المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجزء الخامس من الكتاب الفتوة - الفتوة لأبي عبد الرحمن السلمي

[أبو عبد الرحمن السلمي]

الفصل: ‌الجزء الخامس من الكتاب الفتوة

‌الجزء الخامس من الكتاب الفتوة

مما جمعه الشيخ السلمي رحمه الله

ص: 83

بسم الله الرحمن الرحيم عليه توكلت

ومن الفتوة أن لا يعتمد إلا على ربه في كل أحواله وأوقاته. سفراً وحضرا. سمعت أبا القاسم عبد الله بن محمد الدمشقي يقول لرجل وهو يوصيه في سفر يريد أن يخرج إليه: يا أخي، لا تصحب غير الله فإنه الذي يكفيك المهمات، ويشكرك على الحسنات، ويستر عليك السيئات، ولا يفارقك في خطوة الخطوات.

ومن الفتوة أن لا يحوج إخوانه إلى السؤال، ويكتفي منهم بالتعريض عن التصريح. سمعت الشيخ أبا سهل محمد بن سليمان يقول: سمعت ابن الأنباري يقول: أخبرنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي، أن أمية بن أبي الصلت دخل على عبد الله بن جدعان، وعنده قينتان يقال لهما الجرادتان، فقال له أنعم صباحاً أبا زهير، ثم أنشأ يقول:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياك إن شيمتك الحياء

وعلمك بالحقوق وأنت فرعٌ

لك الحسب المهذب والسناء

كريمٌ لا يغيره صباحٌ

عن الخلق الكريم ولا المساء

ص: 85

وأرضك كل مكرمة بناها

بنو أنتم وأنت لها سماء

تبارى الريح مكرمةً ومجدا

إذا ما الكلب أحجره الشتاء

إذا أثنى عليك المرء يوماً

كفاه من تعرضه الثناء

فقال: خذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أحديهما، ثم خرج على مجالس قريش، فقالوا: يا أبا أمية، أتيت شيخاً قد كبر سنه، ورق عظمه، وعنده ملهيتان، فسلبته أحديهما قال: فتدمم أمية من ذلك، فرجع إلى عبد الله، فلما رآه، قال: اكفف حتى أخبرك من ردك، فأخبره بمقالة القوم، ثم قال: خذ بيد الأخرى، وأنشأ يقول:

عطاؤك زينٌ لامرئ إن حياته

وما كل العطاء بزين

وليس بشين لامرئ بذل وجهه

إليك كما بعض السؤال بشين

ومن الفتوة أن يختار الإنسان عز إخوانه على عزه، وذله على ذلهم. سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت الحسين بن علي القومسي يقول: وجه عصام البلخي إلى حاتم الأصم رحمه الله شيئاً، فقبله، فقيل له، لم قبلت؟ فقال: وجدت في أخذه ذلي وعزه، وفي رده عزي وذله، فاخترت عزه على عزي، وذلي على ذله.

ومن الفتوة ترك التميز في الخدمة والبذل. سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: التواضع ترك التميز في الخدمة.

ص: 86

ومن الفتوة ترك التميز في البذل والخلق. [و] استصغار ما منك، واستعظام ما إليك. سمعت أبا عثمان سعيد بن أبي سعيد يقول: سمعت جعفر بن محمد الخلدي يقول: قلت لأبي بكر القزاز المصري، وكان من خيار الناس، وكان يأوي إليه الصوفية، وربما يجيء من ليس منهم فيختلط بهم. فقلت له: لم لا تميز؟ فقال: لست من أرباب الأشراف، فأخاف أن أخطئ في تميزي، فيفوتني ما أريد.

ومن الفتوة استعمال الأخلاق في الظاهر، وتصحيح الأحوال في الباطن. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: صح عند أهل المعرفة أن للدين رأس مال، خمسةٌ في الظاهر، وخمسةٌ في الباطن.

فأما اللواتي في الظاهر: فصدقٌ في اللسان، وسخاوة النفس بالمال، والتواضع في الأبدان، وكف الأذى، واحتمالها بلا إباء. وأما اللواتي في الباطن: فحب وجود سيده، وخوف الفراق عن سيده، ورجاء الوصول إلى سيده، والندم على فعله، والحياء من ربه.

ومن الفتوة أن لا يتزين العبد بزي الفتيان، إلا بعد أن يحمل أثقال الفتوة. ويقوم بشرائطها. قيل لأبي عبد الله السجزي: لم لا تلبس المرقعة؟ فقال: من النفاق أن تلبس لباس الفتيان. ولا تدخل في حمل أثقال الفتوة، إنما يلبس لباس الفتيان من يصبر على حمل أثقال الفتوة. فقيل له: ما الفتوة؟ فقال: رؤية أعذار

ص: 87

الخلق، وتقصيرك وتمامهم، ونقصانك والشفقة على الخلق كلهم، برهم وفاجرهم. وكمال الفتوة أن لا يشغلك عن الله شاغل. وقال معروف الكرخي رحمه الله: من ادعى الفتوة فليكن فيه ثلاث خصال: وفاءٌ بلا خلاف، وجودٌ بلا مدح، وعطاءٌ بلا سؤال.

ومن الفتوة أن يتأسف الإنسان على مفارقة إخوانه، وأن يختار ما أمكنه في الجمع بينهم. حدثنا أبو الحسن بن مقسم المقرئ ببغداد، حدثنا أبو العباس المكاتب العاقولي، حدثنا محمد بن يزيد المبرد. قال: ذكر لي أن رجلاً من العرب كانت له جارية، وكان بها معجباً، وكان موسراً، فأنفق عليها ماله حتى ذهب ما في يديه، فكان يأتي إخوانه، فيسألهم، وينفق عليها، فبلغها ذلك، فقالت: لا تفعل، ولكن بعني فلعل الله أن يرزقنا اجتماعاً، فخرج بها إلى عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عامل فارس، فعرضها عليه فأعجبته، فقال له: بكم؟ فقال: بمائة ألف درهم، وهي خيرٌ من ذلك للرغبة في الموضع، فأخذها بذلك، فلما دفع المال وقبضه الرجل وأراد أن يخرج، أنشأت تقول:

هنيئاً لك المال الذي قد قبضته

فلم يبق في كفي إلا تذكري

أقول لنفسي حين جاشت لمقلتي

أقلي فقد بان الحبيب أو أكثري

أوب بهم في الفؤاد مبرح

أناجي به قلباً طويل التفكر

ص: 88

فنظر إليها ثم تركها وأنشأ يقول:

فلولا قعود الدهر عنك لم يكن

يفرقنا شيءٌ سوى الموت فاعذري

أروح بحزن من فراقك موجعاً

أناجي به قلباً كثير التفكر

عليك سلامٌ لا زيارة بيننا

ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر

فقال عمر بن عبيد الله بن معمر: فقد شئت، فخذها والمال لك فانصرف ومعه الجارية، ومائة ألف درهم، وعاد إلى السرور. فقال عمر بن عبيد الله بن معمر: والله لا يشترى بمائة ألف درهم مكرمة فوق هذه أن يجمع الإنسان بين متحابين حلالاً ويخلصهما من غمة الفراق.

ومن الفتوة أن يبدأ الرجل بالعطاء قبل السؤال فإنه إذا أعطى بعد السؤال كان ثمناً لماء وجهه، والكريم لا يستبدل وجوه إخوانه. أخبرنا أبو عبد الله بن بطة، حدثنا الحسن بن محمد بن الحسن بالكوفة، حدثنا محمد بن المرزبان، حدثنا عبد الرحمن بن محمد، حدثنا محمد بن صالح القرشي، حدثنا أبو اليقظان، حدثني أبو عمرو المديني، عن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، قال: قال عبيد الله بن عباس لابن أخيه: إن أفضل العطية ما أعطيت الرجل قبل المسألة، فإذا سألك فإنما تعطيه ثمن وجهه حين بذله لك، وأنشدت في هذا المعنى:

ص: 89

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله

عوضاً وإن نال الغنى بسؤال

إذا السؤال مع النوال وزنته

رجح السؤال وخف كل نوال

وأنشدت أيضاً:

ما ماء كفك إن جادت وإن بخلت

من ماء وجهي إذا أفنيته عوضٌ

ومن الفتوة استعمال الأخلاق. ورؤية فضل الله في كل حال. سمعت علي بن محمد القزويني يقول: سمعت أبا الطيب العكي يقول: سمعت ابن الأنباري يقول: قال بعض تلامذة أبي يزيد: قال لي أبو يزيد رحمه الله: إذا صحبك إنسان، وأساء عشرتك فادخل عليه بحسن أخلاقك يطيب لك عيشك. وإذا أنعم عليك فاشكر الله. فإنه الذي أعطف عليك القلوب. وإذا ابتليت ببلاء، فأسرع إلى الاستقامة، واصبر فإنه ليس نفس تفنى بالصبر.

ومن الفتوة أن يجتهد في حفظ النعم على أربابها. أخبرنا أبو عبد الله بن بطة العكبري بها، حدثنا محمد بن أحمد بن ثابت، حدثنا أحمد بن عمرو ابن حمدون، حدثنا الحسن بن عرفة، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: قالت الحرقة بنت النعمان بن المنذر لسعد بن أبي وقاص: لا ابتلاك الله بلئيم، فيسيء

ص: 90

إليك، ولا ابتلى بك كريماً فتسيء إليه. وعقد لك المنن في أعناق الأجواد، ولا أزال عن كريم نعمة بك، ولا أزالها بغيرك إلا جعلك السبب لردها.

ومن الفتوة بذل المال للإخوان والرفقاء. أخبرنا المعافى بن زكريا القاضي الجريري ببغداد، حدثنا الحسن بن القاسم، أنشدنا أبو جعفر لسليمان بن يحي ابن أبي حفصة، وإنما نسب إلى جده:

وقائلةٍ ما بال مالك ناقصاً

وأموالٌ أقوامٍ سواك تزيد

فأخبرتها إني أجود بما حوت

يداي وبعض القوم ليس يجود

ومن الفتوة اجتناب معاداة الرجال لما فيها من الفساد. أخبرنا محمد بن عبد الواحد الرازي، حدثنا محمد بن علي بن عبدك. حدثنا زكريا بن يحيى النيسابوري، حدثنا إبراهيم بن الجنيد، حدثنا صالح بن حمزة، يقول: إياك ومعاداة الرجل، فإنها لن تعدمك مكر حليم، أو معاداة جاهل، وقال: الأغلب من غلب بالخير، والمغلوب من غلب بالشر. واعتزل الشر كي يعتزلك.

ومن الفتوة أن يصون الرجل سمعه عن استماع القبيح. كما يصون لسانه عن النطق به، أخبرنا محمد بن عمر بن المرزبان إجازة، قال: أنشدت لبعضهم:

ص: 91

وسمعك صن عن استماع القبيح

كصون اللسان عن اللفظ به

فإنك عند استماع القبيح

شريكٌ لقائله فانتبه

وكم أزعج الحرص من طالب

ووافى المنية في مطلبه

ومن الفتوة أن يبذل الرجل جاهه لإخوانه كما يبذل ماله. أخبرنا محمد بن عمر بن المرزبان، قال أنشدت لبعضهم:

جعلت فداك أخطرني ببالك

وصني بابتدائك عن سؤالك

ووسع لي بجاهك بعض جاهي

كما وسعت لي مالي بمالك

ومن الفتوة اجتناب الأخلاق الرديئة. وملازمة الأخلاق السنية. أنشدني أبو عبد الله بن بطة، أنشدني أبو الحسين الحربي، أنشدنا ابن مسروق:

إذا ساء خلق المرء لم يصف عيشه

وضاقت عليه سبله ومذاهبه

ولم يحمد الناس امرءاً ساء خلقه

ولكن حسن الخلق يحمد صاحبه

ومن الفتوة حفظ الجار والمجاورة، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) ، أخبرنا أبو عبد الله بن بطة، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن العباس

ص: 92

الوراق، حدثنا جعفر الصائغ، حدثنا أحمد بن الطيب، حدثنا أبو الفتح الرقي، قال: قال الحسن: ليس حسن الجوار أن لا تؤذي جارك، إن من حسن الجوار أن تحمل أذى جارك.

ومن الفتوة الصبر على أذى السؤال. أنشدنا عبد الواحد بن أحمد الهاشمي، قال: أنشدني عبد الله بن يحيى العثماني لابن دريد:

لا يرهقنك ضجرةٌ من سائل

فلخير دهرك أن ترى مسؤولا

لا تجبهن بالدفع وجه مؤمل

فبقاء عزك أن ترى مأمولا

ومن الفتوة تصحيح الإخوة بترك المكافأة على الإساءة. أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا أبو المغيس، عن أبي عبد الله الجهني، قال: في المواساة تجديد المؤاخاة، وترك المكافأة بين المعاداة.

ومن الفتوة ما أخبرنا الحسين بن أحمد بن موسى، قال: سمعت ابن الأنباري يقول: حدثنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي، قال: قيل لبعض الأعراب: ما الفتوة؟ قال: طعام مبذول، وبشر مقبول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف.

ومن الفتوة استعمال المروءة مع قلة ذات اليد. أنشدني محمد بن طاهر الوزيري لبعضهم:

وفتى خلا من ماله

ومن المروءة غير خالي

أعطاك قبل سؤاله

فكفاك مكروه السؤال

ص: 93

ومن الفتوة العفو عن المسيء. أنشدنا جعفر بن أحمد بن أبي زايد المصري، قال: أنشدنا أبي لمنصور:

أذنبت ذنباً عظيماً

وأنت أعظم منه

فجد بعفوك أو لا

فاصفح بحلمك عنه

إن لم أكن في فعالي

من الكرام فكته

وبهذا الإسناد قال: أنشدني منصور الفقيه:

هبني أسأت كما زعمت فأين عاقبة الأخوة؟

وإذا أسأت كما أسأت فأين فضلك والمروة؟!

ومن الفتوة أن يلزم الإنسان العزلة إذا فسد الزمان. أنشدني أبو بكر بن أبي جعفر المزكي، قال: أنشد الحاكم عبد الحميد بن عبد الرحمن لبعضهم:

أنت بوحدتي ولزمت بيتي

فتم العز لي ونمى السرور

وأدبني الزمان فليت أني

هجرت فلا أزار ولا أزور

ولست بقائل ما دمت حياً

أسار الجند أم ركب الأمير

ومن الفتوة حفظ شرائط المروءة. سمعت محمد بن العباس العصمي، قال: أخبرنا محمد بن أبي علي، حدثنا علي بن العباس، حدثنا حمدان بن علي الكندي،

ص: 94

حدثنا الحسن بن سالم، حدثنا يحيى بن سليم، عن زافر بن سليمان. قال: يقال الكامل المروءة الذي أحرز دينه، ووصل رحمه، وعمر ماله، وأكرم إخوانه. وقال في بيته.

ومن الفتوة حفظ عهد من صحبك في حال القلة والعسرة. سمعت الشيخ أبا سهل محمد بن سليمان. قال: أخبرت أن أبا سالم كان يتعصب لعلي بن عيسى في طول أيامه، فلما ولي الوزارة، لم يكن ينظر إليه كما يجب، فكتب إليه:

رجوت لك الوزارة طول عمري

فلما كان منها ما رجوت

تقدمني أناسٌ لم يكونوا

يرومون الكلام إذا أتيت

فأحببت الممات وكل عيش

أريد الموت منه فهو موت

أنشدني علي بن حمدان، قال: أنشدني ابن الأنباري لإبراهيم بن العباس:

وكنت أخي بأخا الزمان

فلما انقضى صرت جرماً عوانا

وكنت أعذك للنائبات

فأصبحت أطلب منك الأمانا

وكنت أذم إليك الزمانا

فها أنا أحمد فيك الزمانا

ص: 95

ومن الفتوة إكرام الناس جميعاً. سمعت أبا الحسن بن مقسم ببغداد يقول: سمعت محمد بن إسحاق المروزي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت المدائني يقول: أوصى يحيى بن خالد البرمكي ابنه، فقال: يا بني، لا تدع إكرام الناس، فإنك إنما تكرم نفسك إذا أكرمتهم.

ومن الفتوة حفظ عهود الأوطان لحفظ حرمات ساكنيها. سمعت أبا الفضل السكري يقول: [سمعت] أبا عمرو محمد بن إسماعيل يقول: بلغني أن امرأة جاءت فدخلت قصر سفيان بن عاصم، وتمرغت في تراب بعض القصر، وكتبت على بعض حيطانه:

أليس كفى حزناً بذي الشوق أن يرى

منازل من يهوى معطلة قفرى

مقيماً بها يوماً إلى الليل لا يرى

أوانس قد كانت تحل بها دهرا

على إن ذا الشوق الموكل بالصبا

يزيد اشتياقاً فلما حاول الصبرا

وكتبت تحتها: كتبتها آمنة بنت عبد العزيز زوجة سفيان بن عاصم.

ومن الفتوة أن يجتنب خيانة الأصدقاء ويصدق في مودتهم. أخبرنا أبو المفضل الشيباني، حدثنا أحمد بن محمد بن بشار، حدثني محمد بن الوز، حدثنا

ص: 96

محمد بن الحسين بن الحرقان قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إنما سموا إخواناً لتنزههم عن الخيانة، وسموا أصدقاء لأنهم تصادقوا حق المودة.

ومن الفتوة أن لا يعيب الرجل على صديقه يوماً بعدما عرف صدق مودته. سمعت محمد بن أحمد بن توبة المروزي [يقول:] إذا عرفت الرجل بالمودة فسيئاته كلها مغفورة، وإذا عرفته بالعداوة، فحسناته كلها مردودة عليه.

واعلم –تولى الله رعايتك- أن أصل الفتوة هو حفظ مراعاة الدين، ومتابعة السنة. واتباع ما أمر الله به نبيه عليه السلام من قوله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} . وقال تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} . وما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخوله مكة: ((يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، وادخلوا الجنة بسلام)) ، وما نهى النبي عليه السلام من قوله:((لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله)) .

ومن موجبات الفتوة: الصدق، والوفاء، والسخاء، وحسن الخلق، وكرم النفس، وملاطفة الإخوان، ومعاشرة الأصحاب، ومجانبة سماع القبيح، والرغبة

ص: 97

في اصطناع المعروف، وحسن المجاورة. ولطف المحادثة، وكرم العهد، والإحسان إلى من ولاك الله أمره من الأهل والعبيد، وتأديب الأولاد، والتأدب بالأكابر، والتباعد عن الحقد والغش والبغضاء، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، والتوسعة على الإخوان في ماله وجاهه، وترك الامتنان عليهم بذلك، وقبول المنة ممن انبسط إليه في ماله وجاهه، والقيام بخدمة الأضياف، وإعشاق المنة لهم في إجابتهم وتحرمهم بطعامه، والسعي في حوائج الإخوان بنفسه وماله، ومكافأة الإساءة بالإحسان، والتهاجر بالتواصل، وملازمة التواضع، ومجانبة الكبر. وترك الإعجاب بأحواله وأسبابه، وبر الوالدين، وصلة الأقارب، والغض عن مساوئ الإخوان، وستر قبائحهم، والنصيحة لهم في الخلوة، والدعاء لهم في جميع الأوقات، ورؤية أعذار الخلق فيما هم فيه، وملازمة اللائمة على نفسه لما تيقن من شرها وغدرها والتآلف مع الخلق، والشفقة على المسلمين والملاطفة معهم، والإحسان إليهم، والرحمة على الفقراء والإشفاق على الأغنياء، والتواضع للعلماء، وقبول الحق ممن يسمع، وحفظ اللسان عن الكذب والغيبة، وحفظ السمع عن سماع الختا، وغض البصر عن المحارم، والإخلاص في الأعمال، والاستقامة في الأحوال، ومراعاة الظاهر، ومراقبة الباطن، ورؤية الخير في الخلائق، وصحبة الأخيار، ومجانبة الأشرار، والإعراض عن الدنيا، والإقبال على الله تعالى، وترك المرادات، وخلو الهمة عن التدنس بهذه الفانية، والتعزز

ص: 98

بمجالسة الفقراء، والترقي عن تعظيم الأغنياء لسبب غنائهم، يكون غناه بربه، ويكون شاكراً في غناه، وقول الحق من غير مبالاته لائمة، والشكر على المحاب، والصبر على المكاره، والتباعد عن الخيانة، وكتمان الأسرار، والرضا بالدون من المجلس، وترك مطالبة حقوقه، واستيفاء حقوقهم، ومطالبة النفس بذلك، وحفظ حرمات الله في الخلوات، والمشورة مع الأصحاب، والاعتماد على الله دون غيره عند العدم، وقلة الطمع، والتعزز بالقناعة، وتحمل مؤن الخلق، وحمل مؤونته عنهم، ومعرفة حرمة الصالحين، والشفقة على المذنبين، والاجتهاد أن لا يتأذى به أحد، وأن لا يخالف ظاهره باطنه، وأن يكون لصديق صديقه [صديقاً] ، ولعدو صديقه عدواً، وأن لا يغيره نأي الدار، ولا بعد المزار.

وهذه وأشباهها من طرق الفتوة وأخلاقها، ونحن نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالأخلاق السنية، ويرزقنا استعمال طرق الفتوة، وأن لا يؤاخذنا بما نحن فيه من تضييع أوقاتنا وإهمال أحوالنا، وأن يوفقنا لما يقربنا إليه، ويزلفنا لديه، إنه قريب مجيب.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين وسلم تسليماً دائماً كثيراً

ص: 99