المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان وتسمية كل منهما دينا - العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين

[ابن غنام، حسين]

الفصل: ‌الفصل الثاني: في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان وتسمية كل منهما دينا

‌الفصل الثاني: في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان وتسمية كل منهما دينا

قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَليْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} (الأنفال: 2-3)

وقال تعالى: {أَلمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَال عَليْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (الحديد: من الآية 16)

وقوله تعالى: {وَعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (ابراهيم: من الآية 12) وقوله: {وَعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23) وقوله: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: من الآية 175) وقال تعالى: {ليْسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:93) قرن تعالى الإحسان في هذه الآية بالإيمان. وكقوله تعالى: {بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (البقرة: من الآية 112) قرنه بالإسلام. وقوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لقمان: من الآية 22) وقرنه تعالى بالتقوى فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128) وذكره الله تعالى مفردا فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: من الآية 26) .

عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند

ص: 41

ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان. ثم انطلق، فلبث مليا ثم قال لي: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" رواه مسلم (1) .

الكلام على هذه الآيات الساطعة الأنوار، وكشف ما احتوت عليه من الأسرار وتنضيد مكنون معانيها، وتشييد مضمون مبانيها، لا يناسب مقتضى الحال؛ لأن حل ما في ضمنها من المعاني تقتضيه ساعات الإهمال، والزمن المعين لإيجاد هذه الرسالة لا تسع أيامه تفصيل المعاني والإطالة، مع أن أكثر معاني الآيات المذكورة يتضمنه الحديث، وستوجد إن شاء الله تعالى فيه مشروحة مسطورة.

فنقول: هذا الحديث مما انفرد به مسلم في صحيحه عن عمر رضي الله عنه، وخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (2) وفيه تقديم السؤال عن الإيمان على السؤال عن الإسلام وزيادة (أن تعبد الله ولا تشرك به

(1) رواه مسلم ورقمه (8) .

(2)

رواه البخاري ورقمه (50) .

ص: 42

شيئا) . في الجواب عن الإسلام، وقد رواه جمع من الصحابة (1) ، وهو حديث عظيم جدا، لا يبلغ الفهم لإدراك معانيه مفصلة حدا، ولكن لا نجد عن الكلام على شذرة منها بدا، وإلا فالأفهام على ما عليه انطوى، وما أحاط به احتوى، تقف دون ساحل تياره، فضلا عن الغوص على جواهر أسراره، ولم لا ترجع نواظر الإدراك من دون إدراكها حسّرا، وتحجم عن زاخر أمواجها فلا تستطيع تعبيرا لها ولا عبرا، وترى التقصير والإحجام بها أحرا.

والسائل عليه السلام في هذا المقام روح الله الأمين، والمجيب أفصح الخلق أجمعين، وأفضل الأولين والآخرين.

وأيضا فقد اشتمل على شرح الدين كله، فأنى يرام في هذه الأرقام استقصاء الكلام في إيضاحه وحله.

فنقول والله المستعان، وعليه الاعتماد والتكلان:

قوله: "إذ طلع علينا" أي: بدا وظهر.

وقوله: "شديد بياض الثياب" يستفاد من مجيئه عليه السلام على تلك الحالة البهية، استحباب التجمل لطلب العلم وللقدوم على ذوي الرتب السنية، إذ لم يقصد بذلك الفخر والمباهاة، وإنما القصد التحدث وإظهار نعمة الله. قال أبو العالية: كان المسلمون إذا تزاوروا تجملوا.

وقال ابن عبد السلام: لا بأس بلباس شعار العلماء؛ ليعرفوا بذلك فيسألوا، فإني كنت محرما، فأنكرت على جماعة محرمين لا يعرفونني ما أخلُّوا به من أدب الطواف، فلم يقبلوا، فلما لبست ثياب الفقهاء

(1) عنهم: أبو هريرة وأنس بن مالك وجرير بن عبد الله البجلي وغيرهم. انظر جامع العلوم والحكم (1/97) .

ص: 43

وأنكرت عليهم ذلك سمعوا وأطاعوا، فإذا لبسها لمثل ذلك كان فيه أجر؛ لأنه سبب لامتثال لأمر الله تعالى.

وقد نصّ العلماء على كراهة لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي.

قلت: من البدع ما أحدثه من لم يتمسك من العلم بسبب، وما له سوى الدنيا طلب، من لباس المرقعات والجبب، زاعمين أن الهدى العمري لهم قدوة، وفيه لهم أعظم أسوة، وإنِّي بذلك لقلوب من محبة الدنيا ملئت قسوة، كلَاّ! بل طبع على قلوبهم الرين، فلم يفرقوا بين القبيح والزين، وجعلوا تلك المراقيع لاقتناص الدنيا آلة، ولأكل أموال الناس بالباطل حبالة، والسالم من ذلك منهم متعبد على جهالة.

تنبيه: يؤخذ من هذا الحديث أفضلية الثياب البيض على غيرها من سائر اللباس واستحباب لبسها، وإتيان جبريل فيها، وتكفين الأموات دليل على ذلك، وروى أبو داود والترمذي (1) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم".

ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "كفِّن رسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية"(2) .

وقوله: "فأسند ركبتيه إلى ركبتيه" هذا فيه تصريح بأنه جلس بين يديه دون جانبه، ولعل العلماء أخذوا استحباب جلوس المتعلمين بين أيديهم من جلسة جبريل، ولكن جبريل بالغ في القرب حتى وضع كفيه على فخذيه.

(1) أخرجه أبو داود ورقمه (3878) والترمذي ورقمه (994) وقال: حديث حسن صحيح.

(2)

رواه مسلم ورقمه (941) وقوله (سحولية) السحل: الثوب الأبيض من الكوسف من ثياب اليمن: مختار الصحاح ص 254.

ص: 44

وقوله في الجواب: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر الإسلام (1) هنا بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، فأول ذلك "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "وهو عمل اللسان، ثم باقي الأعمال وهي منقسمة إلى:

- بدني: كالصلاة والصوم.

- وإلى عمل مالي: وهو إيتاء الزكاة.

- وإلى مركب منهما: وهو الحج.

ويدخل في مسمى الإسلام أيضاً: جميع الواجبات الظاهرة، كما في رواية ابن حبان (2) أنه أضاف إلى ذلك الاعتمار، والغسل من الجنابة، وإتمام الوضوء. وإنما ذكر هنا أصول أعماله التي يبنى عليها كما يشهد له حديث "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجِّ البيت، وصوم رمضان" رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما (3) ويدل على دخول جميع الأعمال الظاهرة في مسمى الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (4) .

وقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ

(1) ما سيذكره المؤلف رحمه الله استفاده من جامع العلو م والحكم (1/98) .

(2)

رواه ابن حبان (1/397) ورقمه (173) .

(3)

رواه البخاري ورقمه (8) ومسلم ورقمه (16) .

(4)

رواه البخاري ورقمه (10) من حديث عبد بالله بن عمرو رضي الله عنه، ورواه مسلم ورقمه (41) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 45

الإسلام خير؟ قال: "أن تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"(1) .

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن للإسلام [صُوًى] (2) ومنار كمنار الطريق، ومن ذلك أن تعبد الله، ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره" خرَّجه الحاكم في صحيحه (3) والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة.

وأما الإيمان: فقد فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال: "أن تؤمن بالله وملائكته

" إلى آخره.

وقد ذكر الله عز وجل الإيمان بهذه الأصول فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِل إِليْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِليْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285) وقال تعالى: {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة: من الآية 177) وقال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِل إِليْكَ وَمَا أُنْزِل مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ

(1) رواه البخاري ورقمه (12) ومسلم ورقمه (29) .

(2)

في المخطوط (ضواء) وكذا في المستدرك، وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه، والصوى: أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي المجهولة، فيستدل بتلك الأعلام على طرقها. واحدتها صُوَّة. قاله أبو عبيد.

(3)

أخرجه الحاكم (1/21) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري. وسكت عنه الذهبي.

ص: 46

هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:4) .

وقوله: {وَمَلائِكَتِهِ} أي: وهم الأجسام النورانية، أي: يؤمن بأنهم عباد له مكرمون، وأنهم سفراء الله بينه وبين خلقه، متصرفون فيهم كما أذن، صادقون فيما أخبروا به عنه، وأنهم بالغون من الكثرة ما لا يعلمه إلا الله {وَمَا يَعْلمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ} (المدثر: من الآية 31) .

وقوله: {كُتُبِهِ} أي: أنها منزلة من عنده، وأنها كلامه [القائم بذاته المنزه عن الحروف والصوت] . (1)

وقوله: {وَرُسُلِهِ} أي: يؤمن بأنه تعالى أرسلهم إلى الخلق؛ لهدايتهم وتكميل معادهم ومعاشهم، وأنه أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، فبلغوا عنه رسالته.

وقوله: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} هو من الموت إلى ما يقع يوم القيامة.

ولا شكَّ أن الإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من

(1) هذه الجملة مطموسة وقد علق عليها بهذه الحاشية: (قال عبد الله أبا بطين رحمه الله: "قوله (وأنها كلامه القائم بذاته المنزه عن الحروف والصوت) هذا الكلام جرى على مذهب الكلابية ومن تبعهم من الأشعرية أن الكلام والمعنى القائم بالذات المنزه عن الحروف والصوت، وأنه على هذا يكون القرآن عندهم ليس هو عين كلام الله كما قد صرَّحوا بذلك في كتبهم، والحقُّ في ذلك ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى لم يزل متكلماً كيف شاء إذا شاء بحرف وصوت كما دلَّ على ذلك الوحيين، فأما القرآن فواضح، وأما الأحاديث ففي صحيح البخاري وغيره أن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة بصوتٍ.. وهذا نص، وفيه نحو أربعة عشر حديثا، وأما الإجماع فيكفي في ذلك أنه لا يعرف عن صحابي ولا تابعي حرف واحد يخالف ذلك، وقد أفرده العلماء هذه المسألة بالتصنيف) انتهت الحاشية وهي كافية عن التعليق.

(2)

انظر: جامع العلوم والحكم (1/103) .

ص: 47

الأنبياء، والملائكة، والكتب، والبعث، والقدر، وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به من صفات الله وصفات اليوم الآخر، كالميزان، والصراط، والجنة، والنار.

وقد أدخل في الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره، ولأجل هذه روى ابن عمر هذا الحديث محتجا به على من أنكر القدر، وزعم أن الأمر أنف أي مستأنف أي: لم يسبق به سابق قدر من الله تعالى وقد غلظ ابن عمر عليهم، وتبرأ منهم وأخبر أنهم لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر.

وأول من قال بالقدر بالبصرة (معبد الجهني) وقد صرح العلماء بتكفيرهم.

والإيمان بالقدر على درجتين:

الأولى: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، وما يترتب على ذلك من الثواب والعقاب يوم الحساب قبل تكوينهم، وأنه كتب ذلك وأحصاه عنده، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.

والثانية: أن الله خلق أفعال عباده كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وشاءها منهم (1) .

هذا وينبغي التمعن والتدبر لما ورد من الأحاديث التي فسر فيها

(1) توجد هنا حاشية وهي: (قال ابن القيم رحمه الله بعد كلام سبق (أما المعاصي والكفر فإنها وإن وقعت بمشيئته فهي غير محبوبة له ولا مرضية، وهل يقال إرادته فمن المثبتين للقدر من يقول هي واقعة بإرادته، ومنهم من لا يطلق وقوعها بالإرادة ولا ينفيها، وهذا هو الصواب، لأن الإرادة تنقسم في القرآن إلى نوعين: إرادة تكوين ، وإرادة تشريع، فإن قيل إنها واقعة بإرادته مطلقا فباطل) وذكر كلامه طويل.

ص: 48

الإسلام بالأعمال المذكورة كهذا الحديث وغيره، والأحاديث التي فُسِّر فيها الإيمان بأعمال الجوارح المذكورة كقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بأربع: الإيمان بالله. هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

" الحديث كما هو في الصحيحين من رواية أبي هريرة (1) . وفيهما عنه أيضاً "الإيمان بضع وسبعون فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (2) .

فظاهرها يقتضي التعارض وتحقيق وجه الجمع كما ذكره الإمام ابن رجب _رحمه الله تعالى_ إلى أن يقال: " أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها وهذا كاسم الفقير والمسكين فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض ذوي الحاجات، والآخر على باقيها. فهكذا اسم الإسلام والإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي"(3) .

ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عند ذكره مفرداً كما في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث جبريل، وفُسِّر في حديث آخر الإسلام بما فًسِّر به الإيمان، كما في مسند الإمام

(1) رواه البخاري ورقمه (53) ومسلم ورقمه (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما _ لا كما وهم المؤلف رحمه الله _.

(2)

رواه البخاري ورقمه (9) ومسلم ورقمه (35) من حديث أبي هريرة،

(3)

انظر: جامع العلو موالحكم (1/105، 106) .

ص: 49

أحمد عن عمرو بن عبسة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "أن تسلم قلبك لله. وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك"، قال: أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان"، قال: وما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت"، قال: فأيُّ الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة"، قال: فما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء"، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: "الجهاد"(1) .فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام الإيمان، وأدخل فيه الأعمال.

وحاصل القول: أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق؛ وهو أن يقال: إن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته. والإسلام هو: استسلام العبد لله تعالى وخضوعه وانقياده، وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمى الله تعالى في كتابه الإسلام دينا، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان دينا، وهذا أيضا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر، فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل.

وفي مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام علانية والإيمان في القلب"(2) ؛ وذلك لأن الأعمال تظهر علانية والتصديق بالقلب لا يظهر. ومن هنا قال محققوا العلماء: كل

(1) رواه احمد (4/114) وقال في المجمع (1/59) رجاله ثقات.

(2)

رواه أحمد (3/143) وفي إسناده علي بن مسعدة وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوائد (1/52) .

ص: 50

مؤمن مسلم، لأن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام، وانبعثت الجوارح في ذلك؛ لان محله القلب، وهو إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله كما نص عليه في الحديث (1) وليس كل مسلم مؤمنا، لأن الإيمان قد يضعف، فلا يتحقق به القلب تحققا تاما فيكون مسلما، وليس بمؤمن الإيمان التام.

ويدل عليه آية: {قَالتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلمْنَا وَلمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: من الآية 14) فسرها ابن عباس وغيره بأنهم لم يكونوا منافقين بالكلية ، بل كان إيمانهم ضعيفا، وهذا هو الأصح، ويدل عليه قوله تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} (الحجرات: من الآية 14) أي لا ينقصكم من أجورها، فدل على أن معهم من الإيمان ما تقبل به أعمالهم (2) ، ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة، فإذا ترك شيئا من واجباته فهو محل الخلاف بين أهل السنة، هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان؟ واختاره الأكثر، وهو أحد الروايتين عن أحمد، أو يقال ليس بمؤمن لكنه مسلم، واختاره جماعة ، وهو الرواية الأخرى عن أحمد، والذي يجول في خلدي، ويدخل في حفظي أن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية يعتمد هذا القول، ويرى أن الذي يشهد له الكتاب والسنة مع بعد عهدي بمطالعة شيء من كتبه (3) .

(1) رواه البخاري ورقمه (52) ومسلم ورقمه (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

جامع العلوم والحكم (1/109،110) .

(3)

انظر مجموع الفتاوى (7/306) فقد قرر ذلك ورد على الخصوم.

ص: 51

وأما اسم الإسلام: فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته وانتهال بعض المحرمات، وإنما ينتفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية، فإنه حينئذ يخرج من الملة.

وفد ذكر العلماء للإسلام نواقض، وعقدوا لذلك أبواب الردّة، وأكثروا فيها الأمور التي تنقضه قولا وفعلا.

والصحيح أن الإيمان القلبي يتفاضل، وهو أصح الروايتين عن أحمد؛ لأن إيمان الصّدّيقين ليس كإيمان غيرهم، والآيات والأحاديث دالة على ذلك.

ولاشك أن مسائل الإسلام والإيمان عظيمة الشّأن؛ لا يجوز أن يغفل عنها الإنسان أو يهملها أهل التوحيد والإيمان بل الواجب المتعين بذل الوسع في تحقيقها والاجتهاد والجدّ حتى يتبين سبيل الرشاد؛ ويتميز الصواب والسداد؛ لأن الله علق بها السعادة والإسعاد، وعلق على ضدها وهو الكفر والنفاق والشقاوة والهلاك يوم التناد.

خاتمة الكلام على الإسلام والإيمان:

قد ثبت بما تقرر، وصح مما ذكر وتحرر من كلام خير الأنام، وأقوال الأئمة الأعلام أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان والإسلام، وتقدم ما يدخل من العمال الظاهرة فيهما، وأما الأعمال الباطنة فهي تدخل في مسماها ، فيدخل في أعمال الإسلام إخلاص الدين لله والنصح له وللمسلمين، وسلامة القلب لهم من الغش والحسد والحقد وغير ذلك، ويدخل في مسمى الإيمان وجل القلوب من ذكر الله وخشوعها عند سماع ذكره، وكتابه، وزيادة الإيمان بذلك، وتحقيق التوكل على الله، وخوف الله سرا وعلانية، والرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، واختيار تلف النفس على الكفر، وإيثار محبة الله ورسوله على

ص: 52

محبة ما سواهما، والمحبة في الله والبغض في الله، والعطاء والمنع له (1) ، وغير ذلك مما يطول ذكره، وكل ما ذكرناه من هذه الأنواع، فالأحاديث واردة فيه، دالة عليه.

فمنها: رواه الإمام أحمد والنسائي عن معاوية بن حيدة قال: قلت يا رسول الله، بالذي بعثك بالحق ما الذي بعثك به قال:"الإسلام، قلت: وما الإسلام، قال: أن تسلم قلبك لله وان توجه وجهك إلى الله، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة"(2) .

وفي السنن عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"(3) .

فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه الثلاث تنفي الغل عن قلب المسلم.

وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا"(4) .

وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحب إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"(5) . وفيهما عن أنس مرفوعا قال: "لا يؤمن أحدكم

(1) جامع العلوم والحكام (1/116) بتصرف.

(2)

رواه احمد (5/504) والنسائي ورقمه (2436) وصححه ابن حبان (160) .

(3)

رواه أحمد (1/8-82) وابن ماجة ورقمه (3056) .

(4)

رواه مسلم ورقمه (34) .

(5)

رواه البخاري ورقمه (16) ومسلم ورقمه (43) .

ص: 53

حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي رواية "من أهله وماله والناس أجمعين" (1) فلا نطيل بإيرادها.

وقوله في الجواب عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه".

قد قدمنا من الآيات الواردة فيه، مقرونا ومفردا ما فيه كفاية لطالب الهدى، وإنما أخر جبريل السؤال عنه في هذا الحديث، وإن كان ورد بعض الأحاديث توسطه؛ لأن الإحسان هو غاية كمال الإسلام والإيمان، بل هو المقوم إذ بعدمه يتطرق إلى أعمال الإسلام الظاهرة الرياء والشرك وإلى الإيمان النفاق، فيظهره رياء أو خوفا.

قال الله تعالى: {بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (البقرة: من الآية 112){ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} (المائدة: من الآية 93) .

وحقيقة الإحسان: أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فإذا عبد الله تعالى على هذه الصفة أوجبت له النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.

فلهذا كان جزاء من عبد مولاه على حالة كأنه فيها يراه النظر إلى الله يوم لقاه ، ويشهد لذلك قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس: من الآية 26) فقد فسرت بالنظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم، جزاء لأهل الإحسان بعد التفضل عليهم بدخول الجنان، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بهذه الوصية، فعن أبي ذر قال: "أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أخشى الله كأني أراه، فإن لم أكن أراه فإنه يراني (2)

(1) رواه البخاري ورقمه (15) ومسلم ورقمه (44) .

(2)

انظر: جامع العلوم والحكم (1/126) .

ص: 54

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: "اعبد الله كأنك تراه" خرجه النسائي (1) . وحديث زيد بن أرقم: "كن كأنك ترى الله، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(2) .وغير ذلك من الأحاديث.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" يحتمل أن يكون التعليل إشارة إلى مقام الإخلاص وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله فهو مخلص لله تعالى لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بعمله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى مقام المشاهدة وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه وذلك أن يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان وهذا هو حقيقة مقام الإحسان (3) .

وقد فسر طائفة من العلماء المثل العلى في قوله جل جلاله: " {وَلهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الروم: من الآية 27) بهذا المعنى، وفي الحديث: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت" (4) وحديث أبي أمامه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه

(1) في الرقاق من الكبرى كما في التحفة (5/481) ولم أعثر عليه في المطبوع من الكبرى. وأخرجه أيضا: أحمد (5/358/399) ورقمه (6156) وصححه أحمد شاكر.

(2)

رواه أبو نعيم في الحلية (8/202) بلفظ "اعبد الله كأنك تراه".

(3)

انظر: جامع العلوم والحكم (1/129) .

(4)

رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وقال: تفرد به عثمان بن كثير، وقال الهيثمي في المجمع (1/60) .

ص: 55

على أن الله معه" (1) وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة، قال الله جل جلاله:{وَإِذَا سَأَلكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: من الآية 186) وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الحديد: من الآية 4) وقوله: َ {ولا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة: من الآية 7){وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (النساء: من الآية 108) وغير ذلك من الآيات.

وقد وردت الأحاديث الصحيحة باستحباب استحضار هذا القرب في العبادات كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه، أو ربه بينه وبين القبلة"(2) . وقوله: "إن الله قبل وجهه إذا صلى"(3) وقوله: "إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت"(4) وقوله: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا"(5) وقوله: "أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت شفتاه"(6) ، والأحاديث كثيرة (7) .

واعلم أن من فهم من شيء من هذه الآيات أو الأحاديث حلولا أو

(1) ذكره بثقة أو جرح. ومن طريق هذا رواه نعيم بن حماد كما في تفسير ابن كثير (6/548) وقال: غريب. رواه الطبراني في الكبير (7935) وفيه بشر بن نمير قال الهيثمي في المجمع (10/2799) وهو متروك.

(2)

رواه البخاري ورقمه (405) ومسلم (551) .

(3)

رواه البخاري ورقمه (406) ومسلم ورقمه (547) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

(4)

رواه الترمذي ورقمه (2863) من حديث حارث الأشعري رضي الله عنه قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

(5)

رواه البخاري ورقمه (2992) ومسلم (2074) من حديث أبي موسى الشعري رضي الله عنه.

(6)

رواه ابن ماجة ورقمه (3792) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (815) .

(7)

انظر: جامع العلوم والحكم (1/130) .

ص: 56

اتحادا كما فهمه من أزاغ الله قلوبهم عن أنوار الشريعة، أو فهم من ذلك أيضا تشبيها، فقد ضل فهمه، وزل قدمه عن الصراط المستقيم {َلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: من الآية 63) والله ورسوله بريئان من أهل هذه الطرق الزائغة الزائفة، وأهل هذه البدع الضالة من كل طائفة، قالوا بالحلول والإتحاد، وهذا هو عين الكفر والإلحاد {إِنَّ رَبَّكَ لبِالْمِرْصَادِ} (الفجر:14) فسبحان من ليس كمثله شيء وهو البر الوصول، الذي تنزه قدرا عن التجسيم (1) والتعطيل والإتحاد والحلول.

وقوله في الجواب لجبريل في سؤاله عن الساعة: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" يعني أن علم الخلق في وقتها سواء، ففيه إشارة إلى أن الله استأثر بعلمها، فكأنه قال: "أنا لا أدري كما أنك كذلك، فيؤخذ من الحديث أنه ينبغي للمفتي والعالم وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، فإن ذلك لا ينقص بل يستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه.

ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: "وا بردها على كبدي، إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول لا أعلم"(2) .

ويروى عن الإمام مالك أنه يسئل عن أكثر المسائل فلا يجيب ويقول: لا أدري نصف العلم (3) .

والساعة هي: يوم القيامة وتسمى اليوم الآخر.

(1) لا يجوز إطلاق الجسم على الله من غير معرفة مراد المتكلم. انظر: مجموع الفتاوى (5/418) وما بعده.

(2)

رواه الدارمي (1/629) والفقيه المتفقه (2/362) .

(3)

رواه الدارمي (1/63) والفقيه المتفقه (2/369) والثر مروي عن الشعبي لا عن مالك والله أعلم.

ص: 57

وسمي الآخر: لأنه آخر انقراض الدنيا وآخر أيامها.

وهل منتهاه إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أو ليس له منتهى؟

ورجح بعض العلماء أن مبدأها من النفخة الثانية إلى استقرار الخلق في الدارين.

في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (لقمان: من الآية 34) . (1)

وقال جل جلاله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ ثَقُلتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً} (الأعراف: من الآية 187) .

قوله: "فأخبرني عن أمارتها" أي: علاماتها التي تدل على اقترابها، وقد ذكر لها علامتين:

العلامة الأولى: "أن تلد الأمة ربتها" أي سيدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة "ربها"، وهذه إشارة إلى فتح البلدان وجلب الرقيق حتى تكثر السراري، وتكثر أولادهن فتكون الأم رقيقة لسيدها، وأولادها منها بمنزلته، فإن ولد السيد بمنزلة السيد، فيصير ولد الأمة بمنزل ربها وسيدها.

وقد فسره بعض بأنه يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق، ثم تجلب الأم فتشتريها البنت، وتستخدمها جاهلة بأنها أمها، وقد وقع ذلك في الإسلام.

(1) رواه البخاري ورقمه (4778) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 58

العلامة الثانية: قوله: "أن ترى الحفاة العراة" الحفاة هم: من لا نعال لهم جمع حاف أي: لا نعل له، والعراة: جمع عار، وهو من ليس على جسده من الثياب ما يستره، والعالة: الفقر.

قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (الضحى:8) .

قوله: "رعاء الشاة" وهو بكسر أوله وبالمد: جمع راع ، ويجمع أيضا على رُعاه بضم أوله، أخره هاء، والرّعي: الحفظ، والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته يعني إذا كثرت أموال أهل الحاجة والفاقة والفقر بسبب كونهم ملكوا الحضر. وقسروهم بالغلبة والقهر، فامتدت لهم الآمال، بعد اتساع الحال، وجمع أنواع المال، فصار همهم تشييد المباني وهدم أركان الدين بعدم العمل بآيات المثاني، فهذا التفريط والإضاعة هو من إمارات الساعة.

وقد صرح في حديث أبي هريرة بذكر ثلاث علامات منها: أن يكون الحفاة العراة رؤوس الناس، ومنها أن يتطاول رعاء البهم في البنيان.

وفي حديث عبد الله بن عطا عن عبد الله بن بريدة فقال فيه: وأن ترى الصم البكم العمي الحفاة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ملوك الناس ، قال: فقام الرجل فانطلق فقلنا: يا رسول الله من هؤلاء الذين نعتّ؟ قال: "هم العريب"(1) . وقوله: "الصم البكم" إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم.

والأحاديث في هذا المعنى متعددة، والأخبار والآثار فيه كثيرة مسندة، فمنها: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث حذيفة عن النبي

(1) رواه المروزي في "الصلاة"(367) وعنده "العرب" بدل "العريب".

ص: 59

صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع"(1) .

وفي صحيح ابن حبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنقضي الدنيا حتى تكون عند لكع بن لكع"(2)

وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث أنس عن النبي قال: "بين يدي الساعة سنون خداعة يتهم فيها الأمين ، ويؤمن فيها المتهم، وينطق فيها الرويبضة"، قالوا: وما الرويبضة قال: "السفيه ينطق في أمر العامة" ، وفي رواية "الفاسق يتكلم في أمر العامة"(3) .

وفي حديث آخر "لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها"(4) .

والمعلوم انه إذا صار الرؤوس جهالا ، والملوك على ما ذكر من الحال، انعكست الأحوال والسباب، وانفتح للشر كل باب، وحان للساعة اقتراب، فلذا يصدق الكاذب ، ويكذب الصادق، ويخون الأمين، ويؤتمن الخائن المنافق، ويتكلم الأحمق الجاهل، ويسكت العالم الفاضل، ويعدم العلم بالكلية، وتقبض أهله من البرية، كما ثبت ذلك في الأحاديث

(1) رواه الترمذي ورقمه (2209) وأحمد (5/389) قال ابن الأثير في النهاية (4/268) : اللكع عند العرب: العبد، ثم استعمل في الحمق والذم. يقال للرجل: لكع، وللمرأة لكاع. وقد لكع الرجل يلكع لكعا، فهو ألكع. وأكثر ما يقع في النداء ، وهو اللئيم. وقيل الوسخ، وقد يطلق على الصغير. ومنه الحديث:"أنه عليه السلام جاء يطلب الحسن بن علي قال: أثمّ لكع؟ " فإن أطلق على الكبير أريد به الصغير العلم والعقل.

(2)

رواه ابن حبان ورقمه (6721) وإسناده صحيح.

(3)

رواه أحمد (3/220) والطبراني في الأوسط، وأبو يعلى (3715) ، والبزار (3373) وقد جود إسناده الحافظ في الفتح (13/84) .

(4)

رواه الطبراني، والبزار (3416) من حديث أبي مسعود قال الهيثمي في المجمع 7/327: فيه حسين بن قيس ، وهو متروك.

ص: 60

الصحيحة، والنصوص الجلية الصريحة (1) .

فعنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل"(2) .

وأخبر صلى الله عليه وسلم: " أنه يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا ، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"(3) .

وفي صحيح الحاكم عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: "إن من أشراط الساعة أن يوضع الأخيار، ويرفع الأشرار"(4) .

وسيصير هذا في آخر الزمان، وتنقلب حقائق الإيمان، وتنعكس فيه جميع الأمور، ويصير المباح هو المحظور.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "يتطاولون في البنيان" فيه ذلالة على ذم التباهي والتفاخر، والاستطالة في الدنيا وجمعها للمباهاة والتكاثر. والتطاول في رفع البنيان فوق ما يحتاجه لضروريات الإنسان. ولم يكن البنيان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالإطالة معروفا، بل كان بالقصر في زمنه وزمن أصحابه موصوفا، ولا يزيد على قدر الحاجة ، والسعيد من اقتفى منهاجه.

وقد خرج البخاري عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان"(5)

(1) انظر: جامع العلوم والحكم (1/140) بتصرف.

(2)

رواه البخاري ورقمه (80) ومسلم رقمه (2671) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري ورقمه (100) ومسلم رقمه (2673) من حديث عبد اله بن عمرو رضي الله عنه.

(4)

رواه الحكم (4/555-554) وصححه ورواه أيضا الطبراني، قال الهيثمي في المجمع 7/326: ورجاله رجال الصحيح.

(5)

رواه البخاري ورقمه (7121) .

ص: 61

وخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بناء وأشار بيده هكذا على رأسه أكثر من هذا فهو وبال"(1) .

وقال حريث ابن السائب عن الحسن: "كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان، فأتناول سقفها بيدي"(2) .

وخرج ابن ماجة من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد"(3) .

وخرج أيضا من حديث بن عباس عن النبي قال: "ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسنا، وكما شرفت النصارى بيعها"(4) .

(1) رواه أبو داود (5237) وأبو يعلى (4347) وإسناده حسن.

(2)

انظر جامع العلوم والحكم (1/141) .

(3)

رواه ابن ماجة ورقمه (739) وصححه ابن حبان (1614) .

(4)

رواه ابن ماجة ورقمه 0740) وإسناده ضعيف.

ص: 62