الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد:
لعلّ أطروحة صمويل هنتنجتون التي دوَّت فى الهزيع الأخير من القرن الميلادي المنصّرم، كانت أمثل تعبير عن حقيقة ما يعتور عالمنا المعاصر من صراع حضاري ذي جوهر دينيّ.
ولم يكن سيل الكتابات الغربية التي تجعل من الإسلام وأمته وحضارته وعالمه عدوّ الغرب الحاليّ والمستقبليّ الذي يمثل امبراطورية الشر بعد زوال المعسكر الشيوعي، إلا تجسيداً لأحد أبعاد ذلك الصراع الضاري (1) .
وهذا الجانب الملتهب من جوانب الصراع وإن كان هو المستحوذ على غالب الاهتمام، إلا أن هنالك جوانب أخرى تماثله فى الأهمية، بل قد تفوقه فى الخطورة؛ لأن المستهدف فيها هو القلوب النابضة والعقول المحركة للقاطرة البشرية.
(1) يأتى فى مقدمة تلك الكتابات دراسة بعنوان Christianity and Islam للكاتب البريطاني Edward Mortimer وأخرى بعنوان Islam and Marxism للعالم الأنثروبولوجي Ernest Gellmer، وقد نشرت الدراستان كملف خاص عن الإسلام في مجلة ((International Affairs B:67. 1 Junuary 1991)) وشهادة ثالثة جاءت على لسان سياسي بارز ومسؤول كبير كان يشغل منصب رئيس المجلس الوزاري الأوربي ووزير خارجية إيطاليا ((جيانى ديميكليس)) عندما برر سبب وجود حلف الأطلنطي بعد زوال المواجهة مع حلف وارسو، بأن المواجهة مع العالم الإسلامي هى مبرر بقاء الحلف.
راجع: د. محمد عمارة، استراتيجية التنصير في العالم الإسلامي، ص 28، مركز دراسات العالم الإسلامي. مالطة، ط1، 1992م.
ومن تلك الجوانب حرب المعتقدات ومعركة الثقافة، التي تأتى فى مقدمتها الغارة التنصيرية على القرآن الكريم. تلك الغارة الشرسة التي استهدفت أصالة القرآن الكريم بوصفه كلام الله المنزل على خاتم رسله محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم فكانت الدافع إلى هذه الدراسة بفعل ماخلَّفته من افتراءات وشبهات ودعاوى روجتها الجدليات التنصيرية، فقد كانت هذه الافتراءات قوية الأثر إلى الحد الذي انخدع له بعض الدارسين (1) .
ولم تكن الردود على تلك الافتراءات تدانيها في الأثر، في الوقت الذي كان ينبغي أن تكون الردود أقوى حتى لا تبقي مجالا للشكوك أو الشبهات.
وربما يعود ذلك فى جانب منه إلى عدم التخصص المنهجي للدارسين، حيث جاءت هذه الردود عرضاً فى سياقات مختلفة من الحديث عن الإسلام أو الفكر الإسلامي وعلاقته بالغرب من غير المتخصصين، وقد مثَّل ذلك التناول الثانوي ثاني أسباب قصور تلك الردود.
بينما يتطلب هذا النوع من الدراسات إلماماً بجوانب معرفية عديدة، مثل: تاريخ الأديان، المعتقدات الدينية لدى أهل الكتاب، مضمون الكتب المقدسة، مناهج النقد العلمي: كالمنهج المقارن ومنهج نقد النصوص، والنقد الشكلي والنقد التاريخي.
وتهدف هذه الدراسة إلى تحصين المسلم المعاصر وتزويده بنظرة نقدية للفكر التنصيري حول القرآن الكريم، وتاريخ الجدل ضد أصالته، ومسالك
(1) منهم على سبيل المثال فيما يخص موضوعنا: طه حسين ـ محمد خلف الله ـ محمد أركون ـ نصر أبو زيد.
المنصرين فى جدلياتهم ضد أصالة القرآن الكريم بما يتمكن معه المسلم المعاصر من الفكاك من أسر الأطروحات التى قدمها التنصير خلال مراحل ارتقائه التاريخي منذ نشأته حتى يومنا هذا.
كما تهدف الدراسة من جانب آخر إلى توجيه الدعاة إلى الله بين غير المسلمين إلى الردود والشواهد العقلية والنقلية، والبراهين العلمية، والحقائق التاريخية التي تعينهم في الدعوة إلى كتاب الله، وتمكنهم في الوقت نفسه من تصحيح المفاهيم المغلوطة التي روّجها المنصِّرون حول القرآن الكريم بغرض صرف الناس عنه.
وقد جاءت الدراسة فى خمسة مباحث، وفق الخطة التالية:
المبحث الأول: حقيقة التنصير
ـ مفهوم التنصير
خطورة التنصير في مجال القرآن الكريم
ـ ضرورة مواجهته
المبحث الثاني: دوافع الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
1 ـ صرف الأنظار بعيداً عن القرآن
2 ـ موقف القرآن من كتب أهل الكتاب ومعتقداتهم
3 ـ إبطال المعجزة القرآنية
المبحث الثالث: تاريخ الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
أـ دور التأسيس (جدليات المشرقيين)
1 ـ يوحنا الدمشقي
2 ـ تيودور أبو قرة
3 ـ بارشولوميو الرهاوي
4 ـ عبد المسيح الكندي
5 ـ بولس الأنطاكي
6 ـ ابن كمونة اليهودي
ب ـ الجدل البيزنطي
جـ ـ مرحلة الأندلس
د ـ مرحلة الحروب الصليبية
1 ـ بطرس المحترم
2 ـ روجر بيكون الراهب الفرنسيكاني
3 ـ وليم الطرابلسي
4 ـ ريموند مارتني
هـ مرحلة التنصير المؤسَّسي
المؤسسة الأولى: التبشير
المؤسسة الثانية: الاستشراق
المبحث الرابع: مسالك الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
المسلك الأول: ترجمة القرآن
المسلك الثاني: البحوث التنصيرية حول القرآن
المسلك الثالث: إصدار الدوريات والقواميس ودوائر المعارف المتخصصة
المسلك الرابع: ترويج المزاعم وإثارة الشبهات
المبحث الخامس: تفنيد مزاعم الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
1 ـ دلائل تهافت الدعوى الأولى ((القرآن تلفيق من اليهودية والنصرانية)) :
أولا: شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
ثانيا: تاريخ كتب العهدين القديم والجديد
ـ النسخة العربية
ـ تعدد نسخ العهد القديم والجديد
ثالثا: إعجاز النظم القرآني
رابعاً: الاختلاف بين اليهودية والمسيحية والإسلام فى أصول الإيمان
خامساً: أثر القرآن والتوراة والإنجيل فى الارتقاء بجوانب الحضارة الإنسانية
الجانب الأول: الأخلاق
الجانب الثاني: المجتمع
الجانب الثالث: العلم
سادساً: تأثير الإسلام في اليهودية والنصرانية
2 ـ دلائل تهافت الدعوى الثانية ((القصص القرآني تكرار لقصص التوراة والإنجيل)) :
الدليل الأول: اختلاف منهج القصص في القرآن عن المنهج القصصي فى التوراة والإنجيل
الدليل الثاني: تباين أهداف القصص في القرآن والتوراة والإنجيل
الدليل الثالث: القصص الذي انفرد به القرآن
الدليل الرابع: نتائج المقارنة بين القصص المتناظر في القرآن والتوراة والإنجيل
أـ رواية خلق العالم
ب-الطوفان
ج-قصة يوسف
مصادر ومراجع البحث
المبحث الأول: حقيقة التنصير
مفهوم التنصير
…
المبحث الأول: حقيقة التنصير
التنصير يطلق على النشاط الذي تمارسه أفراد وهيئات ومنظمات أجنبية في الأراضي الإسلامية ضد العقيدة والمجتمع في الإسلام.
وقد طرحت الكلمة ترجمة للمصطلح الأوربي Missions بديلاً عن كلمة ((التبشير)) (1) ، وهو ما نختلف معه، وذلك لأسباب تتعلق بصحة ترجمة اللفظ وبمفهومه، وهي: ـ
1 ـ الترجمة الصحيحة لكلمة Mission هي (التبشير بالدين المسيحي ـ المأمورية ـ البعثة) وليس التنصير (2) .
2 ـ الهدف النهائى لذلك النشاط الهدام ليس إدخال المسلمين فى النصرانية، كما سيتبين لنا فيما يأتي.
3 ـ لا مسوغ لعدم الرضا عن مصطلح التبشير خشية ظلاله الحسنة، لأن التبشير قد عبّر به القرآن الكريم عن الحسن والطيب، وعبرَّ به كذلك عن السوء والشر ومالا تحمد عقباه،كما قال تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران / 21) وكقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً}
(1) راجع هذا الاتجاه لدى: محمد عثمان بن صالح، النصرانية والتنصير أم المسيحية والتبشير، ص: 69، مكتبة ابن القيم، المدينة المنورة 1410هـ ـ 1989م ـ د. علي النملة، التنصير، ص: 17، 1413هـ ـ 1993م بدون بيانات ـ د. عبد العزيز العسكر، التنصير ومحاولاته في الخليج العربي، ص: 14، مكتبة العبيكان، ط1، الرياض 1414هـ ـ 1993 م ـ د. علي جريشة، الاتجاهات الفكرية المعاصرة، ص:27.
(2)
Goetz schregle ، Deutsch - Arabisches Woerterbuch، S: 830 London - Beirut 1977.
وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} (النحل / 58 ـ 59) وكقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان/7) . فالعبرة بمضمون البشارة وليس بظلال المصطلح.
4 ـ أن المستهدف بهذه الإرساليات والبعثات الدينية ليس المسلمين وحدهم، بل إن التبشير يمارس ضد طوائف النصارى الشرقيين من أرمن وقبط وأرثوذكس (1) .
5 ـ كثير من أفراد البعثات التبشيرية قد انضم إليها لتحقيق أغراض ومآرب شخصية، مثل: السياحة والتجارة وغير ذلك (2) .
6 ـ التبشير هو إحدى مؤسسات التنصير وليس كلَّ التنصير؛ مما يجعل من قصر مصطلح التنصير على العمل التبشيري وتخصيصه به تمويهاً على المستهدفين بالتنصير وتحويل أنظارهم بعيداً عن نشاط المؤسسات التنصيرية الأخرى، التي ربما يفوق تأثيرها الهدَّام تأثير التبشير.
7 ـ أن كلَّ مبشِّر منصِّر، لكن ليس كلُّ منصِّر مُبشِّراً
أما عن مفهوم التنصير فى البيئة الإسلامية فقد صيغ المفهوم وتحددت وظيفته فيما يؤدي إلى إخراج المسلمين من دينهم وليس بالضرورة إدخالهم في النصرانية (3) .
وهذا المفهوم الحديث للتنصير يلمس أحد أبعاد العمل التنصيرى، لكن هناك أبعاد أخرى لحقيقة التنصير لا يمكن الوقوف عليها إلا بإدراك طبيعة
(1) د. علي النملة، التنصير، ص 15.
(2)
د. فروخ ـ الخالدي، التبشير والاستعمار في البلاد الإسلامية، ص 49، 50، المكتبة العصرية. بيروت 1986م.
(3)
د. فروخ ـ الخالدي، التبشير والاستعمار، ص 39.
الصراع الكوني بين الديانات الكبرى من أجل استحقاق شرف ريادة الإنسانية وقيادتها، تلك القيادة التي تستمد مشروعيتها من امتلاك الحقيقة المطلقة المؤسَّسة على الوحي.
(1) يصرح المنصرون برغبتهم فى إقصاء الإسلام؛ فالمنصر جسب يود أن يمحو الإسلام من العالم، ويصرح غيره بأن الغاية من عملهم هي:((القضاء على الأديان غير النصرانية)) .
راجع: فروخ، الخالدي، مرجع سابق، ص 36، 45.
خطورة التنصير في مجال القرآن الكريم
…
ولمَّا كان الإسلام قد أثبت صدق دعواه امتلاك الحقيقة المطلقة والقدرة على قيادة الإنسانية باختلاف أجناسها وشعوبها وتطلعاتها وآمالها، وذلك بما أنجزه فى حيز التطبيق الفعلي لذلك الاستحقاق، حيث استطاع في قرن ونصف من الزمان أن يجمع تحت رايته أكثر من ثلثي المسكونة من بيض وسود، وعرب وعجم، وبربر وترك وهنود وقوقاز، سوّى بينها فى الحقوق والواجبات، وصهرها في بوتقة ألَّفت أزهى عصور التاريخ: حضارة وعلماً وأخلاقاً.
فإن تلك القدرة الهائلة للإسلام قد أذهلت أهل الكتاب الذين قعدت بهم دياناتهم عن تبوّء تلك المنزلة أو ما يدانيها، على الرغم من الفترة الزمنية السحيقة التي قرعت العالم فيها نواقيس اليهودية والنصرانية.
لهذا أدرك أهل الكتاب خسارتهم معركة التحدي الكونية، بسبب فقد ديانة العهد القديم والعهد الجديد المقومات الذاتية اللازمة لقيادة الإنسانية والارتقاء بها حضارياً وأخلاقياً، فعمدوا إلى سلوك طريق آخر يستهدف إقصاء الإسلام (1) عن الحلبة الكونية نهائياً؛ حتى يتسنى لهم قيادة السفينة وامتلاك مقدراتها بما يدّعون من حقٍّ إلهى مقدس.
(1) يصرح المنصرون برغبتهم فى إقصاء الإسلام؛ فالمنصر جسب يود أن يمحو الإسلام من العالم، ويصرح غيره بأن الغاية من عملهم هي:((القضاء على الأديان غير النصرانية)) .
راجع: فروخ، الخالدي، مرجع سابق، ص 36، 45.
ضرورة مواجهته
…
فكانت المواجهة مع الإسلام والصراع ضده هي السبيل لتحقيق ذلك الهدف، وقد اتخذ ذلك الصراع شكلين أساسيين هما الحروب العسكرية التدميرية، وحرب العقيدة والفكر التي تسعى للنيل من: الإسلام، ونبيِّه، وكتابه، ومعتقداته، وشرائعه، ونُظُمه؛ بهدف زعزعة عقيدة المسلم وتشكيكه في دينه، مما يقود إلى الخروج من الإسلام وليس بالضرورة الدخول فى النصرانية (1) .
ويكشف لنا هذا الغرض النهائي من حرب العقيدة والفكر سرَّ المشاركة الفعالة لليهود في الصراع ضد الإسلام جنبا إلى جنب مع النصرانية رغم كراهيتهم واحتقارهم لها، إذ إن المسلم الذى يخرج عن دينه لن يصلح للإنسانية في شيء فيكون خروجه نكاية من اليهودية فى الإسلام، فإذا اعتنق النصرانية فذلك نكاية من اليهودية في الإسلام والنصرانية معاً. قال تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} (البقرة: 109) .
وعلى ذلك يكون الصراع ضد الإسلام عملاً يهودياً نصرانياً مشتركاً تنوعت فيه الأدوار وتوزعت التخصصات ما بين: الخبراء، وشركات الأعمال، والمؤسسات، والإرساليات، والجيوش، ووزارات الخارجية،
(1) راجع فى هدف الإرساليات والوعاظ من النصارى واليهود:
ـ مصطفى الخالدى ـ عمر فروخ، التبشير والاستعمار فى البلاد الإسلامية، ص 46.
ـ إبراهيم الجبهان، ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن النصرانية والتبشير، ص 27، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد. الرياض 1404هـ.
ووكالات الاستخبارات، وأساتذة الجامعات، والمراكز والمعاهد العلمية، والمستشرقين، وصانعي السياسة (1) .
وهذا الصراع الذي يؤلف جوهر الغارة التنصيرية على العالم الإسلامي (2) ، يجعل من حصرنا فعاليات التنصير فى نشاط الإرساليات التبشيرية فهماً قاصراً لطبيعة التنصير وأبعاده وأدواته، فما هذا النشاط إلا أحد آليات التنصير، ولذلك فإن تخصصه وحده باسم التنصير وصرف الهمم تجاهه وحده واستنزاف الجهد في تتبع وسائله وممارساته، ليكون وجها ثانياً من وجوه القصور فى فهم طبيعة الغارة التنصيرية في جانبها العقدي، فهذا الجانب يشتمل على: جدليات، ودعاوى، ومزاعم، وشبهات مثارة من قِبَل دوائر تنصيرية عديدة إلى جانب الإرساليات التبشيرية ووعاظها، منها: الاستشراق، وكالات الاستخبارات، وسائل الإعلام، مراكز البحوث والمعاهد العلمية.
من جهة ثانية فإن أخطر نتاج الغارة التنصيرية الذي يجب أن يكون محل الاهتمام عبر دوائر التنصير المختلفة هو الجدليات التي استهدفت أصالة القرآن الكريم؛ نظراً للتلازم بين القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:
(1) بتصرف من: إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 300، بترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية. بيروت ط2: 1984 م.
(2)
ربما يكون الأستاذ عبد الرحمن الميداني قد وقف على الطبيعة الشمولية لعداء أهل الكتاب للإسلام، ذلك العداء المتمثل في الصراع ضد الإسلام بما أسماه: أجنحة المكر الثلاثة: الاستعمار ـ التنصير ـ الاستشراق.
راجع كتابه: ((أجنحة المكر الثلاثة)) ، دار العلم، دمشق ط 5، 1407هـ ـ 1986 م.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت/53) .
فالضمير فى ((أنه الحق)) كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((يرجع إلى القرآن، فإذا كان القرآن حقا لزم كون الرسول الذى جاء به صادقاً يجب التصديق بما أخبر وإطاعة ما أمر واجتناب ما نهى)) (1) .
وتكمن خطورة الجهد التنصيري في هذا المجال ليس فقط فيما يستهدفه، بل في كثرة المؤسسات والمنظمات التنصيرية التي تقوم به وتنوعها ما بين علمية وثقافية ودينية واجتماعية، فقد أثمر ذلك الجهد الهائل عن نجاح، إن لم يكن في تحقيق المسعى بتحويل المسلمين عن دينهم، فقد تمثل في تنشئة طبقة من المثقفين المتعاطين لمنتجات الفكر التنصيري الثقافية والعقدية، وإسهام هذه الطبقة في حقل الجدل التنصيري ضد القرآن الكريم ربما يكون أكبر بسبب ما لها من سلطة فكرية وحضور ثقافي ومكانة علمية برّاقة، مكنتها من القيام بدور المخبر الثقافي والنائب المحلّي للفكر التنصيري في بلاد العالم الإسلامي.
ومثل هذا الجهد التنصيرى الضخم يتطلب لمواجهته عملا جماعياً منظماً لا يفي به بحث هنا أو مقال هناك. إن متابعة هذا النشاط الواسع لا تقوم به إلا مؤسسات، ونحن نفتقد حتى يومنا هذا مؤسسة متخصصة في هذا النشاط والرد على جدلياته.
(1) ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4 / 250) وانظر (4 / 21 ـ 22) مطبعة المدني، مصر، بدون ترقيم.
المبحث الثاني: دوافع الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
صرف الأنظار بعيدا عن القرآن
…
المبحث الثاني: دوافع الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
تتعدد دوافع الجدل التنصيري ضد القرآن الكريم، فمنها دوافع خاصة بأهل الكتاب ومنها دوافع عامة لكل خصوم القرآن من كتابيين وغيرهم. ومن تلك الدوافع التي يمكن رصدها:
1 صرف الأنظار بعيداً عن القرآن
وقد كان ذلك هدفاً لمشركي مكة، وسعوا إلى تحقيقه بوسائل عدة منها: صدُّ الناس عن القرآن، والتصفيق والصفير عند تلاوته وإثارة المزاعم والشكوك حوله.
وكان ظن المشركين أن ذلك مجلبة للغلبة والنصر، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت/26) .
وهذا ما اعتقده المنصرون تماما، يقول المنصرِّ وليم جيفورد بالكراف:((متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه)) (1) .
(1) جلال العالم، دمروا الإسلام وأبيدوا أهله، ص 63، مكتبة الصحابة جدة ـ مكتبة التابعين، القاهرة. 1994م. والمعنى نفسه كرره المبشر وليم موير:((إن سيف محمد والقرآن هما أكثر أعداء الحضارة والحرية والحقيقة الذين عرفهم العالم عناداً حتى الآن)) إدوار سعيد، الاستشراق، ص 168، مرجع سابق.
والمقصود بالحضارة التي حال القرآن بين المسلمين وبينها فيما أشار إليه المنصِّر هي الحضارة ذات المفهوم الغربي للكون والحياة، ذلك النموذج الذي أكد ((جيانى ديميكليس)) رئيس المجلس الوزاري الأوربي على ضرورة فرضه وإلا فالحرب هي الخيار (1) .
ولاشك أن المناعة الذاتية الجبارة التي خلقها القرآن في المسلمين قد حالت بينهم وبين الاندحار الحضاري أو السقوط المدوي أمام التكالب الأممي لجحافل التتار والصليبيين في الماضي وأمام الغزو الاستعماري في العصر الحديث، وكذلك جعلت من إمكان تنصير المسلمين مرهونة بإبعادهم عن القرآن وصرف أنظارهم عنه، وقد تجلّى انكشاف تلك الحقيقة الثمينة في تأكيد غلاد ستون أحد موطدي دعائم الامبراطورية البريطانية في الشرق الإسلامي:((مادام هذا القرآن موجوداً فلن تستطع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان)) (2) .
(1) د. محمد عمارة، استراتيجية التنصير، ص 29. مرجع سابق.
(2)
محمد أسد، الإسلام على مفترق الطرق، ص 41، دار العلم للملايين، بيروت، 1987م.
2 ـ
موقف القرآن الكريم من كتب أهل الكتاب ومعتقداتهم
.
حدد القرآن الكريم بوضوح وجلاء موقفه من الكتب السابقة، متمثلا في:
أ - الهيمنة عليها، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة/48) .
ب - أفضليته وكماله، قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} (الزمر/23)، وترجع أفضلية القرآن على غيره من الكتب إلى كماله من جهتين: أولاهما: تبيانه لكل شيء، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام/38)، وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل/89)، والثانية: إرشاده إلى غاية ما يصبو إليه الإنسان وما يحقق له كمال الدنيا والدين، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء/9) .
جـ – كشف التحريف والتبديل الواقع فيها: بالإخفاء والكتمان: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} (الأنعام/ 91)، أو بالنسيان:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة/14)، أو بالوضع:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة/79)، أو بالتغيير المتعمد:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة/75) .
ورفض القرآن زعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، وبكَّتهم وذم أخلاقهم وفضح خطيئاتهم بما يعنيه ذلك من طعن فى مشروعية امتلاك حق مقدس فى قيادة البشرية. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (المائدة/18) .
وأنكر عليهم دعواهم صلب المسيح؛ {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء: 157 ـ 158) .
وكفّر الذين قالوا ببنوة المسيح وألوهيته: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة/30) .
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة/17) .
وقد كان هذا الموقف القرآني الدقيق من العهدين القديم والجديد ومعتقداتهما جداراً صلباً أمام نجاح الفكر التنصيري أو ما يرتبط به من رؤى حضارية فى اختراق الحياة الروحية أو صمود العقيدة الإسلامية، مما دفع بدهاقنة العمل التنصيري إلى التساؤل بعد أربعة عشر قرنا من بدء الغارة التنصيرية (1) :
ـ هل من الممكن حقا إقناع المسلم بأن النصارى لم يزوِّروا الكتاب المقدس؟ أو أنهم ليسوا مشركين؟ أو أن المسيح هو أكثر من كونه ابن مريم كما هو مذكور فى القرآن؟ أو أن صلب المسيح وبعثه قد تم فعلا؟.
(1) التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي (الترجمة الكاملة لأعمال مؤتمر كلورادو التبشيري) ص 188، 203، دون بيانات.
ـ هل الإسلام بوصفه ديناً قائماً على الكتاب (القرآن) يعقِّد عملية قبول النصرانية أو ييسِّرها؟ وبأية وسيلة؟
ـ كيف يمكننا التغلب على النصوص القرآنية التي تكذب بعض الأجزاء المهمة من رؤية العهد الجديد؟
3 ـ
إبطال المعجزة القرآنية
لما كان القرآن الكريم هو دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الأكبر، وبرهانها الساطع وحجتها البالغة وأخص آياتها. وأظهر علاماتها بسبب اجتماع الوحي المدَّعى والدليل المعجز الذي تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم العالم إنسه وجنّه:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء/88) .
لذلك فقد أدرك المنصرون أن القرآن أقوى أسلحة المسلمين وأمضاها في صراعهم ضد جحافل التنصير، فعملوا جاهدين على إبطال فاعلية هذا السلاح، بتحجيم قيمته، من مضمونه، ونفي أصالته، تمهيداً لمحاولة سلب محمد صلى الله عليه وسلم شرف النبوة بحجة:((عدم وجود معجزة تؤيد نبوته)) (1) .
وقد حدد الواعظ التنصيري ((جون تاكلى)) هذا الباعث من الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم، قائلا: ((يجب أن نستخدم كتابهم
(1) تيودور أبو قرة / ميمر في وجود الخالق والدين القويم، ص 85، بتحقيق: اغناطيوس ديك. بيروت 1982م.
وانظر Adel The odore Khoury ، Der theologi sche Streit der B.yzantiner mit dem Islam ، S: 38 - 39.
وهو أمضى سلاح في الإسلام ضد الإسلام نفسه لنقضي عليه تماماً. يجب أن ترى الناس أن الصحيح في القرآن ليس جديداً وأن الجديد فيه ليس صحيحاً)) (1) .
ويمكن القول بأن افتراض نجاح الجهد التنصيري في فك التلازم الضروري في الإسلام بين القرآن والوحي والرسول المبلِّغ، ذلك التلازم المستند إلى إلهية مصدر القرآن، لسوف يؤدى إلى ((الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية وما يتبع هذا الضعف من الانتقاص والاضمحلال الملازم له، وسوف يفضي بعد انتشاره في كل الجهات إلى انحلال الروح الدينية من أساسها)) (2) .
(1) مصطفى خالدي ـ عمر فروخ، التبشير والاستعمار في البلاد الإسلامية، ص 40، مرجع سابق.
(2)
أ. ل شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، ص 9، مرجع سابق، نشرة محب الدين الخطيب. بيروت، د. ت.
المبحث الثالث: تاريخ التنصيري ضد أصالة القرآن
أ-دور التأسيس (جدليات المشرقيين)
…
المبحث الثالث:تاريخ الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن
بدأ الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن – مبكراً جداً- مع أول صدام بين المسلمين والجماعات المسيحية في الأراضي الخاضعة للدولة البيزنطية، وقامت الشام بأكبر الأدوار وأهمها في تاريخ الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن، وقد تعددت مراحل الجدل التنصيري ضد القرآن، وتباينت معها أساليب الجدل وأطروحاته، فيما يمكن رصده من خلال الأدوار التالية التي مرَّ بها الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن:
أدور التأسيس (جدليات المشرقيين) .
كان الشرق مهداً لنشأة الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم، نظراً لأنه كان نقطة التقاء الإسلام الفاتح بعقائده وكتابه وشرائعه مع المسيحية الشرقية بمذاهبها المختلفة من أرثوذكسية بيزنطية حاكمة، ونسطورية مخالفة، وآريوسية توحيدية.
يضاف إلى ذلك العامل اللغوي الذي مكّن مجادلي التنصير المشرقيين من الاطلاع بيسر وسرعة على القرآن الكريم في لغته العربية، والوقوف على ما احتواه من عقائد وشرائع وأخلاق وقصص، ومن ثمّ الشروع في الجدل ضده، بخلاف مجادلي الغرب اللاتين الذين احتاجوا إلى عدة قرون كى يتمكنوا من قراءة القرآن في إحدى ترجماته.
ويمكن في هذه المرحلة تمييز عدد من رموز الجدل التنصيري. وهي:
1 ـ يوحنا الدمشقي (ت 750م) .
يوحنا الدمشقي (ت:750م) أحد أكبر آباء الكنيسة الأرثوذكسية، وبسبب قيمته الدينية الكبرى نال لقبين ذوي شأن، فلقِّب بـ ((القديس يوحنا)) ، ((يوحنا ينبوع الذهب)) ، وبحكم كونه في خط الصراع الأول ضد الإسلام فإنه سارع بالعكوف على القرآن الكريم تفلية ونبشاً، مسخِّراً إتقانه العربية، وموظِّفاً إلمامه بالبيئة الثقافية الإسلامية التي يعيش في رحابها ويعايش أعلى مستوياتها العلمية والسلطوية حيث كان من كبار موظفي بلاط الخلافة الأموية (1) .
وقد عُدَّ يوحنا الدمشقي بالنسبة للكنيسة الشرقية مثل توما الإكويني بالنسبة للكنيسة الغربية بسبب استخدامه الدلائل العقلية إلى جانب الدينية في خدمة الإيمان الأرثوذكسي وتسويغه وذلك باستخدامه الفلسفة اليونانية والهللينستية في تفسير الدين والدفاع عنه (2) .
(1) د. جواد علي، يوحنا الدمشقي، مجلة الرسالة (مصر) ، (عدد 610) ، ص 243، ربيع الأول 1364 هـ ـ مارس 1945 م.
(2)
Christiondom Dena John Geanakoplos ، Byzantine East and Latin West: Two Worlds of in Middle Ages and Renaissance ، PP.22F. Harpertoneh Books ، New York 1966. وللتوسع في معرفة أثر يوحنا الدمشقي، ومن ثمّ فضل المجادلين الشرقيين على المجادلات التنصيرية ضد الإسلام في الغرب، راجع:
Anton Pegis ، “ St. Anselm and the Argument of the Proslogion “ ، Mediaeval Studies 28
(1966)
228 - 267 ، 231 ، 233 - 234.
وفي المجلّة نفسها راجع مقالة ديانى ى دوبرول بالعدد رقم 32 عام 1970 م، ص 128 ـ 137
وقد انتهى يوحنا الدمشقي إلى عدة آراء جدلية ضد الإسلام والقرآن والرسول، لخّصها في كتابه (ينبوع المعرفة) الذي قسمه ثلاثة أقسام، أولها عن المنطق والفلسفة والثاني عن البدع والثالث شرح لمبادئ الدين القويم، وقد خصص الفصل (100 / 101) في قسم البدع للجدل ضد الإسلام، وتتلخص رؤية يوحنا الدمشقي للإسلام ونبيه وكتابه فيما يلى (1) : ـ
أـ التشكيك في كون الإسلام امتداداً لحنيفية إبراهيم، لذلك يصف المسلمين على نحو لا يخلو من الخبث، بالسرازانيين (2)(Saracens) ويعد أول كاتب مسيحى يستخدم هذا التشويه الاتيمولوجى لأغراض الجدل العنيف، كذلك يصف المسلمين بـ ((المفسدين)) وهى التسمية التى ستكثر في الجدليات التالية ليوحنا.
ب ـ يعالج الإسلام على أنه هرطقة مسيحية.
جـ ـ يقدم الإسلام على أنه مُؤْذن بالمسيح الدجّال.
د ـ يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أتباع آريوس، كما يجعله على عقيدة المذهب النسطورى، وذلك بسبب تأكيده على أن المسيح مخلوق وإنسان مجرد، وذلك ما قال به آريوس ونسطور.
(1) دانييل ساهاس، جدل يوحنا الدمشقي مع الإسلام، ص 123 ـ 128، الاجتهاد. بيروت، عدد (28) السنة السابعة (1416هـ ـ 1995م) .
ـ جورج عطية، الجدل الديني المسيحي ـ الإسلامي في العصر الأموي وأثره في نشوء علم الكلام، ص 415 ـ 416، كتاب المؤتمر الدولى الرابع لتاريخ بلاد الشام ـ جامعة اليرموك. عّمان 1989م.
ـ د. جواد علي، يوحنا الدمشقي، ص 307، مجلة الرسالة. مصر. عدد (612) ربيع الأخر 1364هـ ـ مارس 1945م.
(2)
السرازانيين نبذ بالألقاب للمسلمين إذ تعنى الكلمة: الذين أبعدتهم سارة باحتقار.
هـ ـ يحصر ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين:
أولهما: معرفته الضحلة بما قلَّتْ قيمته من أسفار العهدين القديم والجديد اللذين وقع عليهما النبي صلى الله عليه وسلم مصادفة.
الثاني: ما أخذه النبي صلى الله عليه وسلم عن الراهب الأريوسي (بحيرا) .
وـ القرآن نتاج لأحلام اليقظة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاه وهو نائم.
ويمكن القول بأنه لا خلاف على ريادة الدمشقي للجدل التنصيري ضد الإسلام، كذلك يمكننا القول بأن جدليات يوحنا ضد القرآن هي الأهم في تاريخ الجدل التنصيري ضد القرآن حيث وضع الدمشقي آراءه في قوالب جدلية مكثفة أصبحت ركيزة الجدل التنصيري في كل أدواره ومراحله التالية، فقد ردد جميع المجادلين بعده بعض أو كلّ قوالب الدمشقي:((الإسلام هرطقة مسيحية ـ القرآن تلفيق من العهد القديم والعهد الجديد ـ تعلم النبي صلى الله عليه وسلم من بحيرا الراهب ـ المسلمون سراسنة)) .
2 ـ تيودور أبو قرة (ت 826م)
تلميذ ليوحنا الدمشقي وقد تبع رأي أستاذه في النبي والقرآن، فعدّ النبي محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً أريوسياً مزيفاً (1) .
(1) Klaus Hock ، Der Islam im Spiegel westlicher Theologie ، S: 99 ، 101 ، 112. Deutschland 1989.
وانظر: رشا الصباح، الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى، ص 706، مجلة عالم الفكر، عدد (3) المجلد الخامس عشر. وزارة الإعلام، الكويت.
3 ـ بارشو لوميو الرهاوى (ت حوالي القرن الثاني عشر الميلادي)
تركزت جدلية بارشو لوميو من مدينة الرها في أخذ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن عن راهب نسطوري، يقول الرهاوى:((فعندما شهد ذلك الراهب الفاسق سذاجة القوم رأى أن يمنحهم عقيدة وشريعة على غرار مذهب أريوس وغيره من ألوان الكفر والزندقة التي حرم من أجلها فراح يسطر كتابا هو الذي يسمونه القرآن، وهو شريعة الله ناثراً فيه كل ما أودع من مروق وعند ذلك أعطى كتابه لتلميذه (مؤمد) وأبلغ أولئك البلهاء أن ذلك الكتاب أنزل على محمد من السماء حيث كان في حفظ جبريل الملك فصدقوه فيما قال، وبذلك مكّن الراهب لذلك القانون الجديد)) (1) .
4 ـ عبد المسيح الكندي (عاش في القرن العاشر الميلادي تقريباً)
كان عاملاً في بلاط الخليفة المأمون وكتب ردَّاً على رسالة الهاشمي التي يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد لقيت رسالة عبد المسيح الكندي عناية كبيرة من دوائر التنصير حيث نشرت أكثر من مرة لخدمة الإرساليات ليتعلموا منها أساليب مجادلة المسلمين حول القرآن والنبي (2) .
(1) د. محمد الفيومي، الاستشراق رسالة استعمار، ص 364 ـ 365، دار الفكر العربي. القاهرة 1413هـ ـ 1993م.
(2)
أ. ل شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 30.
ـ توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ص 104، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية.
ـ د. قاسم السامرائي، الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، ص 57، دار الرفاعي ـ الرياض 1403 هـ ـ 1983م.
5 ـ بولس الأنطاكى (عاش في القرن السابع الميلادي تقريباً)
بولس الراهب الأنطاكي وقيل إنه أحد أساقفة سوريا: إما أن يكون أسقف مدينة صيدا أو أسقف مدينة أنطاكية.
وله عدة رسائل مطوّلة ضد الإسلام (1) ، أهمها رسالته إلى أحد المسلمين التي ضمَّنها خلاصة معتقد النصارى في الإسلام وفي عقائد النصرانية، حيث يدلل على صحة الديانة النصرانية، وعلى عدم حاجة العالم إلى القرآن إذ جاءت التوراة بشريعة العدل وجاء الإنجيل بشريعة الفضل، ولا يتبقى بعدهما جديد يحتاج الناس إليه (2) .
وتكشف الرسالة عن معرفة جيدة ودقيقة بالقرآن، فأكثرها نقول قرآنية احتج بها المؤلف ـ جدلا وشغباً ـ على المعتقدات النصرانية في الصلب والتثليث والفداء وصحة الأناجيل.
وعلى الرغم من أهمية الرسالة فإن صاحبها مجهول، حتى إن لويس شيخو ظن أن بولس الأنطاكى كان يعيش في القرن الثالث عشر الميلادي (3) ، وهذا غير صحيح، فالرسالة من أوائل الجدليات التنصيرية ولو تأمل لويس شيخو قول بولس الأنطاكى في نص الرسالة عند حديثه عن الأناجيل:
(1) رشا الصباح. الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى، ص 85، مرجع سابق.
(2)
الرسالة منشورة بمجلة المشرق المسيحي، العدد (15) من السنة السابعة، عام 1904م.
ونسخة أخرى ـ ننقل عنها ـ نشرها لويس شيخو في كتابه: ((مقالات دينية قديمة لبعض مشاهير الكتبة النصارى)) ص / 15 ـ 26، طبع الآباء اليسوعيين.
(3)
لويس شيخو، مقالات دينية قديمة، ص 1، مرجع سابق.
ـ لويس شيخو، المخطوطات العربية لكتبة النصرانية، ص 69، طبع الآباء اليسوعيين، بيروت 1924 م.
((وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا فقوله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (المائدة/46)، ثم قوله أيضا:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (يونس/94) ، فثبت بهذا المعنى ما معنا ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التهم بالتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
قلت: فإن قال قائل: إن التبديل قد يجوز أن يكون بعد هذا القول.
قالوا: هذا مالا يجوز لقائل أن يقوله لأن كتبنا قد جاز عليها من نحو ستمائة سنة وصارت في أيدي الناس يقرؤونها باختلاف ألسنتهم)) (1) .
فالنص واضح في تحديد زمن كتابة الرسالة بالنصف الأول من القرن السابع الميلادي ـ الأول الهجري.
6 ـ ابن كمونة اليهودي (ت 1284م)
يُعَدُّ ابن كمونة أول مجادل تنصيري من اليهود ضد القرآن الكريم، وقد ضمّن جدلياته ضد القرآن كتابه تنقيح الأبحاث للملل الثلاث، فعقد فصلا للقرآن الكريم أورد فيه خمسة عشر اعتراضاً على القرآن، منها ثلاثة تتعلق بأصالة القرآن الكريم: ـ
أ- لِمَ لا يجوز أن يكون القرآن أنزل إلى نبي آخر دعا محمداً أولا إلى دينه وإلى هذا الكتاب فأخذه محمد منه وقتله (2) ؟
(1) رسالة بولس أسقف صيدا الراهب الأنطاكى، ص 17 من نشرة لويس شيخو، مرجع سابق.
(2)
سعد بن منصور بن كمونة، تنقيح الأبحاث للملل الثلاث، ص 70، نشره موسى برلمان، مطبوعات جامعة كاليفورنيا.
ب-يحتمل أن محمداً طالع في كتب من تقدمه أو سمعها فانتخب أجودها، وضمّ البعض إلى البعض (1) .
جـ ـ كيف يستبعد سماعه ذلك من الآخرين وقد سافر إلى الشام قبل دعواه النبوة مرتين، وهى مملكة أهل الكتاب؟ وأيضا فقد كان في العرب من أهل الكتاب جماعة فلا يبعد أنه سمع ذلك منهم (2) .
وقد تسببت جدليات ابن كمونة ضد أصالة القرآن الكريم في هياج العامة عليه ومحاصرة داره إلا أنه تمكن من الهرب واختفى عدة أيام توفي بعدها (3) .
وتعد مرحلة بدايات الجدل التنصيري في المشرق من أهم أدوار الجدل التنصيري وأخطرها، إذ ألّفت قاعدة الجدل والأساس الذي بنى عليه المنصرون جدلياتهم في مراحل التنصير وأدواره المختلفة، وبالإضافة إلى هذه الملاحظة هناك ملاحظتان أخريان جديرتان بالرصد، هما:
1 ـ أن الجدل في هذه المرحلة جهد فردي يتوقف على قدرات المجادل وثقافته، لكن بسبب إجادة المجادلين للغة القرآن الكريم، فقد جاءت مجادلاتهم مكتظة باستشهادات مغلوطة من النصوص القرآنية مما أعطى لها نفوذاً روحيا وفكريا وعقديا على التراث الجدلي التنصيري
(1) السابق.
(2)
السابق ص 89.
(3)
ابن الفوطى، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، ص 441 ـ 442، بتحقيق مصطفى جواد، بغداد 1932 م.
وانظر: الدكتور سعد العتيبي، نفوذ اليهود في عهد المغول الإيلخانيين، ص 518 ـ 519، مجلة الدرعية (عدد 6، 7) ربيع الأخر ـ رجب 1420هـ / أغسطس، نوفمبر 1999م
بأكمله، ولا يخفى ـ في هذا الشأن ـ المكانة المرموقة التي تبوّأتها جدليات يوحنا الدمشقي، الذي امتُدح بأنه لم يأت برأي أصيل إلا في الإسلام (1) ، وجدليات بولس الأنطاكى التي تلقتها الأوساط التنصيرية بالتقدير لما تمتاز به في نظرهم من ألفاظ جيدة وآراء سديدة صائبة وبراهين واستدلالات وحجج جلية (2) ، إلى حد دعوة بعضهم إلى الاكتفاء بها في بيان موقف النصرانية من الإسلام (3) .
وكذلك جدل عبد المسيح الكندي في رسالته الشهيرة التي أصبحت عمدة العمل التنصيري في مجال الإرساليات (4) .
2 ـ عقم الجدل الذي تمثله تلك المرحلة، إذ إن المجادلين على اختلاف مشاربهم لم يزيدوا على تكرار الشبهات الجدلية لمشركي مكة، بعد أن قاموا بإحلال رموز يهودية ـ نصرانية محل رموز المشركين في الدعاوى التالية:
الدعوى الأولى: القرآن قول شاعر بإلهام شيطان الشعر، حيث كان العرب يتوهمون أن لكل شاعر شيطاناً من الجن يقول الشعر على لسانه (5)، وهذا ما نفاه الله عن القرآن في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
(1) بابا دوبولس، تاريخ كنيسة أنطاكية، ص 528، منشورات النور، بيروت 1984م.
ـ لويس غرديه ـ جورج قنواتي، فلسفة الفكر الديني (2 / 43) دار العلم للملايين، ط1، بيروت 1967م.
(2)
لويس شيخو، مقالات دينية قديمة، ص 1، مرجع سابق.
(3)
ابن العسال، الصحائح في جواب النصائح، ص 40، القاهرة سنة 1643 قبطية.
(4)
أ. ل شاتيله، الغارة على العالم الإسلامي، ص 30 / مرجع سابق.
(5)
د. حسن طبل، حول الإعجاز البلاغي للقرآن، ص 113، مكتبة الإيمان، ط1، مصر 1420هـ ـ 1999م.
شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} (الحاقة/41)، وفي قوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} (التكوير/25) .
فاستبدل مجادلو التنصير شيطان الشعر الجاهلي، وأحلوا محله الراهب النسطوري الفاسق الملحد كما تصور بارشولوميو الرهاوى، أو أحلام اليقظة كما اقترح يوحنا الدمشقي.
الدعوى الثانية: بشرية مصدر القرآن
زعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل/103) .
فجعل الدمشقي وتلميذه أبو قرة من هذا البشر هو بحيرا الراهب الأريوسي، ولما زعم المشركون جماعية مصدر تعليم الرسول القرآن:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان/4) ، زاوج ابن كمونة في احتمالاته وأرجحها بين بحيرا الراهب أو أحد أهل الكتاب ممن كانوا بمكة أو الشام.
الدعوى الثالثة: القرآن من أساطير الأولين. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان/ 4 ـ 5) .
ففسر مجادلو المشرق كلهم أساطير الأولين بأنها قصص التوراة والإنجيل.
ب ـ الجدل البيزنطى
البيزنطيون هم أول من كتب من الأوربيين ضد الإسلام والقرآن (1) .
وكان أول هجوم مفصل على القرآن في أعمال ((نيكتياس البيزنطي)) في مقدمة كتابه ((نقد الأكاذيب الموجودة في كتاب العرب المحمديين)) أما أكبر هجوم جدلى ضد القرآن فهو ما قام به امبراطور بيزنطة جان كنتا كوزين في كتابيه ((ضد تمجيد الملة المحمدية)) ، ((ضد الصلوات والتراتيل المحمدية)) وكان هذا الهجوم باللغة اليونانية (2) .
(1) عبد اللطيف الطيباوي، المستشرقون الناطقون بالإنجليزية، ص 517، الترجمة العربية الملحقة بكتاب الفكر الإسلامي الحديث. د. محمد البهي. مكتبة وهبة، ط 8، 1975م.
= محمد الفيومي، الاستشراق رسالة استعمار، ص 373، مرجع سابق.
(2)
عبد الرحمن بدوي، دفاع عن القرآن ضد منتقديه، ص 5، دار الجليل، ط1، بترجمة كمال جاد الله. القاهرة 1997 م.
جـ ـ مرحلة الأندلس
كانت فترة الحكم الإسلامي للأندلس عصر ازدهار علمي وحضاري في مختلف الجوانب، وفيها ارتفع صوت الحرية الدينية والنقاش حول قضايا الأديان والعقائد، وقد استغل المنصرون ذلك فصنفوا مؤلفات جدلية كثيرة ضد الإسلام وتصدى لهم علماء الإسلام رداً وتفنيداً، مثل: ابن حزم والقرطبي وأبو الوليد الباجي إلخ.
وتكمن أهمية هذا الدور من أدوار الجدل التنصيري ضد القرآن في أنه كان معبراً انتقلت خلاله الجدليات التنصيرية إلى الغرب.
وأبرز الأمثلة على ذلك كتاب (نقض الفقهاء Contrarietas elfolica) لأحد النصارى الأسبان، الذي كان له تأثير بالغ في ريكولدو دي مونت كروس الحانق على الإسلام، وقد أفاد كروس من هذا الكتاب في تصنيف أشهر كتبه (تفنيد القرآن Canfutatia Alcorani) الذي عُني به مارتن لوثر وسارع إلى ترجمته للألمانية عام 1542م (1) .
(1) قاسم السامرائي، الاستشراق به الموضوعية والافتعالية، ص 61 مرجع سابق.
د ـ مرحلة الحروب الصليبية (491هـ / 1089 م ـ 690 هـ / 1291م)
بدأت الحروب الصليبية بخطب البابا أوربانوس الثاني في كليرمون فيران Clermont - Ferrand بفرنسا، وإعلانه الحرب على الإسلام والمسلمين ووعده المشاركين فيها بالفوز ببركة الكنيسة وبالغفران الكامل لخطاياهم مكافأة لهم على حمل السلاح تحت راية الصليب (2) .
وكان بطرس الناسك ذا أثر كبير في تعبئة العامة من أجل النهوض بأعباء القتال والحملات الصليبية (3) .
ولما كانت الحروب الصليبية التي امتدت قرنين من الزمان ((لتدمير الإسلام)) (4) ، فإن عهدها يعد لدى المنصرين ((أروع العهود في العصور الوسطى كلها)) (5) .
(2) روم لاندرو، الإسلام والعرب، ص 122، دار العلم للملايين، ط2، بيروت 1977م.
(3)
السابق، 124.
(4)
فروخ ـ الخالدي، التبشير والاستعمار، ص 115، مرجع سابق.
(5)
Julius Richter ، Ahistory of the Protestant Missions in The Near East ، P 14 ، New York 1910.
وقد استمرت الحروب الصليبية على المستوى الدولي وفي ذلك ـ كما يقول روم لاندرو ـ برهان قاطع على أن كرّ السنين لم يخفف إلا قليلا من أعمال اللاتسامح التي قام بها الصليبيون باسم الله (1) .
وتزامن مع عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الصليبيون ضد المسلمين حركة جدل واسعة استهدفت أصالة القرآن الكريم على يد عدد من الجدليين المشهورين في العصور الوسطى، لكن أبرز ما يميز تلك المرحلة هو كونها إرهاصاً بظهور التنصير المؤسَّسي عقب نهاية حرب الفرسان حاملي السيف والصليب، كذلك فإن أهم نتاج هذه المرحلة هو ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية تلك الترجمة التي ستكون محل دراسة موسعة عند عرض مسالك الجدل التنصيري ضد القرآن.
وأهم الرموز الجدلية في هذه المرحلة، هم:
1 ـ بطرس المحترم (1092 ـ 1156م)
بطرس المحترم هو أول جدليّ ضد الإسلام في الكنيسة الغربية كما يقول المنصرِّ إديسون (2) ، وهو راهب لاهوتىّ رئيس لدير ((كلون d)) الذي سيقوم بدور كبير في حركة الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن.
وقد قام برحلة إلى الأندلس، ألّف عقب عودته منها كتاباً في الرد على الإسلام والقرآن عام 1143 م، وأمر بترجمة القرآن إلى اللغة اللاتينية (3) .
(1) روم لاندرو، الإسلام والعرب، ص 131 ـ 132، مرجع سابق.
(2)
قاسم السامرائي، مرجع سابق، ص 78.
(3)
Trevor - Roper ، Hugh ، The Rise of Christian Europe ، P 145 ، Oslo - London 1978.
2 ـ روجر بيكون الراهب الفرنسيسكانى (1214 ـ 1294م)
وجّه بيكون رسالة إلى البابا اكليمنص الرابع سنة 1266 م ضمَّنها دعوته إلى (1) :
ـ وجوب إدخال اللغات الأجنبية إلى مناهج الدراسات الجامعية وبخاصة اللغة العربية للإفادة منها وسيلة للتبشير ضد الإسلام.
ـ دراسة أحوال المسلمين للوقوف على الطرق التي يمكن النفاذ منها إلى هدم عقيدتهم وتقويضها.
3 ـ وليم الطرابلسي (1273 م)
صنف جدلا ضد أصالة القرآن، جاء فيه:((بعد أن مات (محمد) أراد أنصاره أن يعالجوا العقيدة والشريعة معالجة شاملة قائمة على تعاليمه، فلما تبينوا أن الرجل الذي نيط به العمل لم يرزق الكفاية اللازمة لأداء ذلك على الوجه الأكمل طلبوا إلى اليهود والمسيحيين الذين أسلموا أن يساعدوه، وعند ذلك رأى هؤلاء من الأفضل أن ينتقوا فقرات مناسبة من العهد القديم والجديد، وأن يمزجوها بالكتاب كيفما اتفق، وبذا أصبح الكتاب على عظيم من الرونق والجمال المنقول من الكتب المنزلة ما بين مسيحية ويهودية)) (2) .
(1) نجيب العقيقي، المستشرقون (1 / 120) ، دار المعارف، ط4، مصر.
(2)
محمد الفيومي، الاستشراق رسالة استعمار، ص 368.
4 ـ ريموند مارتيني (1220 ـ 1284 م)
راهب مبشر دومينيكاني أسباني، تبحر في دراسة القرآن، واجتهد في الجدل ضده، فألف كتاباً بعنوان:((الخلاصة ضد القرآن)) ، وبلغت به رغبته في تفنيد القرآن أن حاول معارضته بعد أن علم أنه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع سورة غاية في السخافة والسقامة (1) :((بسم الله الغفور الرحيم، أعارض قرآن مَنْ آخر اسمه الدال وأوله الميم، بلسان فصيح عربي مبين، لا يمنعني منه سيف ولا سكين، إذ قال لي بلسان الإلهام سيد المرسلين: قل المعجزة لا شريك فيها لرب العالمين وفي الفصاحة يشترك كثير كثيرين يغلب فيها أحيانا الصالح الطالح والكافر المؤمنين، فليست الفصاحة ولو في النهاية آية ولا معجزة اللهم إلا عند الذين أوطاهم عشوة معلم مجنون حتى قالوا عنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، مع أنه بإقراره في سورة الأحقاف لم يدر قط ما يُفْعل به ولا بتباعه أجمعين أكتعين، فقل يامن اسمه / رمند ولقبه مرَتْيِن: آه، لقومٍ يقبل الباطل والخرافات والترهات كأنها اليقين، وإن كنتم في شك مما ألهمنا إليه عبدنا يامعاشر المسلمين فأتوا بحلِّ هذه الحجة، وبمثل هذه السورة وادعوا لذلك إخوانكم من الجن إن كنتم مهتدين. فإن لم تقدروا، ولن تقدروا فقد زهق الباطل، وانتقام اليقين والحمد والشكر لله آمين، آمين)) (2) .
وبصرف النظر عن مدى سقم محاولة مارتيني إلا أنها تكشف عن قفزة كبيرة وتطور في مستوى الجدل التنصيري في عهد الحروب الصليبية،
(1) عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، ص 213 ـ 215، دار العلم للملايين، ط2، بيروت 1989م.
(2)
قاسم السامرائي، مرجع سابق، ص 90.
وانتقاله من مجرد الطعن في أصالة القرآن إلى محاولة المعارضة، وفي هذا دليل كاف على عدم دقة ما ذهب إليه الدكتور عبد الرحمن بدوي من أن الجدل ضد القرآن بدأ في المسيحية الغربية على يد نيقولا دى كوزا (1401 ـ 1464م)(1) .
(1) عبد الرحمن بدوي، دفاع عن القرآن، ص 5.
هـ ـ مرحلة التنصير المؤسَّسِي
بدأت هذه المرحلة إثر فشل الحروب الصليبية في تدمير الإسلام، فعندما خابت دول أوربا في الحروب الصليبية الأولى من طريق السيف أرادت أن تثير على المسلمين حربا صليبية جديدة من طريق التبشير (2) .
وقد جاء هذا التحول بناء على وصية القديس لويس التاسع ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية السابقة التي انتهت بالفشل ووقوع لويس نفسه في الأسر والسجن في مدينة المنصورة بمصر.
وتلفت الوصية الأنظار إلى صعوبة قهر المسلمين عن طريق القوة بسبب روح الجهاد لديهم، وتوصي بتلمس طريق الغزو الفكري الهادف إلى دحض العقائد الإسلامية وتزييفها (3) .
ويمكن القول بأن بطل هذه المرحلة بلا منازع هو (ريموند لول Raymond Lull) وهو مبشر حانق على الإسلام، كان حلم حياته
(2) Julius Richter، Ahistory of the Protestant Missions in the Near East، P.14.
(3)
علي جريشة ـ محمد الزيبق، أساليب الغزو الفكري، ص 21، ط2، دار الاعتصام. مصر.
هدم الإسلام، وصرف حياته لمهمة تنصير المسلمين، وسعى جاهداً لتحقيق هدفه من طريقين (1) :
ـ طريق شخصي بتصنيف الكتب الجدلية ضد الإسلام والقرآن.
ـ طريق مؤسِّسي، بإقناع ملك ميورقة بإنشاء كلية الثالوث المقدس لإعداد المبشرين للعمل ضد الإسلام، وفي الغرب بتقديم ثلاث عرائض إلى البابا كليمان الخامس لإنشاء كلية لدراسة العربية، وعدد من كراسي تعليم اللغة العربية في الجامعات المختلفة لتكون من أهم وسائل الجدل ضد الإسلام والقرآن وأفضل الوسائل لتنصير المسلمين.
وبالفعل نجحت مساعي ريموند لول المؤسَّسية، فقد أمر يعقوب الأول ملك ميورقة بإنشاء كلية الثالوث المقدس لإعداد المبشرين وقام لول نفسه بإعدادهم فيها (2) .
وقرّر مجمع فيينا الكنسي (1311م) إنشاء خمسة كراسى لتعليم اللغة العربية في أكبر خمس جامعات في أوربا (باريس، أكسفورد ـ بولونيا ـ سلمنكا ـ جامعة الإدارة المركزية البابوية) وعين للتدريس فيها مدرسين كاثوليكيين (3) .
(1) ارنست رينان، ابن رشد والرشدية، عادل زعيتر، ص 267 القاهرة 1957م.
ـ يوهان فوك، تاريخ حركة الاستشراق، ص 26 ـ 27، بترجمة عمر العالم، ط 1، دار قتيبة، دمشق ـ بيروت 1417هـ ـ 1996م.
ـ سعيد عاشور، الحركة الصليبية (2 / 1279) ، مكتبة الأنجلو المصرية، ج1، القاهرة 1963م.
(2)
سعيد عاشور، الحركة الصليبية (2 / 1279) ،مكتبة الأنجلو المصرية، ج1، القاهرة 1963م.
ـ يوهانا فوك، تاريخ حركة الاستشراق، ص 26 ـ 27، مرجع سابق
(3)
وهان فوك، ص 31، مرجع سابق.
ويعد هذا القرار الكنسىّ البداية الرسمية للتنصير المؤسَّسي، إذ أثمر عن ظهور أكبر مؤسستين تنصيريتين للعمل ضد الإسلام والقرآن حتى اليوم، وهما:
المؤسسة الأولى: التبشير
كانت كلية الثالوث المقدس القاعدة التى انطلق منها التنصير المؤسَّسي فهى أولى لبنات مؤسسة التبشير ضد الإسلام، وكان ريموند لول ليس أول معلم فيها فقط، بل كان ((أول من مارس التبشير ضد الإسلام، فجال فى بلاده وناقش علماءه)) (1) .
ولما كان الرهبان ورجال الدين النصارى يؤلفون الطبقة المتعلمة فى أوربا؛ كان من الطبيعى أن يقودوا العمل التبشيرى ضد الإسلام نظراً لمعرفتهم لغات المسلمين، فأصبحت الكنائس والأديرة مرتكزات وقواعد للعمل التبشيرى لتخريج أهل الجدل الذين يجادلون ضد الإسلام والقرآن (2) .
ومن أوائل المبشرين الرهبان الجدليين ضد القرآن الراهب الدومنيكاتي (ريكولدو دى مونت كروس)(1243 ـ 1320 م) الذى بعثه البابا نقولا الرابع إلى الشرق، فتجول مبشراً فى فلسطين ومجادلا باللغة العربية ضد القرآن، ثم ألّف أهم الكتب الجدلية ضد القرآن بعنوان:
(1) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامى، ص 12 ـ 13. مرجع سابق.
(2)
نجيب العفيفى، المستشرقون (1 / 104) . مرجع سابق.
(الجدل ضد المسلمين والقرآن)(Disputatio Contra Saracenos et Alchoranem (1)
ثم كتب الكاردينال نيقولا دى كوزا (1401 ـ 1464) بتوجيه من البابا بيوس الثانى:
1 ـ نقد الإسلام وتفنيده.
2 ـ غربلة القرآن (2) .
وقام عدد من الآباء الدومينيكانيين والجزويت بتصنيف جدليات ضد القرآن منهم (3) :
ـ دينيس: (حول الخداع المحمدى) 1533 م.
ـ ألفونس سينا: (التحصين الإيمانى) 1491 م.
ـ جان دى تيريكريماتا: (بحث للرد على الأخطاء الرئيسية الخادعة لمحمد) 1606 م.
ـ لويس فييف: (الإيمان المسيحى الحقيقى ضد المحمديين) 1543 م.
ـ ميشيل نان: (الكنيسة الرومانية اليونانية فى الشكل والمضمون للدين المسيحى ضد القرآن والقرآنيين دفاعاً وبرهاناً) 1680 م.
ـ لودو فيجو مرتشي: (مقدمة فى دحض القرآن) 1698 م.
وبرز من المبشرين الجدليين ضد القرآن فى العصر الحديث كل من:
(1) عبد الرحمن بدوى، موسوعة المستشرقين، ص 211، دار العلم للملايين. بيروت 1989م.
(2)
عبد الرحمن بدوى، دفاع عن القرآن، ص 5، مرجع سابق.
(3)
السابق، ص 6.
1 ـ هنرى لامانس، مبشر يسوعى وراهب متعصب خلف لويس شيخو فى إدارة مجلة المشرق، وإدارة المجلة التبشيرية (البشير)، وقد أودع جدليته ضد القرآن فى مقاله:((هل كان محمد أميناً؟)) ، وفى كتابه ((الإسلام: عقائد ونظم)) (1) .
2 ـ وليم موير (1819 ـ 1905 م) ، مبشر إنجليزى أحد أعضاء البعثة التبشيرية الإنجليزية فى شمال الهند، كتب جدليتين ضد القرآن:
ـ ((القرآن: تأليفه وتعاليمه)) 1877 م.
ـ ((الجدال مع الإسلام)) 1897 م. (2)
3 ـ ريتشارد بل (توفي في النصف الثاني من القرن العشرين) ، أحد رجال الدين المسيحى وصرف سنين كثيرة فى دراسة القرآن (3) ، وله فى الجدل ضد القرآن عدة كتب ومقالات تبرز التأثير المسيحى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأهمها مقدمته لترجمة القرآن التى ضمّنها جدليته الأساسية ضد أصالة القرآن الكريم.
4 ـ سانت كلير تسدال (توفي في اوائل القرن العشرين) ، قسيس مبشر فى إيران (4)، صنف أعنف وأخطر جدلية ضد أصالة القرآن الكريم:(المصادر الأصلية للقرآن) وكتبها بالألمانية، ثم ترجمها المبشر وليم موير إلى الإنجليزية (5) .
(1) عبد الرحمن بدوى، موسوعة المستشرقين، ص 348 ـ 349.
(2)
عبد الرحمن بدوى، موسوعة المستشرقين، ص 404 ـ 405، مرجع سابق.
(3)
العقيقى، المستشرقون (2 / 93 ـ 94) .
(4)
أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامى، ص 36.
(5)
Saint Clair Tisdall، The Original Sources of the Qur’an ، Landon ، 1905.
5 ـ آرثر جيفرى (توفي في النصف الثاني من القرن العشرين) ، من محررى مجلة العالم الإسلامى التبشيرية وأبرز كتّابها وقد بُعث للعمل فى الجامعة الأمريكية فى بيروت، ثم للتبشير فى أمريكا اللاتينية، ثم إلى مدرسة اللغات الشرقية بالقاهرة.
وله عدة جدليات ضد القرآن الكريم وأصالته نشر بعضها فى مجلة العالم الإسلامى 1935م، ونشر بعضها فى كتابه ((مصادر تاريخ القرآن)) ، وأودع بقيتها فى مقدمة تحقيقه لكتاب المصاحف لأبى بكر بن أبى داود (1) .
6 ـ آرينز، مبشر، له جدلية بعنوان:((عناصر نصرانية فى القرآن)) (2) .
7 ـ كينث كراج، خليفة زويمر فى توجيه النشاط التبشيرى فى منطقة الشرق الأوسط، ورئيس تحرير مجلة العالم الإسلامى التبشيرية، ورئيس مؤتمر التبشير المنعقد فى أكسفورد عام (1986) ، له جدليتان ضد أصالة القرآن، طبعتا أكثر من مرة لمساعدة وعاظ التنصير، وهما:((نداء المئذنة)) ، ((القبة والصخرة)) .
8 ـ بول بوبارد، راهب فرنسى معاصر أشرف على إعداد قاموس للأديان
((Dictionnair e des Religians)) نشرت طبعته الأولى عام 1984 م، وقامت على طبعه ((المنشورات الجامعية الفرنسية)) ،
(1) إسماعيل سالم عبد العالم، المستشرقون والقرآن (1 / 25) سلسلة دعوة الحق ـ عن رابطة العالم الإسلامى، العدد 104، مكة المكرمة 1410هـ ـ 1990م، وقد قام رحمه الله بالرد التفصيلى على مقدمة جيفرى لكتاب المصاحف. .
(2)
العقيقى، المستشرقون (3 / 537) .
وأنجز أغلب مواده أساتذة المعهد الكاثوليكى بباريس.
وقد ردد المبشرون القائمون على الكتابة فيما يخص أصالة القرآن الجدليات القديمة نفسها، بإرجاع القرآن إلى الأصول التوراتية والإنجيلية التى وقف عليها النبي صلى الله عليه وسلم مستدلين على ذلك بالعناصر المشتركة بين القرآن وكتب العهدين (1) .
المؤسسة الثانية: الاستشراق
بدأ الاستشراق بقانون كنسى حدد مهمة المؤسسة الاستشراقية فى التمهيد والإعداد لارتداد العرب إلى المسيحية (2) .
ولذلك نصّ قرار إنشاء كرسي اللغة العربية بجامعة كمبردج عام 1636 م ـ مثلا ـ على أن الكرسى أنشئ: ((بهدف توسيع حدود الكنيسة ونشر المسيحية بين المسلمين الذين يعيشون فى الظلمات)) (3) .
ولم تقتصر جوانب التنصير فى المؤسسة الاستشراقية على الهدف وسلطة الإنشاء، بل تعدَّتها إلى الممارسة والتنظيم.
(1) محمد عبد الواحد عسيرى، صورة الإسلام والمسلمين فى قاموس الأديان، ص 22 ـ 24، بحث مقدم إلى ندوة مصادر المعلومات فى العالم الإسلامى المنعقدة فى الرياض (22 ـ 25 رجب 1420 هـ / 31 أكتوبر ـ 3 نوفمبر 1999م) .
(2)
Francis Dvornik ، The Ecumenical Concils ، PP. 65 - 66 ، Hawthorn Books. New York 1961.
(3)
عبد اللطيف طيباوى، المستشرقون الناطقون بالانجليزية، ص 477، مرجع سابق.
فقد كان الرهبان فى طليعة المستشرقين (1)، ولازالت لهم اليد العليا فى العصر الحديث حيث يزيد عددهم على مائة راهب من:(البندكتيون، الفرنسيسكان، الكيوشيون، الكرمليون، الدومنيكان، البيض، اليسوعيين)(2) .
أما التنظيم والإعداد فقد اضطلع به الفاتيكان، واصطنع للمؤسسة الاستشراقية النفوذ لدى السلطات الحاكمة واضطلع بوسائل التمويل (3) .
وربما كانت الطبيعة التنصيرية الخالصة للمؤسسة الاستشراقية بعناصرها الأربعة: (سلطة الإنشاء، والهدف، والتنظيم، والممارسة) ، تسبب الالتباس فى أمر المؤسستين، وتحول فى كثير من الأحيان دون التفرقة بين العمل التبشيري والعمل الاستشراقي.
لكن على الرغم من الطبيعة التنصيرية المشتركة بعناصرها الأربعة بين المؤسسة التبشيرية والمؤسسة الاستشراقية، فهناك فوارق بين المؤسستين تتمثل فى أداة العمل التنصيرى ومجاله، حيث إن: ((الاستشراق أخذ صورة البحث العلمى وادعى لبحثه الطابع العلمي الأكاديمي، أما دعوة التبشير فقد بقيت فى حدود مظاهر العقلية العامة، أى العقلية الشعبية، وبينما استخدم الاستشراق الكتاب والمقال فى المجلات العلمية وكرسي التدريس فى الجامعة، والمناقشة فى المؤتمرات العلمية العامة، سلك التبشير طريق التعليم المدرسي فى دور الحضانة ودور الأطفال والمراحل الابتدائية والثانوية للذكور والإناث
(1) العقيقى، المستشرقون (3 / 249) مرجع سابق.
(2)
علي النملة، الاستشراق فى الأدبيات العربية، ص 76، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ط 1، 1414هـ ـ 1993م.
(3)
العقيقى، المستشرقون (1 / 104) مرجع سابق.
على السواء، كما سلك سبيل العمل الخيري الظاهري فى المستشفيات ودور الضيافة والملاجئ للكبار ودور اليتامى واللقطاء)) (1) .
وهذا يعنى أن مؤسسة التبشير استهدفت تنصير العامة وذوى الحاجات بما يناسبهما من وسائل واختص الاستشراق بتنصير النخبة والمثقفين، بوسائط علمية وفكرية.
وهناك فارق آخر يمكن رصده، يتمثل فى المشاركة اليهودية فى نشاط المؤسستين: حيث شارك اليهود فى الاستشراق بنسبة كبيرة وفعالة لا يمكن مقارنتها بالمشاركة الضئيلة فى النشاط التبشيرى وإن كان الدور التبشيرى الخطير الذى مارسه ((زويمر)) : حركياً وتنظيمياً وجدلياً لا يمكن إنكاره)) .
أما فيما يخص أصالة القرآن الكريم والتكييف العقدي للإسلام، فإن المؤسستين تتفقان وتتحدان فى استلهام التراث التنصيرى وتكراره للمراحل السابقة فى أطروحاته الأساسية:
ـ الإسلام هرطقة مسيحية.
ـ محمد صلى الله عليه وسلم نبى مزيف لا أخلاقي.
ـ القرآن تلفيق من كتب العهدين القديم والجديد.
لذلك فإنه كما يقول إدوارد سعيد ساخراً: سيكون مستشرقاً بحاثة ومختصاً ألمعياً ذلقاً فى أيامنا هذه من يشير إلى الإسلام على أنه هرطقة آرية
(1) محمد البهى، المبشرون والمستشرقون فى موقفهم من الإسلام، ص 2، الإدارة العامة للثقافة ـ مطبعة الأزهر. القاهرة، د. ت. الفكر الإسلامى الحديث، ص 459 ـ 460، ط 8، مكتبة وهبة القاهرة 1975م.
من الدرجة الثانية، وأن محمداً نبي لا أخلاقي، وأنه ألّف كتابه معتمداً على كتب التوارة والإنجيل (1) .
وقد بلغ الجدل التنصيرى ضد أصالة القرآن الكريم ذروته فى هذه المرحلة بفضل الوسائل والإمكانات التى توفرت للمؤسسة الاستشراقية، ومن أبرز الجدليات الاستشراقية ضد أصالة القرآن الكريم (2) :
ـ جدليات ذات نزعة يهودية:
1 ـ (الحاخام) إبراهام جيجر، ماذا أخذ محمد من النصوص اليهودية؟ ، بون 1833م، ط 2 ليبزج 1902 م، إعادة طبع 1969 م.
2 ـ هيرشفيلد:
ـ العناصر اليهودية فى القرآن، برلين 1878م.
ـ مقالة فى شرح القرآن، ليبزج 1886 م.
ـ أبحاث جديدة فى فهم القرآن وتفسيره، لندن 1902 م.
3 ـ سيدرسكي، أصل الأساطير الإسلامية فى القرآن، باريس 1932م.
4 ـ هورفيتز، بحوث قرآنية، برلين ـ ليبزج 1926 م.
5 ـ إسرائيل شابيرو، الحكايات التوراتية فى أجزاء القرآن، برلين 1907م.
(1) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 44، 94.
(2)
راجع: إدوارد سعيد، الاستشراق، مرجع سابق. نجيب العقيقى، المستشرقون، (531 ـ 541) .
ـ عمر رضوان، آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره (1 / 220 ـ 231) .
ـ عبد الرحمن بدوى، دفاع عن القرآن، ص 23 ـ 24.
ـ عناصر من الهجادة فى قصص القرآن. ليبزج 1907 م.
6 ـ فايل، التوارة فى القرآن 1835 م.
7 ـ جولدزيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وزميله، القاهرة (1948 م) .
8 ـ س. د. جويتين، اليهود والعرب: علاقاتهم عبر التاريخ. نيويورك (1955م) .
9 ـ بيرنات هيللر، عناصر يهودية فى مصطلحات القرآن الدينية، (1982 م) .
10 ـ جوزيف هاليفي، السامريون فى القرآن (المجلة الآسيوية 1908 م) .
11 ـ ج فانسبرف، المصادر وطرق لتفسير الكتاب المقدس. طبع بتمويل من جامعة لندن عام 1972 م.
12 ـ ميشائيل كوك، محمد، مطابع جامعة أكسفورد 1987 م.
13 ـ رودى بارت، محمد والقرآن: تاريخ النبى العربى ودعوته، نشر دار كول هامر ضمن سلسلة أربان الألمانية عام 1957 م. وأعيد طبعه 1966م.
جدليات ذات توجه مسيحى.
1 ـ ج. بوستل، توافق القرآن والإنجيل، (1543 م) .
2 ـ كراديفو، راهب بحيرا والقرآن، (1898 م) .
3 ـ فلهلم رودلف، صلة القرآن باليهودية والمسيحية، بترجمة عصام الدين حفني ناصف، دار الطليعة. بيروت 1974 م.
4 ـ جون بيرتون، جمع القرآن، جامعة كمبردج 1977 م.
5 ـ ريجى بلاشير، القرآن، بترجمة رضا سعادة، وإشراف الأب فريد جبر، دار الطليعة. بيروت 1974 م.
6 ـ وولكر باسيلى، طابع الإنجيل فى القرآن، (1931 م) .
7 ـ بوم شتارك، مذهب الطبيعة الواحدة في القرآن. مجلة المشرق المسيحى1953م
8 ـ سترشتين، القرآن: الإنجيل المحمدي، (1918 م) .
9 ـ ريتشارد بيل، أصل القرآن فى بيئته المسيحية، لندن 1926م، وأعيد طبعه عام 1968م.
10 ـ تور أندريا، أصل الإسلام والمسيحية، أوسلو 1926 م.
ويلاحظ أن مرحلة التنصير المؤسَّسي كانت أكثر المراحل وأبعدها أثراً فى الجدل ضد أصالة القرآن الكريم، وذلك لطول فترتها الزمنية منذ بدايتها 1311 م حتى اليوم، ولضخامة الجيش العامل فى مؤسستيها: التبشير والاستشراق وكذلك عِظَم الامكانات المسخرة لعمل المؤسستين.
ويكفى دليلا على ذلك الطابور الخامس من المثقفين الذين أفرزتهم المرحلة من الباحثين المسلمين (الجالسين تحت أقدام المستشرقين كما وصفهم إدوارد سعيد) ، الذين ردّدوا الأطروحات التنصيرية نفسها، وكان لهم أثر بالغ في محيط ثقافى واسع، مثل: طه حسين بكتابه ((فى الشعر الجاهلى)) ، محمد خلف الله بكتابه ((الفن القصصى فى القرآن الكريم)) ، محمد أركون ((الفكر العربي)) وبحثه المنشور عام 1977:((مسألة صحة نسبة القرآن إلى الله)) ، نصر أبو زيد بكتابه ((مفهوم النص)) .
المبحث الرابع: مسالك الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
المسلك الأول: ترجمة القرآن
…
المبحث الرابع مسالك الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم
سلك المنصرون فى جدلياتهم ضد أصالة القرآن الكريم ثلاثة مسالك سعوا من خلالها إلى نفي ربانية مصدر القرآن، وهى: ـ
المسلك الأول: ترجمة القرآن
كانت ترجمة القرآن هى السلاح الذى سلّه مجادلو التنصير لمحو القرآن أو منعه من الغلبة أو تفعيل دوره فى الحفاظ على الذات الإسلامية.
إذ إن ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية لم تتم بقصد المعرفة الخالصة أو الفهم المجرد، أو التفاعل والتكامل مع الآخرين، بل إنها تمت بقصد معرفة المواطن التى يمكن الوثوب منها عليه، أو البحث عما يمكن أن يكون نقاط ضعف يتم التركيز عليها لقهر ((الآخر)) وهزيمته والسيطرة عليه (1) .
يقول يوهان فوك فى تأريخه للدراسات العربية فى أوربا: ((لقد كانت فكرة التبشير هى الدافع الحقيقى خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن)) (2) . ويضيف أن: هذه الفكرة التى أدت إلى ترجمة القرآن قد
(1) عبد الحميد مدكور، الترجمة والحوار مع الآخر، ص 47، كتاب المؤتمر الدولى الأول للفلسفة الإسلامية ((الفلسفة الإسلامية والتحديات المعاصرة)) المنعقد بدار العلوم. القاهرة 1996 م.
(2)
يوهان فوك، مرجع سابق، ص 14.
شهدت توسعاً من خلال تنقلات الوعاظ الدينيين لطائفتى الدومنيكان والفرنسيسكان (1) .
ويظهر هذا بجلاء من خلال أمور:
أولهما: أن أول نصوص مترجمة من القرآن إلى اللغات الأجنبية قد جاءت ضمن كتاب ((الجدل)) الذى ألفّه ابن الصليبي مطران (ديار بكر (ت 1171 م) وهو مخطوط بالسريانية وموجود فى كنيسة بطريركية السريان ببيروت (2) .
الثاني: أن بطرس الموقر أمر بترجمة القرآن للمرة الأولى عام 1143 م حتى يستطيع دحضه (3) .
وقد أكد زويمر المبشر اليهودى على أن تلك الترجمة تمت بدافع تنصيري (4) .
الثالث: ما ذكره جورج سيل فى مقدمة ترجمته للقرآن بأن الهدف منها هو تسليح النصارى البروتستانت فى حربهم التنصيرية ضد الإسلام والمسلمين، لأنهم وحدهم قادرون على مهاجمة القرآن بنجاح، وأن العناية الإلهية قد ادَّخَرَتْ لهم مجد إسقاطه (5) .
(1) السابق، ص 22.
(2)
محمد صالح البنداق، المستشرقون وترجمة القرآن الكريم، ص 97، دار الآفاق الجديدة، ط2، بيروت 1403 هـ ـ 1983 م.
(3)
Trevor - Roher ، Hugh ، The Rise of Christian Europe ، P. 145.
(4)
Zwemer S.، The Translation of the Quran ، The Muslim World، P. 295، 5 (1973) .
(5)
أحمد عبد الحميد غراب، رؤية إسلامية للاستشراق، ص 35، المنتدى الإسلامى، لندن 1411هـ.
ولما أعيد نشر هذه الترجمة فى طبعة أخرى عام 1896م بتقديم المبشر ((هويرى)) وتحقيقه، أعاد هويرى التأكيد على دور هذه الترجمة فى تنشيط العمل التنصيري ضد الإسلام وتدعيمه (1) .
الرابع: أن الكنيسة حرمت طبع أو نشر ترجمة القرآن، حتى إن ترجمة بطرس الموقر ظلت حبيسة محفوظات دير كلونى ولم يفرج عنها إلا بعد أربعة قرون (2) . ثم أعيد تحريم الطبع والنشر مرة ثانية، ولم يسمح بطباعة الترجمة إلا عام 1694 م، عندما قام راهب مدينة هامبورج الألمانية إبراهام هنكلمان بطبعه (3) .
وقد سُخِّرت ترجمة القرآن فى الجدل التنصيري من طرق:
الأول: تشويه الترجمة
عمد المترجمون إلى تشويه ترجمة القرآن بإسنادها إلى مترجمين من الدرجة الثانية والثالثة ومعاملة النص القرآنى معاملة مؤلفات بشرية، وذلك للحد من إمكان إقبال غربىّ على هذه الترجمات والإفادة منها، وبذلك تألَّف حاجز نفسي عميق بين غير المسلم والقرآن، وكانت هذه الترجمات أحد أسباب سيول الأباطيل والمطاعن والشتائم التى ساقها كتِّاب التنصير ضد القرآن الكريم (4) .
(1) السابق، ص 36.
(2)
محمد صالح البنداق، مرجع سابق، ص 95 ـ 96.
(3)
يوهان فوك، مرجع سابق، ص 98.
(4)
قاسم السامرائى، مرجع سابق، ص 67.
ويعدد صالح البنداق وجوه تشويه ترجمات القرآن، فيما يلى (1) : ـ
1 ـ إزاحة الآيات من مكانها التوقيفى لتضليل القارئ وإبعاده عن الإحاطة بحقيقة النص القرآنى.
2 ـ الترجمة الحرّة وتحاشي الترجمة العلمية إمعاناً فى التحريف والتضليل، مما يترتب عليه تحوير المعانى وتبديلها، وعرض النص القرآنى كما يراه المترجم، لا كما تقتضيه آياته وألفاظه.
3 ـ التقديم والتأخير والحذف والإضافة.
مما يمكن معه القول بأن: ((ترجمات القرآن التى يعتمد عليها علماء الإفرنج فى فهم القرآن كلها قاصرة عن أداء معانيه التى تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر)) (2) .
فالترجمة اللاتينية الأولى للقرآن (ترجمة بطرس الموقر) التى تمت عام 1143 م اضطلعت فقط بتقديم مضمون الفكرة، ولم تكترث بأسلوب الأصل العربى وصياغته، وقام الدافع التنصيري حائلا أمام الوفاء بتحقيق هذا الغرض (3) .
وقد كانت هذه الترجمة ((المشوّهَة)) الأصل الذى نبعت منه الترجمات الأخرى؛ فمنها نبعت الترجمة الإيطالية الأولى التى أشرف عليها أريفابيني عام 1547 م، وفى سنة 1616 م ترجم سالمون شفايجر إلى الألمانية عن الإيطالية، وعن الألمانية إلى الهولندية فى سنة 1641م (4) .
(1) محمد صالح البنداق، مرجع سابق، ص 101 ـ 108.
(2)
رشيد رضا، الوحي المحمدي، ص 24، المكتب الإسلامى، دمشق 1391 هـ ـ 1971 م.
(3)
يوهان فوك، مرجع سابق، ص 11.
(4)
يوهان فوك، مرجع سابق، ص 18.
وعن هذه الترجمة اللاتينية الأولى وضع الحاخام اليهودي يعقوب بن إسرائيل أول ترجمة بالعبرية عام 1634م (1) .
الثانى: إضافة المقدمات والملاحق
أضيف إلى نصوص الترجمات ((المشوّهة)) للقرآن الكريم مقدمات تفسيرية وملاحق شارحة لا لمضمون النص المترجم، بل جدليات ضد أصالته، وسخرية من محتواه، ومحاولات للحط منه.
أما الترجمات الفرنسية للقرآن سواء اعتمدت على الترجمة اللاتينية الأولى أم اعتمدت على الأصل العربى أم على ترجمة مرتشي الإيطالى، فإنها شوهت النص الأصلي وابتعدت عنه كما تقول الباحثة هداية عبد اللطيف مشهور فى دراستها حول ترجمات القرآن الفرنسية:((رجعت إلى خمس وعشرين ترجمة للقرآن بالفرنسية، فوجدتها كلها محرَّفة، وتضيف نصوصاً من التوارة إلى آيات القرآن الكريم دون الإشارة إلى ذلك)) (2)
وهكذا فقد تضمنت الترجمة اللاتينية الأولى ((ترجمة بطرس الموقر)) التى قام بها الراهب الإنجليزي روبرت الرتينى، والراهب الألماني هرمان الدالماني، عدداً من المقدمات والملاحق سميت بمجموعة ((دير كلوني)) ، وهى (3) : ـ
1 ـ خطاب بطرس إلى بيرنهارد (القديس برنار دى كليوفر) .
(1) محمد صالح البنداق، مرجع سابق، ص 96.
(2)
مجلة الحرس الوطنى، ص 37، العدد 129. المملكة العربية السعودية (ذو القعدة 1413هـ ـ مايو 1993 م) .
(3)
يوهان فوك، مرجع سابق، ص 17.
ـ عبد الرحمن بدوى، موسوعة المستشرقين، مرجع سابق، ص 307.
2 ـ مجموعة مختصرة من الوثائق الشيطانية المضادة للطائفة الإسلامية الكافرة.
3 ـ مقدمة روبرت الرتيني.
4 ـ ((تعاليم محمد)) لهرمان الدالماني.
5 ـ ((أمة محمد ونشوزها)) لهرمان الدالماني.
6 ـ تاريخ المسلمين (أخبار المسلمين المعيبة المضحكة) .
ولمّا انتهى الكاردينال يوحنا الأشقوبى الإسبانى (ت 1456 م) من ترجمة القرآن إلى اللاتينية بمساعدة آخرين ألحق بالترجمة جدلية ضد الإسلام بعنوان: ((طعن المسلمين بسيف الروح)) (1) .
وحينما نشرت مطبعة بتافيا بإيطاليا الترجمة اللاتينية ذائعة الصيت التي قام بها الراهب الإيطالي لودوفيجو مرّتشي 1698 م بموافقة البابا أنوسنت الحادي عشر، جاءت الترجمة فى قسمين:
يشتمل القسم الأول على النص العربى للقرآن مع ترجمته اللاتينية وحواشي جزئية للرد على بعض المواضع، ويشتمل القسم الثاني على كتاب:((الرائد إلى الرد على القرآن)) (2) .
أما ترجمة جورج سيل الإنجليزية التى ظهرت فى لندن عام 1734 م وأعيد طبعها أكثر من ثلاثين مرة، فقد تضمنت مقدمة جدلية ضد القرآن وصفت فى أدبيات التنصير بأنها قيِّمة وأنها أفضل وصف موضوعي للإسلام (3) .
(1) أورد الألمانى هانبت سجلاً للحدث فى مقاله: ((حوار يوحنا الأشقوبى مع نيكلاوس القوسى وجيان الجرمانى حول الثالوث المقدس وإعلانه بواسطة المحمديين)) M T H Z 2 (1915) S: 5 ، 115 - 129.
(2)
عبد الرحمن بدوى، موسوعة المستشرقين، ص 303، مرجع سابق.
(3)
أحمد عبد الحميد غراب، مرجع سابق، ص 35 ـ 36.
لذلك أصبحت هذه المقدمة إحدى الجدليات الأساسية التى يعتمد عليها التنصير فى الجدل ضد أصالة القرآن الكريم (1) .
الثالث: عنونة ترجمات القرآن
لم تكرّس العنوانات التى وضعها مجادلو التنصير على أغلفة ترجمات القرآن جدلياتهم ضده فقط، بل ألفت بذاتها جدليات مستقلة ضد أصالة القرآن، حيث تحاشت عقد أية صلة بين القرآن والوحي السماوي، فكتب المترجمون على الأغلفة عنوانات من قبيل:(كتاب محمد، قرآن محمد، القرآن العربي، القرآن التركي، مبادئ السراسنة، الشرائع التركية، الكتاب المقدس التركي، تشريعات المسلمين)(2) .
(1) يراجع فى ذلك ما ذكره المبشر القبطي المهتدي للإسلام إبراهيم خليل أحمد فى كتابه: المستشرقون والمبشرون فى العالم العربى والإسلامى، ص 58، مكتبة الوعي العربي. القاهرة 1964 م.
(2)
راجع رصداً لهذه العنوانات لدى: محمد أبو فراخ، تراجم القرآن الأجنبية فى الميزان، مجلة كلية أصول الدين بجامعة الإمام ابن سعود الإسلامية. العدد الرابع (عام 1402هـ ـ 1403هـ) .
ـ محمد صالح البنداق، مرجع سابق.
ـ عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، الفصل الذى عقده لترجمات القرآن.
المسلك الثاني: البحوث التنصيرية حول القرآن
بدأ هذا المسلك مع بداية مرحلة التنصير المؤسَّسي، حيث عكفت مؤسستا التنصير: التبشير والاستشراق، على إجراء بحوث ودراسات حول القرآن لتقرير إنسانية مصدره، وتطبيق مناهج نقد النصوص الأدبية على القرآن.
وقد أسهمت مدرسة النقد التاريخي في الغرب التي أسسها الكاثوليكي ريتشارد سيمون بكتابه ((التاريخ النقدي للعهد القديم)) عام 1678م (1) ، بدور فعّال في هذا المجال حيث تناولت القرآن الكريم ضمن مبحثين من مباحث النقد التاريخي للنصوص، وهما:
أـ مصادر القرآن
لم ير هذا المبحث النور إلا في أعقاب نجاح جهود مدرسة النقد التاريخي من خلال بحوث: ريتشارد سيمون ـ يوهان سملر ـ القس الألمانى تلننج برنارد فيتر ـ جان استروك ـ كارل دافيد إيلجن ـ دى فيته ـ هيرمان هونفلد ـ تيودور نولديكه ـ فلهاوزن، في اكتشاف الوثائق أو النسخ أو التقاليد (الكهنوتية ـ الإيلوهيمية ـ اليهوية ـ التثنية) التي شكلت مصادر كتابة التوراة على يد محرريها من اليهود.
ولما كان الأخيران من رجال مدرسة النقد التاريخي (نولديكه، وفلهاوزن) من كبار علماء المؤسسة الثانية من مؤسسات التنصير
(1) ظن الدكتور محمد خليفة حسن في كتابه ((آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية)) ، ص 103، دار عين للبحوث والدراسات. القاهرة 1997م، أن فلهاوزن مؤسس علم النقد التاريخي، وهذا غير صحيح لأن جهود فلهاوزن في اكتشاف مصادر التوراة الأربعة مسبوقة بجهود ريتشارد سيمون صاحب أول مؤلّف في علم النقد التاريخي وتلته جهود خلفائه المذكورين في المتن والذين اكتشفوا كلٌّ على حدة أحد مصادر التوراة الأربعة، وقام فلهاوزن بترتيبها وتصنيفها وكشف دلالاتها.
راجع في ذلك:
Hans. Joachim Kraus ، Geschichte der historisch - Kritischen Erforschung des
les Alten Tesament ، Neukir chen - Vluyn. 1969.
Rudolf Smend ، Epochen der Bibel kritik ، Muenschen 1991.
(الاستشراق) ، فقد وجّها البحث فى هذا المجال إلى القرآن الكريم، وذلك لإضفاء ثوب بّراق من العملية والمنهجية الزائفة على الادعاء التنصيري القديم بأن القرآن تلفيق من التوراة والإنجيل.
لذلك أصبح موضوع ((مصادر القرآن)) أو ((مصادر الإسلام)) فرعاً مستقلا بذاته في دراسات مؤسّستي التنصير: الاستشراق والتنصير.
وقد حرص مجادلو التنصير في هذا المجال على إرجاع كل كبيرة وصغيرة في القرآن إلى مصدر سابق سواء أكان دينياً أم غير ديني، وقد دارت مصادرهم المقترحة للقرآن الكريم حول مصادر ستة (1) : ـ
1 ـ الوسط الوثني في شبه جزيرة العرب (معتقدات، عادات، عبادات، أشعار) وعلى الأخص شعر أمية ابن أبي الصلت.
2 ـ الحنفاء.
3 ـ الصابئة.
4 ـ الزرادشتية وديانات الهند القديمة.
5 ـ النصرانية.
6 ـ اليهودية.
ومن بين الجدليات التنصيرية ضد أصالة القرآن في هذا المجال:
1 ـ المصادر الأصلية للقرآن، للمبشر البورتستانتي سانت كلير تسدال.
2 ـ مصادر القصص الإسلامية في القرآن وقصص الأنبياء، سايدر سكاي، باريس 1932م.
(1) عمر رضوان، آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره (1 / 237 ـ 365) .
محمد الشرقاوي، الاستشراق، ص 84 ـ 114، مطبعة المدينة. القاهرة. د. ت.
3 ـ تاريخ الإسلام، إصدار جامعة كمبردج عام 1970 م بإشراف برنارد لويس.
4 ـ مصادر القص الكتابي في القرآن، سباير.
5 ـ مصادر تاريخ القرآن، آرثر جيفري.
6 ـ محمد، ميشائيل كوك، طبع جامعة أكسفورد 1987م.
7 ـ القرآن والكتاب، الخوري الحداد، مطبعة حريصا البولسية، لبنان.
8 ـ مصادر الإسلام، المبشر وليم موير، لندن 1901م.
وغيرها الكثير مما سبقت الإشارة إليه في النتاج الجدليّ لمرحلة التنصير المؤسّسي واكتفينا بذكره في موضعه تجنباً للتكرار.
ب ـ تاريخ القرآن
أدرج هذا الموضوع ضمن مباحث منهج النقد التاريخي التي عالجت كتاب العهد القديم والعهد الجديد معالجة تاريخية، بوصفهما عملين أدبيين بإسهامٍ إنسانيّ يمثل أرقى إنتاج إنساني متطور عبر العصور، لأنه لم يُؤَلَّف دفعة واحدة أو بقلم واحد، بل مرَّ بمراحل تطور تاريخية وأدبية يمكن رصدها وتحليلها، حيث مرّ في مرحلة تكوينه: تأليفا وجمعاً وتثبيتاً، بما يزيد على ألف عام بالنسبة للعهد القديم، وما يقارب نصف الفترة بالنسبة للعهد الجديد، وفى تلك الرحلة الطويلة تغيرت المضامين الدينية عبر مراحل التطور، وتغير البناء التركيبي للنصوص أدبياً ولغوياً، مما استوجب بحثاً نقدياً تاريخياً، يفسّر، ويبيّن، ويفصل ما بين تلك المراحل (1) .
(1) محمد خليفة حسن، آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية، ص 102، مرجع سابق.
وقد صنّف مجادلو التنصير من أتباع مدرسة النقد التاريخي عدة مصنفات جدلية ضد أصالة القرآن الكريم تضعه في مصافّ الأعمال ذات المراحل التطورية المتعاقبة، بما يعنيه ذلك من دمغ له بالبشرية، تصنيفاً، وتحريراً، وتطويراً.
ومن هذه المصنفات (1) :
1 ـ تاريخ القرآن، بوتيه (1800 ـ 1883م) ، باريس 1904م.
2 ـ التطور التاريخي للقرآن، إدوارد سل، مدارس (الهند) 1898م.
3 ـ القرآن، فلهاوزن (1844 ـ 1918م) مقال بالمجلة الشرقية الألمانية عام 1913م.
4 ـ مواد لدراسة تأريخ نص القرآن، آرثرجفري، ليدن 1937م.
5 ـ تاريخ النص القرآني، أجناس جولدتسهر، جوتنجن 1860م، وقد أعيد طبعه والتعليق عليه في مجلدين بواسطة ف. شواللى، ليبتزج 1909م.
6 ـ تاريخ النص القرآني، نولديكه.
7 ـ تاريخ قراءات القرآن، برجشتراسر.
وذلك بخلاف المداخل التي صنفها مجادلو التنصير للتعريف بالقرآن الكريم وتناولت قضية ((مصادر القرآن)) ، ((تاريخ القرآن)) ، مثل المدخل الذي وضعه: بلاشير الفرنسي ونُشر في باريس 1947م بعنوان ((مدخل إلى القرآن)) ، وكذلك المدخل الذي وضعه: د. بل، ونشر في أدنبرج 1954 م بعنوان ((مدخل إلى القرآن)) .
(1) عمر رضوان، آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره (1 / 220 ـ 231) .
محمد خليفة حسن، مرجع سابق، ص 103 ـ 104.
المسلك الثالث: إصدار الدوريات والقواميس ودوائر المعارف المتخصصة
من أبرز الدوريات التنصيرية المتخصصة في الجدل ضد القرآن الكريم: مجلة العالم الإسلامي، الحقيقة الواضحة، مجلة الإسلام: الألمانية، والفرنسية، والروسية.
ومن أهم دوائر المعارف التنصيرية في هذا المجال ((دائرة المعارف الإسلامية)) (1)
التي صدرت طبعتها الأولى باللغات الثلاث: الإنجليزية والفرنسية والألمانية في الفترة من 1914م إلى 1942م، وتوفر على إصدارها عتاة المستشرقين والمبشرين بإشراف الاتحاد الدولي للمجامع العلمية، ولما نفذت هذه الطبعة بدأ إصدار طبعة جديدة اعتباراً من سنة 1954م.
وبدأ صدور الترجمة العربية للطبعة الأولى منذ عام 1934م، وفى عام 1997م صدرت ترجمة كاملة لدائرة المعارف الإسلامية بالتعاون بين الهيئة المصرية العامة للكتاب ومركز الشارقة للإبداع الفكري.
(1) راجع تاريخ نشأة الموسوعة وبيانات المؤلفين والموضوعات، لدى:
ـ محمد فتحي عبد الهادي، المصادر المرجعية العربية عن الإسلام والمسلمين، ص 8 ـ 10، ندوة مصادر المعلومات عن العالم الإسلامي، مرجع سابق.
ـ أعراب عبد الحميد، دائرة المعارف الإسلامية، ص 8 ـ 15، ندوة مصادر المعلومات عن العالم الإسلامي، مرجع سابق.
وتعد هذه الدائرة أضخم عمل مرجعي عن الإسلام، كما أنها تتصف بصفة العالمية حيث شارك في تصنيفها قرابة ثلاثة آلاف مؤلف ينتمون إلى مختلف الجنسيات والديانات، مما أعطاها زخماً كبيراً في مجال الجدل ضد أصالة القرآن بما لها من انتشار وقبول.
وقد وفّرت كل تلك الخصائص للدائرة سمات العمل التنصيري الناجح في تشويه حقائق الإسلام وإثارة الشبهات حول أصالة القرآن.
يقول فريد وجدي: ((إن أكثر كتّاب الدائرة قسس مبشرون يهمهم أن يحيفوا الإسلام لا أن ينصفوه)) ، لذلك يصف رشيد رضا مباحث الدائرة بما فيها من أغلاط ومطاعن ومخالفة الحقائق، بأنها:((أضرُّ من شر كتب دعاة المبشرين وصحفهم)) (1) .
ويكفى استعراض ما سطره المبشر الأمريكي ماكدونالد في الدائرة.
(1) أعراب عبد الحميد، دائرة المعارف الإسلامية، ص 9، ندوة مصادر المعلومات. مرجع سابق.
المسلك الرابع: ترويح المزاعم وإثارة الشبهات
…
المسلك الرابع: ترويج المزاعم وإثارة الشبهات
اتجه المنصِّرون في جدلياتهم منذ البداية إلى إثارة الشبهات والمزاعم حول المصدر الإلهي للقرآن الكريم، وكانت جدلية الدمشقي ضد الإسلام هي المنطلق والفرضية الأساسية التي بنيت عليها مزاعم وشبهات الجدل التنصيري ضد أصالة القرآن الكريم.
فمنذ أرسى الدمشقي دعائم جدليته الأساسية ((الإسلام هرطقة مسيحية)) ، ولازال الجدل التنصيري يرددها عبر مراحله المختلفة، ففي
العصور الوسطى تلقفها توما الإكويني الذي صبغ العصور الوسطى برؤيته، فوصف الإسلام بأنه دين زائف وهرطقة بدعية (1) .
وفى العصر الحديث أكد المبشر الأمريكي ماكدونالد، مؤسس مدرسة كنيدي لإعداد الإرساليات التبشيرية، وصاحب الدراسات الواسعة عن الإسلام ومؤلف أكثر من ((مادة)) من مواد دائرة المعارف الإسلامية، أكّد فيها على أن ((الإسلام مسيحية مهرطقة)) (2) .
وتجسدت هذه الجدلية في الأعمال الأدبية والفنية التنصيرية ففي ((الكوميديا الإلهية)) لدانتي الذي كان يتبنى الفلسفة اللاهوتية لتوما الإكوينى، يظهر محمد صلى الله عليه وسلم في فصل (كانتو) 28 من الجحيم، وقد وُضع في الدائرة الثامنة من دوائر الجحيم التسع، وهى دائرة من الخنادق الكئيبة التي تحيط بمعقل الشيطان ولا يفصل بين محمد صلى الله عليه وسلم وقعر الجحيم حيث يقبع الشيطان، سوى المزيفين والخونة مثل:(يهوذا الإسخريوطي، وبروتس الرومانى) . كما أن عقابه فريد مثير للاشمئزاز حيث يقطع نصفين من ذقنه إلى شقين. وهو يسوِّي بينه في استحقاق العقوبة وبين قسيس شهواني مرتد ادعى لنفسه مكانة دينية بارزة اسمه: ((فرا دولشينو)) .
بينما يضع كلا من ابن سينا وابن رشد وصلاح الدين في الدائرة الأولى من الجحيم حيث يقاسون أخف ألوان العقاب، لأنهم أفاضل فاتتهم فقط نعمة الوحي المسيحي (3) .
(1) Montgomery Watt ، The Influence of Islam on Medieval Europe ، p. 74، Edinburgh up 1972.
(2)
إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 220 مرجع سابق.
(3)
إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 97، مرجع سابق.
وقد ترتب على هذه الجدلية الادعاء بأن القرآن ليس كتاباً سماوياً أصيلا بل كتاب هرطقة، وهو ما تفرع عنه زعمان وشبهتان رئيستان روجتهما دوائر الجدل التنصيري في جدلياتها ضد أصالة القرآن، وهما:
أـ القرآن تلْفيق من اليهودية والنصرانية.
يقول المستشرق اليهودي إبراهام جيجر في كتابه ((ماذا اقتبس محمد من اليهودية)) : ((إن القرآن مأخوذ باللفظ أو بالمعنى من كتب اليهود)) (1) .
ويؤكد اليهودي برنارد لويس: ((أن محمداً خضع للتأثيرات اليهودية والمسيحية كما يبدو ذلك واضحاً في القرآن)) (2) .
ويشرح جولدتسهر قائلا: ((تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجاً منتخباً من معارف وآراء دينية عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية التي تأثر بها تأثراً عميقاً، والتي رآها جديرة بأن توقظ في بني وطنه عاطفة دينية صادقة.... فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعد هذه التعاليم وحيا إلهياً)) (3) .
ويستدل الخوري الحداد المبشر اللبناني في جدليته الضخمة ضد أصالة القرآن (4) ، على صحة مزاعم أسلافه من المنصرين، بقوله: ((فوجود العالِم
(1) نقلا عن محمد صالح البنداق، مرجع سابق، ص 108.
(2)
غراب، مرجع سابق، ص 112.
(3)
جولدتسهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 12، بترجمة محمد يوسف موسى وآخرون، القاهرة 1948م.
(4)
صدرت هذه الجدلية منتصف القرن العشرين في أربع مجلدات طبعتها مطبعة حريصا البولسية في لبنان بعنوان ((دروس قرآنية)) ، مع عنوان خاص لكل كتاب، يجسد فيه مضمون جدليته، وجاءت على النحو التالي: ـ
1 ـ الإنجيل والقرآن.
المسيحي ورقة بن نوفل في جوار محمد خمسة عشر عاماً قبل البعثة، وأعواماً بعدها في أوائل الدعوة ووجود هذه الحاشية الكريمة في المدينة مع النبي في كل زمان ومكان حجة قاطعة على أن بيئة النبي والقرآن كانت كتابية من كل نواحيها، وأن ثقافة محمد والقرآن كتابية في كل مظاهرها، وذلك بمعزل عن الوحي والتنزيل)) (1) .
ب ـ القرآن تكرار لقصص العهد القديم والجديد
ساق مجادلو التنصير هذا الزعم تخصيصاً لما أجمل في الشبهة السابقة، استناداً إلى العناصر المشتركة بين القصص القرآني وقصص العهدين.
يقول جولدتسهر: ((لقد أفاد محمد من تاريخ العهد القديم وكان ذلك في أكثر الأحيان عن طريق قصص الأنبياء ليذكَّر على سبيل الإنذار والتمثيل بمصير الأمم السالفة الذين سخروا من رسلهم ووقفوا في طريقهم)) (2) .
2 ـالقرآن والكتاب.
3 ـ القرآن والكتاب وهو تكملة للجزء الثاني.
4 ـ نظم القرآن والكتاب.
وقد تصدى له الشيخ محمد عزة دروزه في ردٍّ تفصيلي في كتابه ((القرآن والمبشرون)) الصادر عن المكتب الإسلامي بدمشق، في مؤلف عدّه الدكتور فريد مصطفى من أفضل ما كتب الشيخ دروزة.
راجع: فريد مصطفى سليمان، محمد عزة دروزة وتفسير القرآن الكريم، ص 424، مكتبة الرشد، الرياض 1414هـ / 1993م.
(1)
الحداد، القرآن والكتاب (2 / 1060) مرجع سابق.
(2)
جولد تسهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 15 مرجع سابق، والمعنى نفسه أورده بلفظ مقارب في ((مذاهب التفسير الإسلامي)) ، ص 75، بترجمة عبد الحليم النجار، القاهرة 1955م.
ويستطرد موضحاً طريقة الإفادة، بقوله:((إن محمداً أخذ يجمع ما وجده في اتصاله السطحي أثناء رحلاته التجارية مهما كانت طبيعة هذا الذي وجده، ثم أفاد من دون أي تنظيم)) (1) .
أما المستشرق اليهودي فنسنك فيخرج بدائرة الإفادة عن حدود العهد القديم، ويربط لنا بوضوح بين هذا الزعم وسابقه والفرضية الأساسية والمنطلق الذي تفرعت عنه هذه الادعاءات قائلا:(النبي كان يبشر بدين مستمد من اليهودية والنصرانية، ومن ثمَّ كان يردد قصص الأنبياء المذكورين في التوراة والإنجيل، لينذر قومه بما حدث لمكذَّبي الرسل قبله، وليثبِّت أتباعه القليلين من حوله)(2) .
ولأن هذه المزاعم التنصيرية تستمد أصولها من مزاعم مشركي مكة حول أصالة القرآن الكريم كما اتضح ذلك من خلال رصد خصائص الجدل التنصيري في مرحلة بداياته المشرقية.
فإن القرآن الكريم نفسه قد تصدى لهذه المزاعم مفنداً إياهاً من طرق:
أولها: طريق التحدي، وهو طريق الردع لذوي اللجاجة في الجدل غير المنقادين إلى المسلمات والحقائق، والرافضة لكل برهان يقينيّ ودليل إلزامي وحجة دامغة. قال تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88) .
(1) جولدتسهر، العقيدة والشريعة، ص 25، مرجع سابق.
(2)
غراب، مرجع سابق، ص 91.
فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد استطاع بمساعدة أهل الكتاب أن يأتي بالقرآن من عند نفسه، فليحاول أهل الكتاب أنفسهم ومعهم الثقلان من الجن والإنس أن يأتوا بمثل القرآن إن كانوا صادقين في زعمهم مبدأ الإفادة.
وهذا التحدي القرآني لمجادلي التنصير يشتمل على دليل بطلان مزاعمهم، إذ التحدي مكلَّل بفشلهم وهو دليل على بطلان دعواهم.
الثاني: طريق المقارنة، حيث يدعو القرآن إلى تأمل آياته وقصصه وأخباره، إذ ينتهي ذلك التأمل إلى نتيجة حتمية مؤداها تنزيه القرآن عن الاختلاف والتناقض، وهذه سمة الوحي الإلهي الأصيل فقط، أما غيره فيشتمل على وجوه من الاختلاف والتضارب، قال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .
الثالث: طريق النقد التاريخي، وفيه ألزم القرآن مجادليه بحقيقتين تاريخيتين تبطلان مزاعمهم:
الحقيقة الأولى: أمية الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم معرفته بالقراءة والكتابة.
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت:48) .
الحقيقة الثانية: عجمة المعلمين المزعومين، فالحداد الذي نسبوا إليه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم كان لسانه أعجمياً لا يجيد العربية بينما القرآن في أعلى طبقات الفصاحة التي سجد لها بعض الأعراب، والتي لا يستقيم عقلا أن يتعلمها النبي صلى الله عليه وسلم من أعجمي، قال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل:103) .