المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الخطبة الخامسة في غزوة الحديبية] - الضياء اللامع من الخطب الجوامع - جـ ٩

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌[الخطبة الخامسة في غزوة الحديبية]

[الخطبة الخامسة في غزوة الحديبية]

الخطبة الخامسة

في غزوة الحديبية الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.

أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أهم العلوم وأنفعها علم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ حياته ومعرفة ما هو عليه في عباداته ومعاملاته في أهله وأصحابه وأوليائه وأعدائه لأنه صلى الله عليه وسلم الأسوة والإمام تهتدون بنور شريعته وتسيرون على سنته وفي هذا الشهر أعني شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة يريد العمرة ومعه من أصحابه نحو ألف وأربعمائة فأحرم من ذي الحليفة فلما علمت قريش بذلك جمعوا له جموعا ليصدوه عن البيت ويقاتلوه على ذلك «فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان في الثنية التي يهبط عليهم منها بركت ناقته واسمها القصواء فزجرها الناس لتقوم فلم تقم فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء أي حزنت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت فعدل عن قريش حتى نزل بأقصى الحديبية وفزعت قريش لنزوله عليهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبرهم بما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى الإسلام فبلغ عثمان رضي الله عنه أبا سفيان وعظماء قريش ما بعثه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به فقال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبست قريش عثمان عندها فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قتل فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة على القتال وأن لا يفروا إلى الموت وجلس تحت شجرة سمرة في الحديبية فجعلوا يبايعونه وأخذ بيد نفسه فقال هذه عن عثمان وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18 - 19] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة فبينما هم كذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي وكانت خزاعة

ص: 680

ذوي نصح للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما أعدت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم سيقاتلونه ويصدونه عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين وإن قريشا قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فأخبر بديل قريشا بما قال له النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال لقريش إن هذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد عرض خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته فقالوا ائته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم كلما تكلم بكلمة أهذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم وكان المغيرة بن شعبة ابن أخي عروة قائما على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده ضربها المغيرة بنعل السيف وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال أبو بكر رضي الله عنه لعروة أمصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه ثم جعل عروة يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه أي على فضل ماء وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له. فلما رجع عروة قال والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي فما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدا. ثم ذكر لهم ما شاهده من الصحابة وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقام رجل من بني كنانة فقال دوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن أي الإبل المهداة إلى البيت فابعثوها إليه فبعثوها إليه وأقبل الناس إليه يلبون فقال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو بن عبد شمس وكان خطيب قريش ليصالح النبي صلى الله عليه وسلم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل اكتب باسمك اللهم لأنهم ينكرون اسم الرحمن فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله

ص: 681

فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله» ، وإنما تساهل النبي صلى الله عليه وسلم في موافقة سهيل لما في ذلك من تعظيم حرمات الله بحقن الدماء الحاصل بهذا الصلح وقد قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ثم جرى الصلح العظيم الذي سماه الله فتحا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة هذا العام وعلى أن يعتمر في العام المقبل فيخلوا بينه وبين مكة ثلاثة أيام ليس معه إلا سلاح الراكب والسيوف في القراب وعلى أن من جاء من قريش إلى المسلمين ردوه إلى قريش وإن كان مسلما ومن جاء إلى قريش من المسلمين لم يردوه وعلى وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين وعلى أن من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه فراجع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «نعم إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا» . وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم «يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قال فلم نعطي الدنية في ديننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري وراجع عمر أبا بكر فقال له مثل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال استمسك بغرزه فوالله إنه على الحق قال عمر فعملت لذلك أعمالا» ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خير. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ينحروا ما معهم من الهدي وأن يحلقوا رؤوسهم ونحر هديه وأمر حالقه فحلق رأسه. فلما رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا وحلق بعضهم بعضا حتى كاد يقتل بعضهم بعضا من الغم مما صنع بهم المشركون من صدهم عن بيت الله الذي أولى الناس به رسول الله وأصحابه وفي العام المقبل خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة معتمرا في ذي القعدة وأمر أصحابه أن يكشفوا عن المناكب اليمنى وأن يرملوا في طوافهم ليرى المشركون جلدهم وقوتهم وكان صلى الله عليه وسلم يحب إغاظة المشركين بكل ما يستطيع ولقد كان في غزوة الحديبية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من آيات الله فلقد شكى الصحابة قلة الماء وبين يديه إناء يتوضأ منه فوضع يده فيه فجعل الماء يفور من بين يديه كأمثال العيون فشربوا وتوضأوا وكانوا نحو ألف وأربعمائة.

ص: 682

أيها المسلمون هكذا كان أعداء الإسلام يحاولون صد المسلمين عن دينهم وشعائر دينهم تارة بالقوة وتارة بالمكر والخديعة فاحذروهم واعرفوا مكرهم وخديعتهم وقابلوهم بما هو أشد فإنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

اللهم اجعلنا ممن يعرفون أعداءهم ويحذرونهم اللهم اجعلنا أشداء على الكفار رحماء بيننا اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص: 683