الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثاني من الكتاب الفتوة
مما جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي رحمة الله عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن الفتوة حفظ الورع ظاهراً وباطناً. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنهم يقول: الورع ورعان ورعٌ في الظاهر، وورع في الباطن. أما في الظاهر فلا يتحرك إلا لله، وأما في الباطن فلا تدخل قلبك شيئاً سوى الله تعالى.
ومن الفتوة الاحتراز من الشيطان بالجوع. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عصام يقول: من جاع لا يقربه الشيطان إذا كان جوعه بعلم.
ومن الفتوة تأثير الذكر على ظاهر العبد وباطنه. أما في ظاهره في الذبول والخشوع، وفي باطنه بالرضا. سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم النسوي يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: إن لله عباداً إذا ذكروا عظمة الله، تقطعت أوصالهم فرقاً من الله، وهيبة له. وإنهم لهم الفصحاء الطلقاء الألباء العالمون بالله وأيامه.
ومن الفتوة الثقة بما ضمن الله لك، والاشتغال بما أمرك به. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد رضي الله عنهم يقول: لا تهتم لرزقك الذي قد كفيته، واعمل عملك الذي قلدته، فإن ذلك من عمل الكرام والفتيان.
ومن الفتوة أن لا يشغلك عن الله في الدارين شاغل. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت علي بن الحسين بن حمدان يقول: سمعت أبي يقول: قالت رابعة: إلهي همي من الدنيا في الدنيا ذكرك، وفي الآخرة رؤيتك، ثم تفعل بي ما شئت.
ومن الفتوة طلب صلاح القلب بحفظ الجوارح، واشتغالها بما يعنيها. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عصام يقول: سمعت سهل بن عبد الله التستري رحمهم الله يقول: ما من عبد حفظ جوارحه إلا حفظ الله عليه قلبه، وما من عبد حفظ الله عليه قلبه إلا جعله أميناً، وما من عبد جعله الله أميناً إلا جعله إماماً يقتدى به، وما من عبد جعله الله إماماً يقتدى به إلا جعله الله حجة على خلقه.
ومن الفتوة العفو عند القدرة. سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول: سمعت علي بن عبد الحميد الغضائري يقول: سمعت السري رضي الله عنهم يقول: من عفا وهو يقدر على الانتصار، عفا الله عنه بقدرته عليه.
ومن الفتوة الاشتغال بعيبه عن عيوب الناس. سمعت محمد بن طاهر الوزيري يقول: سمع الحسن بن محمد بن إسحاق يقول: سمعت ابن عثمان يقول: سمعت ذا النون رحمهم الله يقول: من نظر إلى عيوب الناس عمي عن عيوب نفسه، ومن نظر في عيوبه عمي عن عيوب الناس.
ومن الفتوة إحياء السر بالذكر، وإحياء العلانية بالطاعة. سمعت عبد الله بن محمد بن اسفنديار [ان] يقول: سمعت الحسن بن علويه يقول: سمعت يحيى ابن معاذ رحمهم الله يقول: خلق الله السر، وجعل حياته بذكره. وخلق العلانية، وجعل حياتها بطاعته. وخلق الدنيا وجعل السلامة منها ترك ما فيها. وخلق الآخرة وجعل التمتع بها في العمل لها.
ومن الفتوة موافقة المحب حبيبه في جميع أوامره. سمعت أبا الحسين علي بن محمد القزويني الصوفي يقول: سمعت أبا الحسين المالكي يقول: أتى النوري إلى أبي القاسم الجنيد بن محمد، فقال: بلغني أنك تتكلم في كل شيء، فتكلم فيما شئت حتى أزيد عليك. فقال أبو القاسم في ماذا أكلمك؟ فقال: في المحبة. فقال: أحكي لك حكاية، كنت أنا وجماعة من أصحابي في بستان. فأبطأ علينا من يجيئنا بما نحتاج إليه، فصعدنا نطلع على سطح البستان؛ فإذا بضرير ومعه غلام حسن الوجه، والضرير يقول: يا هذا أمرتني بكذا، فامتثلت.
ونهيتني عن كذا فتركت. وما أخالفك في شيء تريده، فماذا تريد مني؟ قال: تموت. فقال الضرير: ها أنا ذا أموت. وتمدد وغطى وجهه. فقلت لأصحابي: ما بقي على هذا الضرير شيء، ولكن لا يمكنه الموت في الحقيقة، ولكنه قد تشبه بالموتى. فنزلنا وخرجنا إليه، فحركناه فإذا هو ميت. فقام النوري وانصرف.
ومن الفتوة الرجوع من الإخوان على طريق المعاتبة إلى أنس الغفران. سمعت أبا الحسين القزويني يقول: سمعت جعفر الخلدي [يقول:] سمعت ابن مسروق يقول: سمعت محمد بن بشير يقول: حدثني ابن السماك أنه جرى بينه وبين صديق له كلام، فقال له صديقه: الميعاد غداً نتعاتب فقال: بل الميعاد غداً نتغافر.
ومن الفتوة حسن الظن بالخلق، وحفظ حرماتهم. سمعت أبا العباس محمد ابن الحسن البغدادي يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت الجنيد رحمهم الله يقول، وقد كلمه أصحاب في الذين يقفون على الحلقة، فيسألونه، أنهم ليسوا بموضع للإجابة، وأنهم يتعنتون، وأحب أصحابي أن لا أجيب مثل هؤلاء. فقال: رؤيتي فيهم غير رؤيتكم، إنما أؤمل أن يتعلقوا بكلمة، فتكون سبباً لنجاتهم.
ومن الفتوة بذل النصيحة للإخوان والعلم بنقصان نفسه في ترك ما ينصحهم به. سمعت محمد بن الحسن الخشاب يقول: حدثنا أحمد بن محمد بن صالح، حدثنا محمد بن عبدون، حدثنا بدر المغازلي، قال: قلت لبشر الحافي: أيش تقول في المقام ببغداد؟ فقال: إن سرك أن تموت مسلماً فلا تقم بها، فقلت: فأنت بها مقيم. فقال: إن العبد إذا ضيع أمر الله، لقيه شر ملقى، وإني أخاف أني ضيعت أمر الله فألقى شر ملقى.
ومن الفتوة قبول ما يسمعه من كلام الحكماء، وإن لم يفهم، لتوصله بركات ذلك إلى محل الفهم منه وفيه. سمعت أبا العباس بن الخشاب يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: سمعت الجنيد رحمهم الله يقول: كنت أجلس إلى شيوخ بضع عشرة سنة، وهم يتكلمون في هذا العلم. وما كنت أفهم ما يقولون، ولا كنت أنكر عليهم. وكانت فائدتي منهم من جمعة إلى جمعة أن أجي فأسمع ما يقولون، وعندي أنه حق، وإن لم يكن ما أفهم، ولم أبد بالإنكار عليهم، فما مضت تلك المدة حتى إذا أجروا مسألة جاءوني إلى البيت، فسألوني، وقالوا: جرت مسألة كيت كيت، فأحببنا أن تسمعه، أو نحوه من الكلام.
ومن الفتوة قبول الرفق من وجهه، والإيثار بها في الوقت. سمعت محمد بن الحسن بن خالد يقول: سمعت أبا جعفر الفرغاني يقول: حدثني أبو جعفر الأصبهاني صاحب أبي تراب يقول: قدم أبو تراب هاهنا –يعني البيت الحرام- في الموسم، فجاء إنسان خراساني ومعه عشرة آلاف درهم، وقال: يا أبا تراب، تأخذ هذا. فكشف الحصى ثم قال: صبها هاهنا. فصبها بين يديه على التراب، فأخذ منها درهمين، وقال لصاحب له: اشتر بها خرقة، فجعل يخرقها ويصر فيها القبضة والقبضتين، ويبعث إلى سائر الفقراء، ولا يكلفهم يجيئون إليه، حتى إذا كاد أن يفنى قال له رجل: أصحابك ما أكلوا شيئاً منذ أيام، فقبض قبضة، وقال: اشتر لهم شيئاً. وجاءت امرأة، فقالت: يا أبا تراب، أهلك. قال: انظروا إن كان قد بقى شيء فادفعوها إليها. ففتشوا، فوجدوا درهمين، فدفعوهما إليها.
ومن الفتوة ما أخبر سري السقطي رحمه الله عن أخلاقهم. سمعت محمد ابن الحسن البغدادي: يقول: حدثنا أحمد بن محمد بن صالح، حدثنا محمد ابن عبدون، حدثنا عبدوس بن القاسم، سمعت سري السقطي يقول: خمسة من أخلاق المريدين: لا يمشي خطوة لنفسه فيها هواء، ولا لذة، ولا إرادة، ولا شهوة،
ويكون خارجاً من سلطان الهوى سلس القياد، صعب المرام، قد اعتزم على خمس: على الإياس مما في أيدي الناس، وقد ألقى مؤونته على الناس لا يتعب يده ولا بطنه ولا فرجه ولا يعتقد رياءً، ويقتدى من فوقه، وقد زهد في خمس: في كل فانٍ، وزهد في الناس، وزهد في الشهوات، وزهد في الرئاسة، و [زهد] في الثناء. وقد رغب في خمس: رغب في نعيم الجنان؛ فقدرت الدنيا عنده، ورغب في الصدق؛ فلزم الخوف قلبه، ورغب في مجالسة الأولياء والأصفياء؛ فتبرم من مجالسة المخالفين، ورغب في كل ما يرضي الله، ورغب فيما زهد الجاهل فيه.
ومن الفتوة احتمال الأذى في الله بعد المعرفة به. سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: أخبرني منصور بن أحمد الهروي، سمعت أبا الحسين محمد بن علي الخوارزمي، سمعت ذا النون رضي الله عنهم يقول: مررت بأرض مصر، فرأيت صبياناً يرمون رجلاً بالحجارة، فقلت لهم: ما تريدون منه؟ قالوا: مجنون، يزعم أنه يرى الله. فقلت: أفرجوا لي عنه. فأفرجوا، فدخلت، فإذا أنا بشاب مسند ظهره إلى الحائط، فقلت له: ما تقول –رحمك الله- فيما يقول هؤلاء؟ قال: وما يقولون؟ قلت: يزعمون أنك تزعم أنك ترى الله تعالى. قال: فسكت ساعة ثم رفع رأسه، ودموعه تجري على خديه، وقال: والله ما فقدته منذ عرفته. ثم أنشأ يقول:
هم المحب يجول في الملكوت
…
والقلب يسمو واللسان صموت
ثم هام على وجهه وهو يقول:
أيها الشامخ الذي لا يرام
…
نحن من طينة عليك السلام
إنما هذه الحياة متاع
…
ومع الموت تستوي الأقدام
ومن الفتوة ترك الشكاية عند البلاء. وقبوله بالرحب والدعة. سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الدينوري، حدثنا عبد الله ابن محمد [بن] الحارث الصوفي، عن محمد بن محبوب، أنه قال: بينا أنا مار في شوارع بغداد، إذ وقعت إلى المارستان، فإذا بفتى حسن الوجه في رجليه قيد، وفي عنقه غل، فلما رأيته انحرفت عنه، فناداني، قال يا ابن محبوب، أما رضي مولاك إذ يتمنى لحبه حتى غلني وقيدني؟ قل له: إن كنت راضياً عني فلا أبالي بذلك. ثم أنشأ يقول:
على بعدك لا يصبر من عودته القرب
…
ولا يقوى على هجرك من تيمه الحب
…
فإن لم ترك العين فقد أبصرك القلب
…
ومن الفتوة ملازمة الفقر والأنس بمكانه والفرح به. سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت إبراهيم بن أحمد الساجي يقول: سمعت محمد بن الحسين الخصيب يقول: سمعت العباس بن عبد العظيم يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: الفقر للمؤمن مخزونٌ مكنونٌ كما إن الشهادة مخزونةٌ مكنونةٌ عند الله لا ينالها إلا من أحب من عباده.
ومن الفتوة ترك المداهنة في كل الأحوال. سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت محمد بن عبد العزيز يقول: سمعت أبا عبد الله القرشي يقول: لا يشم رائحة الصدق عبدٌ يداهن نفسه، أو يداهن غيره.
ومن الفتوة أن يكون حراً من الأكوان وما فيها، ليكون عبداً لمن له الأكوان بأسرها. سمعت عبد الواحد بن بكر يقول: سمعت محمد بن هارون الأنصاري يقول: حدثني عيسى بن الريس الأنماطي المروروذي يقول: سمعت أحمد بن حنبل رحمهم الله يقول: رأيت ابن السماك كتب إلى أخ له: إن استطعت أن لا تكون لغير الله عبداً، ما وجدت من العبودية لغيره بداً، فافعل.
ومن الفتوة السرور بما أهل له من خدمة سيده، والفرح به، وقرة العين منه. سمعت أحمد بن محمد بن يعقوب يقول: سمعت أحمد بن محمد بن علي يقول: سمعت علي الرازي يقول: قال يحيى بن معاذ رحمهم الله: من سر بخدمة الله، سرت الأشياء بخدمته. ومن قرت عينه بالله، قرت عين كل شيء بالنظر إليه.
ومن الفتوة اشتغال العبد بما يعنيه من خاص أفعاله وأحواله. أخبرنا أبو أحمد الحافظ، حدثنا أحمد بن عبيد الله الرازي بأنطاكية، حدثنا جعفر بن عبد الواحد عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ومحمد بن الحارث الهلالي، حدثنا مالك ابن عطية عن أبيه، قال: سمعت أبا رفاعة الفهمي يحدث عن أبي بكر الصديق
رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من حسن إسلام المرء، تركه ما لا يعنيه)) .
سمعت أحمد بن محمد بن يعقوب يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: حدثنا عمر ابن مخلد الصوفي يقول: قال ابن أبي الورد: قال معروف الكرخي رضي الله عنه: من علامة مقت الله للعبد أن تراه مشتغلاً بما لا يعنيه في خاص أوقاته.
ومن الفتوة ملازمة آداب الفقر في كل الأحوال. سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول: قال بعضهم: لا ينبغي أن يكون على مائدة الفقراء إلا أربعة أشياء: أولها الجوع، والثاني [.. .. ..] ، والثالث الذل، والرابع الشكر.
ومن الفتوة الإخبار عن الأحوال عل مقدار صاحب الحال. سمعت أبا بكر الجرجاني يقول: سمعت أبا بكر بن محمد بن جعفر يقول: سمعت أبا بكر بن عبد الجليل يقول: قال لي الجنيد رحمه الله: خرجت إلى عرض الفرات، وكان ذكر لي فيها فتى، فلقيت فتى كأن هموم الدنيا قد جمعت عليه. فقلت: رضي الله عنك، الوفاء متى يتكامل في الدنيا؟ فقال لي: ابتداءً يا جنيد، من الوفاء أن لا تسألني، فأيست من الجواب، فدعاني، ثم قال: يا جنيد، شرح الوفاء قبل الوفاء ليس من فعل الأبرار.
ومن الفتوة ملازمة الخوف بعد ما عرف العبد ما سبق منه. وما جرى عليه من مخالفة سيده. سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا محمد الجريري
يقول: سمعت الجنيد رحمهم الله يقول: من شهد من نفسه ذلة واحدة، ثم اعتمد على شيء من حسناته، كان مغروراً، ومن لم يقم له بصدق الوفاء في أوامره، كان بعيداً من الحقائق.
ومن الفتوة أن لا يشغل العبد عن مولاه شاغلٌ، وأن يتحمل في طلبه موارد البلاء. سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: بكرت يوماً إلى سري السقطي رحمهم الله، فقال لي: يا أبا القاسم، كانت له البارحة قليل مشاهدة، فخوطبت في سري، وقيل لي: يا سري، خلقت الخلق وهم ناظرون إلي، ومقبلون علي، فعرضت عليهم الدنيا، فمال إليها تسعة أعشار الخلق، وبقي معي العشر، فعرضت عليهم الجنة، فمال إليها تسعة أعشارهم، وبقي معي عشر العشر، فصببت عليهم البلاء، فتضعفوا واستغاثوا وذهب منهم تسعة أعشارهم، وبقي معي عشر عشر العشر، فقلت لهم: ما أنتم إلى الدنيا نظرتم، ولا الجنة أردتم، ولا من البلاء فررتم. فقالوا: وإنك لتعلم ما نريد. فقلت: إني أصب عليكم من البلاء ما لا طاقة للجبال الرواسي به. فقالوا: قد رضينا بعد أن تكون الفاعل بنا ذلك.
ومن الفتوة أن يراعي العبد أحواله وأنفاسه، ولا يضيع منها شيئاً لذلك. قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: وقتك أعز الأشياء، فاشغله بأعز الأشياء. سمعت أبا سعيد الرازي يقول: سمعت أبا الحسن المحلبي البغدادي قال: سمعت الجنيد يقول: جماع الخير كله في ثلاثة أشياء: إن لم تمض نهارك
بما لك، فلا تمضه بما عليك. وإن لم تصحب الأخيار، فلا تصحب الأشرار. وإن لم تنفق مالك فيما لله فيه رضا، فلا تنفقه فيما لله فيه سخط.
ومن الفتوة أن يداوم العبد على التوبة. ويكون على خطر من قبولها. سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا الحسن المزين رحمه الله يقول: التوبة ثلاثة أشياء: الندم على ما مضى، وصحة العزم على ترك العود، ووجل القلب على ذلك، لأنه من ذنوبه على يقين، ومن قبول توبته على خطر، لا يدري أمقبولٌ منه ذلك أم لا.
ومن الفتوة ملازمة الصدق، وقلة السكون إلى الأحوال. سمعت أبا الحسن بن قتادة البلخي يقول: سمعت القناد يقول: قيل للجنيد رحمهم الله: ما صفة الصوفية؟ فقال: {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} . فقيل له: كيف سيماهم؟ فقال: لا يرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء.
ومن الفتوة صحبة الأبرار. ومجانبة صحبة الأشرار. سمعت عبد الله بن محمد ابن اسفندياران بدامغان يقول: سمعت: الحسن بن علويه يقول: سمعت يحيى ابن معاذ يقول: لو قد جاءت الصيحة، لرأيت إخوان السوء كيف يفر بعضهم من بعض. ولرأيت إخوان الصلاح كيف يرجع بعضهم إلى بعض. قال الله تعالى:
ومن الفتوة أن يطلب العبد في علمه المعرفة، وفي معرفته المكاشفة، وفي مكاشفته المشاهدة مع التحقق بأن أحداً لا يبلغ حقيقة معرفته. سمعت أبا الحسن بن قتادة البلخي يقول: سمعت القناد يقول: سمعت النوري يقول: أباح الله تعالى للخلق العلم، وخص أولياءه بالمعرفة، وأصفياءه بالمكاشفة، وأحباءه بالمشاهدة. واحتجب عن جميع بريته، فإذا ظنوا أنهم قد عرفوا، تحيروا. وإذا توهموا أنهم قد كوشفوا، احتجبوا. وإذا تحققوا أنهم قد شاهدوا، عموا. فسبحان من أمره عجيب، وليس شيء منه عجيب.
ومن الفتوة ترك الحيلة في طمع الكون في الدنيا، سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: سمعت فارس بن عبد الله، يقول: كانت عجوز تخدم سهل بن عبد الله رحمهم الله فاعتلت علة، فقيل لها: لو تداويت. فقالت: لو جعل شفائي في مسح أذني، ما مسحتها. نعم المذهوب إليه الرب.
ومن الفتوة أن لا يشفي المحب من حبيبه بشيء. أخبرني سعيد بن محمد الشاشي، قال: أخبرني الهيثم بن كليب قال: أخبرني سمنون الصوفي رحمهم الله.
بكيت دماً عليك مكان دمعي
…
ليشفيني البكا مما اشتفيت
أنشدني محمد بن إسماعيل لبعضهم
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
…
يمل وإن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
…
على ذاك قرب الدار خيرٌ من البعد
ومن الفتوة قبول من يقصده، وترك طلب من يتخلف عنه. سمعت عبد الواحد ابن علي يقول: قال فارس رحمه الله: من أخلاق الفتيان من الصوفية إن من جاءه لم يطرده، ومن لم يحضره لم يطلبه، ومن عاشره لم يملكه.
ومن الفتوة أن لا يرد مريداً بزلته، ولا يقبل أجنبياً بحسناته. لذلك ذكر عن أبي تراب النخشبي رحمه الله أنه قال: إذا طبع الرجل بطبائع الإرادة، ودخل في رسم القوم وقبلته، فلا تبعده عنك بمائة زلة، وطلاب الدنيا لا تدخلهم في رسم القوم، وإن بدا لك منهم مائة حسنة إلا بعد التحقق فيها.
ومن الفتوة ملازمة آداب العبودية ما أمكنه. سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد رحمهم الله يقول: العبودية ترك الاختيار وملازمة الذلة والافتقار.
ومن الفتوة الانبساط مع الإخوان إذا حضر أو حضروه. سمعت عبد الله بن علي السراج يقول: سمعت عبد الكريم بن أحمد بن عبد الله يذكر عن الحسين بن أبي سهل السمسار يقول: سمعت حسن الخياط يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: ترك الآداب بين الإخوان من الأدب. ومن لم ينبسط مع إخوانه في المباحات، أحشمهم.
ومن الفتوة حمل الأثقال في مجاهدات المعاملات. سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الدقي يقول: دخل علي عبد الله الخراز. ولي أربعة أيام لم آكل، فلما نظر إلي قال: يجوع أحدكم أربعة أيام فيصيح عليه الجوع وينادي، ثم قال: أتدركون لو أن كل نفس منفوسة تلفت، فيما تؤمله من الله، ترى كان ذلك كبيراً!
ومن الفتوة قضاء حقوق الإخوان، وترك الاعتماد على إخوانه في التخلف. سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يذكر عن خاله، عن الجنيد رحمهم الله أنه قال: لا تقوم بما عليك حتى تترك ما لك، ولا يقوى على هذا إلا نبي أو صديق.
ومن الفتوة التواضع للذاكرين. وقبول الحق من الناصحين. أخبرنا أبو الفضل نضر بن أبي نضر العطار، حدثنا أحمد بن الحسين الحراني بالكوفة، حدثنا هلال بن العلاء، قال: حدثنا فيض بن إسحاق، قال: سئل الفضيل بن عياض رحمه الله، ما الفتوة؟ قال: التواضع للذاكرين، وقبول الحق من الناصحين. أخبرنا أبو الفضل نضر بن أبي نضر العطار، حدثنا عمر بن الأشناني القاضي، حدثنا ابن أبي الدنيا، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، سمعت وكيعاً يقول: ينبغي للرجل أن يصفح عن إخوانه وأصدقائه زلاتهم، ولا يحقد عليهم في شيء من أحوالهم.
ومن الفتوة رجوع العبد إلى ربه في كل أسبابه. والثقة به دون خلقه. أخبرنا نصر بن محمد بن أحمد الصوفي، حدثنا سليمان بن أبي سلمة الفقيه، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن سمعت يحيى بن معاذ الرازي رحمهم الله يقول: أربع خصال من صفة الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والرجوع إليه في كل شيء، والاستعانة به في كل شيء، والافتقار إليه في كل شيء.
ومن الفتوة الشفقة على الخلق في كل الأحوال. أخبرنا نصر بن محمد بن أحمد بن يعقوب، سمعت جعفر بن محمد بن نصر يقول: سمعت الجنيد رحمه الله يقول: كان بناحية دمشق شيخ من شيوخنا يقال له أبو موسى القومسي رحمه الله، وكان من الفتيان، وذكر من فضائله، قال: كان هو وامرأته في دار فسقطت الدار عليهم، فجاءوا ينحون عنهم الهدم، إذ وقعوا على المرأة، فقالت: الشيخ الشيخ أبو موسى فإنه في تلك الزاوية، فتركوها وجاءوا إليه، وأخذوا التراب عنه فقال الشيخ: المرأة المرأة.
قال أبو القاسم: فكل واحد منهم في ذلك الوقت كان همه الشغل بصاحبه. كذلك أهل الموالاة والمعاقدة، لله وفي الله قلوبهم على هذا النعت في كل الأحوال.
ومن الفتوة أن لا يستخدم غني فقيراً في سبب من الأسباب. سمعت منصور بن عبد الله الخواص.. .. جميعاً في مسجدٍ رحمهم الله يقول: سمعت التفليسي يقول: كان الجنيد وبهم فاقة، فدخل عليهم بعض أصدقائهم، فرأى فيهم أثر الجوع، فقال لبعض الفقراء: قم معي، وخرج إلى السوق، واشترى ما اشترى،
ودفعه إلى الفقير ليحمله، فلما بلغ باب المسجد، رآه الجنيد من بعيد، فقال: ارم وادخل. وأبوا أن يأكلوا من ذلك الطعام. ثم قال الخواص لصاحب الطعام: عظم مقدار الدنيا في عينك حتى تجعل الفقير حمالاً لطعامك، فما ذاقوا منه شيئاً.
ومن الفتوة رؤية المنع والعطاء من الله لئلا يخلق وجهه بالسؤال ولا يذل نفسه بالطمع. أنشدنا منصور بن عبد الله الهروي لابن الرومي:
لا أرى معطياً لما منع الله
…
ولا دافعاً لما يعطيه
إنما الجود والسماحة والبذل
…
لمن يعطك، عفواً وماء وجهك فيه
قبح الله نائلاً أن يجيد
…
من يدي من أريد أن أقبضيه
ومن الفتوة أن يشاهد العبد النقصان في كل أحواله، ولا يرضى من نفسه بما هو فيه. سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول: من علامة من تولاه الله في أحواله أن يشهد التقصير في إخلاصه، والغفلة في ذكره، والنقصان في صدقه، وتكون جميع أحواله غير مرضية، ويزداد فقراً إلى الله في قصده وسيره، حتى يغنى عن كل مرادٍ له.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله الطيبين أجمعين ويتلوه إن شاء الله تعالى