المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجزء الثالث من الكتاب الفتوة - الفتوة لأبي عبد الرحمن السلمي

[أبو عبد الرحمن السلمي]

الفصل: ‌الجزء الثالث من الكتاب الفتوة

‌الجزء الثالث من الكتاب الفتوة

مما جمعه الشيخ محمد بن الحسن السلمي

ص: 45

بسم الله الرحمن الرحيم عليه توكلت

ومن الفتوة أن لا يتغير لأخيه بسبب من أسباب الدنيا. سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر الأخلاطي يقول: سمعت إبراهيم بن بشار يقول: سمعت ابن عيينة يقول: عن محمد بن سوقة، قال: كان رجلان متآخيين، فطلب أحدهما من صاحبه شيئاً فمنعه، فلم يتغير له عن حاله، فقال له: يا أخي، سألتني حاجة، فما قضيتها، فما تغيرت لي! فقال: إنما أحببتك ووليتك الأمر فلم تتغير عن الذي أحببتك عليه، فأنا لا أتغير لك، وإن منعتني. فقال الآخر: وأنا إنما منعتك لأجربك، فمد يدك الآن إلى ما شئت من مالي، فخذه، فما أنا بأحق به منك.

ومن الفتوة ما ذكره جعفر بن محمد الصادق. سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت القاسم بن عبيد الله بالبصرة يقول: سمعت الحسين بن نصر يقول: عن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه يقول: سئل جعفر بن محمد رضي الله عنه، ما الفتوة؟ فقال: الفتوة ليست بالفسق والفجر، ولكن الفتوة طعام مصنوع، ونائل مبذول، وبشر مقبول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف.

ومن الفتوة حفظ آداب الظاهر والباطن. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: للدين رأس مال عشرةٌ: خمسة في الظاهر، وخمسة في الباطن.

ص: 47

وأما اللواتي في الظاهر: صدقٌ في اللسان، وسخاوة في المال، وتواضع في الأبدان، وكف الأذى، واحتمالها بلا إباء.

وأما اللواتي في الباطن: فحبٌ وجود سيده، وخوف الفراق عن سيده، ورجاء الوصول إلى سيده، والندم على فعله، والحياء من ربه تعالى وتقدس.

ومن الفتوة الاستغناء عن الخلق، والتعفف عن سؤالهم. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: قال أبو بكر محمد بن أحمد بن داود البلخي: من خفت مؤونته، دامت مودته، ومن عف خفٌ على الصديق لقاؤه، وأخو الحوائج وجهه مملول.

ومن الفتوة التحصن عن الآفات بترك الشهوات. سمعت الحسين بن يحيى يقول: قال أبو تراب النخشبي: حصنك من الآفات، حفظ نفسك من الشهوات.

ومن الفتوة الاكتفاء بالثقة بالله من دعوى التوكل. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: قام الحق بالكفاية، والسيد لأهل مملكته، فاستراحوا من معاملات التوكل فلم يرضوا إلا به، فما أقبح التقاضي بأهل الصفاء بعد ثقتهم بالموالاة التي أزالت التوهم عن قلوب الموحدين.

ص: 48

ومن الفتوة اختيار الخلوة والعزلة على الانبساط والصحبة. سمعت عبد الله ابن محمد بن اسفندياران بدامغان يقول: سمعت الحسن بن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ رحمه الله يقول: لكل شيء حصار، وحصار النفس الخلوة، وترك معاشر الخلق، فإنه من لم يكن معك، فهو عليك والمعينون قليل، والزمان غدار، فبادر قبل أن يبدأكم بك. وقال رجل لفتح الموصلي رحمه الله: أوصني. فقال: اخل بنفسك واعتزل الناس، يسلم لك دينك ومروءتك.

ومن الفتوة تصحيح مبادئ الأحوال ليتم لك تحقيق النهايات. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: لا يرتقي في الدرجات العلى من لم يحكم فيما بينه وبين الله أوائل البدايات. وأوائل البدايات هي الفروض الواجبة، والأوراد الزكية، ومطايا الفصل. وعزائم الأمر. فمن أحكم ذلك، من الله عليه بما بعده.

ومن الفتوة حفظ السر مع الله أن يختلج فيه سواه. سمعت أبا نصر الطوسي يقول: قال أبو الفرج العكبري: قال لي الشبلي رحمه الله: يا أبا الفرج، في ماذا تذهب أوقاتك؟ قلت: زوجة وصبيان. فقال: وتدع وقتاً أعز من الكبريت الأحمر أن يضيع في غير الله! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله غيور يحب كل غيرو، وهو أن يغار على أوليائه أن يظهر علهم سواه)) . فقال له أبو الفرج: فأنا غيور. فقال له الشبلي رحمه الله: غيرة البشرية للأشخاص، وغيرة الإلهية للوقت أن يضيع فيما سوى الله.

ص: 49

ومن الفتوة مخالفة هوى النفس ليظهر له بذلك طريق النفس. كذلك حكي عن بعض العارفين أنه قال: من وقعت له مسألة في علم الإرادة. ولا يحضره الدليل، فلينظر أي حال أقرب إلى هوى نفسه، فليخالفها، فإنه يكشف له عن حقيقة الواقعة.

ومن الفتوة القيام لله، والقيام بالله، والقيام مع الله. وعلامة القيام بالله أن لا يتهيأ للأشياء أن يزيلها، وليس له في الأحوال اختيار. وعلامة القيام لله أن لا يكون لقيامه في الأحوال نهاية، ولا يسكن إلى المقامات، والكرامات، ولا يطلب الأعواض. وعلامة القيام مع الله أن لا تكون الأشياء قائمة معه، ولا تحجبه عن الله. ولا تشغله عنه.

ومن الفتوة ما سئل عنها أبو الحسن البوشنجي رحمه الله. فقال: حسن السر مع الله، أن تحب لإخوانك ما تحبه لنفسك، بل تؤثرهم على نفسك، لأن الله تعالى يقول:{يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، فمن اجتمعت فيه هاتان الخصلتان، صحت له الفتوة والتطرق.

ص: 50

ومن الفتوة أن لا يهتم العبد في وقت إلا لوقته. كذلك سئل سهل بن عبد الله التستري رحمه الله، متى يستريح الفقير من نفسه؟ فقال: إذا لم ير لنفسه وقتاً غير الوقت الذي هو فيه.

ومن الفتوة استعمال التظرف في الأخلاق، وهو ما سئل أبو سعيد الخراز، ما الفتوة؟ فقال: ترك المعلوم، والصبر على النفس، والإياس من الخلق، وترك السؤال والتعريض وكتمان الفقر، وإظهار الغنى والتعفف.

ومن الفتوة التفويض في الأحوال كلها. وهو ما سمعت عبد الله الرازي يقول: كتبت هذا من كتاب أبي عثمان، وذكر أنه من كلام شاه رحمهم الله، قال: التفويض ترك الاختيار.

ومن الفتوة استعمال الكرم، ومواصلة القاطع، وإعطاء المانع، والإحسان إلى المسيء. كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الفتوة سؤال الله العافية والشكر عليها إذا رزق. روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت أن وافقت ليلة القدر، ماذا أسأل ربي؟ فقال: سلي الله العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة. سمعت أبا بكر بن أحيد يقول: سمعت أبا بكر الوراق يقول: كل عافية

ص: 51

بدؤها عفو الله، ولولا عفو الله لم تكن عافية قط. سمعت أبا الحسين بن مقسم يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: سمعت إبراهيم الخواص رحمهم الله يقول: العافية لا يحلها إلا نبي أو صديق. سمعت أبا عثمان المغربي يقول: أكيس الناس من قدر على صحبة العافية.

ومن الفتوة أن لا تبخل بما معك إذا قدرت على بذله. ((قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: من سيدكم؟ قال: الجد بن قيس على إن فيه بخلاً. قال النبي عليه السلام: وأي داء أدوى من البخل)) سمعت أبا العباس البغدادي يقول: أخبرني محمد بن عبد الله الفرغاني، حدثنا أحمد بن مسروق، قال: كنت مع أبي نصر المحب في بعض طرقات بغداد، وكان عليه إزار جديد قيمته ثمانية دنانير، فاستقبلنا سائل يسأل بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأخذ الإزار وطواه باثنين وشقه وأعطاه النصف، ومشى خطوات، ثم قال هذه نذالة. ورجع وطرح عليه النصف الآخر.

ومن الفتوة القناعة والرضا بالقليل لئلا يكون مستعبداً. سمعت محمد ابن الحسن يقول: حدثنا أحمد بن محمد بن صالح، حدثنا محمد بن عبدون، حدثنا حسن المسوحي، أخبرني بشر بن الحارث، ورآني يوماً بارداً، وعلي خلق، وأنا أرتعد من البرد، فنظر إلي وأنشأ يقول:

ص: 52

قطع الليالي مع الأيام في خلق

والنوم تحت رواق الهم والقلق

أحرى وأعذر بي من أن يقال غدا

إني التمست الغنى من كف مختلق

قالوا رضيت بذي قلت القنوع غنى

ليس الغنى كثرة الأموال والورق

رضيت بالله في يسري وفي عسري

فلست أسألك إلا واضح الطرق

ومن الفتوة خصال عدها سري السقطي رحمه الله فيما أخبرني عنه محمد ابن الحسن الخالدي، حدثنا أحمد بن محمد بن صالح، حدثنا محمد بن عبدون، حدثنا عبدوس بن القاسم، قال: سمعت سري السقطي رحمه الله يقول: خمس خصال فيهن الراحة: ترك خلطاء السوء، والزهد في الناس، وحلاوة العمل إذا غاب عن أعين الناس، وترك الإزراء على الناس حتى لا يدري أن أحداً يعصي الله ويسقط عن نفسه خمساً: الرياء، والجدل، والمراء، والتصنع، وحب المنزلة. ويستريح من خمس: من البخل، والحرص، والغضب، والطمع، والشره.

ومن الفتوة تصحيح الأفعال والأحوال. أخبرنا أبو العباس بن الخشاب، حدثنا أبو الفضل النيسابوري، حدثنا سعيد بن عثمان، قال: سمعت ذا النون المصري رحمه الله يقول: من صحح استراح، ومن تقرب قرب، ومن صفا صفي له، ومن توكل وثق، ومن تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه.

ومن الفتوة التواضع وهو قبول الحق. واستعمال الخلق. أخبرنا أبو العباس محمد بن الحسن بن محمد بن خالد، حدثنا أحمد بن محمد بن صالح، حدثنا ابن

ص: 53

ومن الفتوة أن يؤثر إخوانه بالراحات. ويحمل عنهم المشقات. سمعت أبا العباس المخرمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت أبا جعفر الحداد رحمه الله [يقول] : بضع عشرة سنة اعتقدت التوكل، وأنا أعمل في السوق، فآخذ كل يوم أجرتي، ولا أستروح منها إلى شربة ماء، ولا إلى دخلة حمام. وكنت أجيء بأجرتي إلى الفقراء، فأواسيهم بها في الشونيزية وغيرها. وأكون على حالي، فإذا جاء العشاء كنت أتقدم إلى الأبواب، أسأل كسرات فأفطر عليها.

ومن الفتوة الصبر على معاشرة الخلق والاكتفاء لمن لابد منه. سمعت عبد الله بن محمد بن اسفندياران يقول: سمعت الحسن بن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ رحمهم الله يقول: معاشرة الخلق بلاء، وفي الصبر فيهم عناء، فإن كان لابد، فاصحب الأتقياء، وتأدب بآدابهم، وتخلق بأخلاقهم، تكن من الأبرار في [يوم] القيامة غدا.

ص: 54

ومن الفتوة التواضع وترك التكبر مع الإخوان. سمعت علي بن محمد القزويني يقول: سمعت أبا الحسين المالكي يقول: قال بعض الحكماء: ليس عقوبات التكبر أن يستصغر الناس قدر صاحبه ويستثقلوا أمره.

ومن الفتوة إتمام الصنيعة إذا ابتدأت به. أنشدني سعيد المعداني لأبي الحسن بن أبي الفضل:

بدأت بفضلٍ صار فرضاً تمامه

وأنت لمفروض العوائد عائد

فاخطر ببالٍ منك أمري فإنه

سيبقي لك الشكر الأيادي الخوالد

تلطف بما فيه صلاحي واتخذ

يداً فإن الأيادي في الرقاب القلائد

ومن الفتوة أن لا يزدري بأحد من الخلق. سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد الرازي يقول: سمعت أخي، أبا عبد الله يقول: قام بنان الحمال إلى مخنث، فأمره بالمعروف. فقال له المخنث: ارجع، كفاك ما بك وما بي، ويلك. قال: إنك خرجت من بيتك، وعندك أنك خير مني، يكفيك هذا.

ومن الفتوة تصديق الصادقين في الإخبار عن أنفسهم ومشايخهم. وترك الإنكار عليهم. سمعت أبا القاسم المقرئ يقول: أوائل بركة الدخول في التصوف، تصديق الصادقين في الإخبار عن أنفسهم، ومشايخهم بنعم الله عليهم، وإظهار كراماته عليهم.

ومن الفتوة مقابلة جفوة الإخوان بالإحسان والعتب بالاعتذار. سمعت عبيد الله بن عثمان بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير بن مسروق

ص: 55

يقول: جفوت مرة أبا القاسم الحداد رحمه الله، فكتب إلي:

ستذكرني إذا جربت غيري

وتعلم أنني لك كنت كنزا

بذلت لك الصفاء بكل ود

وكنت كما هويت، فصرت حزا

وهنت إذا عززت وكنت ممن

يهون إذا أخوه عليه عزا

ستنكت نادماً في الأرض مني

أتعلم أن رأيك كان عجزا

فرجعت إليه، قال: ما هززتك للاعتذار، لكن اشتملت بك إلى الوفاء.

ومن الفتوة كرم الصحبة والقيام بحسن الأدب فيها. وهو أن يصحب من فوقه بالتعظيم، ويصحب أشكاله بالموافقة والألفة، ويصحب من دونه بالعطف والشفقة والرحمة، ويصحب الوالدين بالخضوع والمطاوعة، ويصحب الأولاد بالرحمة، وحسن التأديب، ويصحب الأهل بحسن المداراة، ويصحب الأقارب بالبر والصلة، ويصحب الإخوان بصدق المودة، ودفع المجهود في المحبة، ويصحب الجيران بكف الأذى، ويصحب العامة ببشاشة الوجه، ولين الكف، ويصحب الفقراء بتعظيم حرماتهم ومعرفة أقدارهم، ويصحب الأغنياء بإظهار الاستغناء عنهم، ويصحب العلماء بقبول ما يشيرون به عليه، ويصحب الأولياء بالتذلل والانقياد لهم، وترك الإنكار عليهم، ويجتنب في أوقاته صحبة المبتدعين والمدعين والمظهرين بالزهد رغبةً في استتباع الناس، وأخذ ما في أيديهم.

ص: 56

ومن الفتوة معرفة أقدار الرجال. سمعت جدي يقول: كان أبو عثمان يقول من جل مقداره في نفسه، جلت أقدار الناس عنده. ومن صغرت قدره في نفسه، صغر أقدار الناس عنده.

ومن الفتوة أن لا يخون الأصحاب والإخوان فيما يفتح لهم. سمعت منصور ابن عبد الله يقول: سمعت ربيع الكامخي بالرملة يقول: كنت أجالس الفقراء، ففتح علي بدريهمات، فخرجت بها إليهم، فخاطبتني نفسي أن آخذ منها درهماً لنفسي، فأخذت درهماً، فخرجت بها إليهم، فلما كان بعد أيام، هاج في قلبي شهوة، فخرجت إلى السوق، فدفعتها إلى البقال، فإذا الدرهم قد صار نحاساً، فردها علي، فترددت إلى السوق مراراً، كل ذلك يرد علي، فرجعت إلى الأصحاب، وقلت: يا أصحابنا، اجعلوني في حل، فقد غششتكم بهذا الدرهم، فاستلبوا الدرهم من يدي، وخرجوا به إلى السوق، واشتروا به خبزاً وعنباً، فجاءوا به، فجلسنا وأكلنا.

ومن الفتوة إسقاط العجب عن النفس جهده. كذلك قال إبراهيم الخواص رحمه الله: العجب يمنع من معرفة قدر النفس، والعجلة تمنع من إصابة الحق، والرفق والحزم يمنعان من الندامة، ولا قوة إلا بالله.

ص: 57

ومن الفتوة أن لا تلجئ إخوانك إلى الاعتذار، سمعت عبد الله بن محمد الدامغاني يقول: سمعت الحسن بن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي رحمه [الله] يقول: ليس بصديق من ألجأك إلى الاعتذار، وليس بصديق من لم يعطك قبل السؤال.

ومن الفتوة مجانبة الحسد، سمعت أبا القاسم إبراهيم بن محمد النصرآباذي يقول: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: من علامة الفتيان أن لا يحسدوا أحداً على ما أتاه الله من فضله، ولا يعيروا أحداً على ذنب، مخافة أن يبليهم الله بمثله. وأن يرضوا بما قضى الله لهم وعليهم.

ومن الفتوة استعمال الأخلاق الجميلة. سمعت النصر آباذي يقول: سمعت بعض فتياننا يقول: حسن الخلق هو التمسك بكتاب الله، واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسط الوجه، وكف الأذى، وبذل المعروف، وهو الذي اختاره الله تعالى لنبيه عليه السلام، بقوله:{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} .

ومن الفتوة ما ذكره أبو بكر الوراق رحمه الله. قال: كان الفتيان في الزمن الأول يمدحون الإخوان ويذمون أنفسهم، فاليوم يمدحون أنفسهم ويذمون إخوانهم. وكانوا يختارون للإخوان التنعم والراحة، ولأنفسهم الشدة والمكابدة. والآن يختارون للإخوان الشدة ولأنفسهم التنعم والراحة.

ص: 58

ومن الفتوة أن يشتغل الإنسان بوقته دون ذكر ما مضى. وما هو آت. سمعت عبد الله بن يحيى يقول: سمعت جعفر الخلدي يقول: حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا أحمد بن شاهويه، حدثنا يحيى بن معاذ رحمه الله، قال: حسرة أمور مضت، وتدبير أمورٍ بقيت، أذهبت ببركة عمرك.

ومن الفتوة ما سمعت عبد الله بن يحيى، قال: سمعت جعفر يقول: حدثنا محمد بن الفضل، عن أحمد بن خلف يقول: سمعت أحمد بن شاهويه، سمعت يحيى بن معاذ يقول: ثلاث خصال تصلح لك أعمالك وأخلاقك، أن تلاحظ الأغنياء بعين النصيحة لا بعين البغي، وتلاحظ الفقراء بعين التواضع لا بعين الكبر، وتلاحظ النساء بعين الشفقة لا بعين الشهوة.

ومن الفتوة الإنفاق على الإخوان. سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت محمد بن عبد الله الكتاني يقول: كل نفقة العبد يسأل عنها، إلا نفقة الأخ على أخيه، فإن الله يستحي أن يسأله عنها.

ومن الفتوة الشفقة على المطيعين والعصاة. سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت إبراهيم الأطروش يقول: كنا قعوداً مع معروف الكرخي رحمه الله على الدجلة، إذ مر بنا قوم أحداث في سمارية يلعبون ويضربون بالدف، ويشربون، فقال بعض أصحابه: يا أبا محفوظ أما ترى إلى هؤلاء في هذا البحر يعصون ربهم. ادع الله عليهم. قال:

ص: 59

فرفع يده إلى السماء، وقال: إلهي وسيدي أسألك أن تفرحهم في الآخرة، كما فرحتهم في الدنيا. فقال له بعض أصحابه: إنما قلنا ادع الله عليهم. فقال: إخواني، إذا فرحهم في الآخرة، تاب عليهم.

ومن الفتوة أن تنسى معروفك عند إخوانك. وتعرف مقاديرهم. سمعت أبا بكر محمد بن عبد العزيز يقول: سمعت أبا القاسم إسحاق بن محمد يقول: قلت لأبي بكر الوراق وقت مفارقتي إياه: من أصحب؟ قال: اصحب من ينسى معروفه عندك، وإياك ومن يحفظ مساوئك، ويعدد ذلك عليك ليلاقيك أو يقول ذلك فيك، ولا تصحب من قدرك عنده على قدر حاجته إليك.

ومن الفتوة أن يراعي العبد سره وباطنه أكثر من مراعاة ظاهره لأن السر موضع نظر الله تعالى والظاهر موضع نظر الخلق. سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا يعقوب السوسي يقول: من الناس من يجتهد في حفظ لسانه خمسين سنة أن يجري عليه لحنٌ، ولا يحفظ سره حتى لا يجري عليه لحن، والمغبون من يكون هذه صفته.

ومن الفتوة حفظ الآداب في العشرة. كما قال سهل بن عبد الله: عاشر أعداءك بالعدل، وأصدقاءك بالكرم والوفاء.

ومن الفتوة حفظ الأدب في الخلوات مع الله تعالى. سمعت أبا نصر

ص: 60

الأصبهاني يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: ما مددت رجلي في الخلوة قط. واستعمال الآداب مع الله أولى، وسمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت عمر البسطامي رضي الله عنه يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا يزيد رحمه الله يقول: قمت ليلة أصلي فعييت، فجلست ومددت رجلي، فسمعت قائلاً يقول أو هاتفاً: من يجالس الملوك يجب أن يجالسهم بحسن الأدب.

ومن الفتوة حفظ المودة القديمة. كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله يحب حفظ الود القديم)) . سمعت أبا بكر الرازي [يقول] : سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت أبا محمد المغازلي يقول: من أراد أن تدوم له المودة، فليحظ مودة إخوانه القدماء.

ومن الفتوة ستر الأحوال. كما قال سهل بن عبد الله: خمسة أشياء فيها جوهر النفس: فقيرٌ يظهر الغنى، وجائعٌ يظهر الشبع، ومحزونٌ يظهر الفرح، ورجلٌ بينه وبين إنسان عداوة فيظهر له المحبة، ورجلٌ يصوم النهار ويقوم الليل ولا يظهر ضعفاً.

ص: 61

ومن الفتوة مراقبة الظاهر والباطن. قال أبو علي الجوزجاني: إن الاستقامة: هي إقامة القلب مع الله بالموافقة، ومجاهدة الظاهر بالمخالصة.

ومن الفتوة مجانبة الهوى وإزالة المعاتبة لا تدع ذمامك في يدي هواك، فيكون قائدك إلى الظلمة، لأنها خلقت من الظلمة. واتبع العقل، فإن العقل يقودك إلى الأنوار، والمواصلة إلى الجبار.

ومن الفتوة تطهير البدن من المخالفات وتزيينها بالموافقات. لذلك حكي عن أبي علي الجوزجاني أنه قال: زين نفسك بالورع والزهد، واغسلها بالخوف والحزن، وألبسها ثواب الحياء والحب، ثم سلمها إلى ربك بالرضا والتفويض ليحوطها لك.

ومن الفتوة مجانبة قرناء السوء لئلا يقع في بليةٍ. سمعت عبد الله بن محمد ابن اسفندياران الدامغاني بها يقول: سمعت الحسن بن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: على قدر اختلاطك بخلطاء السوء، تقع في التخليط. ومن حفظ ظاهره عن صحبتهم ومخالطتهم، حفظ الله عليه باطنة أن يرغب فيهم ويميل إليهم.

ص: 62

من الفتوة أن يبخل العبد بدينه. ويجود بماله. كذلك سمعت عبد الله ابن محمد بن اسفندياران الدامغاني بها يقول: سمعت الحسن بن علويه، يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول: المؤمن يخدع عن ماله ولا يخدع عن دينه، والمنافق يخدع عن دينه ولا يخدع عن ماله.

ومن الفتوة أن يختار العبد سيده على جميع الأحوال والعروض. سمعت أبا علي البيهقي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن يحيى الصولي يقول: بلغني أن أمير المؤمنين المأمون رحمه الله دخل يوماً داره، فقال لحاشيته وغلمانه: من أخذ من هذه الدار شيئاً فهي له. قال: فعدا كل واحد منهم، وأخذ منها ما أمكنه، وكان غلامٌ واقفاً على رأسه لا يلتفت إليهم، ولا إلى شيء مما أخذوه. فقال المأمون للغلام: خذ أنت أيضاً شيئاً. فقال: حقيقة تقوله يا أمير المؤمنين. إن ما أخذته فهو لي؟ فقال: نعم. فقال: فجاء الغلام وعانق المأمون أمير المؤمنين وتعلق به، فقال: أنا لا أريد غيرك، فأعطاه أضعاف ما أخذ الجماعة، وكان بعد ذلك لا يرى به أحداً.

ومن الفتوة أن لا يغفل عن إخوانه في وقت من الأوقات.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين

ص: 63