الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: في إخلاص الأعمال لله تعالى وذلك لا يكون إلا بالنية وما جاء أن العمال بالنيات
.
…
الفصل الثالث: في إخلاص الأعمال لله تعالى وذلك لا يكون إلا بالنية وما جاء أن الأعمال بالنيات
قال الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف:29) .
وقال جل جلاله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم إِنَّا أَنْزَلْنَا إِليْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر 1-3) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّل الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: الآية 11-15){وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلى اللَّهِ لهُمُ الْبُشْرَى} (الزمر: من الآية 17) وقال تعالى {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر:66) وقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5) .
وفي الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(1) .
أقول: سيأتي ما في الباب من الأحاديث في الكلام على شرح هذا الحديث إن شاء الله تعالى، وإنما أخرت هذا الفصل بعد الأولين ولم
(1) رواه البخاري ورقمه (1) ومسلم ورقمه (1907) .
أقدمه قبلهما لأمرين:
الأول: أن الحكم على الشيء فرع تصوره، فلا يحكم على النية بصحة وفساد وإخلاص وشرك قبل معرفة الإسلام وتفسيره والتوحيد وبيان أنه الدين الذي خلقت لأجله السماوات والأرض ومن فيهن، وكلف به الإنس والجن.
الثاني: أن النية إنما تعتبر في الأعمال التي ظاهرها القبول، وهي الصادرة من عاملها بعد الإقرار بالإسلام والدخول والتحلي بمسماه والتخلي عن ضده وسواه، وتشييد أصل بنيانه، ورفع قواعده وأركانه، وإلا فمنكره الأبي عنه، لا تقبل أعماله منه؛ لأنه صار بربه كفورا، {وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان:23) .
فإن قيل: إن الإسلام حقيقته معلومة بالضرورة، وقواعده محققة مشهورة، يشترك في معرفتها الخاص والعام، ولا تلتبس على أحد من الأنام.
فالجواب: أن هذه دعوى يكذبها الوجدان ، ويأنف منه الحس والعقل والجنان، ويحكم بفسادها المشاهدة والعيان، ولا يختلف فيها اثنان، أنها من الزور والبهتان، وعلى تقدير كون معرفته معلومة، وأصوله كما ادعى مفهومة، هل يحكم به لجميع الناس، وتخرجهم من دائرة الكفر والإبلاس.
ونقول: كلهم يشملهم مسمى الإسلام، وإن لم يقروا به، ولم يلتزموا بماله من الأحكام، فهذا لا يدعيه من انتقد، إذ لا يساعده عليه أحد، أو نقول كما هو الواقع والمشاهد الموجود أهل الإسلام قليل ماهم في الوجود، بل هم كالشامة البيضاء في الجلد الأسود، فبان بطلان ما زخرفه المنتقد وأورد، مع أن هذه الرسالة موضوعة ومصنفة ومجموعة، للراغب في الدخول والمريد، والطالب المستفيد. فلهذا اخترت تقديم رأس الأمر،
وأخرت الكلام على النية التي تصحح الأعمال ويثبت بها الأجر.
قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (الأعراف: من الآية 29) أي: بالعدل، وهو الوسط من كل أمر المتجافي، عن طريقي الغالي والجافي، السالم من وصمة التفريط والإفراط، والبعيد عن ثلمة الإفساد والانحطاط.
أمر رب العالمين عباده أجمعين بالاستقامة في العبادات، ومتابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات، فيما جاءوا به من الشرائع الجامعة، وما أخبروا به من المغيبات الواقعة، وبإخلاص الدين كله لله، فلا يشركوا معه في عبادته أحدا سواه؛ فإنه تعالى لا يقبل العمل حتى يكون للصواب مطابقا، ولمنهاج الشريعة موافقاً {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: من الآية 29) يحييكم بعد موتكم، وقيل: يحشركم حفاة عراة غرلا، والحديث يشهد لهذا (1) ، وقيل من ابتدأ خلقه على الهدى صار على الهدى، ومن ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها. وأحاديث الصحيح دالة على ذلك ففي البخاري: "
…
فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها (2) ، وإنما الأعمال بالخواتيم" (3) .
ويجمع بين هذا وذلك قوله: "خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم"(4)، وقوله {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَليْهَا} (الروم: من الآية 30)
(1) وهو حديث ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إنكم محشورون حفاة عراة غرلا
…
" الحديث رواه البخاري.
(2)
رواه البخاري ورقمه (6594) من حديث ابن مسعود، رواه أيضا برقم (6607) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهم.
(3)
قطعة من حديث رواه البخاري (6233) من حديث سهل رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم ورقمه (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
بأنه جل جلاله خلقهم؛ ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، ومع هذا قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيداً {هُوَ الَّذِي خَلقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (التغابن: من الآية 2) وفي الحديث: "كل الناس يغدوا فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها". (1) وقدر الله تعالى نافذ في بريته، وهو الذي قدر فهدى من أراد، وأشقى من طرد من العباد بمحض الفضل والعدل، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء: من الآية 23) .
وقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ} (الزمر: من الآية 2) يعني: استقم على التوحيد وعلى إفراده بالعبادة، ممحضا له جميع أنواعها من الشرك والرياء؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك، وإنما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك والمراد قومه، أي وحدوا الله تعالى ولا تدعوا مع الله شريكا في عبادته لا ملكا ولا رسولا، فإنهم ليسوا أهلا لذلك {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر: من الآية 3) يعني: أنه هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة؛ فإنه المتفرد بصفات الألوهية والإطلاع على الأسرار والضمائر. وسبب ذلك: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله، وملة جدك عبد المطلب وسادة قومك يعبدون الأصنام، فنزل: قل يا نبي الله إني {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لهُ الدِّينَ} (الزمر:11) يعني: وحده، وأكفر بمن سواه {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّل الْمُسْلِمِينَ} (الزمر:12) يعني: أمرت
(1) رواه مسلم ورقمه (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن قصب السبق في الدين إنما هي بالإخلاص، أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من قريش ومن دان بدينهم (1) .
أقول: وكلا الأمرين مجتمع فيه؛ لأنه في الدارين هو المقدم، وأول من آمن من قومه وأسلم {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} (الزمر: من الآية 13) بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لعظمة ما يقع فيه من الأهوال والنكال {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لهُ دِينِي} (الزمر:14) أمره الله تعالى أن يخبر عن إخلاصه، وأن يكون {مُخْلِصاً لهُ دِينِي} بعدما أمره بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص، وذلك لأجل الخوف من العقاب على المخالفة، وفيه قطع لإطماع قومه.
وقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: من الآية 15) وإن كان ظاهره التخيير، فالمراد به التهديد، ويستفاد منه شدة الوعيد، كقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت: من الآية 40) وقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} (الزمر: من الآية 8) والكلام على باقي الآيات ظاهر، ومدلولها في المراد واحد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(2) الخ هذا الحديث رواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، ومسلم بن الحجاج، والإمام مالك رحمهم الله تعالى عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة ابن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3) . وقد صدر به
(1) انظر: جامع البيان لابن جرير (23/204) .
(2)
تقدم تخريجه ص 42.
(3)
رواه مالك ورقمه (986) .
البخاري كتابه الصحيح، وجعله قائما مقام الخطبة ونائبا منابها، وإشارة منه إلى أن الأعمال لا تحصل للعامل ثوابها، وانه لا ثمرة لها في الدنيا والآخرة إلا إذا كان لوجه الله تعالى طلابها، فكل عمل لغيره مراد نتيجته البطلان والفساد، وبعيد عن الصواب والسداد.
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، ويشار في أصول الإسلام إليها. فقال الشافعي:"إنه ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه". وعن الإمام أحمد قال: "أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر "إنما الأعمال بالنيات" وحديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" (1) ، وحديث النعمان بن بشير: "الحلال بين والحرام بين" (2) ، وقال: " ينبغي أن يبدأ في كل تصنيف بهذه الأحاديث" (3) .
وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وجمع أمر الدنيا كلمة:"إنما العمال بالنيات"(4) .
والمراد بالأعمال: الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية، فأما ما لا يفتقر إليها كالعادات من أكل وشرب ولبس وغيرها، أو مثل رد الأمانات والمضمونات كالودائع والمغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية، فيختص هذا من عموم العمال المذكورة، وإلى هذا ذهب جمع، وقال آخرون وحكى عن الجمهور وهو ظاهر كلام أحمد: الأعمال هنا على
(1) رواه البخاري ورقمه (2697) ومسلم ورقمه (1718) .
(2)
رواه البخاري ورقمه (52) مسلم ورقمه (1599) .
(3)
انظر: هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (1/61) .
(4)
انظر: جامع العلوم والحكم (1/62) .
عمومها لا يخص منها، والمعنى على كل من القولين أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة فعمله صالح فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد، فعليه وزره.
فصلاح العمال وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها؛ لقوله: " إنما العمال بالخواتيم"(1) وقد تكون النية مباحة، فيكون العمل مباحا، فلا ثواب فيه ولا عقاب.
والنية في اللغة: نوع من القصد والإرادة.
وعند العلماء: تمييز العبادات من العادات (2) .
والمراد منها: تمييز المقصود بالعمل هل هو لله وحده لا شريك له أم غيره؟ وهذه هي التي ذكرها العارفون في كتبهم، وهي التي توجد في كلام السلف، وكذلك هي المراده في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف أمته.
ويعبر عنها بالإرادة: كما في القرآن: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (آل عمران: من الآية 152){تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (لأنفال: من الآية 67){مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} (الشورى: من الآية 20){مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلةَ عَجَّلْنَا لهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (الإسراء: من الآية 18){وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (الإسراء: من الآية 19){مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِليْهِمْ أَعْمَالهُمْ فِيهَا} (هود: من الآية 15) .
وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء: كقوله: {إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} (الليل:20) وقوله: {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 207) وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 272) وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: من الآية 272) وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 114)
(1) تقدم تخريجه وهو عند البخاري.
(2)
وأيضا: تمييز العبادات عن بعض ، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا.
وأما ما ورد منها في السنة وكلام السلف فكثير لا يحصى.
ففي الحديث: "من غزا ولم ينو إلا عقالا فله ما نوى"(1) .
وحديث جابر: "يحشر الناس على نيتهم"(2) .
وحديث عمر: "إنما يبعث المقتتلون على النيات"(3) .
واعلم أن إخلاص النية لله تعالى لم يزل شرعا لمن قبلنا ثم لنا من بعدهم. قال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} (الشورى: من الآية 13) . قال أبو العالية: "وصاهم بالإخلاص لله وعبادته وحده لا شريك له".
وقال الفضيل: في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك: من الآية 2) قال: "أخلصه وأصوبه، والخالص إذا كان لله تعالى، والصواب إذا كان على السنة"(4) .
وقوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
…
" الخ.
أخبر صلى الله عليه وسلم أن هجران بلد الشرك والكفر والانتقال منه إلى الإسلام يختلف باختلاف النيات والمقاصد.
فمن كانت هجرته إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله، ورغبة في تعلم
(1) رواه أحمد (5/315،320) ، والنسائي ورقمه (3138) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (4638) .
(2)
رواه ابن ماجة (4230) ، وصححه الحاكم (2/452) .
(3)
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الإخلاص والنية"، ورواه أيضا أبو يعلى في "المسند الكبير" كما في المجمع (10/332) وفي سنده عمرو بن شمر، كذبه غير واحد، واتهم بالوضع، وساق له الذهبي في الميزان (36/368-369) أحاديث منكرة منها هذا الحديث.
(4)
انظر: جامع العلوم والحكم (1/72) .
دين الإسلام والتفقه في التوحيد، وإظهار الدين كما ينبغي، حيث كان يعجز عنه في دار الشرك، ولا يتمكن من إظهاره، فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا، وكفاه شرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه، وذلك نهاية المطلوب دنيا وأخرى.
ومن كانت هجرته إلى دار الإسلام لطلب دنيا، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك. فالأول تاجر والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر.
وفي قوله: "إلى ما هاجر إليه" تحقير لما طلب من أمر الدنيا واستهانة به، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر.
وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة بنص الكتاب والسنة، فلذا كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم وقد هاجر منهم رجال كثير ونساء قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي. انتهى، هذا ملخص ما ذكره شراح هذا الحديث (1) .
وأقول: قد زعم قوم أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والإيمان ليست واجبة ولا متعينة في هذا الزمان؛ وأن محكم عقدها مفسوخ، ووجوبها المستمر منسوخ، متمسكين من الدليل بما لا يبرد الغليل، ولا يشفي القلب العليل، وذلك ظاهر قول خير البرية:"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"(2) ، وظاهر حديث "المهاجر من هجر ما نهى الله
(1) من شراح الحديث: ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/59) ، فتح الباري (1/9) وغيرهم.
(2)
رواه البخاري ورقمه (3900) ومسلم ورقمه (1864) من حديث عائشة رضي الله عنها.
عنه" (1) ، وليس الأمر كما زعموا ولا المعنى كما فهموا، بل ليس الحكم كما جزموا به وحكموا، وإنما المراد المقصود، والمنهج المسدود الهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتحها للمسلمين، وزوال المشركين، وإضاءة أرجائها بأنوار الدين، ورفع قواعد التوحيد، وقصم كل جبار عنيد؛ لأن الله تعالى قد بدل الحال، والمحذور فيها قد زال، والمهاجرة منها تؤدي إلى الإخلال بأم القرى والتعطيل، فسد بعد مضي تلك الحكمة ذلك السبيل.
وأما الهجرة من بلاد المشركين والكفار، وعدم السكنى معهم والاستقرار، إلى ما للمسلمين من الديار، حيث لا يمكن إقامة دين للموحد ولا إظهاره، ولا تعزيز للإسلام وانتصاره، فحكمها إلى الآن ثابت الوجوب والإلزام، مستمر على ممر السنين والأعوام، كما صرح بذلك الأئمة الأعلام، والآيات على ذلك دالة صريحة، والأحاديث ثابتة صحيحة.
قال الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97) .
قال ابن كثير: "الآية دالة على وجوب الهجرة عامة، فكل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة دينه، فهو ظالم لنفسه مرتكب محرما بالإجماع، وقد روى أبو داود بسنده عن سمرة بن جندب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله (2) " (3) انتهى كلام ابن كثير في تفسيره.
(1) رواه البخاري ورقمه (10) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه أبو داود ورقمه (2787) .
(3)
تفسير القرآن العظيم (2/343) .
وقال البيضاوي: "الآية دالة على وجوب الهجرة، ففي الحديث: "من فر بدينه من أرض إلى أرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم عليه السلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم" (1) .انتهى كلامه.
ولو لم يكن إلا قوله صلى الله عليه وسلم "أنا بريء من مسلم أقام بين ظهراني المشركين"(2) وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" رواه أبو داود عن معاوية رضي الله عنه (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد" رواه سعيد (4)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو" رواه أحمد والنسائي (5) لكان في الدنيا كافياً، وبالمقصود وافياً، كيف وقد قال الله جل جلاله:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ} (النساء: من الآية 100) .
هذا ما خطر في البال من المقالة، حتى كتبي هذه العجالة، من غير مراجعة في ذلك للأسفار، وإن كان صبح الحق فد تبلَّج بالأسفار، وأشرق بما ذكرناه من الحجة المحجة الأنوار، وانجلى عن وسيم وجهها الغبار.
خاتمة: اعلم أن سائر الأعمال كطلب العلم، والجهاد، والصلاة، والصيام، والحج والإنفاق، وغير ذلك، مثل الهجرة في هذا المعنى، فصلاحها
(1) أنوار التنزيل (1/239) .
(2)
رواه الترمذي ورقمه (1604) وأبو داود ورقمه (2645) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود ورقمه (2479) وأحمد (4/99) .
(4)
رواه أحمد (4/64) عن رجل من الصحابة.
(5)
رواه أحمد (1/192) وابن حبان (4866) وصححه، من حديث عبد الله السعدي.
وفسادها بحسب النية الباعثة عليها، وقد ورد الوعيد على العمل لغير الله عموماً.
خرَّج الإمام أحمد من حديث أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بشر هذه الأمة بالثناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب"(1) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغني الأغنياء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". وخرجه ابن ماجة بلفظ "فأنا منه بريء"(2) .
وخرَّج أحمد عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم، فمن أشرك بي شيئا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا غني عنه"(3) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي رواية لمسلم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء فأي ذلك
(1) رواه أحمد (5/134) وابن حبان (2/132) ورقمه (405) والحاكم (4/329) هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه.
(2)
رواه مسلم ورقمه (2985) وابن ماجة ورقمه (4202) .
(3)
رواه أحمد (4/125-126) ورواه الطبراني في الكبير (7139) والحاكم (4/329) وفيه شهر بن حوشب وهو متكلم فيه.
في سبيل الله؟ فذكر الحديث (1) . وخرج النسائي من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء؛ إن الله يقبل إلا ما كان خالصا، وابتغى به وجهه"(2) .
وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: "يا رسول الله، رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أجر له" فأعاد عليه ثلاثا (3) .
وخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو قال قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو فقال:" إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله بتلك الحال" 4) .
خرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث أبي سعد بن أبي فضالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك"(5) .
وحديث الثلاثة الذين هم أول من يقضي فيهم، وتسجر بهم النار
(1) رواه البخاري (123) و (2810) و (7458) ومسلم (1904) .
(2)
رواه النسائي (3140) والطبراني (7628) وإسناده حسن.
(3)
برقم (2155) وفي سنده يزيد بن مكرز قال علي بن المديني وغير مجهول.
(4)
برقم (2519) ورواه أحمد (5/234) .
(5)
رواه أحمد (4/215) والترمذي رقمه (31554) وقال حسن غريب. وابن ماجة ورقمه (4203) وصححه ابن حبان (404) .
مشهور خرجه مسلم (1) .
فالحاصل أن الرياء يحبط العمل، إذا كان القصد اتفاقا، فإن كان طارئا في أثناء العمل فمحل خلاف بين أئمة السلف، هل يبطل كله أو يثاب على نيته الأولى؟ وأما إذا عمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء في الناس، ففرح بفضل الله ورحمته، فلا يضر. فقد خرج مسلم عن حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن"(2) .
وخرج الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا أطلع عليه أعجبه قال:"له أجران: أجر السر وأجر العلانية"(3) .
وبالجملة فليس على النفس شيء أشقُّ من الإخلاص؛ لأنها لا نصيب لها فيه (4) ، وبما ذكرته لمن تدبر وعقل أمر الله ونهيه كفاية.
(1) رواه مسلم ورقمه (1905) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم ورقمه (2642) .
(3)
رواه مسلم ورقمه (2384)، وابن ماجة (4226) وصححه ابن حبان (375) وقال الترمذي:(هذا حديث حسن غريب، وقد روى الأعمش وغيره من حبيب بن أبي ثابت عن أبي صالح عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وأصحاب الأعمش لم يذكروا فيه عن أبي هريرة) .
(4)
يوجد حاشية وهي: (قوله: (فليس على النفس شيء أشقُّ من الإخلاص؛ لأنها لا نصيب لها فيه) هذا مروي عن سهل بن عبد الله التستري، ذكره ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث "إنما الأعمال بالنيات" الحديث.