المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المسألة الثامنة وهي هل له فعلها في بتيه أم يتعين المسجد - الصلاة - ابن القيم - ط مكتبة الثقافة

[ابن القيم]

الفصل: ‌ المسألة الثامنة وهي هل له فعلها في بتيه أم يتعين المسجد

يكونوا صلوا جماعة مع غير هذه الجماع، ة أويكونوا معذورين وقت الصلاة، ومن صلى وحده لعذر ثم زال عذره في الوقت لم يجب عليه إعادة الصلاة، كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت أو صلى قاعدا لمرض ثم بريء في الوقت أو صلى عريانا ثم وجد السترة في الوقت.

قالوا: وقد دلت أحكام الشريعة على أن صلاة الجماعة فرض على كل واحد وذلك من وجوه أحدها أن الجمع لأجل المطر جائز وليس جوازه إلا محافظة على الجماعة، وإلا فمن الممكن أن يصلي كل واحد في بيته منفردا، ولو كانت الجماعة ندبا لما جاز ترك الواجب، وتقديم الصلاةعن وقتها ندب محض.

الثاني: أن المريض إذا لم يستطع القيام في الجماعة وأطاق القيام إذا صلى وحده صلى جماعة وترك القيام ومحال أن يترك ركنا من أركان الصلاة لمندوب محض.

الثالث: أن الجماعة حال الخوف يفارقون الإمام ويعملون العمل الكثير في الصلاة ويجعلون الإمام منفردا في وسط الصلاة كل ذلك لأجل تحصيل الجماعة، وكان من الممكن أن يصلوا وحدانا بدون هذه الأمور ومحال أن يرتكب ذلك وغيره لأجل أمر مندوب إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله، وبالله التوفيق.

ص: 116

فصل

وأما‌

‌ المسألة الثامنة وهي هل له فعلها في بتيه أم يتعين المسجد

؟

فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد: أحدهما له فعلها في بيته وبذلك قالت الحنفية والمالكية وهو أحد الوجهين للشافعية. والثاني: ليس له فعلها في البيت إلا من عذر، وفي المسألة قول ثالث: فعلها في المسجد فرض كفاية وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي، وجه القول الأول حديث الرجلين اللذين صليا في رحالهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبهما إلى فعلها في المسجد ولم ينكر عليهما فعلها في رحالهما، وكذلك حديث محجن بن الأدرع وحديث عبد الله بن عمر وقد تقدمت هذه الأحاديث، وفي الصحيحن عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا

ص: 116

فربما عملا الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يقوم صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه فيصلي بنا.

وفي الصحيحين أيضا قال: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجُحش1 شقة الأيمن، فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعدا، وفي الصحيحن أيضا عن أبي ذر قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي مسجد وضع في الأرض أول قال: "المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد". وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا". ووجه الرواية الثانية ما تقدم من الأحاديث الدالة على وجوب الجماعة فإنها صريحة في إتيان المساجد.

وفي مسند الإمام أحمد عن ابن أم مكتوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المسجد فرأى في القوم رقة فقال: "إني لأهم أن أجعل للناس إماما ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه". وفي لفظ لأبي داود: "ثم آتى قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرق عليهم بيوتهم". وقال له ابن أم مكتوم وهورجل أعمى: هل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: "لا أجد لك رخصة". وقال ابن مسعود: لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.

وعن جابر بن عبد الله قال: فقد النبي صلى الله عليه وسلم قوما في صلاة فقال: "ما خالفكم عن الصلاة"؟ . فقالوا: الماء كان بيننا، فقال:"لا صلاة لجار المسجد إلا في السمجد". رواه الدارقطني.

وقد تقدم هذا المعنى عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة، فإن خالف وصلى في بيته جماعة عذر ففي صحة صلاته قولان: قال أبو البركات ابن تيمية في شرحه فإن خالف وصلاها في بيته جماعة لا تصح من غير عذر بناء على ما اختاره ابن عقيل في تركه الجماعة حيث ارتكب النهي، ويعضده قوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

قال: والمذهب الصحة لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في جماعة تضاعف على صلاته

1 جحش هو شيء أكبر من الخدش.

ص: 117

في بيته أو في سوقه خمسا وعشرين ضعفا". ويحمل قوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". على نفي الكمال جمعا بينهما. قال والرواية الأولى اختيار أصحابنا وأن حضور المسجد لا يجب وهي عندي بعيدة جدا إن حملت على ظاهرها فإن الصلاة في المسجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته وفي تركها بالكلية أو في المفاسد ومحو آثار الصلاة بحيث تفضي إلى فتور همم أكثر الخلق عن أصل فعلها، ولهذا قال عبد الله بن مسعود: لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. قال: وإنما معنى هذه الرواية -والله اعلم- أن فعلها في البيت جائز لآحاد الناس إذا كانت تقام في المساجد فيكون فعلها في المسجد فرض كفاية على هذه الرواية، وعلى الأخرى فرض عين. قال: ويدل على ذلك جواز الجمع بين الصلاتين للأمطار، ولوكان الواجب فعل الجماعة فقط دون الفعل في المسجد لما جاز الجمع لذلك؛ لأن أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت فإن الإنسان غالبا لا يخلو أن تكون عنده زوجة أو ولد أو غلام أو صديق أو نحوهم فيمكنه الصلاة جماعة فلا يجوز ترك الشرط وهو الوقت من أجل السنة، فلما جاز الجمع علم أن الجماعة في المساجد فرض إما على الكفاية وإما على الأعيان هذا كلامه.

ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار، ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أهل مكة موته خطبهم سهيل بن عمرو وكان عتاب بن أسيد عامله على مكة قد توارى خوفا من أهل مكة فأخرجه سهيل وثبت أهل مكة على الإسلام فخطبهم بعد ذلك عتاب وقال: يا أهل مكة والله لا يبلغني أن أحدا منكم تخلف عن الصلاة في المسجد في الجماعة إلا ضربت عنقه. وشكر له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع وزاده رفعة في أعينهم، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة في المسجد إلا من عذر. والله أعلم بالصواب.

ص: 118