الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [31 \ 22] ، وَمَعْنَى إِسْلَامِ وَجْهِهِ لِلَّهِ إِطَاعَتُهُ وَإِذْعَانُهُ، وَانْقِيَادُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مُحْسِنًا، أَيْ: مُخْلِصًا عَمَلَهُ لِلَّهِ لَا يُشْرِكُ فِيهِ بِهِ شَيْئًا مُرَاقِبًا فِيهِ لِلَّهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ فَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ إِسْلَامَ الْوَجْهِ، وَتُرِيدُ بِهِ الْإِذْعَانَ وَالِانْقِيَادَ التَّامَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ:[الْمُتَقَارِبُ]
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ
…
لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ
…
لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ الْآيَةَ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ مَا هُوَ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [4 \ 3]، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَوْلُهُ هُنَا: وَمَا يُتْلَى [4 \
127]
فِي مَحَلِّ رَفْعٍ مَعْطُوفًا عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ [4 \ 127]، أَيْضًا: مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى الْآيَةَ، وَمَضْمُونُ مَا أَفْتَى بِهِ هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا فِي الْكِتَابِ هُوَ تَحْرِيمُ هَضْمِ حُقُوقِ الْيَتِيمَاتِ فَمَنْ خَافَ أَنْ لَا يُقْسِطَ فِي الْيَتِيمَةِ الَّتِي فِي حِجْرِهِ فَيَتْرُكْهَا وَلْيَنْكِحْ مَا طَابَ لَهُ سِوَاهَا، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ الْجَرِّ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، هُوَ عَنْ أَيْ: تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِقِلَّةِ مَالِهِنَّ وَجِمَالِهِنَّ، أَيْ: كَمَا أَنَّكُمْ تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِنْ كُنَّ قَلِيلَاتِ مَالٍ وَجَمَالٍ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ نِكَاحُهُنَّ إِنْ كُنَّ ذَوَاتُ مَالٍ وَجِمَالٍ إِلَّا بِالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِنَّ فِي حُقُوقِهِنَّ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْحَرْفُ الْمَحْذُوفُ هُوَ «فِي» أَيْ: تَرْغَبُونَ فِي نِكَاحِهِنَّ إِنْ كُنَّ مُتَّصِفَاتٍ بِالْجَمَالِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ أَنَّكُمْ لَا تُقْسِطُونَ فِيهِنَّ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِالْمَجَازِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ مَحَلِّ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ مَعًا أَجَازُوا ذَلِكَ فِي الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ كَقَوْلِكَ: أَغْنَانِي زَيْدٌ وَعَطَاؤُهُ، فَإِسْنَادُ الْإِغْنَاءِ إِلَى زَيْدٍ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْعَطَاءِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ فَجَازَ جَمْعُهَا، وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى اللَّهِ حَقِيقِيٌّ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى مَا يُتْلَى
مَجَازٌ عَقْلِيٌّ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ فَيَجُوزُ جَمْعُهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، فِي مَحَلِّ جَرٍّ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ، وَعَلَيْهِ فَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَيُفْتِيكُمْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ يُضْعِفُهُ أَمْرَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ اللَّهَ يُفْتِي بِمَا يُتْلَى فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا يُفْتِي فِيهِ لِظُهُورِ أَمْرِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَجَازَهُ ابْنُ مَالِكٍ مُسْتَدِلًّا بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْأَرْحَامَ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: تَسَاءَلُونَ بِهِ [4 \ 1]، وَبِوُرُودِهِ فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:[الْبَسِيطُ]
فَالْيَوْمَ قَرَّبَتْ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا
…
فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالْأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ
بِجَرِّ الْأَيَّامِ عَطْفًا عَلَى الْكَافِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ]
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفَنَا
…
وَمَا بَيْنَهَا وَالْكَعْبِ مَهْوَى نَفَانِفِ
بِجَرِّ الْكَعْبِ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ قَبْلَهُ وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الطَّوِيلُ]
وَقَدْ رَامَ آفَاقَ السَّمَاءِ فَلَمْ يَجِدْ
…
لَهُ مِصْعَدًا فِيهَا وَلَا الْأَرْضُ مِقْعَدًا
فَقَوْلُهُ: وَلَا الْأَرْضُ بِالْجَرِّ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ وَقَوْلُ الْآخَرِ: [الْوَافِرُ]
أَمُرُّ عَلَى الْكَتِيبَةِ لَسْتُ أَدْرِي
…
أَحَتْفِي كَانَ فِيهَا أَمْ سِوَاهَا
فَسِوَاهَا فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِالْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِجَوَازِ كَوْنِهَا قَسَمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا أَقْسَمَ بِمَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [69 \ 38، 39] ، وَعَنِ الْأَبْيَاتِ بِأَنَّهَا شُذُوذٌ يُحْفَظُ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَصَحَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ جَوَازَ الْعَطْفِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَخْفُوضِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْخَافِضِ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [8 \ 64]، فَقَالَ إِنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: حَسْبُكَ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ: حَسْبُكَ اللَّهُ،
أَيْ: كَافِيكَ، وَكَافِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَجَازَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ، أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحَلِّ ; لِأَنَّ الْكَافَ مَخْفُوضٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:[الطَّوِيلُ]
إِذَا كَانَتِ الْهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ الْعَصَا
…
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
بِنَصْبِ الضَّحَّاكِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَجَعَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ [15 \ 20] فَقَالَ: وَمَنْ عَطْفٌ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: لَكُمْ وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ وَلِمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ فِيهَا مَعَايِشَ، وَكَذَلِكَ إِعْرَابُ وَمَا يُتْلَى بِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَوْ خَبَرُهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِعْرَابُهُ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ، وَيُبَيِّنُ لَكُمْ مَا يُتْلَى، وَإِعْرَابُهُ مَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ قَسَمٌ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [4 \ 127] ، آيَاتُ الْمَوَارِيثِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ فَاسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَالْمُبَيِّنُ لِقَوْلِهِ: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُهُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَتَيْنِ [4 \ 11] . وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [4 \ 176] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ.
تَنْبِيهٌ
الْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتُهَا فِي قَوْلِهِ: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [4 \ 127] ، أَصْلُهُ مَجْرُورٌ بِحَرْفٍ مَحْذُوفٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ هَلْ هُوَ «عَنْ» ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ هُوَ «فِي» وَبَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ الْمَذْكُورِ فَالْمَصْدَرُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَبِهِ قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْخَلِيلُ: وَهُوَ الْأَقْيَسُ لِضَعْفِ الْجَارِّ عَنِ الْعَمَلِ مَحْذُوفًا.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ بِدَلِيلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ: [الطَّوِيلُ]
وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً
…
إِلَيَّ وَلَا دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهُ
بِجَرِّ «دَيْنٍ» عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ «أَنْ تَكُونَ» أَيْ: لِكَوْنِهَا حَبِيبَةً وَلَا لِدَيْنٍ، وَرَدَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الِاحْتِجَاجَ بِالْبَيْتِ بِأَنَّهُ مِنْ عَطْفِ التَّوَهُّمِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:[الطَّوِيلُ]
بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى
…
وَلَا سَابِقٌ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيًا
بِجَرِّ «سَابِقٍ» لِتَوَهُّمِ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ خَبَرُ لَيْسَ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:[الطَّوِيلُ]
مَشَائِمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً
…
وَلَا نَاعِبٍ إِلَّا بِبَيْنِ غُرَابِهَا
وَاعْلَمْ أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ لَا يَطَّرِدُ حَذْفُهُ إِلَّا فِي الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ، «أَنْ» ، بِجَرِّ «نَاعِبٍ» لِتَوَهُمِ الْبَاءِ وَأَجَازَ سِيبَوَيْهُ الْوَجْهَيْنِ. وَصِلَتُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِعَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ، وَعَقَدَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «الْكَافِيَةِ» بِقَوْلِهِ:[الرَّجَزُ]
وَابْنُ سُلَيْمَانَ اطِّرَادَهُ رَأَى
…
إِنْ لَمْ يُخَفْ لَبْسٌ كَمَنْ زَيْدٌ نَأَى
وَإِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ مَعَ غَيْرِ «أَنْ» وَأَنْ نَقْلًا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَقِيَاسًا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ فَالنَّصْبُ مُتَعَيَّنٌ، وَالنَّاصِبُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ الْفِعْلُ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ نَزْعُ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ:[الْوَافِرُ]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَنْ تَعُوجُوا
…
كَلَامُكُمُ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ
وَبَقَاؤُهُ مَجْرُورًا مَعَ حَذْفِ الْحَرْفِ شَاذٌّ، كَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:[الطَّوِيلُ]
إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ قَبِيلَةً
…
أَشَارَتْ كَلِيبٍ بِالْأَكُفِّ الْأَصَابِعِ
أَيْ: أَشَارَتِ الْأَصَابِعُ بِالْأَكُفِّ، أَيْ: مَعَ الْأَكُفِّ إِلَى كُلَيْبٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ الْآيَةَ، الْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْقِسْطَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لِلْيَتَامَى، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [6 \ 152]، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [2 \ 220]، وَقَوْلِهِ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [93 \ 9]، وَقَوْلِهِ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى الْآيَةَ [2 \ 177] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِيهِ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ لِلْيَتَامَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَنْفُسَ أُحْضِرَتِ الشُّحَّ، أَيْ: جُعِلَ شَيْئًا حَاضِرًا لَهَا كَأَنَّهُ مُلَازِمٌ لَهَا لَا يُفَارِقُهَا ; لِأَنَّهَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ.
وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ أَحَدٌ إِلَّا إِذَا وَقَاهُ اللَّهُ شُحَّ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [59 \ 9] ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ لَمْ يُفْلِحْ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالشُّحِّ الْمُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْحُقُوقِ الَّتِي يَلْزَمُهَا الشَّرْعُ، أَوْ تَقْتَضِيهَا الْمُرُوءَةُ، وَإِذَا بَلَغَ الشُّحُّ إِلَى ذَلِكَ، فَهُوَ بُخْلٌ وَهُوَ رَذِيلَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ، هَذَا الْعَدْلُ الَّذِي ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ هُوَ الْعَدْلُ فِي الْمَحَبَّةِ، وَالْمَيْلِ الطَّبِيعِيِّ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ بِخِلَافِ الْعَدْلِ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ مُسْتَطَاعٌ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا [4 \ 3]، أَيْ: تَجُورُوا فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَالَ يَعُولُ إِذَا جَارَ وَمَالَ، وَهُوَ عَائِلٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ:[الطَّوِيلُ]
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً
…
لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
أَيْ: غَيْرُ مَائِلٍ وَلَا جَائِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:[الْبَسِيطُ]
قَالُوا تَبِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَاطَّرَحُوا
…
قَوْلَ الرَّسُولِ وَعَالُوا فِي الْمَوَازِينِ
أَيْ: جَارُوا، وَقَوْلُ الْآخَرِ:[الْوَافِرُ]
ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ
…
لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
أَيْ: جَارَ وَمَالَ، أَمَّا قَوْلُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَنْصَارِيِّ:[الْوَافِرُ]
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ
…
وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَقَوْلُ جَرِيرٍ: [الْكَامِلُ]
اللَّهُ نَزَّلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً
…
لِابْنِ السَّبِيلِ وَلِلْفَقِيرِ الْعَائِلِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [93 \ 8] ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْعَيْلَةِ، وَهِيَ الْفَقْرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الْآيَةَ [9 \ 28] ، فَعَالَ الَّتِي بِمَعْنَى جَارَ وَاوِيَّةُ الْعَيْنِ، وَالَّتِي بِمَعْنَى افْتَقَرَ يَائِيَّةُ الْعَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مَعْنَى قَوْلِهِ: أَلَّا تَعُولُوا [4 \ 3]، أَيْ: يَكْثُرُ عِيَالُكُمْ
مِنْ عَالَ الرَّجُلُ يَعُولُ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ وَإِنَّ الْمَسْمُوعَ أَعَالَ الرَّجُلَ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، فَهُوَ مُعِيلٌ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ فَلَا وَجْهَ لَهُ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مِنْ أَدْرَى النَّاسِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ عَالَ بِمَعْنَى كَثُرَ عِيَالُهُ لُغَةَ حِمْيَرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:[الْوَافِرُ]
وَإِنَّ الْمَوْتَ يَأْخُذُ كُلَّ حَيٍّ
…
بِلَا شَكٍّ وَإِنْ أَمْشَى وَعَالَا
يَعْنِي: وَإِنْ كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ وَعِيَالُهُ، وَقَرَأَ الْآيَةَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ أَلَّا تُعِيلُوا وَبِضَمِّ التَّاءِ مِنْ أَعَالَ إِذَا كَثُرَ عِيَالُهُ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِنِ افْتَرَقَا أَغْنَى اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ سَعَتِهِ وَفَضْلِهِ الْوَاسِعِ، وَرَبَطَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا شَرْطًا وَالْآخَرَ جَزَاءٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ لِلْغِنَى، بِقَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [24 \ 32] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ الْآيَةَ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَذْهَبَ النَّاسَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ نُزُولِهَا، وَأَتَى بِغَيْرِهِمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَأَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ أَنَّهُ أَذْهَبَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ وَجَاءَ بِهِمْ بَدَلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [6 \ 133] .
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ إِنْ تَوَلَّوْا أَبْدَلَ غَيْرَهُمْ وَأَنَّ أُولَئِكَ الْمُبَدَّلِينَ لَا يَكُونُونَ مِثْلَ الْمُبَدَّلِ مِنْهُمْ بَلْ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [47 \ 38] .
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ ذَلِكَ هَيِّنٌ عَلَيْهِ غَيْرُ صَعْبٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [14 \ 19، 20]، أَيْ: لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ وَلَا صَعْبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْعِزَّةِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا.