الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِجَانِبِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِيهِمَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ أَصْلُ الشَّجَرَةِ فِي الْحِلِّ، وَأَغْصَانُهَا مُمْتَدَّةً فِي الْحَرَمِ، فَاصْطَادَ طَيْرًا وَاقِعًا عَلَى الْأَغْصَانِ الْمُمْتَدَّةِ فِي الْحَرَمِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ مُصْطَادٌ فِي الْحَرَمِ ; لِكَوْنِ الطَّيْرِ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْ أَنَّ أَحَادِيثَ تَحْدِيدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ مُضْطَرِبَةٌ ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِاللَّابَتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْحَرَّتَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْجَبَلَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْمَأْزِمَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا بِعَيْرٍ وَثَوْرٍ، غَيْرُ صَحِيحٍ لِظُهُورِ الْجَمْعِ بِكُلِّ وُضُوحٍ ; لِأَنَّ اللَّابَتَيْنِ هُمَا الْحَرَّتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَهُمَا حِجَارَةٌ سُودٌ عَلَى جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ، وَالْجَبَلَانِ هُمَا الْمَأَزِمَانِ، وَهُمَا عَيْرٌ وَثَوْرٌ وَالْمَدِينَةُ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ، كَمَا أَنَّهَا أَيْضًا بَيْنَ ثَوْرٍ وَعَيْرٍ، كَمَا يُشَاهِدُهُ مَنْ نَظَرَهَا، وَثَوْرٌ جُبَيْلٌ صَغِيرٌ يَمِيلُ إِلَى الْحُمْرَةِ بِتَدْوِيرٍ خَلْفَ أُحُدٍ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ.
فَمَنِ ادَّعَى مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَدِينَةِ جَبَلٌ يُسَمَّى ثَوْرًا، فَغَلَطٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ إِلَى الْيَوْمِ، مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ: فَجَزَاءٌ مِثْلُ الْآيَةَ، بِتَنْوِينِ «جَزَاءٌ» وَرَفْعِ مِثَلُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَجَزَاءٌ مِثْلُ بِالْإِضَافَةِ، فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ جَزَاءٌ هُوَ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، قَدْ يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُ مِنْ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَدَمَ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ الْآيَةِ فِيهَا الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا بَلَغَ جَهْدَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْمَأَمُورُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [5 \
105]
; لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ لَمْ يَهْتَدِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا حُذَيْفَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمَا الْأَلُوسِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَنَقَلَ نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ.
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، أَيْ: أَمَرْتُمْ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدْخُلُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْمُرَادِ بِالِاهْتِدَاءِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا وَلَا يَنْبَغِي
الْعُدُولُ عَنْهُ لِمُنْصِفٍ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرُ مُهْتَدٍ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ أَنَّهُ فِي خُسْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [103 \ 1، 2، 3] ، فَالْحَقُّ وُجُوبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبَعْدَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ لَا يَضُرُّ الْآمِرَ ضَلَالُ مَنْ ضَلَّ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [8 \ 25] ، وَالْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ النَّاسَ إِنْ لَمْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ الْحَكَمِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا مَرْعُوبًا يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ ، قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبْثُ» .
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا، وَهَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا» ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنْ رَأَى النَّاسُ الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا
ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ» ، ثُمَّ قَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [5 \ 79، 80، 81]، ثُمَّ قَالَ:«كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَّنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ، وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي، نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ وَوَاكَلُوهُمْ، وَشَارَبُوهُمْ ; فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ; ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ:«لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» .
وَمَعْنَى تَأْطُرُوهُمْ أَيْ: تَعْطِفُوهُمْ، وَمَعْنَى تَقْصُرُونَهُ: تَحْبِسُونَهُ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ كَثْرَةُ الْآيَاتِ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [3 \ 104]، وَقَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [3 \ 110] . وَقَوْلِهِ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَقَوْلِهِ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [18 \ 29]، وَقَوْلِهِ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [15 \ 94]، وَقَوْلِهِ: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [7 \ 165]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [8 \ 25] .
وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَاهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ هِيَ أَنَّ النَّاسَ
إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ، صَالِحُهُمْ وَطَالِحُهُمْ، وَبِهِ فَسَرَّهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ شَاهِدَةٌ لِذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْحَقِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَفْعَلُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَفْعَلُهُ، أَنَّهُ حِمَارٌ مِنْ حُمُرِ جَهَنَّمَ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِيهَا.
وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ الْمُعْرِضَ عَنِ التَّذْكِرَةِ حِمَارٌ أَيْضًا، أَمَّا السُّنَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ؛ مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ ، فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ "، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما.
وَمَعْنَى تَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ: تَتَدَلَّى أَمْعَاؤُهُ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءٌ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ "، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ حَيَّانَ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: " أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَبَلَغْتَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَرْجُو، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَخْشَ أَنْ تَفْتَضِحَ بِثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَافْعَلْ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [2 \ 44]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 3]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ الْآيَةَ
[11 \ 88] ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَيْضًا الشَّوْكَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ انْدِلَاقِ الْأَمْعَاءِ فِي النَّارِ، وَقَرْضِ الشِّفَاهِ بِمَقَارِيضِ النَّارِ، لَيْسَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى ارْتِكَابِهِ الْمُنْكَرَ عَالِمًا بِذَلِكَ، يَنْصَحُ النَّاسَ عَنْهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرُ سَاقِطٍ عَنْ صَالِحٍ وَلَا طَالِحٍ، وَالْوَعِيدُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ; لِأَنَّهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْخَيْرُ، وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ:[الْكَامِلُ]
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
…
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقَالَ الْآخَرُ: [الطَّوِيلُ]
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى
…
طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ مَرِيضُ
وَقَالَ الْآخَرُ: [الطَّوِيلُ]
فَإِنَّكَ إِذْ مَا تَأْتِ مَا أَنْتَ آمِرٌ
…
بِهِ تَلْفَ مَنْ إِيَّاهُ تَأْمُرُ آتِيَا
وَأَمَّا الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ التَّذْكِيرِ كَالْحِمَارِ أَيْضًا، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [74 \ 49، 50، 51] ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُذَكِّرِ بِالْكَسْرِ، وَالْمُذَكَّرِ بِالْفَتْحِ أَنْ يَعْمَلَا بِمُقْتَضَى التَّذْكِرَةِ، وَأَنْ يَتَحَفَّظَا مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا، لِئَلَّا يَكُونَا حِمَارَيْنِ مِنْ حُمُرِ جَهَنَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ، يَعْلَمُ بِهِ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّ مَا يَنْهَى عَنْهُ مُنْكَرٌ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَيَنْهَى عَمَّا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، وَلَاسِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي عَمَّ فِيهِ الْجَهْلُ وَصَارَ فِيهِ الْحَقُّ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي الْآيَةَ [12 \ 108] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى اللَّهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَهِيَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا لَبْسَ فِي الْحَقِّ مَعَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ إِلَى اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ، وَحُسْنِ الْأُسْلُوبِ، وَاللَّطَافَةِ مَعَ إِيضَاحِ الْحَقِّ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الْآيَةَ [16 \ 125] ، فَإِنْ كَانَتْ دَعْوَتُهُ إِلَى اللَّهِ بِقَسْوَةٍ وَعُنْفٍ وَخَرْقٍ، فَإِنَّهَا تَضُرُّ أَكْثَرَ مِمَّا تَنْفَعُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْنَدَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِسْنَادًا مُطْلَقًا، إِلَّا لِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِلْمِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاسِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَظِيفَةُ الرُّسُلِ، وَأَتْبَاعِهِمْ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَذَى مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ بِالطَّبْعِ عَلَى مُعَادَاةِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي أَهْوَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَأَغْرَاضِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَلِذَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ لِوَلَدِهِ، فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَنْهُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ الْآيَةَ [31 \ 17]، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ:«أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟» ، يَعْنِي قُرَيْشًا، أَخْبَرَهُ وَرَقَةُ: أَنَّ هَذَا الدِّينَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا عُودِيَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:«مَا تَرَكَ الْحَقُّ لِعُمَرَ صَدِيقًا» ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَى الْأَمْرِ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ، إِلَّا إِذَا قَامَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ، فَلَا يُحْكَمُ عَلَى أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخْتَلِفِينَ بِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ مُنْكَرًا، فَالْمُصِيبُ مِنْهُمْ مَأْجُورٌ بِإِصَابَتِهِ، وَالْمُخْطِئُ مِنْهُمْ مَعْذُورٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ بِطَرِيقَيْنِ: طَرِيقِ لِينٍ، وَطَرِيقِ قَسْوَةٍ، أَمَّا طَرِيقُ اللِّينِ فَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَإِيضَاحُ الْأَدِلَّةِ فِي أَحْسَنِ أُسْلُوبٍ وَأَلْطَفِهِ، فَإِنْ نَجَحَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ تَنْجَحْ تَعَيَّنَتْ طَرِيقُ الْقَسْوَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَتُقَامَ حُدُودُهُ، وَتُمْتَثَلَ أَوَامِرُهُ، وَتُجْتَنَبَ نَوَاهِيهِ، وَإِلَى هَذِهِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ الْآيَةَ [57 \ 25] .
فَفِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْمَالِ السَّيْفِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَنْفَعِ الْكُتُبُ تَعَيَّنَتِ الْكَتَائِبُ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ ; لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، قَالَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» :[الرَّجَزُ]
وَارْتَكِبِ الْأَخَفَّ مِنْ ضُرَّيْنِ وَخَيِّرَنْ لَدَى اسْتِوَا هَذَيْنِ
وَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ مَظِنَّةُ النَّفْعِ بِهِ، فَإِنْ جَزَمَ بِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ لَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [87 \ 9]، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّابِرُ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» ، وَفِي لَفْظٍ:«قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا، أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَغَوِيُّ فِي «مُعْجَمِهِ» ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه وَقَالَ الرَّاوِي: هَذَا الْحَدِيثُ عَنْهُ أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«بَلِ ائْتَمِرْ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الشُّحِّ الْمُطَاعِ، وَالْهَوَى الْمُتَّبَعِ. . . إِلَخْ، مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ نَفْعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ; فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عُدِمَتْ فَائِدَتُهُ سَقَطَ وُجُوبُهُ.
تَنْبِيهٌ
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ لَهُ ثَلَاثُ حِكَمٍ:
الْأُولَى: إِقَامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [4 \ 165] .
الثَّانِيَةُ: خُرُوجُ الْآمِرِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صَالِحِي الْقَوْمِ الَّذِينَ اعْتَدَى بَعْضُهُمْ فِي السَّبْتِ: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ الْآيَةَ [7 \ 164]، وَقَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [51 \ 54] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْعُهْدَةِ، لَكَانَ مَلُومًا.
الثَّالِثَةُ: رَجَاءُ النَّفْعِ لِلْمَأْمُورِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
وَقَالَ تَعَالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [51 \ 55]، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ الْأَعْلَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [87 \ 9] ، وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِالْمَعْرُوفِ كَزَوْجَتِهِ، وَأَوْلَادِهِ، وَنَحْوِهِمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا الْآيَةَ [66 \ 6]، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» ، الْحَدِيثَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ كَلِمَةَ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ مَعَ ارْتِكَابِ السُّلْطَانِ مَا لَا يَنْبَغِي ثَلَاثٌ:
الْأُولَى: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى نُصْحِهِ وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ضَرَرٌ أَكْبَرُ مِنَ الْأَوَّلِ، فَآمِرُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُجَاهِدٌ سَالِمٌ مِنَ الْإِثْمِ وَلَوْ لَمْ يَنْفَعْ نُصْحُهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نُصْحُهُ لَهُ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ مَعَ اللُّطْفِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَظِنَّةُ الْفَائِدَةِ.
الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَقْدِرَ عَلَى نُصْحِهِ لِبَطْشِهِ بِمَنْ يَأْمُرُهُ، وَتَأْدِيَةِ نُصْحِهِ لِمُنْكَرٍ أَعْظَمَ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِالْقُلُوبِ، وَكَرَاهَةِ مُنْكَرِهِ، وَالسَّخَطِ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَعْمَلُهُ السُّلْطَانُ، مُتَابِعًا لَهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا شَرِيكُهُ فِي الْإِثْمِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ هِنْدٍ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» ، قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ» ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» .
فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ كَرِهَ» يَعْنِي بِقَلْبِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ إِنْكَارًا بِيَدٍ وَلَا لِسَانٍ «فَقَدَ بَرِئَ» مِنَ الْإِثْمِ، وَأَدَّى وَظِيفَتَهُ، «وَمَنْ أَنْكَرَ» بِحَسْبِ طَاقَتِهِ «فَقَدْ سَلِمَ» مِنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، «وَمَنْ رَضِيَ» بِهَا «وَتَابَعَ» عَلَيْهَا، فَهُوَ عَاصٍ كَفَاعِلِهَا.
وَنَظِيرُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عِنْدَ مُسْلِمٍ: قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، صِيغَةُ إِغْرَاءٍ، يَعْنِي: الْزَمُوا حِفْظَهَا، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي «الْخُلَاصَةِ» بِقَوْلِهِ:[الرَّجَزُ]
وَالْفِعْلُ مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْكَا وَهَكَذَا دُونَكَ مَعْ إِلَيْكَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كَاتِمَ الشَّهَادَةِ آثِمٌ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْإِثْمَ مِنَ الْآثَامِ الْقَلْبِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [2 \ 283] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْشَأَ الْآثَامِ وَالطَّاعَاتِ جَمِيعًا مِنَ الْقَلْبِ ; لِأَنَّهُ إِذَا صَلَحَ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي، مَعْنَاهُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [3 \ 49] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الْآيَةَ، لَمْ يَذْكُرْ هُنَا كَيْفِيَّةَ كَفِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَقَوْلِهِ: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 158]، وَقَوْلِهِ: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [3 \ 55] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْإِيحَاءِ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ الْإِلْهَامُ، وَيَدُلُّ لَهُ وُرُودُ الْإِيحَاءِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ، كَقَوْلِهِ: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الْآيَةَ [16 \ 68] ، يَعْنِي أَلْهَمَهَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
وَمِنْهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [28 \ 7]، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ: أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ إِيحَاءً حَقِيقِيًّا بِوَاسِطَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.