المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المعاقبة والمراقبة والمكانفة - العيون الغامزة على خبايا الرامزة

[بدر الدين الدماميني]

الفصل: ‌المعاقبة والمراقبة والمكانفة

قال ابن برى بآثر هذا الكلام: وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الأصمعي: الزحاف في الشعر كالرخصة في الدين لا يقدم عليها إلا الفقيه لأن الرخصة إنما تكون للضرورة. وإذا سوغت فلا يستكثر منها. فإن قلت: أما ادعاء الناظم أن الطي واقع بعد الإضمار في الخزل، وأن الكف واقع بعد العصب في النقص فواضح، وذلك لأن الإضمار إذا قدر وقوعه أولاً بقي محل الطي، وهو الرابع الساكن، والعصب إذا قدر وقوعه أولاً بقي محل الكف، وهو السابع الساكن، فيجد حينئذ كل من الطي والكف محل قابلاً لوقوعه، وهذا ظاهر، لإخفاء به. وأما ادعاؤه أن الطي وقع بين الخبن في الخبل، وأن الكف وقع بعد الخلن في الشكل، فليس بظاهر، وذلك لأنك إذا خبنت (مستفعلن) المجموع الوتد أولاً بأن حذفت سينه، وأردت طيه بحذف الفاء وجدت محل الطي مفقوداً، وذلك لأنه إنما يحل في الرابع الساكن، والفاء الساكنة صارت ثالثة لا رابعة، وكذا إذا خبنت (فاعلاتن) المجموع الوتد بأن حذفت ألفه وأردت كفه بعد ذلك بحذف النون وجدتها سادسة لا سابعة، ففقد محل وقوع الكف، فكان ينبغي في مثل هذا أن يقدر الثاني أولاً، وذلك بأن يقدر وقوع الطي والكف قبل الخبل فيصير الثاني ساكن قبل الخبن ثابتاً في مركزه فيجد الخبن محلاً لدخوله، ولا ضير حينئذِ.

قلت: هذا كلامٌ وقع لبعض العروضيين ورده بعض الحذاق بأن دخول الزحاف الثاني على الجزء إنما هو بالنظر إليه قبل التغيير الأول، لأن التغيير طارئ فلا ينظر إلى حالته، وحينئذ فالطي إنما دخل في حرف رابع ساكن، والكف إنما دخل في سابع ساكن، وأيضاً فما ذكر في السؤال أنه ينبغي تقديره هو تقدير على خلاف الواقع، لأن المتكلم إذا تلفظ بالجزء وأدخل فيه تغييرين فإنما يدخلهما فيه حال تلفظه به، الأول فالأول، فوجب أن يكون التقدير كذلك ليطابق الواقع.

‌المعاقبة والمراقبة والمكانفة

قال:

إذا السببان استجمعا لهما النجا

أو الفرد حتماً فالمعاقبة اسم ذا

أقول: إذا اجتمع السببان ولم تجز مزاحفتهما جميعاً، بل وجب أد الأمرين، إما سلامتهما معاً أو سلامة أحدهما فذلك هو المعاقبة. فقول الناظم (لهما النجا) جملةٌ في موضع الحال من ضمير (استجمعا) . وقوله (أو الفرق) معطوفٌ على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض، على مذهب من يراه من النحاة.

فإن قلت: أين الرابط للحال بصاحبها من المعطوف؟ قلت محذوفاً إذ التقدير أو الفرق منهما. وقوله (حتماً) حال من (النجا) الذي هو مبتدأ أو من ضميره المستكن في الظرف المستقر، وهو خبره المقدم، إما على أن يقدر ذا حتم، أي وجوباً، أو يجعل بمعنى محتوماً، أي واجباً، أو يجعل المصدر نفسه حالاً على جهة المبالغة.

فإن قلت: كيف سوغت الحال من المبتدأ وهم يطلقون القول بمنعه بنا على أن العامل في الحال هو العامل في صاحبها، والابتداء لا يصلح للعمل في الحال، قلت: هذا على حد قوله:

لمية موحشاً طلل

فصاحب الحال عند سيبويه النكرة، وهو عنده مرفوع بالابتداء، والناصب للحال الاستقرار الذي تعلق به الظرف، فما أجزته في بيت الناظم هو مثل هذا سواء، وظهر أن مقتضى ما وقع لسيبويه هنا أنه لا يلتزم صحة قوله: والعامل في الحال هو العامل في صاحبها والله تعالى أعلم.

قال: للأول أو ثانيه أو لكليهما اسم صدر وعجز قيل والطرفان جا أقول: السببان المجتمعان وهما محل المعاقبة تارةً يكونان في جزء واحد، وتارةً يكونان في جزأين. فمثال كونهما في جزء واحد (مفاعيلن) في الطويل والهزج، فالياء فيه تعاقب النون، فإذا دخله القبض سلم من اكف وإذا دخله الكف سلم من القبض، ولا يجوز فيه دخول القبض والكف معاً ويجوز أن يسلم منهما معاً.

ومثال مجيء المعاقبة من جزاين (فاعلاتن فاعلن) في المديد، فالنون من (فاعلاتن) تعاقب الألف من (فاعلن) ، فمهما زوحف (فاعلاتن) بالكف سلم (فاعلن) بعده من الخبن، ومهما زوحف (فاعلن) بالخبن سلم (فاعلاتن) قبله من الكف، وكذا (فاعلاتن) الواقع أول عجز المديد يجتمع فيه سببان قبليان، وسببان بعديان، وذلك لأن تفعيله هكذا:

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن

فاعلاتن فاعلن فاعلاتن

ص: 27

فالمعاقبة أيضاً متصورة بين نون (فاعلاتن) الواقع آخر الصدر وألف (فاعلاتن) الواقع أول العجز، وبين نون (فاعلاتن) هذه وألف (فاعلن) الواقعة بعدها، فتتصور هنا ثلاثة أسماء ذكرها الجماعة وهي: الصدر، والعجز والطرفان.

فأما الصدر فهو ما زوحف أوله لسلامة ما قبله، كقولك هنا: فاعلاتن فعلاتن. سمي بذلك لوقوع الحذف في صدر الجزء.

والعجز هو ما زوحف آخره لسلامة ما بعده كقولك: فاعلاتُ فاعلن. سمي بذلك لوقوع الحذف في عجز الجزء. والطرفان ما زوحف أوله لسلامة ما قبله، وآخره لسلامة ما بعده، كقولك هنا: فاعلاتن فعلات فاعلن، فحينئذ إنما يقع الطرفان في الجزء الذي هو أول العجز بشكلِ فتثبت نون (فاعلاتن) قبله وألف (فاعلن) بعده.

هذا ما قالوه وهو واضح، ولا التزم تنزيله على كلام الناظم. فإن عباراته لا تفي بالمقصود، ولم يشف الشارح الشريف في تقريرها.

قال: وعاد للناظم في هذا البيت بين أول شطريه وآخرهما، فرد الصدر إلى الأول والعجز إلى ثانيه، والطرفين إلى كليهما. وسكن الناظم العجز تخفيفاً على حد قولهم في عضد عضد، وكتف كتف. هذا كلامه. قال:

تحل بيحدو كاهن بي وجزؤها

بريء متى تفقد وقد جاز أن ترى

أقول: يعني أن المعاقبة تحل في الأبحر المرموز لها في قوله (يحد وكاهن بي) الباء الأولى ليست رمزاً وإنما هي ظرفية والباء الأخيرة ليست من الرمز لأنها تقدمت فأشار بالياء إلى البحر العاشر وهو المنسرح، والمعاقبة فيه واقعة في (مستفعلن) الذي بعد (مفعولات) ، فتعاقب فاؤه سينه وذلك لأنهما لو أسقط حتى يصير الجزء إلى (فعلتن) وقبلها تاء (مفعولات) لاجتمع خمسة حركات، وذلك لا يتصور وقوعه في شعر عربي أبداً. والحاء إشارة إلى البحر الثامن وهو الرمل، والمعاقبة فيه واقعة بين نون (فاعلاتن) وألف الجزء الذي بعده.

والدال 'إشارة إلى البحر الرابع وهو الوافر؛ والمعاقبة فيه تتصور بأن يعصب (مفاعلتن) فينقل إلى (مفاعيلن) فتعاقب فيه الياء النون. والواو إشارة إلى البحر السادس وهو الهزج، والمعاقبة فيه بين ياء مفاعيلن ونونه كما تقدم. والكاف إشارة إلى البحر الحادي عشر وهو الخفيف، والمعاقبة فيه بين نون (مستفع لن) وألف (فاعلاتن) ، فلا يجتمع خبن الجزء الثاني مع كف الأول. والألف إشارة إلى البحر الأول وهو الطويل، والمعاقبة فيه بين نون مفاعيلن ويائه كما مر. والهاء اشارة الى البحر الخامس وهو الكامل. وبيان المعاقبة فيه أن (متفاعلن) يضمر فينقل الى مستفعلن فتعاقب سينه فاؤه. والنون إشارة إلى البحر الرابع عشر وهو المجتث، والمعاقبة فيه بين نون (مستفع لن) وألف (فاعلاتن) كما تقدم في الخفيف، وذلك لأن (مستفعل لن) فيهما مركب من سببين خفيفين ووتد مفروق بينهما. وقول الشريف (مركب من سببين خفيفين فإنهما وتد مفروق) فيه نظر يظهر بالتذكر لما سبق في أول الكتاب. والباء إشارة إلى البحر الثاني وهو المديد، فتعاقب فيه نون فاعلاتن أي في الجزء الذي بعده. وقوله: وجزؤها بريء متى تفقد، وقد جاز أن ترى (قال الشريف: يريد أن الجزء الذي يسلم من الزحاف للمعاقبة وهو سائغ فيه يسمى بريئاً. وحقيقة البريء أنه جزء عاقب بثابت حرف من أوله أو من آخره جزءاً بعده سقط من صدره، أو جزءاً قبله سقط من عجزه. فلت: وفي شرح عروض ابن الحاجب لابن واصل ما نصه. والبريء ما سلم من المعاقبة التي فيها الصدر والعجز والطرفان، وكذا قال غيره. فإذن قوله (قد جاز أن ترى) جملةٌ خاليةٌ من الضمير النائب عن الفاعل في قوله (تفقد ويتجه على الناظم اعتراض في إطلاقه القول بأن جزء المعاقبة على الصفة المذكورة بريء مع كونه مخصوصٌ بما تقدم. لكن وقع في كلام ابن بري وغيره أن البريء ما سلم من المعاقبة، فظاهره سواءٌ كانت المعاقبة مما فيه الطرفين أو لا. وهو موافق لإطلاق الناظم. قال:

ومنعك للضدين مبدأ شطري لم

بأربعها كلٌ مراقبةً دعا

ص: 28