المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامس: في تعيين قبول شرعه المطهر صلى الله عليه وسلم ولزوم العمل بهديه الأنور وإلغاء مخالفة ضده، وإبطال العمل به ورده - العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين

[ابن غنام، حسين]

الفصل: ‌الفصل الخامس: في تعيين قبول شرعه المطهر صلى الله عليه وسلم ولزوم العمل بهديه الأنور وإلغاء مخالفة ضده، وإبطال العمل به ورده

‌الفصل الخامس: في تعيين قبول شرعه المطهر صلى الله عليه وسلم ولزوم العمل بهديه الأنور وإلغاء مخالفة ضده، وإبطال العمل به ورده

قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:32) وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (النساء: من الآية 13) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: من الآية 64) إلى قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَليْهِمْ} (النساء: من الآية 69) وقال جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا إِليْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِليْهِمْ وَلعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: من الآية 44) وقال تبارك وتعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لهُمُ الَّذِي اخْتَلفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل:64) وقال تعالى: {أَوَلمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَليْكَ الْكِتَابَ يُتْلى عَليْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت:51) وقال الله جل جلاله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العقاب} (الحشر: من الآية 7)

أخرج البخاري ومسلم من حديث القاسم بن محمد عن عمته عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما

ص: 93

ليس منه فهو رد" (1) .

وفي رواية لمسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي بعض ألفاظ الحديث "من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد".

قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: من الآية 31) أقول: هذه الآية المحكمة لأساس أكثر الناس هادمة، وعليها بالبدع والضلال والهوى حاكمة، فكل من ادعى محبة الله عز وجل، وليس على طريقة نبيه المرسل، فقد بلغ والله الغاية القصوى في الزور والكذب في الدعوى، بل هو في الخلد الأبدي، والعذاب السرمدي، حتى يتبع الشرع المحمدي، ويقتدي بدين نبيه ويهتدي، فيا لها من آية عظيمة الشأن والمقدار، جسيمة الفوائد والأسرار، يفضح مضمونها غالب العمال، ويفصح مكنونها برد ما لهم من الأعمال، وتنبئ بخيبة الرجاء لهم والآمال، وقطع الأسباب التي أملوا بها القرب من الله والاتصال، وذلك أنه لم يقم فيهم برهانها، ولم يظهر على صفحات أعمالهم سلطانها، فإن لكل قول حقيقة، ومن شغف بمحبوب سلك طريقه.

قال الحسن البصري: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله إنا نحب ربنا حبا شديدا" فأحب الله تعالى أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال غيره من السلف: "زعم قوم أنهم يحبون الله تعالى فابتلاهم بهذه الآية فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض الحكماء والعلماء ليس الشأن أن

(1) رواه البخاري ورقمه (1697) ومسلم (1718) .

ص: 94

تحب إنما الشأن أن تحب، {وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ} بإتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم والعمل على منهاجه، والأخذ بما جاءكم به، وترك ما نهاكم عنه، فهذا حقيقة الإتباع الذي رتب الله عليه لمن اتصف به المحبة، التي هي غاية المطلوب للمحب من المحبوب، التي يندرج تحتها التجاوز عن الذنوب {غَفُورٌ رَحِيمٌ} لكل من لقيه لا يشرك به شيئا، {رَحِيمٌ} بعباده المؤمنين.

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ} (النور: من الآية 54) أمر جل جلاله كل خاص وعام أن يطيعه في جميع ما أنزل من الأمر والنهي وسائر الأحكام.

{وَأَطِيعُوا الرَّسُول} (النساء: من الآية 59) قرن سبحانه طاعته فيما أنزل بطاعة رسوله فيما بيَّن وفصَّل. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} تخالفوا وتعرضوا عن أمره المبين، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر صراح في الحقيقة، والله-تعالى- لا يحب من اتصف بالكفر ورجسه، وإن ادَّعى وزعم أنه يحب الله ويتقرب إليه في نفسه، حتى يتابع خاتم الرسل ورسوله إلى العالم جنِّه وإنسه، الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم المرسلون من إخوانه لما وسعهم إلا إتباعه، والدخول في طاعته وإتباع شريعته في زمانه (1) . فقد تبيَّن بما ذكرناه، واتَّضح بما قرَّرناه، أنَّ كلُّ من ادعى محبة الله الكريم ولم يتبع شرع نبيه القويم، فهو على غير الصراط المستقيم، بل هو كاذبٌ في دعواه، مؤثر على الحقِّ متابعة هواه، قد تيمَّم الطريق المعوجَّ، وسلك أقبح المنهج، ومع كونه توسط من الضلال سنناً، يرى سوء عمله حسناً. وأي محبة تجدي والمحب المدعي يعصي محبوبه، ولا يحصل قصده ومطلوبه، بل يخالفه ويتعدى حدوده، ويجعل من دونه حبه وإلهه ومعبوده.

(1) انظر تفسير كثير.

ص: 95

قال بعض العارفين: (1)

تعصي الإله وأنت تزعم حبه

هذا لعمري في القياس شنيع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

فهذه الدعوى التي زعمها الملحدون، وتسمى بها المبطلون، هي التي ادّعاها قريش والمشركون، فكانوا بعبادة من عبدوه إلى الله يتقربون.

وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية 3) فأذاقهم الله تعالى من بأسه هلاكا وحتفا، وأذهب غيظ قلب نبيه وأصحابه منهم وأشفى، واستبيحت دماؤهم وأموالهم، وساءت للكافرين منهم أحوالهم، وصارت للجحيم عاقبتهم ومآلهم، {فَلوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأحقاف:28) .

بل ادعاها قبلهم النصارى واليهود، مع إصرارهم على قتل الأنبياء وتكذيب الرسل والجحود، فلعنهم الله، وغضب عليهم، وجعل منهم الخنازير والقرود، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (المائدة: من الآية 78) .

ولا ريب أن الكلام على المحبة يستدعي طولا، بل يستلزم أبوابا وفصولا ، ولكن لا بد من نبذة يسيرة، حتى تكون للإفادة مسيرة، ولمريد الدين والتوحيد بصيرة.

فأقول مستعيناً بالله تعالى متوكلاً عليه، رافعاً أكفَّ الضراعة في التوسل إليه "اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء

(1) القائل هو الإمام الشافعي كما في ديوانه 1249.

ص: 96

إلى صراط مستقيم" (1) ، وأرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما.

اعلم أن المحبة نوعان: محبة الطبع، ومحبة العقل:

فمحبة الطبع كمحبة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم وليس الكلام فيها وإنما الكلام في المحبة العقلية، وهي ما يقتضي العقل رجحانها، ويستدعي اختيارها، وإن خالفها هواه، إلا ترى المريض يعاف الدواء، وينفر عنه طبعه، ولكنه يميل إليه باختياره ويهوي تناوله بمقتضى عقله؛ لما يعلم أن صلاحه فيه. فهذه نتيجة دخول الإيمان في القلب، بحيث يختلط باللحم والدم، فتنكشف له محاسن الإسلام وزينه، وقبح الكفر وشينه. فهذه هي التي تشيد بها أصل الكفر وأصل الإسلام، وافترق بسببها الأنام.

قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (البقرة: من الآية 165) .

فالكافر وسائر المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله. وقد وصف الله تعالى بذلك المشركين في مواضع من كتابه المبين. فقال وهو أصدق القائلين: {فَإِنْ لمْ يَسْتَجِيبُوا لكَ فَاعْلمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص:50) . وقال: {وَلوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (المؤمنون: من الآية 71) وقال تعالى: {وَاتْلُ عَليْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلوْ شِئْنَا لرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلدَ إِلى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (الأعراف: من الآية 175-176) وقال جل جلاله: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (الشورى: من الآية 15) وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ

(1) رواه مسلم (770) .

ص: 97

الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: من الآية 23) وقال سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد:14) .

فأصل ما احتال به الشيطان عمن أراد الله إضلاله من العباد، وأول ما أوقعهم به في مهواة الكفر والإلحاد، فنالوا بذلك الطرد والإبعاد محبتهم لآلهتهم ومساواة الإله الحق بالأنداد، وكذلك أهل البدع والهوى، الذين عمت في كل قطر بهم البلوى، تجارى بهم الهوى كما يتجارى بصاحبه الكلب، فانسلوا إلى الضلالة من كل حدب، ولم يبق لهم من دين الله أدنى سبب. قدموا أهواءهم على الشرع وآثروه، وأعلنوا بضلالهم وأظهروه، لم يقدموا محبة الله ورسوله على السّوى، بل كرهوها، فقدموا عليها الهوى، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَل اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالهُمْ} (محمد:9) ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّل عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلحَ بَالهُمْ} (محمد:2) .

وأما محبة الله تعالى فهي مشكاة التوحيد ونبراسه، بل هي في الحقيقة أصله وأساسه، ولكن المحبة الصحيحة هي التي تقتضي المتابعة في حب ما يحب وبغض ما يكره، فمن أحب الله تعالى محبة صادق من قلبه، أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى بما يرضى الله ورسوله، ويسخط لما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه الظاهرة والباطنة بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله دل على نقص محبته الواجبة؛ لأن الواجب على كل مسلم أن يحب ما أحبه الله

ص: 98

محبة توجب له الإيقان بما وجب عليه منه، وأن يكره ما كرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه.

ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: من الآية 36) وقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِليْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: من الآية 24) .

فمن ملأت هذه المحبة زوايا قلبه صار قلبه مشكاة مصباحها معرفة الله تعالى المشرقة أنوارها، البديعة أسرارها، فلا يبقى حينئذ فيه سوى عظمة الله تعالى وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه، وتصير هذه الأحوال في قليه بسبب المعرفة مشاهدة له بعين البصيرة، فلا تستطيع الجوارح الظاهرة أن تبعث إلى شيء من الأشياء أو عمل من الأعمال إلا بموافقة ما رسى ورسخ في القلب. ولهذا السر البديع أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في خطبته بعد قدومه المدينة:"أحبوا الله من كل قلوبكم"(1) ؛ لأنه متى امتلأ بعظمة الله تعالى، فينمحي إذ ذاك كل ما سواه، ولا يبقى للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا ما يريده منه مولاه، فلا يتحرك إلا بأمره، ولا ينطق إلا بتوحيده وذكره، ولا

(1) رواه الترمذي (3789) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه.

ص: 99

يلهج إلا بحمده وشكره، ويسهل عليه التعذيب فيه، وبذل نفسه محبة لمولاه، ورغبة به عما سواه، ومحبة لرسوله وما جاء به من عند الله، فيحب لله، ويبغض لله، ويعادي فيه، ويوالي له، ويتبرى من جميع عداته، ويعطي له، ويمنع، ويذل، ويخضع، ويسارع بامتثال أوامره من الطاعة وأداء العبادة وصرف جميع أنواعها له، فلا يدعو غيره، ولا يتقرب بنذر ولا نسك لسواه، ولا يخاف ولا يرجو إلا إياه، ولا يرغب إلا فيه، ولا يرهب ولا يخشى إلا منه، ولا يستغيث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا ينيب إلا إليه. ومن كانت هذه حاله، صدق على الحقيقة مقاله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وتحقق حينئذ بطعم الإيمان؛ لأنه لم يتخذ وليا من دون الله، ولم يبتغ غيره حكما، ولم يبغ غيره ربا، فالرضا بربوبية الله التي هي عين التوحيد تستلزم الرضا بعبادته وحده، والكفر بالأنداد، وتستلزم الرضا بتدبيره للعبد، واختياره له، والرضا بالإسلام دينا يقتضي اختياره على سائر الأديان، والرضا بمحمد رسولا يقتضي الرضا بجميع ما جاء به من عند الله، وقبول ذلك بالتسليم وانشراح الصدر به كما قال:{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: من الآية 65)، ودخل في زمرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82) ، لأن هذا قام بحق الله تعالى الذي خلقه لأجله وهو توحيده بالعبادة بأنواعها، فصار جزاؤه الأمن من عذاب النار كما صرح بذلك معاذ في حديثه (1) ، بل ما أجدر هذا أن يكون ممن حقق التوحيد لرب الأرباب

(1) رواه البخاري ورقمه (2856) ومسلم ورقمه (30) .

ص: 100

فيصير مع السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب (1) .

فهذا الذي ذكرنا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتصديق إياك نعبد وإياك نستعين؛ لأن معناها أنه لا يؤله غيره حبا ورجاء وخوفا ورغبة ورهبة وطاعة وخضوعا وغير ذلك، ولا يعبد بأنواع العبادة إلا هو، ولا يستعيذ ولا يستعين إلا به وكل ما ذكرته لا يختلف من أهل التوحيد فيه اثنان، إذ كل ذلك قد قام عليه البرهان، ودلت عليه إجمالا وتفصيلا الأحاديث وآيات القرآن. قال الله تعالى:{وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لكُمْ} (غافر: من الآية 60) .

وفي حديث النعمان بن بشير "الدعاء هو العبادة"(2) .

وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "الدعاء مخ العبادة"(3) .

ومعلوم أن السؤال هو حقيقة العبادة، لأن فيه إظهار الذل والمسكنة والحاجة والافتقار، والاعتراف بقدرة المسئول على دفع هذا الضرر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودفع المضار، وكل هذا لا يصلح إلا لله وحده (4) .

ولولا اعتقاد المشرك فيمن يدعوه من دون الله، ما ذكرنا من قدرته على دفع الضرر وإيصال المطلوب إليه لما دعاه، واتخذه إلها من دون الله.

ولهذا كفار قريش وغيرهم إذا تعاظم عليهم الخطب، وتفاقم الكرب

(1) رواه البخاري ورقمه (5705) ومسلم ورقمه (216) .

(2)

رواه الترمذي (2969) وقال: حسن صحيح، ورواه أبو داود (1479) وابن ماجة (2828) وأحمد (4/267) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(3)

رواه الترمذي (3371) والحديث فيه ضعف، قال الترمذي:"هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث أبي لهيعة".

(4)

انظر: جامع العلوم والحكم (1/481) .

ص: 101

استحقروا الآلهة ورغبوا عنها، فيطلبون رفع ذلك من الله ولا يطلبونه منها.

كما حكى الله تعالى ذلك عنهم فقال: {قل أرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِليْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 4-41) وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} (الإسراء: من الآية 67) والآيات كثيرة، ومع هذا الإخلاص لله تعالى منهم في الشدة، أرسل الله إليهم محمدا نبيه وعبده مبينا لهم أن هذا الاعتقاد هو الكفر بالله والشرك والإلحاد، الذي لا يرضاه الله لأحد ولا من أحد من العباد، ودعاهم إلى توحيد الألوهية الذي هو توحيد العبادة، فأبوا إلا الإصرار على ما رأى كل منهم عليه آباءه وأجداده {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات:70) وأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فأمر نبيه بالقتال، وأباح له الدماء والأموال، ولم يعصمهم الإقرار بالربوبية لله ولا الإخلاص له في اشتداد الحال، فأتم الله ما أراده من النور، وحقق لنبيه النصر والتمكين والظهور، وأزال عن الحنفية كل محذور، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلمُونَ} (الروم:6) فإذا كانت هذه حال من يخلص في الشدة الدعوة لله وحده، فما بالك بمن يخلص للند في الشدة؟ وأعجب منه من أغواه الشيطان، وكان له قرينا، فظن أن هذا الشرك الأكبر دينا، وكان مدة عمره به رهينا {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلمُونَ} (الروم:59) وما ظنك بحال من كفر الدعاة إلى التوحيد، وتبين في معاداة أهله وموالاة أعدائه من كل شيطان

ص: 102

مريد، ولم يخش ما بين يديه من العذاب الشديد {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (التوبة: من الآية 115) هذا ما قدرته في كون الدعاء حقيقة العبادة من قولي؛ لأن فيه إظهار الذل

الخ، ينبغي أن يتدبر، فإنه أصل ترجع سائر أنواع العبادة إليه، وميزان حقائقها توزن عليه. فإن المتقرب بالنسك والنذر، وكذا الرجاء والخوف والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة، لو يعلم عجز المتقرب إليه وعدم دفعه الضر وجلبه النفع، وقدرته عليه لما تضرع وتمسكن وأبدى الخضوع بين يديه.

ولم يشرع الله عز وجل التقرب بشيء من حقه إلى ملائكته أو رسله أو الصديقين والصالحين من خلقه.

قال تعالى: {أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: من الآية 21) .

وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4) .

ولا يتقرب إلى الله إلا بما شرعه على لسان من لا ينطق عن الهوى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون:7) .

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِليْهِ الْوَسِيلةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:35) وقال سبحانه وتعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: من الآية 57) .

ولم يشرع لهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ونبيها صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق من غير التباس إلا ما شرعه لأولى

ص: 103

العزم من المرسلين، وهو إفراده بالعبادة وإخلاصها له وإقامة الدين.

قال تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِليْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: من الآية 13) .

وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِليْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25) .

وقد قص الله علينا فيما أنزل إلينا ما جرى من نوح وقيامه بالدعوة، وإبراهيم وتبرئه من أبيه وقومه وما كانوا يعبدون، وما جرى من خاتمهم عليه الصلاة والسلام.

حيث قال: {أَإِنَّكُمْ لتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} (الأنعام: من الآية 19) .

وهؤلاء صفوة الرسل الذين أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم فيما أمر الله تعالى به ونهاهم، مع أنهم من صغائر الذنوب مبرءون.

أخبرنا سبحانه أنهم {وَلوْ أَشْرَكُوا لحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: من الآية 88) .

ولهذا كانت مخافتهم من الوقوع في الشرك، وسؤالهم الله أن يباعدهم منه، واستعاذتهم به تعالى من الوقوع فيه، مع العلم والاستغفار من الوقوع فيه من غير علم أكثر وأعظم وأشد من غيرهم مع أنهم مرسلون بإزالته، ومع وجوب عصمتهم من الذنوب فضلا منه، وما ذاك إلا لكونهم أعلم بالله وأخوف واتقى من غيرهم، وشرع لنا جل جلاله بعد الإيمان به الإيمان بملائكته وكتبه ورسله، والإيمان بهم لا يصح إلا بتصديقهم فيما جاءوا به وجميع ما أخبروا به، من حق الله

ص: 104

الذي هو توحيده، وحقهم وهو المتابعة والمحبة، التي هي أصل طاعة الله ورسوله، الذي أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، كما رواه البخاري ومسلم (1) ، وأخبر أنه لا يؤمن أحدنا حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما، كما في الصحيحين (2) . وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاءوا به (3)، وحق أتباعهم الذين حازوا السعادة باتباعهم وهو الدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار. قال تعالى في سياق المدح:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10)، وقال:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: من الآية 29) .

والأحاديث كثيرة في هذا المعنى.

فهذا ما شرعه وبينه لنا، وهذه المحبة هي المحبة الواجبة المشروعة المحمودة، وضدها المحبة المذمومة الممنوعة المردودة، وهي التي جرى كلب الغلو في قلوب أهلها وعظامهم وتجاري حتى صاروا بها فجارا كفارا، ولم يبالوا بالإذاية فيها، ورأوا التعذيب فيها عذبا، ولم يرجعوا عنها حين أدخلوا نارا، فهؤلاء زادوا على محبة اليهود عزيرا، والمسيح والنصارى.

(1) رواه البخاري (15) ومسلم (44) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (61) ومسلم (43) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

رواه الطبراني والأصبهاني في كتاب "السنة"(15) والخطيب البغدادي في تاريخه 4/369، والبغوي في شرح السنة (104) وقد استبعد الحافظ ابن رجب تصحيح هذا الحديث من وجوه، أنظرها في جامع العلوم والحكم (2/394) .

ص: 105

وهكذا شأن من يعتقد الألوهية في الأشخاص ويسميها أسراراً، ويصرف لهم أنواع العبادة بل هم في قلبه أعظم رجاءً وخوفاً واعتماداً ودعاءً وتعظيماً ووقاراً، ممن أمدَّهم بالأموال والبنين وجعل لهم جنات وجعل لهم أنهاراً، وأرسل بقدرته عليهم السماء مدراراً {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} (النحل:73) .

ومن تدبَّر الآيات المحكمات ورضي بها حكماً، وكشف مولاه عن عين بصيرته ظلمة العمى، تحقَّق أن الألوهية صفة تدور معها العبادة وجوداً وعدماً، وعلم يقيناً أن من صرف لنبيٍّ أو وليٍّ نوعاً من العبادة فقد جعله نداً لإله الأرض والسماء {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:45) وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (الأحقاف:5) ، وبان له أن اعتقاد النفع والضرِّ هو معنى السرِّ، الذين يدعى في الأنام، وعبرت عن ذلك قريش بالألوهية في دعواها ذلك للأصنام، ولا تنقلب الحقائق بالأوضاع فإن كل وقت له مضياع، وهل يحلُّ [الخمر] إذا سمي نبيذاً أو عتيق المدام؟ {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَليْهِ وَإِنَّهُ لفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ ليُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لمُشْرِكُونَ} (الأنعام:121) {وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: من الآية 112) . وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه يوضح للمهتدي المراد، ويكشف سر هذا الاعتقاد، ولا بأس بإيراده.

خرَّج الترمذي وصححه عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون

ص: 106

عندها، وينوطوا عليها ثيابهم وأسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر، إنها السنن..! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل، اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم"(1) .

قوله: "إلى حنين" هو واد بين مكة والطائف حارب فيه النبي صلى الله عليه وسلم هوازن وثقيفا، وكان المسلمون فيه اثنا عشر ألفا وهوازن وثقيف أربعة آلاف.

قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر" هذا فيه تمهيد عذر عما عسى أن يقال: كيف يليق صدور هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أول ما أتاهم بلا إله إلا الله، التي معناها ومقتضاها أن تكون الألوهية، وكذا ما تستحقه الألوهية اعتقادا وقولا وعملا لله تعالى، وإبطال للآلهة التي كانوا يعتقدون فيها البركة، ودفع الضر، وجلب النفع، وانه إنما استباح دماءهم وأموالهم لأجل ذلك، فذكر أن المنتقل إلى الإسلام بعد الشرك إذا كان قريب عهد بالجاهلية، لا يأمن أن يكون في قلبه بقية، بخلاف قديم الإسلام، لا تكاد تخفى عليه الأحكام.

وقوله: "الله أكبر" أتى صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ المنبئ بالتفخيم، المشعر بالتعظيم، الدال على التهويل والاستعظام لما أتوا من الكلام، مبالغة منه عليه الصلاة والسلام عليهم في الجواب والرد، وإغلاظا في إبطال ما جنحوا له من القصد؛ لتعي إرادة قلوبهم عظمة أمر مطلوبهم، مع أنهم

(1) رواه الترمذي (2180) وقال: حسن صحيح.

ص: 107

ليس لهم قصد ولا طلبة، سوى الوسيلة إلى الله والقربة. لكنهم لم يفطنوا حين صدور هذا المقال، لما يؤول له الحال، وأن الاعتقاد مثل هذا في ملك أو بشر أو حجر أو شجر هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر.

وقوله: "إنها السنن" أي: الطريق والسبل، عبر بضمير الشأن والقصة تفخيما وتهويلا، وردعا في الرد وتنكيلا، وقد بلغت هذه الجملة الغاية، وتضمنت هذه النهاية، من النهي والتغليظ في الزجر، عن سؤال مثل هذا الأمر.

وفي قوله: "إنها السنن" إشعار بأن النفوس إليه ما تميل، ولا تكاد تجنح لغير ذلك السبل، وأن السالم منها في الناس قليل، إذ البواعث لها قوية، والدواعي إليها والمبرأ منها نزر في البرية.

وقوله: "قلتم والذي نفسي بيده" أثبت صلى الله عليه وسلم ما أثبته الله تعالى لذاته العلية، التي هي من التعطيل برية، وعن شبه المحدثات عرية، بل هو منزهة سنية.

قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (المائدة: من الآية 64) وقال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: من الآية 10) وقال جلاله {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: من الآية 67) وهذه وأمثالها من الصفات الواجبة الثابتة بالدليل، نؤمن بها كما آمن السلف الصالح من غير تشبيه ولا تعطيل، ومن لجأ إلى غير ذلك فقد ضل سواء السبيل.

أقسم صلى الله عليه وسلم في الجواب مع أنه الصادق المصدوق الناطق بالحق والصواب، المبرأ خبره عن وصمة الخطأ والارتياب {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم:5) ليتمكن في قلوبهم مقتضى الخطرات والفحوى، فيأتوا من الإصغاء إليه

ص: 108

والإقبال عليه بالغاية القصوى.

وقوله: "كما قالت بنو إسرائيل" المراد بهم أهل [الكتاب](1)، وإسرائيل: هو لقب يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، لقب بالعبرانية بإسرائيل، ومعناه صفوة الله، وقيل معناه: عبد الله، وقد ذكرهم الله تعالى ونوره بفضلهم على أهل زمانهم، وما آتاهم من الكتاب والحكم والنبوة، وما رزقهم من الطيبات، وما جرى منهم وعليهم في مواضيع كثيرة من كتابه.

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن ما صدر من بعض الصحابة من ذلك القيل مشابه لما قالته لموسى بنو إسرائيل، وقاعدة التشبيه غالبا اقتضاء المماثلة والمساواة.

وفي ذكر بني إسرائيل تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما شاهده من قومه ورآه، وذلك أن بني إسرائيل لما أهلك الله تعالى عدوهم، وأنجاهم، وفضلهم على غيرهم، واجتباهم، ومنحهم أصناف نعمه وأولاهم، أراد اختبار حالهم، مع لأنه لا يخفى عليه شيء فابتلاهم، وذلك أنهم لما جاوزوا البحر محفوفين بالسلامة والنصر، متخوفين بالعز والفخر، مروا على قوم لهم أصنام تشابه صورة البقر، وهم يغدون عليها للتبرك بالآصال والبكر، وعلى عبادتها يقيمون ويعكفون وهذا أول شأن عبادة العجل الذي كانوا يعبدون، وكان القوم من العمالقة الذين أمر الله تعالى نبيه موسى بقتالهم؛ لكفرهم وضلالهم، {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لنَا إِلهاً} (الأعراف: من الآية 138) صنما يشابه صورته صورة البقر، نعبده ونتقرب إلى

(1) في المخطوط "الكتابين" ولعل الصواب ما أثبت؛ لأن المراد بيني إسرائيل هم اليهود: وهم أهل الكتاب واحد والله أعلم.

ص: 109

الله بذلك {كَمَا لهُمْ آلِهَةٌ} كل منهم مقيم على عبادتها وناسك، فأجابهم عليه الصلاة والسلام بالجواب المسدد الموفق، والحكم الفصل المحقق، مفتتحا له ببيان وصفهم وما هم عليه من الجهل المطلق قال:{قَال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: من الآية 138) إذ سؤالكم هذا بعد ما رأيتم الآيات لا يناسب ولا يجوز لو كنتم تعلمون، ثم أفصح لهم في الجواب عن السؤال، بإيضاح عاقبة أولئك القوم وما يصيرون إليه من الحال، وإنهم ولو كان قصدهم التقرب إلى الله تعالى فهو عين الكفر والضلال، وأن الله تعالى هادم ما لهم من الدين، ومحطم أصنامهم التي لا يزالون عليها عاكفين، فتقربهم بذلك إلى الله باطل، وضلالهم وشركهم زائل، وحالهم إلى سوء العاقبة آيل.

قال: {قَال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً} أي اطلب لكم غيره معبودا {وَهُوَ فَضَّلكُمْ عَلى الْعَالمِينَ} (الأعراف: من الآية 140) أي: من كان منكم موجودا.

وفيه غاية التنبيه على سوء هذه المقالة، حيث قابلوا ما هم فيه من النعم والتفضيل وحسن الحالة، بالكفر والشرك والضلالة.

قوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم" يحتمل أن يكون بفتح السين، أي: طريق من كان قبلكم من الأولين، ويحتمل أن يكون بضمها، فيكون المراد بها الطرائق، أي: لتأخذن أو لتأتين ما آتاه من قبلكم من الخلائق.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا المقال، فوقع كما أخبر، وطابق المقال وقائع الحال.

ولو نرخي لطرف الفهم في هذا الميدان الرسن، فيجول في تتبع ما آتاه أهل الشرك والضلال من السنن، وما غيروه من الشرع القويم، والصراط المستقيم الذي هو أقوم سنن، لاستوعب من الأسفار سفرا ضخما، مع أني لا أحيط بجميعه علما، ولو وجدنا ما فعله أهل البدع والشرك

ص: 110

والجحود، يزيد بالضعف على ما فعله النصارى واليهود.

ويستفاد من قوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم" أن سنن أهل الكتاب التي ابتدعوها، والبدع التي اخترعوها، كلها خارجة من الشرع المقرر، والدين القيم المطهر، وكذلك جميع سنن المبتدعين ومناهج أهل الهواء والمشركين.

ويستفاد منه أيضا النهي عن التشبيه بأهل الجاهلية، وأنه ينبغي للمؤمن الموحد أن يجعل الخوف من الشرك نصب عينيه، وكذلك ينبغي له التفطن أنه إذا خفي هذا على الصحابة مع جلالة قدرهم وعلمهم وكذلك بنو إسرائيل، فينبغي التحرز عن أمثاله.

هذا وقد صرح في هذا الحديث الصحيح، بأن مراد السائلين على سبيل التلويح، والتبرك والاعتقاد، كما هو طريقة من قبلهم من الآباء والأجداد، ولم يصرحوا بغير ذلك في الطلبة، ولم يكن له سواه من رغبه، إذ لم يفصحوا بطلب الآلهة، كما أفصحت بذلك بنو إسرائيل.

وقد ساوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الطلبتين، وجعلهما من واحد القبيل، ولم يراع صورة لفظ القيل، فقد ثبت بما قررناه، وتحقق مما سطرناه، أن معنى السر المراد، وحقيقته التي تقصد وتراد، هو اعتقاد القدرة على جلب النفع ودفع الضر عن الأنفس والأموال والأولاد، وهذه بعينها صفة الألوهية ، التي اختصت بها الذات العلية، دون سائر البرية، الذي جعل الأرض مهادا، وأرسى الجبال أوتادا، وذرأ فيها جميع العباد، وانتظم بقدرته وحكمته أمر المعاد والمعاش، ولكن لا يبصر الحق من على أبصار بصيرته غواش، فالشمس تعمي أعين الخفاش، والنار يتهافت فيها الفراش، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّل مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام:110) فإذا كان هذا تغليظ النبي صلى الله عليه وسلم وتشديده، وزجره البليغ

ص: 111

وتهديده، ووعده بارتكاب السنن ووعيده، مع القرب عهد السائلين بالأصنام، وحدوث الدخول في الإسلام، وجهل من سأل بما سأل، وكونه للمعنى المقصود ما عقل، ولم يقترن ما طلبوه بالعمل، إذ لو عملوا بما طلبوه، وفعلوا المحظور وارتكبوه، لخرجوا والله من الدين، وحكم عليهم بحكم المرتدين، بإجماع أئمة المسلمين، فما بالك بمن يعتقد هذا الشرك دينا، ويتقرب به إلى الله يقينا؟ {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: من الآية 18) لقد ضل في مفازة الهلاك وقفره، وفي غي الجحيم وقعره، لوقوعه في إبلاسه وكفره، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (يونس: من الآية 4) .

ومن تدبر ما حصلناه، وتأمل مكنون ما فصلناه، ووعى الأصل الذي أصلناه، وهو أن الألوهية صفة تدور مع العبادة، تبين له أن أكثر الناس في وادي الشرك يهيمون، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} (الأنعام:116) ، وتحقق ان جميع أنواع العبادة محض حق لله وحده، فمن صرف لملك أو رسول أو صالح أو جنى أو حجر أو شجر، شيئا منها فقد أشرك بربه وكفر {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلقُونَ} (الأعراف:191) .

وقد ذكر الله تعالى أنواع العبادة مفصلة ومجملة في كتابه، وأفصح بأن جميعها حق له كما صرح بذلك على خطابه، ومن طبع على قلبه فلا يزال في ارتيابه، {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس: من الآية 101) . قال الله جل جلاله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي

ص: 112

وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} (الأنعام:162) . وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر:2) وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله من ذبح لغير الله" الحديث بطوله في مسلم (1) . وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (البقرة:270) .

وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر ان يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"(2) .

ولهذا لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب رجلا قائما في الشمس فقال: "من هذا؟ " فقالوا هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ويصوم، ولا يفطر، ولا يتكلم قال:"مروه فليستظل، وليتكلم، وليتم صومه" وهو في البخاري (3) .

وقال تعالى: {وَعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: من الآية 23) .

وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: من الآية 3) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل"(4) .

وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس

(1) برقم (1978) .

(2)

رواه البخاري برقم (6696) .

(3)

رواه البخاري برقم (6704) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

رواه ابن مردودية في تفسيره، انظر: فيض القدير (1/454) وضعفه السيوطي والألباني في ضعيف الجامع (729) .

ص: 113

قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" (1) .

وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله"(2) .

وفي السنن عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا "(3) .

وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: من الآية 175) وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (البقرة: من الآية 150) .

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عليه وأرضى عليه الناس"(4){فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية 11) وفي الصحيح: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه، تركته وشركه" رواه مسلم (5) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} (الأنبياء: من الآية 90)

(1) رواه البخاري ورقمه (4563) .

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في التوكل وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5627) .

(3)

رواه الترمذي (2344) وقال: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجة (4164) ، واحمد (1/30) ، وابن حبان (730) وصححه، والحاكم (4/354) وصححه.

(4)

رواه الترمذي (2414) موقوفاً عليه رضي الله عنه.

(5)

برقم (2985) .

ص: 114

في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يقول هل من داع فأستجيب له هل من سائل فأعطيه"(1) . وحديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"(2) . وفي الصحيح: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"(3) . وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لكُمْ} (لأنفال: من الآية 9) وقال تعالى: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلكَ آمِنْ} (الأحقاف: من الآية 17)، وقال صلى الله عليه وسلم حين آتاه أناس من أصحابه يستغيثون به من منافق كان يؤذيهم:"إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"(4) . وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لهُ} (الزمر: من الآية 54) وقال: {وَتُوبُوا إِلى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: من الآية 31) وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي قال: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد: "عرف الحق لأهله"(5) . وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلقِ} (الفلق:1) السورتين.

ومن أعظم العبادة الطاعة في تحليل ما حرم الله تعالى وتحريم ما أحل، وقد سمى الله ذلك عبادة. قال تعالى:{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} (مريم: من الآية 44) وقال تعالى {أَلمْ أَعْهَدْ إِليْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا

(1) رواه البخاري (6321) ومسلم (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (2516) وقال: حسن صحيح.

(3)

رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه الطبراني في الكبير في مجمع الزوائد (10/159) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

قال ابن كثير في تفسيره (3/183)(هذا الحديث غريب جدا) .

(5)

رواه أحمد (3/435) والحاكم (4/284) وصححه من حديث الأسود بن سريع. قال الذهبي في التلخيص: ابن مصعب أي محمد بن مصعب ضعيف.

ص: 115

الشَّيْطَانَ} (يس: من الآية 60) أي: لا تطيعوه، وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (التوبة: من الآية 31) .

وحديث عدي بن حاتم حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من ذهب وكان على دين "الركوسية" فرقة من النصارى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة براءة فقال اطرح هذا الذي في عنقك، فطرحه، فلما انتهى إلى قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} قلت: يا رسول الله، لم يكونوا يعبدونهم فقال:"أليسوا يحرمون ما أحل فيحرمونه، ويحلون ما حرم فيحلونه. قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم"(1) .

ومن أنواع العبادة التعظيمات التي لا يستحقها سوى من له الكبرياء في السماوات والأرض، ومن له العزة جميعا، ولذا جميع التحيات التي كانت تحيا بها الملوك، المنبئة الخضوع، لما كانت ملكا له، وحقا لا يجوز صرف شيء منها لغيره، جعل قراءتها في الصلاة واجبة وجوبا مكررا.

ومن ذلك الحلف بغيره، فمن حلف بغيره، معظما له تعظيم العبادة، فقد أجمع أهل الإسلام على كفره، وإن لم يقصد ذلك صار كفرا دون كفر.

ففي الحديث: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم وأمهاتكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" هذا يروى في الصحاح (2) . وفي الصحيح: "من

(1) رواه الترمذي (3059) والبخاري في التاريخ الكبير (7/106) والمزي في تهذيب الكمال (23/117) وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث. وضعفه الدارقطني أيضا.

(2)

رواه البخاري (5757) ومسلم (1646) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

ص: 116

حلف بغير الله فقد كفر" (1) . وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (2) .

وقد أبان صلى الله عليه وسلم لأمته معالم الديانة، وحمى جناب التوحيد وصانه، وأعلى قواعده وأركانه، وسد كل طريق يوصل إلى الضلال، أو يكون للشرك به اتصال.

ولهذا تغيظ صلى الله عليه وسلم وقال للمسيء في المقال الذي قرن مشيئته بمشيئته ذي الجلال: "أجعلتني لله ندا، قل ما شاء الله وحده". والحديث رواه النسائي (3) .

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله وحده ثم شاء فلان" رواه أبو داود (4) .

فهذا نهيه الثابت الصحيح، وزجره البليغ الصريح، عن تعاطي مثل هذا التشريك القبيح، مع أن الله جعل للعبد مشيئته فقال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان: من الآية 30) ولكن لصيانة التوحيد وجنابه، سد من الشرك جميع أبوابه، فنهاهم عن تشريك مشيئة الخالق بالمخلوق، ومساواة الرازق بالمرزوق.

(1) بهذا اللفظ لم أعثر عليه في أحد الصحيحين وقد رواه الترمذي (1535) وقال حسن، وأبو داود (3251) وأحمد (2/125) وابن حبان (4358) وصححه، والحاكم (1/65) وصححه.

(2)

روى هذا الحديث بهذا اللفظ أبو داود (3251) من حديث ابن عمر رضي الله عنه، ورواه أيضا الترمذي (1535) .

(3)

أخرجه بهذا اللفظ النسائي في عمل اليوم والليلة (988) والبخاري في الدب المفرد (7883) ، واحمد (1/214،224) وابن ماجة (117) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

برقم (4980) وإسناده صحيح.

ص: 117

وهنا انتهى بنا الكلام على تفسير هذه الآية ، ويكون به عن تفسير باقي الآيات كفاية، وقد خرج بنا الحرص على الإفادة عما لنا من القصد والإرادة، ونرجع إلى ما نحن بصدده ونعود، مستمدين من الإله القادر المعبود، الإعانة على إنجاح المقصود.

قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(1) .

أقول: هذا الحديث عظيم الشأن والمقدار، وعليه في الإسلام المدار، بل هو في الحقيقة أصل من أصوله، إذ هو محتو على كثير من فصوله، وهو للأعمال الظاهرة كالميزان، كما أن حديث "إنما العمال بالنيات"(2) ميزان لأعمال الجنان، وما يريده من القصد كل إنسان.

فكل عمل لوجه الله غير مراد، مصيره إلى الإلغاء والفساد، فليس للعامل فيه ثواب، وإنما يجب عليه منه المتاب. فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله مردود، لخروجه عن السنن المقصود، والمنهج المطهر المحمود. فعمل العامل رد عليه لسريان البطلان إليه، بعدوله عن الأمر المشروع، والهدي المقرر المتبوع.

فالحديث يدل بمنطوقه على رد العمال المخالفة للسنة والكتاب، ويدل بمفهومه على القبول لما وافقهما وحصول الثواب.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: (أما قوله: "ليس عليه أمرنا" أشار إلى أن أعمال العاملين ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع، موافقا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجا عن ذلك

(1) تقدم تخريجه وهو في الصحيحين.

(2)

تقدم تخريجه وهو في الصحيحين.

ص: 118

فهو مردود.. ويدخل تحت قوله: {أَمْ لهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: من الآية 21) فمن تقرب إلى الله تعالى بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية. وهذا كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي وبالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي يشرع الله ورسوله التقرب بها بالكلية، وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقا، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قائما في الشمس فسأل عنه، فقيل: إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل وأن يصوم ولا يفطر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد ويستظل ويتم صومه (1) ، فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرها.. مع أن القيام عبادة في مواضع الصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كلما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها) . انتهى كلامه رحمه الله (2) .

وأقول: قوله: "وذلك لمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي وبالرقص" هذه إشارة صريحة ونذارة فصيحة ونكتة مؤذنة بالخزي والفضيحة على من عبد الله تعالى بالملاهي ، وكان في العكوف عليها [لاهيا] ،وعما يراد به [غافلا ساهيا](3) ، اتخذ معبوده وإلهه هواه، وعبادته دفه ورقصه وغناه. ومراده رحمه الله تعالى ما وقع من أهل زمانه وما شاهده في

(1) تقدم تخريجه، وهو عند البخاري من حديث ابن عباس.

(2)

جامع العلوم والحكم (1/177-178) وفيه تصرف يسير.

(3)

في المخطوط "لاهي""غافل ساهي" والصواب ما أثبت.

ص: 119

أوطانه، من ترك أكثر الناس سنن الإتباع، وإتباعهم سنن الهوى والابتداع، وتقربهم بالرقص المسمى بالسماع، مع أن ما حدث في ذلك الزمان المار، لا يفي بالنسبة لما بعده بعشر معشار، فقد جرى بعده رحمه الله أمور وأمور، أذهبت من السنة المحمدية مشرق النور، وهتكت من الملة المحمدية الستور، وارتكب من البدع والأهواء كل محظور، وصار ذلك عندهم هو الدين المشهور، والمنهج المحمود المأثور، شغلوا بسماع السماع، وشغفوا بنعمة اليراع ، وأصغوا إلى اللهو بالقلوب والأسماع، ونثلوا إليه بالإسراع، وما لهم إلى غيره إزماع، قد هجروا السنة والقرآن، وأقبلوا على استماع الدف والألحان، التي هي رنة الشيطان، وجعلوا العبادة رقصا وطربا، واتخذوا دين الله لهوا ولعبا، وحققوا لمشايخهم الأسرار بملازمتهم للعود والدف والمزمار، وحكموا على من قام عليهم لله بالإنكار، بأنه من جملة الكفار {أَلمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار ِجَهَنَّمَ يَصْلوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:29) {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلى النَّارِ} (إبراهيم:30) .

هذه أشعار الصوفية الأماثل، ونسبوا أنفسهم إلى أولئك الزهاد الأفاضل (1) ، وقد جعلوا ذلك الشعار حبايل إلى كل أموال الناس بالباطل، والكل منهم محتال عليها وخاتل، أيحسبون أن الله تعالى عن صنيعهم غافل، أو ليس بمحاسب لهم ومسائل؟ {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلى وَرُسُلُنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف:80) {وَلا تَحْسَبَنَّ

(1) هم قدماؤهم المتمسكون بالكتاب والسنة.

ص: 120

اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (إبراهيم: من الآية 42) وحكموا لأنفسهم، وقضوا بأنهم وردوا عين الشريعة فارتووا، وزعموا أنهم شربوا من سلسالها سلسبيلا، ولا يصدعون فيها ويصدون عنها سبيلا، وادعوا أنهم أهل الشوق والذوق، وأصحاب الطريقة والحقيقة، صدقوا هم أهل الشوق ولكن إلى الطريقة السامرية، الزائغة المنهاج، وهم أهل الذوق في الحقيقة، ولكن من ملحها الأجاج (1) .

فقد ذكر القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى وغيره من المفسرين أن أول من أحدث هذا وجعله عبادة "عباد العجل أصحاب السامري" فصار شريعة منقادة.

قلت: والعلماء بالله ولله تعالى لمثل هذه البدع الشركية منكرون، وأبو القاسم الجنيد (2) ، شيخ الطريقة وأمثاله من أقذار هذا الرجس مبرءون، ويبالغون في الإنكار على من خالف الكتاب والسنة ويغضبون.

وقد صنف كثير من قدماء علماء المذاهب الأربعة في البدع مصنفات (3) ، وبينوا ما وقع في الملة الحنفية من السنن المحدثات، وما شانوها بها من الأهواء والضلالات، وما غيروا به الصراط المستقيم، من

(1) الأجاج هو: الماء الملح الشديد الملوحة. انظر النهاية في غريب الأثر 1/25.

(2)

هو الجنيد بن محمد النهاوندي أبو القاسم، يعرف بشيخ الطائفة الصوفية، توفي سنة 279هـ.

انظر: الحلية (10/255-287) ، والرسالة القشيرية ص430ط. دار الجيل، وسير أعلام النبلاء 4/66، وطبقات الأولياء ص126-136، وشذرات الذهب 2/228 وغيرها.

(3)

من ذلك: الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، والحوادث والبدع للطرطوشي، والإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ، والسنن والمبتدعات لمحمد بن عبد السلام الشقيري.

ص: 121

مناسك الشرك العظيم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: من الآية 63) .

قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث" أي: أتى بشيء لم يكن موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو المسمى بالبدعة.

وقوله: "في أمرنا" الأمر يطلق على الشأن ، قال تعالى:{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (هود: من الآية 97) والمراد به هنا الدين والشرع، أي ديننا وشرعنا.

وقوله "هذا" إشارة إلى دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي رضيه ربنا لنا، وأكمله أتم الكمال، بين شرائعه في العبادات والمعاملات من حرام وحلال.

فلينظر العقل فيمن أحدث فيه ما ليس منه، هل رآه ناقصا فأراد التكميل..؟! ، أو ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك شيئا من البيان فاستخرجه هذا بالتأويل والاستنباط من الحديث والتنزيل، وإلا يكن الأمر كذلك، بل قد أوضحت جميع المسالك، فليس وراء ذلك إلا التغيير في الدين والتبديل، وإتباع الهوى والتضليل {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عن سَوَاءِ السَبِيلِ} (المائدة: من الآية 77) وفي هذا الحديث تصريح بان من عمل عملا لا يرجع إلى دليل شرعه صلى الله عليه وسلم أنه مردود، فكيف إن خالفه أو نافاه أو انتهك منه الحدود..؟! وسواء فعله هو أو غيره، إذ لا فرق بين أن يكون محدثا لما فعله أو سبقه غيره به فسلك طريقه المحدود، فكل فعل لم يكن على أمر الرسول فهو مردود غير مقبول، وفاعله آثم ملعون، لمخالفته للهدى المسنون، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله"(1) .

(1) رواه البخاري (3180) ومسلم (1370) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 122

وقوله في حديث علي كما في صحيح مسلم: "لعن الله من أوى محدثا"(1) يتناول هذا.

فتبين أنه لا يصح شيء من الأعمال، ولا يقبل إلا ما وافق الشريعة المحمدية، ووردت به السنة في مواضعه، وما خرج عن ذلك فهو مردود.

وقولي (وردت به السنة في مواضعه) احتراز عن العبادات المشروع أصلها، ولكن ينهى عنها بخصوصها في مواضع كصيام يوم العيد، والصلاة في أوقات النهي، وكذا الصلاة عند القبور، فهذه مردودة؛ إذ لا يتقرب إلى الله تعالى بما نهى عنه.

والأحاديث في النهي عما ذكرناه كثيرة شهيرة، فلا نطيل بها. ومن ذلك:

من عمل عملا أصله مشروع وقربة، وأدخل فيه ما ليس بمشروع وأخل فيه بمشروع، فهذا أيضا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما أدخل فيه، فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه موجبا لبطلانه في الشريعة كمن اخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها، أو أخل بالركوع أو بالسجود أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمله مردود عليه، وعليه إعادته إن كان فرضا.

وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان العمل كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، فهذا لا يقال إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص.

وأما إن أراد في العمل المشروع ما ليس بمشروع فزيادته مردودة عليه،

(1) رواه مسلم.

ص: 123

ولا يثاب عليها إذ ليست قربة، ولكن:

تارة يبطل بها العمل من أصله، كمن زاد في صلاته ركعة عمدا مثلا.

وتارة لا يبطل بها العمل، ولا يرد من أصله، كمن توضأ أربعا أو واصل في صيامه.

وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة مغصوبة، فهذا قد اختلف فيه العلماء هل عمله مردود فيه من أصله، أو أنه غير مردود وتبرأ به الذمة من عهده الواجب.

وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله.

وعن الإمام أحمد رحمه الله في ذلك روايتان، كما هو صريح عبارة موفق الدين في الكافي، رحمه الله ويشبه هذا الحج بمال حرام.

وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت، قاله الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى (1) .

وقد اختلف العلماء في ذلك أيضا، هل يسقط به الفرض أم لا؟

والأكثر على أنه لا يبطله إلا ما نهى عنه في الإحرام وهو الجماع، ولا يبطله ما لا يختص بالإحرام من المحرمات كالقتل والسرقة وشرب الخمر.

وكذا الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهى عنه فيه بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم لا بخصوص

(1) انظر جامع العلوم والحكم (1/180) والحديث رواه البزار (1079)، والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:"إذا خرج الحاج بنفقة خبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، نفقتك حرام، وحجك حرام غير مبرور" لفظ الطبراني.

ص: 124

الصيام كالكذب والغيبة عند الجمهور.

قلت: ومما نهي عنه فيه بخصوص الحجامة، فمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن من حجم أو احتجم يبطل صومه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم"(1) قال في الكافي: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا، وقال أحمد: حديث ثوبان وشداد صحيحان

انتهى.

وكذلك الاعتكاف إنما يبطله ما نهى عنه فيه بخصوصه كالجماع، وأما بطلانه "بالسكر" عند الأكثر، فلنهي السكران عن قربان المسجد، فصار كالحائض، ولا يبطل بغير ذلك من الكبائر وخالف في ذلك طائفة من السلف منهم عطاء والزهري والثوري ومالك وغيرهم، فقالوا تبطل بالكبائر. ومما نهى عنه بعينه أيضا ذبح المحرم للصيد. هذا حاصل العمال المتعلقة بالعبادات.

وأما ما يتعلق منها بالمعاملات: كالعقود والفسوخ ونحوهما.

فما غير الأوضاع الشرعية كجعل حد الزنا عقوبة مالية وما أشبه ذلك، فهو مردود من أصله، ولا ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام.

ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله أن ابني كان عسيفا (2) على

(1) رواه الترمذي (774) وقال: (وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة معقل بن سنان ويقال ابن يسار وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال وسعد قال أبو عيسى: وحديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح وذكر عن احمد بن حنبل انه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج وذكر عن علي بن عبد الله أنه قال أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد بن أوس؛ لان يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة الحديثين جميعا حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس

) .

(2)

أي أجيرا.

ص: 125

فلان، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "المائة الشاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام"(1) .

وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع: إما لكون المعقود عليه ليس محلا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه، أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكر الله تعالى الواجب عند تضايق وقته.. أو غير ذلك، فهذا العقد قد اضطرب الناس فيه.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: والأقرب إن شاء الله تعالى أنه:

[إن] كان النهي عنه لحق الله عز وجل، فهذا يفسد الملك بالكلية ونعني بكون الحق لله تعالى: أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه.

وإن كان النهي عنه لحق آدميّ معين، بحيث يسقط برضاه، فإنه يقف على رضاه به ، فإن رضي لزم العقد واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ، فإن كان الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية كالزوجة والعبد في الطلاق والعتاق، فلا عبرة برضاه ولا بسخطه، وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة لما يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة لم يبطل بذلك عمله.

فأما الأول: وهو ما كان النهي عنه لحق الله، فله صور كثيرة:

منها: نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه كالمحرمات على التأبيد بسبب أو نسب أو للجمع أو لفوات شرط ولا يسقط بالتراضي بإسقاطه: كنكاح المعتدة والمحرمة والنكاح بغير ولي ونحو ذلك، فهذا يفسد الملك بالكلية.

(1) رواه البخاري (2695) ومسلم (1697) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 126

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى (1) فرد النكاح لوقوعه في العدة.

ومنها: عقود الربا، فلا تفيد الملك ويؤمر بردها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من باع صاع تمر بصاعين أن يرد (2) .

ومنها: بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب، وسائر ما نهى عنه بيعه كبيع الغرر والغش وما يلحق بذلك، وكبيع الطعام قبل قبضه، وغير ذلك مما لا يجوز التراضي ببيعه.

وأما الثاني: وهو ما كان النهي عنه لحق آدمي، فله صور عديدة:

منها: نكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها بغير إذنها، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة ثيب، زوجها أبوها وهي كارهة (3) . وروي عنه أنه خير امرأة زوجت بغير إذنها (4) . وفي بطلان هذا النكاح ووقوفه على الإجازة روايتان عن أحمد.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه

(1) روى عبد الرزاق في المصنف (1074) وأبو داود (2131) عن ابن جريج، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن المسيب، عن رجل من الأنصار يقال له بصرة، قال: تزوجت امرأة بكرا في سترها، فدخلت عليها فإذا هي حبلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبد لك، فإذا ولدت فاجلدها". انظر كلام ابن القيم رحمه الله على هذا الحديث في تهذيب السنن (3/20-21) فهو مفيد إن شاء الله.

(2)

رواه مسلم (1594) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

روى مالك في الموطأ 2/535، ومن طريقة البخاري (5138) عن خنساء بنت خذام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها.

(4)

رواه أحمد 1/273، وأبو داود (2096) وابن ماجة (1875) وقد أعله أبو داود وغيره بالإرسال، ورده ابن القيم في تهذيب السنن 3/40، وابن التركماني في الجوهر النقي 7/117.

ص: 127

لم يكن تصرفه باطلا من أصله، بل يقف على إجازته، فإن أجاز جاز، وإن رده بطل، واستدلوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي صلى الله عليه وسلم شاتين، وإنما كان أمره بشراء واحدة، ثم باع أحدهما وقبل النبي صلى الله عليه وسلم (1) .

ومنها: تصرف المريض في ماله كله: هل يقع باطلا من أصله أم يقع تصرفه في الثلثين على إجازة الورثة؟ فيه اختلاف.

وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق ستة مماليك له عند موته، لا مال له غيرهم، فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا (2) ولعل الورثة لم يجيزوا عتق الجميع.

ومنها: بيع المصراة وبيع النجش وتلقي الركبان (3) ونحو ذلك وفي صحته كله اختلاف مشهور، فذهبت طائفة من أهل الحديث إلى بطلانه، والصحيح أنه يصح ويقف على إجازة من حصل له ظلم بذلك (4) ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل مشتري المصراة بالخيار (5) ، وأنه جعل للركبان الخيار إذا

(1) رواه البخاري ورقمه (3642) .

(2)

رواه مسلم (1668) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

(3)

المصراة: هي الشاة أو الناقة التي تربط أخلافها، ويترك حلبها يومين أو ثلاثة أيام حتى يجتمع اللبن في ضرعها، ثم يباع، فيظنها المشتري كثيرة اللبن، فيزيد في ثمنها، فإذا حلبها مرتين أو ثلاثا وقف على هذه التصرية والغرر.

وبيع النجش: هو أن يمدح السلعة بما ليس فيها؛ لينفقها ويروجها أو يزيد في ثمنها، وهو لا يريد شراءها، بل ليغر بها.

وتلقي الركبان: وهو أن يقع الخبر بقدوم عير تحمل المتاع، فيتلقاها رجل يشتري منهم شيئا قبل أن يقدموا السوق، ويعرفوا البلد بأرخص الأسعار، فهذا نهي عنه؛ لما فيه من الخديعة.

(4)

هذا اختيار الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/185) .

(5)

رواه البخاري (2148) ومسلم (1524) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 128

هبطوا السوق، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من أصله.

وأما بيع الحاضر للبادي، فمن صححه جعله من هذا القبيل، ومن أبطله جعل الحق فيه لأهل البلد كلهم وهم غير منحصرين، فلا يتصور إسقاط حقوقهم، فصار كحق الله تعالى.

ومنها: لو باع رقيقا يحرم التفريق بينهم، وفرق بينهم كالأم وولدها، فهل يقع باطلا مردودا؟ وهو قول الأكثر.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد هذا البيع (1) ، ونص أحمد على أنه لا يجوز التفريق بينهم، ولو رضوا بذلك، وذهبت طائفة إلى جواز التفريق بينهم برضاهم.

ومنها: لو خص بعض أولاده بالعطية دون بعض، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشير بن سعد لما خص ولده النعمان بالعطية أن يرده، ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد، فإن هذه العطية تصح وتقع مراعاة، فإن سوى بين أولاده في العطية أو استرد ما أعطى الولد جاز، وإن مات لم يفعل شيئا من ذلك فقال مجاهد: تبطل، وحكى عن أحمد نحوه والجمهور على أنها لا تبطل، وهل للورثة الرجوع فيها أم لا؟ قولان مشهوران، هما روايتان عن أحمد. كذا قال ابن رجب رحمه الله (2) .

قلت: مذهب مالك أنها حيث كانت في الصحة وجيزت قبل الموت

(1) رواه ابوا داود (2696) من طريق يزيد بن عبد الرحمن، عن الحاكم عن ميمون بن أبي شيب عن علي، وقال: ميمون لم يدرك عليا، ورواه الحاكم المستدرك 2/125 وصحح إسناده، ورجحه البيهقي في السنن 9/126 لشواهده.

(2)

جامع العلوم والحكم (2/186) .

ص: 129

أنها لا تبطل، وليس للورثة رجوع فيها بعد الموت، وإن كانت في المرض فهي موقوفة على إجازة الورثة.

ومنها: الطلاق المنهي عنه كالطلاق في الحيض، فإنه إنما قيل ينهى عنه لحق الزوج، حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم، فمن فعل شيئا منهيا عنه رفقا به، ولكنه تجشم المشقة فإنه لا يحكم ببطلانه، كمن صام في المرض أو السفر أو صلى قائما مع تضرره بذلك، أو اغتسل مع خشية الضرر على نفسه وأنواع هذا كثيرة.

وقيل: إنما ينهى عنه (1) لحق المرأة لما فيه من الإضرار بها بتطويل العدة، فلو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوص في الحيض، فهل يزول بذلك تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، مشهور مذهب الشافعية والحنابلة زوال التحريم.

وقد أطلنا الكلام في إيضاح هذا المقام؛ حرصا على الإفادة، ولينال الراغب مراده، مع أن هذه الفروع نبذة من تفاريع هذا الحديث المرفوع، وإلا فالذي تشهد به الألباب، أن هذا من جوامع كلم من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، ففرائد جواهره مكنونة، وفوائد ظواهره مخزونة، لا تحصى بعد ولا حساب، ولا يرتقي إلى ذروتها كل دراك، بل العجز عن دركها هو الإدراك.

واعلم أرشدني الله تعالى وإياك إلى أقوم سنن، وصرف عني وعنك مضلات الفتن أن هذا الحديث صريح في الحث والحض على الإتباع، ناطق بالتحذير عن الأهواء والابتداع، فمن أخذ به فبالحق قد تمسك، وبالدين القيم قد تنسك، ومن خالفه فقد هلك، واتبع سبيل الغي وسلك.

(1) أي طلاق الحائض.

ص: 130

خاتمة: اعلم أن هذا الحديث، ومما قدمناه من الكلام على الإخلاص الذي هو تجريد العمل لله ، الذي هو حق له على الاختصاص من العمل المتقبل لابد له من شرطين، بإجماع أهل العلم من غير نزاع ولا مين:

أحدهما: أن يكون خالصا لله وحده.

والثاني: أن يكون موافقا للشريعة.

كما نطقت بذلك الآيات المحكمات الصريحة، والأحاديث المشهورة الصحيحة، فمتى كان العمل خالصا لله تعالى ولم يكن صوابا، صار ذلك على القطع سرابا، أو كان موافقا للشريعة ولكنه غير خاص لوجه الله الكريم، فهو رد على الشريك؛ لأن الله خير قسيم.

فتبين من هذا أن عمل غلاة أهل الطريقة الصوفية، ممن تعبد لله على جهالة، أنه لا شك سفه وضلالة؛ بل هو فعل الرهبان، الذين كذبوا الرسل وأنكروا القرآن، ولو فرض أنهم فيه مخلصون، فهو غير مقبول؛ لعدم موافقة هدي الرسول.

فمن تدبر أحوال أهواء المنتسبين إلى الصوفية، وما ابتدعوه من الرهبانية، رآه في الحقيقة خرقا للسنة السنية، فأعمالهم مثل أعمال الرهبان، الذين أخبر الله تعالى عنهم في القرآن فقال جل جلاله:{وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان:23) وقال عز وجل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} (النور: من الآية 39) وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} (الغاشية6-5) فقد تأولها بعض السلف على ما ذكرته (1) .

(1) منهم عمر، انظر: تفسير ابن كثير (1/154) .

ص: 131

فأين حال هؤلاء الذين خرقوا منهاج هذه الملة، وخرجوا من واضحها إلى الهواء والبدع المضلة، من حال من قال الله تعالى:{بَلى مَنْ أَسْلمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:112) ؟.

قال سعيد بن جبير {بَلى مَنْ أَسْلمَ} أي: أخلص {وَجْهَهُ} ، أي: دينه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: متبع الرسول صلى الله عليه وسلم وكذا قال غيره. وقيل: أخلص العمل لله وحده لا شريك له.

وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن عامله لم يخلص القصد لله تعالى، فعمله أيضا مردود، وهذه حال المرائين والمنافقين. قال الله جل جلاله:{إِن الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَاّ قَلِيلاً} (النساء:142) وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون 4-7) وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية 110) .

وقد ضمن عز وجل لمن أخلص العمل وأحسنه الأجور، وأمنهم من كل مكروه ومحذور، فلا يجول ذلك لهم في صدور، ولا يحول ما هم فيه من الحبور، ولا يزول ما آتوا من البشرى والأنس والسرور، {خَوْفٌ عَليْهِم} (البقرة: من الآية 38) فيما يستقبلونه، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما مضى مما يتركونه.

ص: 132