المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حال من عبد المال - العبودية

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ حال من عبد المال

تعس وانتكس فَلَا نَالَ الْمَطْلُوب وَلَا خلص من الْمَكْرُوه وَهَذِه‌

‌ حَال من عبد المَال

وَقد وصف ذَلِك بِأَنَّهُ إِذا أعطي رَضِي وَإِن منع سخط كَمَا قَالَ تَعَالَى [58 التَّوْبَة] : {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون} فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله.

وَهَكَذَا حَال من كَانَ مُتَعَلقا برئاسة أَو بِصُورَة - وَنَحْو ذَلِك من أهواء نَفسه - إِن حصل لَهُ رَضِي وَإِن لم يحصل لَهُ سخط فَهَذَا عبد مَا يهواه من ذَلِك وَهُوَ رَقِيق لَهُ إِذْ الرّقّ والعبودية فِي الْحَقِيقَة هُوَ رق الْقلب وعبوديته فَمَا اسْترق الْقلب واستعبده فَهُوَ عَبده.

وَلِهَذَا يُقَال:

العَبْد حر مَا قنع

وَالْحر عبد مَا طمع

وَقَالَ الشَّاعِر:

أطعتُ مطامعي فاستعبدتني

وَلَو أَنِّي قنعت لَكُنْت حرًّا

وَيُقَال: الطمع غل فِي الْعُنُق قيد فِي الرجل فَإِذا زَالَ الغل من الْعُنُق زَالَ الْقَيْد من الرجل.

ص: 81

ويروى عَن عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ: الطمع فقر واليأس غنى وَإِن أحدكُم إِذا يئس من شئ اسْتغنى عَنهُ.

وَهَذَا أَمر يجده الْإِنْسَان من نَفسه فَإِن الْأَمر الَّذِي ييأس مِنْهُ لَا يَطْلُبهُ وَلَا يطْمع فِيهِ وَلَا يبْقى قلبه فَقِيرا إِلَيْهِ وَلَا إِلَى من يَفْعَله وَأما إِذا طمع فِي أَمر من الْأُمُور ورجاه فَإِن قلبه يتَعَلَّق بِهِ فَيصير فَقِيرا إِلَى حُصُوله وَإِلَى من يظنّ أَنه سَبَب فِي حُصُوله وَهَذَا فِي المَال والجاه والصور وَغير ذَلِك قَالَ الْخَلِيل صلى الله عليه وسلم [17 العنكبوت] : {فابتغوا عِنْد الله الرزق واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ ترجعون} .

فَالْعَبْد لَا بُد لَهُ من رزق وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى ذَلِك فَإِذا طلب رزقه من الله صَار عبدا لله فَقِيرا إِلَيْهِ وَإِذا طلبه من مَخْلُوق صَار عبدا لذَلِك الْمَخْلُوق فَقِيرا إِلَيْهِ وَلِهَذَا كَانَت مَسْأَلَة الْمَخْلُوق مُحرمَة فِي الأَصْل وَإِنَّمَا أبيحت للضَّرُورَة وَفِي النهى عَنْهَا أَحَادِيث كَثِيرَة فِي " الصِّحَاح " و " السّنَن " و " المسانيد " كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم: " لَا تزَال الْمَسْأَلَة بأحدكم حَتَّى يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة وَلَيْسَ فِي وَجهه مزعه لحم " وَقَالَ: " من سَأَلَ النَّاس وَله مَا يُغْنِيه جَاءَت

ص: 82

مَسْأَلته يَوْم الْقِيَامَة خدوشا أَو خموشا أَو كدوشا فِي وَجهه " وَقَوله: " لَا تحل الْمَسْأَلَة إِلَّا لذِي غرم مفظع أَو دم موجع أَو فقر مدقع " وَهَذَا الْمَعْنى فِي " الصَّحِيح " وَفِيه أَيْضا: " لِأَن يَأْخُذ أحدكُم حبله فَيذْهب فيحتطب خير لَهُ من أَن يسْأَل النَّاس أَعْطوهُ أَو منعُوهُ " وَقَالَ: " مَا أَتَاك من هَذَا المَال وَأَنت غير سَائل وَلَا مستشرف فَخذه وَمَا لَا فَلَا تتبعه نَفسك " فكره أَخذه مَعَ سُؤال اللِّسَان واستشراف الْقلب وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح: " من يسْتَغْن يغنه الله وَمن يستعف يعفه الله وَمن يتصبر يصبره الله وَمَا أعطي أحد عَطاء خيرا وأوسع من الصَّبْر ".

ص: 83

وَأوصى خَواص أَصْحَابه أَلا يسْأَلُوا النَّاس شَيْئا وَفِي " الْمسند ": (أَن أَبَا بكر كَانَ يسْقط السَّوْط من يَده فَلَا يَقُول لأحد: ناولني إِيَّاه وَيَقُول: إِن خليلي أَمرنِي أَلا أسأَل النَّاس شَيْئا) وَفِي " صَحِيح مُسلم " وَغَيره عَن عَوْف بن مَالك أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَايعه فِي طَائِفَة وَأسر إِلَيْهِم كلمة خُفْيَة: " أَن لَا يسْأَلُوا النَّاس شَيْئا " فَكَانَ بعض أُولَئِكَ النَّفر يسْقط السَّوْط من يَد أحدهم وَلَا يَقُول لأحد: ناولني إِيَّاه.

وَقد دلّت النُّصُوص على الْأَمر بِمَسْأَلَة الْخَالِق وَالنَّهْي عَن مَسْأَلَة الْمَخْلُوق فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى [7 الشَّرْح] : {فَإِذا فرغت فانصب * وَإِلَى رَبك فارغب} وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم لِابْنِ عَبَّاس: " إِذا سَأَلت فأسال الله واذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه " وَمِنْه قَول الْخَلِيل [17 العنكبوت] : {فابتغوا عِنْد الله الرزق} وَلم يقل: فابتغوا الرزق عِنْد الله لِأَن تَقْدِيم الظّرْف يشْعر بالاختصاص والحصر كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَبْتَغُوا الرزق إِلَّا عِنْد الله وَقد قَالَ تَعَالَى [32 النِّسَاء] : {واسألوا الله من فَضله} .

ص: 84

وَالْإِنْسَان لابد لَهُ من حُصُول مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الرزق وَنَحْوه وَدفع مَا يضرّهُ وكلا الْأَمريْنِ شرع لَهُ أَن يكون دعاؤه لله فَلَا يسْأَل رزقه إِلَّا من الله وَلَا يشتكي إِلَّا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ يَعْقُوب عليه السلام [86 يُوسُف] : {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} .

وَالله تَعَالَى ذكر فِي الْقُرْآن الهجر الْجَمِيل والصفح الْجَمِيل وَالصَّبْر الْجَمِيل وَقد قيل: إِن الهجر الْجَمِيل هُوَ هجر بِلَا أَذَى والصفح الْجَمِيل صفح بِلَا معاتبة وَالصَّبْر الْجَمِيل صَبر بِغَيْر شكوى إِلَى الْمَخْلُوق وَلِهَذَا قرئَ على أَحْمد بن حَنْبَل فِي مَرضه: إِن طاوسا كَانَ يكره أَنِين الْمَرِيض وَيَقُول: إِنَّه شكوى فَمَا أنّ أَحْمد حَتَّى مَاتَ.

وَأما الشكوى إِلَى الْخَالِق فَلَا تنَافِي الصَّبْر الْجَمِيل فَإِن يَعْقُوب قَالَ [83 يُوسُف] : {فَصَبر جميل} وَقَالَ [86 يُوسُف] : {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} .

وَكَانَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه يقْرَأ فِي الْفجْر بِسُورَة يُونُس ويوسف والنحل فَمر بِهَذِهِ الْآيَة فِي قِرَاءَته فَبكى حَتَّى سمع نَشِيجه من آخر الصُّفُوف.

ص: 85

وَمن دُعَاء مُوسَى: " اللَّهُمَّ لَك الْحَمد وَإِلَيْك المشتكى وَأَنت الْمُسْتَعَان وَبِك المستغاث وَعَلَيْك التكلان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك ". وَفِي الدُّعَاء الَّذِي دَعَا بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما فعل بِهِ أهل الطَّائِف مَا فعلوا: " اللَّهُمَّ إِلَيْك أَشْكُو ضعف قوتي وَقلة حيلتي وهواني على النَّاس يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ أَنْت رب الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنت رَبِّي اللَّهُمَّ إِلَى من تَكِلنِي؟ إِلَى بعيد يتجهمني أم إِلَى عَدو ملكته أَمْرِي؟ إِن لم يكن بك غضب عَليّ فَلَا أُبَالِي غير أَن عافيتك أوسع لي أعوذ بِنور وَجهك الَّذِي أشرقت بِهِ الظُّلُمَات وَصلح عَلَيْهِ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَن ينزل بِي سخطك أَو يحل عَليّ غضبك لَك العتبى حَتَّى ترْضى فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه " وَفِي بعض الرِّوَايَات: " وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك ".

وَكلما قوي طمع العَبْد فِي فضل الله وَرَحمته ورجائه لقَضَاء حَاجته وَدفع ضَرُورَته قويت عبوديته لَهُ وحريته مِمَّا سواهُ فَكَمَا أَن طمعه فِي الْمَخْلُوق يُوجب عبوديته لَهُ فيأسه مِنْهُ يُوجب غنى قلبه

ص: 86

نَظِيره، وَأفضل على من شِئْت تكن أميره، وَاحْتج إِلَى من شِئْت تكن أسيره. فَكَذَلِك طمع العَبْد فِي ربه ورجاؤه لَهُ يُوجب عبوديته لَهُ وإعراض قلبه عَن الطّلب من الله والرجاء لَهُ يُوجب انصراف قلبه عَن الْعُبُودِيَّة لله لَا سِيمَا من كَانَ يَرْجُو الْمَخْلُوق ولايرجو الْخَالِق بِحَيْثُ يكون قلبه مُعْتَمدًا إِمَّا على رئاسته وَجُنُوده وَأَتْبَاعه ومماليكه وَإِمَّا على أَهله وأصدقائه وَإِمَّا على أَمْوَاله وذخائره وَإِمَّا على ساداته وكبارئه كمالكه وَملكه وَشَيْخه ومخدومه وَغَيرهم مِمَّن هُوَ قد مَاتَ أَو يَمُوت قَالَ تَعَالَى [58 الْفرْقَان] :{وتوكل على الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت وَسبح بِحَمْدِهِ وَكفى بِهِ بذنوب عباده خَبِيرا} .

وكل من علق قلبه بالمخلوقين أَن ينصروه أَو يرزقوه أَو أَن يهدوه خضع قلبه لَهُم وَصَارَ فِيهِ من الْعُبُودِيَّة لَهُم بِقدر ذَلِك وَإِن كَانَ فِي الظَّاهِر أَمِيرا لَهُم مُدبرا لأمورهم متصرفا بهم فالعاقل ينظر إِلَى الْحَقَائِق لَا إِلَى الظَّوَاهِر فالرجل إِذا تعلق قلبه بِامْرَأَة وَلَو كَانَت مُبَاحَة لَهُ يبْقى قلبه أَسِيرًا لَهَا تحكم فِيهِ وتتصرف بِمَا تُرِيدُ وَهُوَ فِي الظَّاهِر سَيِّدهَا لِأَنَّهُ زَوجهَا أَو مَالِكهَا وَلكنه فِي الْحَقِيقَة هُوَ أَسِيرهَا ومملوكها وَلَا سِيمَا إِذا علمت بفقرة إِلَيْهَا وعشقه لَهَا وَأَنه لَا يعتاض عَنْهَا بغَيْرهَا فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تتحكم فِيهِ تحكم السَّيِّد القاهر الظَّالِم فِي عَبده المقهور الَّذِي لَا يَسْتَطِيع الْخَلَاص مِنْهُ بل أعظم فَإِن أسر الْقلب أعظم من أسر الْبدن واستعباد الْقلب أعظم من استعباد الْبدن فَإِن من استبعد بدنه واسترق وَأسر لَا يُبَالِي إِذا كَانَ قلبه

ص: 87

مستريحًا من ذَلِك مطمئنًا، بل يُمكنهُ الاحتيال فِي الْخَلَاص.

وَأما إِذا كَانَ الْقلب الَّذِي هُوَ ملك الْجِسْم رَقِيقا مستعبدا متيما لغير الله فَهَذَا هُوَ الذل والأسر الْمَحْض والعبودية الذليلة لما استعبد الْقلب.

وعبودية الْقلب وأسره هِيَ الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الثَّوَاب وَالْعِقَاب فَإِن الْمُسلم لَو أسره كَافِر أَو استرقه فَاجر بِغَيْر حق لم يضرّهُ ذَلِك إِذا كَانَ قَائِما بِمَا يقدر عَلَيْهِ من الْوَاجِبَات وَمن استعبد بِحَق إِذا " أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه فَلهُ أَجْرَانِ " وَلَو أكره على التَّكَلُّم بالْكفْر فَتكلم بِهِ وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان لم يضرّهُ ذَلِك وَأما من استُعبد قلبه فَصَارَ عبدا لغير الله فَهَذَا يضرّهُ ذَلِك وَلَو كَانَ فِي الظَّاهِر ملك النَّاس.

فالحرية حريَّة الْقلب والعبودية عبودية الْقلب كَمَا أَن الْغنى غنى النَّفس قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: " لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض وَإِنَّمَا الْغنى غنى النَّفس ".

وَهَذَا لعَمْرو الله إِذا كَانَ قد استبعد قلبه صُورَة مُبَاحَة. فَأَما من استعبد قلبه صُورَة مُحرمَة امْرَأَة أَو صبي فَهَذَا هُوَ الْعَذَاب الَّذِي لَا يدانيه عَذَاب.

ص: 88

وَهَؤُلَاء عشاق الصُّور، من أعظم النَّاس عذَابا وَأَقلهمْ ثَوابًا، فَإِن العاشق لصورة إِذا بَقِي قلبه مُتَعَلقا بهَا مستعبدا لَهَا اجْتمع لَهُ من أَنْوَاع الشَّرّ وَالْفساد مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا رب الْعباد وَلَو سلم من فعل الْفَاحِشَة الْكُبْرَى فداوم تعلق الْقلب بهَا بِلَا فعل الْفَاحِشَة أَشد ضَرَرا عَلَيْهِ مِمَّن يفعل ذَنبا ثمَّ يَتُوب مِنْهُ وَيَزُول أَثَره من قلبه وَهَؤُلَاء يشبّهون بالسكارى والمجانين كَمَا قيل:

سُكران سُكر هوى وسُكر مدامة

وَمَتى إفاقة من بِهِ سُكران؟

وَقيل:

قَالُوا جُننتَ بِمن تهوى فَقلت لَهُم

الْعِشْق أعظم مِمَّا بالمجانين

الْعِشْق لَا يستفيق الدهرَ صاحبُه

وَإِنَّمَا يُصرع الْمَجْنُون فِي حِين

ص: 89

وَمن أعظم أَسبَاب هَذَا الْبلَاء إِعْرَاض الْقلب عَن الله فَإِن الْقلب إِذا ذاق طعم عبَادَة الله وَالْإِخْلَاص لَهُ لم يكن عِنْده شَيْء قطّ أحلى من ذَلِك وَلَا ألذ وَلَا أمتع وَلَا أطيب وَالْإِنْسَان لَا يتْرك محبوبا إِلَّا بمحبوب آخر يكون أحب إِلَيْهِ مِنْهُ أَو خوفًا من مَكْرُوه فالحب الْفَاسِد إِنَّمَا ينْصَرف الْقلب عَنهُ بالحب الصَّالح أَو بالخوف من الضَّرَر.

قَالَ تَعَالَى فِي حق يُوسُف [24 يُوسُف] : {كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين} فَالله يصرف عَن عَبده مَا يسوؤه من الْميل إِلَى الصُّور والتعلق بهَا وَيصرف عَنهُ الْفَحْشَاء بإخلاصه لله وَلِهَذَا يكون قبل أَن يَذُوق حلاوة الْعُبُودِيَّة لله وَالْإِخْلَاص لَهُ بِحَيْثُ تغلبة نَفسه على اتِّبَاع هَواهَا فَإِذا ذاق طعم الْإِخْلَاص وَقَوي فِي قلبه انقهر لَهُ هَوَاهُ بِلَا علاج.

قَالَ تَعَالَى [45 العنكبوت] : {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَلذكر الله أكبر} فَإِن الصَّلَاة فِيهَا دفع مَكْرُوه وَهُوَ الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وفيهَا تَحْصِيل مَحْبُوب وَهُوَ ذكر الله وَحُصُول هَذَا المحبوب أكبر من دفع ذَلِك الْمَكْرُوه فَإِن ذكر الله عبَادَة لله وَعبادَة الْقلب لله مَقْصُودَة لذاتها وَأما اندفاع الشَّرّ عَنهُ فَهُوَ مَقْصُود لغيره على سَبِيل التبع.

وَالْقلب خلق يحب الْحق ويريده ويطلبه فَلَمَّا عرضت لَهُ

ص: 90

إِرَادَة الشَّرّ طلب دفع ذَلِك فَإِنَّهَا تفْسد الْقلب كَمَا يفْسد الزَّرْع بِمَا ينْبت فِيهِ من الدغل.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى [9-10 الشَّمْس] : {قد أَفْلح من زكاها * وَقد خَابَ من دساها} وَقَالَ تَعَالَى [14-15 الْأَعْلَى] : {قد أَفْلح من تزكّى * وَذكر اسْم ربه فصلى} وَقَالَ تَعَالَى [30 النُّور] : {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم ذَلِك أزكى لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى [21 النُّور] : {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكى مِنْكُم من أحد أبدا} فَجعل سُبْحَانَهُ غض الْبَصَر وَحفظ الْفرج هُوَ أقوى تَزْكِيَة للنَّفس وَبَين أَن ترك الْفَوَاحِش من زَكَاة النُّفُوس وَزَكَاة النُّفُوس تَتَضَمَّن زَوَال جَمِيع الشرور من الْفَوَاحِش وَالظُّلم والشرك وَالْكذب وَغير ذَلِك.

وَكَذَلِكَ طَالب الرِّئَاسَة والعلو فِي الأَرْض قلبه رَقِيق لمن يُعينهُ عَلَيْهَا وَلَو كَانَ فِي الظَّاهِر مقدمهم والمطاع فيهم فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة يرجوهم ويخافهم فيبذل لَهُم الْأَمْوَال والولايات ويعفوا عَمَّا يجترحونه ليطيعوه ويعينوه فَهُوَ فِي الظَّاهِر رَئِيس مُطَاع وَفِي الْحَقِيقَة عبد مُطِيع لَهُم.

وَالتَّحْقِيق أَن كِلَاهُمَا فِيهِ عبودية للْآخر وَكِلَاهُمَا تَارِك لحقيقة عبَادَة الله وَإِذا كَانَ تعاونهما على الْعُلُوّ فِي الأَرْض

ص: 91

بِغَيْر الْحق كَانَا بِمَنْزِلَة المتعاونين على الْفَاحِشَة أَو قطع الطَّرِيق فَكل وَاحِد من الشخصين لهواه الَّذِي استعبده واسترقه مستعبد للْآخر.

وَهَكَذَا أَيْضا طَالب المَال فَإِن ذَلِك يستعبده ويسترقه.

وَهَذِه الْأُمُور نَوْعَانِ:

مِنْهَا مَا يحْتَاج العَبْد إِلَيْهِ كَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من طَعَامه وَشَرَابه ومسكنه ومنكحه وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا يَطْلُبهُ من الله ويرغب إِلَيْهِ فِيهِ فَيكون المَال عِنْده يَسْتَعْمِلهُ فِي حَاجته بِمَنْزِلَة حِمَاره الَّذِي يركبه وبساطه الَّذِي يجلس عَلَيْهِ بل بِمَنْزِلَة الكنيف الَّذِي يقْضى فِيهِ حَاجته من غير أَن يستعبده فَيكون {هلوعا * إِذا مَسّه الشَّرّ جزوعا * وَإِذا مَسّه الْخَيْر منوعا} [19-21 المعارج] .

وَمِنْهَا مَا لَا يحْتَاج العَبْد إِلَيْهِ فَهَذَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يعلق قلبه بِهِ فَإِذا علق قلبه بِهِ صَار مستعبَدا لَهُ وَرُبمَا صَار مُعْتَمدًا على غير الله فَلَا يبْقى مَعَه حَقِيقَة الْعِبَادَة لله وَلَا حَقِيقَة التَّوَكُّل عَلَيْهِ بل فِيهِ شُعْبَة من الْعِبَادَة لغير الله وَشعْبَة من التَّوَكُّل على غير الله وَهَذَا من أَحَق النَّاس بقوله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدِّرْهَم تعس عبد الدِّينَار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة " وَهَذَا هُوَ عبد هَذِه الْأُمُور فَإِنَّهُ لَو

ص: 92