الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: في أمره صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة خلفائه الراشدين
، التي هي منهاج النجاة والهداية، وتحذيره من ارتكاب البدع التي هي سبيل الضلالة والغواية
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء:59) وقال تعالى: {وَإِذَا قِيل لهُمْ تَعَالوْا إِلى مَا أَنْزَل اللَّهُ وَإِلى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} (النساء:61) وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 64) وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:115) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِليْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} إلى قوله {وَاتَّبِعُوهُ لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: من الآية 1) وقال تعالى: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} (الحج: من الآية 67) وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:46) وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى:53) .
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة من رواية ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا قال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" زاد ابن ماجة "فقد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"(1) .
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} أي: اتبعوا كتابه الكريم، الهادي إلى سبل السلام والصراط المستقيم، واعتصموا به؛ فإنه الحبل المتين، والنور الواضح المبين، والشفاء لما في الصدور، والمخرج من الظلمات إلى النور. فمن ترك العمل ببراهينه وحججه، وعدل عن قيم منهجه، فقد نبذه وراء ظهره، واتخذه نسيا منسيا، وتوغل في غلو كفره، وسوف يلقون غيا.
{وَأَطِيعُوا الرَّسُول} أي: تمسكوا بسنته المضيئة النوار، وخذوا بطريقته الوضيئة المنارة السمحة الرافعة للأغلال والآصار، فمن لزمها فاز بالرضوان والسلامة، في دار النعيم والمقامة، ومن أخطأها فقد باء بالخسران والندامة.
(1) رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، ورواه أيضا أحمد 4/126-127، وابن ماجة (43) و (44) قال الترمذي: حسن صحيح.
وقد قرن الله تعالى في كتابه طاعته بطاعة نبيه المصطفى، وكفى بذلك لجنابه شرفا، وبين في كثير من الآيات أن من أطاع رسوله فقد أطاعه، ومن عصى أمره فقد عصى الله وأضاعه. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله"(1) .
وقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ} المراد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك بعده؛ لأن السبب وإن كان خاصا فالحكم عام قطعا.
فقد روى البخاري عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية (2) . وروى الإمام أحمد بسنده عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء فقال: أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعوني قالوا: بلى قال: فأجمعوا لي حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: قد عزمت عليكم لتدخلنها قال شاب: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها قال: فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف". وقد خرجاه أيضا في الصحيحين (3) . وقد دلت الآية على وجوب طاعة الأمراء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ويندرج في ذلك القضاة وأمراء السرايا. وفي الحديث:"من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني"(4) .
(1) رواه البخاري (7137) ومسلم (1835) .
(2)
رواه البخاري (4584) ومسلم (1843) .
(3)
رواه البخاري (2726) ومسلم (1840) .
(4)
رواه البخاري (7137) ومسلم (1835) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وصرحت الأحاديث على أن وجوب طاعتهم في غير المعصية.
فقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ} أي: وأطيعوا أولي الأمر فيما أمروكم به من طاعة الله تعالى لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة على المرء فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"(1) . وعن أبي هريرة أن النبي ـ قال: "سيلي عليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم"(2) .
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أمير شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية"(3) .
وقيل: المراد ب {وَأُولِي الْأَمْرِ} أهل الفقه والدين، روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن وأبو العالية قال الحافظ ابن كثير: "والظاهر أنها عامة في كل من ولي أمرا كالأمراء والعلماء، قال الله تعالى:{لوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} (المائدة: من الآية 63) وقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ} (الأنبياء: 7) وقوله:
(1) رواه البخاري (6725) ومسلم (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(2)
رواه الدارقطني (2/55) وابن جرير في تفسيره (8/502) والحديث فيه عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، قال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات.
(3)
رواه البخاري (6146) ومسلم (1849) .
{ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِفَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: من الآية 59)، قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي إلى كتاب الله وسنة رسوله" (1)
أمر الله تعالى عباده المؤمنين إذا اختلفوا في فرع أو أصل من أصول الدين أمر إلزام وإيجاب أن يرجعوا في ذلك الأمر الكتاب وسنة الرسول الكاشفة لكثيف الحجاب، الجالية دياجر الشك والارتياب، المسفرة بضياء الحق والصواب، فبهما يكون فصل الخطاب. فما شهد له بالصحة فهو الحق الذي هم فيه مختلفون وماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون. ويشهد لذلك قوله:{وَمَا اخْتَلفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللَّهِ} (الشورى: من الآية 10) أي: فما حكم به من كتاب الله وسنة الرسول هو فصل التنازع، فلا يجوز عنه العدول، فمن لم يرض بهما حكما عند النزاع، فهو كافر مباح الدم والمال بالإجماع. ولهذا قال:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . فإن الإيمان يوجب ذلك. وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع إليهم في فصل النزاع في فروع الدين وأصوله. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: أحسن مآلا ومآبا، أو أحسن جزاء وثوابا.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيل لهُمْ تَعَالوْا إِلى مَا أَنْزَل اللَّهُ} (النساء:61) سبب نزول هذه الآية والتي قبلها، أن منافقا ويهوديا تخاصما، واليهودي يريد النبي، والمنافق يريد كعب بن الأشرف، ثم تراضيا عمر بن الخطاب، فلما استقرأ حالهما قتل المنافق، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله. وقيل: نزلت في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/303-304) .
أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. والآية كما قال ابن كثير أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل (1) .
وقوله: {يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} (النساء: من الآية 61) أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك، ويقولون ما ذكر الله عنهم {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَليْهِ آبَاءَنَا} (البقرة: من الآية 170) وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: من الآية 51) .
وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 64) أي: فرضت طاعته على من أرسلتهم إليهم، وأوجبت ذلك عليهم، ولكن لا يطيع أحد إلا بإذني، وبتوفيقي ومشيئتي.
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء: من الآية 65) أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي تنشرح به الصدور، ويجب له في الظاهر والباطن الانقياد، والرضا بما حكم والتسليم وعدم الحرج والانتقاد. فيتلقى بالقبول من غير ممانعة، ولا مدافعة ولا منازعة. ويشهد لهذا ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". (2)
وسبب نزول هذه الآية كما رواه البخاري عن عروة قال: خاصم الزبير
(1) انظر: تفسير القران العظيم (2/304-405) .
(2)
تقدم تخريجه ص77.
رجلا من الأنصار في شراج (1) من الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك" فقال الأنصاري: إن كان ابن عمتك، فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:"اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى ترجع إلى الجدار ثم أرسل الماء إلى جارك"(2) الحديث.
وقد نزلت في الزبير وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء، فقضى النبي أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. (3)
وهذه الآية أيضا كما ترى صريحة الدلالة على أن من لم يرض بتحكيم سنته فإنه كافر يستوجب القتل؛ لأن من لم يطعه ولم يرض بحكمه لم يقبل رسالته.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى} (النساء: من الآية 115) أي: ومن سلك غير الطريقة التي أوضحها الرسول، والشريعة التي كل ما سواه غير مقبول، من بعد ما اتضح له الهدى، وتبين له الضلال والردى، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وهذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون المخالفة لإجماع الأمة؛ لأنه كالنص القاطع؛ لأن الله تعالى قد عصمها أن تجتمع على ضلالة، فلا يظهر على أهل الحق أهل الجهالة، ولا يكون الحق مهجورا في جميع الأمصار والأعصار. ومن قال غير هذا فهو مخالف لما صح في الأحاديث والأخبار، وتواترت به الآثار، بل زايغ عن سبيل نبيه المختار. قوله:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي نجعله واليا لما تولى من الضلال والآصار،
(1) الشراج هو مسيل الماء والحرة: موضع معروف بالمدينة.
(2)
رواه البخاري (2231) ومسلم (2357) .
(3)
وهذا قول سعيد بن المسيب كما رواه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير في تفسيره 2/308:"هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري".
ونخلي بينه وبين ما أحبه واختاره {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} ندخله ونعذبه في النار {وَسَاءَتْ مَصِيراً} للمنافقين والكفار. (1)
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (النساء: من الآية 174) هذا خطاب من الله لجميع الناس وإخبار بأنهم قد جاءهم برهان، وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبهة.
{وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبينا} ضياء واضحا، قال غير واحد: هو القران.
والبرهان: قيل إنه الرسول أيضا، ثم بين صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة بقوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} ، فاخبر أنهم في الدنيا في منهاج الاستقامة وطريق السلامة، وفي الآخرة على الصراط المستقيم، المفضي به إلى روضات النعيم.
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: من الآية 158) أي: قل يا محمد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الآية وهذا خطاب للأسود، والحمر، والعربي، والعجمي، وهذا من شرفه أنه خاتم النبيين، وانه مبعوث إلى الناس كافة، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام أحمد (2) .
وقوله تعالى: {وماكَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} (الأحزاب: من الآية 36) أي: ما صح له {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} أي: إذا قضى رسول الله وإنما ذكر الله تعالى لتعظيم أمر الرسول، وللإعلام بأن قضاءه الذي يقضي به وحكمه الذي يحكم به أنه قضاء الله تعالى فلا يجوز عنه العدول، لأنه
(1) هذا استدراك من الناسخ.
(2)
رواه مسلم (153) واحمد 2/317.
لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وقوله: {أنْ يَكُونَ لهُمُ الْخِيَرة} يعني: أن يختاروا من أمرهم شيئا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله، والخيرة:(كعنبة) ما يتخير.
وقوله تعالى: {وَدَاعِياً إِلى اللَّهِ} أي: إلى توحيده وعبادته {بِإِذْنِهِ} أي: بتيسيره، {وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:46) يستضاء به عن ظلمات الجهالة والردى، وتقتبس من أنوار الهدى. ومن كان برهانا على جميع الخلق كان حقيقا بان يكتفي به عن غيره.
قول العرباض: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة" في رواية أحمد وأبي داود والترمذي "بليغة" وفي رواية: "أن ذلك كان بعد صلاة الصبح"، وكان كثيرا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة كالجمعة والأعياد، وقد أمره الله تعالى بذلك فقال:{وَعِظْهُمْ وَقُلْ لهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء: من الآية 63)، وقال:{ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ} (النحل: من الآية 125) ولكنه كان لا يديم وعظهم بل يتخولهم به إحيانا والبلاغة في الموعظة مستحسنة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها.
والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها للقلوب، وكان يقصر خطبته ولا يطيلها، بل كان يبلغ ويجيز.
وقوله: "ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب" هذان الوصفان مدح الله تعالى بهما المؤمنين عند سماع الذكر كما قال عز وجل: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلتْ قُلُوبُهُمْ} (لأنفال: من الآية 2) وقال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلتْ قُلُوبُهُمْ} (الحج: الآية 34-35) وقال: {أَلمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ} (الحديد: من الآية 16) وقال: {اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 23) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتغير حاله عند الموعظة كما قال جابر: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه، وعلا صوته، واحمرت عيناه، كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم". خرجه البخاري ومسلم (1)
وقوله: "يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا" يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد أبلغ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها، فلذلك فهموا أنها موعظة مودع؛ فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي صلاة مودع؛ لأن من استشعر أنه مودع بصلاته أتقنها على أكمل وجهها، ولربما كان قد وقع منه تعريض بالتوديع في تلك الخطبة، كما عرض بذلك في خطبته في حجة الوداع، وقال:"لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا"(2) وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، ولما رجع من حجه إلى المدينة، جمع الناس بماء بين مكة والمدينة يسمى خما، وخطبهم فقال:"يا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته. خرجه مسلم. (3)(4) .
(1) رواه مسلم بمعناه (867) ولم أجده عند البخاري.
(2)
رواه مسلم (1297) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(3)
برقم (2408) من حديث زيد بن أرقم.
(4)
انظر: جامع العلوم والحكم (2/112) بتصرف.
وقولهم: (فأوصانا) يريدون وصية جامعة كافية، فإنهم لما فهموا أنه مودع استوصوه وصية ينفعهم التمسك بها بعده، ويكون فيها كفاية لمن تمسك بها، وسعادة له في الدنيا والآخرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة" هاتان كلمتان جامعتان للشرف والسيادة، والفوز والسعادة، وبهما تنال الدرجة العالية الطولة في الآخرة والأولى (1) .
أما التقوى فهي أشرف الخصال وأسناها، وأجلها قدرا وأسماها، بل كل مكرمة ناشئة عنها، وكل منقبة فاشية منها، وناهيك بها من خصلة خصها الله تعالى بالوصية، وعم الإيصاء بها الأولين والآخرين من البرية، فقال:{وَلقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا} (النساء: من الآية 131) .
واصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقية من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه.
وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله تعالى كقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِليْهِ تُحْشَرُونَ} (المجادلة: من الآية 9){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18) ، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يتقي، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي. قال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (آل عمران: من الآية 28) وقال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (المدثر: من الآية 56) فهو جل جلاله أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده، حتى يعبدوه ويطيعوه، لما يستحقه من الإجلال والإكرام
(1) انظر: جامع العلوم والحكم (2/116) .
وصفات الكبرياء والعظمة، وقوة البطش وشدة البأس.
ففي الحديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له"(1) .
وتارة تضاف إلى عقاب الله، وإلى ما كان عقابه وزمانه. قال تعالى:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آل عمران:131) وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى اللَّهِ} (البقرة: من الآية 281){وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} (البقرة: من الآية 48) .
قال معاذ بن جبل: "ينادى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب عنهم ولا يستتر، قالوا له: من المتقون قال: قوم ألغوا الشرك وعبادة الأوثان واخلصوا لله بالعبادة"(2) . فأعظم ما يتقى الشرك؛ لأنه الذنب الذي لا يغفر كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: من الآية 48) وحرم الله على من أشرك به في عبادته الجنة كما قال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَليْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: من الآية 72) .
وفي البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعوا لله ندا دخل النار"(3) .
وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار". (4)
(1) رواه الترمذي (3328) وقال: هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث قد تفرد بهذا الحديث عن ثابت.
(2)
انظر فيما تقدم: جامع العلوم والحكم (1398-400) .
(3)
برقم (4497) .
(4)
برقم (93) .
قال ابن عباس: "المتقون الذي يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به".
وقال الحسن: "المتقون اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم".
وفي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"(1) . وحديث: "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه"(2) .
وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران: من الآية 102) قال: "أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر". خرجه الحاكم (3) وشكره يدخل في جميع فعل الطاعات.
ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته، وسكناته، وكلماته، فيمتثلها، ونواهيه في ذلك كله فيجتنبها، وحقيقتها. اجتناب المناهي وامتثال الأوامر في الباطن والظاهر. (4)
فبالجملة: هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسوله لأمته.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا (5) .
وفي حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله أوصني قال: "أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس الأمر كله". وهو حديث طويل خرجه ابن حبان (6) .
(1) رواه الترمذي (2451) ، وابن ماجة (4215)، وقال الترمذي: حسن غريب مع ان في سنده عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو ضعيف.
(2)
رواه البخاري (52) و (2051) ، ومسلم (1599) .
(3)
رواه الحاكم (5/294) .
(4)
انظر: جامع العلوم والحكم (1/401-402) . بتصرف.
(5)
قطعة من حديث مطول رواه مسلم (1731) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(6)
رقم (361) وهو حديث ضعيف. فيه إبراهيم بن يحيى الغساني، قال أبو حاتم: كذاب، وقال الذهبي: متروك.
وحديث معاذ بن جبل: "اتق الله حيث ما كنت".
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال: قلت يا رسول الله، أوصني قال:"أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام" وفي رواية: "عليك بتقوى الله، فإنه جماع كل خير"(1) .
وخرج الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني سمعت منك حديثا كثيرا فأخاف أن ينسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعا قال:"اتق الله فيما تعلم". (2) .
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، ويوصون بها في خطبهم.
والتقوى في السر: هي علامة كمال الإيمان، ولها تأثير عظيم في إلقاء الله تعالى لصاحبها المحبة والثناء في قلوب المؤمنين.
ويدل على ذلك قوله جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (مريم:96) .
وحديث: "إذا أحب الله تعالى عبدا نادى جبريل أني أحب فلانا
…
إلى آخر قوله فيوضع له القبول" (3) .
قال أبو الدرداء: "ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله تعالى البغض في قلوب المؤمنين".
(1)(3/82) عن حسين بن الوليد القرشي، عن إسماعيل بن عياش، عن الحجاج بن مروان الكلاعي، وعن عقيل بن مدرك السلمي عن أبي سعيد الخدري. وهذا سند صحيح.
(2)
رواه الترمذي (2683) وقال: ليس إسناده بمتصل هو عندي مرسل، سعيد بن عمرو بن أشوع رواية عن يزيد بن سلمة لم يدركه.
(3)
رواه البخاري (3037) ومسلم (2637) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال سليمان التيمي: "إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته". وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق المجازي بذرات العمال في الدنيا قبل الآخرة، ولا يضيع عنده عمل عامل، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله، فإن من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاما. (1)
انتهى الكلام على التقوى، ومقامها يستدعي الإطناب لا الاختصار، ولكن لا يليق بهذه الأوراق إلا الاقتصار، ولو تتبعنا ما ورد فيها من الآيات والأخبار، وما ثبت عن السلف الصالح فيها من الآثار، لاستدعى حمله من الأسفار.
وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، كما قال علي رضي الله عنه:"إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن كان فاجرا عبد المؤمن فيه ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله"(2) .
وقال الحسن في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن والله إن طاعتهم لغيظ وأن فرقتهم لكفر".
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي أمامة قال: سمعت
(1) انظر: جامع العلوم والحكم (1/410-411) بتصرف.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 15/328 بنحوه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول: "اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم"(1) .
وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا، وسمع وأطاع فله الجنة، أو دخل الجنة"(2) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن تأمر عليكم عبد" وفي رواية "حبشي" هذا مما تكاثرت به الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما اطلع الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم من أمر أمته بعده ، وولاية العبيد عليهم، وفي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اسمعوا وأطيعوا وإن أستعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"(3) .
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: "إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أسمع وأطيع ولو كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف"(4)(5) .
والأحاديث في هذا كثيرة لا تحصى، والآثار لا تعد ولا تستقصى.
(1) رواه أحمد (5/251)، والترمذي (616) والحاكم (1/9) والطبراني في الكبير (7535) وقال الترمذي: حسن صحيح وصححه ابن حبان (4563) .
(2)
رواه أحمد 2/361/362، وذكره الهيثمي في المجمع 1/103 وقال: فيه بقية بن الوليد، وهو مدلس، وقد عنعن، وذكره أيضا 10/188-189 وقال: فيه بقية وهو ضعيف.
(3)
رواه البخاري (7142) .
(4)
رواه مسلم (648) .
(5)
انظر: جامع العلوم والحكم (2/118-119) بتصرف.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فمن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".
هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات، وهذا موافق لما روي عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة، وأنها كلها في النار إلا فرقة واحدة وهي من كان على ما هو عليه وأصحابه. وكذلك في هذا الحديث الأمر عند الاختلاف والافتراق بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
والسنة هي: الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة. ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون السنة إلا على ما يشمل ذلك، وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنها أصل الدين، والمخالف على خطر عظيم.
وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر بالسمع والطاعة لأولي الأمر إشارة إلى أنه لا طاعة لأولي الأمر إلا في طاعة الله تعالى، كما صح عنه أنه قال:"إنما الطاعة في المعروف"(1) .
وفي المسند عن انس أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله، أرأيت إن كانت علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمر في أمرهم؟ فقال:"سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون من السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها" فقلت: يا رسول الله، إن
(1) رواه البخاري (4340) ومسلم (1840) من حديث علي رضي الله عنه.
أدركتهم كيف أفعل؟ قال: "لا طاعة لمن عصى الله"(1) .
وفي أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع سنته، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور.
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا بالذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر، وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه". وفي رواية "تمسكوا بعهد ابن أم عبد واهتدوا بهدي عمار"(2) .
فنص صلى الله عليه وسلم في آخر عمره على من يقتدي به من بعده، والخلفاء الراشدون الذين أمر الاقتداء بهم هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فإن حديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا". (3)
(1) المؤلف- رحمه الله خلط بين حديثين، وذلك من جراء النقل ولعلها زلة قلم منه رحمه الله أو من الناسخ، فالحديث الأول وهو حديث أنس أن معاذ قوله:"فما تأمرهم في أمرهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل" وهذا الحديث رواه أحمد 3/213.
والحديث الثاني: وهو ما أخرجه ابن ماجة (2865) من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيلي أموركم
…
" الحديث وقد رواه أحمد وابنه عبد الله 1/399-400، والطبراني في الكبير (10361) وهو حديث صحيح.
(2)
رواه أحمد (5/382-399-400) والترمذي (3663) ، وابن ماجة (97) وصححه ابن حبان (6902) .
(3)
رواه أحمد (5/220-221) وأبو داود (4637) وقد صحح الحديث الإمام احمد رحمه الله كما نقله الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/122) .
قال مالك رحمه الله: "قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، قوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها، فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"(1) .
وقال خلف بن خليفة: "شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه، فهو وظيفة دين نأخذ به وننتهي إليه"(2) .
وقد روى أبو نعيم من حديث عفيف الكندي (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه سيحدث بعدي أشياء فأحبها إلي أن تلزموا ما أحدث عمر".
وكان علي يتبع أحكامه وقضاياه ويقول: "إن عمر كان رشيد الأمر"(4) .
(1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في الدر المنثور 2/686.
(2)
رواه أبو نعيم في الحلية 5/298.
(3)
الصواب أن الحديث رواه أبو عفيف عن عرزب الكندي كما هو موجود في الإصابة (4/483) وقال ابن حجر في الإصابة: "عزرب براء ثم زاي وزن أحمد الكندي عداده في أهل الشام، ذكره البخاري وابن السكن وغيرهما وقال ابن حبان يقال إن له صحبة، وروى ابن منده من طريق محمد بن شعيب بن سابور عن يوسف بن سعيد عن عبد الملك بن أبي عباس الخذامي أبي عفيف عن عرزب الكندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنه سيحدث بعدي أشياء فأحبها أن تلزموا ما أحدث عمر، قال محمد بن عيب، وأخبرني خلف بن أبي بديل عن أبي عفيف مثله، وقال أبو حاتم الرازي: عبد الملك أبو عفيف مجهول وشيخ لا يعرف) .
(4)
رواه ابن أبي شيبة 12/32.
وروى أشعث عن الشعبي قال: إذا اختلف الناس في شيء، فانظر عمر فخذوا به" (1) . وكذا قال أيوب عنه.
وروي عن ابن مسعود أنه كان يحلف بالله: "إن الصراط المستقيم هو الذين ثبت عليه عمر حتى دخل الجنة"(2) .
وبكل حال فما جمع عليه عمر الصحابة، فاجتمعوا عليه في عصره فلا شك أنه الحق ، ولو خالف فيه بعد ذلك من خالف. وإنما وصف الخلفاء بالراشدين؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به، والراشد ضد الغاوي، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه (3) .
وفي رواية "المهديين" يعني: أن الله تعالى يهديهم للحق، ولا يضلهم عنه، فالأقسام ثلاثة: راشد، وغاو، وضال، فالراشد عرف الحق واتبعه، والغوي: عرف الحق ولم يتبعه، والضال: لم يعرفه بالكلية.
فكل راشد فهو مهتد، وكل مهتد هداية تامة فهو راشد؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا.
وقوله: "عضوا عليها بالنواجذ" كناية عن شدة التمسك بها، والنواجذ: الأضراس.
قوله: "إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة" تحذير للأمة من إتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله:"كل بدعة ضلالة".
والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل في الشريعة يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة
(1) رواه أبونعيم في الحلية 4/320.
(2)
انظر: جامع العلوم والحكم (2/125) .
(3)
انظر: جامع العلوم والحكم (2/123-125) بتصرف.
لغة، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته:"إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"(1) .
وخرج الترمذي وابن ماجة من حديث كثير بن عبد الله المزني وفيه ضعف عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا"(2) .
وخرج الإمام أحمد من رواية غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنها أمثل بدعتكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منها، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة" فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" (3) .
فقوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل من أصول الدين، وهو شبيه بقوله:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(4) . فكل من أحدث شيئا، ونسبه إلى الدين، ولم
(1) رواه مسلم (867) .
(2)
رواه الترمذي (2677)، وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجة (209) وهو ضعيف لضعف كثير بن عبد الله كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/127) .
(3)
رواه أحمد (4/105) والمروزي في السنة (97)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/188) وقال: وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث. قلت: هو صعيف عندهم، وقال الدارقطني: متروك، ومع ذلك فقد جود حديثه هذا الحافظ في الفتح (13/253) .
(4)
تقدم تخريجه.
يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة (1) .
فالمحدثات ضربان:
ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه البدعة الضلال.
وما أحدث من الخير مما لا خلاف فيه لواحد مما ذكر فهي محدثة غير مذمومة (2) .
فمن ذلك: جمع عمر رضي الله عنه الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد (3) .
ومن ذلك: أذان الجمعة الأول (4) زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي رضي الله عنهما، واستمر عمل المسلمين.
ومن ذلك: جمع المصحف في كتاب واحد توقف فيه زيد بن ثابت، ثم وافق أبا بكر وعمر رضي الله عنهم على جمعه لما علم انه مصلحة (5) .
(1) انظر: جامع العلوم والحكم (2/127-128) .
(2)
هذا كلام الإمام الشافعي رحمه الله، انظر جامع العلوم والحكم (2/131) وقد رواه البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/468) .
(3)
رواه مالك في الموطأ (1/114) ، والبخاري (2010) .
(4)
رواه البخاري (912) عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما؛ فلما كان عثمان رضي الله تعالى عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء.
(5)
انظر: البخاري (4986) والترمذي (3103) .
ومن ذلك: جمع عثمان الأمة على مصحف واحد، وإعدام ما سواه مما يخالفه خشية تفرق الأمة، فاستحسنه علي وأكثر الصحابة، وكان ذلك عين المصلحة.
وكذلك قتال ما نعي الزكاة: توقف فيه عمر وغيره، حتى بين لهم أبو بكر رضي الله عنه أصله الذي يرجع إليه من الشريعة، فوافقه الناس على ذلك.
ومن ذلك: كتابة الحديث نهى عنه عمر وطائفة من الصحابة، ورخص فيه الأكثرون، واستدلوا بأحاديث من السنة.
وكذلك: تفسير الحديث والقرآن.
وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم من ذلك كله، ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم، وما حدث من ذلك بعدهم، فيعلم بذلك السنة من البدعة.
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول. (1) وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين.
وروى ابن مهدي عن مالك قال: "لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان"(2) .
وكأن مالكا يشير بالأهواء إلى ما حدث في التفرق في أصول
(1) رواه المروزي في "السنة"(80) بإسناد صحيح كما قال ابن رجب في جامع العلوم (2/132) .
(2)
نقله الحافظ في الفتح 13/253 جازما بثبوته عنه. وفسره بقوله: يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية.
الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة وغيرهم من الفرق الضالة، وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره، فكذب بذلك من كذب، وزعم انه نزه الله بذلك من الظلم.
وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان.
فقوم نفروا كثيرا مما ورد في الكتاب والسنة من ذلك، وزعموا أنهم فعلوه تنزيها لله تعالى عما تقتضي العقول تنزيهه عنه، وزعموا أن لازم ذلك مستحيل على الله تعالى.
وقوم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين، وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها.
ومما حدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين: الكلام في الحلال والحرام بمجرد الرأي، ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته للرأي والأقيسة العقلية.
ومما حدث بعد ذلك: الكلام في الحقيقة بالذوق والكشف، وزعم أن الحقيقة تنافي الشريعة، وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة، وأنه لا حاجة إلى الأعمال، وأنها حجاب، أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام، وربما انضم إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعا مخالفته للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: من الآية 213) . (1)
(1) انظر: جامع العلوم والحكم (2/131-133) بتصرف.
خاتمة في الكلام على شيء من بدع الضلالة التي أحدثها أهل الأهواء والسفه والجهالة، وعمت البلوى بها في سائر الأقطار، على توالي الأعوام والأعصار، فهي في عامة البلدان، محكمة الدعائم والأركان، منشورة فيها لها الأعلام، مشهورة بين الخاص والعام، غلب على أهلها الهوى فمالوا إليها، واستجالهم الشيطان فحملهم عليها، وزين لهم أنها الوسيلة إلى رب الأرباب، والقربة التي تنجي من العذاب، {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: من الآية 26) .
فمن ذلك: ما بني في كل بلد من القباب، والمشاهد التي لا ينكر وجودها أحد، ولا تكاد تحصى بحساب ولا عدد، ورفع القبور التي فيها وتغطيتها بالتوابيت المتخذة من الأخشاب، ونشر غالي اللباس عليها وغالي الثياب، وتخليقها في كثير من الأيام والليالي بأنواع الأطياب، وغلقها بالأقفال والأبواب، واتخاذ السدنة لها والنواب، وقصدهم بفعل هذه البدع الرجسية الذميمة، وتعظيمهم لعظائم هؤلاء الموتى الرميمة، وإيقاع الإجلال لهم، والخوف منهم، والرغبة فيهم، والتوقير في قلوب العباد، حتى استمالوها واستحوذوا عليها، وكانوا لها عبادا، واعتقدوا فيها جلب النفع ودفع الضر ونيل المدد والإمداد، وحصول السعادة والإسعاد وصيروهم من دون الله أندادا، والغاية من هذه الأمور التي هي الكفر والشرك والإلحاد، والتوصل لإلى الدنيا والاصطياد بهذه الحبائل التي لا تزال كل يوم لهم تصطاد، وقد أدركوا بهذا السؤال والمراد، ونالوا كثيرا من الأموال بسبب ما أظهروه من الاعتقاد، ولم يبالوا بما وقعوا فيه من الطرد والإبعاد، عن جناب من تقدس بوحدانيته، وتنزه في
صمدانيته، عن الشريك والمثيل والأنداد والأضداد، فويل لهم ثم ويل لهم يوم يقوم الأشهاد.
واعلم أن ما ذكرته من هذه الأحوال والأمور، التي لا يفعلها إلا كل ظالم كفور، من تعظيم أصحاب القبور، ووقوع الخوف في القلوب منها والمهابة، ولهذا لا تهاب الكعبة المشرفة، ويهاب الميت فلا يطأ أحد بسوء أعتابه، ولا تنتهك حتى في الظلمة حماه ولا جنابه. كلها مضادة للصراط المستقيم، ومنابذة لأوضاع الشرع القويم، هاتكة جناب الحنفية السمحاء وحماها، ومغيرة رسومها بعد ما شادها الرسول وحماها، عادلة عن منهاجها الأقوم، وصراطها الواضح الأعظم، مائلة إلى الملة المظلمة المنهاج، ونائلة أربابها هلاك الأبد في تلك الفجاج، البينة الانحراف عن الدين القيم والبالغة في الاعوجاج، فمن تدبر كتاب الله المبين، وتأمل كلام رسوله الأمين، وتحقق أن ما ذكرته يزيد على أفعال المشركين، ويشهد لذلك أن قريشا وغيرهم مخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء يدعون الأنداد إذا حل بهم الكرب العظيم الزائد.
فقد صح أمره صلى الله عليه وسلم بإزالة المعبدات والأوثان، وطمس التماثيل وهدم القبور المشرفة البنيان، وفعل ذلك أصحابه اتباعا لهديه فيما فتحوه من البلدان، إذا لا يجوز بقاء مراسم الشرك في مكان، بل تجب المبادرة إلى إزالتها على أهل الإيمان وهذا مسجد الضرار، وقطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها لما أخبر أن أناسا ينتابونها (1) ، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يعموا قبر دانيال لما فتحوا تستر فوجدوه في بيت الهرمزان على
(1) رواه ابن وضاح في معجمه (101) .
سرير، وعند رأسه صحف (1)، فأين قوله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب:"لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) " من حال أصحاب هذه البدع التي زادت في غلوها وإشرافها، فرأوا دين الله في رفع القبور وإشرافها.
وفي الحديث عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يعقد عليه. رواه مسلم (3) . وروى عقبة بن عامر قال:"لا تجعل على القبر من التراب أكثر مما خرج منه"(4) .
ومن ذلك: دعاؤهم أصحاب هذه القبور، والالتجاء إليهم في كل شدة ومكروه ومحذور، والإخلاص لهم في الشدات، ورفع الكف لهم في الدعوات، وسؤالهم منهم جميع الحاجات، وكشف المضرات، وتفريح الكربات، والاستغاثة بهم في النوازل والمهمات.
ويحكى عن بعض هؤلاء أنه إذا دعا أربابه يقول متبجحا إنهم أسرع إجابة، وإنهم ينجحون له قصده وطلابه، فتعسا لكل مشرك ما أفظع جوابه؛ وتبا له ما أشنع خطابه!
وبعضهم يحكى عنه أنه يقول: استغثت بفلان فأغاث، وعجل لي ما
(1) مجموع الفتاوى (27/170-171) بتصرف وقد ذكرها أيضا بسياق أتم في (270/27) وقال (رواه يونس بن بكر في زيادات مغازي ابن اسحاق) عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال
…
) ثم ذكر الخبر.
(2)
رواه مسلم (969) .
(3)
برقم (970) .
(4)
انظر: كشاف القناع 1/611 وقد نقله من ابن القيم في إغاثة اللهفان، ونسبه ابن القيم إلى الإمام أحمد، ولم أجده في المسند.
سألته من غير إبطاء ولا ارتياب، فمن كانت هذه حاله، وهذه عبادته وأفعاله، وشاهده ما فصح به مقاله، فقد نبذ الدين الحق من غير مبالاة ولا اكتراث، ولكنه قد أخذ هذا من ملة آبائه بطريقة الميراث، فصار من جملة المتمسكين بالضلال والوراث.
وبعض هؤلاء يقول: قبر الشيخ فلان ترياق مجرب، وسائله لا يرد ولا يخيب، وغالب هؤلاء استدرجهم الشيطان بشرك التقليد، وحسن لهم أن آباءهم وأجدادهم على الدين الرشيد، والصراط المسلوك الحميد، وإنهم باتخاذ الوسائط توسطوا غارب الرأي السديد. {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ:49) ولهذا كان جواب أسلافهم لمن جاءهم بالتوحيد من الرسل وأتباعهم الموحدين {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء:53){قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء:74){إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: من الآية 22) .
قال الله تعالى مبينا ضلالهم وضلال من هم مقلدون، وبآثارهم هم مقتدون:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّين فَهُمْ عَلى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات:70) .
ومن شرح الله صدره للإسلام ورأى ما يفعله عند القبور والمشاهد أكثر الأنام، يعلم بالقطع واليقين، أن هذه الأمور مضادة للدين، بل هي في الحقيقة هدم لأصله الراسخ ودين محدث للدين القيم ناسخ. {أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الشورى:21) .
وقال جل جلاله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4) .
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة: الإلزام بعدم ما يدل على ألوهية من عبد من دونه فلا يستحق العبادة، وهذا الإلزام بطريق العقل المتضمن له قوله:{أَرُونِي مَاذَا خَلقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} .
وتضمنت أيضا: الإلزام بعدم ما يقتضي ألوهيتهم بطريق النقل كما هو صريح {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} فإذا كان القرآن المجيد ناطقا بالتوحيد، ولم يشرع الله تعالى لنبينا إلا ما شرعه لجميع الرسل، وهو إقامة الدين كله لله والمراد بذلك أن يوحد جل جلاله في العبادة، فلا يشرك معه خلق من خلقه.
قال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} (الشورى: من الآية 13) إلى قوله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية 13) .
وقال تعالى: {وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَليْهِ الضَّلالةُ} (النحل: من الآية 36) والآيات المحكمات كثيرة لا تحصى.
فإذا علم هذا بالبرهان الذي دلت عليه محكمات القرآن، وتحقق القلب والجنان أن الله تعالى لم يأذن لإنس وجان، أن يصرفوا شيئا من أنواع العبادة التي هي محض حقه إلى رسول أو ملك أو صالح أو أحد من جميع خلقه.
قال تعالى: {وَمَا خَلقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) ومن صرف شيئا منها إلى أحد فقد كفر بربه وجحد، وأن الرسل إنما أرسلوا بجميع ذلك، وإزالة آثار تلك المسالك، وأن الدماء والأموال إنما استبيحت بعد الامتناع عن هذه الحال، والإقلاع عن الشرك والضلال،
فحينئذ يتجه لنا سؤال، وهو أن يبحث ويقال لكل مشرك ضال (1) : ما تقول في الدعاء هل عبادة أم لا؟ وإذا ثبت عندك أنه عبادة، هل تكفر من دعا غير الله أم لا؟ وإذا تقرر أنه دعاء، وأنه يكفر من دعا أحدا غير الله، فيقال له: ما تقول في الاستغاثة هل هي نوع من الدعاء أم لا؟ فإن قال إنها نوع منه، فيقال: ما بالكم تفعلونها وتستغيثون بالأموات والعظام الرفات، وتسألونهم الحوائج، وترون هذا منهجا من أحسن المناهج.
وإن باهت وقال: ليست من الدعاء في حال، قيل: هذا محال، ولا يجول في بال، ولا يقوله إلا معتوه في عقله خبال، ولكن بين لنا ما فيها، وما حقيقتها التي تدعيها، فإن لكل قول حقيقة، وكل سالك في طريق يعرف طريقه؟! فهناك يقف حماره في العقبة، ولا يتم له ما طلبه، وحينئذ يلجئه الفلج والإلزام، ويلجمه الخصام باللجام، وينكص على عقبه من فرط الإحجام، ودحوض حجته عند الخصام.
فيقول إذ ذلك: لسنا ندعوهم، ولا بهم نستغيث، وإنما نحن نطلب منهم الشفاعة إلى الله فهو المغيث، فنقول هذه دعوى تقرب من الصدق، فلا نأبنها بالتكذيب، ولكنها متضمنة لشرك التقريب، وهذه بعينها هي دعوى الجاهلية الأولى، وهي مساوية لها في الشرك بالطريق الأولى، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ
(1) ما سيذكره المؤلف من حوار وشبهات لهؤلاء المشركين استفادها من كتاب الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كشف الشبهات، ولذا من أراد التوسع في فهم هذا الحوار ومعرفة تلك الشبه والتوسع فيها فليراجع ما كتبه أهل العلم شرحا وإيضاحا على كشف الشبهات.
وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:18) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية 3) .
قال أكثر المفسرين: كانت الكفار إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض يقولون الله كما حكاه الله تعالى عنهم فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام، {قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} أي: لأجل طلب شفاعتهم عند الله تعالى وهذا كفر منهم.
قال الحافظ ابن كثير: " قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم: {إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده. ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وذلك أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا. فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به" انتهى (1) .
فإن قيل: إن الكفار إنما كانوا يعتقدون القربة ويرجونها، ويطلبون الشفاعة ويسألونها، من أصنام ينحتونها، ونحن إنما نتقرب إليه بأكرم الخلق عليه؟! (2) .
فالجواب أن يقال: ما ذكرتم ممنوع، وبنص القرآن معارض مدفوع، فعقيدتهم المذكورة، وطلبتهم المشهورة، ليست على أصنام مقصورة، ولا في أوثانهم محصورة، بل عموا الملائكة والرسل والأنبياء والصالحين،
(1) تفسير القرآن العظيم 4/46.
(2)
انظر: كشف الشبهات ص 62 تحقيق عبد الله القحطاني.
والأصنام والجن والشياطين.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَال اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (المائدة: من الآية 116) وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة: من الآية 31) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: من الآية 57) وقال جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: من الآية 194) فقد ظهر من صريح هذه الآيات ما ذكرناه من التعميم والمساواة، مع أنا لو فرضنا الأمر وقدرناه على خلاف الواقع، وقلنا إنما طلبوا ذلك من الأصنام فهل يكون هذا دافعا (1) للنص القاطع، والبرهان الساطع، فقد ساوى بين الملائكة والبشر والجن والأصنام، في هذا الاعتقاد والحكم الشارع ولم يفرق بين عباد الشياطين والجن والأشجار والأصنام، وبين عباد الملائكة والأنبياء والرسل الكرام، وسائر الصالحين من الأنام، بل قاتلهم صلى الله عليه وسلم واستباح الدماء والموال، وأذاقهم الله تعالى أعظم الوبال، ولم يزل على تلك الحال حتى أنقذ الله تعالى من أنقذه منهم من الضلال، ومن سبقت له السعادة في المآل. قال الله تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون:117) وقال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (لأنفال: من الآية 39) وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} (التوبة: من الآية 5) .
فإن قيل: ما ذكرتم من الكفر بطلب هذه الشفاعة ظاهر في غير خاصة
(1) في المخطوط "دافع" والصواب ما أثبت.
الله من عباده ومسلم من غير نزاع، وأما خاصته وخيرته من عباده، فالكلام معكم فيه من وجهين:
إما أن تمنعوا شفاعتهم، وتنفوا ما أثبت الله تعالى ونبيه لهم من الشفاعة، فهذا كفر بواح.
وإما أن تثبتوها كما أثبتها الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم لهم بطريق التفضل، وتعتقدون أنهم يشفعون ويشفعون، فكيف يكون سؤالها وطلبها منهم كفرا مبيحا للدم والمال؟! (1) .
فنقول في الجواب عن هذا: اعلم أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، والقرآن العظيم هو الصراط المستقيم، الذي لا يؤمه إلا الأتقى، ولا يعدل عن نوره إلا الأشقى، فمن التمس الهدي من غيره ضل، ومن أضاع منه نصيبه زل، ونحن نثبت ما أثبته القرآن، وننفي من الشفاعة ما نفى، ولا ندين الله إلا بذلك، وكفى به شرفا، ومن ابتغى وراء ذلك فقد جاء إدا وسرفا.
وتحقيق الجواب عن هذه الشبهة والارتياب: أن الذي ندين الله به، ونعتقد أن الله تعالى في الآخرة يتفضل على خاصته من عباده، وخيرته من خلقه بالشفاعة، بعد إذنه لهم فيمن يشفعون له، وبعد رضاه أعمال المشفوع لهم وأقوالهم، وإنه لا يرضى سبحانه وتعالى إلا التوحيد، فهذه الشفاعة المقيدة بهذه القيود الثلاثة، يكفر منكرها، ويحرمها كل جاحد كنود؟!.. وأجلها وأعظمها شفاعة نبينا في فصل القضاء، وهي المقام المحمود، فهي في الحقيقة لله تعالى، فإذا أراد رحمة عبده شفع إلى نفسه، فأذن لمن شاء أن يشفع فيه وقد دل على
(1) انظر: كشف الشبهات ص 67 وما بعده.
هذه الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة:
قال جل جلاله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: من الآية 44) وقال تعالى: {مَا لكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (السجدة: من الآية 4) .
وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: من الآية 255) وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لهُ قَوْلاً} (طه:109) وقال تعالى: {يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (لنجم: من الآية 26) والآيات كثيرة.
وفي الصحيحين عنه في حديث الشفاعة قال: "إني آتي تحت العرش، فأخر لله ساجدا، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حدا ثم أدخلهم الجنة ثم أعود"(1) فذكر أربع مرات.
وضد هذه الشفاعة الشفاعة الشركية التي أثبتها المشركون ونفاها الله تعالى: فقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: من الآية 48) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} (البقرة: من الآية 254) .
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه"(2) .
وروى الترمذي عن عوف بن مالك قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: "آتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة
(1) رواه البخاري (4206) ومسلم (193) من حديث مالك رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (99) .
فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا" (1) .
فتبين من هذه النصوص أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للمشرك؛ لأن الله تعالى لا يرتضيه ولا يرضى قوله، فلا يأذن لأحد أن يشفع فيه، إذ هي معلقة بأمرين: رضاه عن المشفوع، وإذنه للشافع.
فلا توجد إلا بمجموعهما، وهذه هي التي ننفيها كما نفاها الله تعالى (2) .
وأما الشفاعة المثبتة فهي التي لأهل التوحيد، كما صرح بها القرآن المجيد، وتواترت بها الأحاديث الصحيحة الأسانيد (3) .
وأما كون الطلب لها والسؤال، كفرا مبيحا للدم والمال، فهذا كلام فيه غاية الإجمال، بل هو من المغالطة في المناظرة والجدال، والذي نجزم به وندين هو ما أفصح به النور المبين، وذلك أن الحكم مختلف باختلاف الحال، في صدور السؤال والمقال:
فما كان في حياته عليه الصلاة والسلام فليس إلى منعه من سبيل، لورود النص فيه والدليل، ولا يلزم على ذلك وقوع المحذور، وحاشا أن يقر أحدا على محظور. فقد سأله الشفاعة من أصحابه جماعة (4) . ولو كان
(1) رواه الترمذي (2441) وأحمد (6/23) وابن حبان (211) وصححه.
(2)
انظر: مدارج السالكين (1/341) .
(3)
انظر: مجموع الفتاوي (14/414) .
(4)
من ذلك قول عكاشة بن محصن رضي الله عنه عندما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفا يدخلون الجنة بلا حساب قال: ادع الله أن يجعلني منهم. والحديث في البخاري ومسلم، وقول أم سليم: يا رسول الله خادمك أنس ادع له. رواه البخاري، وقول المرأة التي كانت تصرع يا رسول الله أدع الله لي، وآخر المر سألته الدعاء بألا تنكشف عند الصرع فدعا لها رواه البخاري.. انظر: الدر النضيد في إخلاص التوحيد ص (84-45) .
سؤالها في حياته شركا لسد بابه، بل لم تسأل ذلك الصحابة، فلا ريب في جواز ذلك ولا إشكال، وليس للمقال فيه مجال.
وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فهو مما لا سبيل إليه، والطرق دونه مسدودة، وما يتشبث به المخالف للصواب من موضوعات الأدلة وضعافها مردودة، لا تقاوم قواطع النصوص ولا تعارض براهين المنع المنصوص، على استواء العموم في ذلك والخصوص.
وحاصل التحقيق في إيضاح هذه الطريق أن نقول:
اعلم أن الشفاعة كالاستغاثة محض حق لله تعالى، لا خلاف فيه بين أهل الحق في ذلك ولا نزاع، ولا عبرة بخلاف أهل الزيغ والابتداع، الذين يحرفون الكلم على خلاف مراد واضعه، ويضعون على وفق أهويتهم لا على وفق مواضعه، بل يبتدعون الأقوال، ويخترعون شبه الضلال. قال الله تعالى:{مَا لكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} (السجدة: من الآية 4) وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ليْسَ لهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (الأنعام: من الآية 51) وقال جل جلاله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: من الآية 44) وغير ذلك من الآيات.
فإذا تقرر أنها من خالص حق رب العالمين، وأنها داخلة في جملة أنواع الدين، الذي قضاه وأمر به وأوجبه لنفسه دون البرية أجمعين. كما قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} (الإسراء: من الآية 23) وقال جل جلاله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} (يوسف: من الآية 40) وقال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّين} (غافر: من الآية 65) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ} (البينة: من الآية 5) امتنع صرفها لغيره، فلا يجوز صرفها لرسول ولا نبي، ولا ملك مقرب
ولا ولي، لأن ذلك من الشرك الجلي، إلا أن الدليل القاطع خص عموم النهي بالأموات لقيام المانع، ودل على أن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه وكذلك الاستشفاع، كل منهما جائز من غير منازعة ولا دفاع، وأنهما خارجان من عموم الامتناع.
قال الله جل جلاله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: من الآية 15) .
وقال تعالى: {وَلوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لهُمُ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} (النساء: من الآية 64) .
فإن قيل: إذا كانتا من أنواع العبادات، فلم اختص الجواز بالأحياء دون الأموات، والأصل العموم والمساواة؟! (1) .
قلنا: لا نسلم بكون صدور ذلك عبادة، ولا يواطئ لسان أحد في ذلك اعتقاده، حتى يتسنى على ذلك الاعتراض، ويلزم الإيراد والانتقاض.
وغاية ما في ذلك، ونهاية ما هنالك، لسالكي هذه المسالك، التوصل إلى التوسل بما يقدرون عليه، وبالدعاء لا التوسل بالذوات، وهذا مقدور عليه في الحياة دون الممات، ولو كان هذا أمرا محظورا، وحجرا في حال الحياة محجورا، وشركا برب المشارق والمغارب، وكفرا موردا لسوء العواقب، وموقعا في مهواة المعاطب، لعتب عليه الصلاة والسلام على سواد من قارب، حين طرق قوله أسماعه، فكن لي شفيعا يوم لا ذو
(1) انظر: صيانة الإنسان ص (211-239-245) البروق النجدية ص (82-140) الضياء الشارق ص (453و553) .
شفاعة (1) ، ولمنع عليه الصلاة والسلام غيره من الصحب الكرام.
فإن قيل: إن الرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أحياء في القبور، ونبينا صلى الله عليه وسلم له المزية عليهم، فكيف يكون سؤاله شركا محظورا؟ (2) .
قلنا: هنا ضلت الأفهام، وزلت الأقدام، وصار لها على المحظور إقدام، ودخل هذا الالتباس في قلوب أناس من المشهورين بالعلم والمنطق والذكاء والفهم، فلهجوا بذلك بالأشعار، من غير تأمل ولا إشعار، ولا تدبرا لقول واستبصار، فطفحت الأفهام، عن مدارك الأحكام.
وحاصل الجواب بإيجاز من غير إطناب: أن هذه الحياة المقررة، قد ذكرها الله تعالى في كتابه مكررة، فليس فيها ارتياب ولا إنكار، والفاعل المختار يتصرف كيف يشاء بما تقصر عن الإحاطة به الأفكار، وقدرته جل وعلا لا تحيط به العقول، فلا يسوغ إلا الإيمان بما أخبر به وإتباع النقول، والتمسك بما أنزل إلينا من النور، الذي هو شفاء لما في الصدور، وهو المنزل بالحق حكما للناس، فيما وقع فيه الاختلاف والإلباس، فهذه الحياة التي أخبر بها الله تعالى وحكم، ليست كالحياة التي حكم بفنائها على من برأه من النسم، وأوجده من العدم، وأناط بها تكليف العباد، وافترقوا بسبب ذلك في المعاد، وإنما هي حياة غير معقولة لنا ولا مكيفة، بل هي حياة برزخية نؤمن بها كما أخبر به على أي صفة.
(1) رواه الطبراني في الكبير (7/95) ورقمه (4676) وانظر فتح الباري (7/182) .
(2)
انظر البروق النجدية ص 29-35، جلاء العينين ص 462، التوسل للألباني ص 137، شرح النونية للهوامش (2/4-22) وشرح ابن عيسى للنونية (2/171) والصواعق المرسلة ص 81، دعاوى المناوئين ص 246.
ومن المعلوم أن الموت انتقال من دار إلى دار، ومن حال إلى حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار، وأن أرواح الأنبياء والشهداء، والصديقين والسعداء، في الرفيق الأعلى قرارها، ومسرحها رياض الجنات وأنوارها، وروحه الشريفة صلى الله عليه وسلم في أعلى مكان، من تلك الجنان، في جوار الرحمن، فتلك الأرواح قد فارقت الأشباح، ولزمت الملأ الأعلى ليس لها عنه من براح {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (الفجر:28) وهذه والله هي العيشة الهنية، غير أن لها اتصالا بأجسامها السفلية، وبهذا الاتصال والتعلق منها بالأجسام يحصل النعيم في الضريح للأبدان، المصرح به في القرآن، ومنه يحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام رده على من سلم عليه السلام، فهذه الحياة لها شأن، وللحياة الدنيوية شأن أي شأن، ولو ساوت الحياة البرزخية، حقيقة الحياة الدنيوية، لزم مساواة الحادث للقديم، وتعالى عن ذلك الحي الباقي الوارث الحكيم، والمبين للأمة أحكام التنزيل، هو الذي تلقيت عنه هذه الأحوال كلها على الإجمال والتفصيل، وهو الذي بين شفاعة الأنبياء والمرسلين، والشهداء والملائكة والصالحين، وقد قاتل من تعلق بهؤلاء من المشركين، فهلا فرق في القضية بين طالب الشفاعة من الأصنام وطالبها من صفوة البرية، وما ذكر الله تعالى في كتابه من الآيات، إعلاما لنبيه صلى الله عليه وسلم بحصول حقيقة الممات، بخطاب التخصيص له والتعميم لسائر البريات، وإخباره عن نفسه بذلك، وأنه بشر لا بد من سلوكه في هذه المسالك، وطلب فاطمة رضي الله عنها الميراث (1) ، واختلاف أصحابه
(1) رواه البخاري (2926) ومسلم (1759) .
في دفنه بعد تحققهم الموت (1) ، وفي قتال أهل الردة (2) ، وغير ذلك دليل على ما ذكرنا، فإذا كان أصحابه أعلم الأنام، بمدارك الأحكام، فكيف يسوغ منهم هذا الاختلاف، وهو حي في قبره كحياته بين أظهرهم؟.
ولما وقع التنازع في بيعة أبي بكر رضي الله عنه، هلا رجعوا في ذلك إليه، وعرضوا ذلك كله عليه، ولم عدلوا إلى الاستشفاع بعده بدعاء عمه العباس (3) وتركوا سيد الناس؟ وما ذاك إلا لما أتوا من العلم، ومنحوا من الفهم، ورزقوا من الإتباع، وترك الأهواء والابتداع رضي الله عنهم أجمعين.
هذا ما ظهر لي في تحقيق هذه المسألة وتقريرها، وكشف أسرارها وتحريرها، فعض عليها بالنواجذ والأنياب، فإنك قد لا تجده مسطرا في كتاب.
ومن ذلك: تقبيل هؤلاء القبور والطواف بها، والتمسح ببنائها، وأخذ تربتها وأكلها، ونقلها للتبرك، وإيقاد النار والمسرج فيها، وشد الرحيل إليها، وإلقاء الخرق عليها وكل هذا من الأوضاع الجاهلية، التي غيروا بها الحنفية، ووضعوها للات والعزى، ورموا بها نصرا وعزا، حتى ظهر عليهم صلى الله عليه وسلم فلم يبق منهم ركزا، فمن اعتصم بكتاب الله وتمسك بسنة
(1) رواه ابن ماجة (1628) وأبو يعلى في مسنده (1/31) ورقمه (22)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/622-664.
(2)
رواه البخاري (1335) ومسلم (20) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (964) من حديث أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى العباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا توسلنا إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون".
رسوله صلى الله عليه وسلم ، يعلم أن هذه الأمور كلها تضاد أمر الله ونهيه، وما جاء به رسوله من عنده، فإن الذي شرعه لنا الرسول، لا يجوز عنه العدول، وما زاد عليه باطل غير مقبول، فزيارة القبور التي أمر بها، وكان يعلم بها أصحابه إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا:"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"(1) . والحكمة فيها: إنما هو تذكرة الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له والترحم والاستغفار. ولذلك شرعت الصلاة للدعاء له والشفاعة فيه، فإذا كان هذا ما شرعه الله لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قبل دفنه، فبعد الدفن أولى، ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:"إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم2".
فلهذا بدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، فبدلوا الدعاء للميت بدعائه والشفاعة عند الله بطلب الشفاعة منه، وخصوا تلك القبور والمشاهد بالدعاء والعبادة.
وقد وردت السنة بإبطال ذلك والتغليظ في الوعيد لمن فعله؛ لأن ذلك يصيرها أوثانا تعبد من دون الله. وإنما حملهم على ذلك الغلو في الصالحين وفرط محبتهم، وهذا هو الذين تغيرت به الحنفية من قديم الدهر وحديثه، وهو السبب في كفر بني آدم كما حكى الله تعالى عن قوم نوح قال تعالى: {قَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا
(1) رواه مسلم (249) بنحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه احمد (6/180) من حديث عائشة رضي الله عنها.
2 رواه أحمد (5/218) والترمذي (218) وقال: حسن صحيح وصححه ابن حبان (6702) .
يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح:23) فإن هؤلاء أسماء رجال صالحين ماتوا، فعكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم، قال صلى الله عليه وسلم:"إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"(1) وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله". أخرجه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه (2)، وروى الإمام مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(3) ، فإذا كان هذا قبر سيد ولد آدم، ولحده أفضل من السماء والأرض، والنبي دعا ربه أن لا يجعله وثنا بسبب العبادة، فقد صرح أن من عبده أو دعاه أو عبد الله عنده، فقد صيره وثنا، فما بالك بغيره؟! وهذا فيه من التهديد البليغ والزجر الشديد ما ليس وراءه مزيد. وفي السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليه المساجد والسرج"(4) .
(1) رواه أحمد (1/15-347) والنسائي (5/268) وابن ماجة (3029) من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما. قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/286) : (إسناده صحيح على شرط مسلم) .
(2)
رواه البخاري (3261) ولم أجده عند مسلم.
(3)
رواه مالك (85) في الموطأ مرسلا عن عطاء، ولكن يشهد له ما رواه أحمد (2/246) من طريق حمزة ابن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وهذا الإسناد حسن والله أعلم.
(4)
أخرجه الترمذي (320) والنسائي (2043) وأبو داود (3236) وغيرهم قال أبو عيسى، حديث ابن عباس حديث حسن أبو صالح هذا مولى أم هانئ بنت أبي طالب واسمه باذان ويقال باذام أيضا. والحديث فيه ضعف. انظر: السلسلة الضعيفة (1/395) .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود مرفوعا: "إن من شرار أمتي من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد"(1) .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال: وهو كذلك "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا"(2) . وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي من ذلك.
فروى مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، إني أنهاكم عن ذلك"(3) .
فنهى عليه الصلاة والسلام في مرض موته، ونهى وهو في السياق عن اتخاذ القبور مساجد.
ومعلوم أن كل من كان يعبد فيه أو يدعى فيه، فقد جعل مسجدا، وهذا تحذير منه لأمته عن مشابهتهم اليهود والنصارى في ذلك، فتدركهم اللعنة؛ لأن اللعنة ليست خاصة باليهود والنصارى، بل من اتخذ القبور مساجد، وخصها بنوع من أنواع العبادة، فهو ملعون ولو لم يبني عليها مسجدا ولكن تشابهت قلوبهم {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَاّ كُفُورا}
(1) رواه أحمد (1/405) وابن حبان (6847) وصححه، وأبو يعلى (9/216) ورقمه (5316) .
(2)
رواه البخاري (425) ومسلم (531) .
(3)
مسلم (532) .
(الإسراء: من الآية 99) .
ومن ذلك: صرفهم النذور إلى الأموات في القبور، وقد ثبت بالدليل القاطع أنه نوع من العبادة كما نص عليه الشارع وأنه حق لله تعالى، لا يصلح لغيره، فما يفعل عندها من التقرب بالعبادة والدعاء والنسك كله بدع شركية، وشرعة جاهلية، مخالفة لدين الإسلام، مشابهة لأفعال عبدة الأوثان والأصنام ولو كان قصد الناذر التقرب إلى الله بذلك، لم يجز فعله هنالك؛ لأن التقرب إلى الله بذبح نسك في مكان يذبح فيه للنصب شرك.
ويدل على ذلك ما في سنن أبي داود عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" هل فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا. قال رسول الله: "أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك بن آدم" (1) .
وروى الضياء في المختارة عن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعوا، فنهاه وقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم"(2) .
وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم
(1) رواه أبو داود (3313) وقد صححه الحافظ في التلخيص الحبير (4/180) .
(2)
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (2/186) وإسماعيل القاضي (20) وابن أبي شيبة في مسنده كما في المطالب العالية (1/372) .
تبلغني حيثما كنتم" (1) .
فهذا أمره صلى الله عليه وسلم ونهيه الذي أمرنا به وعدم مخالفته.
قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: من الآية 7) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أم تي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري (2) .
وهذا هديه وشرعه في زيارة القبور، وهدي السلف والخلف رضي الله عنهم أجمعين، الذين اقتبسوا من مشكاة أنواره، واقتدوا في جميع أقوالهم وأفعالهم بآثاره، ولقد وقعت بهم الحوادث، ودهمتهم الخطوب الكوارث، وألمت بهم مدلهمات النوائب، وحلت بهم غياهب المصائب، وأمطرت عليهم بالبلايا سحائب، ودرجت عليهم من الشدائد غياهب، من مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم ما بعده من الفتن، وما حل بأهل المدينة في وقعة الحرة من المحن، واستباحة الدماء والأموال والفروج، ومع ذلك لم يكن لهم عن هديه صلى الله عليه وسلم خروج، ولا إلى سنن الجاهلية عدول وعروج، فلم ينقل عن أحد منهم أنه التجأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استغاث به، أو دعاه واستنصر به، وإنما ذلك لعلمهم أنه نهى عن ذلك وحذر، وتوعد عليه ونذر، بين لهم وأخبر أنه من الشرك الأكبر. قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ
(1) رواه أبو داود (2042) وأحمد (2/367) وقال ابن تيمية في الاقتضاء ص (321) : (إسناده حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه صاحب مالك فيه لين لا يقدح بحديثه) وصححه النووي في الأذكار ص (93) ، وحسنه ابن عبد الهادي كما في قرة عيون الموحدين ص (118) .
(2)
رواه البخاري (6851) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَليْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر: من الآية 38) . وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس:106) وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} (يونس: من الآية 49} وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن:18) وقوله في حديث (إنذاره عشيرته*) : "يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا؟ أغني عنك من الله شيئا"(1) .
فمن أنار الله تعالى قلبه بأنوار الإيمان، وشرح صدره لقبول الحق والعرفان، اتضح له واستبان، ما وقع من الناس في الأزمان، عن القبور من العبادة والنسك وإيقاد النيران، وعند الأشجار والأحجار في سائر البلدان، ومن شاهد ما يفعل عن قبره الشريف، وما يفعل عند قبر كل صالح كالرفاعي (2) ، وأحمد البدوي بمصر (3) ، وعبد القادر (4) ومعروف
(1) رواه البخاري (2753) ومسلم (206) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
هو أحمد بن علي بن أبي الحسين الرفاعي الحسيني، موسس الطريقة الرفاعية، ولد في العراق سنة 12هـ بعد موت أبيه ، فرباه خاله، وتفقه بواسط وتصوف، فانظم إليه خلق كثير لهم في اعتقاد مبالغ فيه، توفي بقرية أم عبيدة (بين واسط والبصرة) سنة 578?. انظر سير أعلام النبلاء (77921) وفيه مولده سنة 500هـ، والعلام 1/174، ومعجم المؤلفين.
(3)
هو أحمد بن علي الحسيني البدوي، صوفي ولد بفاس، وطاف البلاد، وعظم شأنه في مصر، وانتسب إلى جمهور كبير. توفي سنة 675هـ ودفن في طنطا. انظر: معجم المؤلفين 1/314.
(4)
هو عبد القادر بم موسى بن عبد الله الكيلاني أو الجيلاني، صوفي تنسب إليه الطريقة القادرية، ولد بكيلان سنة 470هـ ودخل بغداد، فسمع الحديث وتفقه، توفي سنة 561هـ. انظر: طبقات الأولياء ص 246، شذرات الذهب 4/198، معجم المؤلفين.
الكرخي (1) ، وفي المشهد الذي يدعى أنه قبر علي وليس كذلك (2) ، وما يفعل في البصرة وعند الزبير ببغداد، وما يفعل عند قبر ابن عباس والمحجوب (3) وأبي طالب، وما كان يفعل في مشاهد الأحساء قبل هذه الأيام، وبلدان فارس وعمان، ومشاهد اليمن وكل بلاد إلا ما شاء الله تعالى، علم أن هذا فسخ لدين الحق والهدى، ونسخ لبروده المحكمة السدى، ورفع لقواعد الشرك والضلال والردى، وذلك لطول العهد بلوامع الشريعة الغراء وبعد المدى وتيقن أن هذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام:"بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس"(4) وفي آخر: "الذين يصلحون ما أفسد الناس"(5) .
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ووعد، وتطاول على غربة الإسلام المد، فلا يمضي قرن إلا خلفه من هم أسوء من الأولين حالا، وأعظم فتنة وأقبح أفعالا، والموفق فيه من رزقه الله تعالى فيه إخلاص الدين، وإسلام وجهه وإحسان عمله لرب العالمين، وعرج فيه على معراج التسليم والصبر، إلى منهاج الاحتساب للأجر.
(1) معروف بن فيروز الكرخي أبو محفوظ، ولد من أبوين نصرانيين، وكان من موالي علي الرضا بن موسى الكاظم، ومنه أخذ العهد ثم صار بوابا لموسى. توفي سنة 200هـ. انظر القشيرية ص 427، طبقات الأولياء ص 493.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى 27/447 و 493.
(3)
وبحثت عن ترجمة له، فلم اعثر على شيء.
(4)
رواه أحمد (4/73) والطبراني في المعجم الكبير 17/16 ورقمه 11.
(5)
رواه الترمذي (2630) وقال: حسن صحيح.
فقد صح عمن له غاية الشرف ونهاية الفخر: "يأتي على الناس زمان المتمسك فيه بدينه كالقابض على الجمر"(1) .
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يأتي على الناس زمان للعامل فيه أجر خمسين منكم"(2) . فلأجل غربة الإسلام والدين، وإتباع سنن الغاوين والمشركين، وخسوف بدر الحق وكسوف شمسه، وتغيير الصراط المستقيم وطمسه، يكفر من قام يدعو إلى التوحيد، ويرمي بالخروج من ملة الإسلام من غير ترديد، ويحكم عليه بالبدع والتضليل، من غير برهان ولا دليل {وَمَا اخْتَلفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: من الآية 19) .
ولكن الله وفق من شاء من الخلق لما اختلف فيه من الحق، فأرشد إلى الخير والهدى، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويخذل من يشاء بعدله القويم، وقضائه السوي الحكيم، ويستحب العمى على الهدى والجحيم على النعيم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة:32) {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلمُونَ} (الروم:6) .
(1) رواه الترمذي (2260) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه وعمر بن شاكر قد روى عنه غير واحد من أهل العلم.
(2)
رواه الترمذي (3058) وقال: هذا حديث حسن غريب. وأبو داود (4341) وابن ماجة (4041) وابن حبان (385) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. انظر كتاب "صفة الغرباء" ص 198.
الفصل السابع: في الأمر بالاعتصام بكتاب الله المبين، والتمسك بحبله المتين، وذم الافتراق في الدين، وإخبار الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، بافتراق أمته المجيبين، على ثلاث وسبعين، وأنها كلها في النار مع المكذبين، إلا من كان على سنته وسنة أصحابه المهندين صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم يوم الدين.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِليْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (النساء:175-175) وقال: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام:126) .
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) وقال تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} (الأنعام: من الآية 157) .
وقال جل جلاله: {كِتَابٌ أُنْزِل إِليْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 2-3) .
وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِل مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: من الآية 157) .
وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا
فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58) .
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} (يونس: من الآية 108) وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيل كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: من الآية 111) . وقال جل جلاله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِليْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: من الآية 1) وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية 89) .
وقال عز وجل: {قُلْ نَزَّلهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:102) .
وقال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء:9) .
وقال سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَل عَلى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلمْ يَجْعَلْ لهُ عِوَجَا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} (الكهف:3-1) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّل الْفُرْقَانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالمِينَ نَزَل بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ} (الشعراء: من الآية 194-192) وقال عز وجل: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَاّ الظَّالِمُونَ} (العنكبوت:49) وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الزمر: من الآية 55) وقال تعالى: {وَلوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لقَالُوا لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَليْهِمْ
عَمىً} (فصلت: من الآية 44) .
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: من الآية 213) .
وقال جل جلاله: {وَمَا اخْتَلفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران: من الآية 19) .
وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولئِكَ لهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: من الآية 159) .
وقال سبحانه وتعالى: {مُنِيبِينَ إِليْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: من الآية:31-32) وقال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِليْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِليْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِليْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: من الآية 13-14) .
وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة:4) .
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض" رواه أبو جعفر الطبري بسنده (1) .
(1) تفسير ابن جرير (4/31) ورواه أحمد (3/14، 17، 26، 59) .
وروى ابن مردوية من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه" وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك (1) .
وروى مسلم في صحيحه من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"(2) .
وأخرج الإمام أحمد بسنده عند عبد الله بن لحي (3) قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إ ن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع فيه عرقا ولا مفصلا إلا دخله، والله، يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغير من الناس أحرى أن لا يقوم به" وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي بسنده (4) .
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/390) . الدارمي (2/431) وعبد الرزاق (3/375) .
(2)
رواه مسلم (1715) .
(3)
في الخطوط (يحيى) والصواب ما أثبت كما في المسند وغيره.
(4)
رواه أحمد (4/102) والحاكم في المستدرك (1/208) والطبراني في الكبير (19/377) ومسند الشاميين (2/108) .
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران: من الآية 102) .
قد تقدم الكلام على التقوى، وذكرنا ما فيه الكفاية.
وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل وابن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: من الآية 16) وعن ابن عباس: أنها لم تنسخ، ولكن {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقومون بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. (1)
وفي قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: من الآية 102) الأمر بالمحافظة على الإسلام في حال الصحة والسلامة؛ ليموتوا على ذلك؛ لأن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس ما يجب أن يؤتى إليه" رواه الإمام أحمد (2) .
وعنه صلى الله عليه وسلم: "لو قطرت من الزقوم قطرة، لأمرت على أهل الأرض معيشتهم، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم" هكذا رواه أصحاب السنن (3) .
وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} (آل عمران: الآية 103) أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يعتصموا بحبله المتين، وهو القرآن المبين الذي نزل به
(1) انظر: تفسير ابن كثير (2/73) .
(2)
رواه أحمد (2/192) .
(3)
رواه احمد (1/338) وابن ماجة (4325) عن ابن عباس رضي الله عنه.
الروح الأمين، وحفظه عن تحريف المبطلين، وسماه حبلا على سبيل الاستعارة المرشحة، كما هو منصوص على ذلك عند علماء البيان، ووجه ذلك انه استعار بالحبل من حيث إنّ التمسك به سبب النجاة من الردى، كما أن التمسك بالحبل القوي سبب للسلامة عن التردي، ورشح ذلك بالاعتصام لأجل الوثوق به والاعتماد عليه. (1)
وعن علي مرفوعا في صفة القرآن قال: "هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم"(2)(3) .
وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث النواس بن سمعان (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا، ولا تعرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله تعالى، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم"(5)
(1) رواه الترمذي (2960) أحمد (1/91) قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول وفي الحارث مقال.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (2/73) .
(3)
انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/175) .
(4)
في المخطوط "العرباض بن سارية" وهو خطأ، والصواب ما اثبت كما في الترمذي.
(5)
رواه أحمد (4/182) والترمذي (2859) وقال حديث غريب، والحاكم (1/144) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه. والبيهقي في سننه (6/361) . ولم أجده عند النسائي.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يمثل القرآن يوم القيامة رجلا، فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيتمثل له خصما فيقول: يا رب، حملته إياي فبئس حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال شأنك به، فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح، كان قد حمله، وحفظ أمره، فيتمثل خصما دونه فيقول: يا رب، حملته إياي فخير حامل، حفظ حدودي ، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقول: شأنك به، فيأخذه بيده فيما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر"(1) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار"(2) .
وعنه قال: يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه، فيكون قائدا إلى الجنة، ويشهد عليه، فيكون سائقا إلى النار (3) .
وقال أبو موسى الشعري: "إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن؛ فإنه من اتبع القرآن هبط به إلى رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زج في قفاه، فقذف في النار. (4) .
(1) رواه عبد الرزاق (3/372-374) وقال الهيثمي في المجمع (7/164) رواه الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك.
(2)
أخرجه الدارمي (2/434) .
(3)
رواه عبد الرزاق (3/372-374) وقال الهيثمي في المجمع (7/164) رواه الطبراني وفيه الربيع بن بدر وهو متروك.
(4)
رواه الدارمي (2/433) .
قلت: وفي مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان" الحديث. وفيه "القرآن حجة لك أو عليك"(1) وفيه أيضا: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما"(2) .
وفي الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء شرفا يتباهون بهو وإن بهاء أمتي وشرفها القرآن"(3) .
وخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فليس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: ارض عنه فيقول: رضيت عنه، ثم يقال له: اقرأ وارق، ويعطى بكل آية حسنة"(4) .
وقوله في حديث ابن مسعود: "وماحل مصدق" أي خصم مجادل مصدق.
وقوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} هذا أمر من الله تعالى لعباده بلزوم الجماعة، ونهي لهم عن الفرقة التي هي منشأ نبذ الدين والإضاعة، بعد ما أمرهم جل جلاله بالتمسك والاعتصام بالسبب المتين، اتبعه بالنهي عن ضده؛ لأنه الخالق للدين.
وهو الداء العضال الذي وقع الاستيصال بالأمم السالفة، ثم بعدهم دب في الأمم الخالفة، فصارت به ثاوية تالفة.
وقد وردت أحاديث كثيرة بالأمر بالاجتماع والائتلاف، والنهي عن التفرق والاختلاف، والآيات والآثار في ذلك كثيرة، فلا نطيل بتعدادها؛
(1) رواه مسلم (223) .
(2)
رواه مسلم (817) .
(3)
حلية الأولياء (2/175) .
(4)
رواه الترمذي (2915) وقال: حسن صحيح.
لكونها معلومة شهيرة.
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: من الآية 103) ذكرهم جل جلاله نعمته وأجزل منة؛ لأنها الهداية والتوفيق للإسلام، الذين هو السبب في دخول الجنة، وأعقب النهي عن الفرقة عن الحق كما وقع لأهل الكتاب، وكما جرى بينهم في الجاهلية من المحاربة والاستلاب بتذكيرهم نعمته العظيمة؛ ليكون أنفع لقبول الذكرى، وأقمع عن تعاطي عادتهم القديمة، وأردع في الكف وأحرى.
وهذه الآية نزلت في الأوس والخزرج؛ فإنه كانت بينهم في الجاهلية حروب كثيرة وعداوة شديدة وضغائن وأحوال، طال بينهم بسببها الوقائع والقتال، فلما جاء الإسلام، ودخل فيه من دخل منهم اضمحل ذلك كله وزال، وصاروا متواصلين متحابين في الله إخوانا، وعلى أعدائهم من الكفار أعوانا كما وصفهم الله تعالى بذلك في كتابه، وأفصح به في جليل خطابه، فقال:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ} (لأنفال: من الآية 63)(1) وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (آل عمران: من الآية 103) أي: مشفقين على الوقوع في السعير، لما لهم فيه من الذنب الكبير، إذ لو ماتوا وهو كفار لكان مأواهم النار وبئس المصير.
وقوله: {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} أي: بسبب الهداية للإسلام والإيمان، ذكرهم جل جلاله ذلك في سياق الامتنان، فأخبرهم أنه قد أزال ما بينهم من التقاطع والعداوة والأضغان، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} ، فصاروا يدا واحدة
(1) انظر: تفسير ابن كثير (2/74) .
على العدوان، وأنقذهم من الوقوع في مهواة النيران، وهداهم إلى ما يعقبهم الخلود في الجنان.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لكُمْ آيَاتِهِ} أي: مثل ذلك التبيين يبين لكم دلائله، {لعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} أي: تدومون على الهدى، وتزدادون فيه.
قيل: كان الأوس والخزرج أخوين لأبوين، فوقع بين أولادهم العداوة، وتطاولت بينهم الحروب مائة وعشرين سنة، حتى أطفأها الله تعالى بالإسلام.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِليْكُمْ نُوراً مُبِيناً} (النساء:174) المراد بالبرهان: المعجزات، وبالنور: القرآن.
أي جاءكم دلائل العقل، وشواهد النقل، فلم يبق عذر ولا حجة لأحد، ممن كفر وجحد. (1)
قوله: {وهَذَا} الإشارة إلى ما ذكر من البيان، الذي جاء به القرآن.
{صِرَاطُ رَبِّكَ} أي: طريقه الذي ارتضاه، وشاء بحكمته واقتضاءه، {مُسْتَقِيماً} (الأنعام: من الآية 126) ليس فيه اعوجاج، بل هو عدل مطرد المنهاج يعني: أن الذي شرعناه لك يا محمد هذا القرآن هو صراط الله المستقيم، كما في حديث الحارث عن علي رضي الله عنه في نعت القرآن:"وهو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم" الحديث. وقد رواه أحمد والترمذي بطوله (2)(3) .
(1) انظر: تفيسر أنوار التنزيل (1/259) .
(2)
رواه الترمذي (2960) أحمد (1/91) قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير (3/329) بتصرف.
وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الإشارة فيه إما أن تكون إلى جملة القرآن، أو إلى ما ذكر في هذه السورة من البيان، وهي من جملته مع أنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. (1)
وقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} أمر من الله تعالى بلزوم طريقه، والأخذ بما جاء به نهيا وأمرا؛ لأن من خالف طريقه، ولم يقتبس من نوره فقد جاء ظلما وكفرا.
{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} أي: الأديان المختلفة، والطرق الضالة التابعة للهوى، فإن من أخطأ سبيل القرآن فقد هوى؛ لان سبيل الحق واحد، ومقتضى حجته كذلك، ومقتضى الهوى متعدد، وسبله متعددة المسالك ولهذا وحد سبيل الحق وجمع ضده قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية وفي قوله:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية 13) قال: "أمر الله تعالى المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الفرقة والاختلاف، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله تعالى". (2)
وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه السبل ليس فيها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام: من الآية 153) . (3)
وروى أيضا بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا
(1) انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/338) .
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (3/360) رواه ابن ماجة (1/190) .
(3)
رواه أحمد (1/465) .
جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا هكذا أمامه فقال: "هذا سبيل الله"، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال:"هذه سبل الشيطان" ، ثم وضع يده في الخط الأسود ثم تلا هذه الآية. وكذا رواه ابن ماجة (1) .
وروى ابن جرير بسنده عن أبان أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن شماله جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم: فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود الآية (2) .
وخرج ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث {قُلْ تَعَالوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَليْكُمْ} (الأنعام: من الآية 151) حتى فرغ من ثلاث الآيات قال: ومن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا، فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبة له، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه"(3) .
وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} يعني: أن القرآن فيه بركة لمن آمن به ومغفرة للذنوب، {فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام: من الآية 153) أي: اعملوا بما فيه من المر والنهي حتى تنالوا كل مطلوب، وفيه الدعوة إلى إتباع القرآن، وتعينها على أهل الإيمان.
وقوله: {قدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأنعام: من الآية 157) .
(1) رواه احمد (3/397) وابن ماجة (11) .
(2)
تفسير ابن جرير (12/230) ورقمه 14170.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير (3/362-363) والحاكم (2/318) وصححه.
أي: حجة واضحة تعرفونها، قيل: المراد به: محمد والقرآن.
وقال: {جَاءَكُمْ} ولم يقل جاءتكم؛ لأنه انصرف إلى البيان، مع أن الفعل إذا تقدم وكان الفعل مؤنثا مجاذيا جاز فيه التأنيث والتذكير، كما هو في كتب العربية موضح التقرير.
{وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} أي: جاءكم ما فيه البيان، وقطع الشبهات عنكم والارتياب، وهدى لكم من الضلالة، ورحمة من العذاب.
وقوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِل إِليْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (الأعراف: من الآية 2) يعني: هذا القرآن أنزل إليك يا محمد فلا يقعن في قلبك شك وارتياب، إنه منزل من رب الأرباب، وقد وجه غليه الخطاب، والمراد غيره كقوله:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِليْكَ فَاسْأَلِ الذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (يونس: من الآية 94)، وقيل المعنى: فلا يضيقن صدرك بتكذيبهم. وأصل الحرج في اللغة: الضيق.
وقوله: {لِتُنْذِرَ بِهِ} أي: أنزل إليك، لتنذر الكفار.
{وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} لأنهم أهل البصائر والاعتبار.
ثم قال جل جلاله مخاطبا عباده: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الأعراف: من الآية 3) أي: اعملوا به، فإن عقابه السعادة، واقتفوا آثار نبيكم الذي أنزل عليه، وسابقوا إلى هدية وسارعوا إليه، {وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: من الآية 3) أي: لا تتخذوا من دونه أربابا، فمن اتخذهم فهو أشد الناس عذابا، وأسوؤهم يوم القيامة مآبا، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: من الآية 116){وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف:106) .
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} (: من الآية 157) أي: صدقوه وأقروا بنبوته، {وَعَزَّرُوهُ} أي: عظموه بتقويته، {وَنَصَرُوهُ} بالسيف والسنان
{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِل مَعَهُ} يعني: القرآن، وقوله:{مَعَهُ} راجع ومتعلق بقوله: {وَاتَّبَعُوا} أي: اتبعوا النور المنزل، مع إتباع النبي المرسل، فيكون فيه إشارة إلى إتباع الكتاب والسنة، {أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (الأعراف: من الآية 157) ، الفائزون بالرحمة الأبدية في الجنة (1) .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس: من الآية 57) يعني: قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية والنظرية:
أما الحكمة العملية: فهي الكاشفة عن محاسن الأعمال وقبائحها، والمرغبة في المحاسن والفضائل، والزاجرة عن القبائح والرذائل.
أما الحكمة النظرية: فهي الشفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين والرشاد، ورحمة للمؤمنين نجوا بها من دركات العذاب، وفازوا بها يوم الحساب، أو يقال خرجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران، بمصاعد من درجات الجنان (2) .
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ} يعني: الإسلام {وَبِرَحْمَتِهِ} يعني: القرآن.
قال مقاتل بن حيان وروى عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري والضحاك ومجاهد أنهم قالوا: بفضل الله: القرآن، وبرحمته: الإسلام قاله غير واحد (3) .
{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} أي: بالقرآن والإيمان، {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
(1) انظر: أنوار التنزيل (3/372) .
(2)
انظر: أنوار التنزيل (1/451) .
(3)
انظر: تفسير ابن جرير (11/150) .
(يونس:58) ، وما يقتنيه من الحطام كل إنسان.
قوله تعالى: ِ {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} (يوسف: من الآية 111) يعني: ما كان هذا القرآن، البالغ في الإعجاز والبيان، حديثا مفترى يقدر على التسلق عليه الإنس والجان. {قُلْ لئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء:88) . {وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يونس: من الآية 37) من الكتب الإلهية، {وَتَفْصِيل كُلِّ شَيْءٍ} (يوسف: من الآية 111) من الأمور الدنيوية، فكل ما يحتاج في الدين إليه، لابد وأن يوجد فيه سند يدل عليه. وهذا من الكفر والضلال، {وَهُدىً وَرَحْمَةً} (يوسف: من الآية 111) بها خير الدارين ينال.
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً} (النحل: من الآية 89) أي: بيانا بليغا {لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: من الآية 89) من أمور الدين، وما تتوقف عليه مصالح المسلمين.
قال مجاهد: "ما يسأل الناس عن شيء إلا في كتاب الله تعالى تبيانه"(1) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كل شيء علمه في القرآن إلا أن أراء الرجال تعجز عنه {وَهُدىً وَرَحْمَةً} (النحل: من الآية 89) للجميع، وإنما حرمان المحروم من تفريطه، {وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية 89) خاصة بالجنة"(2) .
قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلهُ رُوحُ الْقُدُس} (النحل: من الآية 102) يعني: جبريل عليه السلام، وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر، مثل قولهم: حاتم الجود.
(1) لم أجد هذا القول لمجاهد، وقول مجاهد كما في كتب التفسير هو:(كل حلال وكل حرام) ولعل هذا القول لابن مسعود رضي الله عنه حيث يقول: "قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء" كما في تفسير ابن كثير.
(2)
انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/567) .
{مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل: من الآية 102) .
ملتبسا بالحكمة، {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (النحل: من الآية 102) على الإيمان بأنه كلامه، فإنهم إذا سمعوا الناسخ، وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة، رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم.
{وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية 102) المنقادين لحكمه العدل، وقضائه الفصل. (1)
وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} (العنكبوت: من الآية 48) أي: وما كنت تقرأ قبل هذا القرآن، الذين تسنم من قمة البلاغة وقمة الفصاحة أرفع مكان.
{مِنْ كِتَابٍ} حتى يتعلق المرتاب بعلاقة الشبهة والارتياب.
{وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي: ولم تكن تكتب شيئا بيدك، وهو محو للشبهة الزائفة، وتقرير للمعجزة النائفة ولكن كما قال:{َمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس: من الآية 101){وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: من الآية 82) .
فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة على من لم يعرف قبله بالقراءة والخط والتعليم خارق للعادة.
{إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: من الآية 48) أي: ولو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين، وسماهم لكفرهم مبطلين.
وقيل: لارتاب أهل الكتاب لوجدناهم نعتك على خلاف ما في كتبهم مقرر، فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.
{بَلْ هُوَ} أي: القرآن {آيَاتٌ} دلالات {بَيِّنَاتٌ} وبراهين ساطعات، وحجج {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} واضحات، وعن التحريف
(1) انظر: تفسير أنوار التنزيل (1/570) .
محفوظات، {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} (العنكبوت:49) إلا المتوغلون في الظلم والمكابرة، بعد وضوح دلائل الإعجاز الباهرة.
وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الزمر: من الآية 55) المراد به: القرآن؛ لأنه أحسن ما أنزل من كتاب، وأوثق ما يتوصل به إلى النجاة من الأسباب، فاتبعوا ما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تلتمسوا ما تحتاجون له في دينكم إلا منه.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَلوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أي: ولو أنزلناه بلسان العبرانية، لم تنفك تعنتاتهم الشيطانية، ولم تبرح أهويتهم النفسانية.
{لوْلا فُصِّلتْ آيَاتُهُ} أي: هلا بينت بلسان نفقهه، فبين لنا الصواب، ويزول عنا الارتياب.
{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أي: أكلام أعجمي ومخاطب عربي، فيشتد تكذيبهم للنبي.
والأعجمي: من كان من العجم، وإن كان فصيحا، ويقال أيضا لمن لا يفهم كلامه (أعجمي) وإن كان من العرب، والمقصود: إبطال مقترحهم باستلزام المحذور، والدلالة على أنهم لا ينفكون عما كانوا عليه من الإعراض والنفور.
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً} إلى الحق القويم والصراط المستقيم أو يقال: هدى للمتقين من الضلالة.
{وَشِفَاءٌ} لما في الصدور من الشك والشبهة والجهالة.
{وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي: ثقل وصمم.
{وَهُوَ عَليْهِمْ عَمىً} (فصلت: من الآية 44) وذلك لتصامهم عن سماعه، وتعاميهم عما يريهم من الآيات، بحيث لم يكن لهم بها ارعواء ولا التفات.
قوله جل جلاله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ} (البقرة: من الآية 213) .
روى ابن جرير بسند عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين".
قال: وكذلك في قراءة عبد الله: (كان الناس أمة واحدة فاختلفوا) .
وكذلك كان أبي بن كعب يقرؤها (1) .
والمعنى: أن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام، فكان أول رسول إلى أهل الأرض، ولهذا قال:{وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: من الآية 213) أي: بعد ما قامت عليهم الحجج، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: من الآية 213) .
روي عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس للجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، فغدا لليهود، وبعد غد للنصارى"(2) .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في الآية ، اختلفوا
(1) تفسير ابن جرير (2/334) . والحاكم (2/262) وصححه.
(2)
روى البخاري الشطر الأول من حديث أبي هريرة (836) ومسلم (855) . وانظر: تفسير عبد الرزاق (1/82) .
في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، واتخذ النصارى يوم الأحد، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. (1)
واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة.
واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله الله حنيفا مسلما، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
واختلفوا في عيسى، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
وقال الربيع بن أنس: في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: من الآية 213) . "عند الاختلاف كانوا على ما جاء به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على الإخلاص لله عز وجل وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، قاموا على المر الأول قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وآل فرعون، أن رسلهم قد بلغوهم، وأنهم قد كذبوا رسلهم. وكان أبو العالية يقول:
(1) تفسير عبد الرزاق (1/83) .
في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن (1) .
وقوله {بِإِذْنِهِ} أي: بعلمه، وبما هداهم له، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} من خلقه بفضله وكرمه {إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيم} ، يفضي به إلى جنات النعيم، وله الحكمة التامة الباهرة، الحجة البالغة القاهرة.
وفي هذه الآية الكريمة من الدلالة على ذم الافتراق، ومدح الاجتماع والاتفاق، ما لا يخفى على من له الفهم أدنى مذاق.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية 159) أي: فرقوا دينهم الذي هو الإسلام، الذي ارتضاه الله تعالى واختاره، ورفع في السماوات والأرض شأنه ومناره.
{وَكَانُوا شِيَعاً} لأهويتهم الغاوية متبعون، وكل حزب بما لديهم فرحون.
{لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} من إصلاح الحال، حتى يحسن لهم المآل، وإنما عليك بلاغ الرسالة، وهذا منسوخ بآية القتال لأهل الكفر والشرك والضلالة. {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلى اللَّه} (الأنعام: من الآية 159) مفوض إليه؛ لأن بيده التوبة والعذاب، فلا يصلح أن يكون ذلك إلا للإله، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، ثم يوم القيامة يرون ما يوعدون، ويجازيهم بما كانوا يعملون.
قال المجاهد والضحاك والسدي وقتادة: "هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى، اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم نزلت:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا} . (2)
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) انظر فيما تقدم تفسير الطبري (4/285) .
(2)
انظر فيما تقدم تفسير الطبري 4/285.
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} إنهم الخوارج" (1) .
وروى ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وليسوا منك هم أهل البدع وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة (2) .
وقال شعبة عن مجالد، عن الشعبي عن شريح عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:" {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} هم أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة"(3) .
والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين محمد (وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف وكان شيعا، كان كذلك كأهل البدع والنحل والضلالة، فإن الله قد برأ رسوله مما هم فيه، وهذا لقوله: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} (الشورى: من الآية 13) فكل متمسك بشرع بعد الرسول فجهالات وضلالات وأراء وأهواء، فالرسول بريء منه. (4)
قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِليْهِ} (الروم: من الآية 31) أي مقبلين عليه بالإقلاع عن الكفر
(1) رواه ابن ماجة (173) وابن أبي عاصم في السنة ص 424، قال ابن كثير في تفسيره:"وروى عنه مرفوعا ولا يصح".
(2)
قال ابن كثير: "هذا إسناد لا يصح؛ فإن عباد بن كثير متروك الحديث، ولم يختلق هذا الحديث ولكنه وهم في رفعه فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث وهو ابن أبي سليم عن طاووس عن أبي هريرة في الآيةأنه قال: نزلت في هذه الأمة".
(3)
قال ابن كثير: "رواه ابن مردودية وهو غريب ولا يصح رفعه".
(4)
هذا ترجيح الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.
والرجوع إلى التوحيد، {وَاتَّقُوهُ} واحذروه كما قال:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} فالتقوى أفضل لباس العبيد.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أداؤها في جميع أوقاتها بإخلاصها له كما شرعت.
قوله: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} نهي من الله تعالى لرسوله وأمته أجمعين أن يتبعوا سنن المشركين، الذين آثروا الهوى، فآل بهم إلى الافتراق في الدين.
{من الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي: الإسلام الذي هو دين واحد.
{وَكَانُوا شِيَعاً} كل شيعة اختارت لها إماما قائدا، فتابعته على تأييد دينها الفاسد، وسيوردهم يوم القيامة شر الموارد، {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} (هود:98) .
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: من الآية 32) كل أهل دين بما عندهم راضون مسرورون، ظنا منهم انهم إلى الحق مهتدون {وَسَيَعْلمُ الَّذِينَ ظَلمُوا أَيَّ مُنْقَلبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: من الآية 227) .
قوله سبحانه وتعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ} أي: بين لكم الدين وهو الإسلام، واختاره لكم دينا وأكرمكم به، وهذا غاية الإكرام.
{مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} يعني: الذي أمر رسوله نوحا أن يستقيم عليه، وأن يدعو الناس إليه.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ} لتدعو إليه كافة العباد، وتجاهد من أبى عنه من أهل الشرك والإلحاد.
{وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أي: أمرناهم به، وهؤلاء هم أرباب الشرائع، وهم ألو العزم من الرسل.
{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} أي: التوحيد بأن لا يشرك في عبادته سواه.
{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} لا تختلفوا، فمن اختلف فيه كانت النار مثواه، النهي عن الاختلاف إنما هو في الأصل، وأما فروع الشعائر فمختلفة كما قال:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} .
{كَبُرَ عَلى الْمُشْرِكِينَ} أي: أهل مكة وغيرهم.
{مَا تَدْعُوهُمْ إِليْهِ} من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده.
{يَجْتَبِي إِليْهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: يختار لديه من كان أهلا لذلك.
{وَيَهْدِي إِليْهِ مَنْ يُنِيبُ} يرشده إلى سلوك دينه الذي هو أحسن المسالك.
{وَمَا تَفَرَّقُوا} يعني: المم السابقة، وقيل: أهل الكتاب؛ لقوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (البينة:4) .
قوله: {إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: العلم بأن التفرق متوعد عليه، وأن الاجتماع في الدين هو المدعو إليه.
وقيل: العلم بمبعث الرسول، فلم يجنحوا إلى التصديق والقبول {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسدا وعداوة، آلت بهم إلى الشقاوة.
{وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} (يونس: من الآية 99){وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلى الْكَافِرِينَ} (الزمر: من الآية 71) والأمر بإقامة الدين والاجتماع عليه، والنهي عن الاختلاف فيه والتفرق المشار إليه صريح في هذه الآية، والتي قبلها، فقبح الله شيع البدع والهوى، ما أضلها!
قوله في حديث أبي سعيد: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض"(1) سماه حبلا على سبيل الاستعارة يعني: أن كتاب الله تعالى هو السبب الوثيق الممدود، المدرك من تمسك به كل مقصود.
وقال: "من السماء إلى الأرض" ولم يقل من الأرض إلى السماء؛ لأن
(1) رواه أحمد (3/59) ، والحديث فيه عطية العوفي وهومتكلم فيه.
مبدأ إنزاله ومنها وغايته الأرض، وسيجاء به حجة بعد العرض.
وقوله في حديث عبد الله: "إن هذا القرآن هو حبل الله المتين"(1) يعني: القوي الذي لا يخشى على المستمسك به انفصام، ولا تنال الهلكة من له به اعتصام.
وهذا تمثيل للخلق بما يفهمونه من الأسباب التي يتوصلون بها إلى المآرب، وإدراك المقصود والمطالب، وينجون بها من المعاطب.
وحاصل الأمر: أن من في الدنيا مثله كمثل من وقع في بئر فيها من كل نوع من الآفات، فلا يمكنه الخروج منها والسلامة من آفاتها والنجاة إلا بحبل قوي وثيق، حتى يكون له السلامة طريقا، فكذلك الدنيا دار محنة، وفيها كل نوع من الآفات والفتنة، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بأقوى الأسباب، وذلك كتاب الله الذي هو أعظم وأفخم كتاب.
قوله: "وهو الشفاء النافع" أي: شفاء لما في الصدور من أدواء الضلالة، وأسقام السفة والجهالة.
قوله: "عصمة لمن تمسك به" من الهلاك. قال جل جلاله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (طه: من الآية 123) .
قواه: "ونجاة لمن تبعه" أي عمل بما جاء به من المر والنهي في أصل
(1) عبد الله ابن مسعود رواه عبد الرزاق عن ابن عيينة (3/375-376) ورواه الحاكم في (المستدرك) من طريق صالح بن عمر 1/555، وابن الجوزي في (العلل) من طريق ابن فضيل 1/101، ثلاثتهم عن إبراهيم الهجري به، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأما ابن الجوزي فأعله بإبراهيم الهجري وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشبه من كلام ابن مسعود. وقد روي عنه موقوفا عليه كما هو عند الدارمي في سننه (3311) .
الدين وفروعه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "جمع الله تعالى في هذا الكتاب علوم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وعلم ما يكون والعلم بالخالق جل جلاله وأمره وخلقه". قوله في حديث أبي هريرة: "إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا"(1) أي: تعبدونه وحده بإخلاص على صواب، وقد قدمت الكلام على التوحيد والشرك، فليطلب في محله.
قوله: "وأن تعتصموا بحبل الله جميعا" هذه مما أمر الله تعالى بها جميع العباد، ورضيها؛ لأنها سبب الاستقامة على المراد، وسبيل النجاة يوم المعاد.
قول: "وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" مثل هذا ما رواه أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغلو عليهن قلب امرؤ مسلم: إخلاص العمل، ومناصحة ولاة المر، ولزوم جماعة المسلمين"(2) .
وروى مسلم عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" قالوا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"(3) .
وقد أوجب الله النصيحة على المسلمين لأئمتهم، كما أوجب عليهم النصيحة له ولكتابه ولرسوله.
فالنصيحة لله تعالى: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه أحمد (3/225) .
(3)
رواه مسلم (55) .
عبادته.
والنصيحة لكتابه: الإيمان به والعمل بما فيه.
والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه.
والنصيحة لأئمة المسلمين: حب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الملة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله تعالى، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله. (1)
قوله في حديث أحمد: "إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"(2) يعني: الأهواء.
"أهل الكتاب" هم بنو إسرائيل، وإسرائيل لقب يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم، ومعناه بالعبرانية (عبد الله) وقيل:(صفوة الله) .
وقد ذكر الله تعالى بني إسرائيل في كتابه ذكرا متعددا، وعدد ما أمتن به عليهم، وما أكرمهم به وفضلهم به على أهل زمانهم، وأخبر عما جرى منهم من الاختلاف، وما قبلوا به النعم، وما أجرى عليهم من النقم.
قوله: "كلها في النار إلا واحدة" هذا يدل عليه القرآن والآثار:
قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:115) .
"ومن شذ شذ في النار"(3) .
(1) انظر: جامع العلوم والحكم (1/221، 222) .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه الترمذي (2167) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن غريب.
قوله: "إلا واحدة" وهي الجماعة أي: الذين اعتصموا بكتاب الله المبين، واتبعوا سنة سيد المرسلين.
قوله: "إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء".
التجاري: التفاعل من الجري، وهو الوقوع في الأهواء الفاسدة، والتداعي فيها تشبيها بجري الفرس.
والأهواء: جمع هوى، والمعروف عند أهل العلم أنه إذا أطلق فالمراد به الميل إلى خلاف الحق. قال تعالى:{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: من الآية 26) .
وقال –تعالى- {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات:40-41) وقد يطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقا فيدخل فيه الميل إلى الحق.
قالت عائشة: لما نزل قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِليْكَ مَنْ تَشَاءُ} (الأحزاب: من الآية 51)"ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"(1) .
ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه في قصة المشاورة في أساري بدر، "فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر، ولم يهو ما قلت"(2)(3) .
هذا وقد أخبر الصادق المصدوق أن تلك الأهواء التي مالوا إليها، وأقبلوا بكليتهم من غير علم عليها، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (الروم:29) إنها خالطت مشاشهم وسرت فيها؛ بل لا تزال تتزايد، وتجري في عظامهم مجرى
(1) رواه البخاري (4788) ومسلم (1464) .
(2)
رواه احمد (1/31) ، ومسلم (1763) .
(3)
انظر: فيما تقدم جامع العلوم والحكم (2/398،399) .
الدم وتتصاعد، لا تدع مفصلا إلا دخلته ولا عرقا، فقد صاروا في داء هذا الهوى غرقا.
ولذا شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حالهم بحال من بداء الكلب قد أصيب، فما لهم في عداد العقلاء من نصيب.
والكلب بفتح الكاف واللام داء معضل يحصل به أعظم الآلام، ويحدث بسببه سقم من أشد الأسقام، وهو يعرض للإنسان من عض الكَلْب الكَلَب، فيصيبه شبه الجنون، فلا يعض أحدا إلا كلب، ويعرض له أمراض رديئة، ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشا.
واجتمعت العرب على أن دواءه قطرة من دم الملك (1) يخلط بماء فيسقاه. (2)
وكتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ابن عباس رضي الله عنهما حين أخذ مال البصرة: "فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب والعدو قد حرب" يعني: اشتد.
قوله: "لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم فغيركم من الناس أحرى أن يقوم به".
مراده رضي الله عنه الحث والحض لهم على الاجتماع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والاعتصام بذلك، وشدة الاهتمام والاعتناء بذلك، لان به تحصل السعادة والسؤدد في العجل والآجل، وتكمل لمن قام به شريف الفضائل، وهذا مع ما فيه من الحث على القيام بما جاءهم به
(1) قال الليحاني: إن الرجل الكلب يعض إنسانا، فيأتون رجلا شريفا، فيقطر لهم من دم أصبعه فيسقون الكلب فيبرأ. انظر: اللسان (1/723) ولا شك في تحريم هذا؛ لان الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها. ودم الإنسام مما حرم على الإنسان.
(2)
لسان العرب (1/723) عادة كلب.
عليه الصلاة والسلام، ففي ضمنه أخبار لهم وتذكير بما حازوا به من العز الكبير، والخير الكثير، الواسع الغزير، بعد ما كانوا عليه من سوء الحال وضيق العيش، وسفاهة الأحلام والطيش، فنالوا ببركة ما جاءهم من النور، المج والشرف والنصر على الأعداء والظهور، ولو لم يكن إلا الهداية إلى الإسلام، والإقلاع عن عبادة الأوثان والأصنام، ولا شرف أعظم من ذلك به يسعدون ويشرفون {وَإِنَّهُ لذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:44) .
وقد بين لهم ذلك عليه الصلاة والسلام، وامتن عليهم في معرض العتب في الكلام، فقال:"ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن"(1) ، فإذا كان صلى الله عليه وسلم منهم، والله قد فضلهم به، وأنجز لهم ما وعدهم على لسانه، ولم يعملوا بما جاءهم به ولم يهتموا بشأنه، فغيرهم من الناس بالإعراض أولى وأجدر، لأنهم إنما حسدوهم على هذا الشرف الأكبر، والذكر الجميل الأنور. وهذا الحديث الذي رواه أحمد قد روي من طرق متعددة مختلفة.
فروى الحاكم في مستدركه: "افترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابي" (2) .
(1) رواه أحمد (4/42) ومسلم (1061) من حديث عبد الله بن زيد.
(2)
لم اجده عند الحاكم بهذا اللفظ وفيه ألفاظ، متقاربة (1/129) والحديث رواه ابن ماجة (3993) وابن أبي عاصم في السنة 1/32 (63) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقد حسن العلماء هذا الحديث لشواهده. انظر صفة الغرباء ص 30 وما بعده.
وخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتي على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتي أمه علانية، ليكونن من أمتي ما يصنع ذلك، وإن بيني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قالوا: من هي؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي"(1) .
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة"(2) .
وروي أنه قال: "وستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا من كان على ما أنا عليه وأصحابي". والبضع: من الثلاث إلى التسع، والمراد به هنا الثلاث، لأنه جاء كذلك في أكثر الروايات هذا الحديث.
وقد تبين ما ذكرنا من الآيات والأخبار، وجوب الاعتصام بكتاب الله المبين، ولزوم التمسك بسنة سيد الخلق أجمعين، وأن الفرقة الناجية من العذاب الأليم، هي التي تسلك سبيله المستقيم، وتأخذ بشرعه القويم، وباقي فرق الضلالة من أمة الإجابة في نار الجحيم؛ لنبذهم العمل بالذكر
(1) رواه الترمذي (2641) والحاكم (1/128) والحديث مداره على عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، وهو ضعيف. انظر: صفة الغرباء ص 28-29.
(2)
رواه المروزي في السنة ص 19 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الحكيم، ومخالفتهم لمنهاج الرسول الكريم.
فقد روى أبو داود بسنده عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة"(1) .
واعلم أن أول ما حدث في الدين من المحن، ووقع في الإسلام من الفتن:
فتنة الخوارج:
وكان مبدؤهم بسبب الدنيا، حيث قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين فقال قائلهم وهو ذو الخويصرة "اعدل، فإنك لم تعدل"(2) الحديث، ففاجئوه بفظيع هذه المقالة، فردهم الله إلى أسوأ حالة.
ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وضلالات، وأهواء ونحل كثيرة منتشرة ومقالات.
وقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي غالب قال: سمعت أبي أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (آل عمران: من الآية 7) قال: هم الخوارج، وفي قوله:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (آل عمران: من الآية 106) قال: هم الخوارج (3) .
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَل عَليْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَات}
(1) رواه أبو داود (4597) وأحمد (4/102) والحاكم (1/128) وصححه وحسنه ابن حجر في كتابه "الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" ص 63، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (1/188) :"هذا حديث محفوظ..".
(2)
رواه البخاري (3414) ومسلم (1063) من حديث أبي سعسد الخدري.
(3)
رواه أحمد (5/262) .
إلى قوله: {إِلا أُولُو الْأَلْبَاب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله.. فاحذروهم"(1) .
وروى الإمام أحمد عنها في هذه الآية قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رايتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم"(2) .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخوارج كلاب أهل النار"(3) .
وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أنه ذكر الخوارج فقال: "فيهم رجل مخدج اليد، أو مودن اليد، لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قلت: أنت سمعته من محمد صلى الله عليه وسلم قال: إي ورب الكعبة
…
إي ورب الكعبة
…
إي ورب الكعبة" (4) .
وخرج الإمام أحمد بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَال لمَّا خَرَجَتْ الْخَوَارِجُ بِالنَّهْرَوَانِ قَامَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي أَصْحَابِهِ فَقَال: "إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ، وَهُمْ أَقْرَبُ الْعَدُوِّ إِليْكُمْ، وَإِنْ تَسِيرُوا إِلى عَدُوِّكُمْ، وأَنَا أَخَافُ أَنْ يَخْلُفَكُمْ هَؤُلاءِ فِي أَعْقَابِكُمْ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ تَخْرُجُ خَارِجَةٌ مِنْ أُمَّتِي ليْسَ صَلاتُكُمْ إِلى صَلاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلا صِيَامُكُمْ إِلى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلا قِرَاءَتُكُمْ إِلى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لهُمْ
(1) رواه البخاري (4547) ومسلم (2665) .
(2)
رواه أحمد (6/124) والبخاري (4273) .
(3)
رواه احمد (4/355) وابم ماجة (4273) .
(4)
رواه مسلم (1066) .
وَهُوَ عَليْهِمْ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لهُ عَضُدٌ وَليْسَ لهَا ذِرَاعٌ عَليْهَا مِثْلُ حَلمَةِ الثَّدْيِ عَليْهَا شَعَرَاتٌ بِيضٌ، لوْ يَعْلمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا لهُمْ عَلى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لاتَّكَلُوا عَلى الْعَمَلِ فَسِيرُوا عَلى اسْمِ اللَّهِ عز وجل" (1) .
وفي الصحيحين عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: "إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فو الله لان أخر من السماء أحب إلي من أن أقول عليه ما لم أقل، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير البرية، يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم عند الله يوم القيامة" (2) .
وخرج أبو داود عن أبي سعيد وأنس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاور تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجع حتى يرتد على فوقه، وهم شر الخلق، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله تعالى منهم"(3) .
(1) رواه أحمد (1/91) .
(2)
رواه البخاري (3415) ومسلم (1066) .
(3)
رواه أبو داود (4765) .
الفوق: موضع وقوع الوتر من السهم. وخرجه الشيخان من رواية أبي سعيد بنحو هذا (1) .
وخرج مسلم عَنْ [عُبَيْدِ اللَّهِ](2) بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالُوا لا حُكْمَ إِلَاّ لِلَّهِ قَال عَلِيٌّ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ نَاسًا إِنِّي لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاءِ يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ وَأَشَارَ إِلى حَلْقِهِ مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِليْهِ مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلمَةُ ثَدْيٍ فَلمَّا قَتَلهُمْ عَلِيُّ قَال انْظُرُوا فَنَظَرُوا فَلمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَال ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَال عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ" (3)
وخرج الدارقطني بسنده عن أبي مجلز أن عليا رضي الله تعالى عنه نهى أصحابه أن يبسطوا على الخوارج حتى يحدثوا حدثا، فمروا بعبد الله بن خباب فأخذوه فانطلقوا به فمروا على تمرة ساقطة من نخلة، فأخذها بعضهم فألقاها في فمه، فقال له بعضهم: تمرة معاهد فيم استحللها؟ قال عبد الله: أفلا أدلكم على من هو أعظم حرمة عليكم من هذا؟ قالوا: نعم، قال: أنا. فقتلوه، فبلغ ذلك عليا فأرسل إليهم أن أقيدونا بعبد الله بن خباب، قالوا: كيف نقيدك به وكلنا قتله؟ قال:
(1) رواه البخاري (4771) ومسلم (1064) .
(2)
في المخطوط عبد الله والصواب ما أثبت.
(3)
رواه مسلم (1066) .
وكلكم قتله، قالوا: نعم قال: الله أكبر ثم أمر أن يبسطوا عليهم، وقال: والله لا يقتل منكم عشرة. ولا ينفلت منهم عشرة قالوا: فقتلوهم، فقال اطلبوا منهم ذا الثدية" (1) .
وخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، فمن مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم"(2) .
وله من رواية مرفوعا: "لا تجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم بالكلام"(3) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي ليس في الإسلام نصيف: المرجئة والقدرية"(4) القدرية الذين يقولون الخير من الله والشر من الإنسان، وإن الله لا يريد أفعال العصاة.
وخرج أبو داود والترمذي عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنه فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام فقال له إنه بلغني أنه قد أحدث فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وذلك في المكذبين بالقدر". (5)
(1) رواه الدارقطني (3/131) .
(2)
رواه أبو داود (4692) وضعفه الألباني.
(3)
رواه أبو داود (4710) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وضعفه اللباني.
(4)
رواه الترمذي (2149) وابن ماجة (62) وقال الترمذي: حديث غريب حسن صحيح. وضعفه الألباني.
(5)
رواه الترمذي (2152) وابن ماجة (4061) وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. ولم أجده عند أبي داود.
وخرج الإمام أحمد عن أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ رَجُلا وُلِدَ لهُ غُلامٌ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى به النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِبَشَرَةِ وَجْهِهِ وَدَعَا لهُ بِالْبَرَكَةِ قَال: فَنَبَتَتْ شَعَرَةٌ فِي جَبْهَتِهِ كَهَيْئَةِ (1) الْقَوْسِ وَشَبَّ الْغُلامُ فَلمَّا كَانَ زَمَنُ الْخَوَارِجِ أَحَبَّهُمْ فَسَقَطَتْ الشَّعَرَةُ عَنْ جَبْهَتِهِ فَأَخَذَهُ أَبُوهُ فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ قَال: فَدَخَلْنَا عَليْهِ فَوَعَظْنَاهُ وَقُلْنَا لهُ فِيمَا نَقُولُ أَلمْ تَرَ أَنَّ بَرَكَةَ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَقَعَتْ عَنْ جَبْهَتِكَ فَمَا زِلْنَا بِهِ حَتَّى رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِمْ، فَرَدَّ اللَّهُ عَليْهِ الشَّعَرَةَ وَتَابَ." (2)
وروى الإمام أحمد عن سعيد بن جهمان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه فقال: من أنت فقلت: أنا سعيد بن جهمان قال: فما فعل والدك قلت قتله الأزارقة قال: لعن الله الأزارقة. حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب النار.
قلت الزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟
قال: بل الخوارج كلها. فقلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل لهم وبهم، فتناول يدي فغمزها غمزة شديدة ثم قال: ويحك يا بن جهمان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته، فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك، وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه (3) .
وخرج رزين بسنده عن سالم أن رجلا من أهل العراق سأل ابن عمر عن قتل محرم بعوضا؟ فقال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة،
(1) في المخطوط (كهيلة) وما أثبت من المسند.
(2)
رواه أحمد (5/456) .
(3)
رواه أحمد (4/382) .
وأجرأكم على الكبيرة، يقتل أحدكم من الناس ما لو كان عددهم سبحات لرأيت أنه إسراف، وإنا كنا نسير مع رسول الله فنزلنا منزلا، فنام رجل من القوم، ففزعه رجل، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا يحل لمسلم تفزيع مسلم"(1) .
وخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَلمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلاهُ عَنْ الْحَرُورِيَّةِ هل سَمِعْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها؟ ، قَال لا أَدْرِي مَا الْحَرُورِيَّةُ سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ" وَلمْ يَقُلْ مِنْهَا "قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلى سَهْمِهِ إِلى نَصْلِهِ إِلى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنْ الدَّمِ شَيْءٌ". (2)
وروى مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَال دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَليْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلسْتُ إِليْهِ فَقَال كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: "إِنَّهُ لمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَاّ كَانَ حَقًّا عَليْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلى خَيْرِ مَا يَعْلمُهُ لهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلمُهُ لهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِل عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فينزلق أو
(1) ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (8/256 (7543) وقد رواه مسلم بمعناه مختصرا (2905) .
(2)
رواه البخاري (6532) ومسلم (1064) .
فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ: هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَل الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِليْهِ" الحديث. (1)
وخرج الإمام أحمد عن أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ سَاجِدٍ وَهُوَ يَنْطَلِقُ إِلى الصَّلاةِ فَقَضَى الصَّلاةَ وَرَجَعَ عَليْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: "مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَحَسَرَ عَنْ يَدَيْهِ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ ثُمَّ قَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلاً يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ ثُمَّ قَال: "مَنْ يَقْتُلُ هَذَا؟ " فَقَامَ رَجُلٌ فَقَال: أَنَا فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهَزَّهُ حَتَّى أَرْعَدَتْ يَدُهُ فَقَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ أَقْتُلُ رَجُلاً سَاجِدًا يَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لوْ قَتَلْتُمُوهُ لكَانَ أَوَّل فِتْنَةٍ وَآخِرَهَا". (2)
قلت: ومثل هذا ما رواه البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: كان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعجبنا تعبده وجهاده، فذكرناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه فلم يعرفه، ووصفاه بصفته، فلم يعرفه، فبينا نحن نذكره إذ طلع علينا الرجل فقلنا هو هذا:"إنكم لتخبروني عن رجل على وجهه سعفة من الشيطان"، فأقبل حتى وقف على القوم يسلم فقال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نشدتك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم
(1) رواه مسلم ورقمه (1844) .
(2)
رواه أحمد (5/42) .
أحد أفضل مني وخير مني؟ ".
قال: اللهم نعم، ثم دخل يصلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يقتل الرجل؟ " قال أبو بكر: أنا، فدخل عليه فوجده يصلي فقال:"سبحان الله أأقتل رجلا يصلي وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب المصلين"(1) .
ويظهر لي أن هذا الرجل المذكور في الحديث هو الرجل الذي حدث عنه أبو بكرة، وأن القصة واحدة، ويحتمل التعدد؛ إذ لا مانع من ذلك.
وخرج الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول اله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ ، قال:"نعم" قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ ، قال:"نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها"، قلت: يا رسول الله فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ ، قال:"تلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، قلت: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"(2) .
وخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: "والله ما ادري أنسي أصحابي أم تناسوا، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى
(1) رواه الدارقطني (2/54) ولم أجده عند البيهقي.
(2)
رواه البخاري (3411) ومسلم (1847) .
أن تنقضي (1) الدنيا، يبلغ من معه من ثلاثمائة فصاعد إلا سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته" (2) ، فهؤلاء هم الذين استحوذ عليهم الشيطان فأغواهم، فعدلوا عن الحق واتبعوا هواهم، كتب الله تعالى عليهم الخذلان، فقيض لهم بعدله الشيطان، فحسن لهم القبيح، وزين لهم سيء الأعمال، فاستحبوا طريق الغي والضلال، قادهم بمكره وكيده فأوداهم، واستدرجهم بخداعه فأرداهم، فلما تمكن من قصده بهم ناداهم، وهم مصطادون في شبكة الاحتيال {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إبراهيم: من الآية 22) ، ما لكم من الله من وال، هيهات تفرقت بهم السبل عن الصراط المستقيم، فطوحت بهم إلى سواء الجحيم، تيسيرا إلى قضاء الله المحتوم، وقدره المبرم المختوم، وإبداء لذلك وتحقيقا، وتنجيز الوعد لوعد الصادق المصدوق، وإظهارا لهذه المعجزة بعده وتصديقا، فقد حقق الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمته وعده، فظهروا وتفرقوا حتى استكملوا تلك العدة، ولم يكن ذلك عن طول أمد، بل وقع في اقصر مدة، وكان مبدؤهم كما ذكرنا من قسمة غنائم حنين، وظهور أسوأ القول ممن في قلبه رين، غيرانه لم يقع بها تظاهره، ولا مساعدة ولا تناصر، ولم يشب لنارها ضرام، ولم يكن وقودها جثث وهام، إلا أيام علي بن أبي طالب رضي اله عنه، فقتلهم بالنهروان، فصار لها من تلك الأيام إعلان، وقام لها دعاة وأعوان، ونشرت أعلامها في أكثر البلدان، فانبعثت القدرية، وأول من قال به وقام، معبد الجهني بالبصرة فضل وأضل أقواما، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، ثم الشيعة والإمامية.
(1) في المخطوط (القضاء) والتصحيح من سنن أبي داود.
(2)
رواه أبو داود (4243) .
والحاصل أن الفرق الكبار من أمة الإجابة ثمان:
الأولى: فرقة الحق أهل الإسلام والإيمان، والمعتزلة والشيعة، والمرجئة، والجبرية، والخوارج، والنجارية، والمشبهة. فهؤلاء الذين سلكوا أقبح المناهج.
والمعتزلة:
افترقوا عشرين فرقة، يكفر بعضها بعضا، وكل فرقة تروم لحجة الأخرى نقضا (1) .
منهم الواصلية: قوم واصل بن عطاء الذي أظهر الاعتزال، وكان يجالس الحسن البصري قبل تظاهره بالضلال.
ومنهم الهذيلية: أصحاب أبي الهذيل بن حمدان (2) العلاف، وهو شيخهم ومقرر طريقتهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائة (3) .
ومنهم النظامية: أصحاب إبراهيم بن سيار النظام، (4) وهذا من شياطين القدرية، طالع كتب الفلسفة، وخلطها بكلام المعتزلة.
والإسكافية: أصحاب أبي جعفر الإسكاف. (5)
والجعفرية: أصحاب جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر. (6)
(1) انظر: هذه الفرق في كتاب الفرق بين الفرق 181 الملل والنحل للشهرستاني (1/43) .
(2)
محمد بن الهذيل بن عبد الله كما في سير أعلام النبلاء (11/173) .
(3)
في سنة وفاته قيل سنة ست وعشرين، ويقال خمس وثلاثين ومئتين. ومولده سنة خمس وثلاثين ومائة، قاله الذهبي في السير (11/173) : بهذا يتبين وهو المؤلف والناسخ غفر الله للجميع والله أعلم.
(4)
النظام ليس اسما إنما عرف به. وانظر في سبب التسمية: الفرق بين الفرق ص 93.
(5)
واسمه: محمد بن عبد الله الإسكافي، انظر: طبقات المعتزلة ص 78.
(6)
في المخطوط (جعفر بن جعفر بن مبشر بن حريب) والصواب أأثبت. انظر: الفرق ص 123 والسير (10/549) .
والبشرية: أصحاب بشر بن المعتمر كان من أفاضل علماء المعتزلة.
ومنهم الهشامية (1) : أصحاب هشام بن عمرو الفوطي وكان من أشد المعتزلة مبالغة في إنكار القدر.
والصالحية (2) ، والخطابية، (3) والحدثية (4) والمعمرية، (5) .
والثّمامية: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري وكان هذا الشيطان جامعا بين سخافة الدين وخلاعة النفس، ومن قبيح قوله أنه يقول: اليهود، والنصارى، والمجوس، والزنادقة يصيرون في الآخرة ترابا لا يدخلون جنة ولا نارا.
ومنهم الخياطية: أصحاب أبي الحسن الخياط (6) .
والجاحظية: أصحاب عمر بن بحر الجاحظ، وكان هذا بليغا ظهر في أيام المعتصم والمتوكل، وأخذ من كتب الفلاسفة.
ومنهم الكعبية: أصحاب القاسم بن محمد الكعبي (7) من معتزلة بغداد تلميذ الخياط. ومنهم الجبائية: أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب
(1) في المخطوط (الهاشمية) والصواب ما أثبت. انظر: الفرق ص 17.
(2)
هم اتباع صالح بن عمر الصالحي. انظر: الملل والنحل 1/145.
(3)
هم اتباع أحمد بن خابط. انظر: الملل والنحل (1/60) . وفي المخطوط (الحطابية) والصواب ما أثبت. انظر: الفرق ص 208.
(4)
هم أتباع الفضل الحدثي ت: 2075هـ. انظر: الملل والنحل (1/60) .
(5)
هم اتباع معمر بن عباد السلمي، وكان رأسا للملحدة، وذنبا للقدرية. انظر: الفرق بين الفرق ص 110.
(6)
واسمه: عبد الله بن محمد بن عثمان الخياط. انظر طبقات المعتزلة ص 85.
(7)
اسمه: عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي، المعروف بالكعبي. انظر الفرق ص 133.
الجبائي من كبار معتزلة البصرة، ومن قبيح مقالاته: إنكاره الكلام، ويقول: إن الله يخلق كلامه في جسم، والمتكلم ذلك الجسم، وينكر رؤية الله في الآخرة، ومرتكب الكبيرة يخلد في النار.. وغير ذلك، ولهم بقايا فرق.
وأما الشيعة: (1)
سموا أنفسهم بذلك، وادعوا أنهم شايعوا عليا.
فهم اثنتان وعشرون فرقة، يكفر بعضهم بعضا، وأصول فرقهم ثلاث فرق:
غلاة، وزيدية، وإمامية.
والغلاة ثماني عشر:
أولهم السبائية: أصحاب عبد الله بن سبأ، يقولون لعلي رضي الله عنه أنت الإله حقا، وعلي لم يمت، وإنما قتل بن ملجم شيطانا تصور بصورة علي، وعلي في السحاب، والرعد صوته، والبرق سوطه، وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا.
ومنهم الكاملية: أصحاب أبي كامل، يكفرون الصحابة بترك بيعة علي، ويكفرون عليا بترك طلب الحق.
ومنهم الغرابية: قالوا: محمد أشبه بعلي من الغراب بالغراب، والذباب بالذباب، فبعث الله جبريل إلى علي فغلط جبرائيل في الرسالة من علي إلى محمد.
ومنهم النصيرية والإسحاقية: قالوا: حل الله في علي، والذمية يقولون
(1) انظر: الفرق بين الفرق ص 22 وما بعده. الملل والنحل 1/78.
علي هو الإله، وقد بعث محمدا يدعو له، فدعى لنفسه.
ومنهم الإسماعيلية: ويلقبون بالقرامطة، لأن رأسهم حمدان قرمط، وقيل عبيد الله بن ميمون القداح، وهؤلاء هدموا الشريعة وأركانها جملة.
وباقي فرق الشيعة وروافضهم كثيرة، ومقالاتهم الفاسدة شهيرة.
وأما الزيدية:
الذين ينسبون أنفسهم إلى طريقة زيد بن علي بن الحسين زين العابدين، فهم ثلاث فرق:
الجارودية: أصحاب ابي جارود الذي سماه الباقر شيطانا، فهؤلاء كفروا الصحابة لمخالفتهم عليا.
والسليمانية، (1) والبترية (2) .
وأما الإمامية:
فقالوا بالنص الجلي على إمامة علي، وكفروا الصحابة ووقعوا في أعراضهم.
وأما الخوارج فهم عشرون فرقة: (3)
المحكمة:
وهم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه عند التحكيم وكفروه، وكانوا اثني عشر ألفا، كانوا أهل الصلاة وصيام وقراءة، وفيهم قال صلى الله عليه وسلم: "يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم، وصومه في جنب
(1) هؤلاء أتباع سليمان بن جرير الزيدي. انظر الفرق ص 23.
(2)
في المخطوط "البترية" والصواب ما أثبت، وهؤلاء أتباع رجلين: الحسن بن صالح بن حي، وكثير النواء الملقب بالأبتر. انظر الفرق ص 23.
(3)
انظر: الفرق بين الفرق ص 49.
صومهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم" (1) . وكفروا عثمان وأكثر الصحابة.
ومنهم البيهسية:
أصحاب بيهس بن الهيصم بن جابر (2)، قالوا: من وقع في شيء لا يعلمه أحلال أم حرام، فهو كافر.
ومنهم الأزارقة:
أصحاب نافع بن الأزرق، كفروا عليا بالتحكيم، وقالوا: إنه هو الذي نزل في شأنه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلدُّ الْخِصَامِ} (البقرة:204) وابن ملجم محق في قتله، وهو الذي نزل فيه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 207) وفيه قال مفتي الخوارج وزادها عمران بن حطان (3) .
ياضربة من تقي ما أراد بها
…
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه
…
أوفى البرية عند الله ميزانا (4)
وهؤلاء كفروا عثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الله بن عباس، وعائشة، وسائر المسلمين، وحكموا عليهم بالخلود في النار.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
الصواب في اسمه هو: أبي بيهس هيصم بن عامر. انظر: الفرق ص 74.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء 4/214.
(4)
البيات في الكامل للمبرد 3/169، والأغاني (18/111) ط الدار، وقد رد على عمران بن حطان الفقيه الطبري كما جاء في نسخة من الكامل للمبرد فقال:
ياضربة من شقي ما أراد بها
…
إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا
إني لأذكره يوما فألعنه
…
إيها وألعن عمران بن حطان
وقال محمد بن احمد الطبيب يرد على عمران بن حطان:
يا ضربة من غدور صار ضاربها
…
أشقى البرية عند الله إنسانا
إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه
…
وألعن الكلب عمران بن حطانا
ومنهم النجدية: أصحاب نجدة بن عامر النخعي (1) .
ومنهم العاذرية: الذين عذروا الناس في الجهالات في الفروع، وذلك أن نجدة وجه ابنه مع جيش إلى أهل القطيف، فقتلوهم وأسروا نساءهم، ونكحوهم قبل القسمة، وأكلوا الغنيمة، فلما رجعوا إلى نجدة، أخبروه بما فعلوا، فقال لهم: لم يسعكم ما فعلتم، فقالوا: لم نعلم أنه لا يسعنا، فعذرهم بجهالتهم، فاختلف أصحابه بعد ذلك، فمنهم من تابعه، ومنهم من خالفه.
ومنهم الصفرية: أصحاب زياد بن الأصفر.
ومنهم الأباضية: أصحاب عبد الله بن إباض، قالوا: مخالفوهم كفار. وكفروا عليا وأكثر الصحابة، وافترقوا أربع فرق:
الحفصية: أصحاب حفص بن أبي المقدام.
واليزيدية: أصحاب يزيد بن أنيسة قالوا: يبعث نبي من العجم بكتاب يكتب في السماء، ويترك ملة محمد، ويختار ملة الصابئة.
والحارثية: أصحاب أبي الحارث الأباضي، (2) خالفوا الإباضية في القدر. (3)
ومن فرق الخوارج:
العجاردة: أصحاب عبد الرحمن بن عجرد (4) وهم أربع فرق، كلها مشهورة بالضلال، معلومة الحال.
(1) صوابه الحنفي كما في الفرق ص 58. وقد نبه الناسخ للمخطوط إلى هذا الخطأ.
(2)
قال في الفرق ص 71: هؤلاء أتباع حارث بن يزيد الأباضي.
(3)
الفرقة الرابعة لم يذكرها المؤلف رحمه الله وهي أصحاب طاعة الله لا يراد الله بها.
(4)
الصواب عبد الكريم بن عجرد. انظر: الفرق ص 63.
من الفرق الكبار المرجئة: (1)
لقبوا بذلك لأنهم يرجون العمل على النية، أي: يؤخرونه عنها، وعن الاعتقاد من أرجأه إذا اخره، قال تعالى:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (الأعراف: من الآية 111) أي: أمهله وأخره.
وقيل: إنما سموا بذلك، لانهم يقولون لا تضر مع الإيمان المعصية، كما لا تنفع الطاعة مع الكفر، وقد افترقوا خمس فرق:
اليونسية: أصحاب يونس النميري، قالوا: الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع، ولا يضر مع ذلك ترك الطاعات.
والعبدية: (2) قبحهم الله وقبح مقالهم.
والغسانية: أصحاب غسان الكوفي، يقولون: إن الله فرض الحج، ولا ندري أهذه الكعبة أم غيرها؟ وبعث محمدا ولا ندري اهو الذي بالمدينة أو غيره؟.
والثوبانية: أصحاب أبي ثوبان المرجىء. (3)
والتومنية: أصحاب أبي معاذ التومني، ومن مقالاتهم: ان السجود للصنم ليس كفرا، بل علامة على الكفر، وتبعهم ابن الراوندي وبشر المريسي قبحهم الله تعالى.
ومن الفرق الكبار الجبرية:
والجبر إسناد فعل العبد إلى الله، وهؤلاء يقولون بحدوث علمه تعالى، بل لا يتصف بعلم ولا قدرة، ويقولون بنفي رؤيته، وبخلق
(1) انظر: الفرق ص 151.
(2)
أصحاب عبيد المكتئب، الذي يقول: إن ما دون الشرك مغفور لا محالة. انظر الملل (1/140) .
(3)
كذا في الفرق ص 152.
القرآن، وهؤلاء وافقوا الجهمية أصحاب جهم بن صفوان، فقالوا: لا قدرة للعبد يكتسب بها، بل هو بمنزلة الجمادات، فلذا لا يقولون بخلود احد في النار، بل ولا في الجنة، ويقولون الجنة والنار يفنيان إذا دخل أهلهما فيهما، فلا يبقى إلا الله.
ومن الفرق الكبار النجارية:
أصحاب محمد بن الحسين النجار (1) وهؤلاء يوافقون المعتزلة على نفس الصفات وحدوث الكلام، ونفي الرؤية، وفرقهم ثلاث:
البرغوثية (2) ، والزعفرانية (3) ، والمستدركة (4) ، وأكثر هؤلاء يكفرون من لم يقل بخلق القرآن.
ومن الفرق الكبار المشبهة: (5)
شبهوا الله تعالى بالمخلوقات، ومثلوه بالحادثات تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وثم فرقة واحدة؛ لأنهم وإن اختلفوا فالتشبيه يجمعهم، والمشبهة صفة تعمهم.
فهذه فرق الأهواء والضلال، وشيع الغواة الضلال، الذين مرقوا من الملة الحنيفية، مروق السهم من الرمية، فليس لهم حظ ول نصيب من الدين، {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود: من الآية 116)
(1) والصواب الحسين بن محمد بن عبد الله النجار. انظر الفهرست لابن نديم ص 268.
(2)
هؤلاء اتباع محمد بن عيسى الملقب ببرغوث. انظر الفرق ص 156.
(3)
هؤلاء اتباع الزعفراني الذي كان بالري. انظر: الفرق ص 157.
(4)
هؤلاء قوم من النجارية يزعمون أنهم استدركوا ما خفي على أسلافهم. انظر: الفرق ص 157.
(5)
انظر: الفرق ص 170.
{وَإِذَا دُعُوا إِلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (النور:48){وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (التوبة: من الآية 115) .
وإنما أطلت بذكر هذه الفرق الضالة؛ ليتبين حال أهل التوحيد والدين من حال أهل الزيغ والغي والجهالة، ولأمور غير ذلك، أرجو أنها حسنة المسالك:
منها: أن الموحد من أهل الدين، إذا سمع أقوال هؤلاء المبطلين، جد في عبادة الله وحده على بصيرة ويقين.
ومنها: أنه يزداد بذلك إيمانا، ويدأب في الجهد والثناء على الله الذي أهله للهداية، ووفقه لطريق العناية، فضلا منه وإحسانا.
ومنها: إظهار بطلان ما يقال في هذه الأزمنة والأعصار من المعادين والمعاندين، والقائمين في عداوة أهل هذه الدعوة والمساعدين أن الرافضة ومن شابههم هم زند الدين والهدى، ومن قام بإخلاص الدعوة لله تعالى هم أهل الضلال والردى.
ومما يدل على أن هذا القيل كل رضيه وطاب به قلبا، أن هؤلاء الفرق قد ملكوا البلدان شرقا وغربا، وجدوا فيمن قدروا عليه نهبا وسلبا، ولم نر أو نسمع أن أحدا من الحكام الذين يدعون أنهم أهل السنة والجماعة، نصب لأحد من هذه الفرق حربا، ولا قام ولا قعد في عداوتهم، وألب عليهم الجيوش عجما وعربا، ولكن كما قال الله تعالى:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلمُونَ} (الروم:59){مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأعراف:186) .