن إلا نسيان سهو كقوله:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا نسيت فذكروني".
الثاني: أنه قال: "فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" ومعلوم أن من تركها عمدا لا يكفر عنه فعلها بعد الوقت إثم التفويت: هذا مما لاخلاف فيه بين
الأمة، ولا يجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يبقى معنى الحديث: من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها فكفارة إثمه صلاتها بعد الوقت، وشناعة هذا القول أعظم من شناعتكم علينا القول بأنها لا تنفعه ولا تقبل منه، فأين هذا من قولكم الثالث: أنه قابل الناسي في الحديث بالنائم، وهذه المقابلة تقتضي أنه الساهي كما يقول جملة أهل الشرع: النائم والناسي غير مؤاخذين.
الرابع: أن الناسي في كلام الشارع إذا علق به الأحكام لم يكن مراده إلا الساهي وهذا مطرد في جميع كلامه كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه".
فصل
وأما قولكم: فسوى الله سبحانه في حكمهما أي حكم العامد والناسي على لسان رسوله بين حكم الصلاة المؤقتة والصيام المؤقت في شهر رمضان بأن كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته فنص على النائم والساهي في الصلاة كما وصفنا، ونص على المريض والمسافر في الصوم، واجتمعت الأمة ونقلت: الكافة فيمن لم يصم شهر رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإثم تركه أشرا وبطرا ثم تاب منه أن عليه قضاءه إلى آخره، فجوابه من وجوه:
أحدها قولكم إن الله سبحانه وتعالى سوى بينهما أي بين العامد والناسي فكلام باطل على إطلاقه فما سوى الله سبحانه بين عامد وناس أصلا، وكلامنا في هذا العامد العاصي الآثم المفرط غاية التفريط فأين سوى الله سبحانه بين حكمهما في صلاة أو صيام، وقولكم فنص على النائم والناسي في الصلاة كما وصفنا قد تقدم أن النسيان المذكور في الصلاة لا يصح حمله على العمد بوجه، وأن الذي نص عليه في الحديث هو نسيان السهو الذي هو نظير النوم فلا تعرض فيه للعامد، وأما نصه على المريض والمسافر في الصوم فهما وإن أفطرا عامدين فلا يمكن أخذ حكم تارك الصلاة عمدا من حمكها وما سوى الله ولا رسوله بين تارك الصلاة عمدا أو أشرا حتى يخرج وقتها وبين تارك الصوم لمرض
أو سفر حتى يؤخذ حكم أحدهما من الآخر، فمؤخر الصوم في المرض والسفر كمؤخر الصلاة لنوم أو نسيان وهذان هما اللذان سوى الله ورسوله بين حكمهما فنص الله على حكم المريض والمسافر في الصوم المعذورين ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حكم النائم والناسي في الصلاة المعذورين فقد استوى حكمهما في الصوم والصلاة، ولكن أين استوى حكم العامد المفرط الآثم والمريض والمسافر والنائم والناسي المعذورين.
يوضحه أن الفطر بالمرض قد يكون واجبا بحيث يحرم عليه الصوم، والفطر في السفر إما واجب عند طائفة من السلف والخلف، أو أنه أفضل من الصوم عند غيرهم أو هما سواء. أو الصوم أفضل منه لمن لا يشق عليه ثم آخرين، وعلى كل تقدير فإلحاق تارك الصلاة والصوم عمدا وعدوانا به من أفسد الإلحاق وأبطل القياس، وهذا مما لا خفاء به عند كل عالم.
وقولكم إن الأمة اجتمعت والكافة نقلت: أن من لم يصم شهر رمضان عامدا أشرا أو بطرا ثم تاب منه فعليه قضاؤه، فيقال لكم أوجدونا عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فن دونهم صرح بذلك، ولن تجدوا إليه سبيلا، وقد أنكر الأئمة كالإمام أحمد والشافعي وغيرهما دعوى هذه الإجماعات التي حاصلها عدم العلم بالخلاف لا العلم بعدم الخلاف، فإن هذا مما لا سبيل إليه إلا فيما علم بالضرورة أن الرسول جاء بت، وأما ما قامت الأدلة الشرعية عليه فلا يجوز لأحد أن ينفي حكمه لعدم علمه بمن قال به فإن الدليل يجب اتباع مدلوله وعدم العلم بمن قال به لا يصح أن يكون معارضا بوجه ما، فهذا طريق جميع الأئمة المقتدى بهم. قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا. هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم للناس اختلافا إذا لم يبلغه، وقال في رواية المروزي كيف يجوز للرجل أن يقول أجمعوا إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم لو قال إني لا أعلم مخالفا كان أسلم. وقال في رواية أبي طالب هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون ولكن يقول ما أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله أجمع الناس. وقال في رواية أبي الحارث
لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع. لعل الناس اختلفوا. وقال الشافعي في أثناء مناظرته لمحمد بن الحسن: لا يكون لأحد أن يقول أجمعوا حتى يعلم إجماعهم في البلدان ولا يقبل على أقاويل من نأت داره منهم ولا قربت إلا خبر الجماعة عن الجماعة. فقال لي تضيق هذا جدا قلت: له وهو مع موجود وقال في موضع آخر وقد بين ضعف دعوى الإجماع وطالب من يناظره بمطالبات عجز عنها فقال له المناظر فهل من إجماع قلت: نعم. الحمد لله كثيرا في كل الفرائض التي لا يسع جهلها وذلك الإجماع هو الذي إذا قلت: أجمع الناس لم تجد أحدا يقول لك ليس هذا بإجماع فهذه الطريق التي يصدق بها من أدعى الإجماع فيها، وقال بعد حكاه في مناظرته أو ما كفاك عيب الإجماع أنه لم يرو عن أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الإجماع إلا فيما لم يختلف فيه أحد إلى أن كان أهل زمانك هذا. قال له المناظر: فقد ادعاه بعضكم. قلت: أفحمدت ما ادعى منه؟ قال: لا. قلت: فكيف صرت إلى أن تدخل فيما زعمت في أكثر ما عبت الاستدلال من طريقك عن الإجماع وهو ترك ادعاء الإجماع فلا تحسن النظر لنفسك إذا قلت: هذا إجماع فتجد حولك من يقول لك معاذ الله أن يكون هذا إجماعا. وقال الشافعي في رسالته: ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا فهذا كلام أئمة أهل العلم في دعوى الإجماع كما ترى.
فلنرجع إلى المقصود فنقول: من قال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من ترك الصلاة عمدا لغير عذر حتى خرج وقتها أنها تنفعه بعد الوقت وتقبل وتبرأ ذمته فالله يعلم أنا لم نظفر على صاحب واحد منهم قال ذلك.
وقد نقلنا عن الصحابة والتابعين ما تقدم حكايته، وقد صرح الحسن بما قلناه، فقال محمد بن نصر المروزي في كتابه في الصلاة: حدثنا إسحاق حدثنا النضر عن الاشعت عن الحسن قال: إذا ترك الرجل صلاة واحدة متعمدا فإنه لا يقضيها. قال محمد وقول الحسن هذا يحتمل معنيين: أحدهما أنه كان يكفره بترك الصلاة متعمدا فلذلك لم ير عليه القضاء؛ لأن الكافر لا يؤمر بقضاء ما ترك من الفرائض في كفره.
والثاني: أنه لم يكفره بتركها، وأنه ذهب إلى أن الله عز وجل إنما فرض أن يأتي بالصلاة في وقت معلوم، فإذا تركها حتى ذهب وقتها فقد لزمته المعصية لتركه الفرض في الوقت المأمور بإتيانه فيه، فإذا أتى به بعد ذلك فإنما أتى به في وقت لم يؤمر بإتيانه فيه فلا ينفعه أن يأتي بغير المأمور به عن المأمور به، وهذا مستنكر في النظر لولا أن العلماء قد أجمعت على خلافه. قال: ومن ذهب إلى هذا قال في الناسي للصلاة حتى يذهب وقتها وفي النائم أيضا لو لم يأت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا استيقظ". وذكر أنه نام عن صلاة الغداة فقضاها بعد ذهاب الوقت لما وجب عليه في النظر قضاؤها أيضا فلما جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وجب عليه قضاؤها وبطل حظ النظر، فقد نقل محمد الخلاف صريحا وظن أن الأمة أجمعت على خلافه، وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يرى أن الإجماع ينعقد بعد الخلاف.
والثاني: أنه لايرى خلاف الواحد قادحا في الإجماع، وفي المسألتين نزاع معروف.
وأما قوله إن القياس يقتضي أن لا يقتضي النائم والناسي لولا الخبر فليس كما زعمتم لأن وقت النائم والناسي هو وقت ذكره وانتباهه لا وقت له غير ذلك كما تقدم والله أعلم.
وأما قولكم إن الكافة نقلت: والأمة اجمعت أن من لم يصم شهر رمضان أشرا وبطرا أن عليه قضاءه، فأين النقل بذلك إذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عنه أهل السنن والإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة:"من أفطر يوما من رمضان من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه". فهذه الرواية المعروفة فأين الرواية عنه أو عن أصحابه: من أفطر رمضان أو بعضه أجزأ عنه أن يصوم مثله، وأما قولكم: إن الصلاة والصيام دين ثابت يؤدى أبدا وإن خرج الوقت المؤجل لهما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دين الله أحق أن يقضي". فنقول: هذا الدليل مبني على مقدمتين:
إحداهما: إن الصلاة والصيام دين ثابت في ذمة من تركهما عمدا، والمقدمة الثانية: أن هذا الدين قابل للأداء فيجب أداؤه؛ فأما المقدمة الأولى فلا نزاع فيها ولانعلم أن أحدا من أهل العلم قال بسقوطها من ذمته بالتأخير ولعلكم توهمتم علينا أنا نقول بذلك وأخذتم في الشناعة علينا وفي التشغيب ونحن لم نقل ذلك ولا أحد من أهل الإسلام، وأما المقدمة الثانية ففيها وقع النزاع وأنتم لم تقيموا عليها دليلا فادعاؤكم لها هو دعوى محل النزاع بعينه جعلتموه مقدمة من مقدمات الدليل وأثبتم الحكم بنفسه فمنازعوكم يقولون لم يبق للمكلف طريق إلى استدراك هذا الفائت وإن الله تعالى لا يقبل أداء هذا الحق إلافي وقته وعلى صفته التي شرعه عليها، وقد أقاموا على ذلك من الأدلة ما قد سمعتم فما الدليل على أن هذا الحق قابل للأداء في غير وقته المحدود له شرعا، وأنه يكون عبادة بعد خروج وقته.
وأما قوله: "اقضوا الله فالله أحق بالقضاء" وقوله: "دين الله أحق أن يقضى". فهذا إنما قاله في حق المعذور لا المفرط، ونحن نقول في مثل هذا الدين يقبل القضاء، وأيضا فهذا إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في النذر المطلق الذي ليس له وقت محدود الطرفين، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن امرأة قالت يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها"؟ قالت: نعم. قال: "فصومي عن أمك".
وفي رواية أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهرا فأنجاها الله سبحانه وتعالى فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال: "صومي عنها". رواه أهل السنن وكذلك جاء منه الأمر بقضاء هذا الدين في الحج الذي لا يفوت وقته إلا بنفاد العمر.
ففي المسند والسنن من حديث عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ
لا يستطيع ركوب رحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: "أنت أكبر ولده". قال: نعم. قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزيء عنه"؟ قال: نعم. قال: "فحج عنه". وعن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها"؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء". متفق على صحته.
وعن ابن عباس أيضا قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ قال: "أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه فقضيته أكان يجزيء عنه"؟ قال: نعم. قال: "فحج عن أبيك". رواه الدارقطني.
ونحن نقول في مثل هذا الدين القابل للأداء: دين الله أحق أن يقضى.
فالقضاء المذكور في هذه الأحاديث ليس بقضاء عبادة مؤقتة محدودة الطرفين وقد جاهر بمعصيته الله سبحانه وتعالى بتفويتها بطرا وعدوانا فهذا الدين مستحقه لا يعتد به ولا يقبله إلا على صفته التي شرعه عليها، ولهذا لو قضاه على غير تلك الصفة لم تنفعه.
فصل
قولكم وإذا كان النائم والناسي للصلاة وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمد لتركها أولى. فجوابه من وجوه: أحدها المعارضة بما هو أصح منه أو مثله وهو أن يقال: لا يلزم من صحة القضاء بعد الوقت من المعذور المطيع لله ورسوله الذي لم يكن منه تفريط في فعل ما أمر به وقبوله منه صحته وقبوله منه متعد لحدود الله مضيع لأمره تارك لحقه عمدا وعدوانا فقياس هذا على هذا في صحة العبادة وقبولها منه وبراء الذمة بها من أفسد القياس.
الوجه الثاني: أن المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها بل في نفس وقتها الذي وقته الله له، فإن الوقت في حق هذا حين يستيقظ ويذكر كما قال صلى الله عليه وسلم:"من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها". رواه البيهقي والدارقطني وقد تقدم.
فالوقت وقتان: وقت اختيار ووقت عذر، فوقت المعذور بنوم أو سهو هو وقت ذكره واستيقاظه فهذا لم يصل الصلاة إلا في وقتها فكيف يقاس عليه من صلاها في غير وقتها عمدا وعدوانا؟.
الثالث: أن الشريعة قد فرقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي ويبن المعذور وغيره، وهذا مما لا خلاف فيه، فإلحاق أحد النوعين بالآخر غير جائز.
الرابع: إنا لم نسقطها عن العامد المفرط ونأمر بها المعذور حتى يكون ما ذكرتم حجة علينا بل ألزمنا بها المفرط المتعدي على وجه لا سبيل له إلى استدراكها تغليظا عليه، وجوزنا قضاءها للمعذور غير المفرط.
فصل
وأما استدلالكم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فما أصحه من حديث على مقتضى قولكم فإنكم تقولون هو مدرك العصر ولو لم يدرك من وقتها شيئا البتة بمعنى أنه مدرك لفعلها صحيحة منه مبرئة لذمته، فلو كانت تصح بعد خروج وقتها وتقبل منه لم يتعلق إدراكها بركعة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن من أدرك ركعة من العصر صحت صلاته بلا إثم، بل هو آثم يتعمد ذلك اتفاقا، فإنه أمر أن يوقع جميعها في وقتها، فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم بل هو مدرك آثم، فلو كانت تصح بعد الغروب لم يكن فرق بين أن يدرك ركعة من الوقت أولا يدرك منه شيئا، فإن قلتم: إذا أخرها إلى بعد الغروب كان أعظم أثرا. قيل لكم: النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين إدراك الركعة وعدمها في كثرة الإثم وخفته وإنما فرق بينهما في الإدراك وعدمه، ولا ريب أن المفوت لمجموعها في وقت أعظم من المفوت لأكثر ها والمفوت لأكثر ها فيه أعظم من المفوت لركعة منها.
فنحن نسألكم ونقول: ما هذا الإدراك الحاصل بركعة؟ أهذا إدراك يرفع الإثم؟ فهذا لا يقوله أحد، أو إدراك يقتضي الصحة فلا فرق فيه بين أن يفوتها بالكلية أو يفوتها إلا ركعة منها.
فصل
وأما احتجاجكم بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق نوم ولا نسيان ثم قضاها. فيقال: يالله العجب! لو أتينا نحن بمثل هذا لقامت قيامتكم وأقمتم قيامتنا بالتشنيع علينا فكيف تحتجون على تفويت صاحبه عاص لله آثم متعد لحدود مستوجب لعقابه بتفويت صدر من أطوع الخلق لله وأرضاهم له وأتبعهم لأمره، وهو مطيع لله في ذلك التأخير متبع مرضاته فيه وذلك التأخير منه صلوات الله وسلام عليه إما أن يكون نسيانا منه أو يكون أخرها عمدا، وعلى التقديرين فلا حجة لكم فيه بوجه فإنه إن كان نسيانا فنحن وسائر الأمة نقول بموجبه وأن الناسي يصليها متى ذكرها، وإن كان عامدا فهو تأخير لها من وقت إلى وقت أذن فيه كتأخير المسافر والمعذور الظهر إلى وقت العصر والمغرب إلى وقت العشاء. وقد أختلف الناس فيمن أدركته الصلاة وهو مشغول بقتال العدو على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يصلي حال القتال على حسب حاله ولا يؤخر الصلاة. قالوا: والتأخير يوم الخندق منسوخ، وهذا هو مذهب الإمام الشافعي والإمام مالك والإمام أحمد في المشهور عنه من مذهبه.
الثاني: أنها تؤخر كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. وهذا مذهب أبي حنيفة. والأولون يجيبون على هذا بأنه كان قبل أن تشرع صلاة الخوف فلما شرعت صلاة الخوف لم يؤخرها بعد ذلك في غزاة واحدة. والحنيفة تجيب عن ذلك بأن صلاة الخوف إنما شرعت على تلك الوجوه ما لم يلتحم القتال، فإنهم يمكنهم أن يصلوا صلاة الخوف كما أمر الله سبحانه بأن يقوموا صفين صفا يصلون وصفا يحرسون، وأما حال الالتحام فلا يمكن ذلك فالتأخير وقع حال الاشتغال بالقتال وصلاة الخوف شرعت حال المواجهة قبل الاشتغال بالقتال وهذا له موضع، وهذا في القول كما ترى.
وقالت طائفة ثالثة: يخير بين تقديمها والصلاة على حسب حاله وبين تأخيرها حتى يتمكن من فعلها، وهذا مذهب جماعة من الشاميين وهو إحدى الروايتين
عن الإمام أحمد، لأن الصحابة فعلوا هذا وهذا في قصة بني قريظة، كما سنذكرها بعد هذا إن شاء الله تعالى، وعلى الأقوال الثلاثة فلا حجة للعاصي المفرط المعتدي الذي قد باء بعقوبة الله وإثم التفويت في ذلك بوجه من الوجوه، وبالله التوفيق.
فصل
وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بتأخير الصحابة العصر إلى بعد غروب الشمس عمدا حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدركت طائفة الصلاة في الطريق فقالوا: لم يرد منا تأخيرها فصلوها في الطريق، وأبت طائفة أخرى أن تصليها إلا في بني قريظة فصلوها بعد العشاء، فما عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، فإن الذين أخروها كانوا مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم معتقدين وجوب ذلك التأخير، وأن وقتها الذي أمروا به حيث أدركهم في بني قريظة فكيف يقاس العاصي المتعدي لحدود الله على المطيع له الممتثل لأمره فهذا من أبطل قياس في العالم وأفسده وبالله التوفيق.
وقد فضلت طائفة من العلماء الذين أخروها إلى بني قريظة على الذين صلوها في الطريق. قالوا: لأنهم امتثلوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة، والآخرون تأولوا فصلوها في الطريق.
فصل
وأما استدلاكم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلى نافلة مع الأمراء الذين كانوا يضيعون الصلاة عن وقتها ويصلونها في غير الوقت، فلا حجة فيه لأنهم لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار بل كانوا يؤخرون صلاة الظهر إلى وقت العصر، وربما كانوا يؤخرون العصر إلى وقت الأصفرار ونحن نقول إنه متى أخر إحدى صلاتي الجمع إلى وقت الأخرى صلاها في وقت الثانية وإن كان غير معذور. وكذلك إذا أخر العصر إلى الاصفرار. بل إلى أن يبقى منها قدر ركعة فإنه يصليها بالنص. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ولامطر1 أراد أن لا يحرج أمته. فهذا التأخير لا يمنع صحة الصلاة.
1 رواه مسلم.
وأما قولكم قد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة من أخر الظهر إلى وقت العصر مع تفريطه في خروج وقت الظهر، فجوابه إن الوقت مشترك بين الصلاتين في الجملة، وقد جمع رسول الله بالمدينة خوف ولا مرض وهذا لا ينازع فيه، ولكن هل أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في وقت الضحى من غير نوم لا نسيان.
وأما قولكم وقد روي من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيمن نام عن صلاة الصبح: "وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها". أن هذا أوضح في أداء المفرط للصلاة عند الذكر وبعد الذكر، وهو حديث صحيح الإسناد.
فيا لله العجب! أين في هذا الحديث ما يدل بوجه من وجوه الدلالة نصها أو ظاهرها أو إيمائها على أن العاصي المتعدي لحدود الله بتفويت الصلاة عن وقتها تصح منه بعد الوقت وتبرأ ذمته منها، وهو أهل أن تقبل منه، وكأنكم فهمتم من قوله:"فإذا كان الغد فليصلها لميقاتها" أمره بتأخيرها إلى الغد. وهذا باطل قطعا لم يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث صريح في إبطاله فإنه أمره أن يصليها إذا استيقظ أو ذكرها، ثم روى في تمام الحديث هذه الزيادة وهي قوله:"فإذا كان من الغد فليصلها لميقاتها".
وقد اختلف الناس في صحة هذه الزيادة ومعناها، فقال بعض الحفاظ هذه الزيادة وهم من عبد الله بن رباح الذي روى الحديث عن أبي قتادة أو من أحد الرواة، وقد روي عن البخاري أنه قال: لا يتابع في قوله: "فليصل إذا ذكرها لوقتها من الغد".
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عمران بن حصين قال سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى الحفتنا الشمس، فجعل الرجل يقوم دهشا إلى طهوره. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكنوا، ثم ارتحل فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ ثم أمر بلالا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا فقالوا: يا رسول الله ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: "أينهاكم ربكم تبارك وتعالى عن الربا ويقبله منكم".
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي: وفي هذا دليل
على ما قال البخاري؛ لأن عمران بن الحصين كان حاضرا ولم يذكر ما قال عبد الله بن رباح عن أبي قتادة.
وعندي أنه لا تعارض بين الحديثين ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادتها من الغد وإنما الذي أمر به فعل الثانية في وقتها، وأن الوقت لم يسقط بالنوم والنسيان بل عاد إلى ما كان عليه، والله أعلم. قوله: وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر إلى آخره، وقد تقدم جواب هذا وأمثاله مرارا وأن هذا التأخير كان طاعة لله تعالى وقربة وغايته أنه جمع بين الصلاتين لشغل مهم من أمور المسلمين، فكيف يصح إلحاق تأخير المتعدي لحدود الله بت؟ ولقد ضعفت مسألة نصر بمثل هذا قوله: وليس ترك الصلاة حتى يخرج وقتها عمدا مذكورا عند الجمهور في الكبائر. فيقال يا لله العجب! وهل تقبل هذه المسألة نزاعا. وهل ذلك إلا من أعظم الكبائر وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تفويت صلاة العصر محبطا للعمل فأي كبيرة تقوى على إحباط العمل سوى تفويت الصلاة.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجمع بين الصلايتن من غير عذر من الكبائر. ولم يخالفه صحابي واحد في ذلك. بل الآثار الثابتة الصحابة كلها توافق ذلك. هذا والجامع بين الصلاتين قد صلاهما في وقت إحداهما للعذر. فماذا نقول فيمن صلى الصبح في وقت الضحى عمدا وعدوانا والعصر نصف الليل من غير عذر. وقد صرح الصديق أن الله لا يقبل هذه الصلاة ولم يخالف الصديق صحابي واحد وقد توعد الله سبحانه بالويل والغي لمن سها عن صلاته وأضاعها، وقد قال الصحابة وهم أعلم الأمة بتفسير الآية إن ذلك تأخيرها عن وقتها كما تقدم حكايته.
ويا لله العجب أي كبيرة أكبر من كبيرة تحبط العمل وتجعل الرجل بمنزلة من قد وتر أهله وماله، وإذا لم يكن تأخير صلاة النهار إلى الليل وتأخير صلاة الليل إلى النهار من غير عذر من الكبائر لم يكن فطر شهر رمضان من غير عذر وصوم شوال بدله من الكبائر، ونحن نقول بل ذلك أكبر من كل
كبيرة بعد الشرك بالله. ولأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك به خير له من أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار عدوانا عمدا بلاعذر، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن سليمان بن يسار عن المسور بن مخرمة أنه دخل مع ابن عباس على عمر حين طعن فقال ابن عباس يا أمير المؤمنين الصلاة فقال: أجل أصلي: إنه لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة. وقال إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان الناس الإسلام: تعبد الله ولاتشرك به شيئا وتقيم الصلاة التي افترض الله بمواقيتها فإن في تفريطها الهلكة.
وقال محمد بن نصر المروزي وسمعت إسحاق يقول: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تارك الصلاة كافر" ، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر، وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر، وإنما جعل أوقات الصلاة بما ذكرنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة في السفر فصلى إحداهما في وقت الأخرى، فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأولى منهما وقتا للأخرى في حال والأخرى وقتا للأولى في حال صار وقتاهما وقتا واحدا في حال العذر، كما أمرت الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس أن تصلي الظهر والعصر وإذا طهرت آخر الليل أن تصلي المغرب والعشاء، وإذا كان صلاة الذي يؤخر العصر حتى تصير الشمس بين قرني الشيطان صلاة المنافق بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقول بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه لمن يصليها بعد العشاء، وقد قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . فإذا اجتنب الرجل كبائر المنهيات واستمر على صلاة الصبح في وقت الضحى والعصر بعد العشاء كان على قولكم مغفورا له غير آثم البتة، وهذا لا يقول أحد.
قوله: والعجب من هذا الظاهري كيف نقض أصله فإنه يقول ما وجب بإجماع فإنه لا يسقط إلا بالإجماع، فيقال: غاية هذا أن منازعكم تناقض فلا يكون تناقضه مصححا لقولكم، وإن أردتم بذلك الاستدلال بالاستصحاب وأن الصلاة
كانت في ذمته بإجماع فلا تسقط إلا بإجماع وهو مفقود، قيل لكم: ومن ذا الذي قال بسقوطها من ذمته بالتأخير، وأن ذمته قد برئت منها، فمن قال بهذا فقوله أظهر بطلانا من أن نحتاج إلى دليل عليه. والذي يقول منازعوكم إنها قد استقرت في ذمته على وجه لا سبيل له إلى أدائها واستدراكها إلا بعود ذلك الوقت بعينة، وهذا محال، ثم نعارض هذا الإجماع بإجماع مثله أو أقوى منه، فنقول: أجمع المسلمون على أنه عاص متعد مفرط بإضاعة الوقت فلا يرتفع هذا الاجماع إلا بإجماع مثله، ولم يجمعوا أنه يرتفع عنه الإثم والعدوان بالفعل بعد الوقت، بل لعل هذا لم يقله أحد.
فهذا ما يتعلق بالحجاج من الجانبين، وليس لنا غرض فيما وراء ذلك، وقد بان من هو أسعد بالكتاب والسنة وأقوال السلف في هذه المسالة والله المستعان.
فصل
فإن قيل فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المفطر متعمدا في نهار رمضان بالقضاء في موضعين أحدهما المجامع. والثاني: المستقيء. ففي السنن من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد جامع أهله في رمضان فذكر الحديث وقال فيه: "فأتى بعذق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعا" وفيه قال: "كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله عز وجل". وعند ابن ماجة: "وصم يوما مكانه".
وفي السنن والمسند من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض". قيل: الحديثان معلولان لا يثبتان. أما قصة المجامع في رمضان فقد رواها أصحاب الصحيح ولم يذكر أحد منهم هذه الزيادة، والذي ذكرها لا تقوم به الحجة فإنها من رواية عبد الجبار بن عمر الأيلي وقد ضعفه الأئمة. قال يحيى بن معين:"ليس بشيء ولا يكتب حديثه" وقال مرة: "ضعيف" وكذلك قال أبو زرعة والسعدي أي ابن سعد والنسائي، وقال البخاري:"ليس بالقوي عنده مناكير" وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه يخالف فيه والضعف بين على رواياته" ورواه أئمة أصحاب ابن شهاب عنه كمالك وغيره فلم يذكروا قوله: "صم يوما مكانه". ورواه أبو مروان العثماني عن إبراهيم بن سعد عن الليث عن ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "له في هذه القصة اقض
يوما مكانه". وكذا روي عن الدراوردي عن إبراهيم بن سعد عن الليث قال البيهقي وإبراهيم عنده الحديث عن الزهري بلا هذه الكلمة، وقد رواه حجاج بن أرطاة عن إبراهيم بن علي كذا مر عن ابن المسيب وعن الزهري عن حميد عن أبي هريرة ورواه حجاج عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وقال فيه عمرو وأمره أن يقضي يوما مكانه، وقد رواه هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال فيه: "وصم يوما مكانه واستغفر الله". فخالف هشام الناس في روايته عن أبي سلمة والحديث لحميد عن أبي هريرة.
ورواه ابن أبي اويس قال حدثني أبي أن ابن شهاب أخبره عن حميد أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر الذي يفطر في رمضان أن يصوم يوما مكانه، ولكن هذا يخالف رواية أصحاب ابن شهاب فإنهم لم يذكروا هذه الزيادة، وقال الشافعي أخبرنا مالك عن عطاء الخراساني عن ابن المسيب قال أتى أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وقال في آخره:"فصم يوما مكان ما أصبت". وهذا مرسل ولكنه من مراسيل ابن المسيب، ورواه داود بن أبي هند عن عطاء فلم يذكر قوله:"وصم يوما مكانه" وعطاء كذبه ابن المسيب. وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ يخطيء ولا يعلم فبطل الاحتجاج بت".
وأما حديث المستقيء عمدا فهو حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء". فقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال: قال محمد يعني البخاري لا أراه محفوظا، وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "ليس من ذا شيء". وقال الترمذي في كتاب العلل: حدثنا علي بن حجر حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض". قال الترمذي: سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: ما أراه محفوظا قال: وقد روى يحيى ابن أبي كثير