الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الأول من كتاب الفتوة
مما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي
قدس الله روحه العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم وعليه نتوكل
الحمد لله الذي جعل منهاج الفتوة واضح الملاحب، يؤول ويرشد إلى كل حسنٍ واجب، ونزهها عن الفواحش والمعايب، وأرقاها إلى أعلى المراتب، وارتضى لها من أنبيائه المرسلين، وأصفيائه المقربين، كل من كتب اسمه على صفاء لوح الصدق، وبان له طريق الحق، فقام بواجبه، ودام جالساً على مراتبه.
فأول من أجاب إلى دعوة الفتوة، وحبا مكرمات المروة، آدم بديع الفطرة، رفيع الأسرة، المشتق من أديم الأرض اسمه، الثابت في محل الإرادة رسمه، الساكن في دار الحشمة، المؤيد بالأنوار والعصمة، المتوج بتاج الكرامة، الحال بدار السلامة.
وقبل بها هابيل لما طرد عنه قابيل، ودام بحقها شيث، ونزهها عن كل أمر خبيث. ورفع بها إلى المكان العلي إدريس، فنجا من كيد إبليس. وبحبها كثرت نياحة نوح، وكان نورها عليه يلوح. وتسمى بها عاد، فما رجع إلى دنسٍ ولا عاد. وحسن لهود بها وفاء العهود. ونجا بها صالح من القبائح. ولقب بها إبراهيم
الخليل، فكسر رؤوس الأصنام والتماثيل. وفدي بها إسماعيل، بأمر الملك الجليل، ورقى بها لوط إلى مقام ليس بعده هبوط، وكان بها إسحاق، قائماً إلى يوم التلاق، ونهض بأسبابها يعقوب، وكشف بها ضر أيوب.
سلك بها يوسف الصديق أكرم طريق، ودام له بها التوفيق. وانقاد ذو الكفل إلى رتبتها العلياء، وقام بأمورها المرضية الحسناء. وحاز قصباتها شعيب، فنزه عن كل ريب وعيب، رفل لها موسى إرفالاً، وأجاب هارون فأحسن مقالاً، شرف بها أهل الكهف والرقيم، ففازوا بدار النعيم. عمر بها قلب داود، ولذ له بها الركوع والسجود. وورثها منه سليمان، وسخر له بها الإنس والجان. وصحت ليونس شروطها، فوفى. وورد بها زكريا مورد الصفا. وصدق بها يحيى فنجا من الغم، وعظم بها لما هم، فما اهتم، وبالألم ما ألم. وجلا بها العسعس عيسى بالنور الصريح، ولقب بها الروح والمسيح. وفتح الله بها لمحمد صلى الله عليه وآله فتحاً مبيناً، فجعل عليها أخاه وابن عمه أمير المؤمنين علياً أميناً.
اللهم فوفقنا للقيام بحقوق هذه الصحبة، وأعد علينا بركات هذه النسبة، واجعلنا من أهل هذه الحقائق، واسلكنا بها أحمد الطرائق، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً. ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، والحمد لله على نعمه أبداً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيراً.
والحمد لله الذي أبدى آثار فضله على خواص عباده، فهداهم إلى موافقته، وبعدهم عن مخالفته، فأخبر عن أحوالهم في مقامهم، بما زين به خليله صلى الله عليه وسلم،
وهي الفتوة. فقال تعالى: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} . سماه فتىً لأنه خلى له في نفسه وأهله وماله وولده، ووهب الكل لمن له الكل، وخلى من الكون وما فيه لما تسمى بالفتوة، وسمي به، وأخبر بعد ذلك تعالى عن خواص أوليائه بهذا الاسم. فقال:{إنهم فتية آمنوا بربهم} ، بلا واسطة ولا استدلال، بل آمنوا به له، فأكرموا بزيادة هدى حتى قاموا إلى بساط القرب، { [فـ] قالوا ربنا رب السموات والأرض} ، فألبسهم الحق خلعه، من خلعة وآواهم إلى كريم رعايته، وصرفهم في لطائف تقليبه، فقال:{ونقلبهم ذات اليمن وذات الشمال} . كذا من لزم طريق الفتوة كان في رعاية الحق، ولحياته وتوليته وحياطته.
سألت -أكرمك الله لمرضاته- عن الفتوة. فاعلم أن الفتوة هي الموافقة وحسن الطاعة، وترك كل مذموم، وملازمة مكارم الأخلاق ومحاسنها، ظاهراً وباطناً وسراً وعلناً، وكل حال من الأحوال، ووقت من الأوقات يطالبك بنوع من الفتوة فلا يخلو حال من الأحوال عن الفتوة. فتوة تستعملها مع ربك تعالى، وفتوة تستعملها مع نبيك صلى الله عليه وسلم، وفتوة مع الصحابة، وفتوة مع السلف
الصالحين، وفتوة مع مشايخك، وفتوة مع إخوانك، وفتوة مع أهلك وولدك وأقاربك، وفتوة مع ملكيك كرام الكاتبين. وأنا مبين أطرافاً من ذلك على الاختصار من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وآثار السلف وآدابهم وشمائلهم بعد أن أستعين بالله في ذلك، وفي جميع أموري، وهو حسبي ونعم الوكيل.
فمن الفتوة الملاطفة مع الإخوان، والقيام بحوائجهم. أخبرنا عبد الرحمن ابن محمد بن محمود، ثنا أحمد بن محمد بن يحيى، ثنا محمد بن الأزهر، ثنا محمد ابن عبد الله المصري، ثنا يعلى بن ميمون، ثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ألطف مؤمناً أو قام له بحاجة من حوائج الدنيا، صغر ذلك أو كبر، كان حقاً على الله أن يخدمه خادماً يوم القيامة)) .
ومن الفتوة مقابلة الإساءة بالإحسان، وترك المكافأة على القبيح، أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد بن صبيح الجوهري، ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا قبيصة عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه، قال:((قلت: يا رسول الله، إذا مررت برجل فلم يضفني، فمر بي أفعل به مثل ذلك؟ قال: لا)) .
ومن الفتوة ترك طلب عثرات الإخوان. أخبرنا أحمد بن محمد بن رجا البزاري. ثنا أحمد بن عمير بن حوصا، ثنا أبو عمير عيسى بن محمد، ثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن ثور بن يزيد عن راشد عن معاوية رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك إن اتبعت عثرات المسلمين، أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)) .
ومن الفتوة حضور دار من يثق به من الإخوان من غير دعوة. أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي بن زياد، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا سعيد بن يحيى، ثنا أبي، ثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:((بينا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما جالسان، إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما أجلسكم هاهنا؟ قالوا: والذي بعثك بالحق، ما أخرجنا إلا الجوع. قال: اذهبوا إلى بيت فلان رجل من الأنصار)) .. وذكر الحديث.