الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الخطبة الثانية في التوبة وشروطها أيضا]
الخطبة الثانية
في التوبة وشروطها أيضا الحمد لله الملك الوهاب الغفور التواب يتوب على التائبين مهما عظمت ذنوبهم إذا تابوا إليه ويبدل سيئاتهم حسنات إذا أصلحوا أعمالهم وأنابوا إليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم وتوبوا إليه توبوا إليه بالرجوع إليه من معصيته إلى طاعته ومن البعد عنه إلى التقرب إليه ومن رجس الذنوب إلى التطهر منها فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
إن التوبة من الذنوب واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها أو التكاسل فيها فإن تأخير التوبة ذنب يحتاج إلى توبة. التوبة واجبة لأن الله أمر بها في كتابه وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ورتب عليها الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة» (رواه مسلم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (رواه البخاري) .
أيها المسلمون إن التوبة إلى الله واجبة على الفور لأن أوامر الله ورسوله كلها على الفور إذا لم يقم دليل على جواز تأخيرها. وتأخير التوبة سبب لتراكم الذنوب والرين على القلوب في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها وإن زاد زادت حتى يغلف بها قلبه فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه» . {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]
أيها المسلمون توبوا إلى الله توبة نصوحا يمحو الله بها ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم ويرفع درجاتكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]
وإن التوبة لن تكون نصوحا مقبولة حتى يتم فيها خمسة شروط:
لن تكون مقبولة حتى تكون خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله تعالى وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه فلا يريد بها تزلقا إلى مخلوق ولا عرضا من الدنيا. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يكون نادما أسفا على ما فعل من المعصية بحيث يتمنى أنه لم يفعل المعصية لأن هذا الندم يوجب الانكسار بين يدي الله عز وجل والإنابة إليه. ولن تكون التوبة مقبولة حتى يقلع عن المعصية فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال وإن كانت بترك واجب فعله في الحال إن كان ما يمكن قضاؤه وإن كانت مما يتعلق بحقوق الخلق تخلص منها وأداها إلى أهلها واستحلهم منها فلا تصح التوبة من الغيبة وهو مستمر عليها ولا تصح التوبة من الربا وهو مستمر على التعامل به. إن كثيرا من الناس عندما تنصحه ليلقع من المعصية يقابلك بقول الله يعيننا على أنفسنا ونعم ما قال فإن الله إذا لم يعن العبد فلا خلاص له ولكنها كلمة حق أريد بها باطل أريد بها الاعتذار عن الاستمرار في المعصية وليست بعذر لأن العبد مأمور مع الاستعانة بالله أن يحرص على ما ينفعه قال النبي صلى الله عليه وسلم احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. فلا تقبل التوبة من ترك صلاة الجماعة مثلا وهو مستمر على ترك الجماعة ولا تقبل التوبة من الغش والخيانة وهو مقيم على ذلك. إن من يدعي التوبة من ذنب وهو مقيم عليه فتوبته استهزاء بالله عز وجل لا تزيده من الله إلا بعدا كمن اعتذر إليك من فعل شيء وهو مقيم عليه فإنك لا تعتبره إلا مستهزئا بك لاعبا عليك.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتوبوا إلى ربكم وأقلعوا من ذنوبكم واعزموا أن لا تعودوا في المستقبل فلن تكون التوبة مقبولة حتى يعزم التائب أن لا يعود في المستقبل لأنه لم يعزم على ذلك فتوبته مؤقتة يتحين فيها الفرص المواتية لا تدل على كراهيته للمعصية وهربه منها إلى طاعة الله عز وجل. وأن تكون التوبة مقبولة حتى تصدر في زمن قبولها وهو ما قبل حضور الأجل وطلوع الشمس من مغربها فإن كانت التوبة بعد حضور الأجل ومعاينة الموت لم تقبل قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر يعني بروحه» (رواه أحمد
والترمذي وقال حديث حسن) . وإذا كانت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل لقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] والمراد بذلك طلوع الشمس من مغربها إذا رآها الناس طالعة منه آمنوا أجمعون فلا ينفع نفسا إيمانها إذا لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه» (قال ابن كثير حسن الإسناد) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه» (رواه مسلم) . فتوبوا أيها المسلمون إلى الله وأسلموا له وثقوا بأن التوبة النصوح تجب ما قبلها من الذنوب مهما عظمت قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ - وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ - أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ - بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 53 - 59]
اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا وتيسر بها أمورنا وترفع بها درجاتنا إنك جواد كريم.