المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الخطبة الثانية في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم] - الضياء اللامع من الخطب الجوامع - جـ ٩

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌[الخطبة الثانية في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم]

[الخطبة الثانية في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم]

الخطبة الثانية

في مبدأ حياة النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه بالحق المبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى الخلق أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.

أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به على عباده من إرسال الرسل وإنزال الكتب ونشر الحق بين الخلق فإن العقل البشري لا يمكن أن يهتدي إلى معرفة الخالق تفصيلا ولا يمكنه أن يتعبد لله بما لا يدركه تحصيلا ولا يمكنه أن يعامل غيره بطريق الحق والعدل إلا بالوحي الذي بين الله به كيف يعرف العبد ربه وكيف يقيم عبادته وكيف يعامل غيره فكان الرسل عليهم الصلاة والسلام مبينين لعبادة الخلاق ومتممين لمكارم الأخلاق.

كان الناس على ملة واحدة دين أبيهم آدم فلما كثروا تفرقت كلمتهم واختلفت آرائهم فبعث الله إليهم رسله ليقوم الناس بالقسط فبدأ الله الرسالة بنوح عليه الصلاة والسلام وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم. فمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وأفضلهم أرسله الله تعالى على حين فترة من سلالة إسماعيل بن إبراهيم من صميم العرب فكان أكرم الناس نسبا وأطيبهم مولدا فولد صلى الله عليه وسلم بمكة في يوم الاثنين في الثاني من شهر ربيع الأول وقيل في الثامن وقيل في التاسع وقيل في العاشر وقيل في الثاني عشر وقيل في السابع عشر وقيل في الثاني والعشرين في العام الذي أهلك الله به أصحاب الفيل اللذين أرادوا هدم الكعبة فأنزل الله فيهم سورة من القرآن. ولدته أمه آمنة من أبيه عبد الله بن عبد المطلب وقد رأت أمه قبل ولادته أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام فمات أبوه في المدينة قبل أن يولد صلى الله عليه وسلم وماتت أمه بالأبواء في طريق المدينة وهو في السادسة من عمره فكفله جده عبد المطلب ثم مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيم الأبوين والجد ولكن الله تعالى آواه وهو نعم المولى ونعم النصير فيسر الله له عمه أبا طالب شقيق أبيه فضمه إلى عياله وأحسن كفالته وأحبه حبا شديدا وبارك الله

ص: 670

له بسبب النبي صلى الله عليه وسلم في ماله وحاله. ولقد اشتغل صلى الله عليه وسلم بما اشتغل به الأنبياء من قبل، اشتغل يرعى الغنم وما من نبي إلا رعى الغنم ليعتاد بذلك حسن الرعاية والتصريف فيما يكون راعيا له في المستقبل ثم اشتغل صلى الله عليه وسلم بالتجارة فاشتهر عند الناس بالصدق والأمانة وحسن المعاملة ثم لما بلغ الخامسة والعشرين من عمره تزوج خديجة رضي الله عنها ولها أربعون سنة وقد تزوجت قبله برجلين وكانت رضي الله عنها من شريفات نساء العرب موصوفة بالعقل والحزم والذكاء ورزقها الله منه ابنين وبنات أربع وكان أولاده كلهم منها إلا إبراهيم فإنه من أم ولده مارية القبطية وكلهم ماتوا في حياته إلا فاطمة. ولم يتزوج عليها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت رضي الله عنها في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين فتزوج بعدها عائشة.

وكان صلى الله عليه وسلم معظما في قومه محترما يحضر معهم في مهمات الأمور فحضر حلف الفضول الذي تعاقدوا به على درء المظالم ورد الحقوق إلى أهلها وكان حكما في قريش عند نزاعها في وضع الحجر الأسود في مكانه حين هدمت الكعبة فتنازعوا أيهم يضع الحجر مكانه فقيض الله لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكموه بينهم وانقادوا لقضائه فبسط صلى الله عليه وسلم رداءه ووضع الحجر فيه ثم قال لأربعة من رؤساء قريش ليأخذ كل واحد منكم بجانب من هذا الرداء فحملوه حتى إذا أدنوه من موضعه أخذه صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة فوضعه في مكانه فكان له صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم العادل شرف كبير ونبأ عظيم وكان صلوات الله وسلامه عليه محفوظا من عبادة الأوثان وشرب الخمور وعمل الميسر. ولما بلغ الأربعين من عمره جاءه الوحي من الله تعالى فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب الله إليه الخلاء وهو الانفراد عن ذلك المجتمع الفوضوي في عقيدته وعبادته فكان يخلو بغار حراء وهو الجبل الذي عن يمين الداخل إلى مكة من طريق الشرائع ويتعبد فيه «حتى نزل عليه الوحي هناك فجاءه جبريل فقال اقرأ فقال ما أنا بقارئ أي لا أحسن القراءة وفي الثالثة قال له جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ - خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ - اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله يرجف فؤاده لأنه رأى أمرا عظيما لم يكن معهودا له من قبل فدخل على خديجة فقال لها وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل رحمك وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري

ص: 671

الضيف وتعين على نوائب الحق» . فاستدلت رضي الله عنها بأفعاله الجميلة على أن حكمة الله تأبى أن يلحق العار والخزي مثل هذا. وبنزول هذه الآيات على محمد صلى الله عليه وسلم صار نبيا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]

وبذلك صار نبيا رسولا إلى جميع الثقلين فدعا إلى الله وبشر وأنذر فخص وعم فأنذر عشيرته الأقربين ثم بقية الخلق أجمعين حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين وأظهر دينه ونصره وهم نعم المولى ونعم النصير وفي هذا يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . الخ.

ص: 672