المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مدخل . … بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَل - العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين

[ابن غنام، حسين]

الفصل: ‌ ‌مدخل . … بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَل

‌مدخل

.

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.

تفرد _سبحانه_ بالوحدانية، وأبدى للعالمين آثارها، وتوحّد بالصمدانية، وأشرقت في السموات والأرض أنوارها، وأقرّ بألوهيته من سكن علوها وسفلها، وقفارها وبحارها {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء:22) الأحد الذي انفرد بالذات والصفات والأسماء، المتفرد بالقدرة القاهرة، والعظمة الباهرة، والجلال الأسمى، الذي أحسن كل شيء خلقه وأحاط به علما {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلمُ مَا تَكْسِبُونَ} (الأنعام:3) شهدت مصنوعاته بوحدته في الخلق والأمر وانفراده، وجرت أحكامه فيها على وفق مراده، {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:2) المتنزه عن مشابهة المحدثات صفاته، المتعالية عما لا يليق لعظيم سلطانه ذاته، وقامت بالحجة على ذلك آياته {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} (يونس:6) القيوم الذي بحكمته وتدبيره حسن نظام الوجود، والقائم بما يحتاج إليه كلّ موجود. فالهالك من اتّخذ من خلقه (معبودا) (1) {أَمْ لهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} (الأنبياء:43) فسبحانه من إله؛ ملك الوجود بأسره، وتضاءل من فيه تحت جبروته وقهره، وانقاد خضعاناً لهيبته وأمره، {وَلهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لهُ قَانِتُونَ} (الروم:26) .

(1) في المخطوط (معبود) والصواب ما أثبتناه لأنها منصوبة.

ص: 17

أحمده وهو المحمود في جميع فعاله، على ما أولى من جوده ونواله، وأشكره على إحسانه وإفضاله، فتعساً لقوم يعرفون نعمة الله ثم ينكرون {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ لهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلهُ الْحُكْمُ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص:70) .

وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا معبود بحقٍّ سواه، فقد ضلَّ من عدل به المخلوق وساوى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَاّ الْمُجْرِمُونَ} (الشعراء:98-99) وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ونبيه، الذي خصَّه بالرسالة واصطفاه، شهادة أرجو بها الفوز والنجاة، يوم يعرف المجرم بسيماه، وينادي المنادي {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} (الصافات:22) وأصلي وأسلم على محمد الذي بعث للعالمين رحمة، يتلوا عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويجدد الحنيفية، ويزيل عنها كل وصمة (1) وعلى آله وصحبه خير القرون، المنزَّل في حقَّهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: من الآية 110) وتحقَّقوا بمصداق {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُمْ بِأَنَّ لهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (التوبة: من الآية 111) صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم يبعثون.

أما بعد:

فإن الله جل جلاله إنما خلق السماوات والأرض، وذرأ من فيهن بالطول والعرض، للقيام بوظائف العبودية؛ امتثالاً لأمره اللازم الفرض

(1) قوله (وصمة) أي عيب وعار (قاله في مختار الصحاح) .

ص: 18

{وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) فمن فضله لم يتركهم سدى، لا يفرقون بين الضلالة والهدى، ولا يعلمون الرشد من الردى، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَليْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص:59) فأرسل إليهم رسله الكرام قطعاً للحجة، فرفعوا قواعد المحجة، ومهدوا سبيل التوحيد ونهجه، فاختار الأكثر طريق الشرك وفجَّه {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف:106) .

وخصَّ سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام بأوَّل الرسالة، فدعا قومه إلى إخلاص العبادة لمن لا تصلح إلا له، فسبُّوه ونسبوه إلى الضلالة، وقابلوه بأقبح المقالة {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشعراء:111) {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل: من الآية 113) ثم ختم النبوة والرسالة بصفوة النبيين والمرسلين، وخيرته من الخلق أجمعين {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُول اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب:40) {هُوَ الَّذِي أَرْسَل رَسُولهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف:9) فقام بأعباء الرسالة عبده ورسوله محمد المصطفى، فأتى قومه صلى الله عليه وسلم وهم من حفرة النار على شفا، فدعاهم إلى ما ينالون به في الدارين عزّاً وشرفاً، ملَّة أبيهم إبراهيم إمام الحنفاء {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:132) بعثه الله تعالى إلى كافة الخلق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى التوحيد بإذنه وسراجاً منيراً، فقال

ص: 19

تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّل الْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) وقال تعلى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف:158) وأيده بمعجزات أعظمها القرآن، الذي أخرست أقصر سورة منه كل لسان، فرجع عن معارضتها خاسئاً وحسيراً {قُلْ لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء:82){فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} (النساء:55){وَإِنَّهُ لذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:44) .

فلما أعلن فيهم بالكلمة العظيمة الشأن، التي خلقت لها السماوات والأرض والإنس والجان، المتضمنة للتوحيد والإيمان، وإبطال عبادة الأصنام والأوثان، أصروا على الكفر والضلال والطغيان {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيل لهُمْ لا إِلهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات:35-36) {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (المؤمنون:70) وتمالؤا على الشرك والغي والفساد، ولزموا منهج البغي والعناد، {وَانطَلقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لشَيْءٌ يُرَادُ} (ص:6) {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} (يس:74-75) أعرضوا عن السميع المجيب، الإله القادر القريب، وطلبوا من العاجز الشفاعة والتقريب {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: من الآية 18) {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ

ص: 20

لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: من الآية 3) .

فلم يبرح صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الكلمة الجامعة، ويهديهم للتي هي أقوم، وهي الملة الحنيفية الساطعة، ويجاهدهم بالآيات والبراهين القاطعة، وأكثرهم بها يكذبون {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: من الآية 71) وهدى الله تعالى عباده المؤمنين إلى الصراط المستقيم، فآمنوا به وعزروه، ونصروا دينه القويم، فنالوا بذلك الفوز العظيم {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (التوبة:21) {لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (التوبة:88) .

فجد صلى الله عليه وسلم في الإعلان بالدعوة، واستمرّ، وجاهد هو وصحبه من أعرض عن التوحيد ونفر، لا يبالون بما ينالون من الأذى والمحنة والضرر، ممَّن أبى عن الحقِّ وتولى وكفر {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وَلا تَسْتَعْجِلْ لهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} (الأحقاف: من الآية 35) {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات:174-175) فلم يزل هو وأتباعه يلقون من قومهم ما يلقون، ويفتنون في ذات الله ويؤذون، فيصبرون على ذلك ويرضون {أَلم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:2) إلى أن أذن الله تعالى أن يعلي كلمته، وينصر دينه، ويمد في سائر الأقطار تمكينه، ويعمم ظهوره وتبيينه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالمهاجرة إلى المدينة فهاجر صلى الله عليه وسلم إليها، وتتابع على ذلك المهاجرون {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال:33) .

فشرع الله تعالى لنبيه الجهاد، وفرض عليه قتال أهل الشرك

ص: 21

والضلال والإلحاد، ووعده النصر والتمكين، والله لا يخلف الميعاد {إِنَّهُمْ لهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات:172-173) .

فنهد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحماة الكماة (1) الأبطال، مسارعين لأداء الأمر في الامتثال، مشرعين أسنَّة زرقا كأنياب أغوال (2)، راجين جزيل الثواب في القتال {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلمُونَ كَمَا تَأْلمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:104) فأصبحت لوامع مرهفاتهم لغياهب الكفر جالية، لما بذلوا في سبيله النفوس الغالية، فمنحهم مولاهم الدرجات العالية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169) فرفع الله قواعد المة السمحاء، وهدَّ دعائم العوجاء، وأبدلها صبحاً، وتوالت الفتوح على أهل الإسلام فتحاً، وحقَّق الله تعالى لهم من مأمولهم نجحاً {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَليُمَكِّنَنَّ لهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لهُمْ وَليُبَدِّلنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) .

فلما أكمل الله تعالى لأمته الدين، وأتمَّ نعمته على المسلمين، أتاه من ربه اليقين {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء:34) فلم تزل أعلام الإسلام في خلافة خلفائه مرفوعة مشهورة، وألوية التوحيد في الأمصار منصوبة منشورة، وعساكرهم على عداتههم منصورة، وعداتهم بالذلِّ مقهورة، وجنود الردى

(1) أي الشجاع المقدام الجريء، كان عليه سلاح أو لم يكن. انظر: المعجم الوجيز ص542.

(2)

أغوال مفردها غول بالضم من السعالى وتجمع غيلان. مختار الصحاح ص427.

ص: 22

مهزومة مكسورة، وهم في سبيل الله لأعدائه يجاهدون، إلى أن مضى كل منهم إلى السبيل، وانقضى ذلك الجيل، فوقع التغيير في الدين والتبديل، بظهور القوم الذين أخبر الصادق أنهم من الذين يمرقون، وعمَّت الفتن، وكثرت أنصارها، وطمت المحن، وربت أصهارها، وتمت على ذلك الأعصار أعصارها {أَفَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَليْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر:8) وعمرت البدع، وشيدت ربوعها، وأسست أصولها، فامتدت فروعها، وحلَّت بكل ناحية من الأمصار جموعها {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام:159) فما برحت شبه البدع في القلوب دابَّة، ونار الأهواء مضرمة شابَّة، وعواصف الضلال على من أراد الله تعالى خذلانه هابَّة {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ ليَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:36-37) حتى مضى سادس القرون، فتفاقم الأمر والحال، وتعاظم التعصب للباطل والمحال، وتراكم سحاب المراء والجدال، ولكن طائفة الحق منصورة لا تزال، فليسوا على الضلالة يجتمعون {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: من الآية 108) فما زالت في ازدياد تلك الدعوى، وفي اتقاد تلك البدع والأهواء (1) ، إلى منتصف القرن الثاني عشر الذي جلت فيه البلوى، وحلت البدع فيه والشرك عرى التوحيد والتقوى، والأكثر فيه متمسك من ملة آبائه بالسبب الأقوى {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

(1) في المخطوط (الأهواء) والصواب ما أثبتناه.

ص: 23

مُهْتَدُونَ} (الأعراف: من الآية 30) فشرح الله صدر من وفّقه للإسلام وهداه، وأبان له سنن رشده وهداه، وأوضح له سبيل الهدى، فقام ممتثلاً لأمر مولاه؛ شكرا لما منحه من العلم وأولاه، منكرا على من كانوا بربهم يشركون، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ} (البقرة:159) .

وهو شيخ المسلمين، وقدوة الموحدين، وغرَّة العلماء العاملين (الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ، الذي أزال الله تعالى به ظلام الشرك والشكِّ والارتياب، وأزاح به من ركام الباطل كل سحاب، وكشف عن الدين الحقِّ كثيف الحجاب، بعدما انقطعت دونه الأسباب، وسد عن التوصل إليه كل باب، وواراه الافتراق والشِّقاق في التراب، ونودي على التوحيد بالغربة والاغتراب، جعله الله تعالى من عباده الذين يوم القيامة ينادون {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَليْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} (الزخرف:68-70) . ذلك أنه لما أشرقت له من الهداية أنوارها، ولمعت له من الآيات المحكمات أسرارها، وتجلى له من العناية صبحها وأسفارها، ورأى أكثر الناس وما يعتقدون، وما يتخذون من الأرباب دونه ويبغون، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَليْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الأنعام:164) .

شمَّر عن ساعد الجد إذ لم يجد بدّاً، وأعلن بتكفير من جعل من دون ربه نداًّ، وقام بإخلاص الدعوة وقال:{لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} (مريم:89){إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (مريم:93) والذين تدعون من دون الله لا يستجيبون، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا

ص: 24

يَسْتَجِيبُ لهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (الأحقاف:5){قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأنعام:40) .

فلم يزل رحمه الله تعالى يدعو إلى منهاج الهدى، ويجادل بالتي هي أحسن أهل الردى ويتلو عليهم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} (الجاثية: من الآية 6)(فأبى)(1) قومه عن ذلك وصدوا، وعارضوه بالباطل وردوا، واجتهدوا في عداوته والبطش به وجدوا، وقالوا {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: من الآية 22) فحاق بهم ما كانوا به يمكرون {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} (الزخرف:79) بل أخرجوه من الديار، وحكموا بأنه من الخوارج والكفار، ولم يكن لهم بالذكر الحكيم اعتبار {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يّس:9) فخسر الخسران المبين من أعرض عن التوحيد والدين، وباء باعذاب المهين {وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة:22) فأووه وعزَّروه وكانوا له أنصاراً، من سبقت لهم السعادة والشرف والفخار، وكتب لهم التمكين والظهور على الأعداء والانتصار، والاستخلاف والاستيلاء على ممالك الملوك الذين يحاربون {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَليْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلبُونَ} (لأنفال: من الآية 36) .

وذلك أنه لما أخرج من البلاد ليقضي الله أمره الذي لا دافع له ولا راد، وينيل من ساعده الإسعاد، ويبدلهم السعة والنعمة بعد الضيق

(1) في المخطوط (فأبوا) ما أثبته.

ص: 25

والضنك والإنكاد، آواه (محمد (1) والد الإمام عبد العزيز) (2) وإخوته وقرابته الأنجاد، وبذلوا في نصرته طريف المال والتلاد، وجردوا مرهفات المواضي للجلاد، ولم يبالوا بما سار إليهم من العساكر والأجناد، والملوك عليهم يحزبون {لنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَاّ أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} (آل عمران:111) وقاموا معه على الناس في إخلاص الدعوة لله التي هي سبيل الهداية والنجاة من المهالك في الغواية، صابرين على ما ينالهم من الأذية، مستشعرين مضمون هذه الآية {وَمَا لنَا أَلَاّ نَتَوَكَّل عَلى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلنَا وَلنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (إبراهيم:12) .

فما زالوا معه داعين وهم في علو ونصر وتمكين على جميع المعتدين وجبابرة الملوك المحزبين، حتى أتاه رحمه الله اليقين، وقد جاوز بضعا وثمانين من السنين {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر:30-31) فلم يبرحوا بعد في ازدياد، واتساع ملك وامتداد، واستيلاء على كثير من البلاد، وعداتهم من بأسهم يهربون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:117) .

هذا ولما كان الإمام عبد العزيز بن سعود (3) ، وابنه سعود (4) آمين

(1) هو الإمام محمد بن سعود بن محمد بم مقرن، ناصر الإمام محمد بن عبد الوهاب حتى مكِّن لهم في الأرض: توفي سنة 1179هـ. الدرر (16/347) .

(2)

عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله، الإمام الراشد، والملك القائد، ولد سنة 1133هـ في الدرعية، وتوفي سنة 1218هـ طعنه رافضي في أثناء صلاة العصر، فقبَّح الله الرافضة، ما أفجرهم وأغدرهم! انظر الدرر (16/356) .

(3)

عبد العزيز بن سعود هو نفسه عبد العزيز بن محمد فهو أحيانا ينسب إلى جده.

(4)

سعود بن عبد العزيز بن محمد ويعرف بسعود الكبير، ولد سنة 1163هـ، وتوفي سنة 1229هـ. الأعلام (3/90) .

ص: 26

الجيوش والجنود، والإمام يعده بالبيعة المحكمة العقود، بلّغهم الله تعالى كل مأمول ومقصود، وكبت كل عدو لهم وحسود، على نشر العلم وتعليم الناس والدخول في الدين يحرصون {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104) .

فعنَّ لعبد العزيز _حفظه الله_ أن تُجمع الأحاديث التي هي أصول الإسلام والإيمان، ويضم ما يناسبها من آيات القرآن، وجاءت الإشارة إليَّ بشرحها، والكلام على ما تحتاج إليه من البيان مع الإيجاز الذي لا يخلُّ بالتبيان؛ لتسهيل الدين الذي لا يُقبل سواه من كلِّ إنسان، ولعلَّ الناس في دينهم يتفقَّهون {فَلوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِليْهِمْ لعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: من الآية 122) فبادرت أمره بالامتثال والقبول، وجعلت الكلام عليها في رسالة حاوية لسبعة فصول، عدد كلمات لا إله إلا الله محمد رسول الله، لأن (لا) كلمة و (إله) كلمة و (إلا) كلمة و (الله) كلمة و (محمد) كلمة و (رسول) كلمة و (الله) كلمة، وأعضاء المكلفين سبعة، وأبواب جهنم سبعة، وأرجو أن يكون لي بكل فصلٍ منمها حجاب عنها يوم الكفار وأهل البدع إلى أبوابها يدعون، ويكبكبون فيها هم والغاوون {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء:101) ، وسميتها (العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين) . وأرجو بها القربة إلى الله، والوصول والفوز في الدارين بالمأمول، وأن تتلقى بالإقبال والقبول، فالعلم النافع أفضل ما يتقرب به المتقربون {مَنْ عَمِل صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)

ص: 27

والمأمول ممن تصفح هذه الأوراق، وسرَّح في روضها الأحداق، وكان له بآداب العلم اعتلاق، ومن صافي شراب العلماء كأس دهاق، وجنى من يانع أثمارها، واقتطف من شميم أزهارها، واقتبس من لامع أنوارها، أن يستر ما رأى من عوارها، فذلك من مكارم الأخلاق، وأهلها للمساوي يسترون {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37) ، مع أنها وإن كانت في ذاتها جميلة، فقد برزت شعثاء من غير تحسين ولا تجميل، وصدرت وركاب حملتها مناخة للسفر بها والرحيل، ورسل الإمام تحثُّني في البكرة والأصيل، وتحضني على الإنجاز والتعجيل، وعدم الإطناب في الكلام والتطويل، والذهن بعد تغيُّر الحال وتكدر البال كليل، {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: من الآية 32) {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى:36) .

وما ذكر من حال الشيخ ومبدأ عمره وأخباره، وسيرة الإمام وأولاده وأصهاره، وكافة عصابته وأنصاره، سوى شذرة، تكون للمسترشد عبرة؛ لأن هذه ليست مصنفة لذلك، ولا تدخل من التاريخ والمغازي في مسالك، فمن أراد تفصيل ما جرى، وما نالوا من الممالك، فعليه بمطالعة التاريخ المسمى (بروضة الأفكار والأفهام) ؛ فإنه في الحقيقة حديقة الحقائق، ورقائق الحدايق والعيون.

ص: 28

الفصل الأول: فيما جاء في الإسلام أنه دين الله الذي لا يقبل سواه

قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران:18-19) .

وقول الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلهُ أَسْلمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِليْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِل عَليْنَا وَمَا أُنزِل عَلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلن يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:83-85) .

وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 130-132)

وقال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِل إِليْنَا وَمَا أُنزِل إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:136-137) .

وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ للَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِين

ص: 31

آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:67-68) .

وقال جل جلاله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِليْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:120-123) .

وعن الزبير ابن العوام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)(آل عمران:18) فقال: "وأنا على ذلك من الشاهدين يا ربِّ". رواه الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام (2) .

ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر قال: حدثنا علي بن حسين، حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني، قال: حدثنا عمر بن حفص بن ثابت، حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ} قال: "وأنا أشهد أي رب"3.

(1) توجد حاشية هنا وهي (قال العلامة ابن القيم رحمه الله وآباءنا والمسلمين في المدارج (3/450) "اختلفت عبارات السلف رحمهم الله في قوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ} قيل: حكم، وقيل: قضى، وقيل: علم، وقيل: بيّنا، وقيل: أخبر، قال مجاهد: في الآية: حكم وقضى. فتضمنت الآية إثبات حقيقة التوحيد، والردُّ على جميع الطوائف والشهادة ببطلان أقوالهم ومذاهبهم، فتضمَّنت أجلَّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأفضلها وأصدقها، من أجلِّ شاهد، وأجلِّ مشهود. انتهى) بتصرف

(2)

رواه أحمد (1/166) .

(3)

أنظر تفسير ابن كثير (1/353)

ص: 32

وروى الطبراني في معجمه بسنده إلى غالب القطان أنه سمع الأعمش يتهجد من الليل فمر بهذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} فقال: وأنا أشهد الله بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} قالها مرارا، وذكر أنه سأله هل سمع فيها شيئاً فقال: أو ما بلغك ما فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إلي، وأنا أحقُّ من وفَّى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة"(1) وفي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، المروي عن جماعة من الصحابة، وخرَّجاه في الصحيحين، وفي آخره:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم"(2) ويعلم مطابقة ودلالة لما ذكرنا أقول: هذه الآيات المحكمات بكفر الكتابيين والمشركين من الأميين حاكمة، وبراهينها القاطعة لظهورهم قاصمة، وكفى بأصدق الشاهدين والقائلين شهيداً وبما تضمنته للعادلين عنها وعيداً، شهد سبحانه سبحانه وتعالى أنه المنفرد بالألوهية بجميع الخليقة، وأن الموجودات علوها وسفلها جميعهم عبيده وخلقه والفقراء إليه في الحقيقة، وأنه الغني عمن سواه، وله الغناء المطلق العام، والفضل السابغ التام، كما قال تعالى:{لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَل إِليْكَ أَنْزَلهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء:166) ثم قرن تعالى شهادة

(1) رواه الطبراني في امعجمه الكبير (10/245) ورقمه (10453) قال في المجمع (6/326) وفيه عمر بن المختار، وهو ضعيف.

(2)

رواه البخاري ورقمه (50) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم ورقمه (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 33

ملائكته والعاملين بالعلم من حملته، بشهادة ذاته العلية، وفيها للعلماء منقبة جلية، وبيَّن وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها، وكرَّر ذلك بقوله:{لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ} للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلَّة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجّة، العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياءً، الحكيم في أفعاله، وأقواله، وشرعه، وقدره (1) .

وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} اتَّفقت كلمة أهل الحقِّ من السلف والخلف ومن بعدهم على ما تضمنه هذا الإخبار من الله أن الدين عنده الإسلام، ولا يقبل من أحد سواه، وهو اتِّباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين من أولهم حتى ختمهم بأفضل النبيين محمد سيِّد المرسلين، فسدَّ الله تعالى جميع الطرق إليه، إلَاّ من جهة نبينا (فمن لقي الله تعالى بعد إرسال محمد وبعثته، بدين غير دينه وشرعته، فهو من الضالين الهالكين. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلام دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85) .

ثم أخبر جل جلاله أن الذين آتوا الكتاب إنما اختلفوا بعد ما قامت الحجّة عليهم، بإنزال الكتب وإرسال الرسل إليهم، بغى بعضهم على بعض، وحملهم على ذلك الحسد والبغض، فاختلفوا في الحق للتدابر والتحاسد، وآل بهم الحال إلى مخالفته في الأقوال والأفعال والتجاحد، ومن جحد بما أنزله الله في الكتاب، فإن الله يجازيه على ذلك يوم الحساب، ويعذبه أشد العذاب. (2)

وقوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} أي جادلوك في التوحيد {فَقُلْ

(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/18، 19) .

(2)

انظر: تفسير ابن كثير (2/19، 20) .

ص: 34

أَسْلمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي: فقل: أخلصت لله العبادة بأنواعها، وتبرَّأت من ملَّة الشرك واتِّباعها، وكفرت بما يعبد من أتباعها. وقد ختم هذه الآية بقوله:{فَإِنْ أَسْلمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَليْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: من الآية 20) يعني أن الله يهدي من يشاء برحمته وفضله، ويضلُّ من يشاء بإرادته وعدله، له في ذلك الحكمة البالغة القاهرة. وقوله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (آل عمران:83) أنكر سبحانه وتعالى على من أراد ديناً سوى دينه بعد إقامة حججه ودلائله وبراهينه، وشهادة الكتب المنزلة، وتصريح الرسل المرسلة، بل جميع من في السماوات والأرض استسلم له طوعاً، وهو المؤمن بالقلب والقالب، والكافر بالتسخير والقهر والسلطان الذي لا يغالب.

وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ} (آل عمران:85) أي من سلك طريقاً غير ما شرعه الله على لسان نبيه المختار فلن يقبل منه {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ} من أهل النار الذي باؤوا بالخسار، ونودي عليهم بالبوار. والحديث الصحيح شاهد على ذلك:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"(1) .

وقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} (البقرة: من الآية 130) الآية تضمنت هذه الآية وما بعدها الردَّ على الكفار فيما أحدثوه من الابتداع، وأتوه من المخالفة لملة إبراهيم وعدم الاتباع، مع أنه إمام الحنفاء، وكفى به في القدوة شرفاً، وهو الذي أخلص العبادة لمولاه ولم يتَّخذ ولياً سواه، فجرد لربه التوحيد، ولم يدع أحداً من العبيد، ولم يشرك بربه طرفة

(1) رواه مسلم ورقمه (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها. وانظر: تفسير ابن كثير (2/58) .

ص: 35

عين، بل لم يخالط قلبه من شبه الإشراك رين، فتبرَّأ من الآلهة الباطلة التي قومه لها عابدون، فقال:{قَال يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: من الآية 78) فلهذا قال تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} أي التي هي الصراط المستقيم، والدين الواضح القويم، وبترك طريقته السوية المنهاج، ويعدل بها ذات الاعوجاج، {إِلَاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} أي ظلمها بسفهه وتقصيره، وسوء نظره وتدبيره، بتركه الحق وميله للضلال ومصيره، حيث خالف نهج من اصطفاه رب العباد في الدنيا للهداية والرشاد، من حداثة سنه إلى بلوغ المراد، وفي الآخرة من الصالحين الفائزين بالرضوان والإسعاد، فيا له من سفه ما أعظمه! وجور ما أكبره وأفخمه.

وقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة: من الآية 132) وصية منه بإخلاص الدين لله، وإحسان العمل له في حال الحياة، وملازمة ذلك؛ ليرزقكم الله بفضله عليه الوفاء. فإن المرء غالبا يموت على ما عليه في الدنيا يكون، ثم يأتي على تلك الحال يوم يبعثون، والله الكريم من فضله العميم تفضَّل بأن من قصد الخير يسر إليه، ومن نوى صالحاً ثبت عليه، وأكف عنان القلم عن تفسير باقي آيات القرآن، حتى يقف صافناً (1) عن اتساعه في هذا الميدان، ونكتفي بما حرَّرناه وقدَّرناه من البيان في هذه الآيات الرفيعة الشأن؛ لأنَّ جميع معناها الصحيح الواضح، ومقتضاها الصريح الصادع الصادح، يؤول إلى أنَّ الدين المطلوب المراد، المقصود من جميع العباد، الذي هو السرُّ والحكمة في الإيجاد، دين الإسلام العظيم، الذي هو الصراط المستقيم، الذي دعا الله عباده كافة بالاستقامة عليه، وحثَّهم على الدخول فيه والمبادرة إليه. إذ لا عمل يقبل

(1) الصافن: الذي يصف قدميه. قاله في (مختار الصحاح) .

ص: 36

بغيره لديه، ونهاهم عن تجاوز ما له الحدود، وحكم على من ألحد فيه النار بالخلود.

ونختم هذا الفصل بالحديثين الصحيحين تكميلاً للدلالة والإفادة، وتأميلا أن يحصِّل بهما المسترشد مراده.

أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي (1) من حديث [النواس بن سمعان](2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يأيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً، ولا تعرجوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه. والصراط الإسلام. والسوران حدود الله عز وجل، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم". زاد الترمذي رحمه الله {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (يونس:25) .

وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا

(1) رواه أحمد (4/182) والترمذي ورقمه (2859) والنسائي في الكبرى (11233) .

(2)

في المخطوط: "العرباض بن سارية" والصواب: ما أثبتناه كما في المسند وغيره. وسبب وهم المؤلف نقله من الحافظ ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم (1/101) فقد وقع في نفس الخطأ.

ص: 37

الصدقة، فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: أي يا رب أنا الصيام، فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول الله: إنك على خير اليوم بك آخذ وبك أعطى".

قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85)

ص: 38