الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الخطبة العاشرة في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه]
الخطبة العاشرة
في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا حكمته البالغة في شرعه وخلقه وتقديره فإنه سبحانه اختار نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم للرسالة إلى الخلق بهذا الدين الكامل لينشره بين العالمين واختار له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقومها عملا وأقلها تكلفا جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته فنصر الله بهم الدين ونصرهم به وأظهرهم على كل الأديان وأهلها.
كان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون فكانت خلافتهم أفضل خلافة في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب وأبو عبد الله ذو النورين عثمان بن عفان وأبو الحسن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وكان أفضلهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار الذي نطق بما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حين اشتد الأمر على كثير من المهاجرين والأنصار وثبت الله به المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ونصر الله به الإسلام حين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وكان من بركته على هذه الأمة ونصحه لها ووفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في أمتي فإنه عمر» . وقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمر «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك» وسأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الرجال إليه فقال أبو بكر «قال ثم من قال ثم عمر بن الخطاب وعد رجالا» . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينزع من بئر فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين - يعني دلوا أو دلوين - قال ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر
فاستحالت في يده غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ولقد صدق الله ورسوله الرؤيا فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما وقوي سلطان الإسلام وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس حتى إنه قيل إن الفتوحات في عهده بلغت ألفا وستا وثلاثين مدينة مع سوادها بنى فيها أربعة آلاف مسجد وكان رضي الله عنه مع سعة خلافته مهتما برعيته قائما فيهم خير قيام قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن الله أعز به الإسلام وأذل به الشرك وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك الله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متحذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره السابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن له علم أو رأي أو نصيحة للإسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة على شروطه فقد شرط رضي الله عنه على أهل الذمة من النصارى وغيرهم ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين والتميز عنهم في اللباس والأسامي وغيرها وأن لا يظهروا الصليب على كنائسهم ولا في شيء من طرق المسلمين وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين ولقد كان رضي الله عنه يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله قال أبو موسى الأشعري قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا فقال ما لك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ألا اتخذت حنيفا يعني مسلما قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله. وكتب إليه خالد بن الوليد يقول إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به فكتب إليه عمر لا تستعمله فكتب خالد إلى عمر أنه لا غنى بنا عنه فرد عليه لا تستعمله فكتب إليه خالد إذا لم نستعمله ضاع المال فكتب إليه عمر مات النصراني والسلام. ولقد كانت هذه السياسة الحكيمة لعمر من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين وإن كانت شيئا بسيطا كانت هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم حيث لحقه مشرك ليقاتل معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لا أستعين بمشرك» . ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع هذا الحزم والحيطة لأمور المسلمين في مجانبة
أعدائهم والغلظة عليهم سببا قويا لنصر الإسلام وعزة المسلمين وكان يكتب إلى عماله يحذرهم من الترفع والإسراف كتب إلى عتبة بن فرقد وهو في أذربيجان فقال يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير. وكان لا يحابي في دين الله قريبا ولا صديقا. الناس عنده سواء. يروى عنه أنه كان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والله لا أجد أحدا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة وكان يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم ويحكموا فيكم بسنة نبيكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي. وكان رضي الله عنه مهتما بأمور الرعية صغيرها وكبيرها. خرج ذات ليلة إلى الحرة ومعه مولاه أسلم فإذا نار تسعر فقال يا أسلم ما أظن هؤلاء إلا ركبا قصر بهم الليل والبرد فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان يتضاغون من الجوع قد نصبت لهم قدر ماء على النار تسكتهم به ليناموا فقال عمر السلام عليكم يا أهل الضوء وكره أن يقول يا أهل النار ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون قالت المرأة يتضاغون من الجوع قال فأي شيء في هذا القدر قالت ماء أسكتهم به أوهمهم أني أصنع طعاما حتى يناموا والله بيننا وبين عمر فقال يرحمك الله وما يدري عمر بكم قالت أيتولى أمرنا ويغفل عنا فبكى عمر رضي الله عنه ورجع مهرولا فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم وقال لأسلم أحمله على ظهري قال أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين فقال أنت تحمل وزري يوم القيامة فحمله حتى أتى المرأة فجعل يصلح الطعام لها وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته حتى نضج الطعام فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها فأكل الصبية حتى شبعوا وجعلوا يضحكون ويتصارعون فقالت المرأة جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من عمر فقال لها عمر قولي خيرا.
أيها المسلمون هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذه الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله خائفة من عقابه راجية لثوابه فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها تبدلت أحوال الرعاة وكما تكونون يولى عليكم.
أيها المسلمون مع هذه السيرة العظيمة فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قتل شهيدا في آخر شهر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة فقد خرج لصلاة الصبح وكان إذا مر بين الصفين قال استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فطعنه غلام مجوسي فتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه في الصلاة. فرضي الله عن عمر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا لقد كان من خير الصحابة الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100] إلى آخرها) .