الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الخطبة السابعة في الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
الخطبة السابعة
في الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واصبروا على ما أصابكم إن ذلك من عزم الأمور، إن المعروف إذا لم يؤمر به ولم يحي بالعمل به والتواصي فيه ضاع واضمحل، فانهدم بذلك جانب من دينكم وصار العمل به بعد ذلك منكرا مستغربا بين الناس وإن المنكر إذا لم ينه عنه ويحذر الناس بعضهم بعضا منه شاع وانتشر بين الناس وأصبح معروفا لا ينكر ولا يستغرب وقيسوا ذلك بما انتشر بينكم من منكرات كنتم تنكرونها من قبل وتستغربون وجودها بينكم.
إن كثيرا من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل ولكنهم يتقاعسون عن ذلك، إما تهاونا وتفريطا، وإما اعتمادا على غيرهم وتسويفا، وإما جبنا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفا والله يقول:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وإما يأسا من الإصلاح وقنوطا.
أيها المسلمون ويا أيها المؤمنون إن تخويف الشيطان إياكم أولياءه أو تسليطهم عليكم لا ينبغي أن يمنعكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ذلك أمر لا بد منه إلا أن يشاء الله امتحانا من الله وابتلاء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام الرسل كما قال الله تعالى في وصف خاتمهم وسيدهم محمدا صلى الله عليه وسلم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فإذا كان قائما مقام الرسل فلا بد أن يناله من الأذى ما يناله كما قد لاقى الرسل.
ولقد لاقى الأنبياء والرسل من أقوالهم أشد الأذى وأعظمه حتى بلغ ذلك إلى حد القتل قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فهذا أول الرسل نوح عليه الصلاة
والسلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فكان ملؤهم وأشرافهم يسخرون منه ولكنه صامد في دعوته يقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ - فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38 - 39] حتى قالوا متحدين له {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] وقالوا مهددين له {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116] أي من المقتولين رجما بالحجارة.
وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وإمام الحنفاء لبث في قومه ما شاء الله، يدعوهم إلى الله تعالى، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر:{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت: 24] فما ثنى ذلك عزمه ولا أوهنه عن دعوته، مضى في سبيل دعوته إلى ربه بعزم وثبات وأزال منكرهم بيده فغدا على أصنامهم فكسرها حتى جعلها جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، فلما رجعوا إلى أصنامهم وعلموا أن الذي كسرها إبراهيم طلبوا أن يؤتى به ليوبخوه على أعين الناس فيشهد الناس ما يقول فهل جبن أن يقول قول الحق في هذا المقام العظيم كلا بل قال لهم موبخا:{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ - أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67] فعزموا على تنفيذ ما هددوه به و {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68] فأضرموا نارا عظيمة وألقوا إبراهيم فيها وهي أشد ما تكون اتقادا ولكن رب العزة قال لها {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] فكانت بردا لا حر فيه وسلاما لا أذى فيه.
وهذا موسى صلى الله عليه وسلم ماذا حصل له من فرعون المتكبر الجبار دعاه موسى إلى الله العلي الأعلى وقال {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] فقال فرعون ساخرا به {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] وقال لملئه {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ثم توعد موسى قائلا {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] فهل خاف موسى من ذلك وهل وهنت عزيمته عن الدعوة إلى الله عز وجل، بل مضى في ذلك حتى بين لفرعون من آيات الله ما يهتدي به أولو الألباب ولكن فرعون استمر في غيه واستكباره وقال مهددا موسى بالقتل ومتحديا له أن يدعو ربه:{ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]
وقال لوزيره هامان ساخرا بالله رب العالمين: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] ولكن موسى صلى الله عليه وسلم صبر على كل ما لاقاه من فرعون وقومه حتى كانت العاقبة له وكانت نتيجة فرعون وقومه ما ذكر الله: {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ - كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ - وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ - كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 24 - 28]
وهذا عيسى عليه الصلاة والسلام وأوذي من جانب اليهود فكذبوه ورموا أمه بالبغاء أي الزنا وعزموا على قتله واجتمعوا عليه فألقى الله شبهه على رجل فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه وقالوا: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء: 157] قال الله تعالى مكذبا لما ادعوه من القتل والصلب: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا - بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157 - 158]
وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم أعظم الخلق جاها عند الله هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ لا بل ناله على ذلك من الأذى القولي والفعلي ما لا يصبر عليه إلا من كان مثله ولم ينته عن دعوته إلى الله عز وجل، دعاهم إلى عبادة إله واحد {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4 - 5] وكانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم اتخذوه هزوا وقالوا ساخرين به: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا - إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 41 - 42]{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان: 8]{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] فآذوا النبي صلى الله عليه وسلم بكل ألقاب السوء والسخرية ولم يقتصروا على ذلك فحسب بل آذوه بالأذى الفعلي فكان أبو لهب وهو عمه وجاره يرمي بالقذر على باب النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيزيله ويقول «يا بني عبد مناف أي جوار هذا» . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «بينما النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال قائل منهم أيكم يذهب إلى جزور آل فلان أي ناقتهم فيجيء بسلاها ودمها وفرثها فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فذهب أشقى القوم فجاء به فلما
سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه قال ابن مسعود رضي الله عنه وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي منعة فجعل أبو جهل ومن معه يضحكون حتى يميل بعضهم إلى بعض من الضحك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءت ابنته فاطمة تسعى وهي جويرية حتى ألقته عنه فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش ثم سمى فلانا وفلانا» . وفي صحيح البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبي عدو الله ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، ولما اشتد به الأذى من قومه خرج إلى الطائف رجاء أن يؤوه ويمنعوه من قومه فلقي منهم أشد ما يلقى من أذى، وقالوا اخرج من بلادنا وأغروا به سفاءهم يقفون له في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب» .
أيها المسلمون: إن هذا الصبر العظيم على هذا الأذى الشديد الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه لأكبر عبرة يعتبرها المؤمنون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ليصبروا على ما أصابهم ويحتسبوا الأجر من الله ويعلموا أن للجنة ثمنا {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]